logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح منظومة أصول الفقه وقواعده/(12) من قوله: “وشرط عقدٍ كونه من مالك ..”

(12) من قوله: “وشرط عقدٍ كونه من مالك ..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

نبدأ أولًا بأصول الفقه، وكنا قد وصلنا إلى قول الناظم: “وشرط عقدٍ كونه من مالك”.

من شروط صحة العقود: أن يكون العاقد مالكًا للمعقود عليه

قال الناظم رحمه الله:

68 – وشَرْطُ عَقْدٍ كَوْنُهُ مِنْ مَالِكِ وَكُلُّ ذِي وِلايَةٍ كَالْمَالِك

يُشير الناظم رحمه الله في هذا البيت إلى شرطٍ من شروط صحة العقود، وهو: أن يكون العاقد مالكًا للمعقود عليه، سواء كان العقدُ عقدَ بيعٍ أم عقد إجارةٍ أم رهنٍ أم غير ذلك من العقود، فلا يصح أن تكون هذه العقود إلا من مالكٍ، فإذا عقد غير المالك لم يصح؛ لقول الله ​​​​​​​: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29].

وعَقْدُ غير المالك هو من أَكْل المال بالباطل؛ ولقول النبي : لا تَبِعْ ما ليس عندك، قاله لحكيم بن حزام في الحديث المشهور [1]، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ: لا تَبِعْ ما ليس عندك.

ولأن بيع غير المالك يُؤدي إلى الخصومة والمُنازعة، والقاعدة في الشريعة: أنها تمنع كلَّ ما أدَّى إلى مُنازعةٍ وخصومةٍ بين المسلمين، وهذا معنى قول الناظم: “وشرط عقدٍ كونه من مالك”.

حكم بيع الفُضُولي

لكن ماذا لو أن غير المالك باع بغير إذنه، باع مال غيره بغير إذنه، وهو ما يُسمى بـ”بيع الفُضُولي”؟

إذا لم يُجزه المالك فلا يصح البيع باتِّفاق العلماء، لكن إذا باع ملك غيره بغير إذنه، ثم أجازه المالك، فهل يصح ذلك أو لا؟

مثال ذلك: إنسانٌ عنده سيارة ويرغب في بيعها، ثم إنه غاب أو سافر أو نحو ذلك، ووجد مَن يبحث عن هذه السيارة، وجدها فرصةً لكي لا يفوت الزبون؛ لكونه صديقًا له -مثلًا- أو نحو ذلك، فباعه سيارته، فلما أتى صاحب السيارة وأُخْبِرَ شكر له، وقال: جزاك الله خيرًا. هل يصح هذا البيع؟

أما على المذهب عند الحنابلة: لا يصح؛ لأنه بيع فُضُولي عندهم، فلا يصح مطلقًا.

والقول الراجح -وهو روايةٌ عن الإمام أحمد-: أنه يصح إذا أجازه المالك، وهو اختيار الإمام ابن تيمية وجمعٍ من المُحققين من أهل العلم: أنه يصح إذا أجازه المالك؛ وذلك لأن المنع من بيع غير المالك إنما هو لحق المالك، فإذا أجازه المالك فقد أسقط حقَّه.

وأيضًا لِمَا جاء في “صحيح البخاري” عن عروة بن الجعد : أن النبي أعطاه دينارًا ليشتري له به شاةً، فاشترى له به شاتين، ثم باع إحدى الشاتين بدينارٍ، وأتى النبيَّ بشاةٍ ودينارٍ، فدعا له النبي بالبركة، فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه [2].

فهنا تصرُّفٌ فُضُولي، يعني: اشترى بهذا الدينار شاتين، والشاتان مِلْك مَن الآن؟

مِلْك النبي ، فباع إحدى الشاتين بغير إذنه عليه الصلاة والسلام، باعها بدينارٍ، ونسبة الربح هنا كم؟

100 %، ومع ذلك أيضًا لم يعتبرها النبي غَبْنًا؛ لأن الصحيح في الغَبْن أنه يعود للعُرف، فلا يُحَدّ بنسبةٍ معينةٍ، فأقره النبي على هذا التَّصرف، فدلَّ هذا على صحة تصرف الفُضُولي بإذن المالك.

إذن الصحيح أنه تُستثنى هذه المسألة، وهي تصرف الفُضُولي بإذن المالك.

المُرابحة للآمر بالشراء

مما يتفرع عن مسألة “اشتراط أن يكون العاقد مالكًا” مسألة ما يُسمى بـ”المُرابحة للآمر بالشراء”، وهي موجودةٌ لدى بعض المصارف، وهي: أن الإنسان يرغب في سلعةٍ، أو يرغب في سيولةٍ، فيذهب للمصرف ويقول: اشتروا لي هذه السلعة، اشتروا لي سيارةً، اشتروا لي بيتًا، اشتروا لي أي سلعةٍ. ويَعِدُهم بأنهم إذا اشتروها سوف يشتريها منهم، فيذهب المصرف ويشتري له هذه السلعة أو هذا العقار، ثم يبيعها عليه، هذا لا بأس به إذا لم يحصل التَّعاقد إلا بعد تملك المصرف للسلعة أو العقار.

أما لو أن المصرف باعه مباشرةً قبل أن يملك السلعة أو العقار، فإن هذا لا يجوز؛ لأن المصرف يكون قد باع ما لا يملك.

ومن ذلك أيضًا: في بعض المكتبات وبعض المحلات التجارية الكبيرة يكون هناك مندوبٌ للبنك يبيع بالتقسيط، فهنا لا بأس بأن يشتري من مندوب البنك هذا، لكن بشرط: أن يكون البنك يملك هذه السلعة؛ لأنه أحيانًا يُوضع مندوبٌ في المحل الكبير في التَّسوق، لكن مجرد تفاهمٍ بين البنك وهذا المحلّ، ولا يملك هذه السلع، يعني: كمبيوترات -مثلًا- أو حاسبات لا يملكها المصرف، لكن مجرد تفاهمٍ، وهذا التَّفاهم لا يكفي، لا بد أن يكون المصرف مالكًا لهذه البضاعة التي يُراد بيعها بالتقسيط.

كيف نعرف أنه مالكٌ أو غير مالكٍ؟

لو تلفتْ هذه السلعة فضمانها على مَن؟

إذا كان ضمانها على المصرف فمعنى ذلك: أنه مالكها، أما إذا كانت المكتبة أو المحل الكبير هو الضامن فمعنى ذلك: أنه لم يملك المصرف.

فانتبهوا لهذه المسألة، وهذه موجودةٌ الآن لدى بعض محلات التَّسوق الكبيرة، يقولون: نحن وضعنا مندوبًا للبنك. والصحيح أن المندوب موجودٌ، لكنه لم يملك السلعة، فيبيع ما لا يملك.

ففي الحقيقة هذه كأنها قرضٌ ربويٌّ، فكأنها دراهم بدراهم أكثر منها؛ لأن البنك لم يملك السلعة، وهذا إنما اشترى هذه السلعة من غير مالكها، أو اشترى هذه السلعة ممن لا يملك، وهو المصرف، وعن طريق -مثلًا- هذا المحلّ، فهذا لا يجوز.

فلا بد إذن في بيع المُرابحة للآمر بالشراء من التَّحقق من شرط المِلْك، وهذه أكبر إشكاليةٍ في هذا البيع الذي تتساهل فيه كثيرٌ من البنوك.

لا بد إذن لمَن أراد أن يشتري سلعةً عن طريق المصرف أن يتأكد من أن المصرف يملك هذه السلعة.

معنى قوله: “وكل ذي ولايةٍ كالمالك”

قال: “وكل ذي ولايةٍ كالمالك”.

“كل ذي ولايةٍ” يعني: مَن له ولايةٌ بالشرع، أو له ولايةٌ بالوضع، فإنه كالمالك في هذا.

أقسام الأولياء في الولاية

الأولياء يمكن تقسيمهم إلى أقسامٍ:

  • القسم الأول: مَن ولايته ثابتةٌ بالشرع، وهي ولايةٌ عامةٌ: كالحاكم، القاضي، فولايته عامةٌ؛ ولايته على الأوقاف، وولايته أيضًا في النكاح، ومنه حديث: فإن اشْتَجَرُوا يعني: أولياء المرأة، فالسلطان ولي مَن لا ولي له [3].
  • والقسم الثاني: مَن ولايته ثابتةٌ بأصل الشرع، لكنها ولايةٌ خاصةٌ: كولي اليتيم.
  • أما القسم الثالث: فمَن ولايته ثابتةٌ بإذن المالك، وهذه تشمل الوصي والوكيل وناظر الوقف.

فهؤلاء كلهم يقومون مقام المالك في الإذن، فمثلًا: إذا اقتضت المصلحة بيع مال اليتيم، فيكون ذلك عن طريق وليه، ولا بد أن تكون الغبطة في البيع، يعني: المصلحة في البيع؛ لأن الله ​ قال: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152].

الوكيل ليس له أن يبيع إلا بإذن مُوكله، وهكذا.

مَن لا يُشترط رضاه لا يُشترط علمه

ثم قال الناظم رحمه الله:

69- وَكُلُّ مَنْ رِضَاهُ غَيْرُ مُعْتَبَرْ كَمُبْرَأ فَعِلْمُهُ لَا يُعْتَبَرْ

يُشير إلى قاعدةٍ هي: أن مَن لا يُشترط رضاه في أيِّ تصرفٍ فإنه لا يُشترط علمه، مَن لا يُشترط رضاه لا يُشترط علمه؛ وذلك لأنه لو اعترض لم يُقْبَل اعتراضه، وحينئذٍ فعلمه وجهله سواء.

فمثلًا: المرأة، هل رضاها مُعْتَبَرٌ في الطلاق؟

يعني: إذا لم تَرْضَ بالطلاق هل يمنع هذا من الوقوع؟

لا، رضاها غير مُعْتَبَرٍ في الطلاق، يعني: يُطلقها الزوج سواء رضيتْ أو لم تَرْضَ، ويقع الطلاق سواء رضيتْ أو لم تَرْضَ، وما دام أن رضاها غير مُعْتَبَرٍ فكذلك علمها غير مُعْتَبَرٍ.

فلو طلَّق الزوج زوجته ولم تعلم بالطلاق إلا بعد مُضِيِّ -مثلًا- حيضة أو حيضتين، فَتُحْتَسب العدة من حين الطلاق، ولا يُشترط علمها بالطلاق في قول عامة أهل العلم؛ لأن رضاها غير مُعْتَبَرٍ، فعلمها غير مُعْتَبَرٍ.

هل يُشترط في إبراء المدين رضاه وعلمه؟

المؤلف مثَّل بمثالٍ يحتاج إلى مناقشةٍ، قال: “كَمُبْرَأ”، ومُراده بـ”المُبْرَأ” يعني: إذا كان الإنسان مَدِينًا وأَبْرَأَه الدائن من الدَّين، فيقولون: إنه لا يُشْتَرَط رِضَا هذا المُبْرَأ بإبرائه من الدَّين، فلو قال: أنا ما أرضى أن تُبْرِأني يا فلان من الدَّين. قال: أنا أُطالبك بعشرة آلافٍ، وسامحتُكَ وأَبْرَأْتُك.

فعلى المذهب: أنه لا يُشترط رضاه، فلو قال: أنا أعترض، أنا ما أريد أن تُبْرِأني. يقولون: لا، هو لا يُعْتَبَر رضاه، وإذا كان لا يُعتبر رضاه فلا يُعتبر علمه، سواء علم أم لم يعلم سيبرأ من هذا الدَّين. وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

والقول الثاني في المسألة: أنه إذا لم يَرْضَ المُبْرَأ بإبرائه من الدَّين فإنه لا يَبْرَأ؛ وذلك لأن هذا الإبراء نوعٌ من المعروف، وقد تلحقه المِنَّة، قد تلحق هذا المُبْرَأ المِنَّة، ولا يلزم أن يكون الإنسان تحت مِنَّة غيره.

إذا كان -مثلًا- هذا المدين يعرف أن الدائن إنسانٌ كثير المِنَّة، وأنه سيُؤذيه أذًى نفسيًّا بهذه المِنَّة، وقال الدائن: أنا أَبْرَأْتُك. فقال المدين: أنا ما أقبل أن تُبْرِأني، ما أقبل إبراءك لي.

الصحيح: أنه يُشترط رضاه، هذا القول الصحيح، وإذا كان يُشترط رضاه فيُشترط علمه.

والغريب أن المؤلف رجَّح هذا القول، الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله رجَّح هذا القول مع أنه مثَّل به، يعني: مثَّل بهذا القول على المذهب ورجَّح خلافه، فربما تكون الضرورة الشعرية أَلْجَأَتْه لهذا المثال، أقول: ربما يكون هذا هو السبب، وإلا فالشيخ يُرجِّح خلاف هذا القول الذي مثَّل به، فهو يُرجِّح أنه يُشْتَرَط رضاه ويُشترط علمه، يُشترط رضا المُبْرَأ وعلمه.

الأصل في العقود الصحة

قال:

70- وَكُلُّ دَعْوَى لِفَسَادِ الْعَقْدِ مَعَ ادِّعَاءِ صِحَّةٍ لا تُجْدِي

وهذه قاعدةٌ من القواعد المفيدة في أبواب المعاملات، وهي: أنه عند التنازع والخصومة في العقد، أحدهما يَدَّعي فساده، والآخر يدَّعي صحته، فالقول قول مَن يدَّعي الصحة ما لم يَأْتِ مَن يدَّعي الفسادَ ببينةٍ؛ لأن الأصل صحة العقود.

هذه قاعدةٌ: الأصل صحة العقود.

فقوله: “مَعَ ادِّعَاءِ صِحَّةٍ لا تُجْدِي” يعني: لا تنفع.

“وَكُلُّ دَعْوَى لِفَسَادِ الْعَقْدِ” يعني: لو ادَّعى مُدَّعٍ أن هذا العقد فاسدٌ، وعَارَضَه المُدَّعَى عليه فادَّعى أن هذا العقد صحيحٌ، فالقول قولُ مَن ادَّعى الصحة، ودعوى مَن ادَّعى فساد العقد لا تُجْدِي، يعني: لا تنفع، هذا معنى البيت.

إذن نقول لِمُدَّعِي الفساد: ائْتِ بالبينة. فإن لم يَأْتِ بالبينة فالقول قول مُدَّعي الصحة؛ لأن الأصل صحة العقود.

مثال ذلك: لو باع شخصٌ على آخر سلعةً من السلع، ثم ادَّعى البائع بعد ذلك الجهالة والغرر -مثلًا- أو نحو ذلك، فنقول: القول قول المُشتري ما لم يُثْبِت البائعُ جهالةً أو غَرَرًا.

إذن هذه القاعدة ترجع إلى هذا الأصل، وهو: أن الأصل في العقود الصحة، فعلى مَن يدَّعي خلاف ذلك الإثبات.

حكم الدعوى إن كانت مما يُنْكِره الحِسّ

قال:

71- وكُلّ مَا يُنْكِرُهُ الْحِسُّ امْنَعَا سَمَاعَ دَعْوَاهُ وَضِدَّهُ اسْمَعَا

“وكُلّ مَا يُنْكِرُهُ الحِسُّ امْنَعَا سَمَاعَ دَعْوَاهُ” يُفرق العلماء بين نَفْي السماع ونَفْي القبول؛ فَنَفْي السماع معناه: أن القاضي يصرف النظر عن الدعوى، فلا يسمع دعواهما، ولا يعقد لهما جلسةً، بل يصرف النظر عن دعواهما.

أما نَفْي القبول فمعناه: أن القاضي يسمع منهما، ويفتح جلسةً أو جلسات للاستماع من الخصمين، ثم ينظر: هل تُقْبَل الدعوى من أحدهما على الآخر أو لا تُقبل؟

فالمؤلف يقول: “وكُلّ مَا يُنْكِرُهُ الحِسُّ امْنَعَا سَمَاعَ دَعْوَاهُ” يعني: القاضي يمنع سماع دعواه أصلًا، يعني: يصرف النظر عن دعواه أصلًا، ولا يستمع لدعواه إذا كانت دعواه مما يُنْكِره الحِسُّ.

“وَضِدَّهُ اسْمَعَا” يعني: إذا كانت مما لا يُنْكِره الحِسُّ فالقاضي يسمع دعواه، وينظر في القضية، وينظر في الخصومة، ويحكم بما يرى.

أمثلةٌ لما يُنْكِره الحِسُّ

من أمثلة ما يُنْكِره الحِسُّ: لو ادَّعى المُضارب أن حريقًا عامًّا وقع في الحيِّ الذي يسكن فيه، وأنه احترق محله الذي فيه البضاعة التي يُضارب فيها، ولا يُعْلَم أن هناك حريقًا عامًّا وقع في ذلك الحيِّ -مثلًا- في هذا العام، فدعواه لا تُسْمَع؛ لأن الحريق العام لا يَخْفَى، ويتيسر إحضار الشهود، فهو من الأمور التي لا تَخْفَى، فدعواه هذه يُكذبها الحِسُّ، فلا تُسْمَع.

ومن أمثلة ذلك: لو ادَّعت امرأةٌ -مثلًا- أنها حملتْ من طفلٍ عمره سبع سنوات، حملتْ هذه المرأة، فقيل: ممن؟ قالت: من هذا الطفل الذي عمره سبع سنواتٍ. فهذه دعوى يُكذبها الحِسُّ.

المؤلف نفسه مثَّل لهذا البيت بمثالٍ، قال: لو ادَّعى واحدٌ من الناس أنه رأى الهلال بعد غروب الشمس، وكان الناس قد رأوه غاب قبل غروب الشمس بالمراصد والمُكبرات، فدعوى هذا الرجل لا تُسْمَع؛ لأنها يُكذبها الحِسُّ.

يعني: يُشير بهذا إلى أنه -مثلًا- إذا رأى الناس أن الهلال غرب قبل الشمس بالمراصد أو (بالتلسكوبات) أو نحو ذلك، ثم أتى إنسانٌ وادَّعى أنه رأى الهلال بعد غروب الشمس، فدعواه هذه يُكذبها الحِسُّ، فلا تُقْبَل دعواه، ولا تُسْمَع دعواه.

كما لو أتى -مثلًا- إنسانٌ بعد غروب شمس يوم سبعةٍ وعشرين من الشهر، أو يوم ستةٍ وعشرين، وادَّعى أنه رأى الهلال بعد غروب الشمس، فدعواه هذه يُكذبها الحِسُّ، فلا تُسْمَع دعواه؛ لأن بعض الناس قد يَهِمُ، يعني: قد يتوهم، فالدعاوى التي يُكذبها الحِسُّ لا تُسْمَع أصلًا.

البينة على المُدَّعي واليمين على مَن أنكر

أما إذا كانت لا يُكذبها الحِسُّ فيستمع القاضي وينظر في البينات، وفي القاعدة العظيمة في باب القضاء، والتي أشار إليها الناظم في البيت الآتي قال:

72- بَيِّنَةً أَلْزِمْ لِكُلِّ مُدَّعِ وَمُنْكِرًا أَلْزِمْ يَمِينًا تُطِعِ

“بينة” مفعول لـ”أَلْزِمْ” يعني: ألزم بينةً لكل مُدَّعٍ.

وأخذ الناظم هذا من قول النبي : البينة على المُدَّعي، واليمين على مَن أنكر [4].

هذه قاعدةٌ عظيمةٌ في باب القضاء: البينة على المُدَّعي، واليمين على مَن أنكر.

هذا معنى قوله: “بَيِّنَةً أَلْزِمْ لِكُلِّ مُدَّعِ .. وَمُنْكِرًا أَلْزِمْ يَمِينًا تُطِعِ”.

إنسانٌ ادَّعى على آخر -مثلًا- عشرة آلاف ريالٍ، فنقول: أَثْبِتْ أنك تُطالبه بعشرة آلاف ريالٍ.

فإن عجز وليس عنده بينةٌ، فنقول للمُدَّعَى عليه: احْلِفْ أن هذا الرجل لا يُطالبك بعشرة آلاف ريالٍ.

فإن حلف برئ، وإن نَكَلَ -يعني: امتنع عن الحلف- الصحيح أنه يُقْضَى عليه بالنُّكُول، يعني: بالامتناع.

هل تُرَدّ اليمين إلى المُدَّعي؟

لكن هل تُرَدّ اليمين إلى المُدَّعي؟

هذا محل خلافٍ بين العلماء، والصحيح: أن المرجع في ذلك إلى نظر القاضي، فإذا رأى القاضي أن الأمر يستدعي ردَّ اليمين إلى المُدَّعي بأن ظهرتْ -مثلًا- علاماتٌ على أن هذا المُدَّعى عليه امتنع عن الحلف لورعٍ أو نحو ذلك، فأراد القاضي أن يتأكد؛ فله أن يردَّ اليمين على المُدَّعي، أما إذا كانت الأمور ظاهرةً فيحكم بمجرد النُّكول، يقضي بمجرد النُّكول.

النُّكول معناه: الامتناع عن الحلف، يعني: الآن ادَّعى شخصٌ على آخر أنه يُطالبه بعشرة آلافٍ، فقيل للمُدَّعي: أعطنا بينةً. قال: ما عندي بينة. فقلنا للمُدَّعى عليه: احلف أنه ما يُطالبك بعشرة آلاف ريالٍ. قال: ما أحلف. ورفض؛ فيحكم عليه بأنه يثبت في ذِمَّته عشرة آلاف ريال لهذا المُدَّعي.

وللقاضي أن يردَّ اليمين على المُدَّعي إذا رأى أن المصلحة تقتضي ذلك.

هل تنحصر البينة في شهادة الشهود؟

قلنا: إن المُدَّعي يُطَالَب بالبينة، والبينة في الأصل هي شهادة الشهود، وشهادة الشهود تختلف، فمثلًا: شهادة الشهود في إثبات حدِّ الزنا أربعة شهود، ولإثبات الإعسار ثلاثة شهود، ولإثبات القصاص وبقية الحدود شاهدان، وللأموال رجلان أو رجلٌ وامرأتان، وأيضًا في الأموال تصح شهادة رجلٍ ويمين المُدَّعي -شهادة شاهدٍ واحدٍ مع يمين المُدَّعي- وكذلك ما لا يَطَّلِع عليه إلا النساء غالبًا تكفي شهادة امرأةٍ ثقةٍ: كالرضاع -مثلًا- وبكارة المرأة، ونحو ذلك.

هذا هو الأصل في البينة، ولكن القول الصحيح: أن البينة لا تنحصر في شهادة الشهود، وأن البينة -كما حقَّق ذلك ابن القيم- اسمٌ لكلِّ ما أبان الحقَّ، فكل ما أبان الحقَّ يدخل في البينة.

وعلى ذلك فالقرائن قد تجتمع فتكون أقوى من شهادة الشهود، يعني: عندما -مثلًا- تجتمع أربع أو خمس قرائن ربما تفوق شهادةَ الشهود.

من القرائن -مثلًا- البصمة، ومن القرائن -مثلًا- تصوير هذا الإنسان وهو يفعل كذا، مع أن التصوير ليس حجةً قاطعةً، وقد يُتلاعب بالصور، والتَّسجيل مع أنه أيضًا ليس حُجَّةً قاطعةً، وقد يُتلاعب بالأصوات، لكنه قرينةٌ يُستأنس بها، فإذا اجتمعتْ عدة قرائن فإنها تقوم مقام شهادة الشهود، بل ربما تكون أقوى من شهادة الشهود.

ولهذا جعل النبي بينة صاحب اللُّقَطَة هي: أن يصفها وصفًا صحيحًا: اعرف وِكَاءَها وعِفَاصَهَا، ثم عَرِّفْهَا سنةً، فإن جاء مَن يعرفها وإلا فاخلطها بمالك [5]، يعني: إن أتى صاحبها فَذَكَرها بأوصافها -ذكر صاحبُ اللُّقَطَة أوصافها- فهي البينة بالنسبة له.

في القسامة البينة هي: أن يحلف خمسون رجلًا من العَصَبَة على أن فلانًا هو القاتل.

فالبينة إذن هي اسمٌ لكل ما أبان الحقَّ من غير أن تُحْصَر بشهادة الشهود.

فهذه إذن هي القاعدة العظيمة في باب القضاء: أن البينة على المُدَّعي، واليمين على مَن أنكر.

هذه قاعدةٌ عظيمةٌ في باب القضاء، وعليها العمل من قديم الزمان.

فهذا الذي عَنَاهُ الناظم رحمه الله بهذا البيت.

ثم تكلَّم بعد ذلك الناظم رحمه الله عن مسألة الأمين، ومتى يُقْبَل قول الأمين؟ ومتى لا يُقْبَل؟

وهذه نُرجئ الكلام عنها إلى الدرس القادم، إن شاء الله تعالى.

ولعل هذا يكون آخر درسٍ معنا ونتوقف.

يُفترض أن يكون آخر درسٍ الأسبوع القادم، لكن عندنا الأسبوع القادم لقاءٌ في الجمعية الفقهية، فلا يتيسر عقد الدرس الأسبوع القادم.

يعني: نتوقف ويكون هذا آخر درسٍ من باب إتاحة الفرصة أيضًا للطلاب للمُذاكرة، خاصةً طلاب الجامعات، فاختبارهم مُقدَّمٌ، يعني: أظن في 7 صفر أو 6.

فلعل هذا يكون آخر درسٍ، ونستأنف الدرس -إن شاء الله تعالى- في أول اثنين من شهر ربيع الأول، يعني: مع بداية الدراسة، أظنه يُوافق يوم 7/ 3، المهم أنه أول يومٍ من الدراسة؛ جَرْيًا على طريقتنا في هذا، إن شاء الله تعالى.

بالنسبة للخطة سنُكمل -إن شاء الله تعالى- في الفصل الثاني “دليل الطالب”، وسنُكمل أيضًا “شرح منظومة أصول الفقه” على كل تقديرٍ -إن شاء الله- حتى لو افترضنا أنه ضاق الوقت سنأخذ أيامًا أخرى؛ لكي نُنْهِي هذين الكتابين -إن شاء الله تعالى- بحيث إننا في العام القادم -إن شاء الله- نبتدئ بكتبٍ جديدةٍ.

فهذه إذن الخطة: أننا في الفصل الثاني نُنْهِي “دليل الطالب”، ونُنْهِي أيضًا “شرح منظومة أصول الفقه”، ومَن عنده مُقترحٌ بالنسبة للكتب الجديدة في العام القادم يُقدم مُقترحه ونُناقشه -إن شاء الله- قُبيل التَّوقف، نُناقش هذه المُقترحات ونُخبركم، ونُعلن -إن شاء الله تعالى- عن الكتب الجديدة التي يكون فيها الدرس، إن شاء الله تعالى.

على كل حالٍ، هذا سابقٌ لأوانه، نُناقشها في حينها، الكتب المُقترحة نُناقشها في حينها، إن شاء الله.

بهذا نكون قد انتهينا من أصول الفقه، وقبل أن ننتقل إلى “دليل الطالب”، هل هناك سؤالٌ أو استفسارٌ فيما شُرِحَ؟

السؤال: …….

الجواب: يعني: في تحرير المُدَّعي والمُدَّعى عليه.

المُدَّعي هو: مَن يتقدم بالدعوى ويطلب من القاضي تحرير الدَّعوى، وتحرير الدَّعوى هذا من أهم المسائل، يعني: يُحرر: المُدَّعي ماذا يريد؟ وبأي شيءٍ يُطالب؟ فيُقدم المُدَّعي دعواه ويُحررها.

وهذه ستأتينا -إن شاء الله- في كتاب “القضاء”: تحرير الدَّعوى وما يتعلق بها.

السؤال: …….

الجواب: هنا إذا اجتمعت البينة واليمين، أصلًا إذا وُجدتْ بينةٌ لا يُحتاج إلى أن المُدَّعَى عليه يحلف، فالبينة مع المُدَّعي ويُقْضَى بها من غير رجوعٍ للمُدَّعى عليه حتى في الحدود والقصاص.

ولذلك جاء في “صحيح البخاري”: أن رجلين أتيا برجلٍ وشهدا عليه بأنه قد سرق، فأمر عليٌّ بقطع يده، وكان في صدر الإسلام، وكانت الحدود تُنفذ في نفس اليوم، كل الحدود والقصاص، بل حتى لا توجد أكثر من جلسةٍ في القضايا، جلسة واحدة يُبَتُّ فيها، وكان القضاء في الإسلام مُزدهرًا ومُتميزًا، فعليٌّ لما أتاه شاهدان وظاهرهما العدالة أمر بقطع يده، فَقُطِعَتْ يده، وفي اليوم الثاني أَتَيَا برجلٍ آخر وقالا: قد أخطأنا في الأول، وهذا هو السارق. فقال عليٌّ : “لو أعلم أنَّكما تعمَّدتُما لقطعتُكما”، فَغَرَّمهما ديةَ الأول، وردَّ شهادتهما عن الثاني [6].

دية الأول: دية اليد كم؟

خمسون من الإبل، يعني: مالًا كبيرًا.

يعني: هذا الخطأ ترتَّب عليه قطع يده، وردّ شهادتهما عن الثاني؛ لأنه تبين أنهما ليسا بأهلٍ للشهادة، وكل يومٍ يأتيان بإنسانٍ ويقولان: هذا هو السارق.

يعني: هذا وقع في عهد عليٍّ .

فالقاضي يحكم بمُوجب البينات، والبينات مُحتملةٌ للصحة، ومُحتملةٌ للخطأ، مُحتملةٌ للصدق، ومُحتملةٌ للكذب، لكن القاضي ليس أمامه إلا البينات.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 3503، والترمذي: 1232، والنسائي: 4613، وابن ماجه: 2187، وأحمد: 15311.
^2 رواه البخاري: 3642.
^3 رواه الترمذي: 1102 وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 1879، وأحمد: 24205.
^4 رواه البيهقي في “السنن الكبرى”: 21201.
^5 رواه البخاري: 5292، ومسلم: 1722.
^6 رواه البخاري مُعلقًا عقب حديث: 6896، والدارقطني في “سننه”: 3394.
zh