logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح منظومة أصول الفقه وقواعده/(10) من قوله: “وكل مُتْلَفٍ فمضمونٌ إذا ..”

(10) من قوله: “وكل مُتْلَفٍ فمضمونٌ إذا ..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

نبدأ أولًا بمنظومة أصول الفقه، وكنا قد وصلنا إلى قول الناظم: “والإثم والضمان يسقطان”، نعم انتهينا من هذه، “وكل مُتْلَفٍ فمضمونٌ إذا ..”، نعم.

الطالب: خمسة أبياتٍ.

الشيخ: خمسة أبياتٍ، نعم، المطلوب خمسة.

الطالب: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبدالله ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في منظومته:

57 – وَكُلُّ مُتْلَفٍ فَمَضْمُونٌ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِتْلَافُ مِنْ دَفْعِ الْأَذَى
58 – أَوْ يَكُ مَأْذُونًا بِهِ مِنْ مَالِكِ أَوْ رَبِّنَا ذِي الْمُلْكِ خَيْرِ مَالِكِ
59 – وَيَضْمَنُ الْمِثْلِيَّ بِالْمِثْلِ وَمَا لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ بِمَا قَدْ قُوِّمَا
60 – وَكُلُّ مَا يَحْصُلُ مِمَّا قَدْ أُذِنْ فَلَيْسَ مَضْمُونًا وَعَكْسُهُ ضُمِنْ
61 – وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِ مِنْ سَبِيلِ وَعَكْسُهُ الظَّالِمُ فَاسْمَعْ قِيلِي

الشيخ: حَسْبُك، نعم.

طالبٌ آخر: قال الناظم رحمه الله تعالى:

57 – وَكُلُّ مُتْلَفٍ فَمَضْمُونٌ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِتْلَافُ مِنْ دَفْعِ الْأَذَى
58 – أَوْ يَكُ مَأْذُونًا بِهِ مِنْ مَالِكِ أَوْ رَبِّنَا ذِي الْمُلْكِ خَيْرِ مَالِكِ
59 – وَيَضْمَنُ الْمِثْلِيَّ بِالْمِثْلِ وَمَا لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ بِمَا قَدْ قُوِّمَا

الشيخ: إلى هنا، طيب.

كل مُتْلَفٍ مضمونٌ على مُتْلِفِه

قال الناظم رحمه الله:

57 – وَكُلُّ مُتْلَفٍ فَمَضْمُونٌ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِتْلَافُ مِنْ دَفْعِ الْأَذَى

من القواعد الفقهية المُقررة: “أن كل مُتْلَفٍ فإنه مضمونٌ على مُتْلِفه”، وهذا سواء في حقوق الله تعالى أو في حقوق الآدميين؛ في حقوق الله تعالى مثل: إتلاف الصيد، وفي حقوق الآدميين مثل: إتلاف مالٍ هو حقٌّ لآدميٍّ.

وسبق أن تكلمنا في الدرس السابق عن ضوابط ذلك، وما الذي يُشترط؟ وما الذي يُعذر فيه بالجهل والنسيان؟ وما الذي لا يُعذر فيه بالجهل والنسيان؟ تكلمنا عن هذا في الدرس السابق بالتَّفصيل.

المؤلف أشار إلى أن هذه القاعدة لها مُسْتَثْنَيَاتٌ، تُستثنى منها ثلاثة أمورٍ.

وقبل هذا -يعني- دليل القاعدة: قول النبي في قصة الصَّحْفَة التي كَسَرَتْها أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما كان النبي عليه الصلاة والسلام في بيتها ويومها، فأهدتْ إحدى نساء النبي -قيل: إنها زينب- له طعامًا، فأخذتْ عائشةَ رضي الله عنها الغيرةُ: كيف تُهْدِي له طعامًا وهو في يومها؟ فلم تحتمل؛ فأخذت الصَّحْفَة وكسرتها والطعام فيها.

فانظر إلى موقف النبي : قال: غَارَتْ أُمُّكم [1]، طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ [2].

انظر إلى حُسن خُلُقه عليه الصلاة والسلام، يعني: قدَّر الموقف أيضًا؛ ولهذا يقولون: إن الإنسان عند الغيرة لا يُؤَاخَذ بما يترتب على أقواله، يعني: من كلامٍ، فهو مُغْلَقٌ عليه، كما أن السَّكْران مُغْلَقٌ عليه، والغضبان مُغْلَقٌ عليه، وكذلك أيضًا مَن في حال الغيرة الشديدة.

يعني: تصرفتْ عائشة رضي الله عنها هذا التَّصرف، والنبي عليه الصلاة والسلام -وهو أعظم الناس خُلُقًا- لم يُؤاخذها، لكن أخذها فقط بضمان المُتْلَف، قال: طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ، فدلَّ ذلك على أن المُتْلَف يكون مضمونًا.

ما يُستثنى من القاعدة

هذه القاعدة محل إجماعٍ بين أهل العلم، لكن هناك ثلاثُ حالاتٍ تُستثنى من هذه القاعدة أشار إليها الناظم رحمه الله:

إذا لم يكن الإتلاف من دفع الأذى

الحالة الأولى قال: “إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِتْلَافُ مِنْ دَفْعِ الْأَذَى”، فإن كان الإتلاف من قبيل دفع الأذى فليس بمضمونٍ، ومن ذلك: دفع الصَّائل.

إذا صَالَ عليك إنسانٌ يريد أَخْذ مالك -مثلًا- أو يريد الاعتداء عليك، أو على عرضك، أو على عرض محارمك، فإنك تدفعه، حتى لو لم يندفع إلا بالقتل فيجوز قتله، ودمه هَدْرٌ، لا تُؤاخذ بهذا.

وقد جاء في “صحيح مسلم”: أن النبي جاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن جاء رجلٌ يريد أَخْذ مالي؟ قال: فلا تُعْطِهِ مالك، قال: أرأيتَ إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيتَ إن قتلني؟ قال: فأنت شهيدٌ، قال: أرأيتَ إن قتلتُه؟ قال: هو في النار [3].

فدلَّ هذا على أنه يجوز الدفاع عن المال، وأن هذا المُعْتَدِي دمه هَدْرٌ.

وهكذا أيضًا الدفاع عن النفس، والدفاع عن النفس هنا ليس فقط يجوز، بل يجب، إنسانٌ -مثلًا- أراد أن يعتدي عليك، ليس لك أن تستسلم له وتتركه يقتلك، بل تُدافع عن نفسك، يجب وجوبًا أن تُدافع عن نفسك، فإن قتلتَه فدمه هَدْرٌ، وإن قُتلتَ فأنت شهيدٌ.

وكذلك الدفاع عن العِرْض يجب، الدفاع عن عِرْضك أو عن محارمك يجب، وليس فقط يجوز، وإن قُتلتَ فأنت شهيدٌ، وإن قتلتَه فدمه هَدْرٌ.

إذن الخلاصة: أن الدفاع عن النفس حكمه الوجوب، والدفاع عن العِرْض حكمه الوجوب، والدفاع عن المال حكمه الجواز.

مثلًا: إنسانٌ رفع عليك السلاح وقال: أعطني مالًا. فأعطه المال وَاسْتَبْقِ نفسك، فالمال ليس له كبير أهميةٍ مقابل النفس والحفاظ على نفسك، لكن مع ذلك يجوز أن تُدافع عن مالك، ودمه هَدْرٌ، لكن الفرق بين الدفاع عن النفس والدفاع عن المال والدفاع عن العِرْض: أن الدفاع عن النفس وعن العِرْض واجبٌ، أما الدفاع عن المال فجائزٌ.

هذا هو الحكم الشرعي، فأنت فيما بينك وبين الله ذِمَّتك بريئةٌ، وأما أمام القضاء فلا بد من إثبات الصيالة، لا بد من إثبات أن هذا قد صَالَ عليك، وإن لم تُثْبِت فإنك تُقَاد به.

وهذه من الأمور المُشكلة، فكم من إنسانٍ اقتُصَّ منه وهو إنما دافع عن نفسه، لكن عجز عن الإثبات؛ ولهذا نقول: إن الإنسان يدفع بغير القتل ما أمكن؛ لأنه إذا دفعه بالقتل يحتاج إلى إثباتٍ.

أنا أذكر أن رجلًا أتى إليَّ قبل أشهرٍ وقال: إنهم أناسٌ كانوا في البرية، فأتى قُطَّاع طريقٍ واعتدوا عليهم، فدافعوا عن أنفسهم، ولم يندفعوا إلا بالقتل؛ فقتلوهم، ثم ذهبوا وسلَّموا أنفسهم للشرطة.

فقلتُ: التَّصرف الصحيح أن هؤلاء لا يُسلِّمون أنفسهم؛ لماذا؟

لأن ذِمَّتهم فيما بينهم وبين الله ​​​​​​​ -يعني- ما عليهم شيء؛ لأن هؤلاء صائلون، قُطَّاع طريقٍ، دمهم هَدْرٌ، والشرطة ستُحولهم للمحكمة، والقاضي ما له إلا البينات، فَأَثْبِتُوا أن هؤلاء قد صَالُوا عليكم وإلا فَتُقَادُون بهم.

يعني: هذا من ثمرة الفقه، لو كان هؤلاء أُناسًا صالحين، لكن هؤلاء صالوا عليهم واعتدوا عليهم وهم في بريةٍ، وكان معهم أيضًا ما يُدافعون به عن أنفسهم.

فمثل هذه من المسائل المُشْكِلة.

وهناك قولٌ يُنْسَب لأبي العباس ابن تيمية رحمه الله يقول: إنه حتى في حال القضاء يقول: إذا دلَّت القرائن على صدق القاتل، وأن المقتول قد صَالَ عليه؛ فإنه لا يُقَاد به.

يعني: إن دلَّت القرائن ..، مثلًا: إنسانٌ طالب علمٍ، ومعروفٌ بالصلاح والاستقامة، وهذا المقتول إنسانٌ سِكِّيرٌ عِرْبِيدٌ، يعني: معروفًا -مثلًا- أنه من أرباب المُخدرات، ومن أصحاب السوابق -مثلًا- وادَّعى القاتل أن المقتول قد صَالَ عليه، فعلى رأي الإمام ابن تيمية رحمه الله: أنه لا يُقاد به، لكن الذي عليه العمل عندنا في المحاكم هو قول الجمهور: أنه يُقاد به.

إذن هذا مثالٌ للمُستثنى الأول من هذه القاعدة.

أيضًا من أمثلة ذلك: إذا نزلتْ شعرةٌ في عين المُحْرِم، أو انكسر ظفره وهو مُحْرِمٌ؛ فله إزالة الشعرة، وله إزالة الظفر، ولا شيء عليه؛ لأن هذا من باب دفع الأذى.

الحالة الثانية قال:

58 – أَوْ يَكُ مَأْذُونًا بِهِ مِنْ مَالِكِ

قبل أن ننتقل للحالة الثانية، الحافظ ابن رجب رحمه الله في “القواعد” أشار إلى قاعدةٍ مُتعلقةٍ بهذا فقال: مَن أتلف شيئًا لدفع أذاه لم يَضْمَنْه، ومَن أتلفه لدفع أذًى به ضمنه.

ما معنى هذا الكلام؟

يعني: إذا أتلف شيئًا لدفع أذًى بإتلافه، وكان الأذى من غيره؛ فعليه الضمان، أما إذا كان الأذى من هذا الشيء نفسه فلا ضمان. هذا معنى كلام ابن رجب.

فمثلًا: الصَّائل، الأذى من الصَّائل نفسه؛ فَدَمُه هَدْرٌ، لكن ما حصل في قصة كعب بن عُجْرَة لما مَرِضَ، يعني: أصابه مرضٌ في شعره، فكثر القمل، وأصابته الهوام، فأُتِيَ به إلى النبي عليه الصلاة والسلام والقمل يتناثر من رأسه، قال: ما كنتُ أرى الجهد بلغ بك ما أرى، فأمره عليه الصلاة والسلام بالفدية ولم يعذره [4]؛ لأن هذا الأذى ليس من الشعر، إنما من القمل، لكن دفع هذا الأذى لا يكون إلا بإتلاف الشعر، فيكون فيه الضمان.

إذن إذا كان الأذى منه فلا ضمان، إذا كان دفع الأذى، وكان الأذى من هذا الشخص، مثلما مثَّلنا بالصَّائل.

أما إذا كان الأذى ليس منه، وإنما من غيره، كقصة كعب بن عُجْرَة ، فالأذى ليس من الشعر، وإنما من الهوام التي في شعره، فهنا عليه الضمان.

إذا كان الإتلاف بإذن المالك

الحالة الثانية من الحالات المُستثناة من هذه القاعدة:

قال الناظم:

58 – أَوْ يَكُ مَأْذُونًا بِهِ مِنْ مَالِكِ

إذا كان الإتلاف بإذن المالك للشيء فحينئذٍ لا يضمن، كأن يأذن له المالك بأكل طعامه، يأذن له -مثلًا- أن يذبح شاةً من أغنامه أو من إبله، أو -مثلًا- يطلب منه مالًا ويأذن له في أخذه أو في أخذ جزءٍ منه، فإذا كان ذلك بإذن المالك فلا ضمان.

ومثل المالك أيضًا مَن يقوم مقام المالك، ومثله مَن يقوم مقام المالك ممن يملك الإذن: كالوكيل والولي.

قال: “أَوْ رَبِّنَا ذِي الْمُلْكِ خَيْرِ مَالِكِ”، هذه الحالة الثالثة من الحالات المُستثناة من القاعدة: أن يكون الإتلاف بإذن الشارع، وهو مُراد المؤلف بقوله: “أَوْ رَبِّنَا ذِي الْمُلْكِ”، أن يكون الإتلاف مأذونًا فيه من الله .

وقوله: “ذِي الْمُلْكِ” يعني: يُبين المؤلف أن هذا الإتلاف وقع من أهله؛ لأن الله سبحانه هو مالك الملك، وله أن يأذن بما شاء من إتلاف الأموال، كما قال سبحانه: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5].

وقال: “خَيْرِ مَالِكِ” ​​​​​​​، هو مالك الملك جلَّ وعلا، وخالق كل شيءٍ سبحانه.

ومن ذلك -مثلًا- التَّعزير بأخذ المال، فالقول الراجح: أنه يجوز التَّعزير بأخذ المال.

ومن ذلك: تعزير مَن أخَّر الزكاة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: فإنا آخِذُوها وشَطْرَ ماله عَزْمَةً من عَزَمَات ربنا [5].

و….. الظالم ….. تعزيره، وغير ذلك ….. غير الحاكم.

ومن ذلك أيضًا: وليُّ الدم لو قَتَلَ القاتلَ فإنه لا يُقَاد به.

إنسانٌ قتل شخصًا، ووليُّ الدم بَدَلَ أن يذهب للحاكم ويُطالب بالقصاص ذهب إليه وقتله؛ لا يُقاد به، لكن يُعزَّر على افتياته على الإمام، أما أن يُقاد به فلا؛ لأنه أصلًا له الحق في القصاص، فهو مأذونٌ له في إتلافه، مأذونٌ له من الشارع في إتلافه، لكن ينبغي أن يكون ذلك عن طريق ولي الأمر، عن طريق الإمام، فإن افْتَأَتَ ولم يكن عن طريق الإمام فإنه لا يضمن، لكن يُعزَّر على افتياته.

ومثل ذلك أيضًا: قتل الزاني المُحْصَن، فلو ثبت زنى شخصٍ، وهو مُحْصَنٌ، وثبت ذلك عند الحاكم، وقتله، لا يُقَاد به؛ لأنه غير مضمونٍ، بل مأذونٌ في قتله، لكن يُعزَّر على افتياته على الإمام، وهكذا.

طيب، مَن رأى آلةً من آلات المعاصي، رأى -مثلًا- تمثالًا منصوبًا، أو رأى آلة لَهْوٍ، وكسر هذه الآلة، فهل يضمن أو لا يضمن؟

من حيث الضمان لا يضمن؛ لأنه مأذونٌ له شرعًا في هذا الإتلاف، لكن هل له أن يُقْدِم على تكسيره أو لا؟

هنا ننظر: إن كانت له سلطةٌ؛ كأن تكون -مثلًا- له سلطةٌ من قِبَل ولي الأمر، فحينئذٍ نقول: لا بأس، بل يتعين هذا.

أما إذا لم تكن له سلطةٌ، وكان يترتب على تكسيرها مفاسد، فنقول: ليس له أن يكسرها.

والدليل على هذا: أن النبي قبل الهجرة كان يرى الأصنام تُعلَّق على الكعبة، ومع ذلك لم يأذن لأصحابه بتكسيرها، وقد طلب منه الصحابة أن يكسروا الأصنام بأن يُغيروا عليها ليلًا، فنهاهم النبي عن ذلك؛ وذلك لأن ما يترتب على تكسير الأصنام أعظم من المصلحة المُترتبة عليها.

إذن مسألة الفعل وعدمه فيها تفصيلٌ: إن كانت له سلطةٌ -مُخَوَّلٌ من قِبَل ولي الأمر مثلًا- فله ذلك، أما إذا لم تكن له سلطةٌ، وكانت المفسدة أكبر من المصلحة فنقول: ليس له ذلك، ومن جهة الضمان: هذه غير مضمونةٍ.

الضمان إن كان مِثْلِيًّا فإنه يُضْمَن بالمِثْل، وإن كان قِيَمِيًّا فإنه يُضْمَن بالقيمة

ثم بيَّن المؤلف رحمه الله كيف يكون الضمان في الحالات التي يكون فيها الضمان، قال:

59 – وَيَضْمَنُ الْمِثْلِيَّ بِالْمِثْلِ وَمَا لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ بِمَا قَدْ قُوِّمَا

فأفادنا المؤلف بأنه في الضمان هناك مِثْلِيٌّ ومُتَقَوَّمٌ، يعني: ليس بمِثْلِيٍّ، وهو المُتَقَوَّم، فالمِثْلِي يُضْمَن بمثله، وما ليس بمِثْلِيٍّ يُضْمَن بقيمته.

ضابط المِثْلِي وغير المِثْلِي

ما الضابط في المِثْلِي؟

وما الضابط في غير المِثْلِي؟

هذه المسألة محلُّ خلافٍ بين أهل العلم؛ فمن العلماء مَن قال: إن المِثْلِي هو ما كان مَكِيلًا أو موزونًا يصح السَّلَم فيه، وليس فيه صناعةٌ مُباحةٌ.

وهذا تعريف الحنابلة للمِثْلِي، وهم بهذا قد ضيَّقوا المِثْلِي في صورٍ محدودةٍ، فأكثر الأشياء -بناءً على هذا التعريف- لا تكون داخلةً في المِثْلِي، يعني: الذي ينطبق على هذا أمورٌ محدودةٌ جدًّا، كالبُرِّ -مثلًا- والأرز، ونحو ذلك.

والقول الثاني في المسألة: أن المِثْلِي هو ما كان له مثيلٌ أو شبيهٌ مُقاربٌ مطلقًا.

ومعنى “مطلقًا” يعني: سواء كان مكيلًا أو موزونًا أو لم يكن، سواء كانت فيه صناعةٌ مُباحةٌ أو لم تكن.

وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد اختارها جمعٌ من المُحققين من أهل العلم، منهم الإمام ابن تيمية وابن القيم رحمة الله تعالى على الجميع.

وهذا هو القول الراجح: أن المِثْلِي ما كان له مثيلٌ أو شبيهٌ مُقاربٌ، والدليل على هذا قصة عائشة رضي الله عنها السابقة، وفيها: أن النبي قال: طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ [6]، فجعل الطعام مضمونًا بطعامٍ، وجعل الإناء مضمونًا بإناءٍ، وهذا صريحٌ في المسألة.

وكذلك النبي لما استقرض من رجلٍ بَكْرًا، وأتى الرجل ليتقاضى بَكْرَه، فأمر أبا رافعٍ أن يقضي الرجلَ بَكْرَه، فرجع إليه أبو رافعٍ فقال: لم أجد فيها إلا خِيَارًا رَبَاعِيًا. فقال: أَعْطِهِ إياه، إن خيار الناس ‌أحسنهم ‌قضاءً [7].

جعل النبي المِثْل أيضًا في الحيوان، وعلى هذا القول أكثر الأشياء من قبيل المِثْلِيَّات، عكس القول السابق، والقليل هو الذي لا يكون له مِثْل، القليل من الأشياء هو الذي لا يكون له مِثْل، وليس له شبيهٌ ولا مُقاربٌ.

إذن هذا هو القول الصحيح: ما كان من قبيل المِثْلِي يُضْمَن بِمِثْلِه، وما كان من قبيل المُتَقَوَّم يُضْمَن بقيمته.

ما ترتب على المأذون فهو غير مضمونٍ، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمونٌ

ثم قال المؤلف -وهو توضيحٌ أو تعليلٌ لما سبق-:

60 – وَكُلُّ مَا يَحْصُلُ مِمَّا قَدْ أُذِنْ فَلَيْسَ مَضْمُونًا وَعَكْسُهُ ضُمِنْ

يُشير بهذا إلى قاعدةٍ معروفةٍ عند أهل العلم، وهي: ما ترتب على المأذون فهو غير مضمونٍ، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمونٌ.

هذه من القواعد المُقررة عند أهل العلم: ما ترتب على المأذون فهو غير مضمونٍ، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمونٌ.

ما ترتب على غير المأذون مضمونٌ، وما ترتب على المأذون فهو غير مضمونٍ.

أمثلةٌ على القاعدة

هذه القاعدة لها أمثلةٌ كثيرةٌ، من ذلك قول الفقهاء: سِرَاية الجناية مضمونةٌ، وسِرَاية القَوَد مُهْدَرَةٌ.

هذه -إن شاء الله- ستأتينا في كتاب “الجنايات”: سِرَاية الجناية مضمونةٌ.

ما معنى هذا الكلام؟

ما معنى السِّرَاية؟

“السِّراية” معناها: أن ينتقل موضع الجناية، تنتقل الجناية من موضعٍ إلى آخر، كأن يعتدي إنسانٌ على آخر فيقطع إصبعه فتتلف يده، أو يقطع يده فيموت.

طيب، إنسانٌ اعتدى على آخر بأن قطع يده فنزف ومات، فكيف يكون القصاص؟ هل نقطع يد الجاني أو نقتله به؟

نقتله به؛ لأن سِرَاية الجناية هنا مضمونةٌ.

طيب، قطع إصبعه فَسَرَتْ إلى يده، فتُقطع اليد، هذه قاعدةٌ مُطَّردةٌ.

أما سِرَاية القود فإنها مُهْدَرَةٌ.

ما معنى: سِرَاية القود مُهْدَرَةٌ؟

يعني مثلًا: إنسانٌ قطع إصبع آخر، وقلنا: القصاص، فلما اقتُصَّ منه سَرَت الجناية إلى يده، فهذه السِّرَاية هدرٌ، أو أننا لما اقتصصنا منه وقطعنا إصبعه كان -مثلًا- مُصابًا بالسكر، وأصابته الغَرْغَرِينا ومات، فهذه مُهْدَرَةٌ؛ لأن هذا فعل فعلًا مأذونًا له فيه، فالقود أو القصاص فيما دون النفس مأذونٌ له فيه، فالسِّرَاية هنا مُهْدَرَةٌ.

بينما سِرَاية الجناية مضمونةٌ؛ لأنه فعل فعلًا غير مأذونٍ له فيه، فالجناية نفسها غير مأذونٍ له فيها، فَسِرَايتها مضمونةٌ.

فيُفرق الفقهاء إذن بين سِرَاية الجناية وسِرَاية القود، وهذه -إن شاء الله- سنأتي لها بشيءٍ من التَّفصيل عندما نتكلم في أبواب الجنايات.

أيضًا لو أودع شخصٌ وديعةً، ثم سُرقت الوديعة من غير تفريطٍ من المُودَع ولا تَعَدٍّ، فإنه لا يضمنها؛ لأنه أخذ المال بإذن صاحبه، فلا يضمن ما ترتب عليه، اللهم إلا أن يقترن بذلك تَعَدٍّ أو تفريطٌ.

ومثل ذلك أيضًا على القول الراجح: المُسْتَعِير لا يضمن إذا تلفت العارية بغير تَعَدٍّ منه ولا تفريطٍ.

ومثل ذلك أيضًا على القول الراجح: المُسْتَأْجِر لا يضمن إلا إذا تلفت العين بِتَعَدٍّ منه أو تفريطٍ.

فكلُّ مَن أخذ مالَ غيره بإذنه فإنه لا يضمن إلا إذا حصل منه تَعَدٍّ أو تفريطٌ، وعكسه: مَن أخذ مال غيره بغير إذنه، مثل: الغاصب، فلو أن إنسانًا غصب شيئًا، ثم سُرِقَ المغصوبُ، فإنه ضامنٌ.

ولا يُنْظَر لمسألة: هل تعدَّى أو فرَّط، أو لم يَتَعَدّ ولم يُفرط في الحفظ؟ لأنه أصلًا مُتَعَدٍّ بغصبه.

ومثل ذلك أيضًا: لو أنه كان وكيلًا -مثلًا- ثم حصل منه تَعَدٍّ أو تفريطٌ؛ فإنه يضمن، مع أنه مأذونٌ له، لكن لما حصل منه تَعَدٍّ أو تفريطٌ كان عليه الضمان.

لكن لو أنه لم يحصل منه تَعَدٍّ ولا تفريطٌ: إنسانٌ أُعطي سيارةً لكي يبيعها، وفي الطريق تلفتْ، احترقتْ -مثلًا- بغير تَعَدٍّ ولا تفريطٍ؛ فإنه لا يضمن.

إذن القاعدة: ما ترتب على المأذون فإنه غير مضمونٍ، وما ترتب على غير المأذون فإنه مضمونٌ.

ما على المُحْسِنين من سبيلٍ

قال:

61 – وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِ مِنْ سَبِيلِ وَعَكْسُهُ الظَّالِمُ فَاسْمَعْ قِيلِي

أخذ المؤلف هذه القاعدة من آيتين من كتاب الله :

الآية الأولى: في سورة التوبة، وهي قول الله : مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، أولها: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ۝ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:90- 91].

إذن، مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ هنا -يعني- أخذها الناظم من هذه الآية.

الآية الثانية: هي قول الله : إِنَّمَا السَّبِيلُ في سورة الشورى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42].

فقال: “وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِ مِنْ سَبِيلِ” يعني: إنسانًا مُحْسِنًا، فلا يترتب على إحسانه هذا ضمانٌ؛ وذلك لأن هذا المُحْسِن قد أحسن بهذا العمل، فهو مشكورٌ عليه، وما قد يترتب عليه من إتلافٍ لا نُرتب عليه الضمان.

مثال ذلك: إنسانٌ حفر بئرًا لِسُقْيَا الناس، وأحاطها بجدارٍ، ثم أتى أحد الناس وسقط في هذه البئر، فإنه لا يضمن؛ لأنه مُحْسِنٌ بحفر هذه البئر.

المُودَع إذا أُعطي وديعةً ليحفظها لصاحبها، ثم تلفتْ أو سُرقتْ، فليس عليه ضمانٌ؛ لأنه مُحْسِنٌ بقبول الوديعة.

قال: “وَعَكْسُهُ الظَّالِمُ فَاسْمَعْ قِيلِي” يعني: الظالم هو المُعتدي، فهذا يضمن؛ للآية الكريمة: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشورى:42]؛ ولقول النبي : ليس لِعِرْقٍ ظالمٍ حقٌّ [8].

ومن ذلك: مَن حفر حفرةً -مثلًا- في الطريق، وسقط فيها أحدٌ؛ فإنه يضمن.

ومن ذلك: الحفريات التي تضعها بعض الشركات لإصلاح الطرق، ولا تجعل علامات تحذيرية، فيأتي أحد الناس ويقع في هذه الحفرة، فإن الشركة تضمن، وهذا هو الذي عليه العمل.

يعني: بعض الشركات تكون لها حفريات وأعمال في الطرق، ولا تضع العلامات التحذيرية الكافية، فيأتي بعض الناس ويقع في هذه الحفرة، فهنا عليها الضمان.

إذن القاعدة: أن المُحْسِن لا ضمان عليه، وأن الظالم عليه الضمان، الظالم يعني: المُتَعَدِّي.

وقول الناظم: “فَاسْمَعْ قِيلِي”، “قِيلِي” يعني: قولي، والقول يُقال له: قول، ويُقال له: قيل، ومنه قول الله : وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] يعني: قولًا.

طيب، نكتفي بهذا القدر في شرح المنظومة.

الأسئلة

السؤال: …….

الجواب: لكن ما طبيعة هذا الإذن؟

السؤال: …….

الجواب: هو إذا علم أنه سوف يستخدم هذا المال في مُحرمٍ لم يَجُزْ له هذا أصلًا، أما القرض فهو مضمونٌ، سواء تلف أو لم يتلف هو مضمونٌ، لكن -مثلًا- لو كان عاريةً أو وديعةً أو نحو ذلك، واستخدمها المُودَع أو المُسْتَعِير في أمرٍ مُحرمٍ، فلا شكَّ أنه يضمن في هذه الأحوال.

السؤال: …….

الجواب: إذا كان يعلم يكون آثمًا بهذا، ويكون هذا أيضًا غير مضمونٍ.

إذا كان يعلم وسلَّطه على ماله، واستخدمه في معصيةٍ؛ هو عليه الإثم فقط، على الذي أذن له الإثم معه أيضًا، عليهما جميعًا الإثم في هذا.

السؤال: …….

الجواب: نعم، القواعد الأصولية مُتعلقةٌ بأدلة الفقه إجمالًا كما ذكرنا.

مثلًا: القواعد المُتعلقة بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، أو فروع هذه المسائل، أو الاجتهاد، يعني: أدلة الفقه الإجمالية هذه أصوليةٌ، أما ما كان مُتعلقًا بالفروع فهذه قاعدةٌ فقهيةٌ.

طيب، نعم، هذا يُستثنى، ففي حال الفتنة لا يجب، العلماء ذكروا أنه يُستثنى من الدفاع عن النفس حال الفتنة؛ ولذلك استدلوا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: فَكُنْ عبدالله المقتول، ولا تكن عبدالله القاتل [9]، لكن أتتْ هذه المسألة عَرَضًا على سبيل التَّمثيل فلم نَدْخُل في تفاصيلها.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 5225.
^2, ^6 رواه الترمذي: 1359 وقال: حسنٌ صحيحٌ.
^3 رواه مسلم: 140.
^4 رواه البخاري: 1816، ومسلم: 1201.
^5 رواه أبو داود: 1575، وأحمد: 20041.
^7 رواه مسلم: 1600.
^8 رواه أبو داود: 3073، والترمذي: 1378.
^9 رواه أحمد: 21064.
zh