عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
نبدأ بأصول الفقه، وكنا قد وصلنا إلى قول الناظم: “وَالأَمْرُ لِلْفَوْرِ”.
الطالب: بسم الله الرحمن الرحيم.
دلالة الأمر هل هي على الفور أم التراخي؟
قال الناظم رحمه الله تعالى:
41- وَالأَمْرُ لِلْفَوْرِ فَبَادِرِ الزَّمَنْ | إِلَّا إِذَا دَلَّ دَليلٌ فَاسْمَعَنْ |
42 – وَالأَمْرُ إِنْ رُوعِيَ فِيهِ الفَاعِلُ | فَذَاكَ ذُو عَيْنٍ وذَاكَ الفَاضِلُ |
43- وَإِنْ يُرَاعَ الْفِعْلُ مَعْ قَطْعِ النَّظَرْ | عَنْ فَاعِلٍ فَذُو كِفَايةٍ أُثِرْ |
44- وَالأَمْرُ بَعْدَ النَّهْيِ لِلْحِلِّ، وَفِي | قَوْلٍ لِرَفْعِ النَّهْيِ خُذْ بِهِ تَفِي |
45- وَافْعَلْ عِبَادَةً إِذَا تَنَوَّعَتْ | وُجُوهُهَا بِكُلِّ مَا قَدْ وَرَدَتْ |
46- لِتَفْعَلَ السُّنَّةَ فِي الْوَجْهَيْنِ | وَتَحْفَظَ الشَّرْعَ بِذِي النَّوعَيْنِ |
الشيخ: نعم، أحسنت.
قال الناظم رحمه الله:
41 – وَالأَمْرُ لِلْفَوْرِ فَبَادِرِ الزَّمَنْ | إِلَّا إِذَا دَلَّ دَليلٌ فَاسْمَعَنْ |
ما زال البحث في مسائل الأمر، ويشير الناظم بهذا إلى مسألة أصولية؛ وهي: هل الأمر إذا أُطلق يقتضي الفورية أو يقتضي التراخي؟ وهذه مسألة مبسوطة في كتب أصول الفقه، والمراد بالفورية: المبادرة بالشيء.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء؛ ويمكن تحرير محل الخلاف على النحو الآتي:
أولًا: لا خلاف بين العلماء في أن ما دل الدليلُ على أنه للفور فإنه يجب على الفور.
ثانيًا: لا خلاف بين العلماء في أن ما دل الدليلُ على أنه للتراخي فإنه ليس للفور، وإنما يجب على التراخي.
وإنما محل الخلاف بينهم في الأمر المطلق، وهو ما لم يدل الدليلُ على أنه للفور أو للتراخي؛ مثاله: الحج عند القدرة -عند الاستطاعة وتوفر الشروط-، هذا إنسان توفرت فيه جميع الشروط، وهو مستطيعٌ الحجَّ؛ هل يجب عليه أن يبادر ويحج، أو يجوز له أن يؤخر الحج؟
مثالٌ آخر: الزكاة إذا حال الحول ووجبت؛ هل يجوز تأخيرها بعد تمام الحول، أو أنها تجب بعد تمام الحول على الفور؟
والقول الصحيح -وهو الذي عليه أكثر الأصوليين-: أن الأمر للفور، ويدل لذلك أدلة كثيرة؛ منها قول الله : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، ومعلوم أن تأخير امتثال الأمر فيه مخالفة للآمر.
وأيضًا في صلح الحديبية؛ لمَّا أمر النبيُّ أصحابَه أن يحلقوا ويَحِلوا، فلم يقم منهم أحد، تباطؤوا، وهو ليس عصيانًا منهم للنبي عليه الصلاة والسلام، لكن رجاء أن يُنسخ هذا الأمر، فدخل النبي على أم سلمة مُغضَبًا، فأشارت عليه بأن يحلق رأسه، فحلق رأسه، فحلق الصحابة رؤوسهم[1].
فوجه الدلالة أن النبي عليه الصلاة والسلام غضب لمَّا لم يمتثلوا الأمر على الفور؛ فدل ذلك على أن الأمر إذا أُطلق فالأصل أنه يقتضي الفورية. ومن جهة النظر؛ لو أن سيدًا أمَرَ عبدَه بأن يفعل شيئًا، أو أبًا أمَرَ ابنَه فتأخر في امتثال الأمر، فإنه يَعُده مُقصِّرًا بهذا التأخر؛ فدل ذلك على أن الأصل في الأمر أنه يقتضي الفورية. وأيضًا عموم الأدلة الدالة على استباق الخيرات: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، إلى غير ذلك من الأدلة.
وهناك قول لكنه قول ضعيف: أن الأمر يقتضي التراخي ولا يقتضي الفورية؛ واستدلوا بأن الله قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، بأن الله فرض الحج والعمرة في السنة السادسة، ولم يحج النبي إلا في السنة العاشرة، فلو كان الأمر للفور لَبادَرَ النبي بالحج. والصحيح هو ما عليه أكثر أهل العلم، من أن الأمر يقتضي الفورية؛ لقوة أدلته.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني من تأخير النبي الحجَّ؛ فأولًا: لا نُسلِّم بأن الحج فُرض في السنة السادسة. وأما الآية: فإنها ليس فيها الأمر بالحج، وإنما بإتمامه، وفَرْقٌ بين الأمر بابتداء الحج وبين الأمر بإتمامه؛ والله تعالى قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]. وأما فرضية الحج؛ فكان بقول الله : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وهذه إنما نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، وهي مع صدر سورة “آل عمران”، وبعيد جدًّا أن يُفرض الحج في السنة السادسة ومكةُ ليست بدار إسلام وما زالت دار كفر في ذلك الحين، فإن مكة لم تُفتح إلا في السنة الثامنة من الهجرة، فكيف يحج المسلمون لها وهي ما زالت دار كفر؟!
الأوامر تقتضي الفورية إلا إذا وُجِد صارف
فإذَن؛ الصواب هو ما أقرَّه الناظم، من أن الأمر للفورية؛ ولهذا قال:
41- وَالأَمْرُ لِلْفَوْرِ فَبَادِرِ الزَّمَنْ | إِلَّا إِذَا دَلَّ دَليلٌ فَاسْمَعَنْ |
وقوله: “فَبَادِرِ الزَّمَنْ” يعني: يشير الناظم إلى أن المسلم ينبغي له أن يبادر الفرصة وينتهزها، يبادر الزمان وينتهز الفرصة ما دام قويًّا قادرًا، فإن الإنسان لا يدري ما يَعرِض له من موت أو من مرض أو غير ذلك؛ فينبغي إذَن المبادرة للأعمال الصالحة.
والمبادرة للأعمال الصالحة حتى في التطوعات مطلوبةٌ للمسلم، ليس فقط في الفرائض وفي الواجبات، حتى في التطوعات ينبغي أن تكون روح المبادرة لدى المسلم للعمل الصالح. ولهذا؛ جاء في “صحيح مسلم” عن أبي هريرة أن النبي قال يومًا للصحابة: مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟، قال أبو بكر : أنا يا رسول الله. قال: مَن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟، قال أبو بكر: أنا يا رسول الله. قال: فمَن تبع منكم اليوم جنازة؟، قال أبو بكر: أنا يا رسول الله. قال: فمَن عاد منكم اليوم مريضًا؟، قال أبو بكر: أنا يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، ما اجتمعنَ في امرئ إلا دخل الجنة[2].
فانظر أولًا طَرْحَ النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأسئلة على الصحابة ؛ يعني يستحثهم على المبادرة لهذه الأعمال الصالحة وغيرها. وأيضًا انظر إلى مبادرة الصِّدِّيق ؛ كيف جمع هذه الأعمال التطوعية كلها في يوم واحد -صوم نافلة، وعيادة مريض، واتباع جنازة، وإطعام مسكين-، وربما له أعمال أخرى غير هذه المذكورة؛ ولهذا كان أبو بكر أفضلَ الأمة بعد نبيها ، ومع ذلك لاحِظ هذه المبادرة العظيمة؛ هذا يدل على أن المسلم ينبغي أن تكون لديه روح المبادرة للأعمال الصالحة.
بعض الناس لا يبادر إلا إذا أُمر أو قيل له أو حُثَّ. لا، ينبغي أن يكون لدى المسلم روح المبادرة للعمل الصالح؛ يذهب مثلًا للمسجد الذي يصلَّى فيه على الجنائز لأجل أن يكسب الأجر، إذا سمع بمريض يذهب ويعوده لأجل أن يكسب الأجر، إذا وجد فقيرًا يتصدق عليه، يحرص على صيام النوافل، يحرص على كل ما هو عمل صالح؛ فالمبادرة لها شأن عظيم.
وقول الناظم: “إِلَّا إِذَا دَلَّ دَليلٌ” هذا يشير لِمَا أشرنا إليه في تحرير محل النزاع: بأنه إذا دل الدليلُ على أن الأمر للفور فإنه يكون للفور، وإذا دل دليلٌ على أنه للتراخي فإنه يكون للتراخي. فممَّا دل الدليلُ على أن الأمر فيه للتراخي قولُ الله : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]؛ فقد دلت الأدلة على أنه لا يجب المبادرة للقضاء بعد رمضان، وأنَّ للمسلم أن يؤخر القضاء إلى رمضان العام الآخر، لكن إلى آخر شعبان من العام الآخر، بقدر الأيام التي أفطرها؛ فهذا إذَن الأمرُ فيه ليس للفورية، وإنما هو للتراخي.
الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية
ثم قال الناظم:
42- وَالأَمْرُ إِنْ رُوعِيَ فِيهِ الفَاعِلُ | فَذَاكَ ذُو عَيْنٍ وذَاكَ الفَاضِلُ |
43- وَإِنْ يُرَاعَ الْفِعْلُ مَعْ قَطْعِ النَّظَرْ | عَنْ فَاعِلٍ فَذُو كِفَايةٍ أُثِرْ |
يشير الناظم بهذا إلى ما يسميه الأصوليون بفَرْض العين وفَرْض الكفاية، وسُنة العين وسُنة الكفاية؛ فيشير إلى أن فرض العين هو ما رُوعي فيه الفاعل؛ بمعنى أنه يُطلَب من كل شخص بعينه، وأن فرض الكفاية لا يراعى فيه الفاعل، وإنما يراعى فيه الفعل بغض النظر عن الفاعل.
وأكثر المأمورات هي من قبيل فروض العين أو فروض الكفاية؟ فروض العين، أكثر المأمورات هي من قبيل فروض العين؛ يعني الأمر بالصلاة، والأمر بالزكاة، والصيام، والحج؛ كلها من فروض الأعيان.
فروض الكفاية مثل الأذان والإقامة، ومثل تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104]، وقد يكون فرضَ عينٍ في بعض الحالات؛ إذا رأى المنكرَ فلا بُدَّ من إنكاره بحسب استطاعته، مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه[3]، لكن الأصل فيه أنه فرض كفاية، كذلك الدعوة إلى الله تعالى من فروض الكفاية.
فهذا هو الفرق بينهما: أن فرض العين يُنظَر فيه للفاعل، وفرض الكفاية يُنظَر فيه للفعل.
قال:
42- وَالأَمْرُ إِنْ رُوعِيَ فِيهِ الفَاعِلُ | فَذَاكَ ذُو عَيْنٍ ………….. |
يعني: من فروض الأعيان.
وكذلك أيضًا هناك سُنة العين وسُنة الكفاية؛ فمثلًا: السنن الرواتب هي من سنن الأعيان، وإلقاء السلام -إذا كانوا مجموعة- من سنن الكفاية؛ فإذا سلَّم واحدٌ يكفي، ولا يلزم بقية المجموعة أن يسلموا.
42- وَالأَمْرُ إِنْ رُوعِيَ فِيهِ الفَاعِلُ | فَذَاكَ ذُو عَيْنٍ ………….. |
يعني: من فروض الأعيان أو من سنن الأعيان.
“وذَاكَ الفَاضِلُ”: يشير الناظم إلى مسألة؛ وهي أيهما أفضل: فرض العين أو فرض الكفاية؟
فمن العلماء مَن قال إن فرض الكفاية أفضل؛ لأن الإنسان يقوم به عن بقية الناس؛ فمثلًا: تغسيل الميت وتكفينه يقوم به شخص واحد عن بقية الناس.
“فَذُو كِفَايَةٍ أُثِرْ”: يشير إلى فرض الكفاية. وقوله: “أُثِرْ” يعني عُلِم الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين.
مسألة الأمر بعد النهي
ثم أشار أيضًا الناظم إلى مسألة متعلقة بالأمر؛ وهي الأمر بعد النهي.
قال:
44 – وَالأَمْرُ بَعْدَ النَّهْيِ لِلْحِلِّ، وَفِي | قَوْلٍ لِرَفْعِ النَّهْيِ خُذْ بِهِ تَفِي |
قلنا إن الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، والأصل في الأمر أنه يقتضي الفورية، لكن إذا ورد الأمر بعد الحظر؛ فهل هو للإباحة أو أنه للرفع؟
أكثر الأصوليين وأكثر أهل العلم يقولون إنه للإباحة، ومنهم مَن يقول إنه لرفع النهي الذي كان قبل النهي، وهذا هو الذي اختاره الناظم، القول الثاني هو الذي اختاره الناظم؛ ولهذا قال: “وَفِي قَوْلٍ لِرَفْعِ النَّهْيِ خُذْ بِهِ تَفِي”.
“رَفْع النهي” يعني: يُنظَر فيما نُهي عنه ويُرجَع إلى أصله؛ فإن كان الأمر قبل النهي واجبًا فيكون الأمر بعد النهي واجبًا، وإن كان الأمر قبل النهي مستحبًّا فيكون الأمر بعد النهي مستحبًّا، وإن كان الأمر قبل النهي مباحًا فيكون الأمر بعد النهي مباحًا.
فالقول الثاني إذَن أنه لرفع النهي؛ الأمرُ بعد النهي رفعٌ للنهي، فيُنظَر لحاله قبل النهي.
أمثلة على الأمر بعد الحظر
الجمهور قالوا: إن الأمر بعد النهي أو بعد الحظر للإباحة، وقالوا: لأن كونه يَرِدُ النهي ثم يَرِدُ الأمر بعده؛ فهذه قرينة صَرَفت الأمرَ عن الوجوب إلى الإباحة. ومن أمثلة ذلك؛ قول الله : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، فما حُكم الاصطياد بعد التحلل؟ هنا يقولون إنه مباح، ولا يقول أحد إنه واجب ولا مستحب.
وكذلك في قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، وقال في الآية الأخرى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة:10]، فما حُكم الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله بعد صلاة الجمعة؟ على قول الجمهور إنه مباح وليس مستحبًّا، وعلى القول الثاني -رفع النهي- إنه مستحب، يقولون: لأن الأصل في الإنسان أنه مأمور بطلب الكسب والرزق والانتشار في الأرض، ثم نُهي عن ذلك بالنسبة لصلاة الجمعة، ثم أُمر به بعد الفراغ من صلاة الجمعة؛ فيكون الأمر مستحبًّا.
والصواب هو ما عليه جمهور أهل العلم؛ وهو أن الأمر بعد الحظر للإباحة وليس لرفع النهي.
بهذا نكون قد خالَفْنا المؤلف في هذه القاعدة؛ فالمؤلف اختار أنه لرفع النهي، وقال: “وَفِي قَوْلٍ لِرَفْعِ النَّهْيِ خُذْ بِهِ”؛ فقوله: “خُذْ بِهِ” إشارة إلى أن المؤلف هو الذي اختار هذا القول تبعًا للغزالي في “المستصفى”، ولكن الذي عليه أكثر الأصوليين هو أن الأمر بعد النهي للإباحة.
ومن أهل العلم مَن يقول إن هذه المسألة أصلًا نظرية؛ يَندُر أصلًا أن يوجد أمرٌ بعد نَهْي مجردًا عن القرائن؛ فيُعمَل إذَن بالقرائن، فيُنظَر لقرائن الحال في تلك المسألة، فيقال بعد ذلك: هل الأمر للوجوب؟ هل هو للاستحباب؟ هل هو للإباحة؟ وهذا قول وجيه أيضًا؛ لأنهم قالوا: يَندُر وجود مسألة مجردة عن القرائن. فيُنظَر لكل مسألة على حِدَةٍ بحسب القرائن المُحتَفَّة بها؛ مثلًا: الأمر بالصيد بعد التحلل، القرائن تدل على أنه للإباحة، وكذلك الانتشار في الأرض بعد صلاة الجمعة؛ الأمر للإباحة، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ألَا إني كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور، ألَا فزوروها[4] القرائن تدل على أنه لأيِّ شيء؟ للاستحباب.
يعني هذا قول مُتَّجِه، وهو قولٌ وسطٌ بين قولين؛ يعني لو قيل به لكان مُتَّجِهًا؛ لأنه -كما ذكرتُ- يَندُر وجود مسألة خالية عن القرائن الدالة على هذا.
أيضًا نشير إلى مسألة ينبغي أن يفهمها طالب العلم؛ كثيرٌ من التقعيدات لا تنتظم، فبعض أهل العلم ينظر كلَّ مسألة على حِدَةٍ بحسب القرائن -الأحوال والسياق-؛ لأن كثيرًا من التقعيدات -سواء في الأصول أو القواعد الفقهية- تجد أنها لا تنتظم. فلذلك؛ لا يبالِغ طالب العلم في مسألة التقعيد، وإنما يبالِغ في مسألة الأخذ بالدليل، إذا لم يجد دليلًا فهنا يرجع للقواعد في هذه الحالة؛ فمثلًا مسألة الأمر بعد النهي أو بعد الحظر، يَندُر أن توجد مسألة خالية من القرائن.
مداخلة: …
الشيخ: إي نعم، عند التطبيق -لو أردتَّ أن تُطبِّقها على كلام الأصوليين- تجد فيها إشكالات؛ ولذلك فالقول الأخير هذا الذي أشرتُ إليه يحل لنا كثيرًا من الإشكالات.
العبادات الواردة على وجوه متعددة يجوز فعلها على جميع تلك الوجوه الواردة
قال:
45 – وَافْعَلْ عِبَادَةً إِذَا تَنَوَّعَتْ | وُجُوهُهَا بِكُلِّ مَا قَدْ وَرَدَتْ |
46 – لِتَفْعَلَ السُّنَّةَ فِي الْوَجْهَيْنِ | وَتَحْفَظَ الشَّرْعَ بِذِي النَّوعَيْنِ |
هنا الناظم أتى بقاعدةٍ لا توجد في كتب أصول الفقه، وهذا مما يميز هذه المنظومة، وسبق أن ذكرنا في مقدمة شرح هذه المنظومة؛ أن هذه المنظومة تتميز بأن الناظم قد استوعب فيها القواعد الأصولية والقواعد الفقهية وقواعد الشرع أيضًا، لكنه لم يُكملها، ولَيْتَه أَتَمَّها، ستكون قواعد منظومة عظيمة، فلم يتمها الشيخ رحمه الله، وإلا فإنه يستوعب مثل هذه القاعدة التي لا تجدها في كتب أصول الفقه؛ وهي: إذا وردت العبادة على وجوهٍ متنوعة؛ فالقول الصحيح عند المحققين هو العمل بجميع وجوهها؛ وهذا هو الذي قرره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، واختاره الناظم؛ وذكر الناظم لذلك فائدتين:
- الفائدة الأول: قال: “لِتَفْعَلَ السُّنَّةَ فِي الْوَجْهَيْنِ” أو الوجوه التي وردت بها.
- الفائدة الثانية: قال: “وَتَحْفَظَ الشَّرْعَ بِذِي النَّوعَيْن” حِفْظ الشرع؛ وذلك لأن الإنسان إذا عمل بالشيء فإنه يحفظه ولا ينساه، بخلاف ما إذا قرره من الناحية النظرية ولم يعمل به، فإنه سرعان ما ينساه.
وأريد أن أسمع منكم أمثلة لهذه القاعدة التي كثيرًا ما تردَّدتْ في درسنا هذا.
نعم، الأذكار بعد الصلاة، والأذكار الواردة بعد الرفع من الركوع، وأدعية الاستفتاح، والصلاة على النبي ، وصفات الأذان، وصفات الإقامة. عمومًا الأمثلة كثيرة؛ فهنا نقول: الأفضل أن يأتي بالسُّنة على جميع وجوهها؛ لهاتين الفائدتين اللتين ذكرهما الناظم -أولًا: الإتيان بالسنة، وثانيًا: حِفْظ الشرع وعدم نسيانه-. لهذا؛ فينبغي لطالب العلم أن يحرص على الإتيان بالسنة بجميع وجوهها؛ أولًا: طلبًا لفِعْل السنة، وثانيًا: لحِفْظ الشرع؛ هذا إذا وردت السنة متنوعة، أما إذا كانت المسألة تقتضي الترجيح، فلا بُدَّ من الترجيح؛ يعني: إذا لم تَرِد على وجوه متنوعة، وإنما على اختلافٍ في الرواية مثلًا، فهنا لا بُدَّ من الترجيح بين الروايات المختلفة.
نكتفي بهذا القدر في “منظومة أصول الفقه”، والأسبوع القادم -إن شاء الله تعالى- والذي يليه ستكون فترة توقُّفٍ للدرس، سيتوقف الدرس لمدة أسبوعين فقط، الأسبوع القادم والذي يليه؛ فترة الحج، إجازة الحج. ونستأنف -إن شاء الله تعالى- الدرس في الثامن عشر من ذي الحجة؛ يعني أول إثنين من الدراسة كالمعتاد، نحن في هذا الدرس، درسنا في العام الواحد والعشرين، فنسير على منهج واحد، وهو استئناف الدرس بعد الإجازة يكون في أول أسبوع من الدراسة، فيكون -إن شاء الله- استئناف الدرس يوم الإثنين الثامن عشر من شهر ذي الحجة.
نعم، تفضل.
مداخلة: …
الشيخ: نعم، أحسنت، هذا مثال لِمَا ذكرتُ من أنه إذا وردت السنة على وجهٍ فيه اختلاف في الرواية؛ فإنه هنا يُعمَل بالترجيح ولا يقال إنها وردت على وجوهٍ متعددة. وهذا يصلح مثالًا لها؛ فمثلًا وردت بعض الروايات بأن السنة قبل الظهر أربع ركعات[5]، وبعضها بأنها ركعتان[6]، والراجح من الرواية أنها أربع، أكثر الأحاديث على أنها أربع؛ فهنا يقال: يُعمَل بأربعٍ، ولا يأتي بهذه تارةً وبهذه تارةً. لكن مثلًا أدعية الاستفتاح؛ الأحاديث كلها صحيحة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يأتي بهذه تارةً وبهذه تارةً، فهنا يُعمل بها جميعًا. ومثلًا الصفات الواردة بعد الرفع من الركوع: “ربنا لك الحمد”، “ربنا ولك الحمد”؛ كلها صحيحة، فيأتي بها جميعها.
مداخلة: …
الشيخ: أربع ركعات؛ لأن الأحاديث الواردة أكثرها على أربع ركعات، من حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث أم حبيبة رضي الله عنها؛ يعني: مَن صلى لله تعالى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة[7]، لا يكون هذا إلا إذا كانت أربع ركعات.
مداخلة: …
الشيخ: لا، أربع قبل.