logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(55) باب الدعوات والتعوذ- من حديث “اللهم إني ظلمت نفسي..”

(55) باب الدعوات والتعوذ- من حديث “اللهم إني ظلمت نفسي..”

مشاهدة من الموقع

الإنسان -أيها الإخوة- مهما كان عليه من القوة في العبادة، لا يمكن أن يعبد الله ​​​​​​​ كما يحب الله إلا عن طريق العلم، لكننا نحتاج في هذا الزمن إلى رفع مستوى الهمة، وأن يحرص طالب العلم على طلب العلم، وأن يخلص النية لله ​​​​​​​، لو لم يكن من الخير إلا أنه يتعرض لمغفرة الله: أشهدكم أني قد غفرت لهم[1].

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي في شرح “صحيح مسلم”، في هذا اليوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر شعبان، من عام ألف وأربعمائة وثلاثة وأربعين للهجرة.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا، اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أصول وبك أحول وإياك أستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

باب الدعوات والتعوذ

كنا قد وصلنا في (باب: الدعوات والتعوذ)، إلى حديث أبي بكر ، قال الإمام مسلم رحمه الله في “صحيحه”:

حديث: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كبيرًا

حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، ح وحدثنا محمد بن رمح، أخبرنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبدالله بن عمرو، عن أبي بكر، أنه قال لرسول الله : علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كبيرًا -وقال قتيبة: كثيرًا- ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم[2].

وحدَّثَنيه أبو الطاهر، أخبرنا عبدالله بن وهب، أخبرني رجل سماه وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، أنه سمع عبدالله بن عمرو بن العاص يقول: إن أبا بكر الصديق قال لرسول الله : يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، وفي بيتي. ثم ذكر بمثل حديث الليث، غير أنه قال: ظلمًا كثيرًا[3].

وهذا الحديث حديث عظيم؛ وذلك أن أبا بكر الصديق ، الذي هو أفضل الصحابة، وأعلم الصحابة، وأفقه الصحابة، سأل النبي أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته.

فقال له النبي : قل يعني: في صلاتك اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كبيرًا أو قال: كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.

والرواية المحفوظة: ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا؛ ولهذا ساق المصنف الطريقة الأخرى من حديث عبدالله بن عمرو، وقال: ظلمًا كثيرًا.

وقوله: إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا؛ يعني: بارتكاب الذنوب، ووجه كون ارتكاب الذنوب ظلمًا للنفس؛ لأنه عندما يرتكب ذنبًا، يعرضها للعقوبة، يعرض النفس للعقوبة، وهو بذلك يكون قد ظلمها، ظلم هذه النفس؛ لأن النفس تحتاج من الإنسان أن يفعل ما يمنعها من العقوبة، وما يقربها من رحمة الله ، وما تنعم به في الدار الآخرة، فإذا عصى الله تعالى وارتكب ذنبًا، فقد ظلم نفسه بتعريضها لعقوبة الله تعالى بسبب هذا الذنب ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.

دل هذا الحديث على مشروعية هذا الدعاء في الصلاة؛ لقوله: علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: قل أي: قل في صلاتك. ولكن هذا الدعاء، يقال في أي موضع من الصلاة؟ في هذا الحديث أطلق، قال: يا رسول الله، علِّمني، قال أبو بكر للنبي : علمني دعاء أدعو به في صلاتي. فقال له النبي : قل: اللهم إني ظلمت نفسي.. إلخ.

فمِن أهل العلم مَن قال: إنه يكون في مواضع الدعاء في الصلاة، ومنهم من قال: إنه يكون في السجود، أو بعد التشهد، وقال بهذا ابن دقيق العيد، قال: الأولى أن يكون في السجود، أو بعد التشهد؛ لأنه أمر فيهما بالدعاء، ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد؛ لظهور العناية بتعلم دعاء مخصوص في هذا المحل.

وقال بعض أهل العلم: إن الراجح أن هذا الدعاء يقال عقب التشهدِ الأخير والصلاةِ على النبي . وهذا هو القول الراجح: أن هذا الدعاء يقال بعد التشهدِ الأخير والصلاةِ على النبي ، والاستعاذةِ بالله من أربعٍ، ثم يأتي بهذا الدعاء، ويكون هذا موافقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: ثم ليتخير من الدعاء ما أعجبه[4].

وإلى هذا ذهب الإمام البخاري في “صحيحه”، حيث قال: (باب: الدعاء قبل السلام)، ثم ساق بسنده في “صحيحه” هذا الحديث[5].

وقال العيني أحد شراح “البخاري”: ظاهر الحديث عموم جميع الصلاة، ولكن المراد: بعد التشهد الأخير قبل السلام؛ لأن لكل مقام في الصلاة ذكرًا مخصوصًا، فتعين أن يكون مقامه بعد الفراغ من الكل، وهو آخر الصلاة. فهذا هو الأقرب -والله أعلم- في موضع هذا الدعاء.

إذن، اختلف العلماء في موضع هذا الدعاء؛ لعموم الحديث؛ لأنه قال: علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي. والقول الراجح: أنه يقال في التشهد الأخير قبيل السلام، كما رجح ذلك البخاريُّ وجمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ وذلك لأن لكل موضع من مواضع الصلاة ذكرًا، ولم يَرِدْ هذا الذكر مخصوصًا بموضع معين، فتعين أن يكون في آخر الصلاة؛ لأن آخر الصلاة هو موضع دعاء مطلق؛ لقول النبي : ثم ليتخير من الدعاء ما أعجبه[6].

وعلى ذلك؛ فالمشروع لكل مُصَلٍّ يصلي صلاةً -فريضة كانت أو نافلة- أن يأتي بهذا الدعاء في الصلاة قبيل السلام، يقول: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.

احفَظْ هذا الدعاء، وقُلْه في آخر كل صلاة تصليها -فريضة كانت أو نافلة-: رب إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.

احفظ هذا الدعاء، وادْعُ به في أيِّ صلاة تصليها.

ثانيًا: دلَّ قوله: ولا يغفر الذنوب إلا أنت على عظيم شأن هذا الدعاء، فإن فيه الإقرار بالوحدانية، واستجلاب مغفرته بهذا الإقرار، وقد جاء في الحديث القدسي: أن العبد إذا قال: رب إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، أن الله تعالى يقول: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؛ قد غفرت لعبدي[7].

والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، فأثنى الله تعالى على المستغفرين بعد الوقوع في الذنب، وأشار إلى هذا المعنى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ.

وفي هذا إشارة إلى أن المستغفر ينبغي أن يأتي بهذا اللفظ، وأن يقول: يا رب اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فإن هذا من أعظم ما يكون في استجلاب المغفرة.

احرِص -يا أخي- عندما تَسأل ربك المغفرة أن تربط ذلك بأن تقول: فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. تقول: رب اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. أو تقول: رب إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت.

فإن التوسل إلى الله بذلك من أعظم أسباب حصول المغفرة، أن تقول: فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فإن الله يقول: قد علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به.

ثالثًا: دل قوله: مغفرة من عندك على عظيم شأن هذا الدعاء، فإن فيه سؤال الله المغفرة، وقد جاءت المغفرة هنا بالتنكير مغفرة؛ وهذا يدل على أن المطلوب غفران عظيم لا يُدرَك كنهه، ووَصَفه هنا بقوله: مغفرة من عندك مريدًا بذلك العِظَم؛ لأن الذي يكون عند الله لا يحيط به وصفٌ، فهو مغفرة من عند الله ، وهو طلبُ مغفرةٍ مُتفضَّلٍ بها لا يقتضيها سببٌ من العبد مِن عملٍ حسنٍ ولا غيره، فهو طلبُ مغفرةٍ مُتفضَّلٍ بها لا يقتضيها سببٌ من العبد من عمل حسن ولا غيره.

وفيه تبرُّؤٌ من الأسباب، ومن الإدلال بالأعمال، فكأنك تقول: ربِّ هَبْ لي مغفرة من عندك تفضُّلًا، وإن لم أكن أهلًا لذلك بعملي.

وقوله: مِن عندك يدل على عظيم شأن هذه المغفرة؛ لأن الذي مِن عند الله تعالى يكون عظيمًا من الله العظيم، فكأنك تسأل الله تعالى مغفرةً عظيمةً مِن عنده جل وعلا، يهبها لك.

فهذا كما في الدعاء الذي ذكره الله عن أولي الألباب: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [آل عمران:8]؛ يعني: رحمة من عندك لا يقتضيها سببٌ من العبد، لا من عمل ولا غيره، وإنما هي تفضُّلٌ مِن عند الله سبحانه.

وكما في دعاء أصحاب الكهف: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10] فهي رحمة من لدنك، ليست بسبب أعمالنا، وليست بسبب حالنا، وإنما هي تَفَضُّلٌ مِن عندك، وهِبَةٌ مِن عندك يا ربنا.

وهكذا أيضًا في هذا الحديث عندما تقول: مغفرة من عندك، كأنك تقول: يا رب هب لي مغفرة تفضلًا من عندك، ليست بسبب عملي، ولا بسبب حالي، ولا بأي سبب من عندي، وإنما هي مغفرة من عندك تتفضل بها عليَّ، تكون مغفرة عظيمة من الله العظيم.

وهذا يبين لنا عظيم شأن هذا الدعاء؛ ولذلك علَّمه النبيُّ الصِّدِّيقَ ، فينبغي للمسلم أن يحرص عليه، وألا يدعه في كل صلاة يصليها.

وأيضًا من فوائد هذا الحديث: استحباب طلب التعليم من العالم، خصوصًا في الدعوات، فإن أبا بكر الصديق أتى النبي ، فقال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي.

فهذا يدل على أنه ينبغي أن يسأل المسلمُ مَن يراه مِن أهل العلم عما يحتاج إليه في أمور دينه، وبخاصة في أمور الدعوات، يقول: ما هي أفضل الدعوات التي أدعو الله تعالى بها؟ أو التي تنصحني بها؟ ما أفضل الذكر الذي أقوله؟ ونحو ذلك.

فإن الصحابة  كانوا يسألون النبي مثل هذه الأسئلة؛ ولهذا سأل أبو بكرٍ النبيَّ عن دعاء يدعو به في صلاته، فعلَّمه النبي هذا الدعاء العظيم.

وأيضًا من فوائد هذا الحديث: قال الكرماني: هذا الدعاء من الجوامع؛ لأن فيه الاعترافَ بغاية التقصير، وطلب غاية الإنعام، فالمغفرة ستر الذنوب ومَحْوها، والرحمة إيصال الخيرات؛ ففي الأول طلب الزحزحة من النار، وفي الثاني طلب الجنة.

لأن هذا الدعاء فيه طلب أمرين: فيه طلب المغفرة من الله، وطلب الرحمة:

رب إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني؛ فالطلب الأول هو سؤال المغفرة: فاغفر لي مغفرة من عندك. وهذا هو ستر الذنوب ومحوها.

وارحمني وهذا هو إيصال الخيرات.

ففي الأول -يعني في ستر الذنوب ومحوها- طلب الزحزحة من النار، وفي الثاني -يعني طلب الرحمة- طلب الجنة، فدل ذلك على أن هذا الدعاء من جوامع الدعاء.

وأيضًا من فوائد هذا الحديث:

قال ابن دقيق العيد: فيه دليلٌ على أن الإنسان لا يَعْرَى من ذنبٍ أو تقصير، وكما جاء في الحديث عن النبي : كل بني آدم خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون[8].

فمن طبيعة الإنسان أنه يقع في الذنب، بل إن النبي يقول: لو لم تُذنبوا؛ لَذَهب الله بكم، ولَجَاء بقوم يُذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم[9]؛ فإن الله لو أراد جَعْل البشر مثل الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لو أراد اللهُ لَجَعل البشر معصومين من الوقوع في الخطيئة والذنب والمعصية.

لكن حكمة الله اقتضت أن يخلق البشر هكذا، أنهم يقعون في الذنب والمعصية، ويستغفرون الله تعالى فيغفر الله لهم، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.

وينبغي للمسلم إذا وقع في أي ذنب أن يستغفر الله تعالى، وأن يتوب إليه، والأكمل أن يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يستغفر الله ويتوب إليه؛ وقد صح عن النبي أنه قال: ما من عبد يذنب ذنبًا، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له[10].

اجعل هذا مبدأ لك في حياتك: كلما وقعتَ في ذنب أو معصية، قم وتوضأ وصل ركعتين، واستغفر الله تعالى وتب إليه، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].

والله تعالى يحب التواب من عباده: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222]، ويحب المستغفرين؛ فإذا وقعت في أي ذنب أو أي معصية، قم وتوضأ وصل ركعتين واستغفر الله؛ فإن هذا مِن فِعل الصالحين وعباد الله المتقين، بل ذَكَره الله تعالى من صفات أهل الجنة: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا [آل عمران:135].

فالإنسان قد يقع منه ذنب أو معصية، فعليه متى ما وقع في الذنب أو المعصية أن يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله ويتوب إليه، وإذا كان الذنب متعلقًا بحق آدمي، يذهب إلى هذا الآدمي ويتحلل منه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، يتحلل منه بكل وسيلة، حتى يحلله ذلك الآدمي، إن كان أخذ منه مالًا يعيد إليه ماله.

المهم أنه يتحلل من ذلك الآدمي بكل وسيلة، فهذا من صفات أهل الجنة، ومن صفات أولياء الله وعباده المتقين، أنهم لا يصرون على الذنوب والمعاصي، بل متى ما وقعوا في الذنب، استغفروا الله تعالى وتابوا إليه. والأكمل أن من يستغفر الله ويتوب إليه، يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين، وهاتان الركعتان يسميهما العلماء ركعتي التوبة، كما ذكر ابن قدامة وغيره، تسمى صلاة التوبة، فإذا قام وتوضأ وصلى ركعتين واستغفر الله تعالى، فإن الله تعالى يغفر له ذنبه.

ننتقل بعد ذلك إلى حديث عائشة رضي الله عنها، قال الإمام مسلم في “صحيحه”:

حديث: اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب -واللفظ لأبي بكر- قالا: حدثنا ابن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة: أن رسول الله كان يدعو بهؤلاء الدعوات: اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، وعذاب النار، وفتنة القبر وعذاب القبر، ومن شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر، وأعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا، كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم فإني أعوذ بك من الكسل، والهرم، والمأثم، والمغرم[11].

فهذا الحديث قد تضمن هذه الدعوات العظيمة: الاستعاذة بالله تعالى من فتنة النار، وعذاب النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، وهذا قد جاء في الدعوات الأربع: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال[12] فإن هذه قد أمر بها النبي المصلي، أن يأتي بها بعد الصلاة على النبي .

وقد أخرجها مسلم من حديث من طريق طاوس بن كيسان، وعلم طاوس هذا الدعاء ابنه، فلما صلى ابنه صلاة، قال: هل أتيت بهذا الدعاء؟ قال: لا. فأمره أن يعيد الصلاة، وهذا يدل على تأكد الإتيان بهذا الدعاء، أن يتعوذ بالله من أربع: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال.

وفي هذا الدعاء قال: ومن شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر الغنى له فتنة، والفقر له فتنة، فالغنى يعني أن الإنسان يفتن بماله، أو يفتن بجاهه ومنصبه، ونحو ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأشد من حرص المرء على المال والشرف[13]؛ يعني: ما رأيك في ذئبين جائعين أرسلا في غنم؟ سيَفْتِكان بهذه الغنم.

كذلك حرص المرء الشديد على المال، وحرصه على الجاه والمنصب، هذا أيضًا يفتك بدينه، كما يفتك هذان الذئبان الجائعان بالأغنام، والله تعالى يقول: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، فالغالب على الإنسان أنه إذا استغنى يطغى، إلا من عصم الله .

ولهذا كان النبي يستعيذ بالله تعالى من شر فتنة الغنى، وكذلك أيضًا: الفقر له فتنة، فإن الإنسان إذا افتقر ربما يقع في الكذب، وفي إخلاف الوعد، بل ربما يقع فيما هو أبعد من ذلك، ربما يقع في السرقة، ربما يقع في الزنا، ربما يقع في أمور محرمة بسبب الفقر، وهذا كله داخل في فتنة الفقر.

ولهذا كان النبي يستعيذ بالله من شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر، قال: وأعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال فتنة المسيح الدجال هي أعظم فتنة منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة.

أعظم فتنة على وجه الأرض منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة هي فتنة المسيح الدجال؛ ولهذا ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال، حتى نوح أنذر أمته المسيح الدجال، ونبينا محمد أنذر أمته، وشدد في ذلك، حتى ظن الصحابة أن المسيح الدجال في نخل المدينة، فذهب بعضهم يبحث عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإن يخرج ولست فيكم فكل مسلم حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم[14].

وذلك لأن فتنة المسيح الدجال فتنة عظيمة، يُعطَى خوارق عظيمة، يقول للسماء: أمطري؛ فتمطر، ويقول للأرض: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها، فيعطى خوارق العادات، فيفتتن به ناس كثير.

ولذلك؛ أمر المسلم أن يستعيذ بالله تعالى في كل صلاة يصليها من شر فتنة المسيح الدجال.

وأيضًا في هذا الحديث: اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونَقِّ قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وهذا قد ورد في عدة أحاديث[15]، والمقصود بغسل الخطايا بماء الثلج والبرد؛ يعني: المغفرة، أن الله تعالى يغفر الذنوب كما أن الثوب يُغسَل بالماء وبالثلج والبرد فيكون نقيًّا؛ ولهذا قال: كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس.

وباعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب فهذا أيضًا نوع من سؤال الله تعالى الوقاية من الذنوب ومباعدة الذنوب: باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب.

وأيضًا في هذا الحديث: الاستعاذة بالله تعالى من الكسل، والمراد بذلك: الكسل عن أمورِ العبادة والأمورِ التي تقرب إلى الله ، فإن بعض الناس عنده كسل: يكسل عن الصلاة، يكسل عن الذكر، يكسل عن تلاوة القرآن، يكسل عن أمور الخير والطاعة. فهذا الكسل كسل مذموم، فكان النبي يستعيذ بالله من الكسل.

فينبغي للمسلم أن يكون نشيطًا، بعيدًا عن الكسل، نشيطًا في العبادة، مبادرًا ومسارعًا للخيرات.

جاء في حديث أبي هريرة  كما عند مسلم: أن النبي  قال يومًا للصحابة: من أصبح منكم اليوم صائمًا؟. يعني: صيام التطوع، قال أبو بكر: أنا يا رسول الله. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟. قال أبو بكر: أنا يا رسول الله. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟. قال أبو بكر: أنا يا رسول الله. قال: فمَن تبع منكم اليوم جنازة؟. قال أبو بكر: أنا يا رسول الله. فقال النبي : والذي نفسي بيده، ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة[16].

فانظر كيف أن أبا بكر الصديق جمع في يوم واحد هذه الأعمال الصالحة العظيمة: أصبح صائمًا صيام تطوع، وأطعم مسكينًا، وعاد مريضًا، وتبع جنازة، وربما له أعمال صالحة أخرى، كل ذلك في يوم واحد، وسبق الصحابة؛ يعني في كل مرة يقول: أنا يا رسول الله، ما أحد سبقه، لم يسبقه أحد إلى ذلك.

فهذا يدل على المبادرة، وأن المسلم ينبغي أن يكون مبادرًا لأمور الخير والطاعة، لا ينتظر مِن أحد أن يُذكِّره، أو أن يقول له: افعل كذا، يبادر للصلاة، يذهب للمسجد من حين أن يؤذن المؤذن، كل يوم يقرأ من كتاب الله ما تيسر من القرآن، يكون له وِرْد من القرآن، ويكون له ورد من الأذكار، ومن التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة والصلاة على النبي ، ويكون له أيضًا نصيب من صدقة التطوع بعد أداء الزكاة، ويكون له نصيب من صيام النافلة بعد أداء الصيام الواجب، وهكذا، يكون مبادرًا للخيرات.

أما الإنسان الذي ليس عنده مبادرة ويغلب عليه الكسل، يكون كسولًا، ربما لا يأتي إلا بالفرائض فقط، وحتى الفرائض يكسل عنها، والله ذكر الكسل في الصلاة من صفات المنافقين، فقال: وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى [التوبة:54]، فالذي لا يأتي الصلاة إلا وهو كسلان يتشبه بالمنافقين.

ولهذا كان النبي يستعيذ بالله من الكسل، يقول: اللهم إني أعوذ بك من الكسل[17].

ففي هذا الحديث: التعوذ بالله تعالى من الهرم، وجاء في حديث آخر: ومن سوء الكبر [18] وفي حديث آخر: أعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر[19].

أرذل مراحل عمر الإنسان هي مرحلة الهرم، أن الإنسان يصاب بالتخريف والهرم، ويصبح لا يعقل شيئًا، هذه أرذل مراحل العمر. وهي أرذل من مرحلة الطفولة؛ لأن حال الإنسان في الطفولة يعني تكون أفضل، والإنسان في حال الطفولة يكون هناك من يستلطفه من والديه، وأيضًا يلعب في حال طفولته، فلا تكون مثل حالة الهرم، الهرم تكون قواه قد ضعفت، وذاكرته كذلك أيضًا فأصبح ليس عنده ذاكرة، أو عنده ذاكرة ضعيفة، وربما لا يستطيع أن يقوم بشؤونه الخاصة. فهذه هي أرذل مراحل العمر.

ولهذا؛ كان النبي يستعيذ بالله منها، فيقول: اللهم إني أعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، أو يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهرم[20]، أو يقول: اللهم إني أعوذ بك من سوء الكبر، وكلها مترادفة، فكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله تعالى من هذه المرحلة من العمر.

ولهذا؛ ينبغي للمسلم أن يحرص على هذا الدعاء، أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهرم، أو سوء الكبر، أو أن أرد إلى أرذل العمر.

في هذا الحديث: الاستعاذة بالله تعالى من المأثم والمغرم، وكان النبي يستعيذ بالله من المأثم والمغرم في كل صلاة يصليها، فسئل عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فقال: إن الرجل إذا غَرِمَ حدث فكذب، ووعد فأخلف[21].

والمأثم: هو المعاصي؛ يعني: أعوذ بك أن أقع في المعاصي وفي الذنوب.

وأما المغرم: فهو الدَّين، فكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من الدَّين الذي يكون في ذمة الإنسان ويعجز عن سداده.

ولهذا؛ كان عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين من حديث أنس: كان يُكثر من أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال[22].

فغلبة الدَّين كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله منها، أو المغرم، فالمغرم هو مرادف لغلبة الدَّين؛ وذلك لأن غلبة الدَّين تؤثر على الإنسان تأثيرًا كبيرًا، فتصيبه بالهم والغم، وربما يرتبط ذلك بالوقوع في أمور محظورة شرعًا؛ كالوقوع في الكذب، وخُلْف الوعد.

ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: إن الرجل إذا غرم يعني: إذا لحقته الديون، حتى وإن كان صالحًا حدَّث فكذب، ووعد فأخلف لأنه تكون عليه ضغوط بسبب هذه الديون، فيقع في الكذب، ويقع في إخلاف الوعد.

ولهذا؛ كان النبي يتعوذ بالله من ذلك: اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدَّين، اللهم إني أعوذ بك من المغرم، فيستعيذ بالله تعالى من الدَّين، ومن غلبة الدَّين، ومن المغرم، حتى لا يقع في إخلاف الوعد، ولا في الكذب، وأيضًا حتى لا يقع في الهم والغم؛ لأن الدَّين يحدث غمًّا وهمًّا، وربما يترتب على ذلك ما يترتب من أمورٍ يتضرر بها الإنسان، ربما تصل إلى السجن مثلًا، أو غير ذلك.

فلهذا؛ ينبغي أن يحرص المسلم على هذا الدعاء: اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدَّين، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم. بل إن النبي كان يستعيذ بالله من المأثم والمغرم في كل صلاة يصليها.

حديث: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل

قال الإمام مسلم في “صحيحه”:

حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، وأخبرنا سليمان التيمي، حدثنا أنس بن مالك، قال: كان رسول الله يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والهرم، والبخل، وأعوذ بك من عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات[23].

هذه كلها تكلمنا عنها، لكن هنا الجبن والبخل.

الجبن: كان عليه الصلاة والسلام يتعوذ بالله منه، وهي أن الإنسان يفتقد الشجاعة ويكون جبانًا، وهذا يُلحق به الضرر في دينه ودنياه: في دينه يمنعه من قول الحق، ويمنعه من فعل الخير. وفي دنياه كذلك، يمنعه من أن يُحصِّل الخيرات في دنياه؛ لأن كثيرًا من الأمور تحتاج إلى شجاعة من الإنسان.

وكذلك أيضًا البخل، فالبخل من الأخلاق المذمومة؛ وكان النبي يستعيذ بالله من البخل، والبخيل مذموم: مذموم من الناس، ومن الله . والله تعالى جعل البخل من الصفات المذمومة، فقال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37].

بعض الناس لا يكتفي بأن يكون بخيلًا، بل يأمر الناس بالبخل، فكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من البخل.

وتجد هذا عند بعض الناس: يكون بخيلًا لا يكاد يتصدق على فقير أو مسكين، وإذا رأى مَن يريد أن يتصدق على فقير أو مسكين أمره بالبخل؛ إما أن يشككك في مصداقية هذا الفقير مع أنه لا يعرفه ولا يدري عنه، لكن يشككك فيه، أو يأمره بالبخل بطريق أخرى: اجعل هذا -مثلًا- المال في مشروع أنفع، في أمر أفضل، ونحو ذلك.

فهذا من قلة التوفيق: أن الإنسان يكون بخيلًا، ويأمر الناس بالبخل، والذي ينبغي أن يكون الإنسان معطاء، ويحث الناس على العطاء وعلى البذل، وعلى السماحة.

وبقية الدعوات تكلمنا عنها، لكن هنا ذكر: أعوذ بك من عذاب القبر، وعذاب القبر قد دلت عليه الأدلة: من القرآن، ومن السنة المتواترة عن النبي .

دل عليه القرآن كما في قول الله تعالى عن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا يعني: في القبر وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، وهذه الآية صريحة في إثبات عذاب القبر.

وفي السنة أحاديث كثيرة، منها ما جاء في الصحيحين: أن النبي مر بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى؛ إنه كبير؛ يعني: ما يعذبان في كبير في نظرِ كثيرٍ من الناس، لكنه في حقيقة الأمر هو كبير أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله؛ يعني: يتساهل في أمر النجاسة وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس[24].

فأهل السنة والجماعة يثبتون نعيم القبر وعذابه، والذي ينكر عذاب القبر أو نعيمه مُكذِّب للنصوص من الكتاب والسنة.

ثم ساق المصنف هذا الحديث، وفيه:

ليس في حديثه قوله: ومن فتنة المحيا والممات[25].

فتنة المحيا والممات ذُكرت في الحديث من الطريق الأخرى، فتنة المحيا والممات كان النبي يتعوذ بالله منها.

أما فتنة الممات: فقد بيَّنها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها سؤال المَلَكين، فإن الإنسان بعد دَفْنه في قبره، يأتيه ملكان، فيُجلسانه حتى إنه ليسمع قرع نعال المشيعين؛ يعني: أن روحه تُرد إليه فيسمع قرع نعال المشيعين لجنازته، ثم يأتيه الملكان ويُجلسانه، ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا النبي الذي بُعث فيكم؟ فإن كان من أهل الجنة، قال: ربي الله، ونبيي محمد، وديني الإسلام. وأما الكافر أو المنافق فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيُضرب بمِرْزَبَّةٍ من حديد يصيح منها صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، يعني: الجن والإنس، فهذه من فتنة القبر، ومن فتنة الممات.

وأما فتنة المحيا: ففتن الحياة الكثيرة؛ الفتنة بالمال، والفتنة بالأولاد، والفتنة بالجاه، والفتنة بالنساء، والفتنة بأمور كثيرة: فتن الشبهات، وفتن الشهوات. ففتنة المحيا متنوعة وكثيرة.

فكان النبي يستعيذ بالله من فتنة المحيا، وهي تشمل جميع أنواع الفتن التي تعرض للإنسان في حياته.

وفي معنى ذلك: اللهم إني أعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات.

وأيضًا يسأل الله الثبات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر[26] كما في حديث شداد بن أوس، أو يقول: اللهم إني أسألك الثبات في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ فإن الله تعالى يقول: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27].

ثم ساق المصنف هذا الحديث من طريق أخرى، من حديث:

أنس: أن النبي تعوذ بالله من أشياءَ ذَكَرها والبخل[27].

ثم أيضًا ساق المصنف حديث:

أنس قال: كان النبي يدعو بهؤلاء الدعوات: اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات[28].

هذه كلها تكلمنا عنها.

حديث: كان يتعوذ من سوء القضاء

قال الإمام مسلم في “صحيحه”:

حدثني عمرو الناقد، وزهير بن حرب، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثني سُمَيٌّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: أن النبي كان يتعوذ من سوء القضاء، ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء. قال عمرو في حديثه: قال سفيان: أشك أني زدت واحدة منها[29].

وجاء هذا أيضًا في “صحيح البخاري” بلفظ: تعوذوا بالله تعالى من جهد البلاء، ومن درك الشقاء، ومن سوء القضاء[30]

وقوله: من سوء القضاء، الاستعاذة من سوء القضاء: يدخل فيها سوء القضاء في الدِّين، والدنيا، والبدن، والمال، والأهل، وقد يكون ذلك في الخاتمة؛ فتستعيذ بالله تعالى من سوء القضاء في هذه الأمور كلها.

ومن درك الشقاء، درك الشقاء: يكون أيضًا في أمور الآخرة والدنيا، والمعنى: أعوذ بك أن يدركني شقاء.

ومن شماتة الأعداء، شماتة الأعداء: هي فرح العدو بالمصيبة والبلية التي تنزل بالإنسان، فهي أذى نفسي، الشماتة: أذى نفسي، قد تكون شماتة الأعداء أشد من المصيبة نفسها. بعض الناس يصاب بمصيبة، لكن يصاب بمصيبة أعظم منها وهي شماتة أعدائه به، ويرى أن مصيبة شماتة أعدائه به، أشد من مصيبته نفسها؛ لأن شماتة الأعداء تجرح بعض الناس، شماتة الأعداء مؤلمة، هؤلاء الأعداء والحساد عندما يرون هذا الإنسان وقع في مصيبة يفرحون ويُظهرون الشماتة به، فيتألم نفسيًّا ويتأذى بذلك أذى كبيرًا.

هذا الألم النفسي هو شماتة الأعداء، كان النبي يتعوذ بالله من شماتة الأعداء.

ومن جهد البلاء، جهد البلاء: هي الحال الشاقة، وفسَّرها ابن عمر رضي الله عنهما -وهذا من باب التفسير بالمثال- بقلة المال وكثرة العيال، يعني هذا مثال، مثال لجهد البلاء: أن الإنسان يكون عنده كثرة عيال وقلة مال، فيجتهد ويكدح في الحياة لأجل تحصيل لقمة العيش لهؤلاء الأولاد من بنين وبنات، فهذا من جهد البلاء أنه يكون عنده عيال كثيرون ومال قليل. فهذا فسره بعض السلف، وهو مَرْوي عن ابن عمر رضي الله عنهما: بأن هذا من جهد البلاء.

وأيضًا من جهد البلاء: أن يكون عمل الإنسان شاقًّا من حين أن يصبح إلى أن يمسي، وعمله شاق لا يرتاح في عمله، بل عمله مُجهِد ومُنهِك، هذا من جهد البلاء، أو يكلف بأعمال ثقيلة على النفس وشديدة، لا يجد معها الراحة النفسية، هذا كله داخل في جهد البلاء.

فانظر إلى هذا الدعاء العظيم، وكيف جمع هذه المعاني كلها: اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ومن درك الشقاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء.

احفظ هذا الدعاء، واحرص على أن تدعو الله تعالى به كل يوم، كل يوم قل: اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ومن درك الشقاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء.

طيب، نقف عند حديث سعد بن أبي وقاص ، وإن شاء الله نفتتح به الدرس القادم بإذن الله تعالى.

وهذه الأدعية -أيها الإخوة- ينبغي أن يحرص المسلم على حفظها، وأن يدعو الله تعالى بها، فإن الدعاء بالمأثور أفضل من الدعاء من غير المأثور؛ فالدعاء بالمأثور دعاء بجوامع الدعاء، ودعاء بما ورد عن النبي ، فهو أفضل من الأدعية التي يجتهد المسلم في إنشائها.

فاحرص -يا أخي- على أن تحفظ هذه الأدعية، وأن تدعو الله بها.

وإن شاء الله تعالى يعني من المشاريع المستهدفة، تأليف كتاب أو كتيب صغير، أو رسالة في أذكار الصباح وأذكار المساء وأذكار النوم. هذه فيها مصنفات كثيرة، لكن الغرض أو الجديد فيها هو -يعني- الحرص على انتقاء ما صح من الأحاديث فيها، لِتُعرض بطريقة مبسطة، وتكون ورقية وإلكترونية؛ حتى يسهل حفظها بإذن الله ​​​​​​​.

فنسأل الله تعالى أن يمد بالصحة والعافية، مع الوقت والفراغ؛ لإنجاز هذا المشروع وغيره من المشروعات، نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.

الأدعية والأذكار هي حص حصين للمسلم، يتحصن به من الشرور، وخاصة أذكار الصباح وأذكار المساء وأذكار النوم، هذه ينبغي أن يحرص المسلم عليها حرصًا شديدًا، تُحصِّنه من الشرور بإذن الله .

أُذكِّر بأنه إن شاء الله تعالى يوم السبت القادم الثالث والعشرين من شهر شعبان من عام ألف وأربعمائة وثلاثة وأربعين للهجرة سيكون يومًا علميًّا، في جامع الملك خالد بأم الحمام، في شرح (كتاب: الصيام) من “دليل الطالب” بإذن الله ، ستشرح فيه أبرز مسائل وأحكام الصيام، مضافًا إليها أبرز النوازل والمسائل المستجدة. ومن يحضر هذا اليوم سيضبط إن شاء الله معظم أحكام ومسائل الصيام.

الأسئلة:

السؤال: هل النظر إلى النساء أو الغش في الاختبار ينقض الصوم؟

الجواب: كل معصية تقع من الصائم ينقص بها أجر الصائم، كل معصية، سواء أكانت نظرًا محرمًا أو سماعًا محرمًا أو فعلًا محرمًا أو أي معصية؛ ويدل لذلك قول النبي : مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه[31]  أخرجه البخاري في “صحيحه”.

ومعنى الحديث: أن من لم يدع المعاصي القولية والفعلية، وعبَّر عن المعاصي القولية بقوله: قول الزور، والمعاصي الفعلية بقوله: والعمل به.

فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه؛ أي: أنه إذا كثرت منه المعاصي القولية والفعلية، فقد يصل إلى هذه المرحلة: أنه لا يؤجر، ولا يثاب على ذلك الصوم.

فليس لله حاجة في هذا الصوم، ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه؛ صوم لا يتأدب فيه الإنسان بآداب الصائم، هذا صوم لا حاجة له: ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه. فالله تعالى غني عن عباده، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، لكنه أيضًا صوم لا يتأدب فيه الصائم بآداب الصيام. هذا لا يؤجر عليه الإنسان، ولا يثاب عليه الصائم.

ولذلك قال أهل العلم: إن كل معصية تقع من الصائم تخدش الصوم، وتنقص من أجر الصائم.

ولهذا؛ ينبغي للصائم أن يتحفظ أثناء صيامه من أن يقع في معصية، وهذا وإن كان مطلوبًا في كل وقت، لكنه يتأكد في حق الصائم.

السؤال: ينتشر قبل شهر رمضان مُفكِّرات للأعمال التي تُؤدَّى في شهر رمضان من باب التحفيز، بوضع جدولٍ فيه عبادات؛ مثل: صلاة الضحى، وصدقة، وتفطير، ثم يضع “تم” أو “صح” أمام كل عمل؟

الجواب: هذا من باب ترتيب العمل، ترتيب العمل لا بأس به، هذا مَرْوي عن السلف، الإنسان يعني ينبغي ألا يكون فوضويًّا؛ لأنه إذا كان فوضويًّا ستمر عليه الأيام والليالي وما عمل فيها أعمالًا صالحة كثيرة، لكن إذا رتَّب لوقته فإنه يستفيد منه.

ولهذا -يعني- كان السلف الصالح يشارطون أنفسهم، والمشارطة بلغة العصر هي التخطيط للوقت، وأُبَيُّ بن كعب خصَّص وقتًا يدعو الله تعالى فيه، ثم أراد أن يستبدله بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إذن؛ يُغفَرَ ذنبك، وتُكفَى همك[32]. هذا يدل على أن أُبَيًّا كان له -يعني- ترتيبٌ بالنسبة للوقت وأقره النبي عليه الصلاة والسلام على هذا.

فالمسلم ينبغي أن يكون مرتبًا؛ ولذلك فمِثل هذه -يعني- المفكرات التي فيها تذكيرٌ للمسلم بهذه الأعمال هي هذه من الأمور الحسنة، هذه لا يتعبد الله بها، ولكنها من باب التذكير، ومن باب الترتيب للوقت، وهو في الجملة مأثور عن السلف الصالح.

السؤال: عندي طلاب القرآن إذا جاء شهر رمضان، هل الأفضل أن أغلق هذه الحلقات لأتفرغ لتلاوة القرآن، أو أستمر في تعليم القرآن؟

الجواب: الأفضل أن تستمر في تعليم القرآن، النبي كان كل ليلة من ليالي شهر رمضان يدارسه جبريل  القرآنَ كلَّ ليلة[33]. هذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون تعليم القرآن في شهر رمضان، ومدارسة القرآن في شهر رمضان.

وكان عليه الصلاة والسلام يعرض القرآن على جبريل في كلِّ عامٍ مرة، إلا في العام الذي توفي فيه النبي عليه الصلاة والسلام؛ عَرَض فيه المصحف مرتين[34]. فشهر رمضان هو شهر القرآن.

فنقول للأخ الكريم: استمر على تعليم القرآن، وأيضًا ينبغي أن يكون لك نصيب من تلاوة القرآن، وإنما الذي ورد عن بعض السلف: أنهم كانوا يُوقفون دروس العلم في شهر رمضان، كما رُوي عن الإمام مالك وغيره، ويقول: إنما هو شهر القرآن. يوقفون دروس العلم وحلقات العلم، ويتفرغون للقرآن والذكر، ونحو ذلك.

أما بالنسبة لحلقات القرآن هذه فينبغي أن تستمر في شهر رمضان، وأن يستمر تعليم القرآن، ومدارسة القرآن في شهر رمضان هذا هو المأثور عن النبي ، فقد كان يدارسه جبريل القرآن كل ليلة من ليالي شهر رمضان.

السؤال: كثيرًا ما ينقل النووي الاتفاق في مسائل، ومع البحث يتبين أنها غير متفق عليها، فما هو الضابط بمعرفة ما ينقله النووي من الاتفاق؟

الجواب: النووي، ومثله ابن المنذر، ومثله ابن قدامة، وبعض أهل العلم، ينقلون ما يقفون عليه؛ ولذلك ابن المنذر كان يقول في عبارته: أجمع مَن نحفظ عنهم من أهل العلم على كذا، والنووي يحكي اتفاق من وقف عليه من أهل العلم، وكذلك الموفق ابن قدامة أيضًا يحكي اتفاق من وقف عليه من أهل العلم.

فهذا الاتفاق قد لا يفيد الإجماع، إجماع الأمة بمعناه عند الأصوليين، لكنه يفيد أن هذا القول على الأقل هو رأي أكثر علماء الأمة، ويعطي هذا القول قوة.

ولكن كما ذكر الأخ السائل ربما مع -يعني- البحث تجد أن المسألة خلافية، يعني فيه مسائل كثيرة يذكر فيها ابنُ المنذرِ الإجماعَ ويوجد فيها خلاف، وكذلك ابن قدامة ربما ذكر الاتفاق ويوجد فيها خلاف، وكذلك النووي ربما ذكر الاتفاق ووُجد خلاف.

لكن -يعني- هؤلاء العلماء معذورون؛ لأنهم نقلوا الاتفاق فيما وقفوا عليه من آراء العلماء، فهو يعني أسلوب من أساليب حكاية الإجماع، يقول: أنا أحكي إجماع من وقفت عليه من آراء أهل العلم، فيعني يفيدنا فائدة أن هذا هو على الأقل رأي أكثر علماء الأمة، ويعطي هذا الرأي قوة.

السؤال: هل التأتأة وصعوبة النطق ابتلاء؟ وهل يؤجر عليها الإنسان؟

الجواب: نعم، لا شك أنها ابتلاء، بل ابتلاء عظيم، مَن ابتُلي بذلك وصبر فإن أجره عند الله يكون عظيمًا، الأمراض المزمنة عمومًا إذا صبر عليها الإنسان واحتسب الأجر من الله فإن الأجر عند الله  عظيم جدًّا، بل ربما يكون الأجر والثواب هو الجنة.

فقد جاء في الصحيحين: أن امرأة أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أُصرَع؛ فادع الله تعالى أن يعافيني. والصرع من الأمراض المزمنة، فقال لها النبي : إن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك، وإن شئتِ صبرتِ ولك الجنة. قالت: بل أصبر، ولكن ادع الله ألا أتكشف. فدعا الله لها ألا تتكشف[35].

فهنا، بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن الصبر على هذا المرض المزمن: أن ثوابه الجنة، لكن مع الصبر والرضا؛ ولهذا قال: إن شئت صبرت، ولك الجنة.

وهكذا نقول بالنسبة لمن ابتُلي بمرض مزمن، خاصة الأمراض المتكررة التي تكون مع الإنسان كل يوم ويعاني منها معاناة يومية: إذا صبر على ذلك فإن الأجر عند الله عظيم والثواب جزيل، وربما يكون الثواب هو الجنة: إن شئت صبرت، ولك الجنة.

السؤال: ما حكم طاعة الزوجة لزوجها: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟

الجواب: طاعة الزوجة لزوجها في المعروف واجبة، والله تعالى يقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، ولا معنى للقوامة إلا أن المرأة يجب عليها أن تطيع زوجها في المعروف، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظيم حقه عليها[36]؛ فيجب على المرأة أن تطيع زوجها.

والمرأة التي تتمرد على زوجها، وتعصيه ولا تطيعه، هذه يسميها الفقهاء ناشزًا، والمرأة الناشز يسقط حقها في النفقة، والله تعالى يقول: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].

ولكن طاعة المرأة لزوجها إنما تكون في المعروف، لا تكون طاعة مطلقة، الطاعة المطلقة لله ، وإنما هي طاعة في المعروف، يعني: تكون فيما لا يضر بالمرأة، وفيما فيه مصلحة للزوج، وليس أمرًا فيه تعنت أو أمرًا لا فائدة منه، وإنما يكون فيه مصلحة للزوج، ولا يكون فيه ضرر على المرأة.

وأثنى الله على الزوجات المطيعات لأزواجهن، فقال: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ؛ يعني: مطيعات لأزواجهن حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].

السؤال: ما صحة حديث نَهَى النبي عن جلسة المغضوب عليهم؟

الجواب: هذا الحديث رواه أبو داود[37]، لكن لا يحضرني الآن يعني الكلام عن درجته، لعلي إن شاء الله أراجع درجته، ونُجيب عن هذا السؤال في درسٍ قادم بإذن الله .

السؤال: هل المؤمن العاصي يرى مقعده بالجنة؟

الجواب: المؤمن إما أن يكون من أهل الجنة، أو أنه تثقل سيئاته فيكون من أهل النار، إذا كان من أهل الجنة يرى مقعده من الجنة، إذا كان من أهل النار يرى مقعده من النار.

وبيَّن الله كيفية الحساب، فقال: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103]، وقال: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ۝ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ۝ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:6-11].

تُجمَع أعمال الإنسان وتقسم قسمين: حسنات وسيئات؛ الحسنات تُجمَع في كفة، والسيئات في كفة، ثم توزن بهذا الميزان، وهو ميزان حسي له كفتان، إن رجحت كفة الحسنات ولو بحسنة واحدة كان من أهل الجنة، وإن رجحت كفة السيئات ولو بسيئة واحدة كان من أهل النار، إلا أن يعفو الله عنه.

فمصير الإنسان يكون بناءً على هذا الميزان، يعني إن رجحت كفة الحسنات فمن أهل الجنة، وإن رجحت كفة السيئات فمن أهل النار، فإذا كان من أهل الجنة يرى مقعده من الجنة في قبره، وإذا كان من أهل النار يرى مقعده من النار.

لكن عند أهل السنة والجماعة: أن من مات على التوحيد، فحتى وإن عُذب في النار إلا أنه لا يخلد فيها، وإنما يخرج منها إلى الجنة برحمة أرحم الراحمين، وهذا يدل على فضل التوحيد.

السؤال: ما حكم وضع صورة الميت كخلفية للجوال؟

الجواب: ينبغي ألا يفعل الإنسان ذلك، وهذا أقل أحواله الكراهة؛ لأن وضع صورة الميت أولًا: يُعتبر نوعًا من النعي، من النعي العملي، والواجب على المسلم الصبر على المصيبة، ويستحب له الرضا والشكر.

ثانيًا: أن هذا مما يُجدد الحزن، فعندما يرى الإنسانُ الميتَ، يتجدد حزنه كلما رأى هذه الصورة.

ثالثًا: أن الميت ربما لا يرضى بذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه[38].

والميت إنما يفرح ويُسَر بما يُدعَا له ويُهدَى له من الأعمال الصالحة، فإذا أردت أن تحسن إلى قريبك الميت فادع الله تعالى له، وأكثر من الدعاء له، وتصدق عنه؛ فإن ثواب الصدقة يصل إليه ويفرح بذلك ويسر.

وكذلك لا بأس أيضًا أن تعتمر عنه، وأن تحج عنه، فإن ثواب العمرة والحج يصل للميت. هذه من صور الإحسان للميت، وليس من صور الإحسان أنك تعلق صورته أو تضع صورته في الجوال، فهذا لا ينتفع به الميت، بل ربما يتأذى بذلك، والنبي يقول: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه.

السؤال: رجل في الصلاة سقط منه منديل وهو قائم، فانحنى ثم أخذ المنديل، هل تبطل صلاته بهذه الحركة؟

الجواب: بعض الفقهاء قال: إن صلاته تبطل، ولكن ليس على هذا دليل ظاهر، والراجح -والله أعلم- أن صلاته لا تبطل؛ لأنه أتى بحركة زائدة لمصلحة، فهو أراد أن يأخذ هذا المنديل أو هذا الشيء الذي سقط منه، ولم يقصد بذلك الانتقال في الصلاة من فعل إلى فعل.

والأفعال الزائدة التي تقع من الإنسان والحركة الزائدة لا تبطل الصلاة، إلا أن تكون حركة كثيرة متوالية عرفًا لغير ضرورة، وإلا فالنبي حمل أمامة بنت أبي العاص، وفتح الباب لعائشة رضي الله عنها، وتقدم في صلاة الكسوف وتقدَّمت الصفوف، وتأخَّر وتأخَّرت الصفوف[39].

فالحركة إذا لم تكن حركة كثيرة متوالية لغير ضرورة فإنها لا تُبطل الصلاة، فهذا نوع من الحركة، والقول ببطلان الصلاة فيه إفساد لصلاة المسلمين، وهذا لا يقال إلا بدليل ظاهر، وليس هناك دليل ظاهر يدل على إبطال الصلاة، فلم يتخلف شرط من شروط صحة الصلاة.

ولم يقع أيضًا هذا المصلي في مبطل من المبطلات الظاهرة، إنما مجرد أنه فعل حركة زائدة في الصلاة، وهذه الحركة حركة يسيرة وليست كثيرة. فالقول الراجح: أن الصلاة لا تبطل، وإن كان الأولى ألا يفعل ذلك؛ خروجًا من خلاف الفقهاء في هذه المسألة.

السؤال: إذا استأجر شخص عاملًا، ولم يقم بالعمل حسب الاتفاق، أو حصل منه تقصير وطالب بأجرته كاملة، هل يستحق هذه الأجرة أو جزءًا منها، أو لا يستحق إلا بعد إنجاز العمل حسب الاتفاق؟

الجواب: أولًا: إذا كان هذا العامل يعمل بالزمن، يعني أجير خاص وليس أجيرًا مشتركًا، يعمل مثلًا من الصباح إلى المساء، أو من الصباح إلى الظهر، فهذا يستحق الأجرة كاملة، إذا أتى وعمل عندك هذه المدة يستحق الأجر كاملًا.

أما إذا كان أجره مشتركًا؛ يعني: قُدِّر رَفْعه بالعمل وليس بالزمن، فإذا أنجز العمل كاملًا يُعطَى الأجر كاملًا، وإذا قصَّر تقصر أجرته بقدر ما قصر في العمل، لكن ينبغي أن يحدد التقصير شخص محايد، طرف محايد، لا تحدد أنت التقصير، ربما تحابي نفسك، ربما أنت تبالغ في حدود التقصير من العامل.

ولذلك؛ ينبغي أن يحتكم إلى طرف ثالث يكون عنده خبرة، وهو الذي يحدد مقدار التقصير، أو ما يقابل هذا التقصير من الأجرة.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 6408، ومسلم: 2689.
^2, ^3 رواه مسلم: 2705.
^4 رواه البخاري: 835، ومسلم: 402.
^5 رواه البخاري: 831.
^6, ^17 سبق تخريجه.
^7 رواه البخاري: 7507، ومسلم: 2758.
^8 رواه أحمد: 13049، والترمذي: 2667.
^9 رواه مسلم: 2749.
^10 رواه أحمد: 2، وأبو داود: 1521، والترمذي: 406.
^11 رواه مسلم: 589.
^12 رواه مسلم: 590.
^13 رواه أحمد: 15784.
^14 رواه مسلم: 2937.
^15 رواه البخاري: 6368، ومسلم: 589.
^16 رواه مسلم: 1028.
^18 رواه مسلم: 2723.
^19 رواه البخاري: 6390.
^20 رواه البخاري: 6371.
^21 رواه البخاري: 832، ومسلم: 589.
^22 رواه البخاري: 2893، ومسلم: 2706.
^23, ^25, ^28 رواه مسلم: 2706.
^24 رواه البخاري: 216، ومسلم: 292.
^26 رواه أحمد: 17114، والترمذي: 3407، والنسائي: 1304.
^27 رواه مسلم: 2706
^29 رواه مسلم: 2707.
^30 رواه البخاري: 6347.
^31 رواه البخاري: 1903.
^32 رواه أحمد: 21242.
^33 رواه البخاري: 6.
^34 رواه أحمد: 2494.
^35 رواه البخاري: 5652، ومسلم: 2576.
^36 رواه أحمد: 19403، وأبو داود: 2140، والترمذي: 1159، وابن ماجه: 1852.
^37 رواه أحمد: 19454، وأبو داود: 4848.
^38 رواه البخاري: 1286، ومسلم: 927.
^39 رواه أحمد: 22519، وأبو داود: 918.
zh