عناصر المادة
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
نبدأ أولًا بدرس أصول الفقه، وكنا قد وصلنا إلى قول الناظم: “ثم العقود إن تكن مُعاوضة”.
الطالب: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أقسام العقود
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
62 – ثُمَّ العُقُودُ إِنْ تَكُنْ مُعَاوَضَهْ | فَحَرِّرَنْهَا وَدَعِ الْمُخَاطَرَهْ |
63 – وَإِنْ تَكُنْ تَبَرُّعًا أَوْ تَوْثِقَهْ | فَأَمْرُهَا أَخَفُّ فَادْرِ التَّفْرِقَهْ |
64 – لأَنَّ ذِي إِنْ حَصَلَتْ فَمَغْنَمُ | وَإِنْ تَفُتْ فَلَيْسَ فِيهَا مَغْرَمُ |
65 – وَكُلُّ مَا أَتَى وَلَمْ يُحَدَّدِ | بِالشَّرْعِ كَالْحِرْزِ فَبِالْعُرْفِ احْدُدِ |
66 – مِنْ ذَاكَ صِيغَاتُ العُقُودِ مُطْلَقَا | ونَحْوُهَا فِي قَوْلِ مَنْ قَدْ حَقَّقَا |
67 – وَاجْعَلْ كَلَفْظٍ كُلَّ عُرْفٍ مُطَّرِدْ | فَشَرْطُنَا العُرْفِيُّ كَاللَّفْظِيْ يَرِدْ |
الشيخ: حسبك.
طالبٌ آخر: قال الناظم رحمه الله تعالى:
62 – ثُمَّ العُقُودُ إِنْ تَكُنْ مُعَاوَضَهْ | فَحَرِّرَنْهَا وَدَعِ الْمُخَاطَرَهْ |
63 – وَإِنْ تَكُنْ تَبَرُّعًا أَوْ تَوْثِقَهْ | فَأَمْرُهَا أَخَفُّ فَادْرِ التَّفْرِقَهْ |
64 – لأَنَّ ذِي إِنْ حَصَلَتْ فَمَغْنَمُ | وَإِنْ تَفُتْ فَلَيْسَ فِيهَا مَغْرَمُ |
65 – وَكلُّ مَا أَتَى وَلَمْ يُحَدَّدِ | بِالشَّرْعِ كَالحِرْزِ فَبِالْعُرْفِ احْدُد |
66 – مِنْ ذَاكَ صِيغَاتُ العُقُودِ مُطْلَقَا | ونَحْوُهَا فِي قَوْلِ مَنْ قَدْ حَقَّقَا |
67 – وَاجْعَلْ كَلَفْظٍ كُلَّ عُرْفٍ مُطَّرِدْ |
فَشَرْطُنَا العُرْفِيُّ كَاللَّفْظِيْ يَرِدْ |
الشيخ: قال الناظم رحمه الله:
62 – ثُمَّ العُقُودُ إِنْ تَكُنْ مُعَاوَضَهْ | فَحَرِّرَنْهَا وَدَعِ الْمُخَاطَرَهْ |
قسَّم المؤلف العقود إلى ثلاثة أقسامٍ:
- الأول: عقود المُعاوضة.
- والثاني أشار إليه في البيت الذي بعده: “وإن تكن تبرعًا أو توثقه”.
القسم الثاني: عقود التَّبرعات. - والقسم الثالث: عقود التوثيق أو الاستيثاق.
فعقود المُعاوضة: هي التي يكون فيها ثمنٌ ومُثْمَنٌ، وعِوَضٌ ومُعَوَّضٌ: كالبيع والشراء والإجارة، ونحو ذلك من عقود المُعاوضة.
وأما القسم الثاني: وهي عقود التَّبرعات، فهذه هي التي لا يُقْصَد منها العِوَض، وإنما تُبْذَل على سبيل التَّبرع: كالهبة والعطية والهدية والصدقة.
والقسم الثالث: عقود التوثيق أو الاستيثاق، وهي التي يُقْصَد منها توثقة العقود، وذلك كالرهن والضمان ونحوها.
القسم الأول: عقود المُعاوضة
فأما القسم الأول وهو عقود المُعاوضة، فقال المؤلف فيه:
62 – ثُمَّ العُقُودُ إِنْ تَكُنْ مُعَاوَضَهْ | فَحَرِّرَنْهَا وَدَعِ الْمُخَاطَرَهْ |
اشتراط العلم وانتفاء الغَرَر في عقود المُعاوضة
في هذا القسم -وهو عقود المُعاوضة- يقول المؤلف: “حرِّرنها” يعني: لا بد أن تكون بعيدةً ..، مُراد المؤلف هو: أن تكون هذه العقود بعيدةً عن الجهالة والغَرَر، فلا بد أن تكون معلومةً، ويكون المَبِيع معلومًا، والثمن معلومًا، فلا تجوز هذه العقود مع الجهالة والغَرَر.
ولهذا أكَّد النَّاظم هذا المعنى بقوله: “وَدَعِ المُخاطرة” يعني: إذا لم تُحررها وصارت فيها جهالةٌ وغَرَرٌ فهذه مُخاطرةٌ، والمُخاطرة من المَيْسر؛ لأن الذي يتعامل بالميسر على خطرٍ: إما أن يَغْنَم، وإما أن يَغْرَم.
إذن لا بد في عقود المُعاوضات من انتفاء الغَرَر؛ ولهذا فمن شروط صحة البيع: أن يكون المبيع معلومًا برؤيةٍ أو صفةٍ، فإذا كان مجهولًا أو غير مقدورٍ على تسليمه فإنه لا يصح البيع.
أمثلةٌ على الغَرَر في عقود المُعاوضة
من أمثلة ذلك: بيع الطير في الهواء، وبيع السمك في الماء، وبيع العبد الآبق، والجمل الشارد، ونحو ذلك مما ذكره الفقهاء.
ومن الأمثلة المعاصرة: التأمين التجاري، فإن العِلة في تحريمه هي الغَرَر، وأما ما قيل من العلل الأخرى فالذي يظهر أنها لا يستقيم التَّعليل بها، ما قيل من الربا أو من الميسر فلا يُسلَّم، إنما العِلة التي هي مأخذ التَّحريم في التأمين التجاري هي الجهالة والغَرَر، فإن المُؤمِّن قد يحصل على أكثر من حقِّه، وقد يحصل على أقلّ من حقِّه، وقد لا يحصل على شيءٍ، وعقد التأمين التجاري عقد مُعاوضةٍ، وهذه الشركات ما أُنشئت إلا لأجل أن تربح وتستفيد.
فلهذا الذي عليه فتوى أكثر العلماء المعاصرين، وهو الذي عليه المجامع الفقهية، وكذلك مجلس هيئة كبار العلماء: هو تحريم التأمين التجاري.
وأما التأمين التعاوني فإنه يجوز، التأمين التعاوني يجوز؛ وذلك لأن التأمين التعاوني لا يدخل في هذا القسم -قسم المُعاوضات- وإنما يدخل في القسم الثاني على ما سيأتي.
إذن عقود المعاوضات لا بد فيها من انتفاء الجهالة والغَرَر، وهذا مُراد الناظم بالتَّحرير.
طيب، ما الدليل على انتفاء الجهالة والغرر؟
أدلةٌ كثيرةٌ، منها: حديث أبي هريرة : أن النبي نهى عن الغرر في “صحيح مسلم” [1]، وهذا أمرٌ معلومٌ ومُستقرٌّ عند عامة أهل العلم.
لكن ما الحكمة من منع الشريعة من المُعاوضة إذا كان مبناها على الجهالة والغرر؟
تُؤدي للنزاع؛ لأنه في عقود المُعاوضات كلٌّ يريد حقَّه كاملًا، فإذا كانت هناك جهالةٌ أو غررٌ فأحدهما سيربح من هذا العقد والآخر سيخسر، وهذا مَظِنَّةٌ لوقوع المُنازعات والخصومة بين الناس، والشريعة الإسلامية سَدَّتْ كل ما يُؤدي إلى النزاع والشحناء بين المسلمين.
وهذا يدل على عظيم هذا الأصل: كل ما كان مُؤديًا للمحبة والمودة بين أفراد المجتمع الإسلامي فإن الشريعة الإسلامية تدعو إليه، وكل ما كان مُؤديًا للشحناء والبغضاء فإنها تمنع منه.
ولا شكَّ أن عقود المُعاوضات المبنية على الغرر تُؤدي إلى الشحناء والبغضاء؛ لأن كل واحدٍ منهما ما دخل في هذا العقد إلا وهو يريد حقَّه كاملًا، فإذا بُخِسَ حقّه بسبب الغرر فلا شكَّ أن هذا يُؤدي إلى المُنازعة والخصومة.
هذا ما يتعلق بهذا النوع، وهو النوع الأول.
النوع الثاني: عقود التَّبرعات، وبيَّنا المقصود بها.
والنوع الثالث: عقود التوثيق أو الاستيثاق، وبيَّنا المقصود بها.
عقود التَّبرعات وعقود التَّوثيق
يقول الناظم:
63 – وَإِنْ تَكُنْ تَبَرُّعًا أَوْ تَوْثِقَهْ | فَأَمْرُهَا أَخَفُّ فَادْرِ التَّفْرِقَهْ |
يعني: عقود التبرعات وعقود التوثيق أمرها أخفّ.
أخفُّ من ماذا؟
أخفُّ من عقود المُعاوضات.
أخفُّ في أيِّ شيءٍ؟
أخفُّ في مسألة انتفاء الجهالة والغرر؛ لأنه لما طَالَبَ بالتَّحرير -وهو العلم وانتفاء الجهالة والغرر- وترك المُخاطرة ذكر أن ذلك بالنسبة لعقود التوثيق وعقود التبرعات أخفّ، وعقود التوثيق أضيق من عقود التبرعات، وعقود المُعاوضات أضيق من عقود التوثيق.
ثم بيَّن التَّفرقة فقال: “فَأَمْرُهَا أَخَفُّ فَادْرِ التَّفْرِقَهْ”.
64 – لأَنَّ ذِي إِنْ حَصَلَتْ فَمَغْنَمُ | وَإِنْ تَفُتْ فَلَيْسَ فِيهَا مَغْرَمُ |
يعني: إن حصلتْ فالإنسان غانمٌ، وإن لم تحصل فهو سالمٌ.
في عقود التوثيق وعقود التبرعات هو يدور بين الغُنْم والسلامة، هذا معنى قوله: “إن حصلتْ فَمَغْنَم وإن تَفُتْ فليس فيها مَغْرَمُ” يعني: إما غانم، وإما سالم.
وهذا بخلاف عقود المُعاوضات، فيتردد بين الغُنْم والغُرْم، وبين الربح والخسارة.
هذا هو وجه التَّفرقة بين هذه العقود.
ولهذا فإنه يُتَسامح في الجهالة والغرر في عقود التبرعات عمومًا، فتصح هبة المجهول، وتصح الوصية بمجهولٍ؛ لأن هذا الشخص الذي قد وُهِبَ له: إما غانم، وإما سالم، يعني: لو وُهِبَ مجهولٌ، وُهِبَ حمل هذه الشجرة -مثلًا- أو حمل ما في بطن هذا الحيوان، يعني: ما الذي يضره؟
إن خرج الحمل حيًّا فهو غانمٌ، وإن خرج ميتًا فهو سالمٌ، وإن حملت الشجرة فهو غانمٌ، وإلا فهو سالمٌ.
والوصية بمجهولٍ كذلك.
وأيضًا في عقود التوثيق لا يتشدد في مسألة الجهالة والغرر، يُقال: رهنتُك هذا العقار. وهذا العقار لا يدري ما فيه وما محتوياته، فيصح، ويكفي أن يعلم بالعقار فقط؛ وذلك لأن الغرض هو التوثيق لهذا الدَّين أو لبعضه.
أمثلةٌ على عقود التبرعات التي فيها غررٌ
من أمثلة عقود التبرعات التي فيها غررٌ: ما أشرنا إليه قبل قليلٍ من التأمين التعاوني، فالتأمين التعاوني فيه جهالةٌ وغررٌ، لكن لما كان مبنيًّا في الأصل على التَّبرع فتُغتفر فيه الجهالة والغرر، وهذا هو وجه التفريق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني: التأمين التجاري يُراد به المُعاوضة والربحية والتَّكسب من ورائه، والتأمين التعاوني لا يُراد به هذا، يُراد به التَّبرع، وإن كان يشوبه شيءٌ من المُعاوضة أيضًا.
ففي التأمين التجاري الفائض من التأمين تأخذه الشركة، بينما في التأمين التعاوني الفائض هو لصالح المُؤمِّنين، لكن الشركة تأخذ مقابل إدارتها، الشركة تأخذ مقابل الإدارة؛ ولذلك فإن التأمين التعاوني لا بأس به، وهو الذي أقرته المجامع الفقهية ومجلس هيئة كبار العلماء: أن التأمين التعاوني لا بأس به.
والتأمين التعاوني من صوره -مثلًا-: العاقلة، فالعاقلة مُلْزَمةٌ بتحمُّل الدية عن القاتل خطأً أو شبه عمدٍ، والعاقلة هم عصبة الإنسان، فهذا شبيهٌ بالتأمين التعاوني: العاقلة، فكل إنسانٍ مُلزمٌ بأن يدفع جزءًا من المال عندما يقتل أحدُ أقاربه شخصًا وتَلْزَمه الدية، وإذا احتاج أيضًا يُعْطَى، يعني: هي فيها نوعُ شَبَهٍ بالعاقلة.
فالتأمين التعاوني إذن لا بأس به، وفي الوقت الحاضر: وُجِدَت الآن عدة شركات تُمارس التأمين التعاوني، وينبغي أن تُشجع هذه الشركات؛ لأنها إذا شُجعتْ سيدفع هذا بقية الشركات إلى الاتجاه للتأمين التعاوني.
طالب: …….
الشيخ: نعم، يعني: هذه مسؤولية المجتمع، فينبغي أن تُشجع مثل هذه الشركات، وما قد يقع فيها من أخطاء فإن الأخطاء تُعالج.
يعني: بعض الناس تجد أنه عندما تقع أخطاء من بعض المصارف الإسلامية -مثلًا- أو بعض القنوات المُحافظة، أو بعض شركات التأمين التعاوني، تجد أنه يُسقطها، بل يغلو بعضهم ويقول: إن الإعلام غير الإسلامي أفضل، أو المصارف الربوية أفضل، أو شركات التأمين التجاري أفضل.
هذا كله غير صحيحٍ، ومَن قام بمشروعٍ إسلاميٍّ ينبغي أن يُشْكَر ويُشجع، وما قد يقع من أخطاء فإنها تُعالج مثل هذه الأخطاء.
فمثل هذه الشركات التي قامت الآن -وهي في حدود أربع أو خمس شركات- ينبغي أن تُشجع، وأن يكون مَن عنده تأمين يُؤمِّن عند هذه الشركات؛ تشجيعًا لها.
وهناك أيضًا نوعٌ من التأمين يدخل في هذا الباب، وهو التأمين الاجتماعي –التأمين التجاري قلناه، والتأمين التعاوني- والتأمين الاجتماعي بعضهم يجعله قسمًا من التأمين التعاوني، وبعضهم يُفرده بقسمٍ ثالثٍ، ولا مُشاحة في الاصطلاح.
التأمين الاجتماعي مثل: معاشات التقاعد، ومثل: التأمينات الاجتماعية، فهذه لا بأس بها؛ لأنه لا يُقصد منها المُرابحة والمُعاوضة، إنما يُقصد بها مصلحة هؤلاء المُتقاعدين أو هؤلاء المُشتركين في التأمينات الاجتماعية، ويكون الضامن لها الدولة، فمثل هذه لا بأس بها، إنما الممنوع هو التأمين التجاري، هذا هو الممنوع؛ للمعنى الذي أشار إليه المؤلف أو الناظم، وهو: أن عقود المُعاوضات لا تُغتفر فيها الجهالة والغرر، بينما عقود التَّبرعات تُغتفر فيها الجهالة والغرر، فلاحظ هذا الفرق.
ولذلك بعض العلماء الذين قالوا: لا فرق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري، هذا غير صحيحٍ، بل بينهما فرقٌ، ونجد أن الشريعة فرَّقتْ، فما كان من باب المُعاوضة تُشدِّد فيه، ولا تُغتفر فيه الجهالة والغرر، وما كان من باب التَّبرع نجد أن الشريعة تتسامح فيه.
هذه من القواعد العظيمة التي تتفرع عليها تفريعاتٌ كثيرةٌ منها هذه المسألة العملية الموجودة الآن.
إذن وجه التفريق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني هو هذا المعنى الذي أشار إليه الناظم، وهو: أن عقود المُعاوضات لا بد من تحريرها، ولا تُغتفر فيها الجهالة والغرر، أما عقود التَّبرعات فيُتسامح فيها، فهي أخفّ من عقود المُعاوضات.
الألفاظ التي لم يَحُدَّها الشرع يُرجع فيها إلى العُرف
ثم قال الناظم رحمه الله:
65 – وكلُّ مَا أَتَى ولَمْ يُحَدَّدِ |
بِالشَّرْعِ كَالْحِرْزِ فَبِالْعُرْفِ احْدُدِ |
هذا ليس من كلامه، لكن نقله عن بعض العلماء، ولا بأس أن الناظم ينقل بالنص، وهذا يُسمى: اقتباسًا، ينقل من غيره.
وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ: أن كل ما أتى في الشرع من غير تحديدٍ فإنه يُحدَّد بالعُرْف، وهذه لها فروعٌ كثيرةٌ.
أمثلةٌ على القاعدة
الناظم مثَّل لها بمثالٍ وهو الحِرْز، قال: “كالحِرْز”، ومُراده بـ”الحِرْز” يعني: الحِرْز المُشترط في قطع يد السارق، فإنه يُشْتَرَط للقطع شروطٌ، منها: أن تكون السرقة من حِرْزٍ، والحِرْز هو المكان الذي يُحْفَظ فيه المال عادةً.
معنى “الحِرْز”: المكان الذي يُحْفَظ فيه المال عادةً.
طيب، ما الضابط في هذا الحِرْز؟
ننظر: هل ورد في الشرع ضابطٌ لهذا الحِرْز؟
لم يَرِدْ، إذن المرجع فيه للعُرف، فما عَدَّه الناس حِرْزًا فهو حِرْزٌ، وهذا الحِرْز يختلف باختلاف البلدان، ويختلف باختلاف قوة السلطان، ويختلف باختلاف الأموال.
فمثلًا: الحِرْز الآن غير الحِرْز قبل مئة سنة، والحِرْز هنا في المملكة غير الحِرْز في بلدٍ آخر، وحِرْز الأغنام يختلف عن حِرْز الذهب والفضة.
إذن هو يختلف بهذه الاعتبارات، فالمرجع فيه للعُرْف.
وأيضًا يمكن أن نذكر أمثلةً أخرى غير ما ذكره المؤلف، مثلًا: الشارع أمر بصلة الرحم وأكَّد عليها، وقد قال النبي : إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله لها: أما تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَن وصلك، وأقطع مَن قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذلك لكِ [2]، أخرجه البخاري ومسلم.
فما الضابط في صلة الرحم؟
النصوص كثيرةٌ في الأمر والحَثِّ على صلة الرحم، فما الضابط؟ كيف نعرف أن هذا الإنسان واصِلٌ لِرَحِمِه، وهذا قاطعٌ لرحمه؟ كيف نضبط هذا؟ ما الضابط؟
الجواب: العُرْف، الضابط في صلة الرحم هو العُرف، والناس تُفرق في عُرفها بين الإنسان الواصل -ويُسمونه: فلانٌ واصلٌ لرحمه- والإنسان القاطع لرحمه، فالعُرف في ذلك.
من ذلك -مثلًا-: الزيارة، والهدية، والاتصال، والبشاشة في الوجه، كل هذه تُعتبر من صِلة الرحم.
أما قطيعة الرحم فتدخل فيها الإساءة، مثلًا: الإساءة بالبدن، أو بالقول، أو بالفعل، يعني: الإساءة القولية أو الفعلية، هذه تدخل في قطيعة الرحم.
وأيضًا تَرْك الصلة، وهي نوعٌ من القطيعة، ترك الصلة هي نوعٌ من القطيعة، والناس تُفرق بين مَن كان واصلًا لرحمه، ومَن كان قاطعًا لرحمه.
إذن هذه عندما نضبطها المرجع فيها للعُرف.
طيب، نأخذ مثالًا آخر: أيضًا لما ذكر المؤلف -يعني- ما ورد في الشرع ولم يُحدَّد ومرجعه للعُرف: مَن كان له أكثر من بيتٍ، أو مَن كان له منزلان في بلدين: منزلٌ في الرياض -مثلًا- ومنزلٌ في مكة.
يعني: هذه مسألةٌ يكثر السؤال عنها، فتجد بعض الناس يكون له منزلٌ في بلدٍ، ومزرعةٌ أو منزلٌ في بلدٍ آخر، فعندما يذهب إلى مزرعته أو منزله في البلد الآخر هل نعتبره مُسافرًا؟
هذه المسألة لم يرد فيها شيءٌ في الشرع، فكوننا نعتبره مُسافرًا أو لا نعتبره مُسافرًا المرجع فيها للعُرف.
طيب، في عُرف الناس: هل يُعتبر هذا الشخص في منزله الآخر، أو في مزرعته، أو في بيته الآخر في البلد الآخر، هل يُعتبر مُسافرًا؟
إذا أردتَ أن تعرف العُرف في مثل هذه المسائل فَخُذْ هذه الفائدة: ضَع الفطر في نهار رمضان مكان قصر الصلاة، فلو أفطر في نهار رمضان هل سيَعْذُره الناس ويَقْبَلون منه قوله بأنه مُسافرٌ، أو أن الناس يُنْكِرون عليه، ولو احتجَّ به مُسافِرٌ ما قبلوا منه؟
فهذا هو الذي يضبط لك العُرف في هذه المسألة؛ لأن العُرف كثيرًا ما يختلف الناس في تحديده وضَبْطه.
فمثلًا: هذا إنسانٌ له مزرعةٌ على بُعد مئةٍ وخمسين كيلو -مثلًا- ومئةٌ وخمسون كيلو لا شكَّ أنها مسافة سفرٍ، لكن هذه المزرعة فيها منزلٌ، فيها بيتٌ له، فإذا أفطر في نهار رمضان بعد صلاة الظهر -مثلًا- من أي يومٍ من أيام رمضان، تَغَدَّى -مثلًا- أمام الناس، هل سيُنْكِر عليه الناس؟
الجواب: سيُنْكِرون عليه إنكارًا شديدًا، ولو اعتذر بأنه مُسافرٌ لا يقبلون منه: كيف تكون مُسافرًا وأنت في مزرعتك؟! كيف تقول: إني مُسافرٌ، وأنت في بيتك؟! فلا يقبلون منه.
فهذا يدل على أنه ليس بمُسافرٍ في عُرف الناس، بدليل إنكارهم عليه.
وأما لو لم يكن -مثلًا- له مسكنٌ، فهو يسكن في فندقٍ -مثلًا- أو في شقةٍ مفروشةٍ، فنجد أنه لو أفطر لا أحد يُنكر عليه، وأنه يُعْذَر بالسفر، فهو مُسافرٌ، وكذلك إن أفطر في الطائرة لا أحد يُنكر عليه.
فنجد أن الناس تُفرق بين هذا وهذا.
وهذا يدل على أن العُرف في مثل هذه المسألة التي يكثر السؤال عنها: مَن له منزلان، يدل على أن العُرف أنه ليس مُسافرًا، لا في بلده، ولا في البلد الآخر، فهو كمَن له أكثر من زوجةٍ في أكثر من بلدٍ، لو كانت له زوجتان: زوجةٌ -مثلًا- هنا في الرياض، وزوجةٌ في بلدٍ آخر؛ فهو ليس مُسافرًا هنا أو هناك.
وأمثلة هذه القاعدة كثيرةٌ.
إذن نقول: إن الأصل أن ما ورد في الشرع ولم يُحَدَّد فالمرجع فيه للعُرف.
صيغات العقود مرجعها إلى العُرف
ثم قال الناظم رحمه الله، مثَّل له أيضًا بقوله: “مِن ذَاكَ” يعني: مما يُرْجَع فيه إلى العُرف:
66 – مِنْ ذَاكَ صِيغَاتُ العُقُودِ مُطْلَقَا | ونَحْوُهَا فِي قَوْلِ مَنْ قَدْ حَقَّقَا |
يعني: مما يرجع إلى العُرف: صيغات العقود.
“صيغات” جمع صيغةٍ، يعني: صيغ العقود.
والعقود هنا هل المقصود بها عقود المُعاوضات، أو التَّبرعات، أو التَّوثقة، أو الكل؟
نقول: الكل، يعني: جميع العقود، بل حتى يدخل فيها عقود النكاح أيضًا.
يعني: مراد الناظم: كل ما هو عقدٌ يرجع في معرفة الصيغة إلى العُرف.
وقوله: “في قول مَن قد حقَّقا” فيه إشارةٌ للخلاف في هذه المسألة، فإن فيها خلافًا بين العلماء: هل يتقيد بصيغةٍ مُعينةٍ، أو أنها ما عَدَّه الناس في عُرفهم عقدًا فيُعتبر عقدًا؟
يُعتبر عقدًا، وما لا فلا.
فمن العلماء مَن اشترط صيغًا مُعينةً، ومنهم مَن فرَّق بين النكاح وغيره كما هو المذهب عند الحنابلة.
واختار الإمام ابن تيمية رحمه الله: أن صيغ العقود كلها المرجع فيها للعُرف، وأنها لا تُحدَّد بصيغةٍ معينةٍ.
وهذا هو الذي قصده الناظم بقوله: “في قول مَن قد حقَّقا” يريد الإمام ابن تيمية رحمه الله.
وهذا هو القول الصحيح: أن جميع صيغ العقود المرجع فيها إلى العُرف، فإذا تبايعا بأية صيغةٍ يُفْهَم منها البيع انعقد، والإجارة كذلك، والهبة، والعطية، والرهن، وجميع العقود، وكذلك في عقود النكاح إذا فُهِمَ من ذلك عقد النكاح انعقد.
ومن ذلك: أن بعض العامة بَدَلًا من أن يقول: زوَّجتُكَ ابنتي. يقول: جوزتك.
يعني: يُقدم الجيم على الزاي، فعلى المذهب: أنه ما يصح، وعلى القول الآخر -قول ابن تيمية- يصح، وهذا هو الصحيح: أنه يصح، وأن المرجع في جميع صيغ العقود إلى العُرف.
المعروف عُرْفًا كالمشروط شرطًا
قال:
67 – وَاجْعَلْ كَلَفْظٍ كُلَّ عُرْفٍ مُطَّرِدْ | فَشَرْطُنَا العُرْفِيُّ كَاللَّفْظِيْ يَرِدْ |
يريد الناظم بهذا البيت قاعدةً معروفةً عند العلماء، وهي: أن المعروف عُرْفًا كالمشروط شرطًا.
وبعضهم يُعبِّر عنها بأن العُرف المُطَّرد كالشرط، فما كان معروفًا عُرفًا هو كالشرط في العقد، بشرط: أن يكون العُرف مُطَّردًا، هذه من شروط صحة العقد أصلًا، وهي: اطِّراد العُرف، يعني: استمراره، أما لو لم يستمر فليس أصلًا من العُرف المُعتبر شرعًا.
أمثلةٌ على القاعدة
إذن المعروف عُرْفًا كالمشروط شرطًا، وهذا أمثلته كثيرةٌ، وفروعه كثيرةٌ، فلو أنك -مثلًا- كنت تشتري بضاعةً أو خضارًا أو فاكهةً من محل الخضار أو الفواكه، فأتى إنسانٌ وساعدك على حَمْلها، ثم قال: أعطني أجرة الحمل. فقلتَ: مَن قال لك: احملها معي؟ فهنا هل يستحق الأجرة أو لا يستحق؟
هنا ننظر: إذا كان قد نصب نفسه للحمل وقامت القرائن: معه -مثلًا- عربةٌ ونصب نفسه لحمل الأشياء؛ فيستحق الأجرة، والأجرة ما هي؟
أجرة المِثْل، مثل: عشرة ريالات، أو عشرين، أو على حسب أجرة المِثْل، فالمرجع فيها للعُرف.
كذلك لو أن سيارةً وقفتْ لك، وركبتَ مع صاحب السيارة، وأوصلك إلى مكانٍ معينٍ، ثم لما أردتَ أن تنزل قال: أعطني أجرة السيارة. هل يلزمك؟
أيضًا ننظر: إذا كان هذا الشخص في عُرف الناس يأخذ أجرةً، يعني: نصب نفسه لنقل الناس؛ فيستحق الأجرة.
من ذلك -مثلًا- سيارات الأجرة الآن في الوقت الحاضر، فهذه تستحق الأجرة، فكيف تركب في سيارة أجرة ثم لا تريد أن تُعطيه حقَّه وتقول: مَن قال لك: تُوقِف سيارتك؟ أنا ما طلبتُ منك أن تقف عندي.
نقول: هو نَصَّبَ نفسه وعرف الناس أنها سيارة أجرة؛ فيلزمك أن تُعطيه أجرة المِثْل.
لكن لو أن شخصًا لم يُنصب نفسه لنقل الناس، ووقف وركبتَ معه، ثم طلب منك أجرةً؛ هنا لا يلزمك إلا بشرطٍ أو بعُرفٍ، والعُرف هنا غير واردٍ؛ لأنه لم يُنصب نفسه أصلًا للنقل، وليست هناك قرائن تدل على هذا، فلا يلزمك أن تُعطيه شيئًا إلا إذا كان قد شرط عليك.
إذن المعروف عُرْفًا كالمشروط شرطًا.
أيضًا من أمثلة ذلك: دلالة المكاتب العقارية على العقار المرجع فيها للعُرف.
يعني: هل هي على البائع أو على المُشتري؟
مثلًا: عندما يكون المكتب العقاري وسيطًا في بيعٍ أو شراءٍ، واختلف البائع والمُشتري على مَن تكون أجرة هذا الوسيط أو السمسار؟ على مَن؟ على البائع أو على المُشتري؟
فالمرجع فيه إلى العُرف، فإن قالوا: إن الأجرة تكون على البائع. وقال البائع: أنا ما أقبل بهذا.
نقول: لا، العُرف دلَّ على هذا، والمعروف عُرْفًا كالمشروط شرطًا، فلو كنتَ لا تريد قُل: أجرة المكتب العقاري أو السعي -ما يُسمى بالسعي- ليست عليَّ، عليك أيها المشتري. أو العكس.
إذن المعروف عُرْفًا كالمشروط شرطًا.
يعني: هذه قاعدةٌ ظاهرةٌ لا نريد أن نتوسع في ذكر أمثلةٍ كثيرةٍ لها.
إذن هي ترجع لهذا البيت، قصد منه الناظم توضيح هذه القاعدة، وهي: أن المعروف عُرْفًا كالمشروط شرطًا.
نكتفي بهذا القدر في درس أصول الفقه.
الأسئلة
السؤال: …….؟
الجواب: لم يَثْبُت أن عثمان له أهلٌ في مكة، لكن هذا أحد الأجوبة، واختُلف في السبب الذي جعل عثمان يُتمّ.
السؤال: …….؟
الجواب: لا، ما ثبت هذا، يعني: العلماء اختلفوا في هذا اختلافًا كثيرًا: ما السبب؟ لكن لم يثبت هذا.
السؤال: …….؟
الجواب: العبرة بالعُرف -عُرْف الناس- فإذا كان في عُرف الناس أن هذا مُسافرٌ يجوز له القصر والفطر في نهار رمضان والجمع، فهو مسافرٌ، وإذا كان العُرف يقتضي أنه ليس مُسافرًا، فليس مسافرًا؛ لأنه ما فيها نصٌّ في الشرع، فالمرجع فيها للعُرف كما ذكرتُ.
يعني: إذا أردتَ أن تَعْرِف العُرف في هذه المسائل فاجعل الفطر في نهار رمضان مكان قصر الصلاة.
السؤال: …….؟
الجواب: يعني: ليس هذا فقط هو الفرق بين التأمين التجاري والتعاوني، هناك فروقٌ كثيرةٌ، وليس هذا هو الفرق الوحيد، لكن مسألة “إرجاع الفائض” لا تكفي فقط، بل لا بد أن تكون الشركة لا تأخذ إلا مقابل إدارة أقساط التأمين فقط؛ لأن بعض الشركات الآن أرجعتْ جزءًا من الفائض، ولم تُرجع الفائض كله، يعني: لأجل أن تقول: إنها تُؤمِّن تأمينًا تعاونيًّا.
وهذا غير صحيحٍ، فهناك فروقٌ كثيرةٌ بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني، وعمومًا صناعة التأمين التعاوني حديثةٌ نسبيًّا.
وهناك مُلتقى -إن شاء الله- سيُعقد يوم الأربعاء أو الخميس عن التأمين في قاعة الملك فيصل في فندق (إنتركونتيننتل) يعني: ستكون فيه بحوثٌ كثيرةٌ عن التأمين التجاري والتعاوني، وعن الفروق الدقيقة بين التأمين التجاري والتعاوني.
السؤال: …….؟
الجواب: ينطبق، نعم.
السؤال: …….؟
الجواب: ينطبق؛ لأنه وُجِدَت الآن شركات تُؤمِّن تأمينًا تعاونيًّا، ولها هيئات شرعية، فينطبق التأمين سواء كان على السيارات، أو التأمين الصحي، أو أي نوعٍ من أنواع التأمين.
السؤال: …….؟
الجواب: لا، يأخذون مقابل أتعابهم، يأخذونه، بل إنهم يُبالغون في هذا؛ حتى لا يخسروا -بعضهم- فيصل إلى 45 %.
السؤال: …….؟
الجواب: نعم، في التأمين التعاوني.
السؤال: …….؟
الجواب: لا، أراد نفع إخوانه المسلمين المُؤمِّنين معه أيضًا، هذا مقصود: التعاوني، فالتعاوني أنك تقصد: إما أن تستفيد أنت، أو يستفيد أخوك المسلم، مثلما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام عن الأشعريين، فالأشعريون كانوا إذا احتاجوا جَمَعَ كلُّ واحدٍ منهم ما عنده ثم اقتسموه بينهم [3].
هذا نوعٌ من التأمين التعاوني، والعاقلة كذلك، يعني: كما يوجد في صناديق بعض الأُسَر: الكل يدفع، وإذا احتاج أحدٌ منهم بذلوا له.
فالإنسان قد لا يحتاج أصلًا، لكن يقصد بذلك نَفْعَ إخوانه المسلمين المُشتركين معه في هذه الشركة، شركة التأمين التعاوني.