عناصر المادة
تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين[1]؛ يعني: إذا رأيت من نفسك الحرص على التفقه في دين الله ، فهذه أمارة إن شاء الله على أنه أريد بك الخير.
وصلى الله وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
هذا هو الدرس الثاني والستون في شرح “صحيح مسلم”، في هذا اليوم الثلاثاء الثامن من شهر ربيع الأول، من عام ألف وأربعمائة وأربعة وأربعين للهجرة.
ولا زلنا في كتاب التوبة، وصلنا إلى (باب: غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش).
نعم تفضل.
القارئ:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، عليه وعلى آله وصحبه أتم الصلاة وأتم التسليم، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ووالديه ولمشايخه والمسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش
قال المؤلف رحمه الله:
باب: غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش:
حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا- جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبدالله، قال: قال رسول الله : ليس أحد أحب إليه المدح من الله ؛ من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله؛ من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن[2].
حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير، وأبو كريب، قالا: حدثنا أبو معاوية، ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة -واللفظ له- حدثنا عبدالله بن نمير، وأبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبدالله، قال: قال رسول الله : لا أحد أغير من الله؛ ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى[3].
حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا وائل يقول: سمعت عبدالله بن مسعود يقول: قال: قلت له: آنت سمعته من عبدالله؟ قال: نعم، ورفعه، أنه قال: لا أحد أغير من الله؛ ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه[4].
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم -قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا- جرير، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله : ليس أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل[5].
حدثنا عمرو الناقد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ابن علية، عن حجاج بن أبي عثمان، قال: قال يحيى: وحدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه[6].
قال يحيى: وحدثني أبو سلمة: أن عروة بن الزبير حدثه: أن أسماء بنت أبي بكر حدثته: أنها سمعت رسول الله يقول: ليس شيء أغير من الله [7].
حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو داود، حدثنا أبان بن يزيد وحرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ، عن النبي ، بمثل رواية حجاج، حديث أبي هريرة خاصة، ولم يذكر حديث أسماء[8].
وحدثنا محمد بن أبي بكر المُقَدَّمي، حدثنا بشر بن المفضل، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عروة، عن أسماء، عن النبي أنه قال: لا شيء أغير من الله [9].
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبدالعزيز -يعني ابن محمد- عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: المؤمن يغار للمؤمن، والله أشد غيرًا[10].
وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، قال: سمعت العلاء، بهذا الإسناد[11].
الشرح:
نعم، هذا الحديث تضمن ثلاثة أمور:
- الأمر الأول: قوله: ليس أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه.
- والأمر الثاني: قوله: ليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش.
- والأمر الثالث: قوله: ليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسل. وهذا الحديث أيضًا أخرجه البخاري في “صحيحه”[12].
الأمر الأول: ليس أحدٌ أحبَّ إليه المدح من الله
أما قوله: ليس أحد أحب إليه المدح من الله ؛ فالله سبحانه يحب الثناء من عباده، ويحب المدح والحمد، بل ليس أحد أحب إليه المدح من الله.
مع أن الله لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا مدح المادحين، ولا حمد الحامدين، ولكن ذلك كما قال العلماء: إن الله يحب ذلك مع أنه غني عن عباده؛ لأن في هذا مصلحة للعباد، فهو يحب أن يمدحوه ويحمدوه، حتى يثيبهم الثواب العظيم، فينتفعون هم، وإلا فإن الله غني، وهذا من عظيم كرم الله سبحانه وجوده وإحسانه.
وكما مر معنا في الدروس السابقة: أن الله تعالى يفرح فرحًا عظيمًا بتوبة عبده، فالله سبحانه يحب الإحسان لعباده؛ ولذلك يحب المدح لأجل أن يثيب هذا المادح، وأن يثيب هذا الحامد، فإن الله سبحانه يثيب من يعظمه، ومن يحمده، ومن يمدحه الثواب العظيم.
بل إن هذا المدح والحمد والثناء من أعظم أسباب إجابة الدعاء؛ ولهذا فإن النبي في الموقف يوم القيامة، عندما يحشر الناس حفاة عراة غرلًا، تموج بهم الأرض في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة، مع شدة ذلك الموقف، كما قال عليه الصلاة والسلام: حتى يصيبهم من الهم والكرب ما لا يطيقون معه، ولا يحتملون.[13].
فإذا مضى نصف ذلك اليوم، خمس وعشرون ألف سنة، تصور خمسًا وعشرين ألف سنة والناس تموج على عرصات يوم القيامة، يقول الناس بعضهم لبعض: نبحث عمن يشفع لنا عند الرب سبحانه في أن يفصل وأن يقضي بين عباده.
فيأتون آدم فيعتذر، ويأتون نوحًا فيعتذر، ويأتون إبراهيم فيعتذر، ويأتون موسى فيعتذر، ويأتون عيسى فيعتذر، كلٌّ يقول: نفسي نفسي، اذهبوا لغيري.
فيأتون محمدًا عليهم الصلاة والسلام جميعًا، فلا يعتذر، ويذهب ويسجد تحت العرش، قال -وهذا موضع الشاهد-: فيفتح الله عليَّ من محامده، وحسن الثناء عليه شيئًا لا أحسنه الآن، ثم يدعو الله تعالى، يعني بعدما يحمد الله، ويثني على الله سبحانه، ويفتح الله عليه من محامده وحمده، والثناء عليه، وتمجيده، شيئًا عظيمًا.
ثم بعد ذلك يدعو الله تعالى في أن يقبل شفاعته في الفصل والقضاء بين العباد، فيستجيب الله له، ويقول: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فيرفع رأسه[14].
كل الناس يقول: نفسي نفسي، بمن فيهم أولو العزم من الرسل، إلا هذا النبي العظيم؛ يقول: يرفع رأسه وهو يقول: أمتي أمتي. سبحان الله! انظروا إلى عظيم شفقته عليه الصلاة والسلام لأمته.
حتى في هذا الموقف العصيب الذي كلٌّ يقول فيه: نفسي نفسي، إلا هذا النبي العظيم، يقول: أمتي أمتي. فيقول الله : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك[15].
فيقبل الله شفاعته، وتُنصَب الموازين، وتُنشَر الدواوين، ويقضي الله تعالى بين العباد، فما إن ينتصف النهار إلا وقد أخذ أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، كما قال سبحانه: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24].
قالوا: إن القيلولة نصف النهار عند العرب، ونقل عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما كما ذكر المفسرون: أن الفصل والقضاء يكون بعد منتصف ذلك اليوم؛ يعني بعد خمس وعشرين ألف سنة.
والشاهد من هذا: أن دعاء النبي عليه الصلاة والسلام لربه في الفصل والقضاء بين العباد يسبقه الحمد والمدح لله والثناء، فهذا يدل على أنه أن من أسباب إجابة الدعاء أن يسبق الدعاء حمد وثناء على الله.
بل إن الله علَّمنا هذا في سورة (الفاتحة)، فإن (الفاتحة) فيها هذا الدعاء العظيم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6- 7].
لكن ما الذي يسبق هذا الدعاء؟ يسبقه حمد وتمجيد لله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]: الحمد، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]: ثناء، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]: تمجيد، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]: فيها إخلاص للعبودية والاستعانة بالله ، ثم يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
ولهذا؛ لما رأى النبي رجلًا يدعو ولم يحمد الله ولم يصل على رسوله، قال: عجل هذا. ثم قال: إذا أراد أحدكم أن يدعو، فليحمد الله؛ وليصل على رسوله، ثم ليدعو[16].
فمن آداب الدعاء: أن يسبق الدعاءَ الحمدُ لله، والثناءُ عليه، وتعظيمه، وتمجيده، ثم الصلاة على رسوله . فالله سبحانه يحب الثناء، يحب مِن عبده أن يثني عليه، وأن يمجده، وأن يعظمه.
وينبغي للمسلم أن يحرص على تعظيم الله سبحانه في كل مناسبة، فإن الله هو الذي يستحق الحمد، وهو الذي يستحق التعظيم، وهو الذي يستحق المدح بحقٍّ جل وعلا.
وتجد أن بعض الناس يُعظِّم المخلوقين أكثر من تعظيم الخالق، وهذا قصور شديد؛ بل إن هناك بعض المواضع التي ينبغي ألا يُعظَّم فيها إلا الله وحده، مثل مواضع الصلاة، وفي دعاء القنوت مثلًا، ينبغي ألا يُعظَّم إلا الله وحده، ولا يذكر أسماء أشخاص ومخلوقين، وكذلك في خطب الجمعة، وفي غيرها.
فهناك أماكن ومواضع ينبغي ألا يُعظَّم فيها إلا الله وحده، وأن يكون المسلم مُعظِّمًا لربه سبحانه، مُمجِّدًا له، حامدًا له.
وما أُوتي كثيرٌ من الناسِ التقصيرَ في الطاعات والجرأة على ارتكاب المحرمات، إلا بسبب ضعف التعظيم لله سبحانه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]؛ فالله سبحانه ليس أحدٌ أحبَّ إليه المدح منه جل وعلا، من أجل ذلك مدح نفسه.
الأمر الثاني: ليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش
معنى الغيرة في حق البشر
الغيرة هي في حق البشر معناها: الأَنَفة والحَمِيَّة، وهي: أن يحمي الرجل زوجته ومحارمه، ويمنع من الدخول عليهم من الغير.
وضد الغيرة: الدياثة، وضد الغيور: الديوث، والديوث: هو الذي لا يغار على أهله ومحارمه، ويرضى بالخنا والفجور في أهله، فهذا يقال له: ديوث.
فالغيرة في حق البشر: هي الأنفة والحمية، وهي محمودةٌ، ووصف كمال في حق البشر؛ ولهذا جاء في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة : أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت لو أن رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصْفَح؛ يعني بحَدِّه وليس بصَفْحه، غير مُصفَح، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال: أتعجبون من غيرة سعد، فوالله لأنا أَغْيَر منه، واللهُ أَغْيَرُ مني، ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن[17].
فإذن، الغيرة في حق البشر وصفُ كمال، بينما الدياثة وصف نقص.
الغيرة في حق الله سبحانه وتعالى
وأما في حق الله ، فأهل السنة والجماعة يُثبتون لله تعالى الغيرة على الوصف اللائق بالله ، وأنها ليست كغيرة المخلوقين، بل هي كسائر صفاته، كما أن سَمْع الله ليس كسمع المخلوقين، وأن بصر الله ليس كبصر المخلوقين، وحياة الله ليست كحياة المخلوقين، وهكذا سائر صفات الله .
هكذا الغيرة لله ، يُثبتها أهل السنة على الوصف اللائق بالله ، وهناك من الطوائف من يتأولها وينكر الغيرة لله، ويقولون: إنها إرادة المنع، وهذا قول باطل، بل نثبت لله صفة الغيرة، لكن ليست كغيرة المخلوقين، بل على الوصف اللائق بالله .
فإذن؛ دل هذا الحديث على إثبات صفة الغيرة لله سبحانه، على ما يليق بجلاله وعظمته؛ ولهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله يوصف بالغيرة.
وغيرة الله تتضمن كراهتَه له، والغضب على فاعله، تتضمن غيرة الله كراهته لهذا العمل، والغضب على فاعله؛ ولهذا قال: ليس أحدٌ أَغْيَرَ من الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن.
والله تعالى يغار إذا انتُهكت محارمه، وإذا تجرَّأ الناس على ارتكاب الفواحش والمحارم فإن الله يغار، ويغضب على من يفعل ذلك.
ولهذا؛ أهلك الله تعالى أمةً من الأمم، قوم لوط، أهلكهم الله لما استحلوا هذه الفعلة الشنيعة، وهي عمل قوم لوط، فجعل الله عالِيَها سافلها وأمطر عليهم حجارةً من سجيل منضود، فالله سبحانه يغار إذا ارتُكبت الفواحش، وإذا انتهكت محارمه، ويغضب لأجل ذلك.
الأمر الثالث: لا أحد أحب إليه العذر من الله
والأمر الثالث المذكور في هذا الحديث: قوله عليه الصلاة والسلام: وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتب، وأرسل الرسل.
واختلف العلماء في المراد بقوله: لا أحد أحب إليه العذر من الله:
ما المراد بالعذر؟
فقال بعض العلماء: إن المراد بالعذر؛ أي: اعتذار العباد من تقصيرهم، وتوبتهم من معاصيهم، فإن الله يحب ذلك من عباده، ويغفر لهم، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [الشورى:25].
وقال الكَرْماني: المراد بالعذر في هذا الحديث: الحجة، كما قال سبحانه: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].
وهذا هو القول الراجح: أن المراد بالعذر في الحديث: يعني إقامة الحجة على الناس، فالله سبحانه يحب إقامة الحجة على عباده، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: من أجل ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسل. فهذا مما يرجح به القول الثاني، وهو أن المراد بالعذر هنا: إقامة الحجة على العباد؛ ولهذا قال سبحانه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].
والله مِن عدله أنه لا يعذب من لم تقم عليه الحجة، فالله عدل، فمثلًا: من نشأ في بيئة لم يسمع بالإسلام قط في حياته، فإنه يكون من أهل الفترة؛ لأن الله عدل، لا يعذب من لم تقم عليه الحجة.
وهكذا مَن وُلد مجنونًا، فإن المجانين يكون حكمُهم حكمَ أهل الفترة، يُمتحنون يوم القيامة، لا يعذبون ولا أيضًا يدخلون الجنة؛ لأن من مقتضى عدل الله أنه لا بد من امتحانهم واختبارهم.
فالله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، لا يعذب الله أحدًا إلا بعد إقامة الحجة عليه؛ لأن الله عدل: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
ويحب سبحانه الإعذار لعباده: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، فلا يعذب الله تعالى إلا من قامت عليه الحجة.
ولذلك، يوم القيامة إذا اعترض مَن اعترض، وقال: إني ما فعلت هذا الشيء. ختم الله على فمه ونطقت جوارحه، ينطق سمعه وبصره، ويده ورجله وجلده، كل هذه الأعضاء تنطق، حتى الجلد: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21].
وأيضًا يشهد عليه الملكان الكاتبان: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ [ق:23- 25].
وأيضًا تشهد عليه الأرض التي يعمل عليها، كما قال سبحانه: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4-5]؛ أي: تشهد على كل عبد وأمة بما عمل عليها. فانظر إلى هذه الشهود؛ تجتمع على ابن آدم يوم القيامة فلا يكون له عذر، تجتمع عليه هذه الشهود كلها.
يعني كم الآن؟ يده، ورجله، وسمعه، وبصره، وجلده، والملكان، والأرض، هذه الآن ثمانية شهود، كلها تجتمع على الإنسان تشهد عليه، فلا يكون له حجة، يقيم الله الحجة عليه، ويعطيه كتابه: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، منتهى العدل.
ولذلك؛ فالدار الآخرة هي دار العدالة المطلقة: لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17]، بينما الدنيا ليست بدار عدالة، الدنيا فيها ظالم ومظلوم، لكن الآخرة هي دار العدالة المطلقة.
فالله يحب إقامة العذر على العباد، وإقامة الحجة عليهم، ومن أجل ذلك أرسل الرسل، أرسل الرسل لإقامة الحجة: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].
فهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: وليس أحدٌ أحبَّ إليه العذر؛ يعني: مِن إقامة الحجة من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل.
فهو -إذن نقول: إن الله – يحب المدح والحمد والثناء؛ لأجل مصلحة العباد حتى يُثيبهم، وهو يغار على ارتكاب محارمه، وعلى الفواحش، وهذا وصف كمال، لكن على الوجه اللائق بالله ، وهو يحب إقامة الحجة والعذر على الناس؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
باب قوله تعالى: إِن الحسناتِ يُذهبن السيئات
باب: قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].
حدثنا قتيبة بن سعيد، وأبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، كلاهما عن يزيد بن زريع -واللفظ لأبي كامل- حدثنا يزيد، حدثنا التيمي، عن أبي عثمان، عن عبدالله بن مسعود: أن رجلًا أصاب من امرأةٍ قُبْلةً، فأتى النبيَّ فذكر ذلك له، قال فنزلت: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]. قال: فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال: لمن عمل بها من أمتي[18].
حدثنا محمد بن عبدالأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه، حدثنا أبو عثمان، عن ابن مسعود: أن رجلًا أتى النبيَّ ، فذكر أنه أصاب من امرأة إما قبلة أو مسًّا بيدٍ أو شيئًا، كأنه يسأل عن كفارتها، قال: فأنزل الله ، ثم ذكر بمثل حديث يزيد[19].
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن سليمان التيمي، بهذا الإسناد، قال: أصاب رجل من امرأة شيئًا دون الفاحشة، فأتى عمر بن الخطاب فعظَّم عليه، ثم أتى أبا بكر فعظم عليه، ثم أتى النبي ، فذكر بمثل حديث يزيد والمعتمر[20].
حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة -واللفظ ليحيى، قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا- أبو الأحوص، عن سِمَاك، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عبدالله قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا، فاقضِ فيَّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت نفسك. قال: فلم يَرُدَّ النبي عليه شيئًا، فقام الرجل فانطلَق، فأتبعه النبي رجلًا دعاه، وتلا عليه هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، فقال رجل من القوم: يا نبي الله، هذه له خاصة؟ قال: بل للناس كافة[21].
حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبدالله العجلي، حدثنا شعبة، عن سِمَاك بن حرب قال: سمعت إبراهيم، يحدث عن خاله الأسود، عن عبدالله، عن النبي بمعنى حديث أبي الأحوص، وقال في حديثه: قال معاذ: يا رسول الله، هذا لهذا خاصة أو لنا عامة؟ قال: بل لكم عامة[22].
الشرح:
هذه القصة، قصة هذا الرجل، جاءت عند الترمذي مُصرَّحًا بهذا الرجل، باسم هذا الرجل، وهو أبو اليسر، قال: أتتني امرأة تبتاع مني تمرًا. يعني: تشتري تمرًا. فقلت: إن في البيت تمرًا أطيبَ منه، فدخلَتْ معي البيتَ، فأهويتُ عليها فقبَّلتُها، فأتيتُ أبا بكر فأخبرتُه بما جرى، فقال أبو بكر: استُرْ على نفسك، وتُب فيما بينك وبين الله. ثم أتيت عمر فقال: استر على نفسك، وتب فيما بينك وبين الله[23].
وقد أشارت رواية مسلم إلى مجيئه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قال: فجاء أبا بكر فعظَّم عليه، فجاء عمر فعظم عليه.
ثم قال: لم أصبر، فأتيت رسول الله ، فقال: أَخَلَفْتَ غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟!. لأن هذه امرأةُ رجلٍ كان يقاتل في سبيل الله، ليس موجودًا، وإثم مَن خَلَف غازيًا في أهله، إثمه عظيم.
فأطرق النبي رأسه، قال: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا تلك الساعة. لأن الإسلام يجب ما كان قبله، فأنزل الله هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114][24].
وهذه الآية شملت الصلوات الخمس: أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ يعني: صلاة الفجر، وصلاة الظهر والعصر وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ يعني: المغرب والعشاء.
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ: اختلف في معنى الحسنات في الآية، أو بالمراد من الحسنات هنا؟ ورجح ابن جرير الطبري أن المراد بها: الصلوات الخمس، بدليل سبب نزول الآية، وبدليل قوله: طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ.
وأيضًا؛ لورود أحاديث أخرى تدل على أن الصلوات الخمس يُكفِّرن الصغائر، ومنها: قول النبي : الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر. رواه مسلم[25].
وقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كلَّ يومٍ خمسَ مرات، هل يبقى مِن دَرَنه شيء؟. قالوا: لا، يا رسول الله. قال: فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا[26].
فقال هذا الرجل: يا رسول الله، أهذه لي خاصة أم للناس كافة؟ قال: بل للناس كافة. فهذه هي قصة هذا الرجل، وهذا الرجل لم يقع في الزنا، وإنما وقع في بعض مقدماته، وأكثر الروايات على أن الذي وقع فيه مجرد قبلة فقط.
لكن هذا الرجل عنده قوة إيمان؛ لما حصل منه هذا، أصبح قلقًا وذهب لأبي بكر، وذهب لعمر، ولم يصبر حتى ذهب للنبي ، فأنزل الله هذه الآية، وهي تدل على أن الصلوات الخمس تكفر الصغائر.
وأيضًا هذا الحديث يدل على أن القبلة ونحوها مما هي دون الوطء، أنها من الصغائر، وليست من الكبائر؛ إذ إنها لو كانت من الكبائر ما كفرتها الصلوات الخمس، فهذا يدل على أنها من الصغائر، فعند جمهور العلماء أن هذه كلها من الصغائر؛ لأنها هي مقدمة للزنا لكنها ليست زنا، هي مقدمة له، فهي من الصغائر وليست من الكبائر.
وأيضًا دل هذا الحديث على أن الصلوات الخمس تجري مجرى التوبة لمرتكب الصغائر.
فإذن؛ الصلوات الخمس تكفر الصغائر، والجمعة إلى الجمعة، صلاة الجمعة إلى الجمعة، تكفر الصغائر أيضًا، ورمضان إلى رمضان يكفر الصغائر.
الفرق بين مغفرة الذنوب وتكفير السيئات
وأما الكبائر فلا بد فيها من توبة، وسبق أن ذكرنا في الأسبوع الماضي في الدرس السابق الفرق بين مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، وذكرنا الخلاف، وذكرنا القول الراجح، قلنا: إنه اختاره ابن القيم، فما الفرق بين مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات؟
الطالب: …
الشيخ: أحسنت بارك الله فيك، مغفرة الذنوب للكبائر، وتكفير السيئات للصغائر؛ ولهذا لاحِظ الحديث هنا: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكفِّرات، ما قال: إنها تغفر، وإنما مكفرات، مكفرات لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر.
وأيضًا ذكرنا أن ما يصيب الإنسان من نصب ووصب، ومرض، وهم، وغم، ومصائب أنها تكفر أو تغفر؟ تكفر فقط، مكفرات، أما الكبائر فلا بد فيها من التوبة، الكبائر ما يكفرها شيء، لا بد فيها من التوبة، التوبة بشروطها التي سبق أيضًا أن تكلمنا عنها بالتفصيل في الدرس السابق. وقد ذكرنا شروط التوبة الثلاثة، فمن يذكر لنا شروط التوبة؟
الطالب: …
الشيخ: الإقلاع عن الذنب.
الطالب: …
الشيخ: والعزم على ألا يعود إليه مرة أخرى، والندم على ما حصل منه.
لا بد من هذه الأركان الثلاثة في التوبة، هذه الشروط الثلاثة: الإقلاع عن الذنب، والعزم على ألا يعود إليه، والندم. لو تخلف واحد منها لم تصح.
فالكبائر لا بد فيها من التوبة، وأما الصغائر فيكفرها الصلوات الخمس؛ يعني: الصلوات الخمس هي توبة بالنسبة للصغائر هي توبة، ويكفرها صوم رمضان، ويكفرها صلاة الجمعة، ويكفرها الحج، ويكفرها ما يكفرها أيضًا مما يصيب الإنسان من الأمراض والمصائب. هذه كلها مكفرات، لكن المغفرة لا بد إنما تكون للكبائر، وهذه لا بد فيها من توبة.
ولهذا؛ ذكر الله تعالى عن دعاء الصالحين أنهم كانوا يقولون: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران:193]: اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا يعني: الكبائر وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا يعني: الصغائر.
حدثنا الحسن بن علي الحلواني، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن أنس، قال: جاء رجل إلى النبي ، فقال: يا رسول الله، أصبت حدًّا فأَقِمْه عليَّ؟ قال: وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله ، فلما قضى الصلاة قال: يا رسول الله، إني أصبت حدًّا، فأَقِمْ فيَّ كتابَ الله. قال: هل حضرتَ الصلاة معنا؟. قال: نعم. قال: قد غفر لك[27].
حدثنا نصر بن عليٍّ الجهضمي، وزهير بن حرب -واللفظ لزهير- قالا: حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد، حدثنا أبو أمامة، قال: بينما رسول الله في المسجد، ونحن قعود معه؛ إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًّا، فأَقِمْه عليَّ. فسكت عنه رسول الله ، ثم أعاد فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًّا، فأَقِمْه عليَّ. فسكت عنه، وأقيمت الصلاة، فلما انصرف نبي الله قال أبو أمامة: فاتبع الرجلُ رسولَ الله حين انصرف، واتبعتُ رسول الله أنظر ما يَرُدُّ على الرجل، فلَحِقَ الرجلُ رسولَ الله ، فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًّا، فأَقِمْه عليَّ. قال أبو أمامة: فقال له رسول الله : أرأيت حين خرجتَ من بيتك، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء؟. قال: بلى، يا رسول الله. قال: ثم شهدت الصلاة معنا. فقال: نعم، يا رسول الله. قال: فقال له رسول الله : فإن الله قد غفر لك حدَّك، أو قال: ذنبك[28].
الشرح:
المراد بقوله: “أصبت حدًّا”
المراد بقوله: “أصبت حدًّا” يعني: معصية، وليس المقصود بذلك الزنا؛ لأن الحد يطلق على المعصية: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، فالحَدُّ قد يطلق على المعصية، فالمراد بالحد هنا كما قال الشراح: أنه معصية من المعاصي المُوجِبة للتعزير، وليس المقصود بذلك الزنا، وإلا لو كان الزنا لأقام النبي عليه حد الزنا، كما أقامه على ماعز، وعلى الغامدية، وعلى -أيضًا- امرأة العسيف، لكن المقصود بالحد هنا: المعصية؛ لأن كلمة حد في اللغة العربية تطلق على المعصية.
فهذا الرجل مِن حاله ومِن القرائن فَهِم النبي عليه الصلاة والسلام أن مقصوده: وقعت في معصيةٍ من المعاصي، ويظهر أنها أيضًا مثل ما حصل للرجل في القصة السابقة؛ يعني: مما هي دون الوطء؛ ولهذا قال: فأَقِمْه عليَّ؛ يعني: أقم عليَّ التعزير المُوجِب لتلك المعصية.
فالنبي سكت، حتى أتاه الرجل مرة أخرى، وقال: أَقِمه عليَّ، قال: صل معنا، فلما صلى معهم قال عليه الصلاة والسلام: أرأيت حين خرجت من بيتك، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى، يا رسول الله. قال: ثم شهدت الصلاة معنا قال: نعم، يا رسول الله. قال: فإن الله قد غفر لك؛ وذلك لأن هذا الذي وقع فيه هذا الرجل من الصغائر، وليس من الكبائر، والصلوات الخمس تكفر الصغائر.
لكن هذا محمول عند أهل العلم على أن هذا الرجل ارتكب صغيرة وليس كبيرة، ارتكب ما دون الوطء، مثل ما حصل في القصة السابقة؛ لأن هذه التي دون الوطء كلها من الصغائر وليست من الكبائر، وتكفرها الصلوات الخمس، كما في قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ يعني: الصلوات الخمس إِنَّ الْحَسَنَاتِ يعني: الصلوات يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] يعني: أنها كفارة للصغائر، إن الصلوات الخمس كفارات للصغائر.
فلا بد إذن من أن نفهم هذا الحديث الفهم الصحيح؛ لأن بعض الناس يفهمه أن المقصود به أنه وقع في الزنا، وهذا غير صحيح، لو كان وقع في الزنا لأقام عليه النبي الحد، لكن المقصود أنه وقع في معصية دون الزنا.
باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله
باب: قبول توبة القاتل وإن كثر قتله.
حدثنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار -واللفظ لابن المثنى- قالا: حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي الصديق، عن أبي سعيد الخدري: أن نبي الله قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله، فكمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومَن يحول بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله تعالى معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نَصَف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مُقبِلًا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط. فأتاهم مَلَك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضَتْه ملائكة الرحمة. قال قتادة: فقال الحسن: ذُكِر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره. [29].
حدثني عبيدالله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن قتادة: أنه سمع أبا الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي : أن رجلًا قتل تسعة وتسعين نفسًا، فجعل يسأل هل له من توبة؟ فأتى راهبًا، فسأله فقال: ليست لك توبة. فقتل الراهب، ثم جعل يسأل، ثم خرج من قرية إلى قرية فيها قوم صالحون، فلما كان في بعض الطريق أدركه الموت فنأى بصدره، ثم مات، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر، فجُعل من أهلها[30].
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا شعبة، عن قتادة، بهذا الإسناد، نحو حديث معاذ بن معاذ، وزاد فيه: فأوحى الله إلى هذه: أن تباعدي، وإلى هذه: أن تقربي[31].
الشرح:
هذه القصة قصة عجيبة، ذكرها لنا النبي لأجل أَخْذ الدروس والعِبَر منها، هذا رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا بغير حق، ثم أراد أن يتوب، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فقيل: هذا الراهب. ويظهر أن هذا الراهب كان يتعالم، وكان بعض الناس يظنونه عالمًا.
فسأله: هل له من توبة؟ قال: لا. فكمَّل به المائة؛ وذلك لأن فتياه اقتضت عنده أن لا نجاة له، فيئس من الرحمة؛ يعني: مثلما يقال: تساوت الأمور عنده، ما دام ما عنده توبة، ما دام ما له من توبة، فما فيه فرق عنده بين أن يقتل تسعة وتسعين أو يقتل مائة.
ثم بعد ذلك تداركه الله تعالى برحمته، فأخذه الندم، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فقيل: إن أعلم أهل الأرض في بلد كذا، دُلَّ على رجل عالم، فأتى إليه وقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومَن يحول بينه وبين التوبة. وهذا يدل على رسوخه في العلم؛ لأن قوله: ومن يحول بينه وبين التوبة؛ يدل على رسوخه في العلم.
ثم بعد ذلك أعطاه توجيهًا، قال: انطلِق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. يعني البيئة التي شجَّعت هذا الرجل إلى أن يقتل مائة نفس، هذه بيئة فاسدة، بيئة سيئة، فحتى تصح توبة هذا الرجل وتستقيم حاله، لا بد من تغيير بيئته.
ولذلك؛ فهذا العالم فهم ذلك، وأرشد هذا الرجل إلى تغيير بيئته؛ لأن البيئة التي يعيش فيها بيئة فاسدة تشجع على القتل.
فانطلق هذا الرجل، فأدركه الموت في منتصف الطريق، حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، وسبحان الله! اختصمت فيه الملائكة؛ ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب؛ ملائكة الرحمة تقول: إنه جاء تائبًا إلى الله، وملائكة العذاب تقول: إنه لم يعمل خيرًا قط، قتل مائة نفس.
فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم؛ يعني حكمًا، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد أن يهاجر إليها، فقبضته ملائكة الرحمة ولم يعمل خيرًا قط.
وجاء في رواية: أنه لما أتاه الموت، نأى بصدره.
وجاء أيضًا في الرواية الأخرى: أن الله أوحى إلى هذه الأرض أن تباعدي، وإلى تلك الأرض أن تقاربي، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة[32].
فوائدُ مِن قصة قتل المائة نفس
وهذه القصة فيها فوائد عظيمة:
- أولًا من الفوائد: صحة توبة القاتل، وأنه إذا تاب تاب الله عليه، جميع الذنوب من تاب منها، تاب الله عليه، كما قال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
أعظم الذنوب الذي هو الشرك، إذا تاب منه الإنسان تاب الله عليه، كذلك القتل: من تاب تاب الله عليه، وجميع الذنوب، فالله تعالى يقبل توبة التائبين مهما كثرت، ومهما عظمت الذنوب.
ولكن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق:
الأول: حق الله ، وهذا يسقط بالتوبة.
والثاني: حق أولياء الدم، وحقهم يكون إما باستيفائهم القصاص، أو بأخذهم الدية، أو بعفوهم مجانًا، فهم مُخيَّرون بين هذه الأمور الثلاثة: إما أن يقتصوا، وإما أن يأخذوا الدية، وإما أن يعفوا مجانًا.
فالقصاص حق لأولياء الدم وليس للمقتول، المقتول قد مات وانتهى، لكنه حق لأولياء الدم لأجل التشفي من القاتل.
- ويبقى حق المقتول له يوم القيامة؛ فقد قُتل ظلمًا وبغير حق، فيبقى له حقه يوم القيامة.
لكن، كيف تصح توبةُ القاتل وحقُّ المقتول باقٍ له يوم القيامة؟ مَن يجيب عن هذا السؤال؟
الطالب: …
الشيخ: نعم، أحسنت. نقول جوابًا عن هذا السؤال: إن الله تعالى يعوض المقتول يوم القيامة عن عبده القاتل التائب خيرًا مما يأخذه منه، إذا صدق في توبته، فالله تعالى يعوض المقتول خيرًا مما يأخذه من هذا القاتل، فلا يبطل حق هذا المقتول، ولا تبطل توبة هذا القاتل التائب، وهذا من تمام عدل الله تعالى وإحسانه.
ولهذا قُبلت توبة هذا الذي قتل مائة نفس، مع أن هؤلاء المائة نفس لهم حقوق في الآخرة، لكن لما صدق في توبته، فإن الله تعالى يعوضهم خيرًا مما يأخذونه من هذا القاتل.
- وأيضًا من فوائد هذه القصة: فضل العالم على العابد، فإن العابد -فإن الراهب- الذي أتى إليه هذا الرجلَ غلبتْ عليه الرهبانية واغترَّ بوصف الناس له بالعلم، فأفتى بغير علم، فهلك في نفسه، وأهلك غيره. وأما الثاني فقد كان مشتغلًا بالعلم ومعتنيًا به، فوُفق للحق، فأحياه الله في نفسه، وأحيا به الناس.
وهذا الرجل الذي هو الراهب، الذي أفتى بغير علم، وقوله لهذا القاتل: لا توبة لك، هذا دليل على قلة علم ذلك الراهب، وأيضًا قلة فطنته، حيث لم يصب وجه الفتيا الصحيحة، ولا سلك طريق الحذر ممن هو جريء على القتل، وصار القتل له عادة.
فهذا الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، أتظنه لمَّا قلتَ: لا توبةَ لك، سيتركك؟ كان ينبغي أن يكون فطنًا، أنه على الأقل يداري، أو لا يُفتيه بقول: لا توبة لك، فهذا ليس عنده علم، وليس عنده فطنة أيضًا.
قالوا: صار هذا القاتل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا مثل الأسد، الذي لا يبالي بمن يفترسه، فكان ينبغي لهذا الراهب ألا يشافهه بمنع التوبة؛ مداراة لدفع القتل عن نفسه، كما يُدارَى الأسد الضاري.
لكنه لم يفطن لذلك، وليس عنده علم، فقال: لا توبة لك. فكمَّل به المائة، وهذا يدل أيضًا على أن العلم يُورِث الإنسانَ الفطنةَ، ويُعطيه الحكمة، العلم من أسباب الحكمة والفطنة، بل لا يمكن أن يكون الإنسان حكيمًا إلا إذا كان عنده علم، فالحكمة هي علم وعمل.
- وأيضًا من فوائد هذه القصة: أن الملائكة المُوكَّلين ببني آدم قد يختلفون في اجتهادهم، فيمن يكتبونه مطيعًا أو عاصيًا، وأنهم قد يختصمون في ذلك، فيقضي الله بينهم؛ لأن كون الملائكة تختصم؛ ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، يدل على أن هذا ممكن أن يقع منهم، لكن لا يمكن أن يُقَرُّوا على اجتهاد غير صحيح، بل يقضي الله بينهم، وإذا اجتهد الملك اجتهادًا غير صحيح، فإن الله تعالى يبين له ذلك، كما أرسل هذا الملك بصورة رجل للملائكة.
لكن وقوع هذا الاختصام من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، يدل على أنه قد يحصل مثل هذا الاجتهاد، فأخذ العلماء من هذا: أنه قد يحصل مثل هذا الاجتهاد من الملائكة.
- وأيضًا من فوائد هذه القصة: دل هذا الحديث على فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعاصي، وتكثر منه فيها المعاصي؛ لأنها بيئة فاسدة، تُشجِّع على ارتكاب المعصية، وعلى التجرؤ على حرمات الله .
فإذا وجد الإنسان نفسه غارقًا في المعاصي وفي الذنوب، فينبغي أن يسعى لتغيير بيئته إلى بيئة تشجعه على الطاعات، ولا يتشجع معها على الوقوع في المعاصي.
- وأيضًا من فوائد هذه القصة: أن التحكيمَ صحيحٌ ومُلزِم إذا رضي به المتخاصمون؛ ويدل لذلك أن الله تعالى أرسل للملائكة حاكمًا يفصل بينهم بصورة آدمي.
قال القرطبي: وهذا فيه حجة لمالِكٍ ومَن معه من أهل العلم، الذين قالوا: إن المتخاصمِين، أو إن المتخاصمَين إذا حكَّما بينهما رجلًا يصلح للتحكيم؛ لزمهما ما يحكم به. وهذا هو القول الراجح، خلافًا للشافعية، وهذا أيضًا هو المذهب عند الحنابلة، فالمتخاصمون إذا حكَّموا مَن يصلح للتحكيم، لزمهم العمل بهذا التحكيم.
وهذا الآن قد أصبح معمولًا به في جميع دول العالم كلها، ومعمول به أيضًا عندنا هنا في المملكة، فعند النزاع مثلًا إذا تراضى المتخاصمون على أن يجعلوا بينهم مُحكَّمِين للفصل في النزاع، فلهم ذلك، ويلزمهم الأخذ بما ينتهي إليه المُحكَّمون من الفصل في هذا النزاع.
- وأيضًا من فوائد هذه القصة: فَضْل بني آدم؛ لأن الله تعالى جعل صورة هذا الملك الذي يَفْصل بين الملائكة، جعله على صورة إنسان، وهذا يدل على فضل بني آدم، وأن فيهم مَن يصلح لأن يفصل بين الملائكة إذا تنازعوا، وهذه مرتبةٌ عاليةٌ تدل على فضل بني آدم.
- وأيضًا من فوائد هذه القصة: بيان عظيم رحمة الله تعالى، وأن الله أوحى إلى الأرض التي هاجر إليها هذا الرجل: أن تقاربي، وإلى تلك: أن تباعدي، وأن هذا الرجل جعل ينأى بصدره؛ حتى تقبضه ملائكة الرحمة. وهذا يدل على عظيم رحمة الله تعالى بعباده.
بابٌ في سَعَة رحمة الله تعالى على المؤمنين وفداءِ كلِّ مسلم بكافر من النار
باب: في سعة رحمة الله تعالى على المؤمنين، وفداء كل مسلم بكافر من النار.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن طلحة بن يحيى، عن أبي بُرْدة، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله : إذا كان يوم القيامة، دفع الله إلى كل مسلم يهوديًّا أو نصرانيًّا، فيقول: هذا فِكَاكُكَ من النار[33].
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا همام، حدثنا قتادة، أن عونًا وسعيد بن أبي بردة حدثاه: أنهما شَهِدَا أبا بُرْدة يُحدِّث عمر بن عبدالعزيز، عن أبيه، عن النبي ، قال: لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانَه النارَ يهوديًّا أو نصرانيًّا. قال: فاستحلفه عمر بن عبدالعزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات: أن أباه حدَّثه عن رسول الله ؟ قال: فحلف له، قال: فلم يحدثني سعيد أنه استحلفه، ولم ينكر على عون قوله[34].
حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن المثنى جميعًا، عن عبدالصمد بن عبدالوارث، أخبرنا همام، حدثنا قتادة، بهذا الإسناد، نحو حديث عفان، وقال: عون بن عتبة[35].
وحدثنا محمد بن عمرو بن عَبَّاد بن جَبَلة بن أبي رَوَّاد، حدثنا حَرَمِيُّ بن عُمَارة، حدثنا شَدَّادٌ أبو طلحة الراسبي، عن غَيْلان بن جرير، عن أبي بُرْدة، عن أبيه، عن النبي قال: يجيء يومَ القيامة ناسٌ من المسلمين بذُنوب أمثالِ الجبال، فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى. فيما أحسب أنا، قال أبو رَوْح: لا أدري ممن الشك؟ قال أبو بُرْدة: فحدَّثتُ به عمر بن عبدالعزيز فقال: أبوك حدثك هذا عن رسول ؟ قلت: نعم[36].
الشرح:
نعم، هذا الحديث الأخير ضعيف، ضعَّفه البيهقي، وذكر الحافظ عن البيهقي أنه ضعفه، وأقره على ذلك؛ وذلك لأن شدادًا -أبا طلحة الراسبي- قد تفرَّد به، فهو حديث ضعيف أولًا؛ لأن أبا طلحة هو صدوق، لكن ممن لا يحتمل تفرُّده، فيكف وقد خالفه غيرُه من الحفاظ!
ثانيًا أيضًا: لوقوع الشك في الرواية، لاحِظ: هنا قال: لا أدري ممن الشك؟ “فيما أحسب أنا”، قال أبو رَوْح: “لا أدري ممن الشك!”، فوقع الشك في الرواية.
ثالثًا أيضًا: لمخالفته للنصوص الصريحة، كما في قول الله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]؛ يعني: كيف تؤخذ ذُنوبٌ أمثالُ الجبال فيغفرها الله للمسلمين ويضعها على اليهود والنصارى؛ يعني: هذا مُخالِفٌ لقول الله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].
فهذا الحديث إذن ضعيف، وإن كان في “مسلم”، وهذه من الأحاديث القليلة التي أُخِذت على مسلم وضُعِّفت، وإلا فالأصل في أحاديث البخاري ومسلم الصحة، لكن هناك عدة أحاديث قليلة استُدركت على مسلم، وأقل منها استُدرك على البخاري. فهذا من الأحاديث التي استُدركت على مسلم، والحاصل أنه كما قال البيهقي: أن هذا الحديث حديث ضعيف.
وأما الحديث الذي قبله: أنه لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهوديًّا أو نصرانيًّا، فهذا لا بد من أن نفهمه على وجهه الصحيح؛ معنى الحديث هو كما جاء في حديث أبي هريرة : أن لكل أحد منزلًا في الجنة ومنزلًا في النار، فإذا دخل المؤمن الجنة خَلَفه الكافر في النار[37].
وهذا معنى قول الله تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزمر:74]؛ يعني: الجنة. فأهل الجنة يرثون مقاعد الكفار في الجنة، ويأخذون مكانها مقاعدهم التي تكون لهم لو أساؤوا في النار.
فكل إنسان من بني آدم له مقعدان: مقعد في الجنة، ومقعد في النار. فمعنى الفِكَاك الموجود في هذا الحديث، وأنه لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهوديًّا أو نصرانيًّا: اليهودي والنصراني أصلًا مستحق للنار، لكن هذا المقعد الذي كان سيكون للمؤمن يؤول لهذا اليهودي أو النصراني أو الكافر عمومًا.
فهذا هو معنى هذا الحديث، وإلا فكما قال الله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، ليس معنى ذلك أن ذُنوب المؤمن أنها تُطرَح على اليهودي أو النصراني؛ فإن هذا مخالف لقول الله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
وفي استحلاف عمر بن عبدالعزيز أنه استحلفه بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات، ما يدل على أنه لا بأس باستحلاف الإنسان على ما يُحدِّث به، خاصة إذا شك في صحته، أو كان غريبًا.
فإذن، لا بد من أن نفهم هذا الحديث على وجهه الصحيح، وهو أن المقصود أن هؤلاء اليهود أو النصارى استحقوا النار، وأن هذه المقاعد كانت للمؤمنين لو أساؤوا، لكنهم أحسنوا فأدخلهم الله الجنة، فبقيت مقاعد المؤمنين لليهود والنصارى وبقية أهل النار.
وعلى العكس من ذلك: المقاعد التي تكون لأهل النار في الجنة، يرثها أهل الجنة؛ ولهذا قال: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا [الزخرف:72]، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزمر:74]، فكل إنسان من بني آدم له مقعدان: مقعد في الجنة، ومقعد في النار.
ولذلك؛ في قبره يقال: “هذا مقعدك في الجنة” للمؤمن “وهذا مقعدك في النار لو أسأت”، فيزداد شكرًا، ويقال للكافر: “هذا مقعدك في النار، وهذا مقعدك في الجنة لو أحسنت”، فيزداد حسرة.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبين الأذان والإقامة نجيب عما تيسر من الأسئلة إن شاء الله.
الأسئلة
السؤال: هذا سؤال يقول فيه السائل: مَن لم يسمع بالإسلام ومات وهو مشرك، هل يكون من أهل الفترة؟
الجواب: نعم، إذا لم يسمع بالإسلام، فإن الله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فالله تعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد إقامة الحجة عليه، أما إذا لم تقم الحجة عليه فإن الله تعالى لا يعذبه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
السؤال: قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، كيف نوفق بين الآية وبين قول النبي : أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل؟
الجواب: ما قد يقع للإنسان من المصائب قد يكون بسبب الذنوب، كما قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، قد يكون عقوبةً له مُعجَّلة على معصيةٍ ارتكبها، وقد يكون ابتلاءً من الله وتمحيصًا.
وكما جاء في الحديث: إن المؤمن يكون له الدرجة الرفيعة من الجنة، ما يبلغها بعمله، فيُصَب عليه البلاء حتى يدرك تلك المنزلة[38]، وكما قال عليه الصلاة والسلام: أشدُّ الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل… إن كان في دينه صَلَابةٌ شُدِّد عليه في البلاء[39].
وذلك لأن الناس وقت الرخاء والعافية كلٌّ يدَّعي الإيمانَ، ولكن المحك هو عند التمحيص، فالله تعالى يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]، ويقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
فمِن حكمة الله أنه يبتلي العباد بالبلاء حتى يتبين الصادق من الكاذب: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3].
لا يُمكن أن يَظهر الصادق مِن الكاذب إلا بالبلاء، فالله تعالى قد يبتلي بعضَ عباده بما يُقدِّره بحكمته البالغة؛ فمِن الناس مَن يُبتلى في جسده بالأمراض، ومِن الناس مَن يُبتلى في أهله، ومِن الناس مَن يُبتلى في أولاده، ومِن الناس مَن يُبتلى في ماله، ومِن الناس مَن يُبتلى في حريته، ومِن الناس مَن يُبتلى بأذَى الناس له، ومِن الناس مَن يُبتلى بأنواعٍ من الابتلاءات. فهي ابتلاءاتٌ يُقدِّرها الله .
وأما كيف نُفرِّق بين أن هذا عقوبة أو أنه ابتلاء؟
فأولًا: هذا أَمْرُه إلى الله ، لكن قد تدل القرائن على شيءٍ من ذلك، فإذا كان الإنسان مُتَجَرِّئًا على حرمات الله تعالى، قد يكون هذا الذي أصابه عقوبة، وخاصة إذا كانت العقوبة من جنس العمل الذي عمله.
فمثلًا: إذا كان تسلَّط على أحد، فسلَّط اللهُ عليه مَن هو أقوى منه، قد تكون هذه عقوبة؛ لأن الجزاء من جنس العمل. وإذا كانت حال هذا الإنسان الاستقامة والصلاح، ثم أتته مصائب، فهذه قد تدل القرائن على أنها ابتلاء، ابتلاء من الله ورفعة.
لكن لا نستطيع القطع بأن هذا عقوبة أو أنه ابتلاء على سبيل القطع؛ لأن هذه أمور غيبية، لا ندري؛ فقد يكون صالحًا لكن الله تعالى عاقبه على معاصٍ فيما بينه وبين الله، فلا ندري، فلا يمكن الجزم بأن هذا عقوبة أو أنه ابتلاء.
لكن قد يُستأنس ببعض القرائن الدالة لذلك: أن من كان صالحًا تقيًّا فقد يكون الذي يصيبه ابتلاء، ومن كان مُتَجَرِّئًا على حرمات الله تعالى فقد يكون ما يصيبه عقوبة معجلة.
السؤال: أطلب منكم الدعاء لي ولوالدتي وزوجتي بالشفاء.
الجواب: أسأل الله تعالى العظيم، رب العرش العظيم، أن يشفيها، وأن يشفي مرضى المسلمين، وأن يوفق الجميع لما يحب ويرضى.
السؤال: قيل لرجل: بأنك لست رجلًا، قال: لو كان هناك شيء فوق الرجل لكنت أنا، فهل يعد قوله كِبرًا؟
الجواب: يعني مثل هذا الكلام غير لائق، ويُخشى على صاحبه، فالله تعالى خلقك هذا الخَلْق، فينبغي ألا تتكلم مثل هذا الكلام، الله تعالى يقول: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32]؛ فمثل هذه الكلمات ينبغي أن يتجنبها المسلم، وبعض الكلمات قد يستهين بها الإنسان وتُحبط العمل.
كما قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله : من ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفر لفلان، غفرت له، وأحبطت عملك[40].
السؤال: هل قول الإنسان: “في أمان الله” بدعة؟
الجواب: ليس بدعة، “في أمان الله” دعاء طيب، لكن ينبغي ألا يعتاض بذلك عن السلام، ينبغي ألا يستبدل قول “في أمان الله” عن السلام، فإذا جمع بينهما قال: “في أمان الله، السلام عليكم”، كان هذا حسنًا.
لكن بعض الناس يستغني بقول “في أمان الله” عن السلام، فهذا خلاف الأولى، لكن لا يصل إلى درجة البدعة.
السؤال: هل هِجَاء الشخص المُتعدِّي عليَّ، وانتشار الهجاء، يكون غِيبةً؟
الجواب: إذا ظُلِمْتَ يجوز لك أن تُقابِل الظالم بمثل الظلم الذي أوقعه عليك، كما قال سبحانه: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]، فلا تزِد على الظلم الذي أوقعه بك، فلو هجاك يجوز أن تهجوه، ولو سبك يجوز لك أن تسبه بمثل ما سبك به.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: المُسْتَبَّان، ما قالا فعلى البادئ؛ يعني: إذا اسْتَبَّ اثنان، فالإثم كله على البادئ، على الأول ما لم يَعْتَدِ المظلومُ[41].
فلو أن رجلًا سبَّكَ فسببته بمثل ما سبك، فالإثم كله عليه؛ لأنه هو البادئ، لكن لو أنك لما سبك سببته وسببت والديه، فإنك تأثم؛ لأنك سببت والديه، اعتديت.
فنقول للأخ الكريم: إذا كان هذا الرجل قد هجاك، يجوز لك أن تهجوه بمثل ما هجاك، أما إذا كان لم يَهْجُكَ، فتفعل به مثلما فعل بك، فإن صبرت فهو خير، وإن أعرضتَ عنه فهو خير.
ولهذا؛ قال سبحانه: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126]؛ فالأفضل هو الصبر، والإعراض عن هذا الجاهل، فإن هناك طبقة غير محترمة في المجتمع، في أيِّ مجتمعٍ فيه طبقةٌ غير محترمة، تستمتع بأذية الآخرين، فينبغي الإعراض عنها: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]، فالتعامل مع هذه الطبقة يكون بالإعراض عنها: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55].
السؤال: منزلنا يبعد عن المسجد سبع دقائق مشيًا على الأقدام، هل تجب عليَّ صلاة الجماعة؟
الجواب: إذا كان لو أذَّن المُؤذِّن بغير مُكبِّرِ الصوت، وسمعتم الأذان، فتجب عليكم صلاة الجماعة في المسجد، أما إذا كان لو أذَّن المؤذن بغير مكبر الصوت لم تسمعوا الأذان، فلا تجب عليكم الصلاة مع الجماعة في المسجد.
يعني: إذا كان البيت في حدود كيلو أو أقل تقريبًا فتجب الصلاة مع الجماعة، أما إذا كان أكثر من كيلو فلا يمكن أن يسمع صوت المؤذن إذا أذن في غير مكبر الصوت، إذا كان أكثر من كيلو. فإذن، الضابط هو سماع صوت المؤذن إذا أذن من غير مكبر الصوت.
ولهذا؛ لما أتى الرجلُ الأعمى للنبيِّ فقال: يا رسول الله، إني رجل أعمى، وليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل تجد لي رخصة في أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي : هل تسمع حي الصلاة، حي على الفلاح؟. قال: نعم. قال: فأجب[42].
فجعل النبي الضابط في هذا هو سماع الأذان، سماع “حي على الصلاة، حي على الفلاح”؛ من كان يسمع الأذان يجب عليه أن يصلي مع الجماعة في المسجد، أما من كان لا يسمع الأذان فلا تجب عليه صلاة الجماعة وإنما تستحب.
السؤال: ما الأفضل: أن ينتظر في المسجد بعد الصلاة إلى الصلاة الأخرى، أو يذهب إلى مسجد آخر ليصلي على الجنائز؟
الجواب: الأفضل أن يذهب إلى مسجد آخر ليصلي على الجنائز؛ لأن الفضل الوارد في الصلاة على الجنازة عظيم جدًّا، يقول النبي : مَن صلى على جنازة فله قيراط[43].
وظاهر الأحاديث أن القراريط تتعدد بتعدد الجنائز، فلو كان عدد الجنائز عشرًا، يكون لك عشرة قراريط، كل قيراط مثل جبل أُحُد حسنات، وهذا فضل عظيم على عملٍ يسير؛ ولهذا لمَّا بلغ ابن عمر هذا الحديث، قال: لقد فرَّطنا إذن في قراريط كثيرة.
السؤال: هذا الأخ الكريم يقول: قد عَلِمنا أن الصلاة تُكفِّر الصغائر، لكن هل صلواتنا على ما فيها من تقصير وضعف وعدم خشوع، تكفر الذنوب؟
الجواب: الصلاة تكفر الصغائر، ولا تكفر الكبائر، لكن الخشوع مستحب وليس واجبًا، فلو صلى الإنسان صلاة لم يخشع فيها من تكبيرة الإحرام إلى السلام، فالصلاة صحيحة ومبرئة للذمة، لكن ليس له من أجر صلاته إلا بمقدار ما عَقَل منها، فإن عَقَل العُشْر كان له أجر العشر، أو عقل النصف كان له أجر النصف، أو عقلها كلها يكون له الأجر كاملًا.
فالصلاة إذا كانت مكتملة الأركان والشروط والواجبات، فهي صلاة صحيحة مبرئة للذمة. وأما من جهة الأجر والثواب، فليس للمصلي من أجر صلاته إلا بمقدار ما عَقَل منها.
السؤال: إذا تاب الإنسان مِن المَنِّ والأذى في الصدقة، فهل يرجع له أجر هذه الصدقة؟
الجواب: الظاهر أنه لا يرجع؛ لأن المَنَّ والصدقة يُبطل الأجر تمامًا، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ يعني: مثل هذا الذي يَمْتنُّ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ يعني: حجر أملس عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ يعني: نزل عليه مطر غزير فَتَرَكَهُ صَلْدًا [البقرة:264].
أرأيت حجرًا أملس عليه تراب، ونزل عليه مطر غزير، هل سيبقى شيء من هذا التراب؟ سيذهب التراب كله، ما يبقى منه شيء، هكذا المن والأذى يُبطل أجر الصدقة تمامًا.
ولذلك؛ فمن تصدَّق بصدقةٍ، فليحذر ثم ليحذر من المنة والأذى، أهم ما ينبغي عند الصدقة حِفظ كرامة الفقير، لا يجوز أذيته بأية صورة من صور الأذى، فبعض الناس إذا أتاه الفقير يؤذيه بكلماتٍ، فيقول: مِن مدة طويلة وأنت تشحذ… نراك كذا، يرمي عليه كلمات، هذه الكلمات فيها أذية، فيها أذًى نفسيٌّ له، فهذه تُبطل الأجر، أو أنه يمتن عليه بأية صورة من صور المن، فهذه أيضًا تُبطل الأجر.
ولذلك؛ فالذي سيتصدق وسيُنفق بمنة وأذى، الأحسن ألا يفعل، لا يتصدق ولا ينفق، ولا يبذل شيئًا من ماله، وإنما يقول قولًا معروفًا، كما قال الله سبحانه: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263].
لكن، نقول للأخ الكريم الذي كان يَحصُل منه المِنَّة والأذى في الصدقة، نقول: تتوب إلى الله ، وفي المستقبل يكون لك الأجر كاملًا إن شاء الله، أما ما مضى فقد أبطلت أجر الصدقة بهذه المنة أو هذا الأذى.
السؤال: ما حكم تأخير قِسمة التركة تكاسلًا؟
الجواب: لا يجوز لمن بيده قسمة التركة أن يؤخرها من غير سبب ومن غير عذر؛ لأن هذا مَطْلٌ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَطْلُ الغني ظلمٌ[44]، وهذا في معنى مطل الغني.
لماذا تؤخر قسمة التركة؟ لماذا لا يُعطَى الورثةُ حقوقَهم؟ فهذا لا يجوز، وهذا الأمر منتشر مع الأسف، فيكون بعض من لهم نفوذ على التركة يستحوذون عليها، ويُؤخِّرون القسمة من غير سبب وبغير عذر.
فهذا لا يجوز، ويَكسِبون بذلك آثامًا كلَّ يومٍ يمضي على تأخير القسمة، يكسبون بسببه ذنوبًا وأوزارًا، وبعض الورثة قد يستحي أن يطالب بحقه، وبعضهم ربما يطالب ثم لا يستجاب له فيسكت. وهذا الذي تسبب في تأخير قسمة الميراث، هو الذي يبوء بالإثم.
فعليه أن يتقي الله ، وأن يبادر بقسمة الميراث، وأن يعطي كلَّ واحدٍ من الورثة حقَّه من غير منة، هذا هو حقه الذي شرعه الله له، هذا هو حقه الذي فرضه الله له، فليس لهذا منة عليه أصلًا.
فيجب أن يبادر، وأن يعطي أصحاب الورثة حقوقهم، أما ما يُرَى من تأخير قسمة الميراث، وأحيانًا تبقى سنين طويلة بدون سبب، فهذا لا يجوز، ويبوء الذي تسبب في التأخير بآثامٍ عظيمة عند الله .
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2, ^3, ^4, ^5 | رواه مسلم: 2760. |
^6, ^8, ^10, ^11 | رواه مسلم: 2761. |
^7, ^9 | رواه مسلم: 2762. |
^12 | رواه البخاري: 4634. |
^13 | رواه البيهقي في «البعث والنشور»: 293. |
^14 | رواه البخاري: 4712، ومسلم: 194. |
^15 | رواه مسلم: 202. |
^16 | رواه أحمد: 23937، وأبو داود: 1481. |
^17 | رواه البخاري: 6846، ومسلم: 1499. |
^18, ^19, ^20, ^21, ^22 | رواه مسلم: 2763. |
^23, ^24 | رواه الترمذي: 3377. |
^25 | رواه مسلم: 233. |
^26 | رواه مسلم: 667. |
^27 | رواه مسلم: 2764. |
^28 | رواه مسلم: 2765. |
^29, ^30, ^31 | رواه مسلم: 2766. |
^32 | رواه البخاري: 3470، ومسلم: 2766. |
^33, ^34, ^35, ^36 | رواه مسلم: 2767. |
^37 | رواه ابن ماجه: 4341. |
^38 | رواه أحمد: 22338، وأبو داود: 3090. |
^39 | رواه أحمد: 1481، والترمذي: 2561، وابن ماجه: 4023. |
^40 | رواه مسلم: 2621. |
^41 | رواه مسلم: 2587. |
^42 | رواه مسلم: 653. |
^43 | رواه البخاري: 1325، ومسلم: 945. |
^44 | رواه البخاري: 2287، ومسلم: 1564. |