عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله جميعًا في هذا الدرس في شرح “صحيح مسلمٍ”، في هذا اليوم الثلاثاء، السادس والعشرين من شهر شعبان، من عام (1443 هـ).
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أصول وبك أحول وإياك أستعين.
نسألك اللهم الإعانة والتوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ما زلنا في كتاب الذكر من “صحيح مسلمٍ”، وفي الأدعية، كنا قد وصلنا إلى باب: الدعوات والتعوذ، وأخذنا بعض الأحاديث الواردة في هذا الباب، ووقفنا عند حديث سعدٍ ثم حديث خولة رضي الله عنهما.
حديث: من نزل منزلًا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق..
قال الإمام مسلمٌ في “صحيحه”:
حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، حدثنا ليثٌ، ح، وحدثنا محمد بن رمحٍ -واللفظ له- أخبرنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن الحارث بن يعقوب، أن يعقوب بن عبدالله حدَّثه: أنه سمع بُسْر بن سعيدٍ يقول: سمعت سعد بن أبي وقاصٍ يقول: سمعت خولة بنت حكيمٍ السُّلَمية تقول: سمعت رسول الله يقول: من نزل منزلًا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضره شيءٌ حتى يرتحل من منزله ذلك [1].
ثم ساق المصنف هذا الحديث أيضًا من طريقٍ أخرى عن خولة رضي الله عنها بلفظ:
إذا نزل أحدكم منزلًا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ فإنه لا يضره شيءٌ حتى يرتحل منه.
ثم أيضًا ساق المصنف هذا الحديث من طريق أبي هريرة أنه قال:
جاء رجلٌ إلى النبي فقال: يا رسول الله، ما لقيتُ من عقربٍ لدغتني البارحة! قال: أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم تضرَّك [2].
قوله : من نزل منزلًا، هذا يشمل أي منزلٍ، ويشمل النزول في السفر وفي غير السفر؛ يعني: من نزل أي مكانٍ، ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات، كلمات الله: هي كلام الله، ومنه القرآن، التامات أي: الكاملات التي لا يدخل فيهن نقصٌ ولا عيبٌ، من شر ما خلق؛ لم يضره شيءٌ؛ أي: لم يضره شيءٌ من هوام؛ كعقارب وثعابين ونحوها، وسارِقٍ وغير ذلك؛ لأنها نكرةٌ في سياق النفي.
وهذا الحديث فيه جملةٌ من الفوائد:
أولًا: استحباب هذا الدعاء عند نزول أي منزلٍ، عند أي منزلٍ يُستحب هذا الدعاء، خاصةً عند المنزل المَخُوف، فإذا نزلتَ في مكانٍ؛ مثلًا: مكانٍ في البرية، أو مكانٍ في السفر، أو مكانٍ في أي مجلسٍ؛ فيُشرع لك أن تأتي بهذا الذكر.
وهكذا أيضًا يُشرع عند النوم، ويُشرع كذلك مع أذكار الصباح، ومع أذكار المساء، والأفضل أن يقال ذلك ثلاث مراتٍ: “أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق”، تكرِّر ذلك مع أذكار الصباح والمساء ثلاث مراتٍ، وقبل النوم كذلك.
بل إنه يشرع تعويذ الأولاد من بنين وبناتٍ بهذا الذكر، فتقول: أعيذ أولادي بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ ولك بأن تُسمِّي من شئت منهم، خاصةً الأطفال، وقد كان النبي يُعوِّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامةٍ، ومن كل عين لامةٍ [3]، فتعويذ الأولاد، وبخاصةٍ الصغار، قد جاءت به السنة، وهو من أعظم ما يكون من التحصين لهم، فتقول عند الصباح وعند المساء: “أعيذ أولادي بكلمات الله التامات من شر ما خلق”، أو “أعيذ فلانًا ابن فلانٍ”، مثلًا من الأطفال، كما كان عليه الصلاة والسلام يقول للحسن والحسين رضي الله عنهما: أعيذكما بكلمات الله التامات من شر ما خلق، أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطانٍ وهامَّةٍ، ومن كل عينٍ لامَّةٍ [4]، فهذا بإذن الله حصنٌ حصينٌ، يحصِّن به الأب أو الأم أولادهما من الشرور.
ثانيًا: قال الزُّرْقاني رحمه الله: قول النبي : من نزل منزلًا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضره شيءٌ، قال: “شرط نفع ذلك: الحضور والنية، وهي استحضار أنه أرشد إلى التحصن به، فلو قاله أحدٌ -لو قال هذا الذكر أحدٌ- واتفق أنه ضره شيءٌ؛ فلأنه لم يقله بنيةٍ وقوة يقينٍ، وليس ذلك خاصًّا بالسفر، بل هو عامٌّ في كل موضعٍ جلس فيه أو نام”.
فحتى يكون لهذا التعويذ أثرٌ في نفع صاحبه؛ ينبغي أن يكون ذلك باستحضار نية نفعه وفائدته، وأن ما قاله النبي حقٌّ.
ثالثًا: قال أبو العباس القرطبي [5]: هذا خبرٌ صحيحٌ، وقولٌ صادقٌ عَلِمنا صدقه دليلًا وتجربةً، قال أبو العباس القرطبي: فإني منذ سمعت هذا الخبر عن النبي ؛ عملت به فلم يضرني شيءٌ، إلى أن تركته ليلةً فلدغتني عقربٌ، فتفكرت في نفسي، فإذا بي نسيت أن أتعوذ تلك الليلة بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فقلت لنفسي -موبخًا لها- ما قاله النبي لرجلٍ: قال: يا رسول الله، ما لقيت من عقربٍ لدغتني البارحة! فقال له النبي : أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم تضرك [6].
رابعًا: قال الحافظ ابن عبدالبر: في الاستعاذة بكلمات الله التامات أبينُ دليلٍ على أن كلام الله تعالى منه تبارك اسمه، وصفةٌ من صفاته، وليس بمخلوقٍ؛ لأنه مُحالٌ أن يستعاذ بمخلوقٍ، وعلى هذا أهل السنة والجماعة، وهذا من أظهر الأدلة الدالة على أن كلام الله -ومنه القرآن- صفةٌ من صفاته، وأنه ليس مخلوقًا، والقول بأنه صفةٌ من صفاته، وأن القرآن منزَّلٌ غير مخلوقٍ، هو الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع.
باب الدعاء عند النوم
حديث: إذا أخذت مضجعك؛ فتوضأ وضوءك للصلاة..
ننتقل بعد ذلك إلى حديث البراء ، قال المصنف رحمه الله:
باب الدعاء عند النوم
حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لعثمان، قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا- جريرٌ، عن منصورٍ، عن سعد بن عُبَيْدة قال: حدثني البراء أن رسول الله قال: إذا أخذت مضجعك؛ فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا مَلجأ ولا مَنجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، واجعلهن من آخر كلامك، فإن مت من ليلتك؛ مت وأنت على الفطرة.
قال البراء: فردَّدْتُهنَّ؛ لأستذكرهن، فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت، قال: قل: آمنت بنبيك الذي أرسلت [7].
ثم ساق المصنف هذا الحديث أيضًا من طريقٍ أخرى عن البراء :
أن رسول الله أمر رجلًا إذا أخذ مضجعه من الليل أن يقول: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك الذي أرسلت، فإن مات مات على الفطرة [8].
ثم ساق المصنف هذا الحديث بلفظ:
أنه قال: وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك؛ مت على الفطرة، وإن أصبحت؛ أصبت خيرًا [9].
دل هذا الحديث على:
أولًا: استحباب الوضوء عند إرادة النوم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إذا أخذت مضجعك؛ فتوضأ وضوءك للصلاة.
ومعنى أخذت مضجعك: يعني أردت النوم في مضجعك، وهذا كقول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، المعنى: إذا أردت أن تقرأ القرآن، وهكذا أيضًا هنا: إذا أخذتَ مضجعك، يعني: إذا أردت أن تأخذ مضجعك إلى النوم؛ فتوضأ وضوءك للصلاة؛ وهذا يدل على استحباب الوضوء عند إرادة النوم، دل هذا الحديث على استحباب الوضوء عند إرادة النوم، وهو سنةٌ، فينبغي للمسلم إذا أراد أن ينام نومًا من ليلٍ أو نهارٍ؛ أن يتوضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام.
والحكمة من ذلك: أن النوم موتةٌ صغرى، وربما مات من ليلته، والله تعالى يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [الزمر:42]، فباعتبار أن النوم موتةٌ صغرى، وأنه أيضًا ربما ينتقل من الموتة الصغرى إلى الموتة الكبرى، كم من إنسانٍ نام ثم مات! فينبغي أن يجعل ذلك على طهارةٍ، وأن يتوضأ وضوءه للصلاة.
وأيضًا من الحكم قالوا: لِيَكون أصدق لرؤياه، وأبعد عن الشيطان وتلاعُب الشيطان به في منامه.
فينبغي لك -أخي المسلم- أن تجعل هذا مبدأً لك في الحياة، أن تُعوِّد نفسك على ألا تنام إلا وقد توضأت وضوءك للصلاة، لا تنام نومًا من ليلٍ أو نهارٍ إلا وقد توضأت وضوءك للصلاة قبل أن تنام.
ثانيًا: دل هذا الحديث على استحباب الاضطجاع على الشق الأيمن؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: ثم اضطجِعْ على شقك الأيمن، كان عليه الصلاة والسلام يحب التيامن [10]، ويضطجع على شقه الأيمن [11]؛ وخص الجانب الأيمن والشق الأيمن باستحباب النوم والاضطجاع عليه لفوائد؛ منها:
- أنه أسرع للانتباه، فإن الذي ينام على شقه الأيمن يستيقظ أسرع من الذي ينام على شقه الأيسر أو ينام على ظهره، كما ذكر ذلك أهل الاختصاص، الذي ينام على شقه الأيمن يكون أسرع في الاستيقاظ من الذي ينام على شقه الأيسر أو على ظهره، فيكون هذا أسرع للانتباه.
- ومن الفوائد أيضًا: أن القلب متعلقٌ إلى جهة اليمين، فلا يثقل بالنوم.
- وأيضًا من الفوائد: ذَكَر بعض العلماء أن للاضطجاع على الشق الأيمن فوائد صحيةً، ذكر شيئًا منها ابن القيم في “الطب النبوي”، وذكر ذلك أيضًا بتفاصيل، وتكلم عن الإعجاز العلمي في السنة النبوية.
ثالثًا: دل هذا الحديث على استحباب ختم أدعية النوم بهذا الذكر؛ لقوله : واجعلهن من آخر كلامك؛ ليكون هذا الذكر خاتمة عمله؛ فإنه مُقدِمٌ على النوم، والنوم موتةٌ صغرى، كما أنه يستحب للإنسان أن يقول قبل قبض روحه: لا إله إلا الله؛ لقول النبي : من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة [12]؛ فهكذا أيضًا بالنسبة للنوم الذي هو الموتة الصغرى؛ ينبغي أن يكون آخر كلامه هذا الذكر المذكور في هذا الحديث.
وأيضًا من فوائد هذا الحديث: استحباب الإتيان بهذا الذكر قبل أن ينام، وأن يجعل ذلك آخر ما يقوله: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت.
وقوله : فإن مت من ليلتك؛ مت وأنت على الفطرة، أي: مت على الإسلام، وإن أصبحت، أصبت خيرًا؛ أي: حصل لك ثوابٌ بالإتيان بهذه السنن ومتابعتك لأمر الله وأمر رسوله .
وقوله : فردَّدْتُهنَّ؛ لأستذكرهن، فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت، فقال : قل: آمنت بنبيك الذي أرسلت، اختلف العلماء في سبب إنكار النبي على البراء على أقوالٍ، والأقرب -والله أعلم- هو أن لفظ الذِّكر توقيفيٌّ كما قال المازِرِي، فينبغي المحافظة على ألفاظ الذكر، فالنبي قال: ونبيك الذي أرسلت، فينبغي المحافظة على هذا اللفظ، ثم أيضًا إذا قال: “ورسولك الذي أرسلت”؛ يكون في هذا شيءٌ من التكرار للفظ “الرسول”: “رسولك”، “أرسلت”، فـ”نبيك الذي أرسلت” أفضل، ثم أيضًا إذا قال: “ونبيك الذي أرسلت”؛ جَمَع بين النبوة والرسالة؛ فيكون هذا أبلغ وأعم.
فينبغي للمسلم أن يحفظ هذا الذكر، وأن يأتي به قبل أن ينام، حتى لو كان النوم نوم نهارٍ، يأتي بهذا الذكر؛ يختم أذكار النوم بهذا الذكر؛ فإنه ذكرٌ عظيمٌ اشتمل على الاستسلام لله سبحانه وتفويض الأمر إلى الله ، والرغبة والرهبة إلى الله سبحانه، والتوحيد؛ فإنه يقول: “لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك”، والإيمانِ بالله، والإيمان بكتابه ونبيه، فهو قد اشتمل على هذه المعاني العظيمة؛ فينبغي أن يحرص المسلم على الإتيان به قبل أن ينام.
حديث: اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت
ننتقل بعد ذلك لحديث البراء أيضًا:
حدثنا عُبَيدالله بن معاذٍ: حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عبدالله بن أبي السَّفَر، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن البراء: أن النبي كان إذا أخذ مضجعه قال: اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور [13].
قوله : اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت، يعني: بذكر اسمك أحيا ما حَيِيتُ، وعليه أموت، وقيل: معناه: بك أحيا، يعني: أنت الذي تحييني، وأنت الذي تميتني.
وقوله : الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، المراد بقوله: أماتنا: النوم، والنشور: هو البعثُ؛ فنبَّه بإعادة اليقظة بعد النوم -الذي هو كالموت- على إثبات البعث بعد الموت.
- دل هذا الحديث على استحباب الإتيان بهذا الدعاء: اللهم باسمك أموت وأحيا، أو اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت، فهذا من أذكار النوم، أن تقول: “اللهم باسمك أموت وأحيا”، أو “باسمك أحيا، وباسمك أموت”.
- أيضًا دل هذا الحديث على استحباب الإتيان بهذا الذكر بعد الاستيقاظ من النوم، وهو أن يقول: “الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور”.
- وأيضًا دل هذا الحديث على أن النوم يُطلَق عليه موتٌ، ولكنه موتةٌ صغرى، فالنوم يُعتبَر موتةً صغرى؛ ولهذا يُشرَع لمن استيقظ من النوم أن يقول: “الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا”؛ فسمَّى النوم موتًا، والمقصود بذلك الموتة الصغرى؛ وذلك لأن النوم فيه شَبَهٌ كبيرٌ بالموت؛ فإن النائم يرى في منامه ما يسرُّه وما يحزنه، ولا يشعر بمرور الزمن، وهكذا الميت ينعم في قبره أو يعذب ولا يشعر بمرور الزمن؛ ولهذا ذكر ربنا سبحانه في سورة البقرة، قال: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [البقرة:259]، فبيَّن الله سبحانه أنه أمات هذا الرجل مئة عامٍ، وأنه لما بعثه وسُئل عن المدة التي أمضاها قال: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وهذا فيه دليلٌ ظاهرٌ على أن الميت لا يشعر بمرور الزمن، وهكذا أصحاب الكهف، لَبِثُوا ثلاثَمئةٍ سنين وازدادوا تسعًا؛ يعني: ثلاثَمِئةٍ وتسعًا بالقمري، وثلاثمئةٍ بالشمسي، ومع ذلك قالوا: لبثنا يومًا أو بعض يومٍ؛ وذلك لأن الإحساس بمرور الزمن يستدعي مرور أحداثٍ، والميت والنائم ليس هناك أحداثٌ تمر عليه، وإنما يرى ما يسرُّه وما يحزنه، والميت في قبره ينعم أو يعذب، وهذا يستدعي من المسلم الاستعداد للدار الآخرة ولقيام الساعة؛ فإنها قريبةٌ جدًّا، ما بيننا وبينها إلا الموت، والإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت، وإذا مات ينعم أو يعذب في قبره ولا يشعر بمرور الزمن، فيتفاجأ بقيام الساعة، يعني: إنسانٌ أصبح، ثم أتاه الموت، إما مثلًا بسبب حادث سيارةٍ، وإما بسبب سكتةٍ قلبيةٍ، أو لغير ذلك من الأسباب، فإنه بعدما يُدفن في قبره؛ ينعم أو يعذب، لكنه لا يشعر بمرور الزمن كالنائم، فيتفاجأ بقيام الساعة مباشرةً بعد الموت، يتفاجأ بقيام الساعة كالنائم، وهذا لا ينفي إثبات عذاب القبر أو نعيمه؛ أرأيت النائم يرى في منامه ما يسرُّه وما يحزنه وهو لا يشعر بمرور الزمن؛ هكذا الميت يُنعَّم في قبره أو يعذب، ولا يشعر بمرور الزمن؛ ولهذا سمَّى النبي النوم موتًا، فقال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، أي: وإليه البعث يوم القيامة.
حديث: اللهم خلقت نفسي وأنت توفاها..
ثم ساق المصنف حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
أنه أمر رجلًا إذا أخذ مضجعه قال: اللهم خلقتَ نفسي وأنت توفَّاها، ولك مماتها ومحياها، إن أحييتَها فاحفظها، وإن أَمَتَّها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية. فقال له رجل: أسمعت هذا من عمر؟ قال: مِن خيرٍ مِن عمر، من رسول الله [14].
فهذا أيضًا من الأذكار التي تقال عند النوم: اللهم خلقتَ نفسي وأنت توفاها، ولك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمَتَّها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية، وهو في ألفاظِه قريبٌ من حديث البراء ، إلا أن فيه زيادة: اللهم إني أسألك العافية.
وسؤال الله العافية من أعظم الأدعية وأنفعها، ولمَّا قال العباس للنبي : يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به، قال: يا عم، سل الله العافية [15]. ثم أتاه مرةً أخرى، وقال: يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به، قال: سل الله العافية، فإنه ما أعطي العبد شيئًا أعظم من العافية [16].
فينبغي أن يحرص المسلم على أن يسأل الله تعالى العافية، وهو من أعظم الأدعية، وهو من أذكار الصباح والمساء؛ أن تقول: “اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن رَوْعاتي، واحفظني من بين يديَّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي”، هذا من أذكار الصباح والمساء، وعند النوم يقول: “اللهم إني أسألك العافية”.
حديث: اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم..
ثم قال الإمام مسلمٌ في “صحيحه”:
حدثني زُهَير بن حربٍ: حدثنا جَريرٌ، عن سُهيلٍ قال: كان أبو صالحٍ يأمر -إذا أراد أحدنا أن ينام- أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كل شيءٍ، فالقَ الحب والنوى، ومُنزِلَ التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شرِّ كل شيءٍ أنت آخذٌ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيءٌ، وأنت الآخر فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيءٌ، وأنت الباطن فليس دونك شيءٌ، اقض عنا الدَّين وأغننا من الفقر، وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي [17].
وهذا أيضًا من أدعية النوم، من الأدعية التي تقال عند النوم: اللهم ربَّ السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربَّنا ورب كل شيءٍ، فالقَ الحب والنوى، ومُنزِلَ التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيءٍ أنت آخذٌ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيءٌ، وأنت الآخر فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيءٌ، وأنت الباطن فليس دونك شيءٌ، اقض عنا الدَّين وأغننا من الفقر.
وهذا الحديث دل على استحباب أن يكون النوم على الشق الأيمن كحديث البراء ، ودل أيضًا على استحباب الإتيان بهذا الذكر قبل النوم.
وقوله : والفرقان؛ يعني: القرآن، منزل التوراة والإنجيل، والفرقان؛ يعني: القرآن.
أعوذ بك من شر كل شيءٍ أنت آخذٌ بناصيته يعني: أعوذ بك من شر كل شيءٍ من المخلوقات؛ لأنها كلها في سلطان الله ، وهو آخِذٌ بنواصيها، فهو كالآية الكريمة: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2]، هو في معنى قول الله تعالى: مِن شَرِّ مَا خَلَقَ.
ثم قال : اللهم أنت الأول فليس قبلك شيءٌ، فالله تعالى هو الأول، والأول من أسماء الله سبحانه، وفسَّر النبي الأول بأنه ليس قبله شيءٌ، الله سبحانه ليس قبله شيءٌ، كان ولم يكن شيءٌ قبله، ولا بد من أن ينتهي الخلق إلى خالقٍ واجب الوجود ليس قبله شيءٌ، حتى العقلُ السليم والفطرة السليمة يدلان لذلك، فضلًا عن الشرع والوحي؛ ولذلك تجد أن الفلاسفة ومن نحا نحوهم يُثبتون وجود الله بأمورٍ عقليةٍ منطقيةٍ، وهذه يُغني عنها أدلة الشرع، لكن بعض الناس ربما يُقنَع بهذه الطرق أكثر من غيرها.
فالأشياء تنقسم، يعني: يمكن أن يكون التقسيم ثلاثيًّا بالنسبة للوجود، بالنسبة للوجود يكون التقسيم ثلاثيًّا:
- ممتنِع الوجود.
- واجب الوجود.
- جائز الوجود.
فعندما ننظر للخالق والمخلوقات، فنستبعد القسم الأول، وهو: ممتنع الوجود؛ لأنها كلها موجودةٌ، والمخلوقات كلها جائزة الوجود، جميع المخلوقات جائزة الوجود؛ لأنه سَبَقها عدمٌ، وما سبقه عدمٌ؛ فهو جائز الوجود، وهكذا أيضًا يسبقها عدمٌ ويَلْحقها عدمٌ، وما كان كذلك؛ فهو من قسم: جائز الوجود.
ولا بد لجائز الوجود من أن يرجع لواجب الوجود، وإلا لم يكن هناك كونٌ أصلًا ولا خلقٌ أصلًا؛ لأنه يؤدي هذا إلى التسلسل إلى ما لا نهاية، وهذا ممتنِعٌ؛ فمثلًا: هذا الخلق، مَن خَلَق هذا الخلقَ؟ من خلق هذا الخلق؟ إلى أن ينتهي إلى خالقٍ واحدٍ، وهو واجب الوجود، خَلَق كل شيءٍ وليس له خالقٌ، هو الذي خلق كل شيءٍ، وهو الأول فليس قبله شيءٌ جل وعلا، وهو الآخر فليس بعده شيءٌ.
فإذنْ: الله تعالى هو واجب الوجود، على ما يذكر الفلاسفة والمناطقة فهو واجب الوجود، ولا بد من أن ينتهي الخلق إلى واجب الوجود؛ لا بد، بالعقل والمنطق لا بد من أن ينتهي الخلق إلى واجب الوجود، وإلا لم يكن هناك خلقٌ ولا كونٌ، فمن كان مخلوقًا؛ فإنه جائز الوجود؛ ولا بد من خالقٍ له؛ فلا بد لهذا التسلسل من أن ينتهي الخلق إلى واجب الوجود، الذي خلق كل شيءٍ، وليس شيءٌ قبله جل وعلا، فهذا معنى قوله : الأول فليس قبلك شيءٌ.
وأنت الآخِر فليس بعدك شيءٌ: الله تعالى لم يُسبَق بعدمٍ، فهو الأول الذي ليس قبله شيءٌ، ولا يلحقه زوالٌ فهو الآخر ليس بعده شيءٌ.
وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، المقصود بالظاهر: يعني العالي، وهذا من أدلة إثبات العلو لله سبحانه، الله تعالى له العلو بجميع أنواعه؛ علو القَدْر، وعلو القهر، وعلو الذات: علو القدر والقهر هذا بالاتفاق، وعلو الذات أثبته أهل السنة والجماعة والسلف الصالح، أثبتوا علو الذات لله ، فالله تعالى مُسْتَوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه وهو في العلو جل وعلا.
وهذا دل له أدلةٌ كثيرةٌ من الشرع ومن العقل ومن الفطرة، كلها تدل على إثبات صفة العلو لله ، ولم ينكر صفة العلو إلا الفرق المنحرفة المبتدعة، وإلا فالله تعالى له صفة العلو جل وعلا، وهذا الحديث من أظهر الأدلة لذلك: وأنت الظاهر، فليس فوقك شيءٌ، فهو له صفة العلو: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، والملائكة يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وأدلةٌ كثيرةٌ تدل على إثبات صفة العلو لله .
وكذلك أيضًا من الفطرة: أي داعٍ يدعو؛ قلبُه يتجه للعلو، هل يتجه قلب الداعي للأسفل، أو يمينًا أو يسارًا؟ يتجه قلبه للعلو، فهذا يجده الإنسان ضرورةً.
فإذنْ قوله : وأنت الظاهر فليس فوقك شيءٌ، فيه إثبات صفة العلو لله .
وقول النبي في هذا الحديث: وأنت الباطن فليس دونك شيءٌ، معناه: أنت العليم الذي لا يحول بينه وبين خلقه شيءٍ، ولا يحول دونه شيءٌ جل وعلا، وهو العليم بخلقه لا يحول بينه وبين خلقه سقفٌ ولا بناءٌ، ولا أي شيءٍ، فهو العليم ببواطن الأمور جل وعلا، فهو الباطن فليس دونه شيءٌ.
هذا هو معنى الباطن، وليس المقصود بذلك السفل، حاشا وتعالى الله عن ذلك، ولكن المقصود بالباطن؛ يعني: العليم الذي لا يحول بينه وبين خلقه شيءٌ.
ثم قال : اقض عنا الدَّين؛ دل هذا الحديث على استحباب الدعاء بقضاء الدَّين لمن لحقته ديونٌ، وأن هذا من أسباب سداد هذه الديون؛ لأنك إذا دعوت الله بقضاء الدين؛ ساق الله لك رزقًا من عنده لسداد هذا الدين.
الدَّين كان النبي يستعيذ بالله من غَلَبَته، فكان يقول: اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين [18]، وكان يقول: اللهم اقض عنا الدين [19]؛ ولذلك فمن لحقته ديونٌ؛ ينبغي له:
أولًا: أن يسأل الله تعالى قضاء هذا الدين عنه، فيقول: اللهم اقض عني الدين، ويلح على الله تعالى في هذا الدعاء.
ثانيًا: أن يصحح النية؛ بأن يكون قد استدان وأخذ أموال الناس ويريد أداءها بنيةٍ صادقةٍ أنه يريد الأداء، ويريد الوفاء، ويريد التسديد في أقرب فرصةٍ، فإنه بهذه النية الحسنة يؤدي الله عنه؛ لقول النبي : من أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدى الله عنه [20]؛ أي: يسَّر له من أسباب الأداء وتسديد الدين ما لا يَحتسب، ويسوق الله تعالى له رزقًا من حيث لا يحتسب؛ ولذلك تجد في الواقع أن من كان حريصًا على سداد دينه -وكما يقال: الدَّين يأكل معه ويشرب- تجد أنه -سبحان الله!- يسدد الدين في وقتٍ وجيزٍ، لكن الإنسان غير الحريص على سداد الدين، الذي يماطل، أخذ أموال الناس وهو لا يريد أداءها، وإنما يريد إتلافها، تتراكم عليه الديون، وربما في نهاية المطاف يكون مصيره إلى السجن؛ وهذا يدل على أهمية إحسان النية في هذا الأمر.
إذا احتجت للاستدانة، ولحقتك ديونٌ؛ فاحرص على أن تسدد هذا الدَّين في أقرب فرصةٍ، حتى تدخل في هذا الحديث: من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، فإنك بهذا الحرص الشديد، يسوق الله تعالى لك أبوابًا من الرزق من حيث لا تحتسب، وتسدد هذا الدين في وقتٍ وجيزٍ.
لكن إذا أسأت النية، فأخذت أموال الناس بغير نية الأداء، وأنك لن تسدد إلا بالقوة الجبرية؛ فإن هذه الديون تتراكم عليك، من أخذ أموال الناس يريد إتلافها؛ أتلفه الله [21].
وتأمل قول النبي : أتلفه الله، فإنه لفظٌ عامٌّ يشمل إتلاف المال الحسي، ويشمل محق البركة، ويشمل كذلك الإتلاف في أمورٍ أخرى؛ كإتلاف الصحة أو جزءٍ منها، أو إتلاف الاستقرار مثلًا، الاستقرار النفسي لديه، الاستقرار الزوجي، فيشمل أمورًا كثيرةً، من أخذ أموال الناس يريد إتلافها؛ أتلفه الله: سلط الله عليه أنواعًا من الإتلاف من حيث لا يحتسب.
وقوله : وأغننا من الفقر؛ دل هذا الحديث على استحباب الدعاء بالغنى من الفقر؛ وذلك لأن الفقر ربما يعيق الإنسان عن كثيرٍ من أمور العبادة، ويجعل الإنسان منشغلًا جُلَّ وقته بكسب لقمة العيش، بينما إذا أُغنِيَ عن الفقر؛ يتفرغ لأمور العبادة، ويتفرغ لأمورٍ مفيدةٍ ونافعةٍ.
ولهذا كان النبي يقول: اللهم أغننا من الفقر؛ فهذا يدل على استحباب الدعاء بذلك، وأن تقول: “اللهم أغنني من الفقر”.
وبهذا يتبيَّن أن ما يُروَى حديثًا: اللهم أَحْيِيني مسكينًا، وتوفني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين [22]، حديثٌ ضعيفٌ، وهو لا يصح من الناحية الحديثية، فهو لا يصح من حيث الصناعة الحديثية، وكذلك أيضًا هو مُعارَضٌ بهذا الحديث وما جاء في معناه؛ فإن النبي كان يقول: اللهم أغنني من الفقر، فكيف يقول: اللهم أحييني مسكينًا، وتوفني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين؟! لكن كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله تعالى من شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر، فسؤال الله الغنى من الفقر، هذا من الأدعية المشروعة، كان عليه الصلاة والسلام يقول: اللهم أغنني من الفقر، كان يقول ذلك قبل أن ينام: اللهم أغنني من الفقر؛ فإن الغنى من الفقر نعمةٌ من الله على الإنسان.
حديث: إذا أوى أحدكم إلى فراشه؛ فليأخذ داخلة إزاره..
ثم ساق المصنف هذا الحديث من طرقٍ أخرى:
ننتقل بعد ذلك لحديث أبي هريرة ، وما زلنا في أحاديث أذكار النوم، ساق المصنف هذا الحديث، قال:
وحدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري: حدثنا أنس بن عياضٍ: حدثنا عبيدالله: حدثني سعيد بن أبي سعيدٍ المَقبُري، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: إذا أوى أحدكم إلى فراشه؛ فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه، ولْيُسَمِّ الله؛ فإنه لا يعلم ما خَلَفه بعده على فراشه، فإذا أراد أن يضطجع؛ فليضطجع على شقه الأيمن وليقل: سبحانك اللهم ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين [23].
قوله : فليأخذ داخلة إزاره، داخلة الإزار معناها: طرف الإزار، والمراد: أنه يستحب أن ينفض فراشه قبل أن يدخل فيه؛ لئلا يكون فيه هوام؛ من حيةٍ أو عقربٍ أو غيرهما من المؤذيات، أو ربما أمورٌ أخرى.
فالسنة إذنْ: إذا أوى الإنسان إلى فراشه أن ينفض فراشه.
وبيَّن النبي الحكمة من ذلك، قال: فإنه لا يعلم ما خَلَفه بعده: لا يعلم ما الذي أتى على هذا الفراش من هوام أو جانٍّ أو غير ذلك.
- دل هذا الحديث أولًا: على استحباب نفض الفراش قبل أن يأوي الإنسان إليه، وهذا النفض يكون بأي شيءٍ، ولا يلزم أن يكون ذلك بإزارٍ، إنما يكون مثلًا بالشَّرْشَف [24]، أو يكون بأيّ شيءٍ، فيستحب أن ينفض الفراش الذي ينام عليه قبل أن ينام عليه.
- ثانيًا: دل هذا الحديث على استحباب الاضطجاع على الشق الأيمن؛ لقوله : فليضطجع على شقه الأيمن؛ وذلك لأن الاضطجاع على الشق الأيمن يكون معه الإنسان أكثر انتباهًا، بخلاف الاضطجاع على الشق الأيسر أو على الظهر فإنه يكون أقل انتباهًا. ومطلوبٌ من المسلم أن ينام على الشق الأيمن؛ ليكون أسرع انتباهًا للقيام لصلاة الفجر، ونحو ذلك، وأيضًا ذُكر أن في الاضطجاع على الشق الأيمن فوائد صحيةً، وأنه أريح للقلب وأنفع للجسم.
- دل هذا الحديث على أنه يستحب التسمية عند نفض الفراش؛ لقوله : وليسم الله، فينفض فراشه ويقول: بسم الله.
- وأيضًا دل هذا الحديث على استحباب الإتيان بهذا الدعاء عند النوم: سبحانك اللهم ربي بك وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.
- وأيضًا دل هذا الحديث على أن النوم موتةٌ صغرى؛ فإن النوم يُشبِه الموت؛ ولذلك يسمى موتةً صغرى، والله تعالى يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [الزمر:42].ولهذا يُشرَع أن يقول قبل أن ينام: إن أمسكت نفسي فاغفر لها؛ لأنه عندما ينام تذهب نفسه وروحه وربما لا ترجع.
إن أمسكت نفسي؛ فاغفر لها، وإن أرسلتها يعني: رجعت فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، وهذا معنى قوله سبحانه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى.
حديث: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا..
ثم ساق المصنف هذا الحديث من طريقٍ أخرى، ثم قال المصنف رحمه الله:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ: أن رسول الله كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مُؤْوِي! [25].
وهذا يدل على استحباب الإتيان بهذا الذكر عند النوم، فهذا من أذكار النوم: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، أربعة أشياء: أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ثم تقول: فكم ممن لا كافي له ولا مُؤوِي!.
ومعنى فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي: أي كم من إنسانٍ لا وطن له، ولا سكن يأوي إليه، فتستذكر بذلك نعمة الله تعالى عليك، فهذا أيضًا من الأذكار التي تقال قبل النوم: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي!.
دل هذا الحديث على استحباب تذكُّر نعم الله سبحانه؛ فإن تذكر نعم الله سبحانه جزءٌ من الشكر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الأحزاب:9]، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:20].
ففي هذا الحديث كان النبي إذا أوى إلى فراشه؛ كان يتذكر نعم الله عليه، فيقول: الحمد لله الذي أطعمنا، هذه نعمةٌ؛ فيتذكر نعمة الإطعام. وسقانا، هذه نعمةٌ؛ فيتذكر نعمة أن الله تعالى سقاه، وكفانا، وهذه نعمةٌ؛ يتذكر نعمة أن الله تعالى كفاه، وآوانا، فهذه نعمةٌ؛ يتذكر نعمة أن الله تعالى آواه، فيستذكر نعم الله سبحانه، وهذا المعنى -تذكُّر نعم الله – يَغفُل عنه كثيرٌ من الناس، مع أنه حاضر في النصوص كثيرًا، عندما تقرأ القرآن، وكذلك الأحاديث الواردة في السنة؛ تجد فيها التوجيه والإرشاد لتذكُّر نعم الله سبحانه.
فينبغي للمسلم أن يحرص على تذكُّر نعم الله ، وأن يذكر ما أنعم الله تعالى به عليه، يتذكر ذلك كل يومٍ، فمثلًا عند النوم يتذكر هذه النعم وغيرها: “الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، الحمد الذي أَصَحَّ بدني، الحمد لله الذي رزقني، الحمد لله الذي أنعم عليَّ بكذا وكذا”؛ فهذا يعتبر مِن تذكُّر نعم الله ، وهو جزءٌ من الشكر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:11]، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [إبراهيم:6]، فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف:69]، فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74].
وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأمرون أقوامهم بتذكُّر نعم الله ؛ فإن تذكُّر النعم جزءٌ من الشكر، فجزءٌ مِن شكر نعمة الله سبحانه أن تتذكر نعمة الله عليك، ولا تنسى هذه النعم ولا تَغفُل عنها.
ونقف عند باب الأدعية.
سيتوقف هذا الدرس؛ ما بقي على رمضان إلا أربعة أيامٍ إن شاء الله، والعادة أننا إذا أتى رمضان؛ يتوقف الدرس، وأيضًا بعد رمضان سيكون شهر شوالٍ، هو وقت اختبارٍ للطلاب الجامعيين، وهم الفئة الأكثر حضورًا لهذا الدرس، والأكثر متابعةً، فمراعاةً لظروفهم أيضًا يتوقف الدرس، وكذلك أيضًا في الإجازة التي بعدها.
ويُستأنف الدرس -إن شاء الله – مع ابتداء الدراسة في آخر شهر محرمٍ بإذن الله ، وإن شاء الله سيكون هناك إعلانٌ على منصات التواصل قبل استئناف الدرس بفترةٍ كافيةٍ، لمدةٍ كافيةٍ بإذن الله سبحانه، وسيكون استئناف الدرس حضوريًّا في المسجد بإذن الله .
فيكون هذا الدرس إذنْ هو آخر الدروس في هذا العام، فنتوقف وإن شاء الله في العام الهجري القادم نستأنف هذا الدرس.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
طيب، نجيب عما تيسَّر من الأسئلة:
الأسئلة
السؤال: إذا نسي الإمام وقام إلى الثالثة في صلاة التراويح، ماذا يفعل؟
الجواب: سُئل الإمام أحمد رحمه هذا السؤال، فقال: من قام إلى ثالثةٍ في التراويح؛ فكأنما قام إلى ثالثةٍ في صلاة الفجر، فإذا قام إلى ثالثةٍ في صلاة الفجر؛ فالواجب عليه أن يرجع وأن يسجد للسهو؛ فكذلك إذا قام لركعة ثالثةٍ في صلاة التراويح، الواجب عليه أن يرجع، وأن يسجد للسهو.
وأما ما يفعله بعض الأئمة من أنه إذا قام للثالثة يُكمِلها ويَصِلها بالرابعة، ثم بعد ذلك يجلس للتشهد، فتكون أربع ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ، فهذا العمل غير مشروعٍ، وليس عليه دليلٌ، فصلاة الليل مثنى مثنى، أو أنها تُسْرَد وِترًا على الصفات الواردة؛ يعني: ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو تسعًا، أما أن تُسرَد أربعَ ركعات؛ فهذا لا أصل له، وليس عليه دليلٌ.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها: “كان النبي يصلي أربع ركعاتٍ، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن” [26]، فكما قال الشُّرَّاح: المقصود أنه يصلي ركعتين ثم ركعتين، ثم يستريح، وليس المعنى أنه يَصِلُ أربع ركعاتٍ بتشهُّدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ.
وعلى هذا نقول: إن الإمام إذا قام لثالثةٍ في صلاة التراويح؛ فكأنما قام لثالثةٍ في صلاة الفجر، فالواجب عليه أن يرجع وأن يسجد للسهو، أن يرجع ويأتي بالتشهد، ثم يسجد للسهو.
السؤال: هل قطرة الأذن تُفطِّر الصائم؟
الجواب: قطرة الأذن لا تفطر الصائم؛ لأن الأذن ليست بمنفذٍ معتادٍ للطعام أو الشراب، حتى لو وَجد طعم القطرة في حلقه؛ فإن هذه رطوبةٌ، ولا يعتبر هذا نفوذًا للقطرة إلى الجوف، ولم يُعهَد أن أحدًا أُعطِيَ الغذاء عن طريق الأذن.
وهكذا أيضًا بالنسبة للعين، فقطرة العين أيضًا لا تُفطِّر الصائم؛ لأن العين ليست بمنفذٍ معتاد للطعام والشراب، وإنما قطرة الأنف إذا وصل ماؤها إلى الجوف فإنها تُفطِّر الصائم؛ لأن الأنف منفذٌ للطعام والشراب عند تعذُّر إعطاء المريض الطعام والشراب عن طريق الفم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في حديثِ لَقِيط بن صَبِرَة : وبالِغْ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا [27]، فنهاه عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائمًا خشية أن ينفُذ شيءٌ من الماء أثناء الاستنشاق إلى الجوف؛ لأنه إذا بالغ في الاستنشاق؛ ربما نفذ شيءٌ من ماء الوضوء إلى الجوف.
وهذا يدل على أن ما ينفُذ عن طريق الأنف إلى الجوف، أنه يُفسِد الصيام؛ وعلى هذا نقول: قطرة الأذن لا تفسد الصيام، وقطرة العين لا تفسد الصيام، أما قطرة الأنف فتفسد الصيام إذا وصل ماؤها إلى الجوف.
السؤال: ما حكم التهنئة بقدوم شهر رمضان؟
الجواب: لا بأس بذلك؛ إذ إنها تهنئةٌ للمسلم بما يَسرُّه، والمسلم يُسَرُّ بنعمة بلوغه شهر رمضان، وأن الله تعالى أنعم عليه فبلَّغه شهر رمضان وقد حَرَمَها غيره ممن اخترمته المنية فمات قبل رمضان.
والتهنئة مِن قبيل العادات، والأصل في العادات الحِل والإباحة، فالتهنئة بقدوم رمضان هي كالتهنئة بالعيد، وكالتهنئة بالزواج، وكالتهنئة بقدوم مولودٍ ونحو ذلك، فهذه لا بأس بها، لا بأس أن يهنئ المسلم غيره مِن أقاربه وأرحامه وجيرانه وزملائه بقدوم هذا الشهر.
بل ربما يكون ذلك مستحبًّا في حق من له عليه حقٌّ واجبٌ؛ كوالديه مثلًا، فيدخل هذا في بر الوالدين، إذا هنأ أباه وأمه بقدوم شهر رمضان؛ فهذا يدخل في بر الوالدين، فربما يصحب هذه التهنئة أمرٌ آخر فينقُلها من دائرة الإباحة إلى دائرة الاستحباب، كما لو هنأ والديه بنية البر بهما، أو هنأ جيرانه بنية الإحسان إليهم، فإن هذه التهنئة تكون في هذه الحال مستحبةً.
السؤال: هل يَصدُق قول النبي : من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه [28]، على من قام بعض ليالي رمضان؟
الجواب: ظاهر الحديث أنه لا يصدق عليه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: من قام رمضان، فإن ظاهره أنه من قام جميع ليالي رمضان؛ ولذلك ينبغي للمسلم أن يحرص على أن يقوم جميع الليالي، وألا ينصرف حتى ينصرف الإمام من آخر ركعةٍ؛ لأن من قام مع الإمام حتى ينصرف؛ كُتب له قيام ليلةٍ، وهذا من فضل الله ومن رحمته بعباده.
فإذا قمت مع الإمام حتى يسلم من الركعة الأخيرة؛ يُكتب لك أجر قيام ليلةٍ، كأنك قمت ليلةً كاملةً، وقال النبي ذلك؛ لأنه لمَّا صلى ببعض أصحابه إلى منتصف الليل؛ قالوا: يا رسول الله، لو نفَّلْتنا بقية ليلتنا هذه، قال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف؛ كُتب له أجر قيام ليلةٍ [29]، وهذا يدل على أن من قام مع الإمام حتى يسلم من الركعة الأخيرة؛ يُكتب له أجر قيام ليلةٍ كاملةٍ، وهذا الفضل يُحرَم منه بعض الناس الذين إما أنهم لا يقومون مع الإمام، أو أنهم يصلون بعض الركعات ثم ينصرفون، فيَحرِمون أنفسهم هذا الفضل.
فاحرِص -يا أخي المسلم- على أن تقوم مع الإمام إلى آخر ركعةٍ إلى أن يسلم من الركعة الأخيرة، حتى يُكتب لك أجر قيام ليلةٍ، وقَرِّر من أول رمضان أن تقوم جميع ليالي رمضان، إذا اتخذت هذا القرار؛ فهذا مما يعينك على تحقيق هذا الأمر؛ لأن من لم يفعل ذلك؛ ربما يأتيه الكسل، فيتحمس في أول الشهر ثم يفتر بعد ذلك.
فينبغي أن تكون عند المسلم العزيمة، كان النبي يقول: اللهم إني أسألك العزيمة على الرشد [30]، وأن يكون كلما أتى رمضان يكون إلى الله تعالى أقرب، فينبغي أن نُرِيَ الله تعالى من أنفسنا خيرًا، وأن تكون حالنا في هذا الشهر المبارك أفضل من حالنا في الأعوام الماضية؛ لأن الإنسان كلما تقدم به العمر؛ ينبغي أن يكون إلى الله أقرب.
السؤال: من سافر للعمرة في نهار رمضان، فهل الأفضل له الصوم، أو الترخص برخصة السفر؟
الجواب: إن كان الصوم يشق عليه؛ فالأفضل له الفطر، أما إذا كان الصوم لا يشق عليه؛ فالأفضل له الصوم، فالرخصة في حق من يشق عليه الصوم؛ ولهذا كان النبي في بعض أسفاره صائمًا، وفي بعض أسفاره مفطرًا [31].
فإذا كان على الإنسان مشقةٌ؛ فالأفضل أن يفطر وأن يأخذ برخصة الله ، والله يحب أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه [32]، ولكن إذا لم يشق عليه الصوم؛ فإن بعض الناس إذا سافر؛ يسافر ويكون في الطائرة، ويكون فيها مكيفاتٌ، وكذلك في السيارة فيها مكيفٌ، ولا يجد مشقةً غير معتادةٍ، فالأفضل في حقه أن يصوم؛ لأن هذا أسرع في براءة الذمة، ولأن النبي كان في بعض أسفاره صائمًا، فإنه خرج عليه الصلاة والسلام في بعض أسفاره وأفطر الصحابة كلهم، ولم يبق إلا هو عليه الصلاة والسلام وعبدالله بن رواحة [33]، ويظهر أنه عليه الصلاة والسلام في تلك السَّفْرة لم يشق عليه الصوم؛ لأنه كان الصحابة يتسابقون على خدمته، وعلى التظليل عليه، فربما أنه لم يجد مشقةً عليه الصلاة والسلام فرجَّح جانب الصوم.
فإذا كان الصوم لا يشق على المسافر؛ فالأفضل في حقه الصوم، أما إذا كان الصوم يشق على المسافر؛ فالأفضل في حقه الفطر.
السؤال: ما أفضل وقتٍ لقراءة القرآن في شهر رمضان؟
الجواب: النبي كان يدارسه جبريل كلَّ ليلةٍ من ليالي رمضان [34]، وهذا يدل على أن المدارسة في الليل أفضل؛ لأن الإنسان أيضًا في الليل يكون مفطرًا، وهو يريد أن يدارس ويتعاهد ما حفظه، فالأفضل في مراجعة الحفظ وتعاهد المحفوظ أن يكون في الليل.
وأما التلاوة التي يُقصد بها محض التقرب إلى الله ، فالأفضل أن تكون نهارًا؛ وذلك لأن المسلم في النهار يكون صائمًا، فينبغي أن ينشغل بالطاعات وبالقربات، ومن ذلك تلاوة القرآن، والأمر في هذا واسعٌ، المهم أن يُكثر من تلاوة القرآن، سواءٌ أكان ذلك في الليل أو في النهار، المهم أن يكثر من التلاوة.
وكان كثيرٌ مِن السلف يقرءون في الليل وفي النهار، يقرءون في النهار من كتاب الله ، ويقرءون في الليل عندما يُصلُّون صلاة الليل، فكانوا يقرءون كثيرًا من القرآن، وكان كثيرٌ من السلف الصالح يطيلون صلاة التراويح جدًّا حتى إنهم ليعتمدون على العِصِيِّ من طول القيام.
السؤال: أيهما أفضل في رمضان: الإكثار من الخَتَمات، أو القراءة بالتدبر؟
الجواب: الأفضل هو الأصلح لقلبه، فإذا كان الأصلح لقلبه القراءة بالتدبر؛ فالأفضل أن يقرأ بالتدبر، ولكن هذا قد لا يتأتى للإنسان؛ فالإنسان يعتريه ما يعتريه من العوارض، فقد يأتي عليه وقتٌ يكون فيه مُتعَبًا، ويكون مريضًا، ويكون ذهنه منشغلًا فلا يتركه لتلاوة القرآن، فيقرأ القرآن بطريقة الحدر؛ يعني بالقراءة السريعة من غير أن يُسقِط شيئًا من الحروف؛ لأنه يُحصِّل بكل حرفٍ عشر حسناتٍ.
فإذنْ نقول: الأفضل هو الأصلح لقلبه؛ فإذا كان الأصلح لقلبه القراءة بالتدبر؛ فإنه يفعل ذلك، وإذا كان الأصلح لقلبه أن يقرأ القراءة السريعة، فإنه يفعل ذلك.
وابن القيم يمثِّل لهذا بمثالٍ، يقول: الذي يقرأ قراءةً بتدبرٍ وتأنٍّ، مثل الذي يتصدَّق بجوهرةٍ نفيسةٍ، والذي يقرأ قراءةً سريعةً -طبعًا من غير إسقاطِ شيءٍ من الحروف- كالذي يتصدق بجواهر عديدةٍ، فهذا يتصدق بجوهرةٍ نفيسةٍ، وهذا يتصدق بعدة جواهر، فكلاهما على خيرٍ، والمسلم يختار ما هو الأصلح لقلبه.
السؤال: هل صحيحٌ أنه لا تصح صلاة المرأة غير الساترة لقدميها؟
الجواب: هذا غير صحيحٍ، تغطية كفي المرأة وقدميها في الصلاة مستحبٌّ -على القول الراجح- وليس واجبًا، وهذا اختيار ابن تيمية وجمعٍ من المحققين من أهل العلم؛ لأن هذا هو ظاهر حال نساء الصحابة ، ولأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على وجوب الستر أو اشتراط الستر للكفين والقدمين، فستر الكفين والقدمين في الصلاة مستحبٌّ وليس واجبًا.
وعلى ذلك فنقول: المرأة إذا ظهر كفَّاها أو قدماها في الصلاة؛ فصلاتها صحيحةٌ، وإن كان الأفضل أن تغطي قدميها وكفيها في الصلاة؛ خروجًا من الخلاف في هذه المسألة.
السؤال: إذا اشتريت سلعةً من موقعٍ فيه تخفيضاتٌ، وبعتها بسعرٍ أعلى، هل يجوز؟
الجواب: نعم يجوز، فأمور التجارة تقوم على هذا: التاجر يشتري سلعةً ويتربح فيها، فإذا اخترت موقعًا فيه تخفيضاتٌ، واشتريت هذه السلعة وبعتها بربحٍ، فلا بأس بهذا، وأمور التجارة من قديم الزمان تقوم على هذا.
السؤال: هل يُقضَى الصوم عن الميت؟
الجواب: نعم، إذا كان الميت قد فرَّط في القضاء، فيستحب لبعض أقاربه أن يصوموا عنه؛ لقول النبي : من مات وعليه صومٌ؛ صام عنه وليُّه [35]، لكن هذا مستحبٌّ ولا يجب؛ لأنه لا تزر وازرةٌ وزر أخرى، فإن لم يتيسر من يصوم عنه؛ فإنه يُطعِم عنه عن كل يومٍ مسكينًا.
السؤال: أريد أن أعتكف العشر الأواخر من رمضان وأعرف متى أدخل المسجد ومتى أخرج منه؟
الجواب: الأفضل أن تدخل المسجد قبل غروب شمس اليوم العشرين من رمضان، وتخرج من المسجد ليلة العيد، هذا الأفضل، حتى يكون زمن العشر الأواخر كله مشمولًا بهذا الاعتكاف، فتدخل قبل غروب شمس اليوم العشرين من رمضان، ولا تخرج من معتكفك إلا ليلة العيد.
السؤال: ما حكم دعاء القنوت في صلاة الوتر؟
الجواب: دعاء القنوت في صلاة الوتر مستحبٌّ، لكن الأفضل ألا يداوم عليه؛ لأن النبي لم يكن يداوم عليه مِن فعله، وصلى معه عددٌ من الصحابة ؛ صلى معه ابن عباسٍ وابن مسعودٍ وحذيفة ، ولم يَنقُلوا أنه عليه الصلاة والسلام كان يقنت في صلاة الوتر.
لكن جاءت المشروعية من تعليمه للحسن [36]، وأيضًا دعاء عمر كذلك [37]، والآثار عن الصحابة ، فيستحب دعاء القنوت، وينبغي عدم الإطالة، وأن يختار الأدعية المأثورة وجوامع الدعاء.
السؤال: ما الأفضل في قراءة السور في الشفع والوتر؟
الجواب: الأفضل قراءة سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، والأفضل أن تُفصَل؛ يعني تُصلَّى ركعتين ثم ركعةً؛ ركعتا الشفع يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وفي الثانية بـقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، ثم في الثالثة بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، والأفضل أن يكون الغالب هو الفصل وليس الوصل، وبعض أئمة المساجد تجد أن الغالب عليه وَصْل الثلاث الركعات بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ، وهذا خلاف السنة، بل بعضهم بصفةٍ دائمةٍ، هذا خلاف السنة، الأفضل أن يكون الغالب الفصل وليس الوصل؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح؛ فليوتر بواحدةٍ [38]، وهذا هو غالب هَدي النبي : أنه يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر بواحدةٍ، لكن لو أنه وَصَل أحيانًا على غير الغالب الثلاث الركعات الأخيرة بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ؛ فلا بأس.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2708. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 2709. |
^3, ^4 | رواه البخاري: 3371. |
^5 | صاحب المفهم. |
^6, ^19 | سبق تخريجه. |
^7, ^8, ^9 | رواه مسلم: 2710. |
^10 | رواه البخاري: 426، ومسلم: 268. |
^11 | رواه البخاري: 626، ومسلم: 736. |
^12 | رواه أبو داود: 3116، وأحمد: 22034. |
^13 | رواه مسلم: 2711. |
^14 | رواه مسلم: 2712. |
^15 | رواه أحمد: 1783، والترمذي: 3514، وقال: حديث صحيح. |
^16 | رواه أحمد: 46، والترمذي: 3549. |
^17 | رواه مسلم: 2713. |
^18 | رواه أحمد: 6618، والنسائي: 5475. |
^20, ^21 | رواه البخاري: 2387. |
^22 | رواه الترمذي: 2352، وابن ماجه: 4126. |
^23 | رواه مسلم: 2714. |
^24 | الشرشف: ملاءة تبسط فوق الفراش لتقيه من الوسخ، أو مِلحفة، أو مِرط، وهي معرَّبة. ينظر المعجم العربي لأسماء الملابس للدكتور رجب عبدالجواد إبراهيم: ص263. |
^25 | رواه مسلم: 2715. |
^26 | رواه البخاري: 3569. |
^27 | رواه أحمد: 16382، وأبو داود: 2366. |
^28 | رواه البخاري: 37، ومسلم: 759. |
^29 | رواه أحمد: 21419، وأبو داود: 1375. |
^30 | رواه أحمد: 17114. |
^31 | رواه البخاري: 4279، ومسلم: 1113. |
^32 | رواه أحمد: 5866. |
^33 | رواه البخاري: 1945، ومسلم: 1122. |
^34 | رواه البخاري: 6. |
^35 | رواه البخاري: 1952، ومسلم: 1147. |
^36 | رواه أحمد: 1718، وأبو داود: 1425، قال الحسن بن علي رضي عنهما: علمني رسول صلى عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر -قال ابن جَوَّاس: في قنوت الوتر- «اللهم اهدني فيمن هديت.. الحديث. |
^37 | رواه البيهقي في السنن الكبرى: 3192. |
^38 | رواه البخاري: 995، ومسلم: 749. |