عناصر المادة
تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.
هذا هو الدرس الواحد والستون في شرح “صحيح مسلم” في هذا اليوم: الثلاثاء غُرة شهر ربيع الأول من عام 1444 للهجرة، وكنا قد وصلنا إلى باب: سعة رحمة الله تعالى، وأنها تغلب غضبه، ووقفنا عند حديث أبي هريرة : جعل الله الرحمة مئة جزءٍ [2].
باب سعة رحمة الله تعالى، وأنها تغلب غضبه
القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا ووالديه ومشايخه والمسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
حديث: جعل الله الرحمة مئة جزءٍ ..
قال الإمام مسلمٌ رحمه الله تعالى:
حدثنا حرملة بن يحيى التَّجيبي: أخبرنا ابن وهبٍ: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ: أن سعيد بن المسيب أخبره: أن أبا هريرة قال: سمعتُ رسول الله يقول: جعل الله الرحمة مئة جزءٍ، فأمسك عنده تسعةً وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تُصيبه [3].
حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، قالوا: حدثنا إسماعيل -يعنون: ابن جعفر- عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: خلق الله مئة رحمةٍ، فوضع واحدةً بين خلقه، وخبَّأ عنده مئةً إلا واحدةً [4].
حدثنا محمد بن عبدالله بن نُمير: حدثنا أبي: حدثنا عبدالملك، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي قال: إن لله مئة رحمةٍ، أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجنِّ والإنس والبهائم والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحشُ على ولدها، وأخَّر الله تسعًا وتسعين رحمةً يرحم بها عباده يوم القيامة [5].
حدثني الحكم بن موسى: حدثنا معاذ بن معاذ: حدثنا سليمان التيمي: حدثنا أبو عثمان النَّهْدي، عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله : إن لله مئة رحمةٍ، فمنها رحمةٌ بها يتراحم الخلق بينهم، وتسعةٌ وتسعون ليوم القيامة [6].
وحدثنا محمد بن عبدالأعلى: حدثنا المُعتمر، عن أبيه بهذا الإسناد.
حدثنا ابن نُمير: حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: قال رسول الله : إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مئة رحمةٍ، كل رحمةٍ طِبَاق ما بين السماوات والأرض، فجعل منها في الأرض رحمةً، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعضٍ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة [7].
الشرح:
هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، وهو من أحاديث البشارة والرجاء للمسلمين؛ وذلك لأنه إذا حصل للإنسان من رحمةٍ واحدةٍ في هذه الدار المبنية على الأكدار، والتي خُلق الإنسان فيها في كبدٍ، ومع ذلك إذا حصل للإنسان من رحمةٍ واحدةٍ: الإسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به عليه، فكيف الظن بمئة رحمةٍ في الدار الآخرة التي هي دار القرار؟!
فهذا الحديث العظيم من أحاديث الرجاء، ومن أحاديث البشارة.
والرحمة المُضافة إلى الله تعالى على نوعين:
- النوع الأول: الرحمة التي هي صفته، وهي رحمةٌ حقيقيةٌ على الوجه اللائق بالله ، وهي صفةٌ من صفاته، وصفات الله غير مخلوقةٍ، كما في قوله سبحانه: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43].
- القسم الثاني: ما ذُكر في الحديث، وهي رحمةٌ مخلوقةٌ، وإضافتها إلى الله تعالى من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، كما قال سبحانه: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:50] يعني: المطر، سمَّى الله المطر: رحمة الله، وقال: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107] أي: في الجنة، فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ أي: الجنة، فهي رحمةٌ مخلوقةٌ.
وكما قال الله تعالى في الحديث القدسي للجنة: أنتِ رحمتي أرحم بكِ مَن أشاء [8]، فهذا القسم من الرحمة المخلوقة.
والرحمة المذكورة في هذا الحديث التي جعلها الله تعالى مئة جزءٍ، فأمسك عنده تسعةً وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا هي من هذا القسم: من الرحمة المخلوقة، والتي أنزل الله تعالى في الأرض منها جزءًا واحدًا فقط، وأما تسعةٌ وتسعون جزءًا فتكون يوم القيامة، بل إنها تُكمل كما جاء في رواية مسلمٍ: فإذا كان يوم القيامة أكملها الله بهذه الرحمة أي: أنها يوم القيامة تكون أيضًا مئة جزءٍ، وهي رحمةٌ عظيمةٌ، وكل رحمةٍ طِبَاق ما بين السماء والأرض.
ونحن نرى آثار هذه الرحمة في الدنيا: ترحم الأم طفلها، وترحم البهائم بعضها بعضًا، وتعطف البهيمة على ولدها، والطير على ولده، فنحن نرى آثار هذه الرحمة في الدنيا، فإذا كنا نرى آثار هذه الرحمة العظيمة في الدنيا، وهي جزءٌ واحدٌ من مئة جزءٍ، فكيف إذا ضُوعِفَتْ مئة مرةٍ؟!
وهذه الرحمة المخلوقة في الدنيا مع الرحمة التي تكون في الآخرة، هذه كلها من آثار رحمة الله التي هي صفةٌ من صفاته، فما أعظم رحمة الله !
فينبغي أن يُفهم هذا الحديث على الوجه الصحيح، بأن يُفهم أن الرحمة المذكورة في هذا الحديث -التي هي مئة جزءٍ- ليست الرحمة التي هي من صفات الله، لكنها الرحمة المخلوقة، مثل: الجنة، سمَّاها الله: رحمةً، والمطر، وغير ذلك من أقسام الرحمة المخلوقة، ولكن كيف تُضاعف هذه الرحمة؟ يعني: مَن الذي يرحم يوم القيامة؟ هل المقصود أن الناس يرحم بعضهم بعضًا، أو المقصود أن رحمة الله تتضاعف؟
قال المهلب: “الرحمة التي خلقها الله لعباده وجعلها في نفوسهم في الدنيا هي التي يتغافرون بها يوم القيامة تبعات”، أي: أنها تكون بين الناس، “ويجوز أن يستعمل الله تعالى تلك الرحمة فيهم فيرحمهم بها، سوى رحمته التي وسعتْ كل شيءٍ”.
والأقرب أن يُقال في معنى هذا الحديث: إن هذه الرحمة المخلوقة التي وسعت الخلائق كلها في الدنيا، والتي هي جزءٌ واحدٌ من مئة جزءٍ، أنها تتضاعف يوم القيامة إلى مئة مرةٍ من الله ، ومن الملائكة، ومن النَّبيين، وممن يشفع، ومن جميع الناس، فتكون رحمةً عظيمةً شاملةً، وهي من آثار رحمة الله التي هي صفةٌ من صفاته.
وهذا من عظيم رحمة الله بعباده: أن الله تعالى يرحمهم برحمته التي هي صفةٌ من صفاته، وكذلك يرحمهم بهذه الرحمة المخلوقة، ويجعل هذه الرحمة فيما بينهم، ويجعل أيضًا هذه الرحمة تكون من الأنبياء، ومن الملائكة، وممن يشفع؛ ولذلك تكون الشفاعة يوم القيامة لمَن مات على التوحيد، تشفع فيهم الملائكة، ويشفع فيهم المؤمنون، فمَن مات على التوحيد يقبل الله تعالى شفاعة مَن يشفع في إخراجه من النار بعدما يُعذب فيها ما شاء الله، لكنهم لا يُخلدون في النار أبد الآباد.
فهذا الحديث يدل على عظيم رحمة الله ، وعظيم كرمه، وإحسانه، ولُطفه، وسعة رحمته، وسعة جوده جلَّ وعلا، فانظر إلى هذا الربِّ العظيم كيف يرحم عباده بهذه الرحمة العظيمة.
ومرَّ معنا في الدرس السابق بيان النبي عليه الصلاة والسلام لعظيم فرح الله بتوبة عبده: لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته، ضَلَّتْ عنه، فالتمسها فلم يجدها، في مفازةٍ، ليس فيها شيءٌ، في مفازةٍ قَفْرٍ، ليس فيها أحدٌ، حتى أَيِسَ من الحياة، وجلس تحت ظلِّ شجرةٍ ينتظر الموت، فنام، فلما استيقظ إذا براحلته عنده عليها طعامه وشرابه، ففرح فرحًا عظيمًا، وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح [9].
الله تعالى يفرح بتوبة عبده فرحًا أعظم من فرح هذا الذي رأى الحياة بعد الموت، وهذا من عظيم فضل الله، وإلا فإن الله سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، لكن من حبِّه جلَّ وعلا للكرم والإحسان والجود لعباده، وعظيم رحمته، وعظيم عطائه وفضله وإحسانه وكرمه.
فانظر إلى هذه الصفات العظيمة لهذا الرب العظيم، فما أعظم جوده! وما أعظم رحمته! وما أعظم لُطفه! وما أعظم إحسانه إلى عباده جلَّ وعلا!
حديث: أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟
القارئ: حدثني الحسن بن علي الحلواني ومحمد بن سهل التميمي -واللفظ للحسن-: حدثنا ابن أبي مريم: حدثنا أبو غسان: حدثني زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب أنه قال: قدم على رسول الله بسبيٍ، فإذا امرأةٌ من السبي تبتغي، إذا وجدتْ صبيًّا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله : أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألا تطرحه. فقال رسول الله : لله أرحم بعباده من هذه بولدها [10].
الشرح:
هذا الحديث العظيم يُبيِّن فيه النبي عظيم رحمة الله سبحانه، وقرَّب ذلك بهذا المثل بهذه المرأة التي كانت من السَّبي، وفقدتْ صبيَّها، فقدتْ طفلها، وكان قد اجتمع في ضَرْعِها اللبن، فكانت كلما وجدتْ صبيًّا في السَّبي ألصقته ببطنها وأرضعته؛ لأنها قد تضررت باجتماع اللبن في ثديها، فتُرضع كلما وجدتْ صبيًّا؛ ليخفَّ عنها اللبن.
“فبينما هي كذلك”، وهذا قد جاء في روايةٍ أخرى عند غير مسلمٍ: “فبينما هي كذلك وجدتْ صبيَّها بعينه، فأخذته فالتزمته”.
فما ظنك بهذه الرحمة من هذه الأم التي فقدتْ صبيَّها ثم وجدته فأخذته وضمَّته وأرضعته، كيف تتصور هذه الرحمة؟!
رحمةٌ عظيمةٌ، ورحمة الله تعالى بعباده أعظم من رحمة هذه الأم بولدها.
سبحان الله!
انظر إلى عظيم رحمة الله .
وهذا يدل على عظيم رحمة الله بعباده، وأنها رحمةٌ عظيمةٌ، والنبي من حُسن تعليمه ضرب هذا المثل؛ لأجل تقريب المعنى، فإن رحمة الله لا تُدرك بالعقل، ولا يُحاط بها، ولكن النبي ضرب المثل بحال هذه المرأة المذكورة للتقريب، وهذا يدل على حُسن تعليمه عليه الصلاة والسلام، فكان يستخدم عدة أساليب في التعليم: تارةً بالسؤال، وتارةً بضرب المثل، وتارةً برسم الخطوط -يرسم خطوطًا- وتارةً بالإشارة، إلى غير ذلك من الأساليب التي كان يسلكها النبي في تعليم أصحابه.
وقد دلَّ هذا الحديث على أنه ينبغي أن يجعل العبدُ تعلقه في جميع أموره بالله تعالى وحده؛ لأن الله تعالى أرحم به من نفسه، فإذا كان الله تعالى أرحم بك من نفسك فاجعل تعلقك بالله سبحانه.
أنت تريد الخير لنفسك، الله أرحم بك من نفسك لنفسك، فرحمة الله تعالى بعباده عظيمةٌ؛ ولهذا سورة الفاتحة التي نقرأها في كل ركعةٍ من صلواتنا ابتدأها ربنا سبحانه بالحمد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ثم الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]؛ ليُبيِّن سبحانه عظيم رحمته.
والرحمن أتت على صيغة “فعلان” التي تدل على عظيم الرحمة وسعتها، والرحيم على وزن “فعيل”، أيضًا صيغة مُبالغة، فهي رحمةٌ عامةٌ لجميع الخلق، والرحيم رحمةٌ خاصةٌ بعباده المؤمنين.
حديث: لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ..
القارئ: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر -جميعًا- عن إسماعيل بن جعفر -قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل-: أخبرني العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحدٌ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحدٌ [11].
الشرح:
هذا الحديث يُبيِّن فيه النبي شدة عقوبة الله ، بحيث إن المؤمن لو علم بحقيقتها لما طمع في الجنة، ويُبيِّن كذلك سعة رحمة الله سبحانه، بحيث لو علم بها الكافر حقيقةً لما قنط من الجنة: لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحدٌ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحدٌ.
وقد اشتمل هذا الحديث على الوعد والوعيد المُتضمن للخوف والرجاء، فمَن علم أن من صفات الله تعالى الرحمة لمَن أراد أن يرحمه، والانتقام ممن أراد أن ينتقم منه فإنه يرجو رحمة الله، ولا يأمن من انتقامه، فيكون بين الخوف والرجاء، وهذا هو المطلوب من المسلم: أن يكون بين الخوف والرجاء، فلا يُغلِّب جانب الخوف حتى يقنط من رحمة الله، ولا يُغلِّب جانب الرجاء حتى يأمن من مكر الله، وإنما يكون بين الخوف والرجاء، وذلك باعثٌ على مُجانبة السيئة ولو كانت صغيرةً، ومُلازمة الطاعة ولو كانت قليلةً، لا تحتقر معصيةً وتقول: إنها صغيرةٌ، فإن النبي يقول: قال رجلٌ: والله لا يغفر الله لفلانٍ، قال الله: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفر لفلانٍ؟! فإني قد غفرتُ لفلانٍ، وأحبطتُ عملك [12]، كلمةٌ واحدةٌ تسببت في إحباط عمله، وربما تكلم بها هذا الرجل ولم يُلْقِ لها بَالًا.
بينما لما أتت عائشةَ امرأةٌ ومعها ابنتان تستطعمها، أعطتها عائشةُ ثلاث تمراتٍ، فأعطت كلَّ واحدةٍ من ابنتيها تمرةً، وأخذت التمرة الثالثة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فأخذت هذه التمرة وشقَّتها نصفين، وأعطتْ كل واحدةٍ من ابنتيها نصف تمرةٍ، ولم تأكل شيئًا، قالت عائشة: فأعجبني شأنها، فذكرتُ ذلك للنبي ، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله قد أوجب لها بها الجنة [13].
هل كان يخطر ببال هذه المرأة أن الله سيُوجب لها الجنة بسبب تمرةٍ أخذتها وقسمتها بين ابنتيها نصفين؟
فلا تحتقر من الطاعات والأعمال الصالحة شيئًا، قد يكون عملٌ صالحٌ يسيرٌ يكتب الله تعالى لك بسببه الجنة، ويرحمك الله تعالى به رحمةً عظيمةً، ويكون له القبول والموقع العظيم عند الله ، فلا تحتقر من الأعمال الصالحة شيئًا.
وفي المقابل أيضًا لا تحتقر السيئة، لا تحتقر المعصية، ربما تكون هذه المعصية سببًا لحبوط العمل، فالإنسان يكون في هذه الدنيا بين الخوف والرجاء؛ ولذلك يُشبه بعض العلماء حال المؤمن في سيره إلى الله بالطائر الذي له رأسٌ وجناحان، فالجناحان بمثابة الخوف والرجاء، والرأس بمثابة المحبة، فهو يسير إلى الله بالمحبة والخوف والرجاء، فالله عنده من العذاب شيءٌ عظيمٌ، وعنده من الرحمة شيءٌ عظيمٌ؛ ولهذا قال سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98].
واسمعوا إلى هذا الحديث العظيم الذي أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة ، عن النبي قال: لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددتُ لأهلها. فنظر إليها جبريل وما أعدَّ الله لأهلها، فرجع إليه وقال: وعزتك، لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها. فأمر بها فَحُفَّتْ بالمكاره، فقال الله لجبريل: ارجع إليها فانظر إليها وما أعددتُ لأهلها فيها. فرجع جبريل إليها وقد حُفَّتْ بالمكاره، قال: وعزتك، لقد خِفْتُ ألا يدخلها أحدٌ. قال: اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددتُ لأهلها فيها. قال: فنظر إليها جبريل، فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع إليه وقال: يا ربِّ، وعزتك، لا يسمع بها أحدٌ فيدخلها. فأمر بها فَحُفَّتْ بالشهوات، فقال: ارجع إليها فانظر إليها. فرجع إليها وقد حُفَّتْ بالشهوات، فقال جبريل: خشيتُ ألا ينجو منها أحدٌ إلا دخلها [14].
سبحان الله!
فالجنة حُفَّتْ بالمكاره، والنار حُفَّتْ بالشهوات، والجنة هي رحمة الله تعالى، يرحم بها مَن يشاء من عباده، والنار هي عذابه، يُعذِّب بها مَن يشاء.
فهذا الحديث العظيم: لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحدٌ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحدٌ، هذا الحديث يستدعي من المسلم أن يكون بين الخوف والرجاء؛ يرجو رحمة الله، ويرجو فضله وجنَّته، ويخشى من عقابه وعذابه، فيكون في سيره إلى الله بين الخوف والرجاء.
حديث: قال رجلٌ لم يعمل حسنةً قط لأهله: إذا مات فَحَرِّقوه ..
القارئ: حدثني محمد بن مرزوق ابن بنت مهدي بن ميمون: حدثنا روحٌ: حدثنا مالكٌ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: قال رجلٌ لم يعمل حسنةً قط لأهله: إذا مات فَحَرِّقوه، ثم اذروا نصفه في البَرِّ، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليُعذِّبنه عذابًا لا يُعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البَرَّ فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لِمَ فعلتَ هذا؟ قال: من خشيتك يا ربّ وأنت أعلم. فغفر الله له [15].
حدثنا محمد بن رافع وعبد بن حُميد، قال عبدٌ: أخبرنا، وقال ابن رافع -واللفظ له-: حدثنا عبدالرزاق: أخبرنا معمر قال: قال لي الزهري: ألا أُحدثك بحديثين عجيبين؟ قال الزهري: أخبرني حميد بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي قال: أسرف رجلٌ على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا متُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليُعذِّبني عذابًا ما عذَّبه أحدًا. فقال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أدِّي ما أخذتِ. فإذا هو قائمٌ، فقال له: ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: خشيتك يا ربّ -أو قال: مخافتك- فغفر له بذلك [16].
قال الزهري: وحدثني حُميد، عن أبي هريرة، عن رسول الله قال: دخلت امرأةٌ النارَ في هرةٍ ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خَشَاش الأرض، حتى ماتت هَزْلًا.
قال الزهري: ذلك لئلا يتَّكل رجلٌ، ولا ييأس رجلٌ [17].
حدثني أبو الربيع سليمان بن داود: حدثنا محمد بن حرب: حدثني الزبيدي: قال الزهري: حدثني حميد بن عبدالرحمن بن عوف، عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله يقول: أسرف عبدٌ على نفسه بنحو حديث معمر إلى قوله: فغفر الله له، ولم يذكر حديث المرأة في قصة الهرة، وفي حديث الزبيدي قال: فقال الله لكل شيءٍ أخذ منه شيئًا: أدِّ ما أخذتَ منه [18].
حدثني عبيدالله بن معاذ العنبري: حدثنا أبي: حدثنا شعبة، عن قتادة، سمع عقبة بن عبدالغافر يقول: سمعتُ أبا سعيدٍ الخدري يُحدث عن النبي : أن رجلًا فيمَن كان قبلكم راشه الله مالًا وولدًا، فقال لولده: لتفعلنَّ ما آمركم به، أو لأُولينَّ ميراثي غيركم، إذا أنا متُّ فأحرقوني وأكثر علمي أنه قال: ثم اسحقوني، فاذروني في الريح، فإني لم أَبْتَهِر عند الله خيرًا، وإن الله يقدر عليَّ أن يُعذِّبني، قال: فأخذ منهم ميثاقًا، ففعلوا ذلك به وربي، فقال الله: ما حملك على ما فعلتَ؟ فقال: مخافتك، قال: فما تلافاه غيرها [19].
وحدَّثناه يحيى بن حبيب الحارثي: حدثنا مُعتمر بن سليمان قال: قال لي أبي: حدثنا قتادة. ح، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا الحسن بن موسى: حدثنا شيبان بن عبدالرحمن. ح، وحدثنا ابن المثنى: حدثنا أبو الوليد: حدثنا أبو عوانة -كلاهما- عن قتادة، ذكروا جميعًا بإسناد شعبة نحو حديثه، وفي حديث شيبان وأبي عوانة: أن رجلًا من الناس رَغَسَه الله مالًا وولدًا، وفي حديث التيمي: فإنه لم يَبْتَئِر عند الله خيرًا، قال: فسَّرها قتادة: لم يدَّخر عند الله خيرًا. وفي حديث شيبان: فإنه -والله- مَا ابْتَأَرَ عند الله خيرًا، وفي حديث أبي عوانة: مَا امْتَأَرَ بالميم [20].
الشرح:
هذه قصة رجلٍ ممن كان قبلنا، قصَّها علينا النبي ، فهي قصةٌ عظيمةٌ، فيها العبر والدروس، فإن هذا الرجل لم يعمل خيرًا قط، لكن كان مُوحدًا؛ ولهذا جاء في رواية أحمد: كان رجلٌ ممن كان قبلكم لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد [21].
وقد اختلف العلماء في حال هذا الرجل اختلافًا كثيرًا، وذكر النووي عدة أقوالٍ، وقالت طائفةٌ: إنه لا يصح حمل هذا على أنه أراد نفي قُدرة الله؛ لأن الشَّك في قُدرة الله كفرٌ.
والأقرب -والله أعلم- كما قال الحافظ ابن حجر: أظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب عقله، ولم يَقُلْه قاصدًا لحقيقة معناه، بل كان في حاله كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يُؤاخذ بما صدر منه.
فهذا الرجل كان عنده خوفٌ عظيمٌ من الله سبحانه، وخشيةٌ شديدةٌ، ورأى أنه قد أسرف على نفسه، وأن الله أنعم عليه بالمال والولد، فلما حضرته الوفاة جمع أولاده وأخذ عليهم الميثاق أن يفعلوا ما يأمرهم به، قال: لأُولينَّ ميراثي غيركم يظهر أنه في زمنه كان يمكن أن يُحول الميراث لغير أولاده.
فأخذ عليهم العهد والمواثيق أن يفعلوا ذلك، فقالوا: ماذا نفعل؟ قال: إذا أنا مِتُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليُعذِّبني عذابًا ما عذَّبه أحدًا.
وبالفعل لما مات نفَّذ أولاده وصيته، فأحرقوه بالنار، ثم سحقوه، ثم ذروه في الريح في البحر، فأمر الله الأرض أن تُؤدي ما أخذتْ، يعني: تجمع جميع ذرَّات هذا الرجل، وهذا يدل على عظيم قُدرة الله.
وفي الرواية الأخرى: أن الله قال لكل شيءٍ أخذ منه: أَدِّ ما أخذتَ منه، فإذا به هذا الرجل بروحه وجسده.
فقال الله تعالى له: ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: خشيتك يا ربّ -أو قال: مخافتك- فغفر الله له.
سبحان الله!
وهو لم يعمل خيرًا قط، لكن وجد عنده هذه الأعمال القلبية من الخوف العظيم من الله، وخشية الله سبحانه؛ فغفر الله له.
وهذا يدل على فضيلة الخوف من الله ، وغلبته على العبد، وأن الخوف من الله من مقامات الإيمان، وبهذا انتفع هذا المُسرف على نفسه وحصلت له المغفرة بسبب خوفه العظيم وخشيته الشديدة من الله سبحانه.
ولا ضرر على العبد في غلبة الخوف عليه، حتى وإن كان عند الوفاة، وإن كان الأفضل أن يُغلب عند الوفاة الرجاء؛ لقول النبي : لا يَمُوتَنَّ أحدكم إلا وهو يُحْسِن الظنَّ بالله [22]، فالأفضل عند الوفاة أن يُغلب المسلم جانب الرجاء؛ ولذلك ينبغي أن يُذكر بمحاسنه وعظيم أعماله.
إذا حضرتَ إنسانًا حضرته الوفاة ذَكِّره بمحاسنه؛ حتى يعظم عنده الرجاء، تقول له: أنت وُلدتَ مسلمًا، ونشأتَ على التوحيد، وأنت تُحافظ على الصلوات، وأنت تفعل كذا وكذا، حتى يعظم عنده الرجاء؛ لأنه في هذا المقام عند الوفاة ينبغي أن يغلب جانب الرجاء على الخوف، وجانب حُسن الظنِّ بالله تعالى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يَمُوتَنَّ أحدكم إلا وهو يُحْسِن الظنَّ بالله، لكن مع ذلك لو غلب جانب الخوف والخشية -كما حصل لهذا الرجل- فلا يضره.
ودلَّ هذا الحديث على سعة رحمة الله وعظيم إحسانه لعباده، وإلا فإن هذا الرجل أولًا: لم يعمل خيرًا قط، وثانيًا: قال كلمةً شنيعةً، قال: لئن قدر الله عليَّ ليُعذِّبني، وهذه الكلمة لو قالها إنسانٌ وهو مُعتقدٌ لمعناها باختياره لكفر؛ لأنها شكٌّ في قُدرة الله، كيف يقول: لئن قدر الله عليَّ ليُعذِّبني؟!
ولكن هذا الرجل -كما سبق- إنما قال ذلك في حال ذهولٍ، ومن غير قصدٍ، لم يقصد حقيقة معناها، وإنما كان في حال ذهولٍ وغفلةٍ من شدة خشيته من الله سبحانه؛ ولذلك لم يُؤاخذه الله على هذه الكلمة، وإنما سأله -وهو أعلم-: ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: خشيتك، والله يعلم بأن الدافع الذي دفع هذا الرجل إلى هذا العمل هو خشية الله سبحانه، والخوف من الله ، فغفر الله له.
فانظر إلى عظيم رحمة الله سبحانه، وعظيم إحسانه إلى عباده جلَّ وعلا.
دلَّ هذا الحديث على عظيم شأن أعمال القلوب، وأنها ترفع صاحبها عند الله درجاتٍ عظيمةً، فهذا الرجل لم يعمل خيرًا قط، ومع ذلك لما حضرته الوفاة قال لأولاده هذه الكلمة، والتي فيها شناعةٌ، قال: إذا مِتُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليُعذِّبني عذابًا ما عذَّبه أحدًا، ومع ذلك غفر الله له بسبب ما قام بقلبه من عظيم الخشية لله ؛ ولهذا قال الله له: ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: خشيتك يا ربّ، فغفر الله له، فهذا يدل على عظيم شأن أعمال القلوب.
أعمال القلوب هي التي يتفاوت بها الناس تفاوتًا عظيمًا؛ ولهذا سعد بن معاذ أسلم وعمره واحدٌ وثلاثون، ومات وعمره سبعٌ وثلاثون أو ثمانٍ وثلاثون، بقي في الإسلام ستّ سنين أو سبع، ومع ذلك لما مات اهتزَّ لموته عرش الرحمن، والذي يظهر -والله أعلم- أن السبب في ذلك مع قِلة السنوات التي عاشها في الإسلام هو أعمال القلوب العظيمة التي عنده، ما كان يقوم بقلبه من أعمالٍ قلبيةٍ عظيمةٍ رفعته عند الله تعالى درجاتٍ عليةً.
فأعمال القلوب لها شأنٌ عظيمٌ، فترفع صاحبها عند الله درجاتٍ، وقد تكون سببًا لمغفرة الذنوب، كما حصل لهذا الرجل الذي لم يعمل خيرًا قط، لكنه كان على التوحيد، فغفر الله تعالى له بسبب خشيته لربه .
ولهذا ينبغي للمسلم أن يُعْنَى بأعمال القلوب من التعظيم لله سبحانه، والخشية لله، والخوف من الله، وحُسن الظن والرجاء بالله سبحانه، وقوة اليقين، هذه الأعمال القلبية ترفع صاحبها عند الله درجات، كما أخبر عليه الصلاة والسلام أن من صفات الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ أنهم: لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون [23] أي: عندهم قوة توكلٍ على الله ، والتَّوكل على الله من أعمال القلوب، فكان هؤلاء من الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ.
فالتفاوت بين الناس إنما يكون بأعمال القلوب، فأعمال القلوب لها شأنٌ عظيمٌ عند الله ؛ ولذلك ترى الرجلين يُصليان في المسجد، وبينهما في الفضل والأجر كما بين السماء والأرض بسبب ما قام في قلب أحدهما من أعمال القلوب من التعظيم لله والخشية، واستحضار عظيم الموقف، وعظيم المُناجاة لله سبحانه، بينما الذي بجانبه غافلٌ، سَاهٍ في هواجس ووساوس، فعلى المسلم أن يحرص على العناية بأعمال القلوب.
أيضًا من فوائد هذا الحديث: أنه ليس كل مَن وقع في الكفر يكون كافرًا، فهذا الرجل قال كلمة كفرٍ؛ لأنه شكَّ في قُدرة الله سبحانه، قال لبنيه: إذا مِتُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليُعذِّبني عذابًا ما عذَّبه أحدًا، هذه الكلمة تدل على شَكِّه في قُدرة الله، فوقع في الكفر، لكنه لم يكفر، بل غفر الله له بسبب خشيته لله سبحانه.
وهذه الكلمة قالها في حال ذهولٍ، وفي حال غفلةٍ، ولم يكن قاصدًا لمعناها، وإنما غلبتْ عليه الخشية والخوف من الله سبحانه، فهذا يدل على أنه ليس كل مَن وقع في الكفر يكون كافرًا؛ فلذلك ينبغي ألا يُستعجل في إطلاق الكفر على الناس، فمَن كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويُقيم شعائر الإسلام الأصل فيه الإسلام، لا يُحكم بكفره إلا بشروطٍ ثقيلةٍ، ولا يُحكم بكفره إلا بعدما تُقام عليه الحُجة، والذي يحكم بكفره أيضًا هم العلماء، ليس كل أحدٍ، فلا يستعجل الإنسان في إطلاق أحكام الكفر على الآخرين، وإنما لا بد من التَّثبت، وإلا فإنه إذا أطلق الكفر على إنسانٍ فإن كان هذا كافرًا وإلا رجع الكفر عليه.
فعلى المسلم أن يكون ورعًا، وأن يبتعد عن التَّعجل في إطلاق ألفاظ التَّكفير، وهكذا أيضًا ألفاظ التَّبديع والتَّفسيق ونحو ذلك، فهذا الإنسان الذي ربما تريد أن تُطلق عليه هذا الوصف قد يكون عنده مانعٌ، قد يكون معذورًا عند الله سبحانه، كما حصل لهذا الرجل، فهذا الرجل قال كلمة كفرٍ؛ شَكَّ في قُدرة الله، لكن قالها بحال ذهولٍ وغفلةٍ، وحمله على ذلك خشية الله سبحانه، فغفر الله له.
ومن هنا أخذ العلماء هذه القاعدة: ليس كل مَن وقع في الكفر يكون كافرًا، فقد يقع في الكفر ولا يكون كافرًا بسبب الجهل، أو بسبب عدم القصد، أو بسبب الخطأ، أو لأسبابٍ أخرى، فلا بد من إقامة الحُجَّة عليه، ولا بد من شروطٍ ثقيلةٍ للحكم بكفره.
ولهذا ينبغي أن يكون الإنسان المسلم عفيفًا؛ ولهذا لما قيل للإمام أحمد، قال له ابنه: هل تَسُبُّ يزيد؟ قال: “ومتى رأيتَ أباك يَسُبُّ أحدًا؟!” لسانه عفيفٌ، وهذا لسان الأئمة والعلماء أتباع الأنبياء: “ومتى رأيتَ أباك يَسُبُّ أحدًا؟!”.
فينبغي أن يكون لسان المسلم عفيفًا، فإنك لن تُسأل في قبرك: لماذا لم تُكفر فلانًا؟ ولم تُكفر فلانًا؟ ولم تُفسق فلانًا، وتُبَدِّع فلانًا؟ إلا مَن كان واضحًا كفره، أما مَن كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، هذا الأصل أنه مسلمٌ، ومن المسلمين، لا يُقال بكفره إلا بشروطٍ ذكرها العلماء، وبشروطٍ ثقيلةٍ، ولا بد من إقامة الحُجَّة عليه، والذي يُكفره هم العلماء، فينبغي للمسلم ألا يستعجل في إطلاق ألفاظ التكفير والتَّبديع والتَّفسيق، وإنما يتثبت ويرجع في ذلك لكبار أهل العلم.
وبقيت فائدةٌ مُتعلقةٌ بهذه القصة: قال النووي: “إن هذا الرجل إنما أوصى بذلك بنيه تحقيرًا لنفسه وعقوبةً لها؛ لعصيانها وإسرافها؛ رجاء أن يرحمه الله”، فهو أيضًا قد رجا العفو من الله سبحانه، ورجا الرحمة، يعني: فعل هذا الفعل رجاء أن يرحمه الله، وجمع بين الخشية لله وعظيم الرجاء في عفو الله سبحانه؛ ولذلك غفر الله له، فليس فقط عنده خشيةٌ، وإنما أيضًا جمع مع الخشية الرجاء؛ ولذلك ذكرنا أن الذي كان سببًا في مغفرة الذنوب لهذا الرجل هو أعمال القلوب التي عنده؛ فعنده خشيةٌ عظيمةٌ من الله، وعنده أيضًا رجاء عظيمٌ لله سبحانه في أن يغفر له بسبب صنيعه هذا.
فهذه الأعمال القلبية -شدة الخشية وعظيم الرجاء- كانت سببًا في مغفرة ذنوبه، فهذا يدل على عظيم شأن أعمال القلوب.
طالب: ما الفرق بين تكفير الفاعل وتكفير الفعل؟
الشيخ: الفعل تقول: هذا العمل كفرٌ، لكن ما يلزم منه تكفير الفاعل؛ لأن الفاعل قد يوجد لديه مانعٌ، قد يكون وقع في هذا العمل لكنه عن جهلٍ، أو وقع عن خطأ، أو وقع عن نسيانٍ، فقد يوجد مانعٌ يمنع من إطلاق التكفير عليه، لكن الفعل نفسه كفرٌ، مثلما حصل في قصة هذا الرجل: الشك في قُدرة الله كفرٌ، لكن وُجِدَ مانعٌ منع من كفر هذا الرجل، وهو: أنه لم يقصد، حصل هذا في حال ذهولٍ وغفلةٍ، ومن شدة خشيته لله .
طيب، هنا في إحدى الروايات لهذا الحديث -رواية الزهري لما ذكر هذا الحديث- قال الزهري: وحدثني حميد، عن أبي هريرة، عن رسول الله قال: دخلت امرأةٌ النار في هِرَّةٍ ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت هَزْلًا.
قال الزهري: “ذلك لئلا يتَّكل رجلٌ، ولا ييأس رجلٌ”، يعني: لما ذكر هذا الحديث؛ حديث هذا الرجل الذي شكَّ في قُدرة الله، ومع ذلك غفر الله له، هذا يستدعي عظيم الرجاء في رحمة الله، يعني: كيف أن الله سبحانه عامل هذا الرجل الذي لم يعمل خيرًا قط، لكن بسبب هذه الأعمال القلبية غفر الله له، فحتى لا يتَّكل الناس على عظيم رجاء الله سبحانه ويدعوا العمل هنا أورد الحديث الآخر، وهو: أن امرأةً دخلت النار بسبب هِرَّةٍ حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، فحتى لا يتَّكل الناس يقول: كما أن الله تعالى غفورٌ رحيمٌ، فهو شديد العقاب، فحبس هِرَّةٍ تسببت في دخول امرأةٍ النار.
إذن ينبغي أن يكون المسلم بين الخوف والرجاء، فلا يُغلب جانب الرجاء عندما يسمع هذه الأحاديث ويقول: الله غفورٌ رحيمٌ، ويُغلب جانب الرجاء، ويأمن من مكر الله، نقول: كما أن الله غفورٌ رحيمٌ، فهو شديد العقاب أيضًا.
فانظر كيف أن هذه المرأة دخلت النار بسبب هرةٍ، فالله تعالى شديد العقاب، وهذه المرأة عذَّبتْ هذه الهرة واستضعفتها وحبستها حتى ماتت هذه الهرة من الجوع، لا هي أطعمتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها في أرض الله الواسعة فيرزقها الله تعالى، فإنه ما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها، فعُذِّبتْ هذه المرأة ودخلت النار بسبب هرةٍ.
ولذلك ليس هناك دينٌ من الأديان، ولا مِلَّةٌ من المِلل راعت حقوق الحيوان مثل دين الإسلام، فضلًا عن حقوق الإنسان، فالجمعيات التي تتشدق برعاية حقوق الحيوان، نقول: عندنا في الإسلام ما هو أعظم، يعني: هذه المرأة دخلت النار بسبب حبسها لهرةٍ، بسبب حبسها لهذه الهرة دخلت النار.
فهذه الشريعة العظيمة شاملةٌ لكل ما يحتاج إليه الناس، راعت حقوق جميع الخلائق بما فيها الحيوانات.
يعني: الإمام مسلم لاحظ كيف أنه أورد هذه الرواية -رواية: دخلت النار امرأةٌ في هرةٍ- بين روايات هذه القصة، وكما قال الزهري: “لئلا يتَّكل رجلٌ، ولا ييأس رجلٌ”، يعني: يكون المسلم بين الخوف والرجاء.
باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة
حديث: أذنب عبدٌ ذنبًا، قال: اللهم اغفر لي ذنبي ..
حدثني عبدالأعلى بن حماد: حدثنا حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن عبدالرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، عن النبي فيما يحكي عن ربه قال: أذنب عبدٌ ذنبًا، قال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ، اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ، اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئتَ، فقد غفرتُ لك، قال عبدالأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: اعمل ما شئتَ [24].
قال أبو أحمد: حدثنا محمد بن زنجويه القرشي القشيري: حدثنا عبدالأعلى بن حماد النّرسي بهذا الإسناد.
حدثني عبد بن حميد: حدثني أبو الوليد: حدثنا همام: حدثنا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة قال: كان بالمدينة قاصٌّ يُقال له: عبدالرحمن بن أبي عمرة، قال: فسمعتُه يقول: سمعتُ أبا هريرة يقول: سمعتُ رسول الله يقول: إن عبدًا أذنب ذنبًا بمعنى حديث حماد بن سلمة، وذكر ثلاث مراتٍ: أذنب ذنبًا، وفي الثالثة: قد غفرتُ لعبدي، فليعمل ما شاء [25].
الشرح:
هذا الحديث حديث أبي هريرة ، عن النبي فيما يحكي عن ربه جلَّ وعلا، قال: أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ، اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ، اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئتَ، فقد غفرتُ لك .
لا بد من الفهم الصحيح لهذا الحديث، ليس المعنى: أن الإنسان يُذنب الذنب وهو مُصِرٌّ على المعصية، ثم يستغفر فيُغفر له، وهو قد أصرَّ في قرارة نفسه على أن يعود للذنب مرةً أخرى، فإن هذا كالسخرية والاستهزاء بالله ، وليس هذا هو المقصود من الحديث، ولكن المقصود من الحديث: أن هذا العبد لما أذنب ذنبًا تاب إلى الله ، وحقق شروط التوبة التي هي: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما حصل منه، والعزم على ألا يعود إليه مرةً أخرى، فتاب إلى الله ، واستغفر الله، فغفر الله له.
ولذلك قال الله: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، فغفر الله تعالى له لما استغفر الله مع التوبة، وقد حقق شروط التوبة، وعزم عزمًا صادقًا على ألا يعود للذنب وندم، لكن مع مرور الوقت حصلتْ له حالة ضعفٍ للنفس؛ فعاد للذنب مرةً أخرى، فرجع وتاب إلى الله تعالى مرةً أخرى، مُحققًا شروط التوبة، وهي: الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزم على ألا يعود إليه مرةً أخرى، فغفر الله له، وقال: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب.
ثم مع مرور الزمن ضعفتْ نفسه مرةً أخرى؛ فوقع في الذنب نفسه، ورجع وتاب إلى الله سبحانه، وحقق شروط التوبة من الندم، ومن الإقلاع عن الذنب، والعزم الصادق على ألا يعود إليه، فقال الله: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرتُ له.
فهذا العبد يتوب إلى الله صادقًا، لكن تضعف نفسه فيرجع للذنب مرةً أخرى؛ ولذلك قال الله في آخر الحديث: اعمل ما شئتَ، فقد غفرتُ لك يعني: ما دمتَ تستغفرني، قال في الثالثة: قد غفرتُ لعبدي، فليعمل ما شاء يعني: ما دام أنه سيتوب توبةً صادقةً، فالله تعالى يتوب على مَن تاب.
وهذا يدل على عظيم مغفرة الله سبحانه، وعظيم إحسانه لعباده ورحمته بهم، فإنهم بشرٌ، والإنسان ضعيفٌ، قد يتوب إلى الله تعالى توبةً صادقةً، ثم تأتيه حالة ضعف النفس فيعود للذنب مرةً ثانيةً، والله تعالى يعلم ضعف عباده؛ ولذلك فتح باب التوبة لهم.
المهم أنه عندما يتوب يتوب صادقًا، مُحققًا شروط التوبة، فإن تخلف شرطٌ واحدٌ منها لم تصح توبته، فلو أنه لما تاب لم يُقلع عن الذنب، واستمر على المعصية، فتوبته لا تصح، أو أنه لما تاب لم يندم، ما حصل عنده ندمٌ على ما وقع منه، لم تصح التوبة، أو أنه لما تاب عزم على أن يعود للذنب مرةً أخرى، لم تصح توبته.
فلا بد من تحقيق شروط التوبة، فإذا تحققتْ شروط التوبة صحَّت التوبة، وغفر الله له ذنبه، وإن عاد مرةً ثانيةً للذنب، وحقق شروط التوبة مرةً ثانيةً، غفر الله له، وإن عاد للذنب مرةً ثالثةً، وحقق شروط التوبة، غفر الله له، المهم أنه عندما يتوب يُحقق شروط التوبة، ومنها: أن يعزم على ألا يعود للذنب مرةً أخرى.
والله تعالى يُحب التَّوابين، يُحب مَن يُكثر التوبة، فهذا يدل على عظيم مغفرة الله سبحانه، وعظيم رحمته بعباده، وعلمه سبحانه بضعفهم، فإن الإنسان بشرٌ، قد يعزم على ألا يعود للذنب مرةً ثانيةً، ثم تضعف نفسه ويعود، والله يعلم ذلك -يعلم ضعف الإنسان-؛ ولذلك فتح الله تعالى لعباده باب التوبة.
وهذا يستدعي من المسلم ألا ييأس من رحمة الله، كلما وقع الإنسان في ذنبٍ -أي ذنبٍ- ينبغي أن يُبادر للتوبة والاستغفار، ويُحقق شروط التوبة، والأكمل أن يقوم ويتوضأ ويُصلي ركعتين، ثم يستغفر الله ويتوب إليه، مُحققًا شروط التوبة، فإنه قد جاء في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ما من عبدٍ يُذنب ذنبًا، فَيُحْسِن الطّهور، ثم يقوم فيُصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له [26].
اجعل هذا مبدأً لك في حياتك: كلما وقعتَ في أي ذنبٍ، أو أي معصيةٍ، قم وتوضأ وصلِّ ركعتين، واستغفر الله ، مُحققًا شروط التوبة؛ يغفر الله تعالى لك ويتوب عليك.
حديث: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار ..
القارئ: حدثنا محمد بن المُثنى: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرة قال: سمعتُ أبا عبيدة يُحدث عن أبي موسى، عن النبي قال: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها [27].
وحدثناه محمد بن بشار: حدثنا أبو داود: حدثنا شعبة بهذا الإسناد نحوه.
الشرح:
هذا الحديث حديث أبي موسى : أن النبي قال: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذا يدل على أن باب التوبة مفتوحٌ، إذا تاب الإنسان في أي ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ بشرط ألا يُغلق باب التوبة، ويُغلق باب التوبة عن الإنسان في حالين:
الحال الأولى: عندما تطلع الشمس من مغربها، وهذا إنما يكون في آخر الدنيا عندما تظهر أشراط الساعة الكبرى، والتي تبتدئ بخروج المهدي، ثم المسيح الدجال، ثم نزول عيسى ابن مريم، ثم يأجوج ومأجوج، ثم بعد ذلك في آخر الأمر تكون هناك أحداثٌ كثيرةٌ ومُتسارعةٌ، تكون أحداث الساعة الكبرى مُتسارعةً كحبَّات الخرز إذا انفرط العقد، ثم يكون في آخر الأمر: أن الشمس تطلع من مغربها، والعادة أن الشمس تطلع من جهة الشرق، لكن تطلع الشمس من جهة الغرب.
فإذا طلعت الشمس من جهة الغرب آمن جميع مَن في الأرض؛ لأنهم يرون آيةً كونيةً عظيمةً، والإنسان إذا رأى الآية الكونية العظيمة لا يستطيع أن يُنكرها؛ لأن إنكارها مُكابرةٌ؛ ولهذا قال سبحانه: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء:4] يعني: لو نزَّل الله على الناس آيةً كونيةً آمنوا إيمانًا جبريًّا، لكن الله لا يريد هذا، يريد الإيمان الاختياري.
فإذا رأى الناس الشمس طلعت من مغربها آمنوا أجمعون، وتابوا إلى الله، لكن يُغلق باب التوبة، فلا تُقبل التوبة إذا طلعت الشمس من مغربها، وهذا هو المقصود بقول الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، تفسير بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يعني: طلوع الشمس من مغربها.
إذن يُغلق باب التوبة إذا طلعت الشمس من مغربها.
والحال الثانية: إذا بلغت الروح الحلقوم، فيُغلق على العبد باب التوبة؛ لأنه إذا بلغت الروح الحلقوم، وعاين الإنسان الملائكة التي تقبض روحه انتقل من الغيب إلى الشهادة، وإذا انتقل من الغيب إلى الشهادة لا يقع التَّكليف حينئذٍ، فيتوب الإنسان، يريد أن يُؤمن، لكن لا ينفعه إيمانه ولا توبته؛ ولذلك أكبر طاغيةٍ في تاريخ البشرية -وهو فرعون- لما أدركه الموت آمن: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، لكن لا ينفعه إيمانه في هذه الحال؛ لأنه انتقل من الغيب إلى الشهادة، والاختبار إنما يقع على الإيمان بالغيب، أما الإيمان بالشهادة فهذا لا يُنكره أحدٌ، حتى الحيوانات تُؤمن بالشيء المحسوس.
إذن تُقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها، وما لم تبلغ الروح الحلقوم؛ ولهذا يبسط الله تعالى يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل، وهذا يدل على عظيم رحمة الله سبحانه ومغفرته لعباده، وأنه يُحب التوبة من عباده، سواء كانت التوبة من ذنبٍ، أو كانت التوبة من جميع الذنوب، فالله تعالى يقبل التوبة من جميع الذنوب، وهي التوبة النَّصوح: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ويقبل التوبة من ذنبٍ دون ذنبٍ على القول الراجح: أنه تصح التوبة من ذنبٍ دون ذنبٍ.
يعني: إنسانًا عنده عدة معاصٍ، تاب -مثلًا- من معصيةٍ واحدةٍ من هذه المعاصي، تصح توبته على القول الراجح، فالله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها فيُغلق باب التوبة، وبالنسبة للإنسان حتى تبلغ الروح الحلقوم فيُغلق في وجهه باب التوبة.
ونقف عند باب: غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش، فالكلام عنه يطول، ونفتتح به الدرس القادم، إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نُجيب عما تيسر من الأسئلة بين الأذان والإقامة.
الأسئلة
السؤال: هذا سؤالٌ يقول فيه السائل: ما الفرق بين مغفرة الذنوب وتكفير السيئات؟
الجواب: أولًا: إذا أُطلق مغفرة الذنوب شمل معنى تكفير السيئات، وإذا أُطلق تكفير السيئات شمل معنى مغفرة الذنوب، وهذا له نظائر، مثل: الإسلام والإيمان، فإذا أُطلق الإسلام شمل الإيمان، وإذا أُطلق الإيمان شمل الإسلام، ومثل: الفقير والمسكين، إذا أُطلق أحدهما شمل الآخر، ولكن إذا اجتمع هذان اللفظان -وهما مغفرة الذنوب وتكفير السيئات- كما في قول الله تعالى عن المؤمنين أنهم كانوا يقولون في دعائهم: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران:193]، فما الفرق بين: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا؟
للعلماء في ذلك ثلاثة أقوالٍ:
- القول الأول: أنهما بمعنًى واحدٍ، فتكون وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا تأكيدًا لمعنى مغفرة الذنوب.
وممن ذهب لهذا القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن”، ولكن هذا القول مرجوحٌ؛ لأن الأصل في الكلام التَّأسيس، وليس التأكيد. - والقول الثاني: أن معنى فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا أي: فيما كان بين العبد وربه، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا أي: فيما كان بين العبد والآخرين، يعني: من حقوق العباد، فيكون فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا يعني: فيما يتعلق بحقوق الله، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا فيما يتعلق بحقوق العباد.
- والقول الثالث: أن معنى فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا أي: المقصود بذلك: الكبائر، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا الصغائر.
وهذا هو القول الراجح، وقد اختاره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى؛ وذلك لأن تكفير السيئات لم يرد في النصوص إلا على الصغائر، كما في قول الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، وكما في قول النبي : الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ ما بينهن إذا اجتنب الكبائر [28].
فالأظهر -والله أعلم- في الفرق بين مغفرة الذنوب وتكفير السيئات: أن مغفرة الذنوب يعني: مغفرة كبائر الذنوب، وأن تكفير السيئات يعني: تكفير صغائر الذنوب.
هذا هو القول الراجح في ذلك؛ ولهذا فإن الأمراض والابتلاءات مُكفِّراتٌ، وليست مغفرةً، وإنما مُكفِّراتٌ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ما يُصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ .. حتى الشوكة يُشاكها إلا .. ما قال: غفر الله له، وإنما قال: إلا كفَّر الله بها من خطاياه [29]؛ لأن هذه الابتلاءات وهذه المصائب تُكفر الصغائر، وأما الكبائر فلا بد فيها من التوبة، فالكبائر لا تُكفرها إلا التوبة.
فهذا هو حاصل كلام أهل العلم في الفرق بين مغفرة الذنوب وتكفير السيئات.
السؤال: أُذِّن للمغرب وتبقى على وصولي للمنزل نصف ساعةٍ أو أقلّ، وأنا مُسافرٌ، فهل لي أن أجمع العشاء مع المغرب؟
الجواب: إذا كنت مُسافرًا فالأمر واسعٌ، فلك أن تجمع العشاء مع المغرب، سواء جمع تقديمٍ في وقت المغرب، أو جمع تأخيرٍ في وقت العشاء، فإذا كان ذلك بعد أذان المغرب بنصف ساعةٍ فيكون جمع تقديمٍ إذا جمعتَ العشاء مع المغرب، فما دُمتَ مُسافرًا فالأمر واسعٌ، والأمر إليك: إن شئتَ جمعتَ جمع تقديمٍ، أو جمعتَ جمع تأخيرٍ.
السؤال: آتي إلى الرياض للدراسة، وأجلس فيها ثلاثة أيامٍ، وفي بعض الفصول خمسة أيامٍ، هل لي أن أقصر الصلاة وأن أجمعها؟ علمًا بأن بلدي أبعد عن الرياض بأكثر من مئة كيلو.
الجواب: أولًا: مسافة الطريق لك القصر والجمع والتَّرخص بِرُخَص السفر، أما وجودك في بلدك، أو وجودك في الرياض، فلستَ مُسافرًا، بل أنت صاحب إقامتين: إقامة في هذا البلد الذي قلتَ أنه يبعد مئة كيلو، وإقامة أخرى في الرياض، فأنت صاحب إقامتين، وليس لك التَّرخص بِرُخَص السفر، كمَن له زوجتان: زوجةٌ في الرياض، وزوجةٌ في بلدٍ آخر، لا يُقال: إنه هنا مُسافرٌ، ولا هنا مُسافرٌ.
فالإقامة قد تتعدد عند الإنسان، قد تكون عند الإنسان أكثر من إقامةٍ، قد تكون عنده إقامتان، قد تكون عنده ثلاث إقاماتٍ، قد تكون عنده أكثر، والمرجع في ذلك للعُرف، والناس في عُرفهم أنك في الرياض لستَ بمُسافرٍ.
ولذلك لو أنك أفطرتَ في نهار رمضان وأنت طالبٌ تدرس في الرياض أنكر عليك الناس ولم يعذروك؛ لأنهم لا يعتبرونك مسافرًا.
ثم هل الأصل في الإنسان الإقامة أم السفر؟
الجواب: الأصل الإقامة، ولا يُعدُّ الإنسان مُسافرًا إلا بأمرٍ واضحٍ ينقله عن هذا الأصل، فإذا شككتَ هل أنت مُسافرٌ أو مُقيمٌ؟ ترجع للأصل وهو الإقامة.
ثم الأصل في السفر أنه البروز في الصحراء، هذا هو المعروف في معنى السفر عند العرب، وما كانت العرب تُسمي الإنسان المُسافر إذا أقام: مسافرًا، لكن دلَّت السنة على أنه إذا أقام مدةً معينةً -على خلافٍ بين العلماء في تحديد هذه المدة- أنه يترخص بِرُخَص السفر.
فينبغي عدم التوسع في هذا المعنى: عدم التوسع في اعتباره مُسافرًا، حتى وإن أقام إقامةً يتبسط فيها ويفعل كما يفعل المُقيم تمامًا.
ثم إنك إذا أتممتَ فصلاتك صحيحةٌ عند جميع العلماء، وإذا قصرتَ فصلاتك غير صحيحةٍ عند كثيرٍ من أهل العلم.
فالذي ينبغي في المسائل الخلافية التي ليس فيها نصٌّ واضحٌ يحسمها، أو آثارٌ ظاهرةٌ عن الصحابة أن يسلك فيها المسلم مسلك الاحتياط، ومسلك الورع؛ لأن مثل هذه المسائل قد تختلف فيها أنظار العلماء؛ لأن مبناها على النظر، يعني: هل العُرف أنك مُسافرٌ أو مُقيمٌ؟
هذه من مسائل تحقيق المناط التي يحصل فيها الخلاف الكثير بين العلماء، خاصةً مع اضطراب العُرف في الوقت الحاضر في السفر؛ ولذلك في مثل هذه المسائل ننصح بالاحتياط.
وخُذْ فائدةً: المسائل التي ليس فيها نصٌّ واضحٌ يحسمها، ومبناها على النظر والتعليل خُذْ فيها بالأحوط وبقول الأكثر.
المسائل التي ليس فيها نصٌّ واضحٌ، وليس فيها آثارٌ ظاهرةٌ عن الصحابة، ومبناها على النظر والتعليل، وهي خلافيةٌ خُذْ فيها بقول الأكثر والقول الأحوط في المسألة.
اجعل هذه قاعدةً لك، هذه قاعدةٌ مفيدةٌ لطالب العلم، وهي أيضًا من مُقتضيات الورع، فمُقتضيات الورع أنك تحتاط لدينك، تقول: ربما يكون الصواب في هذه المسألة القول الآخر، قول الأكثر، قول جماهير علماء الأمة، فلماذا أُعرض -مثلًا- صلاتي للبطلان؟
فالمسائل التي لا يحسمها نصٌّ ظاهرٌ، ولا آثارٌ ظاهرةٌ عن الصحابة خُذْ فيها بالأحوط وقول الأكثر.
السؤال: تحديتُ صاحبي في مسألةٍ فقلتُ: إن كان القول الصحيح ما تقوله فإنه لك عشاء. وحدث أن القول الصحيح قوله؛ فعشيتُه بدون طيبة نفسٍ منه، فما الحكم؟
الجواب: هذا لا يجوز، الرهان لا يجوز إلا فيما ورد فيه النص في قول النبي : لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ، أو نَصْلٍ، أو حافرٍ [30] يعني: في الإبل والخيل والسهام فقط، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: لا سَبَقَ، “لا” نافيةٌ للجنس تُفيد العموم، و”سَبَقَ” نكرةٌ في سياق النفي.
فالأصل في هذا الباب المنع؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: لا سَبَقَ يدل على أن الأصل في هذا الباب المنع إلا ما استثناه النص.
فالرهان على غير هذه الأمور المنصوص عليها لا يجوز، فهذا التَّحدي الذي تحديتَ به صاحبك -يعني: راهنته- لا يجوز.
فالمطلوب منك الآن أن تتوب إلى الله ، وألا يحصل هذا الأمر مرةً أخرى.
السؤال: نصيحةٌ لمَن يريد أن يحفظ القرآن، لكنه يخاف من الرياء.
الجواب: هذا الخوف من الشيطان، والشيطان للإنسان بالمرصاد، والشيطان عنده مكرٌ وخُبْثٌ، يعرف مواطن الضعف عند الإنسان؛ ولذلك لما أراد إغواء أبينا آدم وأمنا حواء ما قال: كُلَا من الشجرة، قال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20]، ثم أقسم لهما بالله: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]، فأتاهما بهذا الطريق الخبيث الماكر، وعن طريق نقطة الضعف في الإنسان، وهي الحرص والطمع.
فقد يأتي الشيطان للإنسان ويقول: لا تحفظ القرآن؛ لأنك إذا حفظتَ ستكون مُرائيًا. هذا من الشيطان، وعند بعض السلف مقولة: العمل من أجل الناس رياء، وترك العمل لأجل الناس رياء.
فنقول للأخ الكريم: اترك عنك وساوس الشيطان، وأقبل على حفظ القرآن، واستحضر أن ما يأتيك من هذه الوساوس من الشيطان الرجيم؛ لأنه يريد أن يصدَّك عن حفظ كتاب الله سبحانه، وحفظ كلام الله سبحانه منقبةٌ عظيمةٌ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البَرَرَة [31]، فكيف تُفوت على نفسك هذه المنقبة، وهذه الدرجة الرفيعة: أنك تكون مع السَّفرة الكرام البَرَرَة؟!
فأعرض عن وساوس الشيطان، وأقبل على حفظ كتاب الله حتى تنال هذا الشرف.
السؤال: نريد منك نصيحةً لمَن يتبع زلة بعض العلماء أو التَّصنيف أو الإثارة ونحو ذلك.
الجواب: مَن يفعل ذلك، مَن يتتبع الزلات، ويشتغل بالتصنيف، وقيل وقال، وفلانٌ فيه كذا، هذا يُحرم بركة العلم، تُنزع البركة من علمه، ويقسو قلبه، ولا يحصل منه النفع، وإنما يبقى يدور في حلقةٍ مُفرغةٍ، في فلانٍ وعلان، وتصنيف فلان، وقال فلانٌ، ويعيش على هذا المنهج، وربما يكسب بسبب ذلك ذنوبًا عظيمةً بسبب الطعن في الأعراض، وقذف الأبرياء، والوقوع في الغيبة.
وتأول الإنسان فيما يتعلق بحقوق العباد لا ينفعه، هذه حقوق عبادٍ مبناها على المُشاحة، فهذا الذي قد قذفته بما هو منه براء سيأخذ منك يوم القيامة حسناتٍ، فإن لم تكن لك حسناتٌ أُخِذَ من سيئاته وطُرحتْ عليك: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، فالذي يقذف إنسانًا بريئًا يستحق هذا الوعيد الشديد، خاصةً إذا كان هذا المقذوف إنسانًا غافلًا، فيأتي إنسانٌ ويقذفه ويُصنفه بأنه كذا، وأنه كذا، فإنه يستحق هذا الوعيد العظيم: أنه يُلعن في الدنيا والآخرة، وله عذابٌ عظيمٌ.
ومعنى اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله؛ ولذلك تجد أن هذا الشخص غير مُوفقٍ حتى في دنياه، كلما طرق بابًا لم يجد فيه توفيقًا؛ لأنه مطرودٌ من رحمة الله، قد لُعن بسبب قذفه للأبرياء: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، تقذف غافلًا مُؤمنًا، ليس بالضرورة أن يكون قذفًا بالزنا، بأي وصفٍ يكرهه، وهو منه بريءٌ، وإذا كان هذا بريئًا وغافلًا فالقاذف يستحق اللعنة في الدنيا والآخرة، والطرد من رحمة الله ، وهذا من أشد ما يكون من الوعيد، فضلًا عن الغيبة، وعن الأمور المُحرمة التي تقع من هذا الذي يسلك هذا المسلك.
لهذا فهذا المسلك خطيرٌ، ويمحق بركة العلم، ويجعل الإنسان يعيش تعيسًا غير مُوفقٍ.
هل تجد إنسانًا يسلك هذا المسلك وهو مُوفَّقٌ في حياته، وسعيدٌ في حياته، وله القبول عند الناس؟
ما وجدنا أحدًا، وإنما تجد مَن يسلك هذا المسلك الناس تذمُّه وتبغضه وتكرهه، ووُضِعت له البغضاء في الأرض، وأيضًا لا يجد التوفيق في حياته، وهذا جزاءٌ مُعجَّلٌ في الدنيا، فضلًا عن العذاب العظيم في الآخرة.
فعلى المسلم أن يكون عفيف اللسان فيما يتعلق بالأعراض، خاصةً أعراض العلماء، وأعراض طلبة العلم، فقد يكون هذا الذي تقذفه وليًّا من أولياء الله ، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب [32]، يعني: أنك تكون مُحاربًا لله، وإذا كنت مُحاربًا لله توقع أي مصيبةٍ تأتيك من أي شيءٍ؛ لأنك فتحتَ جبهة حربٍ، لكن مع مَن؟ مع ربِّ العالمين بسبب أذيتك لهذا الإنسان الذي قد يكون من أولياء الله .
ولهذا فعلى المسلم أن يبتعد عن هذه المسالك، وهذه المناهج، وأن ينشغل بالعلم، ويرتبط بكبار أهل العلم، ولا يشغل نفسه بمثل هذه الأقوال، ومثل هذه التَّصنيفات.
السؤال: ما الأفضل إذا أُقيمت الصلاة: إكمال السنة، أم إدراك تكبيرة الإحرام؟
الجواب: إذا كنت في الركعة الثانية فالأفضل أن تُتمها خفيفةً، وإذا كنت في الركعة الأولى تقطعها؛ لأنك في الركعة الأولى ستفوتك تكبيرة الإحرام، وربما يفوتك جزءٌ من الركعة الأولى مع الإمام فتقطعها، أما إذا كنت في الركعة الثانية تُتمها خفيفةً، تكتفي -مثلًا- بتسبيحةٍ في الركوع والسجود، وربما تُدرك تكبيرة الإحرام، يعني: في الغالب تُدرك تكبيرة الإحرام إذا أتممتها خفيفةً.
السؤال: تُوفي والدي رحمه الله وأنا صغيرٌ، ووجدتُ في ورقةٍ ثلاثة أسهمٍ باسمي، باسم شركةٍ، اتصلتُ على الشركة، فقال الموظف: الأسهم الآن بعد ثلاثين سنةً من الاشتراك أصبحت مئةً وستين سهمًا، ويوجد مبلغ أربعة آلاف لي، فهل الأسهم حرامٌ أم حلالٌ؟ وكيف التخلص منها؟ وهل للورثة حقٌّ؟
الجواب: هذه الأسهم ملكٌ للورثة، وليست لك خاصةً، إنما جعلها والدك باسمك فقط؛ ليستفيد من الاسم، فهي ملكٌ للورثة، وهذه الشركة إن كانت تحتاج إلى تطهيرٍ فلا بد من تطهيرها، ترجع للقوائم -قوائم الشركات- وتنظر إلى نسبة التَّطهير، فإذا كانت نسبة التَّطهير صفرًا فمعنى ذلك أنها ليس بها تطهيرٌ، أما إذا كانت فيها نسبة تطهيرٍ فتضربها في عدد الأسهم، ثم تضربه في عدد السنوات، وتتصدقون بهذا المبلغ بنية التَّخلص، لا بنية التَّقرب، وبقية المبلغ حلالٌ، ليس حرامًا، فهذه شركةٌ من الشركات القائمة، وقد سمَّى شركةً زراعيةً، فمثل هذه الشركات الأصل فيها الإباحة، فهو مالٌ حلالٌ، ويُقسم على التركة بحسب الميراث، لكن بعد التَّطهير، بعدما تقوم بالتَّطهير إن كانت تحتاج إلى تطهيرٍ.
السؤال: ما حكم سجود التلاوة للمستمعين في حلقات التحفيظ؟
الجواب: العلماء يقولون: إنه يُشرع سجود التلاوة للمُستمع دون السامع، والمُستمع هو الذي قصد الاستماع، والسامع الذي لم يقصد الاستماع، فإذا كنتَ سامعًا ولستَ مُستمعًا فلا تسجد للتلاوة إذا سجد القارئ، أما إذا كنت مُستمعًا مُتدبرًا، وسجد مَن تستمع لقراءته؛ فيُشرع لك أن تسجد معه، فسجود التلاوة إذن يُشرع للمُستمع دون السامع.
السؤال: أنا أصغر إخواني، وأعيش مع والدتي في المنزل، وأقوم بشؤونها، ولا يمر يومان أو ثلاثة حتى تُعطيني إما خمسين أو مئة ريال، فما حكم ذلك؟
الجواب: لا بأس بهذا؛ لأن هذه عطية حاجةٍ، عطية نفقةٍ، والعطية إذا كانت عطية حاجةٍ فلا بأس، والعدل فيها أن يُعطى كل واحدٍ بقدر حاجته، أما العطية المحضة التي تكون بدون سببٍ فهذه لا بد فيها من العدل بين الأولاد بالتسوية بين الذكور، وأن تُعطى الأنثى نصف الذكر.
السؤال: هل الإنسان مُخَيَّرٌ أم مُسَيَّرٌ؟
الجواب: الإنسان مُخَيَّرٌ: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، فالله تعالى جعل للإنسان الخيار: إما أن يختار طريق الهداية، أو طريق الضَّلالة، فليس الإنسان مُسَيَّرًا، إنما هو مُخَيَّرٌ، أعطاه الله تعالى العقل، وأعطاه حرية الاختيار: إما أن يختار طريق الهدى وطريق الصلاح والاستقامة، وإما أن يختار طريق الانحراف وطريق الضَّلال.
قد يقول بعض الناس: لو أن الله هداني لاخترتُ طريق الخير.
نقول: إن الهداية ثمرةٌ للمُجاهدة، فأنت جاهد نفسك على أن تستقيم على طاعة الله وستأتيك الهداية، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فأنت جاهد نفسك على الاستقامة على طاعة الله وستأتيك الهداية، فالهداية ثمرةٌ للمُجاهدة: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا.
إذا أردتَ أن يهديك الله وتأتيك الهداية ابدأ بمُجاهدة نفسك على أن تستقيم على طاعة الله، وستأتيك هداية الله .
السؤال: رجلٌ كلما أراد الوضوء والصلاة يخرج منه ريحٌ بغير اختياره، وفي بعض الصلوات وبعض الأيام لا توجد مشقةٌ، وعندما ينتهي من الصلاة لا يخرج منه شيءٌ، هل حكمه حكم السَّلس؟
الجواب: نعم، هذا حكمه حكم صاحب الحدث الدائم، هذه -في الغالب- وساوس، فنقول: إذا توضأتَ لا تلتفت لما يخرج منك، إذا توضأتَ لا تلتفت للشكوك والوساوس لما يخرج منك إلا إذا تيقنتَ مئةً في المئة أنه خرج منك شيءٌ، أما إذا ما تيقنتَ فكلها شكوكٌ ووساوس لا تلتفت لها.
ولهذا سُئل النبي عن الرجل يجد الشيء في الصلاة، قال: لا ينصرف يعني: لا يقطع صلاته حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا [33]، فما دُمتَ توضأتَ فأنت مُتيقنٌ الطهارة، واليقين لا يزول بالشك، إنما يزول بيقينٍ مثله، فلا تلتفت لهذه الشكوك والوساوس إلا إذا بلغت درجة اليقين.
السؤال: ما الدليل على أن ركعتي الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها؟ هل المقصود سُنة الفجر أو صلاة الفجر؟
الأخ السائل يسأل عن حديث: ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها [34]، يقول: هل المقصود بها سُنة الفجر، أو صلاة الفجر؟
الجواب: المقصود بها سُنة الفجر، فسُنة الفجر سُنةٌ مُؤكدةٌ، وقد كان النبي يُحافظ عليها، لا يتركها، لا سفرًا، ولا حضرًا، وقال عنها: ركعتا الفجر يعني: سُنة الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها، رواه مسلم.
وكان من هدي النبي أنه يُخففها، حتى إن عائشة تقول: “كان رسول الله يصلي ركعتي الفجر فيُخفف حتى إني لأقول: هل قرأ فيهما بأُم الكتاب؟” [35].
وكان غالب هدي النبي أنه يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بـقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون]، وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص]، أو في الركعة الأولى بعد الفاتحة بـقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]، وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة بـقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ [آل عمران:64]، والأفضل التنويع بين هذه وهذه.
فسُنة الفجر سُنةٌ مُؤكدةٌ، والمقصود في هذا الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام: ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها سُنة الفجر، وليس المقصود بها صلاة الفجر.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2, ^3, ^4, ^5 | رواه مسلم: 2752. |
^6, ^7 | رواه مسلم: 2753. |
^8 | رواه البخاري: 4850، ومسلم: 2846. |
^9 | رواه مسلم: 2747. |
^10 | رواه مسلم: 2754. |
^11 | رواه مسلم: 2755. |
^12 | رواه مسلم: 2621. |
^13 | رواه مسلم: 2630. |
^14 | رواه أبو داود: 4744، والترمذي: 2560 وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 3763. |
^15, ^16, ^18 | رواه مسلم: 2756. |
^17 | رواه مسلم: 2619. |
^19, ^20 | رواه مسلم: 2757. |
^21 | رواه أحمد: 8040. |
^22 | رواه مسلم: 2877. |
^23 | رواه البخاري: 5705، ومسلم: 218. |
^24, ^25 | رواه مسلم: 2758. |
^26 | رواه أبو داود: 1521، والترمذي: 406 وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 1395، وأحمد: 56. |
^27 | رواه مسلم: 2759. |
^28 | رواه مسلم: 233. |
^29 | رواه البخاري: 5641، ومسلم: 2573. |
^30 | رواه أبو داود: 2574، والترمذي: 1700، والنسائي: 3585، وأحمد: 10138. |
^31 | رواه مسلم: 798. |
^32 | رواه البخاري: 6502. |
^33 | رواه البخاري: 137، ومسلم: 361. |
^34 | رواه مسلم: 725. |
^35 | رواه البخاري: 1171، ومسلم: 724. |