logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(64) باب حديث توبة ‌كعب ‌بن ‌مالك وصاحبيه- من قوله: “حتى إذا مضت أربعون..”

(64) باب حديث توبة ‌كعب ‌بن ‌مالك وصاحبيه- من قوله: “حتى إذا مضت أربعون..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

هذا هو الدرس الرابع والستون في شرح “صحيح مسلمٍ”، في هذا اليوم الثلاثاء، الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول من عام (1444 هـ).

ولا زلنا في كتاب التوبة من “صحيح مسلمٍ”، وكنا في الدرس السابق قد بدأنا في حديث توبة الثلاثة الذين خُلِّفُوا، وهو حديثٌ عظيمٌ جليل القدر، كثير المنافع والدروس والعبر، ووصلنا إلى قول كعبٍ : “حتى إذا مضت أربعون من الخمسين..”، لأن النبي لما أتى من غزوة تبوكٍ؛ جلس في المسجد يستقبل أعذار من تخلف، فكان هناك أناسٌ من كبار السن والمرضى، فهؤلاء معذورون، وكذلك النساء لا يجب عليهن القتال.

وأما من عداهم فجاءوا يعتذرون، فجاء المنافقون -وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا- فاعتذروا كاذبِين، فقبل النبي علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله ​​​​​​​.

ثلاثةٌ من المؤمنين الصادقين لم يعتذروا، قالوا: يا رسول الله، ليس لنا من عذرٍ، وهم: كعب بن مالكٍ، ومُرَارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية، فهؤلاء الثلاثة صدقوا، فقال النبي ، لكل واحدٍ منهم: أما هذا فقد صدق، فقُم حتى يقضي الله فيك [1]، وأمر بهجرهم؛ لأن الهجر لمصلحةٍ يجوز ولو زاد على ثلاثة أيامٍ، فأمر النبي بهجرهم، وهؤلاء مؤمنون صادقون؛ لمَّا هجرهم المسلمون؛ ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وجلسوا في بيوتهم يبكون، وكانت مدة الهجر خمسين ليلةً، كانت خمسين يومًا.

ومر معنا في الدرس السابق أن هؤلاء الثلاثة أصابهم كُربةٌ عظيمةٌ، أما هلال بن أمية ومُرارة بن الربيع رضي الله عنهما فبقيا في بيوتهما يبكيان طوال الوقت، وأما بالنسبة ‌لكعب ‌بن ‌مالكٍ فكان أصغرهم وأشبَّهم وأجلدهم، وهو أيضًا يبكي معهم، لكن كان يخرج للسوق، ويصلي مع الناس في الجماعة في المسجد، ويسلم على النبي ، فلا يرد عليه، يقول: حتى إني أنظر لشفتيه، هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ وإن سلَّم على الصحابة فلا يردون عليه، لا يكلمونه، هجروه، حتى ذهب إلى أحب إنسانٍ إليه، وهو ابن عمه أبو قتادة -أو من أحب الناس إليه- وسلم عليه، فلم يرد عليه السلام، وقال: أنشدك الله! هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يرد عليه، كررها مرةً ثانيةً فلم يرد عليه، كررها مرة ثالثةً، قال: الله ورسوله أعلم، ثم ابتُلي كعبٌ  ببلاءٍ من نوعٍ آخر، جاء رجلٌ من مَلِك غسَّان يعطيه كتابًا، وقال: بلَغَنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بدار هوانٍ، فالحق بنا نواسك، فكان هذا أيضًا فيه اختبارٌ عظيمٌ لإيمان كعبٍ ، كانت فرصةً لأن يلتحق بملك غسان، ويقرِّبه منه، وتأتيه الدنيا، ولكنه كان من المؤمنين الصادقين، فلما استلم الكتاب قال: هذا من البلاء، ثم أحرق هذا الكتاب مباشرةً، حتى لا تضعف نفسه في المستقبل فتحدثه، تراوده نفسه بأن يذهب إلى ملك غسان، فنجح في هذا الاختبار العظيم، فمضت أربعون ليلةً وهم على هذه الحال.

توقفنا عند هذا، نقرأ من كلام كعبٍ : “حتى إذا مضت أربعون من الخمسين”.

القارئ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، عليه وعلى آله وصحبه أتم الصلاة والتسليم.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا ووالديه ولمشايخه والمسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

تتمة حديث توبة كعب بن مالكٍ وصاحبيه 

قال المؤلف -رحمنا الله وإياه- بعد أن ساق قصة كعب بن مالكٍ وصاحبيه :

حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي؛ إذا رسولُ رسولِ الله يأتيني، فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنَّها، قال: فأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.

نعم، إذنْ هذا أيضًا من اشتداد البلاء، وهذا من سنن الله ، أن البلاء يبدأ، ثم يشتد، ثم يشتد، ثم ينفرج، فلما مضت أربعون ليلةً؛ اشتد البلاء أكثر؛ جاءهم رسولٌ من رسول الله يقول: إن رسول الله يأمرك باعتزال امرأتك، قلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، اعتزلها ولا تقربها.

فقال كعب : فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك حتى يقضي الله في هذا الأمر، وكذلك أيضًا جاء هذا الرسول لهلالٍ ولمُرَارة، فكلهم أمروا باعتزال نسائهم، فاشتد البلاء عليهم؛ المسلمون هجروهم، والنبي عليه الصلاة والسلام هجرهم، وأيضًا أُمِروا باعتزال نسائهم، ما أحدٌ عندهم في البيت، وضاقت عليهم الدنيا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم.

فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يَقْرَبَنَّك، فقالت: إنه والله ما به حركةٌ إلى شيءٍ، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنتَ رسول الله في امرأتك؛ فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ قال: فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله ، وما يدريني ماذا يقول رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجلٌ شابٌّ؟!

نعم، إذنْ هلال بن أمية أتت زوجته تستأذن النبي في أن تبقى عنده لأجل الخدمة، فأذن لها وقال: لا يقربنَّك، قالت: هو ما به حركةٌ إلى شيءٍ، يعني: رجلٌ كبيرٌ في السن.

بعض قرابة كعب بن مالكٍ قالوا: اذهب واستأذن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لعله يأذن لزوجتك أن تكون عندك، لكن كعبًا قال: والله لا أستأذن، ما يدريني ماذا يرد عليَّ النبي وأنا رجلٌ شابٌّ، فما أدري ماذا يقول؟ وأما مُرَارة بن الربيع فالظاهر أيضًا أنه لم يستأذن، فقط هو هلال بن أمية.

فاشتدت عليهم الكُربة، واشتد عليهم البلاء؛ هجرهم الناس كلهم، زوجاتهم ذهبت، ما بقي عندهم أحدٌ، ما عدا هلال بن أمية؛ لأجل الخدمة.

فكان موقفًا كما وصفه الله تعالى: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [التوبة:118]، وكمُل البلاء خمسين ليلةً، هذه ليست بالأمر السهل، خمسون ليلةً والناس لا يكلمهم أحدٌ، ولا أحدٌ يرد عليهم السلام، وهم باقون في بيوتهم يبكون طوال الوقت، يأكلون ويشربون وينامون، وبقية الوقت بكاء، فكانت كربةً عظيمةً، وكان بلاءً عظيمًا.

فلبثت بذلك عشر ليالٍ، فكمَل لنا خمسون ليلةً من حين نُهي عن كلامنا، قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلةً، على ظهر بيتٍ من بيوتنا.

سبب عدم صلاة كعبٍ وصاحبيه  في المسجد

طيب كيف صلى كعبٌ  في البيت ولم يصلِّ في المسجد؟ لماذا لم يصلِّ في المسجد وهو من المؤمنين الصادقين؟ وأيضًا ظاهر القصة أن هلال بن أمية  كان يصلي في بيته، وأن مُرَارة بن الربيع كان يصلي أيضًا في بيته، فكيف وصلاة الجماعة واجبةٌ في المسجد؟ كيف هؤلاء الثلاثة لم يُصلُّوا في المسجد إلا كعبًا أحيانًا؟ من يجيب عن هذا السؤال؟

الطالب:

الشيخ: نعم، لأنهم معذورون، هذا عذرٌ، إذا لم يكن هذا عذرًا؛ فما العذر إذنْ؟! يعني وصلت بهم الكُربة إلى هذه الحال: ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة:118]، فمن كان في كربةٍ شديدةٍ؛ فيكون هذا عذرًا له، من كان مكروبًا كربةً شديدةً؛ ضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، هذا عذرٌ له في ترك الصلاة مع الجماعة في المسجد، قد تكون الكربة بسبب مرضٍ، قد تكون الكربة بسبب وضع اجتماعيٍّ، قد تكون الكربة بأي سببٍ من الأسباب، فهي عذرٌ بترك الصلاة مع الجماعة في المسجد؛ ولذلك كانوا معذورين.

فإذنْ الجواب عن هذا: أن هؤلاء الثلاثة كانوا معذورين في ترك الصلاة مع الجماعة في المسجد؛ ولهذا كعبٌ  صلى على ظهر بيته لما أتى الفرج، لاحِظ الآن كيف يصف كعبٌ الفرج؟

فبينا أنا جالسٌ على الحال التي ذكر الله منا، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت؛ سمعت صوت صارخٍ أَوْفَى على سَلْعٍ يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالكٍ أبشر! قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرجٌ.

 قال: سمعت صوت صارخٍ أوفى على سَلْعٍ، وسلعٌ: هو جبلٌ من جبال المدينة، لا زال يسمى إلى الآن بهذا الاسم، وهذا الذي أوفى يعني: صعد وارتفع على جبل سلعٍ؛ وذلك لأجل تبشير كعبٍ، لأجل البشارة، لأجل أن يبشره بتوبة الله عليه، فنادى بأعلى صوته: يا كعب بن مالكٍ أبشر، بأعلى صوته فوق الجبل، فلما سمع ذلك كعبٌ  قال: خررت ساجدًا، يعني سجود الشكر، وعرفت أنه قد جاء فرج.

وأيضًا أتى رجلٌ على فرسٍ سيذكره كعبٌ، فكلٌّ يتسابق في تبشيره، فكان هناك رجلٌ راكبٌ فرسًا يريد أن يبشر كعبًا، ورجلٌ أراد أن يسبقه، فصعِد على الجبل، ونادى بأعلى صوته.

أيهما أسرع الصوت أم الفرس؟ الصوت؛ ولذلك أعطى كعبُ بن مالكٍ البشارة لمن نادى بأعلى صوته، وأيضًا أعطى كذلك لهذا الرجل الذي أتاه على فرسٍ، هذا سيذكره كعبٌ الآن.

فآذن رسول الله الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قِبَل صاحِبَيَّ مبشِّرون.

“آذن” يعني: أعلم، أعلم النبي الناس بتوبة الله ​​​​​​​ حين صلى صلاة الفجر.

وركض رجلٌ إليَّ فرسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلم قِبَلي وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنزعت له ثوبَيَّ فكسوتهما إياه ببشارته، ووالله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهما.

إذنْ هناك مبشران لكعبٍ: الرجل الذي صعِد الجبل ونادى بأعلى صوته: يا كعب بن مالكٍ أبشر، وهناك الذي أتاه على فرسٍ، فكعب بن مالكٍ كان قليل ذات اليد، وإلا لو كان غنيًّا؛ لأعطى الرجلين جميعًا، لكن أعطى الأسبق منهما، وهو الذي صعِد على الجبل، أعطاه البشارة، قال: فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني؛ فنزعت ثوبيَّ -يعني الإزار والرداء- فكسوتهما إياه ببشارته؛ وهذا يدل على أن من بشرك بشيءٍ؛ ينبغي أن تعطيه مقابل البشارة، ولا زال الناس إلى اليوم يعملون بهذا، تجد أن من يبشر آخر بخبرٍ سارٍّ، يقول: أعطني بشارةً، يعني مقابل التبشير، وهذا من الأمور الموجودة في الناس من قديم الزمان.

ثم استعار كعب بن مالكٍ ثوبين، يقول: والله ما أملك غيرهما، وسيأتي في آخر القصة أنه كان له أسهم في خيبر، وكان له بعض المال، وسنتكلم عن التوفيق بين ماله الذي في خيبر، وبين قوله: “والله لا أملك غيرهما”، العلماء جمعوا بين هاتين المقولتين، سنتكلم عنه في حينه، لكن المقصود هنا أن كعب بن مالكٍ تسابق الصحابةُ  لتبشيره، وكذلك أيضًا لتبشير صاحبيه، لكن لم يُنقل؛ باعتبار أن الراوي للقصة هو كعب بن مالكٍ.

فانطلقت أتأمم رسول الله .

أتأمم يعني: أقصد.

يتلقاني الناس فوجًا فوجًا، يهنئوني بالتوبة، ويقولون: لتَهْنِئْك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله جالسٌ في المسجد وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجلٌ من المهاجرين غيره، قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحة.

يعني: تصوروا هذا الموقف، كعب بن مالكٍ في الطريق، والناس يهنئونه فوجًا فوجًا، جماعاتٍ، كل من رآه هنأه، دخل المسجد والنبي جالسٌ في المسجد، كان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه بعد صلاة الفجر يجلس في المسجد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ويجلس معه من يجلس من الصحابة .

لما دخل المسجد وحوله الصحابة؛ قام رجلٌ من الصحابة يهرول، وهو طلحة بن عبيدالله ، أحد العشرة بالمبشرين بالجنة، قام يهرول حتى صافحني وهنأني، هذا الموقف يقول كعبٌ: والله ما نسيت هذا الموقف من طلحة أبدًا، مع أنه موقفٌ قد يعده بعض الناس موقفًا يسيرًا، لكنْ له وقعٌ، كونه يقوم مباشرةً ويهرول حتى يقابله ويصافحه، ويهنئه بتوبة الله عليه، يعني هذا الموقف كان موقفًا مؤثرًا في نفس كعب بن مالكٍ.

حق المسلم على أخيه إذا حصل له بشارةٌ

ومثل هذه المواقف ينبغي أن يحرص عليها المسلم، إذا حصل لأخيك المسلم خبرٌ سارٌّ، حصل له شيءٌ يفرحه، ينبغي أن تهنئه وأن تبشره وأن تسلم عليه، وأن تتفاعل معه، هذا هو المطلوب، هذا من حق المسلم على أخيه المسلم، تجد أن بعض الناس سلبيٌّ، يسمع بأن أخاه المسلم حصل له ما يسره، لكن لا يذهب إليه ولا يهنئه، ولا يتصل عليه، مع أنه في وقتنا الحاضر أصبح التواصل ميسورًا عن طريق الهاتف، أو عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي.

فينبغي إذا علمت بأن أخاك المسلم حصل له خبرٌ سارٌّ بأي شيءٍ؛ بمولودٍ، بوظيفةٍ، برزقٍ ساقه الله إليه، بمنصبٍ، بأي شيءٍ، أن تتواصل معه، وأن تتصل عليه، وأن تهنئه بما يَظهر لك أنه خيرٌ ساقه الله إليه، وكذلك أيضًا فيما يتعلق بسائر الأمور، فيما يرى الإنسان أنه خيرٌ لذلك الشخص؛ ولذلك الصحابة تسابقوا على تهنئة كعب بن مالكٍ ومن معه، في التهنئة، وفي مقابلتهم بالتبشير، وتهنئتهم بتوبة الله تعالى عليهم.

وأخذ العلماء من هذا فائدةً: وهي استحباب مصافحة القادم، والقيام إليه إكرامًا، والهرولة إلى لقائه بشاشةً وفرحًا، خاصةً إذا كان قادمًا بعد غيبةٍ طويلةٍ، أو من سفرٍ، أو قادمًا بعد خبرٍ سارٍّ مثلًا بالنسبة له، فيقوم من في المجلس ويسلمون عليه، ولا بأس أيضًا أن يَقدَم ويمشي حتى يسلم عليه، ويهنئه كما فعل طلحة مع كعبٍ، فإن طلحة قام يهرول، قام طلحة يهرول حتى قابله وصافحه وهنأه بتوبة الله عليه، فكان كعب بن مالكٍ لا ينساها لطلحة.

قال كعبٌ :

فلما سلمت على رسول الله ؛ قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك، قال: فقلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ فقال: لا، بل من عند الله، وكان رسول الله إذا سُرَّ؛ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمرٍ، قال: وكنا نعرف ذلك.

نعم، هنا يصف كعب بن مالكٍ الموقف لمَّا سلم على رسول الله ، فإذا بوجهه يَبرق من السرور، وكان عليه الصلاة والسلام إذا سُرَّ؛ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمرٍ، كانت تظهر عليه مشاعر الفرح، ومشاعر الحزن أيضًا، كان عليه الصلاة والسلام إذا كره شيئًا؛ عرف في وجهه، وكان شديد الحياء، بل كان أشد حياءً من العذراء في خدرها [2]، وإذا فرح ظهر ذلك على وجهه، ويستنير وجهه كأنه قطعة قمرٍ، فلما دخل كعبٌ على النبي عليه الصلاة والسلام؛ إذا بوجهه قد استنار كأنه قطعة قمرٍ من الفرح والسرور، وقال له: أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك!، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله.

وأنزل الله فيه وفي صاحبيه قرآنًا يتلى إلى قيام الساعة، وهذا والله هو الشرف العظيم!: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:119].

وفي قوله عليه الصلاة والسلام: أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك، هنا بعض العلماء؛ كابن القيم وغيره، ناقشوا هذه المسألة: هل هذا اليوم أفضل، أو يوم إسلامه أفضل؟ خير يومٍ مر على كعبٍ منذ ولدته أمه هل هو يوم إسلامه، أو يوم توبة الله عليه؟

من أهل العلم من قال: إن هذا اليوم أفضل؛ لأن الله تعالى نوَّه به في القرآن وذكره.

ومنهم من قال: إن يوم إسلامه أفضل؛ ولهذا رجح هذا النووي رحمه الله، قال النووي: معناه: سوى يوم إسلامك، وإنما لم يستثنه؛ لأنه معلومٌ لا بد منه.

وهذا هو الأقرب -والله أعلم- أن المقصود: أنه خير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك سوى يوم إسلامك، وإلا فيوم إسلامه هو خيرٌ، وهو أفضل.

قال:

فلما جلست بين يديه؛ قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله ..

أنخلع، يعني أتصدق، أو أُخرج صدقةً، أُخرج مالي صدقةً لله، معنى كلام كعبٍ: يعني إن من توبتي أني أتصدق بجميع مالي صدقةً لله ؛ لأجل توبته عليه.

فقال رسول الله : أمسك بعض مالك؛ فهو خيرٌ لك، قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.

طيب هنا أشرتُ قبل قليلٍ إلى أن كعب بن مالكٍ  لما أتاه المبشر الذي صعِد على الجبل وقال: يا كعب بن مالكٍ أبشر؛ أعطاه ثوبيه، قال: والله ما أملك غيرهما، ثم استعار ثوبين من الجيران، فهو في أول الحديث يقول: والله ما أملك غيرهما، وهنا يقول: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً، معنى ذلك: أن عنده مالًا، كيف يقول: والله ما أملك غيرهما؟

أجاب عن هذا العلماء قالوا في الجمع: إن مراد كعبٍ بقوله: أن أنخلع من مالي، يعني: من الأرض والعقار الذي عندي، وأما قوله: ما أملك غيرهما، يعني من الثياب ومن النقد، هذا هو المقصود، بعض الناس مثلًا يقول: ما عندي مالٌ، يقصد: ما عندي سيولةٌ، أو ما عندي ثيابٌ ونحوها، لكن عنده عقارٌ.

فإذنْ كعب بن مالكٍ  كان عنده عقارٌ، كان عنده نخلٌ، وعنده مالٌ، وعنده أسهم بخيبر، لكن لم يكن عنده نقدٌ، ولم يكن عنده ثوبٌ سوى ثوبيه، فأراد أن يتصدق بجميع العقار الذي عنده، فقال له النبي : أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خيرٌ لك، قلت: أُمسِكُ سهمي الذي بخيبر.

وفي هذا: النهي عن الصدقة بجميع المال؛ لأن النبي لم يقر كعب بن مالكٍ على أن يتصدق بجميع ماله، فكيف نوفِّق بين هذا وبين أن أبا بكرٍ الصديق تصدق بجميع ماله، فقال النبي لأبي بكرٍ: ماذا أبقيت لهم يا أبا بكرٍ؟، قال: أبقيت لهم الله ورسوله [3]، فكيف نوفق بين الحديثين؟

أبو بكرٍ أقره النبي عليه الصلاة والسلام على الصدقة بجميع ماله، كعب بن مالكٍ قال: أمسك عليك بعض مالك، فهو خيرٌ لك فكيف نوفق؟

الطالب:

الشيخ: نعم، أبو بكرٍ عنده من الإيمان واليقين ما ليس عند غيره، فأبو بكرٍ لو تصدق بجميع ماله لن يلحقه أسًى ولا تأسفٌ ولا حسرةٌ فيما بعد، يعني عنده من كمال الإيمان واليقين شيءٌ عظيمٌ.

ولذلك هو أفضل الصحابة بإجماع الصحابة، أفضل الصحابة هو أبو بكرٍ ، وأما غيره فهنا النبي عليه الصلاة والسلام قال: أمسك عليك بعض مالك؛ لأنك لا تدري ربما الإنسان يحتاج، ربما يتأسف على أنه تصدق بجميع ماله؛ ولذلك قال أهل العلم: إنه يكره التصدق بجميع المال، وإنما يتصدق الإنسان ببعض ماله، إلا من كانت حاله مثل حال أبي بكرٍ  في كمال الإيمان وقوة اليقين، وهذه حالةٌ نادرةٌ، الذي حاله مثل حال أبي بكرٍ هذه حالاتٌ نادرةٌ، من كان عندهم كمال الإيمان وقوة اليقين، فهذا هو وجه الجمع بينهما.

قال:

وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أُحَدِّث إلا صدقًا ما بقيت، قال: فو الله ما علمت أن أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث -منذ ذكرت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا- أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول الله ، إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي.

نعم، هنا كعب بن مالكٍ  يُعلِّق على هذه القصة، ويقول: إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث حديثًا إلا صدقًا ما بقيت، يعني: وعد بألا يتحدث إلا بصدقٍ ما عاش، وهكذا أيضًا صاحباه.

فو الله ما علمت أن أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث: أبلاه هنا قال العلماء المقصود: يعني أنعم عليه؛ لأن البلاء قد يكون في الخير، وقد يكون في الشر، وإن كان في الشر هو الغالب، لكن إذا دلت القرينة على أنه في الخير؛ فيكون البلاء في الخير، فهنا مقصود كعب يعني: أبلاه في الخير، في صدق الحديث، قال: منذ ذكرت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا، أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كَذِبةً أو كِذْبةً، كلاهما صحيحٌ، منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، يعني: من عمري.

قال:

فأنزل الله : لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ۝ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:117-118]، حتى بلغ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، قال كعبٌ: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمةٍ قط -بعد إذ هداني الله للإسلام- أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحدٍ، وقال الله: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۝ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:95-96].

 وقوله: ما أنعم الله عليَّ من نعمةٍ قط -بعد إذ هداني للإسلام- أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ، هذا يؤكد رجحان القول بأن قول النبي : أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك، أنه بعد يوم إسلامه؛ لأن هنا كعبًا استثنى، قال: بعد إذ هداني الله للإسلام، قال يعني أعظم في نفسي من صدق رسول الله ألا أكون قد كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، يعني المنافقين؛ وذلك أن الله فضح هؤلاء المنافقين في سورة التوبة، والتي تسمى سورة الفاضحة؛ لأن الله فضح فيها المنافقين.

قال كعب :

كنا خُلِّفْنا -أيها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قَبِلَ منهم رسول الله حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله : وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118]، وليس الذين ذكر الله مما خُلِّفْنا تخلَّفنا عن الغزو، وإنما تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا، عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه.

نعم، هنا كعب بن مالكٍ يفسر قول الله تعالى: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118]، أن المراد ليس تخلفوا عن القتال، وإنما خُلِّفُوا يعني: أرجئ أمرهم خمسين ليلةً، حتى نزلت فيهم هذه الآية، فخُلِّفُوا تختلف عن تخلَّفوا، تخلفوا يعني: تخلفوا عن القتال، وليس هذا هو المقصود، فالمقصود بقوله: خُلِّفُوا يعني: أرجئ أمرهم، فهذا هو المعنى، فهنا تفسير كعب بن مالكٍ لقول الله تعالى: خُلِّفُوا، قال: يعني ليس المقصود تخلفنا عن الغزو، وإنما تخليفه إيانا: إرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر فقبل منه.

فإذن خُلِّفُوا معناه: أرجئ أمرهم، وليس معنى تخلَّفوا عن القتال.

وحدثنيه محمد بن رافعٍ: حدثنا حُجَيْن بن المُثَنَّى: حدثنا الليث، عن عُقيلٍ، عن ابن شهابٍ، بإسناد يونس، عن الزهري سواءً.

وحدثني عبد بن حُميدٍ: حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد: حدثنا محمد بن عبدالله بن مسلمٍ، ابنُ أخي الزهري، عن عمه محمد بن مسلمٍ الزهري، أخبرني عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالكٍ، أن عبيدالله بن كعب بن مالكٍ، وكان قائد كعبٍ حين عَمِيَ، قال: سمعت كعب بن مالكٍ يحدث حديثه، حين تخلف عن رسول الله في غزوة تبوكٍ، وساق الحديث، وزاد فيه على يونس: فكان رسول الله قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، ولم يذكر في حديث ابن أخي الزهري أبا خيثمة ولحوقه بالنبي .

وحدثني سلمة بن شَبيبٍ: حدثنا الحسن بن أَعْيَنَ: حدثنا مَعقِلٌ، وهو ابن عبيدالله، عن الزهري: أخبرني عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالكٍ، عن عمه عبيدالله بن كعبٍ، وكان قائد كعبٍ حين أصيب بصره، وكان أعلم قومه وأوعاهم لأحاديث أصحاب رسول الله ، قال: سمعت أبي كعبَ بن مالكٍ، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، يُحدِّث أنه لم يتخلف عن رسول الله في غزوة غزاها قط، غير غزوتين، وساق الحديث، وقال فيه: وغزا رسول الله بناسٍ كثيرٍ يزيدون على عشرة آلافٍ، ولا يجمعهم ديوانٌ حافظٌ.

فوائد من قصة كعب بن مالكٍ وصاحبيه 

نعم هذه القصة العظيمة فيها دروسٌ كثيرةٌ، النووي رحمه الله في “شرحه على صحيح مسلمٍ” بعدما شرح هذه القصة؛ أتبع ذلك بملحقٍ ذكر فيه عددًا من الفوائد من هذه القصة، وذكر سبعة وثلاثين فائدةً، ونذكر أبرز هذه الفوائد لأهميتها.

أعظم فائدةٍ وأعظم درسٍ: هو عظيم شأن الصدق، وفضيلة الصدق وإن كان فيه مشقةٌ؛ فإن عاقبته إلى خيرٍ.

والنبي يقول: عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صِدِّيقًا [4]، فهؤلاء الثلاثة إنما نجاهم الله تعالى بالصدق؛ ولهذا قال سبحانه لما قال: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118]؛ قال بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

ففي هذه الآية إشارةٌ للدرس العظيم، وهو فضل الصدق: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، فالصدق شأنه عظيمٌ، الصدق في الأقوال، والصدق في الأفعال، أن يكون الإنسان صادقًا مع ربه، صادقًا مع الناس، يُعرف بالصدق، ويتحرى الصدق في أقواله وفي أفعاله وفي كل شيءٍ.

وفي المقابل يقول عليه الصلاة والسلام: وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا، يعني: انظر إلى شؤم الكذب وسوء عاقبته، أن الإنسان إذا أكثر منه؛ يكتب عند رب العالمين: فلان بن فلانٍ رجلٌ كذابٌ، أو فلانة بنت فلانٍ كذابةٌ.

الآن لو أن طفلًا قال لرجلٍ: يا كذاب، وهو طفلٌ، هل يَقبل؟ يغضب، لو قال طفلٌ لرجلٍ في الشارع: يا كذاب، تجد أنه يغضب ولا يقبل، فكيف بمن يُكتب عند رب العالمين: فلان بن فلانٍ كذابٌ، وكيف يرجو أن يستجاب دعاؤه وقد كتب عند ربه أنه كذابٌ؟!

فهذا الحديث حديثٌ عظيمٌ: إن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا.

فينبغي للمسلم أن يحرص على الصدق في الأقوال وفي الأفعال، وفي كل شيءٍ، حتى يُكتب عند الله صِدِّيقًا.

فهؤلاء الثلاثة إنما نجاهم الله تعالى بالصدق، وهذا أعظم الدروس، أعظم دروس هذه القصة: فضل الصدق، وكما قال النووي: وقد يكون أحيانًا في الصدق مشقةٌ، لكن عاقبته إلى خيرٍ، فقد يُسأل عن شيءٍ فيصدق، فربما يلحقه شيءٌ من الأذى، ونحو ذلك، لكن عاقبته إلى خيرٍ.

فهذا الدرس -يعني درس فضل الصدق، وحسن عاقبته- أعظم دروس هذه القصة.

  • أيضًا مما ذكر النووي من الفوائد: إباحة الغنيمة لهذه الأمة، لقوله: “خرجوا يريدون عير قريشٍ”، وإباحة الغنيمة هذه من خصائص هذه الأمة، وكان في الأمم السابقة إذا جمعت الغنائم؛ نزلت نارٌ من السماء فأحرقتها، لكن هذه الأمة اختصها الله تعالى بإباحة الغنائم.
  • أيضًا من الفوائد: فضيلة أهل بدرٍ؛ وذلك لأن كعب بن مالكٍ نوَّه بذلك في أول حديثه، قال: ما أحب أن لي بها مشهد بدرٍ، وإن كانت بدرٌ أَذْكَرَ في الناس منها.
  • وايضًا فضيلة شهود العقبة أيضًا، فهذا يدل على فضيلة أهل بدرٍ وأهل العقبة.
  • أيضًا من الفوائد: جواز الحلف من غير استحلافٍ، وهذا لأن كعب بن مالكٍ حلف بالله وقال: “والله ما جمعت قبلها راحلتين حتى جمعتهما في تلك الغزوة”، فإذا احتاج الإنسان للحلف فلا بأس، لكن لا يكثر من الحلف، لكن لو أراد أن يحلف إما لحاجةٍ، أو لتأكيد خبرٍ، أو نحو ذلك؛ فلا بأس، لكن ينبغي للمسلم ألا يكثر من الحلف، فإن كثرة الحلف ذكرها الله تعالى من شأن المنافقين، ومن صفات المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة:16]، وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [التوبة:56]، فذكر الله كثرة الحلف عن المنافقين، لكن لو احتاج الإنسان، أو أراد تأكيد خبرٍ؛ فلا بأس أن يحلف.
  • أيضًا من الفوائد: قال النووي: إنه ينبغي لأمير الجيش إذا أراد غزوةً أن يُوَرِّي بغيرها؛ لئلا يسبقه الجواسيس ونحوهم بالتحذير، إلا إذا كانت سفرةً بعيدةً، فيستحب أن يعرفهم البُعد؛ ليتأهبوا، يعني قائد الجيش ينبغي أن يكون عنده سياسةٌ، وأن يُوَرِّي إذا أراد أمرًا من الأمور الكبيرة؛ كغزوٍ ونحوه، أن يوري؛ كأن يوهم الناس بأنه يريد كذا، وهو يريد عكسه، إلا إذا كان السفر بعيدًا، فينبغي ألا يوري، وأن يعلمهم بالواقع؛ حتى يستعدوا؛ كما فعل النبي في غزوة تبوكٍ، والحرب خدعةٌ؛ ولذلك يجوز الكذب في الحرب، الحرب من المواضع التي يجوز فيها الكذب؛ لأن الحرب خدعةٌ.
  • أيضًا من الفوائد، قال النووي: ومنها التأسف على ما فات من الخير، وتمني المتأسف أنه كان فعله؛ لقول كعبٍ: “فيا ليتني فعلت!”، فقول كعب: فيا ليتني فعلت؛ لأن كعبًا  قال: فأصبح رسول الله غاديًا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازه شيئًا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأُدرِكهم، فيا ليتني فعلت!
    فتأسُّف الإنسان على ما فاته من الخير، وتمني الإنسان أن لو كان فعله، هذا لا بأس به، ولا يدخل ذلك في النهي عن قول: يا ليتني فعلت كذا وكذا؛ لأن النهي الوارد: ولا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا؛ لكان كذا وكذا [5]، إذا كان ذلك على سبيل التحسر، وعلى سبيل الاعتراض على القضاء والقدر.
    أما إذا كان ذلك على التأسف على فعل الخير فلا بأس، حتى يكون هذا محفزًا له على أن يفعل الخير في المستقبل، فمثلًا فات الإنسانَ أن يتصدق بصدقةٍ على فقيرٍ محتاجٍ، فيقول: والله مرَّ بنا فقيرٌ محتاجٌ يا ليتني تصدقت عليه! لا بأس بذلك، أو يا ليتني مثلًا فعلت كذا! يا ليتني أخذت عمرةً في رمضان، يا ليتني..، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا إنما يقوله المسلم على سبيل التأسف على فعل الخير، وليس على سبيل التحسر والاعتراض على القدر.
    ما كان على سبيل التحسر، والاعتراض على القدر ورد النهي عنه: ولا تقل: لو أني فعلت كذا؛ لكان كذا وكذا، ولكن: قل قدر الله وما شاء فعل، لكن إذا كان على سبيل التأسف على الخير فلا بأس، كما قال كعب بن مالكٍ في هذه القصة: “فيا ليتني فعلت!”.
  • أيضًا من الفوائد: استحباب صلاة القادم من سفر ركعتين في المسجد، أول ما يقدم، وهذه من السنن شبه المهجورة، أن المسافر إذا قدم من السفر؛ يستحب له أن يصلي ركعتين، فإن تيسر أن يكون ذلك في المسجد، فهذا هو الأفضل، وإن لم يتيسر؛ صلى هاتين الركعتين في بيته، وكان من هدي النبي أنه إذا قدم من سفرٍ؛ قَصَد المسجد وصلى فيه ركعتين، لكن في وقتنا الحاضر قد لا تكون المساجد مفتوحةً، قد لا تتهيأ المساجد وتكون مفتوحةً وقت القدوم من السفر، فيصلي الإنسان في بيته، فصلاته ركعتين بعد القدوم من السفر سنةٌ.
  • أيضًا من الفوائد: الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، وقبول معاذير المنافقين ونحوهم، ما لم يترتب على ذلك مفسدةٌ، يعني أن المطلوب من المسلم أن يتعامل مع الناس بالظاهر، فمن أظهر خيرًا؛ يقبل منه، ومن اعتذر يقبل عذره، والله تعالى يتولى السرائر.
  • أيضًا من الفوائد: استحباب هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة، وترك السلام عليهم ومقاطعتهم؛ تحقيرًا لهم وزجرًا، أن من يجاهر بالمعصية أو بالبدعة يستحب هجره؛ لأن عدم هجره يجعله يتمادى، بينما هجره ربما يردعه عن تلك المعصية التي جاهر بها، أو تلك البدعة التي يعملها، أما إذا كان المبتدع والمجاهر يتلقاه الناس بالسلام وبالترحاب، فإنه سيستمر في بدعته وفي فجوره، لكن إذا هجره خاصةً أهل الخير والصلاح، فهذا يعني أقل ما يفعله المسلم لإنكار هذا المنكر.
  • أيضًا من الفوائد، قال: استحباب بكائه على نفسه إذا وقعت منه معصيةٌ وتاب إلى الله ، فيستحب أن يصحب ذلك بكاءٌ، وهذا البكاء دليلٌ على صدق التوبة، كما حصل لهؤلاء الثلاثة الذين خلفوا، فقد جعلوا طوال الوقت يبكون، حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة:118]، فأخذ من هذا العلماء أنه من وقع في معصيةٍ، وتاب منها، فيستحب له أن يبكي على ما بدر منه، وما حصل منه؛ لأن هذا فيه دليلٌ على صدقه في توبته.
  • أيضًا من الفوائد، ذكر هذه الفائدة النووي رحمه الله، قال: إن مسارقة النظر في الصلاة والالتفات لا يبطلها، وأخذ هذا من قول كعب بن مالكٍ : فكنت أسارق النبي النظر، فإذا رآني؛ التفت، وكان يفعل هذا كعبٌ في الصلاة، وأقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك؛ فدل هذا على أن مسارقة النظر لا تبطل الصلاة، فلو كنت تصلي مثلًا ثم نظرت لأحدٍ أمامك، أو في اليمين أو في اليسار، هذا لا يؤثر على صحة الصلاة، لا يبطلها.
  • أيضًا من الفوائد، قال: إن السلام يسمى كلامًا، وكذلك رد السلام، وأن من حلف لا يكلم إنسانًا فسلم عليه أو رد عليه السلام؛ يحنث؛ لأن النبي أمر بألا يكلم هؤلاء الثلاثة الذين خُلِّفوا، وأن يُهجَروا، ففهم الصحابة  من ذلك ترك التسليم عليهم، وترك رد السلام عليهم؛ وهذا يدل على أن السلام ورد السلام يسمى كلامًا؛ ولهذا من حلف لا يكلم أحدًا فسلم عليه؛ فإنه يحنث.
  • أيضًا من الفوائد: وجوب إيثار طاعة الله ورسوله على مودة الصَّدِيق والقريب ونحوهما، كما فعل أبو قتادة  حينما سلم عليه كعبٌ فلم يرد عليه، وأبو قتادة كان صديقًا لكعب بن مالكٍ، فلما سلم عليه كعبٌ؛ لم يرد عليه؛ لأن أبا قتادة آثر محبة الله ورسوله  على محبة الصديق والقريب؛ وهذا يدل على أن محبة الله ورسوله يجب تقديمها على محبة الصديق والقريب ونحو ذلك.
  • أيضًا من الفوائد: جواز إحراق ورقةٍ فيها ذكر الله تعالى لمصلحةٍ؛ وذلك لأن كعب بن مالكٍ لما أتاه ذلك الخطاب من ملك غسان يدعوه إلى اللَّحاق به، وورد في ذلك الكتاب ذكر اسم الله ؛ لأنه سلم عليه، فأخذ كعب بن مالكٍ ذلك الكتاب وأحرقه في التَّنُّور، وكما فعل الصحابة في عهد عثمان؛ لما جمع الناسَ عثمانُ  على مصحفٍ واحد، وأمر بتحريق بقية المصاحف، فإذا كان التحريق لأجل المصلحة؛ فلا بأس، إذا كان التحريق للمصحف أو للأوراق التي فيها ذكر الله ​​​​​​​ لأجل المصلحة؛ فلا بأس بذلك، كما فعل الصحابة ، والأوراق التي فيها ذكر الله ​​​​​​​ إما أن تُحرق، وإما أن تدفن، وفي وقتنا الحاضر يوجد وسيلةٌ، وهي أن تُفرم ويستفاد منها في تدوير الورق، وإعادة تصنيعها من جديدٍ، وهذه في وقتنا الحاضر من أفضل الطرق، حتى لا يضيع هذا المال، وإنما يستفاد منه، لكن التحريق إذا وجد فيه مصلحةٌ؛ فلا بأس؛ ولهذا أمر عثمان بتحريق جميع المصاحف ما عدا المصحف الذي أجمع الصحابة عليه، وهو مصحف قريشٍ.
  • أيضًا من الفوائد: أن قول الرجل لزوجته: الحقي بأهلك، أنه ليس صريحًا في الطلاق، ولا يقع طلاقًا، وإنما هو من كنايات الطلاق؛ لأن كعب بن مالكٍ قال لزوجته: الحقي بأهلك، ولم يُرِد بذلك الطلاق، فلم يُعَدَّ طلاقًا، ولم يعتبره النبي طلاقًا؛ ولهذا ذكر الفقهاء أن من ألفاظ كناية الطلاق: الحقي بأهلك، فألفاظ الطلاق تنقسم إلى صريحٍ وكنايةٍ؛ فأما لفظ الصريح فيقع به الطلاق مطلقًا، فإذا قال لزوجته: أنت طالق، أو طلقتك ونحو ذلك؛ فيقع به الطلاق.
    وأما ألفاظ الكناية؛ كأن يقول: الحقي بأهلك، مثلًا، فهذه لا يقع بها الطلاق، إلا إذا نوى الطلاق، أما إذا لم ينو الطلاق؛ فلا يقع طلاقًا.
  • أيضًا من الفوائد: استحباب سجود الشكر عند تجدد نعمةٍ ظاهرةٍ، أو اندفاع بليَّةٍ ظاهرةٍ، دلت السنة على استحباب سجود الشكر، واستحباب سجود الشكر إنما يكون عند تجدد نعمةٍ أو اندفاع نقمةٍ.
    وأما عند عدم ذلك فلا يشرع؛ لأن بعض الناس يسجد سجود شكرٍ كل يومٍ، وبعضهم بعد كل صلاةٍ، يقول: شكرًا لنعم الله تعالى، وهذا العمل غير مشروعٍ، فإن الأصل في العبادات التوقيف، ولم يرد مثل هذا، وإنما يشرع سجود الشكر عند تجدد نعمةٍ، أو عند اندفاع نقمةٍ.
    عند تجدد نعمةٍ؛ مثلًا كما لو رُزق الإنسان بمولودٍ، أو مثلًا حصل له وظيفةٌ، أو رُقِّيَ في وظيفةٍ، أو نحو ذلك، واندفاع نقمةٍ؛ كما مثلًا: لو حصل له حادثٌ، ونجاه الله تعالى من هذا الحادث، فلم يُصَب بمكروهٍ، أو مثلًا غَرِق ثم نجاه الله تعالى من هذا الغرق، ونحو ذلك، فهنا يكون سجود الشكر مشروعًا، عند تجدد نعمةٍ أو عند اندفاع نقمةٍ.
    وفي هذه القصة كعب بن مالكٍ لما بُشر بتوبة الله عليه، خر لله ساجدًا، وهذا يدل على أن هذا قد استقر لدى الصحابة ، أنه يشرع سجود الشكر عند تجدد نعمةٍ، أو عند اندفاع نقمةٍ.
  • أيضًا من الفوائد: استحباب التبشير بالخير، يستحب التبشير بالخير، أن تبشر أخاك المسلم بما يسره، وما يدخل عليه الفرح، فهذا عملٌ صالحٌ، إدخال السرور على أخيك المسلم عملٌ صالحٌ، فإذا علمت بأمرٍ فيه خيرٌ لأخيك المسلم، يستحب أن تتواصل معه، وأن تبشره بذلك الخير، وأن تدخل السرور على أخيك المسلم، وأنت مأجورٌ على ذلك.
  • أيضًا من الفوائد: استحباب تهنئة من رزقه الله خيرًا ظاهرًا، أو صرف عنه شرًّا ظاهرًا، استحباب تهنئة من رزقه الله خيرًا ظاهرًا؛ يعني في الظاهر، وإلا قد يكون أيضًا ما يراه الإنسان خيرًا قد لا يكون كذلك.
  • وأيضًا استحباب من صرف الله عنه شرًّا في الظاهر، وإلا قد يكون أيضًا ما يراه الإنسان شرًّا والواقع أنه ليس كذلك، وأن عاقبته خيرٌ، لكن الإنسان يتعامل بالظاهر، فمن رزقه الله تعالى بخيرٍ في الظاهر، أو دفع الله عنه شرًّا في الظاهر، يستحب أن يهنأ، يستحب تهنئته بذلك.
    ولهذا الصحابة تسابقوا على تهنئة كعب بن مالكٍ وصاحبيه بتوبة الله تعالى عليهم، فإذا علمت بأن أخاك المسلم أصاب خيرًا ظاهرًا، أي خيرٍ، فينبغي أن تتواصل معه وأن تهنئه، أو أنه اندفع عنه شرٌّ ظاهرٌ، نجَّاه الله تعالى من شرٍّ ومن نقمةٍ ومن بلاءٍ، فينبغي أن تتواصل معه وأن تهنئه، فالعلماء ذكروا أنه يستحب تهنئة المسلم إذا رزقه الله خيرًا ظاهرًا، أو صرف عنه شرًّا ظاهرًا.
  • أيضًا من الفوائد: استحباب إكرام المبشر بهديةٍ، وهذا عليه الناس من قديم الزمان، ويسمونها بشارةً، تجد بعض الناس إذا أراد أن يبشرك بشيءٍ قال: ما بشارتي؟ يعني كم تعطيني؟ فهذا أمرٌ درج عليه الناس من قديم الزمان.
    ولهذا كعب بن مالكٍ أعطى الذي بشره بتوبة الله عليه ثوبين؛ إكرامًا له؛ وهذا يدل على استحباب إعطاء المبشر هديةً، فإذا بشرك الإنسان بأي خيرٍ، بأي أمرٍ يسرُّك؛ ينبغي أن تعطيه هديةً، وتقول: هذه هديةٌ أو بشارةٌ، ونحو ذلك.
  • أيضًا من الفوائد: أنه يجوز تخصيص اليمين بالنية، طيب، أنا سأقرأ الفائدة، وأطلب منكم من أين نأخذ هذه الفائدة من القصة:

قال النووي رحمه الله: الفائدة السابعة والعشرون: أنه يجوز تخصيص اليمين بالنية، فإذا حلف لا مال له، ونوى نوعًا، لم يَحنَث بنوعٍ من المال غيره، وإذا حلف لا يأكل ونواه خبزًا؛ لم يحنث باللحم والتمر وسائر المأكول، ولا يحنث إلا بذلك النوع، وكذلك لو حلف لا يكلم زيدًا ونوى زيدًا مخصوصًا؛ لم يحنث بتكليمه إياه غير ذلك الكلام المخصوص.

طيب، من أين أخذنا هذا من القصة، أنه يجوز تخصيص اليمين بالنية؟

الطالب:

الشيخ: أحسنت! لقول كعبٍ : والله ما أملك غيرهما، غير الثوبين، مع أنه يملك عقارًا، لكنه قصد الثياب والنقود ونحوها مما يُعطَى المبشر؛ فدل ذلك على أنه يجوز تخصيص اليمين بالنية.

فإذا حلفت لا تكلم فلانًا، تقصد نوعًا من الكلام، فتخصص اليمين بذلك النوع من الكلام، أو حلفت لا تذهب لكذا، وتقصد هذا اليوم، فيتخصص ذلك بذلك اليوم.

فإذنْ اليمين يجوز تخصيصها بالنية، فالعبرة بالنية: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى [6].

ولذلك لو اختلفت النية عن اللفظ، فالنية مقدَّمةٌ على اللفظ، بل إن اللفظ لم يعتبر أصلًا، إلا لكونه معبرًا عما في النية؛ ولهذا لو أن رجلًا أراد أن ينادي صاحبًا له اسمه طارقٌ، فأراد أن يقول: يا طارق، قال: طالق، أراد أن يقول لصاحبه: طارق، قال: طالق، هل تطلق زوجته؟ لا تطلق؛ لأن العبرة بالنية.

  • أيضًا من الفوائد: استحباب القيام للوارد إكرامًا له، إذا كان من أهل الفضل بأي نوعٍ كان، إذا قَدِم إنسانٌ وكان من أهل الفضل؛ بأن كان عالمًا كبيرًا، أو مثلًا كان ولي أمرٍ، أو كان مثلًا والدًا للإنسان، أو كان له عليه حقٌ، ونحو ذلك؛ فيستحب القيام له والمبادرة لمصافحته.
    إنسانٌ قدم، ودخل المجلس مثلًا وهو من كبار أهل العلم، يستحب أن تذهب إليه وتصافحه وتسلم عليه، أو مثلًا يكون له أي نوعٍ من أنواع الفضل، فيستحب القيام إليه ومصافحته.
  • أيضًا من الفوائد: أنه يستحب لمن حصلت له نعمةٌ ظاهرةٌ، أو اندفعت عنه كربةٌ ظاهرةٌ أن يتصدق بشيءٍ من ماله شكرًا لله تعالى على إحسانه، وهذه من السنن أيضًا شبه المهجورة، إذا حصل لإنسان نعمةٌ ظاهرةٌ، أو اندفعت عنه نقمةٌ ظاهرةٌ؛ فيستحب له أن يتصدق؛ شكرًا لله ، ودليل ذلك: أن كعب بن مالكٍ لما تاب الله عليه قال: “يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً لله”، يعني: أن أتصدق بجميع مالي، فقال له النبي : أمسك عليك بعض مالك، فهو خيرٌ لك، فقلت: أُمسِكُ سهمي الذي بخيبر، فأقره النبي على الصدقة شكرًا لنعمة الله عليه بأن تاب الله عليه؛ فدل ذلك على استحباب الصدقة عند ورود نعمةٍ ظاهرةٍ، أو عند اندفاع نقمةٍ ظاهرةٍ.
    فمثلًا: أنعم الله عليك بنعمةٍ، فيستحب لك أن تتصدق شكرًا لله، أو دفع الله عنك نقمةً، فيستحب أن تتصدق شكرًا لله ، فنأخذ من هذا أنه عند تجدد نعمةٍ، أو اندفاع نقمةٍ يستحب أمران:

    1. الأمر الأول: سجود الشكر.
    2. والأمر الثاني: الصدقة شكرًا لله على تجدد النعمة، أو على اندفاع النقمة.

لاحِظ هذه الدقائق والفوائد اللطيفة، لا تجدها إلا في شروح الأحاديث، ما تجدها في كتب الفقه، أو كتب الأحكام، هذه الفائدة من الفوائد النادرة، من أين أخذناها؟ أخذناها من هذه القصة، وهذا يبين أهمية قراءة كتب الحديث والتفقه فيها.

  • أيضًا من الفوائد: أنه يستحب لمن خاف ألا يصبر على الإضاقة ألا يتصدق بجميع ماله، بل ذلك مكروهٌ له، من كان يخشى على نفسه أن تضيق حاله، وأن يتحسر ويتأسف، فيكره في حقه أن يتصدق بجميع ماله، وإنما يتصدق ببعض ماله، ويُبقِي بعض ماله؛ لأجل أنه قد يحتاج إليه في المستقبل.

وأجبنا عن قصة صدقة أبي بكرٍ بجميع ماله، وقلنا: إن أبا بكرٍ عنده من كمال الإيمان واليقين ما ليس عند غيره؛ ولذلك أقر النبي  أبا بكرٍ  على الصدقة بجميع  ماله، ولم يُقِر كعب بن مالكٍ على الصدقة بجميع ماله؛ لأن حال أبي بكرٍ  تختلف عن حال كعبٍ ، فأبو بكرٍ عنده من الإيمان واليقين ما ليس عند غيره.

ولهذا في قصة الحديبية لما النبي قبل بشروط الصلح، مع أنه في ظاهرها غضاضةٌ على الإسلام والمسلمين، وكان من أشدها عليهم أنهم يرجعون ولا يعتمرون وهم محرمون، وقَدِموا البيت، فجميع الصحابة لم يتقبلوا هذا الأمر، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام لما أمرهم بأن يحلقوا رءوسهم يكاد يقتل بعضهم بعضًا من الغم والأسى، كلهم تضايقوا من هذا الأمر، ما عدا رجلًا واحدًا لم يتضايق منه، وعرف أنه الحق، وقال لعمر : إنه على الحق، فاستمسك بغرزه، إنه رسول الله [7]، من هو؟ أبو بكرٍ الصديق ، فأبو بكرٍ كان مطمئنًا أن هذا هو الخير، وأن هذا هو الحق، وأن النبي ما اختار ذلك، إلا لأنه هو الخير.

ولذلك لما رجع الصحابة  من الحديبية نزل في الطريق على النبي : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] قال الصحابة : يا رسول الله، أو فتحٌ هو؟ قال: نعم [8]، سماه الله تعالى ليس فقط صلحًا، بل فتحٌ، فتحٌ عظيمٌ؛ لأن أثره كان كبيرًا على الإسلام والمسلمين؛ لأنه فيه أمنت الدعوة، وجُعل فيها حريةٌ للدعوة، وانتشر الإسلام؛ ولذلك كان الذين مع النبي عليه الصلاة والسلام في يوم الحديبية ألفًا وأربعمئةٍ، بعد سنتين فقط في السنة الثامنة في فتح مكة، كان معه عشرة آلافٍ، وبعد سنتين في حجة الوداع مئة ألفٍ، فسماه الله فتحًا، وهذا يدل على أن بعض الأمور في ظاهرها لا يكون فيها خيرٌ، لكن يجعل الله تعالى في عاقبتها خيرًا عظيمًا؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1].

فأبو بكرٍ إذنْ لا يقاس على غيره، أبو بكرٍ عنده من كمال الإيمان واليقين ما ليس عند غيره؛ ولهذا أقره النبي على الصدقة بجميع ماله، ولم يقر كعبًا على الصدقة بجميع ماله، بل قال: أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خيرٌ لك.

  • أيضًا من الفوائد، وقد ختم بها النووي  رحمه الله هذه الفوائد، ذكر سبعةً وثلاثين فائدةً، قال: السابعة والثلاثون: أنه يستحب لمن تاب بسببٍ من الخير أن يحافظ على ذلك السبب، فهو أبلغ في تعظيم حرمات الله، كما فعل كعبٌ في الصدق.

من تاب بسببٍ من الخير؛ ينبغي أن يعظم ذلك السبب، وأن يحافظ عليه، تاب بسبب الصدق، تاب بأي سببٍ من الأسباب، ينبغي أن يعظم شأن ذلك السبب، وأن يحافظ عليه، كما فعل كعب بن مالكٍ ، الذي قال: إنما تاب الله عليَّ بسبب الصدق، وعاهد الله أن يصدق ما بقي حيًّا، ولعله يعني..، هو كان من المؤمنين الصادقين، ويكفي أن الله تعالى نوَّه بشأنه مع صاحبيه في كتابه الكريم.

فهذه أبرز الفوائد والأحكام، وبعض العلماء ذكروا فوائد أكثر من هذه الفوائد، وربما لا يتسع المقام لذكرها؛ وهذا يدل على عظيم شأن هذه القصة، ويكفينا أن الله نوه بشأنها في كتابه الكريم في آيتين في قرآنٍ يتلى إلى قيام الساعة: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:118-119]، اللهم اجعلنا مع الصادقين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والإجابة على الأسئلة -إن شاء الله- بين الأذان والإقامة.

نجيب عما تيسر من الأسئلة:

الأسئلة

السؤال: هذا سائل يقول: في الحديث: إذا استيقظ أحدكم من نومه؛ فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا [9]، وكان رسول الله إذا قام من الليل؛ يشوص فاه بالسواك [10]، فهل من يتوضأ يأتي بهاتين السنتين؟

الجواب: عند القيام من النوم يأتي بهاتين السنتين، عند القيام من النوم، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، إذا كان سيتوضأ من إناءٍ، لكن حال كثيرٍ من الناس الآن أنهم يتوضؤون من الصنبور مباشرةً.

وعلى ذلك نقول: اغسل يديك من صنبور الماء، ويستحب أيضًا الاستنثار ثلاثًا بعد القيام من النوم؛ لأن الشيطان يبيت على خيشومه [11].

فإذنْ يستحب أمران:

الأمر الأول: أن يستنثر بيده الشمال ثلاث مراتٍ، وأن يغسل يديه ثلاث مراتٍ قبل أن يتوضأ، ولا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا إذا كان سيتوضأ من إناء.

وكذلك أيضًا إذا قام يريد أن يصلي من الليل؛ ينبغي أن يستاك، فالسواك هنا سنةٌ.

السؤال: ما حكم قول: “لَعَمْرِي”؟

الجواب: لا بأس بقول: لعمري؛ ولما سُئل الإمام أحمد عن قول: لعمري، قال: ما رأى به بأسًا.

أولًا: لأنها ليست يمينًا، وقد نقل الموفق ابن قدامة رحمه الله عن أكثر العلماء أنها ليست يمينًا؛ وذلك لأن اليمين إنما تكون بتصديرها بإحد حروف القسم الخمسة، وهي: الواو، والباء، والتاء، والهمزة، والهاء، ولعمري ليست مُصدَّرةً بأي حرفٍ من حروف القسم.

ثانيًا: حتى لو اعتُبِرَت يمينًا -على قول بعض أهل العلم- فهذا مما يجري على اللسان من غير قصدٍ، ولا يراد بها اليمين، وما جرى على اللسان من غير قصدٍ لا يترتب عليه شيءٌ، فهي كقول: ثَكِلَتك أمك، وحَلْقَى عَقْرَى، ونحو ذلك مما يَرِد على اللسان من غير أن يُقصد معناه، وهذا جارٍ في لغة العرب.

ومما يدل لجواز قول: لعمري، أنه قد ورد في السنة: أن النبي قال: لعمري، ورد ذلك في أكثر من حديثٍ؛ ومن ذلك: ما جاء في “مسند الإمام أحمد” بسندٍ صحيحٍ: أن رجلًا سأل النبي عن صيام يوم الجمعة، وأن يسكت فيه عن الكلام؟ فقال له النبي : لا تصم يوم الجمعة إلا أن تصوم أيامًا هو أحدها، يعني نهاه عن إفراد يوم الجمعة بالصوم، ولعمري، وهذا موضع الشاهد، قال عليه الصلاة والسلام: ولعمري لَأنْ تأمر بمعروفٍ أو تنهى عن منكرٍ؛ خيرٌ من أن تسكت [12]، وهذا سنده صحيحٌ عند الإمام أحمد.

وهنا استخدم النبي كلمة لعمري، وأيضًا ورد هذا عن عائشة رضي الله عنها في أكثر من موضعٍ، أنها تقول: لعمري، ولعمري، وورد كذلك أيضًا عن ابن عباسٍ، وورد أيضًا عن ابن مسعودٍ، وورد على لسان كثيرٍ من أهل العلم قديمًا وحديثًا.

وعلى ذلك نقول: لا بأس بأن يقال: لعمري، وهذا لا يعتبر قسمًا، ولو اعتُبر قسمًا؛ فهو مما يُتسامح فيه؛ لأنه مما يجري على اللسان من غير قصدٍ.

السؤال: كيف يُرَدُّ السلام على غير المسلم؟

الجواب: يرد السلام على غير المسلم إذا سلم بكلامٍ واضحٍ فيه لفظ السلام، فيرد عليه بمثله، فإذا قال: السلام عليكم، تقول: وعليكم السلام؛ لعموم قول الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، وهذا يشمل المسلم وغير المسلم.

فلو سلم عليك؛ ترد عليه السلام، ولو أيضًا قال: صباح الخير؛ ترد عليه كذلك، وأما قول النبي : قولوا: وعليكم [13] فهذا خاصٌّ باليهود الذين كانوا يحرفون كلمة السلام، فيقولون بدل السلام عليكم، يقولون: السام عليكم، والسام معناه: الموت، فأمر النبي الصحابة  بأن يقولوا: وعليكم، لكن إذا كان غير المُسْلِم يُسَلِّم بكلامٍ واضحٍ؛ فيُرد عليه بمثله.

السؤال: ما حكم المساهمة في قطاع المصارف الإسلامية؛ مثل “الراجحي”؟

الجواب: لا بأس بذلك إذا كان عند المصرف هيئةٌ شرعيةٌ، ورقابةٌ شرعيةٌ، فلا بد من الأمرين: هيئةٌ شرعيةٌ من علماء متخصصين، وأيضًا رقابةٌ شرعيةٌ تراقب تطبيق قرارات الهيئة؛ لأن وجود هيئةٍ شرعيةٍ بدون رقابةٍ لا قيمة له، إنما هو حبرٌ على ورقٍ؛ لأن الموظف إذا لم يحاسَب على عدم تطبيق قرارات الهيئة الشرعية، فيحصل التساهل، ويحصل التقصير والتفريط، لا بد أيضًا من رقابةٍ، فلا بد من هيئةٍ شرعيةٍ ومن رقابةٍ، فإذا توفر في المصرف هيئةٌ ورقابةٌ، فتبرأ الذمة بالتعاملات مع ذلك المصرف.

السؤال: ما ضابط المشقة الموجِبة للتخفيف؟

الجواب: ضابط المشقة الموجبة للتخفيف: المشقة غير المعتادة، أما المشقة المعتادة؛ فهذه لا تستدعي التخفيف؛ فعلى سبيل المثال: من كان يشق عليه الصلاة مع الجماعة في المسجد.

متى تكون هذه المشقة عذرًا في عدم وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد؟

الجواب: إذا كانت المشقة غير معتادةٍ، إنسانٌ كبير في السن، ويشق عليه الحضور للمسجد مشقةً غير معتادةٍ، يكون معذورًا في ترك الصلاة مع الجماعة، مريضٌ إذا حضر للمسجد شق عليه الحضور مشقةً غير معتادةٍ، يكون هذا عذرًا له.

أما إذا كانت المشقة معتادةً، يعني إنسانٌ مثلًا بيته بعيدٌ عن المسجد، لكن يسمع النداء، فيكون هناك مشقةٌ، لكنها معتادةٌ، فهذه لا توجب التخفيف، ومثل ذلك في الصيام، فإذا شق الصيام على المريض مشقةً غير معتادةٍ، أبيح له الفطر، أما إذا كانت المشقة معتادةً، فلا يباح له الفطر.

فالمريض مثلًا إذا شق عليه الصيام مشقةً غير معتادةٍ؛ يجوز له أن يفطر في نهار رمضان، لكن الإنسان إذا عطش، أو مثلًا جاع في نهار رمضان، لحقه الجوع أو العطش، ولم يكن كبيرًا في السن ولا مريضًا؛ فهذه المشقة التي تلحقه بسبب الجوع والعطش مشقةٌ معتادةٌ، فليس له الفطر، هذه لا توجب التخفيف، وليس له الفطر في نهار رمضان.

إذنْ الضابط في المشقة الموجبة للتخفيف: هي المشقة غير المعتادة، كما ذكر ذلك الأصوليون في كتب أصول الفقه، أن ضابط المشقة الموجبة للتخفيف: هي المشقة غير المعتادة، وأما المشقة المعتادة فلا توجب التخفيف.

السؤال: من ينشر مقاطع فيها الوقوع في أعراض بعض الناس، خاصةً من الدعاة وطلاب العلم، فهل يلحقه إثمٌ، وهو إنما مجرد ناشرٍ؟

الجواب: نعم، يلحقه الإثم، مجرد النشر يلحق صاحبه الإثم، إذا كان هذا المقطع فيه وقوعٌ في عرض مسلمٍ؛ لقول الله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، قوله: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، يدل على أن من أعان على نشر الباطل فإنه يكون مثلهم؛ ولذلك هناك صحابة أفاضل تكلموا في الإفك، نشروا حديث الإفك من غير قصدٍ، لكن سمعوا الناس يقولون شيئًا فتكلموا، فجلدهم النبي حد القذف، وهم حسان بن ثابتٍ، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحشٍ، مع أنهم من أفاضل الصحابة ، مجرد نقلوا فقط الخبر، ومع ذلك لم يعذرهم النبي وجلدهم، فالذي ينشر مقطعًا فيه قدحٌ في عرض مسلمٍ، فإنه يكون شريكًا لمن صمم ذلك المقطع، الذي صمم المقطع هو الذي يتولى كبره، ويكسب بذلك ذنوبًا وآثمًا عظيمةً، والذي ينشر المقطع أيضًا يشترك معه في الإثم، حقوق العباد أمرها عند الله عظيمٌ جدًّا.

وهذا الوقوع في الأعراض يعظم الإثم إذا كان ذلك في حق عالمٍ، أو في حق طالب علمٍ، أو داعيةٍ إلى الله ، فإن الإثم يكون أعظم؛ لأن هذا فيه تنفيرٌ أيضًا من الشرع؛ لأن التنفير من حملة الشرع تنفير من الشرع، وصدٌّ للناس عن الخير وعن دين الله ​​​​​​​.

فهؤلاء الذين يفعلون ذلك، ويصممون هذه المقاطع وينشرونها، ما أعظم مصيبتهم عند الله ! هؤلاء ينطبق عليهم حديث المُفْلِس، لمَّا ذكر النبي قال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد ضرب هذا، وسفك دم هذا، وأكل مال هذا، ووقع في عرض هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته؛ أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار [14].

فهؤلاء الذين يفعلون ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي، يصممون هذه المقاطع وينشرونها في الناس، هؤلاء إثمهم عند الله عظيمٌ، هم كل يومٍ يوزعون حسناتهم على الآخرين، ومن أعظم الحسرات أن يرى الإنسان أن الحسنات التي عملها لله تكون في ميزان غيره.

فعلى المسلم أن يكون عنده الورع، وخاصةً فيما يتعلق بحقوق العباد، الأمور التي فيما بينك وبين الله قد يغفرها الله لك، يسامحك الله فيها، لكن حقوق العباد تبقى لأصحابها، حتى لو تاب الإنسان؛ تبقى لأصحابها، يأخذونها منك يوم القيامة، يأخذون حسناتٍ، فإن فنيت حسناته؛ أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، وهذا يدل على خطورة هذه المسألة.

السؤال: ما حكم شراء سيارة الإيجار المنتهي بالتمليك من “بنك الراجحي”؟

الجواب: لا بأس بذلك؛ لأن هذا العقد قد اطلعتُ عليه، منضبطٌ بالضوابط الشرعية، والتأجير مع الوعد بالتمليك له صورٌ، ليس صورةً واحدةً، له صورةٌ ممنوعةٌ، هي الصورة التي منعتها “هيئة كبار العلماء”، وأيضًا “مجمع الفقه”: وهي أن يجتمع التأجير والبيع في الوقت نفسه، في زمنٍ واحدٍ وفي عقد ٍواحدٍ، فهذه صورةٌ ممنوعةٌ، وهذه الصورة أصلًا غير موجودةٍ في السوق، والشركات والبنوك لا تريدها.

الصورة الجائزة: هي أن يكون العقد عقد تأجيرٍ حقيقيٍّ، تترتب عليه آثار عقد الإجارة، مع وعد بالتمليك بأية صورةٍ من صور التمليك، وهذه الصورة السائدة، هذه لا بأس بها، يعني يؤجرك تأجيرًا مثلًا لمدة عشر سنين، أو أكثر أو أقل، مع وعد بالتمليك بالبيع بسعرٍ مخفضٍ، يسمونها الدفعة الأخيرة، أو بالهبة، هذا لا بأس به.

لكن من أبرز الإشكالات في عقود التأجير مع الوعد بالتمليك: هي أن في بعض عقود التأجير المنتهي بالتمليك شرط غرامة تأخيرٍ، إذا تأخر المستأجر عن سداد أي دفعةٍ إيجاريةٍ؛ يحسب عليه غرامةٌ، هذه الغرامة لا تجوز؛ لأنها نظير ربا الجاهلية، كانوا في الجاهلية إذا حل الدين على المدين؛ يقول الدائن للمدين: إما أن تقضي وإما أن تُرْبِي، فهذه الدفعة الإيجارية، وهذا القسط الإيجاري يعتبر دينًا في ذمة المستأجر، فإذا تأخر عن السداد؛ لا يجوز وضع شرطٍ جزائيٍّ عليه، أو غرامة تأخيرٍ، وبعض الجهات التي تضع هذا الشرط يقولون: نحن لا نأخذ هذه الغرامة، وإنما نصرفها في وجوه البر، وهذه أخف، وهي محل خلافٍ بين العلماء المعاصرين، والقول الراجح أيضًا: أنها لا تجوز، حتى لو كانت ستصرف في وجوه البر، أنها لا تجوز، لكن إذا كان عقد تأجيرٍ حقيقيٍّ تترتب عليه آثار عقد الإجارة، ولم يوجد فيه هذا الشرط -شرط غرامة التأخير- فالأصل أنه عقدٌ جائزٌ، والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، والإجارة هي بيع منافع، أحل الله البيع، فهو بيع منفعةٍ، فالآن عقود التأجير الموجودة في الساحة الأصل فيها الجواز، بشرط عدم وجود شرط غرامة التأخير.

السؤال: ما حكم تغميض العينين في الصلاة؟

الجواب: ذكر أكثر الفقهاء أن تغميض العينين في الصلاة من مكروهات الصلاة، لكن ذكر ابن القيم وبعض المحققين من أهل العلم: أن تغميض العينين في الصلاة إذا كان يؤدي للخشوع فيها فتزول الكراهة، وهذا هو الأقرب في المسألة: أنه إذا كان تغميض العينين في الصلاة بدون سببٍ؛ فهذا مكروهٌ، أما إذا كان تغميض العينين يؤدي للخشوع في الصلاة؛ فلا بأس به من غير كراهةٍ، بعض الناس يقول: إني إذا غمضت عيني في الصلاة؛ أخشع في صلاتي، نقول: غمض عينيك، لا بأس، أما إذا كان سيغمض عينيه في الصلاة من باب العبث، هذا مكروهٌ، فهذا هو الراجح في حكم تغميض العينين في الصلاة.

السؤال: إذا كانت الصلاة جهريةً؛ فما حكم قراءة سورة الفاتحة للمأموم؟

الجواب: قراءة الإمام قراءةٌ لمن خلفه، لا يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة فيما جهر فيه الإمام في قول جمهور الفقهاء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو ظاهر المنقول عن الصحابة ، واختيار الإمام ابن تيمية رحمه الله وجمع من المحققين من أهل العلم، خلافًا للشافعية، الشافعية فقط هم الذين أوجبوا على المأموم أن يقرأ الفاتحة مطلقًا، سواءٌ كانت الصلاة سريةً أو جهريةً.

لكن القول الراجح ما عليه جماهير الفقهاء، وهو أن قراءة الإمام قراءةٌ لمن خلفه، فلا يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة فيما جهر فيه الإمام من الصلاة الجهرية.

السؤال: ما حكم التمويل من “مصرف الراجحي” في معدن (البلاديوم)، علمًا بأنه لا يوجد تمويلٌ بالأسهم حاليًّا، مع أن البنك يتوكل في بيع السلعة؟

الجواب: لا بأس بذلك؛ لأن الضوابط الشرعية متحققةٌ، ففيه التملك، وفيه قبضٌ، وفيه تعيينٌ، وهو من أهم الشروط: أن تكون السلعة متعينةً برقمٍ تسلسليٍّ، ويُعطَى المشتري شهادة تخزينٍ، أو شهادة ملكيةٍ يكون فيها رقمٌ للسلعة، بحيث لو أردت؛ احتفظت بهذا المعدن، ولو أردت أيضًا؛ جُلِب إليك، لكن يكلفونك، أو يطلبون منك أن تتحمل تكاليف الشحن، ولو أردت أن توكل البنك في بيعه؛ توكِّل، وهذا هو الغالب في الناس أنهم يوكلون البنك في البيع، فهذه الصورة لا بأس بها؛ لأنه بيعٌ وشراءٌ، والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].

التورق المنظَّم له صورتان: صورةٌ جائزةٌ، وصورةٌ ممنوعةٌ:

الصورة الممنوعة: هي التي تخلو من القبض ومن التعيين؛ لأن هذا يفضي إلى أن تباع السلعة على أكثر من شخصٍ، ويفضي أيضًا إلى الصورية، فهذه هي التي منعتها المجامع الفقهية.

الصورة الجائزة: هي التي تتحقق فيها الضوابط الشرعية؛ ومنها: التملك، والقبض، والتعيين، وهذه هي التي يطبقها المصرف الذي سأل عنه الأخ السائل الكريم.

وقد فصلت هذا في كتابي “فقه المعاملات المالية المعاصرة”، ذكرت الصورتين: الصورة الممنوعة، والصورة الجائزة، فمن أراد مزيدًا من التوضيح، فليرجع للكتاب.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 4418، ومسلم: 2769.
^2 رواه البخاري: 3562، ومسلم: 2320.
^3 رواه أبو داود: 1678، والترمذي: 3675، وقال: حسن صحيح.
^4 رواه مسلم: 2607.
^5 رواه مسلم: 2664.
^6 رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
^7 رواه البخاري: 2731-2732.
^8 رواه مسلم: 1785.
^9 رواه مسلم: 278.
^10 رواه البخاري: 245، ومسلم: 255.
^11 رواه البخاري: 3295، ومسلم: 238.
^12 رواه أحمد: 21954.
^13 رواه البخاري: 6258، ومسلم: 2163.
^14 رواه مسلم: 2581.
zh