عناصر المادة
تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.
باب سعة رحمة الله تعالى على المؤمنين
ما زلنا في كتاب “التوبة”، وبقي في باب “سعة رحمة الله تعالى على المؤمنين” حديث النَّجْوَى، حديث ابن عمر رضي الله عنهما في النَّجْوَى، فنستمع له أولًا.
القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا ووالديه ومشايخه والمسلمين برحمتك يا ربَّ العالمين.
حديث: يُدْنَى المؤمن يوم القيامة من ربِّه
قال المؤلف رحمه الله:
حدَّثنا زهير بن حرب: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام الدَّسْتُوائيِّ، عن قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز قال: قال رجلٌ لابن عمر: كيف سمعتَ رسول الله يقول في النَّجْوَى؟ قال: سمعتُه يقول: يُدْنَى المؤمن يوم القيامة من ربِّه حتى يضع عليه كَنَفَه، فَيُقَرِّره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي ربِّ أعرف. قال: فإني قد سترتُها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم. فيُعْطَى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيُنادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كَذَبوا على الله [2].
الشرح:
هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، يُبين فيه النبي أن الله تعالى يوم القيامة يُدْنِي المؤمنَ ويضع عليه كَنَفَه -يعني: سِتْرَه- ويُقرره بذنوبه: فعلتَ كذا وكذا يوم كذا وكذا. فيقول: أي ربِّ، نعم. فيقول: فعلتَ كذا وكذا يوم كذا وكذا. فيُقرره بجميع ذنوبه التي في الدنيا، حتى إذا خاف المؤمن وظنَّ أنه هلك، قال الله تعالى له: إني قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم.
سبحان الله!
ويضع الربُّ كَنَفَه -يعني: ستره- عليه حتى لا يفتضح، يُكلمه سبحانه فيما بينه وبينه، ثم يقول: قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم.
وهذه الذنوب التي سترها الله تعالى في الدنيا، ويغفرها يوم القيامة، إنما هي فيما كان بين العبد وربه ، أما ما كان من مظالم العباد، فإن مظالم العباد تبقى لأصحابها، ويتقاصُّون عند القنطرة، كما جاء في حديث أبي سعيدٍ : أن النبي قال: إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا بقنطرةٍ بين الجنة والنار يتقاصُّون مظالمَ كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة [3].
ودلَّ حديث الشفاعة على أن بعض المؤمنين من العُصاة يُعذَّب في النار ثم يُخرج منها، وهذا يدل إذن على أن هذه المغفرة إنما هي مغفرةٌ لنوعٍ من الذنوب، وليست لجميع الذنوب، وإنما لنوعٍ من الذنوب، وهي الذنوب التي بين العبد وربه .
فإن قال قائلٌ: أعداد البشر كبيرةٌ جدًّا، وأعداد المؤمنين أيضًا كثيرةٌ، يعني: عدد المسلمين الآن الأحياء مليار ونصف، فكيف بأعدادهم منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة؟! كيف يُقرر الله تعالى كل إنسانٍ بذنوبه، ويضع عليه كَنَفَه وستره؟!
فالجواب: أن الله على كل شيءٍ قديرٌ، فلا تُقاس قُدرة الله بقُدرة البشر، الله على كل شيءٍ قديرٌ؛ ولهذا لما سُئل ابن عباسٍ رضي الله عنهما: كيف يُحاسِب الله الخلق في ساعةٍ واحدةٍ؟ قال: “كما يرزقهم في ساعةٍ واحدةٍ”، كما أن اللهَ يرزق الناس جميعًا فهو يُحاسبهم جميعًا.
وأيضًا إذا قرأ المُصلي سورة الفاتحة يُجيبه الربُّ سبحانه، كما أخبر بذلك النبي : فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال الله: حَمِدَني عبدي. وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، قال الله: أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، قال الله: مَجَّدَني عبدي. وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. وإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل [4]، والمُصلون كُثُرٌ، ومع ذلك يُجيب الربُّ سبحانه كلَّ مُصَلٍّ.
فقُدرة الله تعالى لا يتخيلها العقل البشري، ولا تُقاس بقُدرة البشر، فالله على كل شيءٍ قديرٌ، له طلاقة القدرة، فهو على كل شيءٍ قديرٌ.
فمثل هذا السؤال لا ينبغي طرحه؛ لأن الله على كل شيءٍ قديرٌ، المهم أن الحديث يكون صحيحًا بالسند، فإذا صحَّ الحديث لا تسأل: كيف، فالله على كل شيءٍ قديرٌ، والله تعالى له من العظمة والقُدرة شيءٌ فوق مستوى خيال العقل البشري؛ ولهذا يقول سبحانه: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [الشورى:5]، هذه السماوات على عظمتها تكاد تتفطر وتتشقق؛ خوفًا وفَرَقًا من عظمة الله سبحانه، فالله تعالى له من العظمة والقُدرة شيءٌ عظيمٌ لا يُحيط به البشر.
فمثل هذه الأسئلة ينبغي ألا تُطْرَح، لكن إنما أوردتُ ذلك؛ لأنها قد ترد مثل هذه الأسئلة، يطرحها بعض الناس: كيف يُقرر الله كلَّ إنسانٍ والناس كثيرٌ؟
نقول: الله على كل شيءٍ قديرٌ، أليس الله هو الذي خلقهم ورزقهم وأماتهم ويُحييهم؟ هو على كل شيءٍ قديرٌ .
وهذا التقرير من الله لعباده المؤمنين فقط، وأما الكفار والمنافقون فلا يحتاجون إلى هذا التقرير، وإنما يُنادَى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كَذَبوا على الله، ألا لعنة الله على الظالمين. ويفتضحون على رؤوس الخلائق.
فوائد من حديث: يُدْنَى المؤمن يوم القيامة من ربِّه
وهذا الحديث فيه فوائد، منها:
- أولًا: بيان إكرام الله تعالى لعبده المؤمن، حيث يُدْنِيه منه ويضع عليه كَنَفَه وسِتْره؛ حتى لا يسمع أحدٌ مُناجاته.
- ثانيًا من فوائد الحديث: إثبات صفة الكلام لله سبحانه؛ لأن الله يُقرره ويتكلم معه، ويقول: هل تعرف كذا؟ فعلتَ كذا يوم كذا وكذا.
وهذا فيه ردٌّ على الجهمية والفرق المُنحرفة الذين أنكروا صفة الكلام، وصفة الكلام صفةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين، وإجماع أهل السنة. - وأيضًا من فوائد هذا الحديث: فضل السّتر في الدنيا، وأن الذي يستر على نفسه في الدنيا، ولا يُجاهر بالمعصية؛ فإن الله تعالى يغفرها له يوم القيامة إذا شاء.
وهذا يدل أيضًا على قُبح المُجاهرة بالمعاصي، فإن المُجاهرين لا يغفر الله لهم؛ لأنهم لم يستروا على أنفسهم، ومُجاهرتهم بالمعصية تدل على استخفافهم ومُبارزتهم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: كلُّ أُمَّتي مُعَافًى إلا المُجاهرين، .. يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يُصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحة كذا وكذا [5].
فالمُجاهرة معصيةٌ أخرى غير المعصية التي وقع فيها الإنسان، يعني: إذا وقع الإنسان في معصيةٍ فهذه معصيةٌ، فإذا جاهر بها فهذه معصيةٌ أخرى؛ لأنها تدل على الاستخفاف.
ومن صور المُجاهرة: أن الإنسان يتحدث بما عَمِل من مَعَاصٍ.
ومن صور المُجاهرة: ما هو في وقتنا الحاضر من تصوير المعصية ونشرها عبر وسائل التواصل، فهذا نوعٌ من المُجاهرة بالمعصية؛ ولهذا فإن عقوبة مُرتكب هذا الذنب الذي قد جاهر به عظيمةٌ عند الله تعالى: كل أُمَّتي مُعافًى إلا المُجاهرين. - أيضًا من فوائد هذا الحديث: فضيحة الكفار والمنافقين، حيث يُنادَى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كَذَبوا على الله، ألا لعنة الله على الظالمين.
- أيضًا من الفوائد: بيان عظيم قُدرة الله سبحانه، حيث يُدْنِي كلَّ واحدٍ من المؤمنين، ويضع عليه كَنَفَه وستره، ويُقرره بجميع ذنوبه التي عملها في الدنيا، وهذا يدل على عظيم قُدرة الله ؛ ولهذا جاء في حديث عَدِيِّ بن حاتمٍ: أن النبيَّ قال: ما منكم أحدٌ إلا سيُكَلِّمه ربُّه ليس بينه وبينه تَرْجُمَان، فينظر أَيْمَنَ منه فلا يرى إلا ما قَدَّمَ من عمله، وينظر أَشْأَمَ منه فلا يرى إلا ما قَدَّمَ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتَّقوا النارَ ولو بِشِقِّ تمرةٍ [6].
فالله تعالى سيُناجي كلَّ عبدٍ ويُكلمه ويُقرره بذنوبه، أما كيفية هذه المُناجاة، يعني: هل يرى الله مباشرةً، أو أنه فقط يسمع الكلام؟
الله أعلم، لكن الذي دلَّ له ظاهر الأدلة: أن الناسَ في الموقف يرون الله جميعًا، يأتي اللهُ تعالى الناسَ وهم في عَرَصَات يوم القيامة في ظُلَلٍ من الغَمَام، يوم يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة:210]، ثم إن أصحاب النار يُحْجَبون عن الله؛ ولهذا قال سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، وهذه أمورٌ قد لا يتخيلها الإنسان؛ لأن عالم الآخرة يختلف تمامًا عن عالم الدنيا، لكن نؤمن بما أخبر الله تعالى به، وما أخبر به رسوله .
باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه
القارئ: باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه.
حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبدالله بن عمرو بن سَرْح -مولى بني أُمية-: أخبرني ابن وهبٍ: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ قال: ثم غزا رسول الله غزوة تبوك، وهو يُريد الرُّومَ ونصارى العرب بالشام.
قال ابن شهابٍ: فأخبرني عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك: أن عبدالله بن كعب بن مالك -وكان قائدَ كعبٍ من بنيه حين عَمِيَ- قال: سمعتُ كعب بن مالك يُحدِّث حديثه حين تخلَّف عن رسول الله في غزوة تبوك.
الشرح:
هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، وهو حديثٌ طويلٌ يُسمَّى: حديث الثلاثة الذين خُلِّفوا، أو قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، والتي أنزل الله تعالى فيها آيةً أو آيتين في سورة التوبة: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:118- 119].
فمَن هم هؤلاء الثلاثة الذين خُلِّفوا؟ وما شأنهم؟ وما قصتهم؟
سنستمع لها في هذا الحديث العظيم المليء بالعِبَر والدروس والعِظَات والفوائد.
وكان أحد هؤلاء الثلاثة: كعب بن مالك ، وهو الذي يحكي هذه القصة، والثاني مُرَارة بن الرَّبيع، والثالث هِلَال بن أُميَّة.
يعني: إذا أردتَ أن تضبط أسماءهم “مكه”: “ميم” مُرَارة بن الربيع، و”الكاف” كعب بن مالك، و”الهاء” هلال بن أُمية، فهم الثلاثة الذين خُلِّفوا.
طيب، نستمع لهذه القصة ونأخذها -يعني- على أجزاء، ثم بعد ذلك نتكلم عن أبرز الفوائد والدروس المُستنبطة منها مُجملةً، نعم.
القارئ: قال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله في غزوةٍ غزاها قطُّ إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلَّفتُ في غزوة بدرٍ، ولم يُعاتب أحدًا تخلَّف عنه، إنما خرج رسول الله والمسلمون يريدون عِيرَ قريشٍ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعادٍ.
الشرح:
إذن كعب بن مالك من المؤمنين الصادقين، ولم يتخلف عن أيِّ غزوةٍ إلا غزوة بدرٍ، وغزوةُ بدرٍ عُذِرَ مَن تخلَّف؛ لأنها جاءتْ على غير ميعادٍ، فإن النبي خرج وأصحابه الذين كانوا معه يريدون عِيرًا لقريشٍ؛ لأن قريشًا أخرجتهم من مكة من ديارهم وأموالهم، فبلغ النبيَّ أن أبا سفيان قادمٌ بقافلةٍ من الشام، فأراد النبيُّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه أن يأخذوا هذه العِير؛ حتى يستوفوا بعضَ ما أُخِذَ منهم؛ لأن قريشًا ظلمتهم وأخذتْ أموالهم، وأخذتْ دورهم، يعني: أراد النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة أن يأخذوا هذه العِير حتى يستوفوا شيئًا من أموالهم ومن حقِّهم، لكن قائد تلك القافلة كان أبا سفيان، وكان من دُهَاة العرب، ووصله الخبر، كيف وصل الخبر؟
مثل هذه الأمور تنتشر بسرعةٍ، وقد يكون هناك مَن يتجسَّس، المهم أنه وصله الخبر، فغيَّر مسار القافلة، فلما وصل إلى مكة أخبر صناديد قريشٍ بما حصل، فقال عقلاؤهم وكبارهم -يعني-: اتركوا الأمر، يعني: القافلة وصلتْ، لكن أبا جهلٍ ومَن معه من المُجرمين الفجرة قالوا: لا، نريد أن نذهب إلى بدرٍ ونُقاتل، حتى نُسْقَى الخمور، وتضرب القَيْنَات، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا.
فحشدتْ قريشٌ جنودها، وأتوا يريدون غزو النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، والنبي بلغه أن قريشًا قد أتتْ، فجمع اللهُ تعالى بينهم وبين عدوهم على غير ميعادٍ؛ ولذلك مَن تخلف عن غزوة بدرٍ لم يُعاتَب؛ لأنها أتتْ من غير ميعادٍ، كما قال سبحانه: وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:42].
ونصر الله تعالى المسلمين نصرًا عظيمًا مُؤزرًا، وأصبحت للمسلمين قوةٌ ودولةٌ بعد تلك الغزوة، ولم يظهر النفاق والمنافقون إلا بعد غزوة بدرٍ؛ حيث قوي المسلمون، فلما قوي المسلمون ظهر النفاق، ولما كان المسلمون ضعفاء لم يظهر النفاق.
ولذلك كلما قويت الدولة الإسلامية ظهر النفاق أكثر، وكلما ضعفتْ قلَّ النفاق؛ لأن النفاق إنما يظهر مع قوة المسلمين؛ لأن هذا الفاجر لا يستطيع أن يُظهر كفره وفجوره مع قوة المسلمين، لكن مع عدم القوة ومع الضعف يستطيع أن يُظهر ما يريد، فظهر النفاق بعد غزوة بدرٍ.
فجمع الله تعالى بينه وبين عدوه، ونصر الله تعالى المسلمين نصرًا مُؤزرًا.
كعب بن مالكٍ لم يشهد تلك الغزوة؛ لأنها وقعتْ كما ذكرنا من غير ميعادٍ، اتِّفاقًا: وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ، لكنه قد شهد بيعة العقبة، وهذا ما سيُخبر به.
القارئ: ولقد شهدتُ مع رسول الله ليلة العقبة حين تواثَقْنا على الإسلام، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مشهدَ بدرٍ، وإن كانت بدرٌ أَذْكَرَ في الناس منها.
الشرح:
قال: “إني قد شهدتُ مع رسول الله ليلة العقبة”، وهي الليلة التي بايع الأنصارُ فيها النبيَّ عند العقبة، عند جمرة العقبة، بايعوه على أن يُؤْوُه وينصروه، وذلك أن المدينة كان يسكنها الأوس والخزرج، والنبي كان إذا أتى موسم الحج قام يعرض نفسه على القبائل -قبائل العرب- أن يُهاجر إليهم، وأن يُؤْوُه وينصروه.
وكان كلما دخل على خيمةٍ من خيام العرب تبعه عمُّه أبو لهبٍ وقال: أنا عمُّه، أخو أبيه، وأخبرُ الناسِ به، هذا مجنونٌ، لا تسمعوا له.
الأوس والخزرج كان معهم في المدينة اليهود، وكان اليهود يتوعدون الأوس والخزرج، يقولون: هذا وقتُ خروجِ نبيٍّ، وإذا خرج هذا النبي سنتبعه وسنُقاتلكم وسنُخرجكم من المدينة، من يثرب. لم تُسَمَّ بعدُ المدينةَ، فكانت عندهم خلفيةٌ، وكانت عندهم معرفةٌ بأنه سيَخرج نبيٌّ.
فلما أتى النبيُّ الأوسَ والخزرج، وعَرَضَ نفسه عليهم، قالوا: هذا هو النبي الذي تُهدِّدكم به اليهود، لا تسبقكم اليهود إليه.
فآمنوا به وبايَعوه بيعة العقبة الأولى، ثم بيعة العقبة الثانية، ثم هاجر إليهم النبي في المدينة، وأقام دولة الإسلام.
وكانت بيعة العقبة الأولى، كانوا اثني عشر، وفي بيعة العقبة الثانية كانوا سبعين، وكانت بيعةً عظيمةً، عاهدوا النبي على أن يُؤوه، وأن ينصروه، وَوَفَّوا بعهدهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
فكان كعب بن مالك أحد الذين بايَعوا النبي ليلة العقبة، يقول: “ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أُحِبُّ أن لي بها مَشهدَ بدرٍ، وإن كانت بدرٌ أَذْكَرَ في الناس منها” يعني يقول: إن ليلة العقبة هي أفضل من بدرٍ في نظره؛ لأن ليلة العقبة كانت مُنعطفًا كبيرًا في تاريخ الدعوة، فيقول: ما أُحِبُّ أني شهدتُ بدرًا بدل العقبة، فالعقبة عندي أفضل وأحسن، “وإن كانت بدرٌ أَذْكَرَ في الناس” يعني: أشهر.
ثم بعد ذلك ذَكَر قصة تخلُّفِه عن غزوة تبوك.
القارئ: وكان من خبري حين تخلَّفْتُ عن رسول الله في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أَيْسَرَ مني حين تخلَّفتُ عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعتُ قبلها راحلتين قط حتى جمعتُهما في تلك الغزوة، فغزاها رسول الله في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوًّا كثيرًا، فَجَلَّا للمسلمين أمرهم؛ ليتأهَّبوا أُهْبَةَ غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثيرٌ.
الشرح:
يقول كعبٌ : كان من خبري: أني لم أكن قط أيسر ولا أقوى حين تخلَّفتُ عن رسول الله في غزوة تبوك.
يعني: كان ذا يسارٍ، مع أن تلك الغزوة كانت في فقرٍ شديدٍ، ساعة العُسْرة، سمَّاها اللهُ: ساعةَ العُسْرة، لكن كعب بن مالك كان أغناه الله وجمع بين راحلتين، فما كان له من عذرٍ.
والنبي كان من هَدْيه: أنه لا يريد غزوةً إلا وَرَّى بغيرها [7]، يعني مثلًا يقول: نريد أن نغزو جهة الشرق، ثم يغزو جهة الغرب؛ وذلك لأن هناك جواسيس للأعداء، فهم سينقلون الخبر، والحرب خدعةٌ؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام من هديه: أنه لا يريد غزوةً إلا ورَّى بغيرها، لكن غزوة تبوك كانت استثناءً، فلم يُوَرِّ بغيرها، وأخبرهم بها صراحةً.
والسبب -كما قال كعبٌ – أن النبي غَزَا “في حرٍّ شديدٍ”، فكان في شدة الحر، “واستقبل سفرًا بعيدًا”؛ لأن المسافة بين المدينة وتبوك مسافةٌ كبيرةٌ، ومناطق رمليةٌ وصحراويةٌ، “ومفازًا” يعني: برية طويلة قليلة الماء يُخَاف فيها من الهلاك، “واستقبل عدوًّا كثيرًا” وهم الروم، ودولة الروم في ذلك الوقت كانت هي والفرس أقوى دولتين في العالم؛ “فَجَلَّا للمسلمين أمرهم” يعني: أخبرهم صراحةً من غير توريةٍ؛ “ليتأهَّبوا أُهْبةَ غزوهم”، حتى يستعدوا ويتأهبوا لهذا الغزو وهذا السفر الطويل الشديد.
قال: “فأخبرهم بوجههم الذي يريد”.
ثم قال: “والمسلمون ..”.
القارئ: والمسلمون مع رسول الله كثيرٌ، ولا يجمعهم كتابٌ حافظٌ. يريد بذلك الديوان.
قال كعبٌ: فَقَلَّ رجلٌ يريد أن يتغيَّب يظنُّ أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وَحْيٌ من الله .
وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثِّمار والظِّلال، فأنا إليها أَصْعَرُ.
الشرح:
إذن المسلمون كانوا كثيرين، كان عددهم كبيرًا، “ولا يجمعهم كتابٌ حافظٌ” يعني: ما كانت تُكْتَب الأسماء في سجلٍ أو في ديوانٍ، وإنما كانت الأمور على البساطة.
قال: “فَقَلَّ رجلٌ يريد أن يتغيَّب يظن أن ذلك سيخفى” يعني: أعدادهم كبيرة، والأسماء لا تُكْتَب، فإذا تخلَّف أحدٌ يظن أنه سيخفى أمره إلا “ما لم ينزل فيه وَحْيٌ من الله “.
وأيضًا كان وقت تلك الغزوة، قال: “وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثِّمار والظِّلال” يعني: وقت ترطيب التمر، وأيضًا الثمار، وأيضًا حين طاب الظِّل، “فأنا إليها أَصْعَرُ” يعني: أميل لتلك الأجواء.
فكان توقيت الغزوة في ذلك الوقت، يعني: في شدة الحرِّ، حين بدء ترطيب ثمر النخل والثمار عمومًا.
وكانت المدينة بلدًا فيه زراعةٌ، وفيه نخلٌ كثيرٌ، فكانت منطقةً زراعيةً بخلاف مكة، فمكة لم تكن منطقةً زراعيةً، وإنما كانت فيها تجارةٌ وبيعٌ وشراء، أما المدينة فكانت بلدًا زراعيًّا، فيها نخيلٌ، وفيها ثمارٌ، فكانوا إذا نضجت الثِّمار -كان الناس- يُحبون ذلك الوقت أن يكونوا في المدينة؛ لكي يتنعَّموا بالثمار أول ما تنزل، فوافَقَ وقتُ غزوة تبوك ذلك الوقت؛ ولهذا قال: “فأنا إليها أَصْعَرُ” يعني: أميل.
القارئ: فتجهَّز رسولُ الله والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أَغْدُو لكي أتجهَّز معهم، فأرجع ولم أَقْضِ شيئًا، وأقول في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أردتُ. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجِدُّ، فأصبح رسول الله غاديًا والمسلمون معه، ولم أَقْضِ من جَهَازِي شيئًا، ثم غدوتُ فرجعتُ ولم أَقْضِ شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارَطَ الغزو، فهممتُ أن أرتحل فأُدركهم، فيا ليتني فعلتُ، ثم لم يُقدَّر ذلك لي.
الشرح:
كعب بن مالك لم يكن قد بَيَّتَ أصلًا أنه يتخلَّف، لكن كان يتوانى ويتوانى ويتوانى حتى ذهب النبيُّ عليه الصلاة والسلام والمسلمون؛ ولهذا قال: “تجهَّز رسول الله والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أَغْدُو لكي أتجهز”، كل يومٍ غدًا، كل يومٍ غدًا، “فأرجع ولم أَقْضِ شيئًا”، وكان يُعلِّل نفسه، قال: “وأقول في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إن أردتُ” يعني: الأمر سهل، متى أردتُ تجهزتُ ولحقتُ بهم.
“فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمرَّ بالناس الجِدُّ”، وقوله: “الجِدّ” بكسر الجيم، يعني: أنهم ساروا وجَدُّوا في الطريق.
“فأصبح رسول الله غاديًا والمسلمون معه، ولم أَقْضِ من جهازي شيئًا” يعني: ذهب النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمون معه، والجيش معه.
“ثم غدوتُ فرجعتُ ولم أَقْضِ شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا” يعني: ما منعه إلا الكسل فقط، ما كان له من عذرٍ، وأيضًا ما كان قد بَيَّتَ النية بالتَّخلف، لكن كان يقول: غدًا، غدًا، وهذا يُبين لنا خطورة الكسل، وأن الإنسان إذا كسل عن الطاعات يفُوته خيرٌ كثيرٌ.
فلاحظ هنا: اعتذار كعبٍ وإخباره عن نفسه بأن هذا هو السبب.
قال: “حتى إذا أسرعوا وتفارط الغزو” يعني: جَدُّوا في السير وذهبوا، “فهممتُ أن أرتحل فأُدركهم” أراد أن يُدركهم ويذهب، “فيا ليتني فعلتُ، ثم لم يُقدَّر ذلك لي”.
فلما رأى أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه قطعوا مسافةً طويلةً، ومضتْ على ذلك مدةٌ طويلةٌ؛ قرَّر أن يبقى، لكن لما بقي ما الذي رأى في المدينة بعد ذلك؟
القارئ: فطفقتُ إذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله يحزنني أني لا أرى لي أُسوةً إلا رجلًا مَغْمُوصًا عليه في النفاق، أو رجلًا ممن عَذَرَ اللهُ من الضعفاء.
الشرح:
انظر إلى هذا الشعور الذي أتى كعبًا ، يقول: “فطفقتُ إذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله يحزنني” أحزن “أني لا أرى لي أُسوةً” ما أرى في الناس رجلًا صادقًا مُؤمنًا تقيًّا، فكلهم خرجوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، ما أرى إلا أحد رجلين: إما رجلًا منافقًا مَغْمُوصًا في النفاق، أو رجلًا ممن عذر الله تعالى في الضعفاء، فكان يتألَّم ويحزن لأجل ذلك، ما وجدتُ واحدًا لي فيه أُسوة.
القارئ: ولم يذكرني رسول الله حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ قال رجلٌ من بني سَلِمَة: يا رسول الله، حبسه بُرْدَاه والنظر في عِطْفَيْهِ. فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلتَ، والله يا رسول الله ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا. فسَكَتَ رسول الله .
الشرح:
النبي لما وصل تبوك قال: ما فعل كعب بن مالك؟ كان عليه الصلاة والسلام يتفقَّد رعيَّته، ويتفقد أصحابه، فقام رجلٌ من الناس، وهنا لم يُسَمَّ هذا الرجل، وهذا هو الأحسن: أنه لا يُسمَّى، فقال كلمةً غير لائقةٍ، قال عن كعبٍ: إنه رجلٌ حبسه بُرْدَاه والنظر في عِطْفَيه. يعني: في جانبيه، يُشير إلى أنه رجلٌ مُعْجَبٌ بنفسه ويعتدّ بنفسه؛ ولذلك لم يذهب معنا للغزو.
وهذه غِيبةٌ؛ ولذلك أنكر عليه مباشرةً معاذُ بن جبلٍ ، قال: “بئس ما قلتَ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا”، وهذا هو الواجب إذا سمع المسلم قالةً في أخيه: أن يَرُدَّ عن عِرْض أخيه، ومَن ذَبَّ عن عِرْض أخيه ذَبَّ الله عن عِرْضه النارَ يوم القيامة.
فلاحظ هنا كيف تعامل الصحابة مع هذا الموقف: رجلٌ وقع في عِرْض كعب بن مالك ، مع أن كعب بن مالكٍ قد أخطأ بترك الغزو، لكن معاذ بن جبلٍ يعرف أن هذا الرجل رجلٌ صادقٌ، وليس من المنافقين؛ ولهذا قال أولًا: “بئس ما قلتَ” من هذا الطعن في أخيك المسلم، “والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا”، وهذه كلمةٌ عظيمةٌ من معاذ بن جبلٍ ، فيها الذَّبُّ عن عِرْض أخيه المسلم.
القارئ: فبينما هو على ذلك رأى رجلًا مُبَيِّضًا يَزُول به السَّرابُ، فقال رسول الله : كُنْ أبا خيثمة، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدَّق بصاع التمر حين لَمَزَه المنافقون.
الشرح:
قال: “رأى” النبيُّ “رجلًا مُبَيِّضًا” يعني: لابسًا ثيابًا بِيضًا، “يزول به السراب” يعني: السراب مع شدة الحرِّ يَظْهر كأن فيه ماءً، وليس فيه ماءٌ، كأن هذا الرجل يمشي في ماءٍ، ولكنه في الواقع السراب، “فقال رسول الله : كُنْ أبا خيثمة“، وهذا يحتمل أنه قد أُوحِي إليه، ويحتمل أنه من قوة فراسة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أعظم الناس عقلًا وأقواهم فِرَاسةً، فقال: كُنْ أبا خيثمة، فإذا به أبو خيثمة الأنصاري الصحابي الجليل، تأخَّر ثم لَحِقَهم.
قال: “وهو الذي تصدَّق بصاع التمر حين لَمَزَه المنافقون”، المنافقون كانوا إذا تصدَّق أحدٌ بصدقةٍ قليلةٍ يَلْمِزونه، يقولون: إن الله غنيٌّ عن صدقتك. وإذا تصدَّق بصدقةٍ كثيرةٍ قالوا: إنه مُرَاءٍ.
ولذلك ذمَّهم الله في قوله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:79]، فَلَمْزُ المؤمنين في الصدقات من خصال المنافقين.
تجد بعض الناس إذا رأى مَن يتصدق ومَن يُنْفِق يَلْمِزه، يقول: هذا يريد السمعة، هذا يريد الرياء، هذا يريد كذا. أو أنه يلمزه بقِلَّة ما تصدَّق به، وهذا لا يجوز، هذا من خصال المنافقين، فهذا الذي تصدَّق بمالٍ قليلٍ أو كثيرٍ ينبغي أن يُشْكَر، ولا يجوز أن يُلْمَز، فَلَمْزُ المُتصدقين من خصال المنافقين.
القارئ: فقال كعب بن مالكٍ: فلما بلغني أن رسول الله قد توجَّه قافلًا من تبوك حضرني بَثِّي، فطفقتُ أتذكر الكذب، وأقول: بِمَ أخرج من سَخَطِه غدًا؟ وأستعين على ذلك كلَّ ذي رأيٍ من أهلي، فلما قيل لي: إن رسول الله قد أظلَّ قادمًا. زاح عني الباطل حتى عرفتُ أني لن أنجو منه بشيءٍ أبدًا، فأجمعتُ صِدْقَه.
الشرح:
قال: “فلما بلغني أن رسول الله قد توجَّه قافلًا” يعني: راجعًا “من تبوك”، كان عليه الصلاة والسلام لم يُقابل العدوَّ، وإنما فقط ذهب بالجيش ثم رجع مع أصحابه، والروم انسحبتْ، وكفى الله المؤمنين القتال، فلما رجع النبيُّ قال: “حضرني بَثِّي” يعني: حُزْني، حزنتُ، كيف أُقابل النبي عليه الصلاة والسلام؟
والبَثُّ هو أشد الحزن: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86].
“فطفقتُ أتذكر الكذب” يعني: بماذا أعتذر؟ جعلتُ أتذكر الكذب، “وأقول: بِمَ أخرج من سخطه غدًا؟ وأستعين على ذلك كلَّ ذي رأيٍ من أهلي” يعني: يستشير أهله، يستشير أقاربه: ما رأيكم؟ ماذا أقول للنبي ؟
وكان أيضًا قد أُعْطي جدلًا؛ فصاحةً وقوة بيانٍ وقوة حُجَّةٍ، فكان في البداية يريد أن يعتذر بهذه الأعذار، قال: “فلما قيل لي: إن رسول الله قد أظلَّ قادمًا” يعني: أنه قد قرب قادمًا “زاح عني الباطل حتى عرفتُ أني لن أنجو منه بشيءٍ أبدًا، فأجمعتُ صِدْقَه” يعني: قررتُ أن أصدق، عزمتُ على أن أصدق وأتحمل تبعة ذلك الصدق؛ لأنه كان رجلًا صادقًا، ولم يُبيِّت النية بالتَّخلف عن الغزو، لكن غلبه الكسل حتى تخلَّف.
فلما رجع النبي عليه الصلاة والسلام عزم على أن يصدق.
القارئ: وصبَّح رسول الله قادمًا، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المُخلَّفون، فَطَفِقُوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا، فَقَبِل منهم رسولُ الله علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووَكَل سرائرهم إلى الله.
الشرح:
إذن جاء النبي من تبوك، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا قَدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجد فصلَّى فيه ركعتين، وهذه سنةٌ لمَن تيسَّر له ذلك، “ثم جلس للناس”، فجاء “المُخلَّفون” يعني: المنافقين، “فَطَفِقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له” يعني: يعتذرون أعذارًا كاذبةً عن تخلُّفهم، ومع ذلك يحلفون كاذبين أيضًا: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96].
“وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا” كان عدد المنافقين بضعةً وثمانين رجلًا، يعني: عددهم كثير، وهذا فيه ردٌّ على مَن قال: إن عددهم كان قليلًا.
رأيتُ أحد المقاطع يقول صاحبه: “إن المنافقين كلهم كانوا اثني عشر، وأنه عددٌ قليلٌ”، وهذا غير صحيحٍ، يعني: في هذه القصة التَّصريحُ بأنهم كانوا بضعةً وثمانين رجلًا، فكانت أعدادهم كثيرةً، وفضحهم الله في سورة التوبة، وفي سورة المنافقين.
وخطر المنافقين على الإسلام والمسلمين أعظم من خطر اليهود والنصارى؛ ولذلك قال الله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون:4]، فضررهم عظيمٌ كما هو ظاهرٌ، وأثرهم على المسلمين كبيرٌ، أثرهم في الصدِّ عن سبيل الله، كما قال الله : الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67].
“فَقَبِلَ منهم رسول الله علانِيَتهم” النبي كان منهجه أنه يُعامل الناس بالظاهر، ويَكِلُ سرائرهم إلى الله، وهذا هو المنهج الصحيح: أنك تُعامل الناس بما ظهر، وتَكِل سرائرهم إلى الله .
فَقَبِلَ علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ولكن هذا الاستغفار بيَّن الله أنه لا ينفع المنافقين: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80].
انظر إلى شدة غضب الربِّ سبحانه عليهم.
وقوله: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فيه إشارةٌ إلى أن الاستغفار سبعين مرةً له شأنٌ عظيمٌ، يعني: حتى لو استغفرتَ سبعين مرةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، وهذا يدل على فضل كثرة الاستغفار، وعلى فضل أن يصل المسلم بالاستغفار إلى هذا العدد، يستغفر سبعين مرةً أو أكثر؛ ولذلك ينبغي أن يحرص المسلم على الاستغفار، وأن يُخصص كل يومٍ من وقته وقتًا للاستغفار، فالاستغفار شأنه عظيمٌ، وإذا أكثر المسلم منه سينتفع بذلك كثيرًا:
أولًا: أنه يتعرَّض لمغفرة الله سبحانه، خاصةً إذا استغفر سبعين مرةً فأكثر.
ثانيًا: أن الاستغفار أمانٌ من نزول العقوبة، فالاستغفار يعصم المُستغفر -بإذن الله تعالى- من أن تناله العقوبة.
مَن يذكر لنا الدليل على أن الاستغفار أمانٌ من العقوبة؟
طالب: …….
الشيخ: أحسنت: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، فذكر الله تعالى أمانين من العذاب:
- الأمان الأول: وجود النبي بين ظهراني الصحابة ، وهذا قد انتهى بموت النبي .
- الأمان الثاني باقٍ إلى قيام الساعة -كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما- وهو: الاستغفار، فالمُستغفر يُعْصَم -بإذن الله- من العقوبة ومن العذاب: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ؛ ولذلك ينبغي للمسلم أن يُخصص كل يومٍ من وقته وقتًا للاستغفار.
أفضل أوقات الاستغفار
أفضل وقتٍ للاستغفار ما هو؟
طالب: السَّحَر.
الشيخ: السَّحَر، أحسنت، وقد ذكر الله تعالى هذا في موضعين في القرآن: في سورة آل عمران: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران:17]، وفي سورة الذاريات: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18]، فهذا يدل على فضل الاستغفار وقتَ السَّحَر.
المقصود أن النبيَّ استغفر لهؤلاء المنافقين، وأخبر اللهُ تعالى بأنه لن يغفر لهم؛ لشدة غضب الله عليهم، لكن الله تعالى لما ذكر هذا الرقم: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً دلَّ على عظيم شأن بلوغ الاستغفار سبعين مرةً، وأنه ينبغي إذا استغفرتَ أن تُكْثِر من الاستغفار حتى تصل إلى سبعين مرةً فأكثر.
القارئ: حتى جئتُ، فلما سلَّمتُ تبسَّم تبسُّمَ المُغْضَب، ثم قال: تعالَ، فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟! قال: قلتُ: يا رسول الله، إني -والله- لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أني سأخرج من سخطه بعذرٍ، ولقد أُعْطِيتُ جدلًا، ولكني -والله- لقد علمتُ لئن حدَّثتُك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عني ليُوشكنَّ الله أن يُسخطك عليَّ، ولئن حدَّثتُك حديثَ صدقٍ تجد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عُقْبَى الله، والله ما كان لي عذرٌ، والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفتُ عنك.
قال رسول الله : أما هذا فقد صدق، فَقُمْ حتى يقضي الله فيك.
الشرح:
كعب بن مالكٍ يصف موقفه مع النبي بهذا الوصف البديع، قال: “فلما سلَّمْتُ” يعني: على النبي “تبسَّم تبسُّمَ المُغْضَب، ثم قال: تعالَ“، وهذا يفعله الإنسان مع مَن يُعزّه إذا أخطأ، إذا أخطأ وكان هذا عزيزًا يفعل هذا معه: يتبسم تبسُّم المُغْضَب ويُناديه.
“قال: تعالَ“، قال: “فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟!” يعني: عندك الآن راحلتان، وهذا يدل على معرفة النبي عليه الصلاة والسلام بأحوال أصحابه.
فقال كعبٌ: “والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أني سأخرج من سخطه بعذرٍ، ولقد أُعْطِيتُ جدلًا” يعني: فصاحةً وبيانًا وقوة حُجَّةٍ، “ولكني -والله- لقد علمتُ لئن حدَّثتُك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عني” كما فعل المنافقون، “ليُوشكنَّ الله أن يُسخطك عليَّ، ولئن حدَّثتُك حديثَ صدقٍ تجد عليَّ فيه” تغضب عليَّ فيه وتُعاتبني، “إني لأرجو فيه عُقْبَى الله، والله ما كان لي عذرٌ” صَدَق، “والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفتُ عنك”.
فقال رسول الله : أما هذا فقد صدق يعني: بقية المنافقين يستغفر لهم ويَكِلُ سرائرهم إلى الله ، لكن هذا الصحابي من المؤمنين الصادقين، تعامل معه النبي عليه الصلاة والسلام أولًا بهذا التعامل: تبسَّم تبسُّم المُغْضَب، وقال: تعالَ، ثم لما صدق ولم يعتذر، قال: أما هذا فقد صدق، فَقُمْ حتى يقضي الله فيك، وهذا معنى: خُلِّفُوا [التوبة:118] يعني: أُرْجِئَ أمرهم.
طيب، ماذا كان موقف قرابته والناس حوله؟
انظر إلى تثبيط الناس له.
القارئ: فقمتُ، وثار رجالٌ من بني سَلِمَة فاتَّبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبتَ ذنبًا قبل هذا، لقد عجزتَ في ألا تكون اعتذرتَ إلى رسول الله بما اعتذر به إليه المُخلَّفون، فقد كان كافِيكَ ذَنْبَكَ استغفارُ رسول الله لك! قال: فوالله ما زالوا يُؤنِّبونني حتى أردتُ أن أرجع إلى رسول الله فأُكذِّب نفسي. قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي من أحدٍ؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا مثلما قلتَ، فقيل لهما مثلما قيل لك. قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارة بن الرَّبيع العامريُّ، وهلال بن أُمية الوَاقِفِيُّ. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا فيهما أُسْوةٌ.
قال: فَمَضَيْتُ حين ذكروهما لي.
الشرح:
انظر إلى موقف الناس من حوله، رجالٌ من بني سَلِمَة أَتَوا لكعبٍ وقالوا: “والله ما علمناك أذنبتَ ذنبًا قبل هذا، لقد عجزتَ في ألا تكون اعتذرتَ”، اعتذر من النبي عليه الصلاة والسلام؛ يعذرك كما عذر هؤلاء، والنبي سيستغفر لك.
وجعلوا يُؤنِّبونه ويُؤنِّبونه حتى عزم على أن يأتي للنبي ويُكذب نفسه من شدة مَلامة الناس له وتأنيبهم له: كيف تفعل هذا؟! كيف تقول للنبي عليه الصلاة والسلام: “والله ما كان لي عذرٌ”؟!
فعزم على أن يرجع للنبي عليه الصلاة والسلام فيُكذب نفسه، لكن -سبحان الله!- سأل سؤالًا، قال: “هل لَقِيَ هذا معي من أحدٍ؟ قالوا: نعم”، هناك رجلان، قال: “مَن هما؟” قيل: مُرَارة بن الربيع، وهلال بن أُمية.
قال: “فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا”، شهادة بدرٍ هذه تزكيةٌ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: وما يُدْريك لعل الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرتُ لكم [8].
“لي فيهما أُسوةٌ” يعني: ذكروا رجلين صالحين قُدوةً وأُسوةً.
فلما رأى أن هذين الرجلين صدقا، وقال لهما النبي ما قال له؛ عزم على أن يتمسك بموقفه، وألا يرجع إلى النبي فيُكذب نفسه.
فانظر إلى تثبيط الناس من قديم الزمان.
بعض الناس يُثَبِّط عن فِعْل الخير، وأيضًا ربما يُهوِّن من شأن بعض الأمور التي يفعلها الإنسان، يُهوِّن من شأنها، ويُثَبِّط من فعل الخير، وهذا من قديم الزمان.
فانظر إلى موقف هؤلاء مع كعب بن مالكٍ لدرجة أنَّهم أَنَّبُوهُ وعاتبوه حتى عزم على أن يُكذِّب نفسه، لكن لمَّا رأى أنَّ معه رجلين صالحين له فيهما أُسوةٌ وقُدوةٌ عزم على أن يتمسك بموقفه.
القارئ: قال: ونهى رسول الله المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين مَن تخلَّف عنه.
قال: فاجتنَبَنا الناسُ. وقال: تغيَّروا لنا حتى تَنَكَّرَتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرض التي أعرف، فَلَبِثْنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي فاستكانَا وقَعَدَا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنتُ أَشَبَّ القوم وأجلدهم، فكنتُ أخرج فأشهد الصلاة، وأطوف في الأسواق، ولا يُكلمني أحدٌ، وآتي رسول الله فأُسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام أم لا؟ ثم أُصلي قريبًا منه وأُسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني.
الشرح:
قال: “ونهى رسول الله المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين مَن تخلَّف عنه”؛ لأن المُتخلفين كانوا كلهم من المنافقين، كلهم اعتذروا وهم كاذبون، لكن أخذ النبي بالظاهر فقبل ظاهرهم، ووَكَلَ سرائرهم إلى الله ، لكن هؤلاء الثلاثة صدقوا، فأمر النبي بهجرهم، وألا يُكلمهم أحدٌ.
وهذا دليلٌ على أنه يُشْرَع الهجر إذا ترتَّبتْ عليه مصلحةٌ، إذا كان هذا الهجر فيه ردعٌ للإنسان عن المعصية فإن الهجر مشروعٌ، وإلا فالأصل في الهجر أنه لا يجوز فوق ثلاثة أيامٍ إلا إذا ترتبتْ على الهجر مصلحةٌ دينيةٌ.
فلما أمر النبي بهجرهم، قال: “فاجتنَبَنا الناسُ”، لا أحد يُكلمهم، ولا أحد يُسلم عليهم، ولا أحد يردّ عليهم السلام.
قال: “حتى تَنَكَّرَتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرض التي أعرف” يعني: توحشت الأرض، كأنها أرضٌ لا أعرفها، فالناس لا تُسلم عليَّ، ولا تردّ عليَّ السلام، ولا أحد يُكلمني “خمسين ليلةً”، استمر هجران الناس لهم خمسين ليلةً.
“فأما صاحباي” هِلَال ومُرَارة “فاستكانَا وقَعَدَا في بيوتهما يبكيان” يبكيان طوال الوقت، “وأما أنا فكنتُ أَشَبَّ القوم وأجلدهم” يعني: كان كعبٌ هو أصغرهم، “فكنتُ أخرج فأشهد الصلاة” يُصلي مع الناس في المسجد، “وأطوف في الأسواق، ولا يُكلمني أحدٌ”، وهذا ثقيلٌ على النفس البشرية: أنك تُسلم ولا أحد يردّ عليك السلام، ولا أحد يُكلمك، ولا أحد يُبايعك، ولا أحد يتعامل معك.
“وآتي رسول الله فأُسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة” فلا يردّ عليه السلام، وهذا دليلٌ على أنه إذا كان الهجر لمصلحةٍ يجوز تَرْكُ رَدِّ السلام، مع أن ردَّ السلام واجبٌ، لكن إذا كان الهجر لمصلحةٍ دينيةٍ يجوز ترك ردِّ السلام.
“فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام أم لا؟ ثم أُصلي قريبًا منه وأُسارقه النظر” يعني: وأنا أُصلي أُطالعه، “فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني” يعني: كان يأتي ويتعمَّد أن يُصلي قريبًا من النبي عليه الصلاة والسلام، ويُطالعه وهو في الصلاة، يُسارقه النظر، فإذا أقبل على صلاته رآه النبي عليه الصلاة والسلام وطالعه، وإذا وقعت عينه في عين النبي عليه الصلاة والسلام أعرض عنه.
وهذه شديدةٌ على كعبٍ : أنك إذا طالعتَ النبيَّ عليه الصلاة والسلام يُعْرِض عنك، هذه شديدةٌ وثقيلةٌ جدًّا، ألمٌ نفسيٌّ شديدٌ.
“حتى إذا طال ذلك عليَّ من جفوة المسلمين”.
القارئ: حتى إذا طال ذلك عليَّ من جفوة المسلمين مشيتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قتادة، وهو ابن عمِّي وأَحَبُّ الناس إليَّ، فسلمتُ عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام، فقلتُ له: يا أبا قتادة، أَنْشُدُك بالله، هل تَعْلَمنَّ أني أُحبُّ الله ورسوله؟ قال: فسكتَ، فَعُدْتُ فناشدتُه فسكتَ، فعدتُ فناشدتُه فقال: الله ورسوله أعلم.
الشرح:
ذهب بعد ذلك لما طالت جفوة المسلمين، قال: “مشيتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قتادة، وهو ابن عمِّي وأَحَبُّ الناس إليَّ” يعني: صديقه الخاص، وتسوُّر الجدار يدل على قوة العلاقة بينهما، يعني: صعد على الجدار؛ لأنه لن يفتح له الباب، لكنه صعد وتسلق على الجدار ونزل عليه.
“فسلَّمتُ عليه” يعني: هذا أخذ منه العلماء دليلًا على جواز دخول الإنسان بستان صديقه وقريبه الذي يعرف أنه لا يكره، بشرط أن يعلم أنه ليس هناك نساء في ذلك المكان. ذكر هذه الفائدة النووي وغيره.
قال: “فسلَّمتُ عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام”، هذا صديقه الخاص، وأحبُّ الناس إليه، وابن عمِّه ما ردَّ عليه السلام.
فقلتُ: “يا أبا قتادة، أَنْشُدُك بالله” يعني: أسألك بالله، “هل تَعْلَمنَّ أني أُحبُّ الله ورسوله؟” يعني: أسألك بالله هل تعرف أني مؤمنٌ صادقٌ أُحبُّ الله ورسوله؟ “فسكتَ”، فجعل يُكرر عليه، فسكتَ، فلما كرر عليه قال: “الله ورسوله أعلم”، ما أدري.
قال:
ففاضتْ عيناي، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدار.
الشرح:
مرةً أخرى تسلَّق الجدار، يعني: حتى هذا الوقت لا يريد أن يفتح له الباب، وهذا امتثالٌ لأمر النبي عليه الصلاة والسلام بهجرانهم.
طيب، ثم حصل لكعبٍ ابتلاءٌ من نوعٍ آخر.
القارئ: فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نَبَطِيٌّ من نَبَطِ أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: مَن يدلُّ على كعب بن مالك؟ قال: فَطَفِقَ الناسُ يُشيرون إليَّ حتى جاءني، فدفع إليَّ كتابًا من مَلِكِ غَسَّان، وكنتُ كاتبًا فقرأتُه، فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدارِ هوانٍ ولا مَضْيعةٍ، فَالْحَقْ بنا نُوَاسِكَ. قال: فقلتُ حين قرأتُها: وهذه أيضًا من البلاء، فَتَيَامَمْتُ بها التَّنُّورَ فَسَجَّرْتُها بها.
الشرح:
هذا ابتلاءٌ لكعب بن مالكٍ : أتى “نَبَطِيٌّ من نَبَطِ أهل الشام” يعني: من فلاحي أهل الشام “ممن قَدِم بالطعام يبيعه بالمدينة”، ويُنادي في السوق: “مَن يدل على كعب بن مالك؟” مَن يدل على كعب بن مالك؟ “فَطَفِقَ الناسُ يُشيرون إليَّ” مجرد إشارةٍ، “حتى جاءني، فدفع إليَّ كتابًا من مَلِكِ غَسَّان، وكنتُ كاتبًا” يعني: ما كان كعبٌ أُميًّا، كان يقرأ ويكتب، “فقرأتُه، فإذا فيه” من ملك غسان، “أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك”.
كيف عرف ملك غسان القصة؟
هذا يدل على أنه كان هناك جواسيس ينقلون الأخبار، وهذا موجودٌ في كل زمانٍ ومكانٍ، فالأعداء يتجسسون ويُحبون نقل الأخبار لهم؛ لكي يعرفوا واقع المسلمين، حتى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإلا فكيف عرف ملك غسان القصة؟
ثم أراد ملك غسان أن يستغلَّ الموقف، وأن يستميل كعب بن مالكٍ فيأتي إليه، فكتب له هذا الكتاب: “إنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدارِ هوانٍ ولا مَضْيعةٍ، فَالْحَقْ بنا نُوَاسِكَ”، وهذه كانت فرصةً لكعبٍ لو كان ضعيف الإيمان، فملك غسان يُناديه ويقول: تعالَ عندي، وأنا سأُكرمك.
“فقلتُ حين قرأتُها: وهذه أيضًا من البلاء” ابتلاءٌ، لكنه نجح ، فوضعها في التَّنور وأحرقها مباشرةً؛ لأنه لو لم يُحرقها ربما تضعف نفسه، تأتيه لحظة ضعفٍ فيذهب لملك غسان، فأراد أن يقطع الطريق على نفسه؛ ولذلك فمثل هذه الأمور تحتاج إلى حسمٍ، فيكون الإنسان حازمًا مع نفسه، فكعبٌ أراد أن يقطع الطريق على نفسه فقال: “هذه من البلاء”، فأحرق هذا الكتاب مباشرةً، وهذا يدل على قوة إيمانه وصدقه مع ربِّه ، فنجح في هذا الاختبار.
طيب، بقية القصة -إن شاء الله- والحديث طويلٌ، والفوائد والدروس المُستنبطة منه كثيرةٌ، وإن شاء الله تعالى نُكمل الحديث عن بقية القصة في الدرس القادم، بإذن الله .
نقف عند قوله: “حتى إذا مضتْ أربعون من الخمسين”، وأيضًا أتاه ابتلاءٌ آخر في العشرة الأيام المُتبقية، أتاه ابتلاءٌ آخر في اعتزال امرأته، ثم أيضًا نزول القرآن بتوبة الله عليه، وفرحه العظيم، هذا كله -إن شاء الله- نفتتح به الدرس القادم.
فنكتفي بهذا القدر في هذه القصة، ونُكملها في الدرس القادم، إن شاء الله تعالى.
الأسبوع القادم سيكون هناك درس الثلاثاء، أما يوم الاثنين فليس فيه درسٌ، كما بيَّنا هذا بالأمس، يوم الاثنين بسبب الإجازة المُطولة لن يكون فيه درسٌ، لكن درس الثلاثاء مُستمرٌّ، إن شاء الله.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
السؤال: ما أفضل صِيَغِ الاستغفار؟
الجواب: الاستغفار ورد على عدة صيغٍ:
- سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أَبُوء لك بنعمتك عليَّ، وأَبُوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت [9]، وهذا يُقال مع أذكار الصباح والمساء.
- وأيضًا الكلمات التي تلقاها آدم: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، تقول: “ربِّ، ظلمتُ نفسي، وإن لم تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين”.
- وأيضًا ما علَّمه النبي أبا بكر الصديق ، قلتُ: يا رسول الله، عَلِّمْني دعاءً أدعو به في صلاتي. قال: قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم [10].
- وأيضًا: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه [11].
- وأيضًا من صِيَغ الاستغفار: ربِّ، اغفر لي وتُبْ عليَّ، إنك أنت التواب الغفور، كانوا يعدون للنبي في المجلس الواحد مئة مرة [12].
- وأيضًا صيغة الاستغفار المشهورة: أستغفر الله وأتوب إليه [13]، وهي أشهرها: “أستغفر الله وأتوب إليه”، تُكررها، “أستغفر الله وأتوب إليه، أستغفر الله وأتوب إليه”.
فهذه ستُّ صِيَغٍ للاستغفار، فينبغي أن يكون الأكثر أن تقول: “أستغفر الله وأتوب إليه”، لكن تأتي أيضًا بصيغ الاستغفار الأخرى.
السؤال: ما الأسباب المُعِينة على الثَّبات؟
الجواب: الأسباب المُعِينة على الثبات كثيرةٌ، وأبرزها:
- أولًا: الصُّحبة الصَّالحة، فهي من أعظم ما يُعين المسلم على الثبات؛ لأن الإنسان يتأثر بجُلسائه؛ ولذلك فإن الناس إذا أرادوا أن يحكموا على شخصٍ يسألون عن جُلسائه، والخاطب إذا تقدم لخطبة امرأةٍ، فأهلها يسألون عن جُلسائه، فإن ذُكِرَ أنه يُجالس أهل الاستقامة والخير والصلاح فإن هذه تزكيةٌ له، وإن ذُكِرَ أنه يُجالس أهل الفُجور فهذا طعنٌ فيه؛ لأن الإنسان يتأثر كثيرًا بمَن يُجالسه، فمن أعظم أسباب الثبات أن يختار له جُلساء صالحين.
- أيضًا من أسباب الثبات: الدعاء، أن يسأل الله تعالى الثبات: “اللهم ثَبِّتْني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة”، “ربِّ، لا تُزِغْ قلبي بعد إذ هديتني، وهَبْ لي من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب”، “يا مُقلب القلوب، ثَبِّتْ قلبي على دينك”، “يا مُصَرِّف القلوب، صَرِّف قلبي على طاعتك”.
هذه الأدعية ينبغي أن يحرص عليها، وأن يأتي بها كل يومٍ.
- أيضًا من أسباب الثبات: تدبُّر القرآن الكريم؛ لأن هذا القرآن العظيم كلام ربنا سبحانه، وفيه نبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وفيه أحوال الآخرة، وذِكْر الجنة، وأوصاف الجنة، وذِكْر النار وأوصافها، وذِكْر قصص الأنبياء، وفيه ما يزيد الإيمان، كما قال سبحانه: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، فقراءة القرآن بالتَّدبر من أسباب زيادة الإيمان، ومن أسباب الثبات؛ ولهذا ينبغي للمسلم أن يُخصِّص كلَّ يومٍ من وقته وقتًا لتلاوة القرآن.
- كذلك أيضًا من أسباب الثبات: كثرة الذِّكْر؛ لأن الإنسان إذا أكثر من ذِكْر الله سبحانه تعلَّق قلبُه بالله، ورَقَّ قلبُه، أما إذا كان غافلًا عن الذكر فيتعلق قلبُه بأمور المادة، ويغفل عن الله، وعن الدار الآخرة؛ فيقسو قلبه.
- أيضًا من أسباب الثبات: الوقود الروحي اليومي، وهو قيام الليل، فإن قيام الليل دَأْبُ الصالحين، وقيام الليل يُعطي المسلم روحانيةً تنفعه طوال يومه، ويُعطيه سكينةً وطمأنينةً وسعادةً قلبيةً، وأيضًا هو كالشهادة له بالبُعد عن النفاق؛ فإنه ما قام الليل مُنافقٌ.
فهذه أبرز الأمور التي يحصل بها الثبات.
السؤال: أيّهما أكثر أجرًا: رجلٌ أتى للمسجد مبكرًا، ولكن لم يجد مكانًا في الصفِّ الأول، ورجلٌ أتى بعد إقامة الصلاة ووجد فُرْجَةً في الصفِّ الأول؟
الجواب: الذي استطاع أن يُصلي في الصفِّ الأول أعظم أجرًا، حتى لو أتى مُتأخرًا؛ لأن الصفَّ الأول قد ورد في فضله ما لم يرد في فضل التَّبكير، كما قال عليه الصلاة والسلام: لو يعلم الناس ما في النِّداء والصفِّ الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يَسْتَهِموا عليه لاستهموا [14]، يعني: إلا أن يقترعوا عليه لاقترعوا.
فكون هذا أتى مُتأخرًا وحصَّل الصفَّ الأول نقول: ذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء، لكن أيضًا هذا الذي أتى مُبكرًا هو على أجرٍ، وعلى خيرٍ، والنبي يقول: لو يعلم الناس ما في التَّهجير يعني: التَّبكير لاستبقوا إليه [15]، لكن ينبغي أن يحرص المسلم ما أمكن على الصفِّ الأول.
السؤال: هل يصح أن يجعل قول: “سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنَة عرشه، ومِدَاد كلماته” لجميع الذكر؟
الجواب: نعم، هذا مشروعٌ، فيقول: “الحمد لله عدد خلقه، الحمد لله زِنَة عرشه، الحمد لله رضا نفسه، الحمد لله مِدَاد كلماته”، “لا إله إلا الله عدد خلقه، لا إله لا الله زِنَة عرشه، لا إله إلا الله رضا نفسه، لا إله إلا الله مِدَاد كلماته”، “الله أكبر عدد خلقه، الله أكبر زِنَة عرشه، الله أكبر رضا نفسه، الله أكبر مِدَاد كلماته”، ما دام أن هذا قد ورد في التَّسبيح فمشروعٌ في غيره.
السؤال: كيف نجمع بين قيام داود الذي كان ينام سُدس الليل الآخر، وفضيلة قيام الثلث الأخير من الليل؟
الجواب: لا تعارض بينهما؛ لأن الثلث الذي كان يقومه داود يقع جزءٌ منه في الثلث الأخير، فإن داود كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سُدسه، فمعنى ذلك: أن قيام داود يقع في السدس رقم كم؟
الرابع والخامس.
نصف الليل: السدس الأول والثاني والثالث، هذه كان ينام فيها، وفي السدس الرابع والخامس كان يقوم الليل، وفي السدس السادس كان ينام، فهذا أفضل القيام.
فلاحِظْ هنا: أن جزءًا من قيام داود يقع في الثلث الأخير من الليل، والأمر في هذا واسعٌ.
عمومًا، ثلث الليل الأخير له فضلٌ، وله مزيةٌ، كما قال عليه الصلاة والسلام: ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأُعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟ [16].
السؤال: ما حكم (الجلسرين) إذا كان مجهول المصدر، وهو يدخل في (الشامبو) وكريمات البشرة: (الفازلين)، وبعض المأكولات، وهو مُتواجدٌ عندنا في الأسواق السعودية؟
الجواب: كل ما يدخل إلى المملكة من الغذاء والدواء الأصل فيه أنه حلالٌ؛ لأن هيئة الغذاء والدواء لا تسمح إلا بدخول ما كان حلالًا، أما ما كان مُحرمًا فلا يُسْمَح بدخوله.
فنقول للأخ السائل الكريم: اطمئن، كل ما دخل المملكة من الدواء أو الغذاء الأصل فيه الحِلُّ، فهناك عنايةٌ من هيئة الغذاء والدواء، ولها جهودٌ كبيرةٌ في هذا المجال، ولا يُسمح إلا بدخول ما كان مُباحًا شرعًا من الأدوية والأغذية.
السؤال: ما رأيكم في شخصٍ له قرابةٌ يأكلون ماله منذ سنواتٍ طويلةٍ، وعندما أراد استرداد شيءٍ من حقِّه قال لهم أنه لن يُسامحهم. فقاطعوه وعاملوه كالمُخطئ؟
الجواب: ننصحه بما نصح به النبي ذلك الرجل الذي أتى إليه وقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحْسِن إليهم ويُسيؤون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ. فقال له النبي : لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُمُ المَلَّ يعني: الرَّماد الحار، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمْتَ على ذلك [17].
وأيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: ليس الواصل بالمُكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قَطَعَتْ رحمُه وصلها [18].
فننصح الأخ الكريم بأن يُقابل السيئة بالحسنة، وأن يصلهم لله ، أن يصلهم لأجل الله سبحانه، وستكون العاقبة له.
السؤال: هل يوم الجمعة فيه وقتُ نَهْيٍ؟
الجواب: هذا محلُّ خلافٍ بين الفقهاء؛ فجمهور الفقهاء على أن يوم الجمعة كغيره فيه وقتُ نهيٍ حين يقوم قائم الظهيرة، قبيل الزوال بنحو عشر دقائق، قبيل وقت أذان الظهر بنحو عشر دقائق، أو قبيل دخول الخطيب يوم الجمعة بنحو عشر دقائق، فإذا كان الخطيب يدخل مع الزوال فهذا وقتُ نَهْيٍ.
واستدلَّ الجمهور بعموم الأدلة التي لم تَسْتَثْنِ يومَ الجمعة، ومنها حديث عمرو بن عَبَسَة [19]، وحديث عقبة بن عامر [20]، وما جاء في معناهما، وفيها ذكر: “حين يقوم قائم الظهيرة”، من غير تخصيصٍ للجمعة، ومن غير استثناءٍ ليوم الجمعة.
وذهب الشافعية إلى استثناء يوم الجمعة، ولكن هذا ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ.
والقول بأن الصحابة لم يكونوا يخرجون من المسجد فينظرون: هل قام قائم الظهيرة؟
الجواب عن ذلك: أن مسجد النبي عليه الصلاة والسلام كان مَسْقُوفًا بجذوع النخل، فكان الصحابة يرون الشمس وهم داخل المسجد، وأيضًا لم تكن عندهم ساعاتٌ، وهم يعرفون حركة الشمس وحركة الظل.
فالأصل هو الأخذ بما دلَّ عليه النصُّ، فالنصوص دلَّتْ على العموم، وأن يومَ الجمعة كغيره، واستثناء يوم الجمعة من بين سائر الأيام بأنه ليس فيه وقتُ نهيٍ يحتاج إلى دليلٍ، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على تخصيص يوم الجمعة.
وعلى هذا فالقول الراجح هو ما عليه أكثر العلماء من أن يوم الجمعة فيه وقت نهيٍ كسائر الأيام؛ ولذلك فمَن يتنفل يوم الجمعة قبل دخول الخطيب عليه إذا أتى وقتُ النهي -قبل الزوال بنحو عشر دقائق- أن يتوقف عن الصلاة؛ لأن هذا وقت نهيٍ.
السؤال: هل تجوز قراءة القرآن بدون وضوءٍ، سواء من الحفظ أو التلاوة، من غير مَسِّ المصحف؟
الجواب: نعم، تجوز، قراءة القرآن من غير مَسِّ المصحف تجوز على غير طهارةٍ، فلو أردتَ أن تقرأ على غير وضوءٍ عن ظهر قلبٍ فلا بأس، ولا تُشترط الطهارة لقراءة القرآن، إنما تُشترط لِمَسِّ المصحف، مَسُّ المصحف تجب له الطهارة، أما مجرد قراءة القرآن من غير مَسِّ المصحف فلا تجب لها الطهارة، بل لو أردتَ أن تقرأ من المصحف على غير طهارةٍ فيجوز ذلك بشرط: أن يكون ذلك من وراء حائلٍ، فيكون -مثلًا- بلبس قفازين، أو تضع أيَّ حائلٍ بينك وبين المصحف وتقلب أوراق المصحف من وراء حائلٍ، فلا بأس بذلك.
إذن قراءة القرآن من غير مَسِّ المصحف تجوز على غير طهارةٍ، وأيضًا قراءة القرآن من المصحف تجوز إذا كان ذلك من وراء حائلٍ.
السؤال: ما حكم الشراء عن طريق بعض شركات الوساطة كـ”تمارا” و”تابي” ونحوهما؟
الجواب: هذه الشركات من حيث الهيكلة لا بأس بالشراء عن طريقها، لكن لديها شرطٌ فيه إشكالٌ، وهذا الشرط هو: أن الذي يشتري عن طريقها إذا تأخر عن السداد يُحسب عليه غرامة تأخيرٍ، وهذه الغرامة تُصرف في وجوه البرِّ، يعني: لا تأخذها هذه الشركات.
وهذا الشرط محل خلافٍ بين العلماء المعاصرين؛ فمنهم مَن أجازه بشرط: أن تُدفع الغرامة في وجوه البرِّ، وهذا هو الذي أقرته هيئة المُحاسبة والمُراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية “أيوفي”، ومنهم مَن منعه، وأكثر الهيئات الشرعية على المنع.
والأقرب -والله أعلم- هو المنع، لكن مَن أراد أن يشتري عن طريقها، وضَمِنَ أنه لا يتأخر، وعنده ضماناتٌ بأنه سيُسدد في الوقت المُحدد من غير تأخرٍ، وضمن ذلك بشكلٍ مُؤكدٍ، كأن -مثلًا- يُسدد من الراتب الشهري -أول ما يَخْرج الراتب يُسدِّد- فلا بأس، إذا كان سيضمن أنه لن يلجأ إلى دفع غرامة التأخير، وأنه سيُسدد في الوقت المُتاح من غير أن يدفع غرامة تأخيرٍ فلا بأس.
أما إذا كان سيدفع غرامة تأخيرٍ فلا يجوز على القول الراجح، لا يجوز ذلك على القول الراجح، لكن لو وضع آليةً بحيث يُسدد خلال فترة السماح المجانية المُتاحة من غير أن يدفع غرامة تأخيرٍ فلا بأس، بشرط: أن يضمن ذلك بشكلٍ مُؤكدٍ، كأن -مثلًا- يقتطع من راتبه لسداد هذه المديونية، أما إذا كان يحتمل أن يُسدد، ويحتمل ألا يُسدد، وقد يقع في دفع الغرامة، فنقول: لا يجوز هذا على القول الراجح.
السؤال: ما حُكْم اللعن؟
الجواب: اللعن من كبائر الذنوب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لَعْنُ المؤمن كقَتْله [21]، ولما قال عليه الصلاة والسلام للنساء: تَصَدَّقْنَ؛ فإني رأيتُكُنَّ أكثر أهل النار، قُلْنَ: بِمَ يا رسول الله؟ قال: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وتَكْفُرْنَ العَشِير [22]، فبيَّن النبي أن كثرة اللعن من أسباب دخول النار.
ولما لعنت امرأةٌ ناقةً قال النبي عليه الصلاة والسلام: خُذوا ما عليها ودعوها؛ فإنها ملعونةٌ [23]، لا تُصاحبنا ناقةٌ عليها لعنةٌ [24]، فهذا يدل على خطورة اللعن.
واللَّعَّانون لا يكونون شهداء ولا شُفعاء يوم القيامة، يُحْرَمون من الشفاعة، ويُحْرَمون أيضًا من الشهادة؛ لأنهم لا يستحقون أن يكونوا شهداء؛ لأن هذه الأمة تشهد يوم القيامة على الأمم الأخرى، لكنِ اللعانون لا يكونون شهداء، ولا يكونون شفعاء، فالله تعالى يُكرم بعض المؤمنين بأن يشفعوا لبعض مَن دخل النار من أهل الكبائر ممن مات على التوحيد، فاللعانون لا يكونون أيضًا شفعاء، ويُحْرَمون من ذلك بسبب اللعن.
ثم إنَّ اللعن من كبائر الذنوب، وليس من الصغائر؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المُتفق عليه: لَعْن المؤمن كقتله، وهذا يدل على خطورة المسألة.
السؤال: هل ورد فضلٌ في قراءة سورتي السجدة والإنسان فجر يوم الجمعة؟
الجواب: نعم، ورد ذلك في الصحيحين من حديث أبي هريرة : أن النبي كان يقرأ فجر كل جمعةٍ سورتي السجدة والإنسان [25].
وقوله: “كان” يُشير إلى الاستمرار، يعني: أنه كان عليه الصلاة والسلام بصفةٍ مُستمرةٍ، لكن قال بعض العلماء: إنه ينبغي أن يترك ذلك أحيانًا؛ لئلا يعتقد الناسُ الوجوبَ.
فقراءة هاتين السورتين سُنةٌ في فجر الجمعة، ولكن السنة تُفْعَل جميعًا، أو أنها لا تُفْعَل، يعني: إما أن يقرأ “السجدة” و”الإنسان”، أو أنه لا يقرؤها؛ لأن بعض الناس يأتي لـ”السجدة” ويقسمها في ركعتين، وهذا خلاف السُّنة، أو يأتي لـ”الإنسان” ويقسمها في ركعتين، وهذا خلاف السُّنة.
فنقول: إذا أردتَ أن تُطبِّق السُّنة تُطبِّق السُّنَّة كاملةً، تقرأ سورة “السجدة” في الركعة الأولى، وسورة “الإنسان” في الركعة الثانية.
السؤال: سورة “الإخلاص” تَعْدِل ثُلُثَ القرآن، هل معنى هذا: أنه إذا قرأ سورة “الإخلاص” ثلاث مراتٍ كأنه ختم القرآن؟
الجواب: نعم، إذا قرأ سورة “الإخلاص” ثلاث مراتٍ كأنه ختم القرآن، لكن أجر مَن قرأ سورة “الإخلاص” ثلاث مراتٍ أقلّ من أجر مَن ختم القرآن من “الفاتحة” إلى “الناس”، كما ذكر ذلك ابن تيمية وغيره، لكن ظاهر الحديث أنَّ مَن قرأ سورة “الإخلاص” فكأنما قرأ ثلث القرآن؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن [26].
وقال مرةً لأصحابه: احشُدُوا، فاجتمعوا، فقال: إني سأقرأ عليكم ثُلُث القرآن، ثم قرأ عليهم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وقال: إنها تَعْدِل ثُلُثَ القرآن [27].
فهذه السورة العظيمة تعدل في الأجر والثواب ثلث القرآن؛ ولذلك مَن قرأها ثلاث مراتٍ يكون كأنما ختم القرآن، وإذا قرأها ستّ مراتٍ كأنما ختم القرآن ختمتين، وإذا قرأها تسع مراتٍ كأنما ختم القرآن ثلاث ختماتٍ، وهذه من الأعمال اليسيرة التي أجرها عظيمٌ.
وسورة “الإخلاص” يحفظها جميع الناس، فبإمكانك أن تقرأ سورة “الإخلاص” في أي مكانٍ، وفي أي وقتٍ، حتى وأنت في السيارة -مثلًا- عند إشارة المرور تقرأ سورة “الإخلاص” ثلاث مراتٍ كأنما ختمتَ القرآن.
المرأة في المطبخ في بيتها تقرأ هذه السورة وتُكررها، فكلما قرأت سورة “الإخلاص” كأنما قرأت ثلث القرآن، وهذا فضل الله.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 2768. |
^3 | رواه البخاري: 2440. |
^4 | رواه مسلم: 395. |
^5 | رواه البخاري: 6069. |
^6 | رواه البخاري: 7512، ومسلم: 1016. |
^7 | رواه البخاري: 2947، ومسلم: 2769. |
^8 | رواه البخاري: 3007، ومسلم: 2494. |
^9 | رواه البخاري: 6306. |
^10 | رواه البخاري: 834، ومسلم: 2705. |
^11 | رواه أبو داود: 1517، والترمذي: 3577. |
^12 | رواه الترمذي: 3434 وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 3814، وأحمد: 4726. |
^13 | رواه مسلم: 484. |
^14, ^15 | رواه البخاري: 615، ومسلم: 437. |
^16 | رواه البخاري: 1145، ومسلم: 758. |
^17 | رواه مسلم: 2558. |
^18 | رواه البخاري: 5991. |
^19 | رواه مسلم: 832. |
^20 | رواه مسلم: 831. |
^21 | رواه البخاري: 6105، ومسلم: 110. |
^22 | رواه البخاري: 1462، ومسلم: 79. |
^23 | رواه مسلم: 2595. |
^24 | رواه مسلم: 2596. |
^25 | رواه البخاري: 891، ومسلم: 880. |
^26 | رواه مسلم: 811. |
^27 | رواه مسلم: 812. |