عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
نبدأ أولًا بشرح “منظومة أصول الفقه”، وكنا قد وصلنا إلى قول الناظم: “وَالظَّنُّ فِي الْعِبَادَةِ المُعْتَبَرُ”.
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول الناظم الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى وشيخنا والحاضرين:
35- وَالظَّنُّ فِي الْعِبَادَةِ المُعْتَبَرُ | ونَفْسَ الَامْرِ فِي الْعُقُودِ اعتَبَرُوا |
36- لَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ الظَّنُّ خَطَا | فَأَبْرِئِ الذِّمَّةَ صَحِّحِ الخَطَا |
37- كَرَجُلٍ صَلَّى قُبَيْلَ الْوقْتِ | فَلْيُعِدِ الصَّلاةَ بَعْدَ الوَقتِ |
38- وَالشَّكُّ بَعْدَ الفِعْلِ لا يُؤَثِّرُ | وَهَكَذَا إِذَا الشُّكُوكُ تَكْثُرُ |
39- أَوْ تَكُ وَهْمًا مِثْلَ وَسْواسٍ فَدَعْ | لِكُلِّ وَسْوَاسٍ يَجِي بِهِ لُكَعْ |
40- ثُمَّ حَدِيثُ النَّفْسِ مَعْفُوٌّ فَلا | حُكْمَ لَهُ مَا لَمْ يُؤَثِّرْ عَمَلا |
الشيخ: أحسنت.
القارئ: قال الناظم رحمه الله تعالى:
35- وَالظَّنُّ فِي الْعِبَادَةِ المُعْتَبَرُ | ونَفْسَ الَامْرِ فِي الْعُقُودِ اعتَبَرُوا |
36- لَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ الظَّنُّ خَطَا | فَأَبْرِئِ الذِّمَّةَ صَحِّحِ الخَطَا |
37- كَرَجُلٍ صَلَّى قُبَيْلَ الْوقْتِ | فَلْيُعِدِ الصَّلاةَ بَعْدَ الوَقتِ |
38- وَالشَّكُّ بَعْدَ الفِعْلِ لا يُؤَثِّرُ | وَهَكَذَا إِذَا الشُّكُوكُ تَكْثُرُ |
39- أَوْ تَكُ وَهْمًا مِثْلَ وَسْواسٍ فَدَعْ | لِكُلِّ وَسْوَاسٍ يَجِي بِهِ لُكَعْ |
40- ثُمَّ حَدِيثُ النَّفْسِ مَعْفُوٌّ فَلا | حُكْمَ لَهُ مَا لَمْ يُؤَثِّرْ عَمَلا |
الشيخ: أحسنت.
العبرة في العبادات بما في ظن المكلف
قال الناظم رحمه الله:
35- وَالظَّنُّ فِي الْعِبَادَةِ المُعْتَبَرُ | ونَفْسَ الَامْرِ فِي الْعُقُودِ اعتَبَرُوا |
هاتان القاعدتان؛ يعني هذان الشطران يرجعان إلى قاعدة عظيمة عند أهل العلم؛ وهي: العبرة في العبادات بما في ظَنِّ المُكلَّف، والعبرة في المعاملات بما في نفس الأمر.
وهذا معنى قوله: “وَالظَّنُّ فِي الْعِبَادَةِ المُعْتَبَرُ”؛ يعني: العبرةُ في العبادات الظنُّ، ومقصودُه بالظن هنا: غلبة الظن.
وقوله: “ونَفْسَ الَامْرِ فِي الْعُقُودِ اعتَبَرُوا”؛ يعني: العبرةُ في المعاملاتِ والعقودِ نفسُ الأمر وحقيقةُ الأمر.
وأما كون العباداتِ العبرةُ فيها بما غلب على الظن؛ فلأن العبادات حقٌّ لله ، والله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وإذا فعل الإنسان ما غلب على ظنه فقد اتقى الله تعالى ما استطاع. ويدل لذلك أيضًا حديثُ ابن مسعود أن النبي قال: إذا شَكَّ أحدُكم فَلْيتَحَرَّ الصوابَ ثم لْيَبْنِ ما عليه[1] وهذا حديث أخرجه البخاري ومسلم؛ فقوله: فَلْيتَحَرَّ الصوابَ يعني: لِيعملْ بما غلب على ظنه.
أدلة على القاعدة
وأيضًا مما يدل لهذه القاعدة؛ ما جاء أيضًا في الصحيحين أن النبي قال: قال رجل: لأتصدَّقَنَّ الليلة، فخرج بصدقته فوضعها في يدِ سارقٍ؛ فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على سارق، فقال: الحمد لله على سارق. ثم قال: لأتصدَّقَنَّ الليلة، فوضع صدقته في يدِ بَغِيٍّ؛ فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق على بَغِيٍّ، فقال: الحمد لله على بغيٍّ. ثم قال: لأتصدَّقَنَّ الليلة، فوقعت صدقته في يد غنيٍّ؛ فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق على غنيٍّ، فقال: الحمد لله على غنيٍّ. فقيل له: إن صدقتك قد قُبِلَت؛ أمَّا السارق فلعله أن يستعِفَّ، وأمَّا البَغِيُّ فلعلها أن تستعِفَّ عن زِناها، وأمَّا الغنيُّ فلعله أن يعتبر ويتصدق على الفقير[2].
فدلَّ ذلك على أن العبرة بما في ظنِّ المكلف؛ ولهذا سيأتي فرع من فروع هذه القاعدة: أنه لو دفع الزكاة لمَن يظنه فقيرًا فبان غنيًّا؛ أجزأ.
فإذَن؛ جميعُ العبادات العبرةُ فيها بما غلب على الظن، ولا يُشترط فيها تحقُّق اليقين، لا يُشترط اليقين؛ فلو أنك مثلًا توضَّأْتَ وغلب على ظنِّك أنك قد أسبغتَ الوضوء وقد وصل الماء إلى جميع الأعضاء، لكن في حقيقة الأمر أن جزءًا مثلًا من الذراع لم يُصِبْه الماء، أو جزءًا من الرِّجل لم يُصِبْه الماء، ولم تَعلم بذلك، واستمر الأمر على هذا؛ فهذا معفوٌّ عنه، ولا يؤاخذك الله تعالى بهذا؛ لأن العبرة بما غلب على ظن المكلف.
من فروع القاعدة
ومن فروع هذه القاعدة: رجل وقع على ثوبه نجاسةٌ، فغسل هذه النجاسةَ، وغلب على ظنه أنها قد زالت، ولكنها في حقيقة الأمر لم تَزُل، وصلى بهذا الثوب؛ فصلاته صحيحة اعتبارًا بما غلب على ظنه.
وبالنسبة للزكاة -كما مثَّلنا قبل قليل-: رجل دفع الزكاة لغنيٍّ ظنَّه فقيرًا، فتبيَّن أنه غنيٌّ، فإن هذا يجزئ؛ لأن المطلوبَ منه غلبةُ الظن، وقد تحققَت، ولا يُؤمَر بعد ذلك بدفعها مرة أخرى.
وبالنسبة للصيام: رجل غلب على ظنه غروبُ الشمس، فأفطر بناءً على غلبة الظن، ثم تبيَّن أن الشمس لم تغرب؛ فإن صومه صحيحٌ، ولا يُؤمَر بقضاء هذا اليوم -على القول الراجح-. ويدل لهذا ما جاء في صحيح البخاري عن أسماء رضي الله عنها؛ قالت: “أفطرنا على عهد رسول الله في يومِ غيمٍ، ثم طلعت الشمس”[3]، ولم يُنقل أن النبي أمرهم بقضاء هذا اليوم.
بل السنةُ الفطرُ عند غلبة الظن بغروب الشمس، وليس السنة تأخير الفطر حتى يتيقن غروب الشمس، كما قرر ذلك ابن تيمية رحمه الله؛ لأن النبي وأصحابه كانوا يُفطرون بناءً على غلبة الظن، وليس هناك أحدٌ أطوع لله من رسول الله ومن صحابته .
بالنسبة للحج: رجل طاف بالبيت فشكَّ هل طاف ستة أشواط أو سبعة؟ وغلب على ظنه أنها سبعة، فطوافه صحيح، حتى لو كان في حقيقة الأمر أنه طاف ستة أشواط؛ فالعبرة بما غلب على ظن المكلف في جميع العبادات، هذه قاعدة مفيدة جدًّا لطالب العلم.
العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر
وأما المعاملات؛ فقال أهل العلم: “إن العبرة بما في نَفْس الأمر”، العبرة بحقيقة الأمر لا بما غلب على ظنه؛ وذلك لأن المعاملات متعلقة بحق آدميٍّ، فلم يُكْتَفَ فيها بالظن، وإنما لا بُدَّ فيها من حقيقة الأمر ونَفْس الأمر.
أمثلة على القاعدة
مثال ذلك: رجل باع مالًا لشخص؛ يعني تصرَّف تصرُّفَ فضوليٍّ، ولكن هذا الذي قد باع ماله كان قد وكَّله في البيع ولم يعلم هو بالوكالة؛ فنقول: إن هذا البيع صحيح لأنه وكيل له ويقوم مقامه، وإن كان القول الصحيح أيضًا أنَّ تصرُّف الفضوليِّ يصح إذا أجازه المالك، لكن حتى على قول الجمهور نقول في هذه الصورة: يصح.
وأيضًا: رجل باع مِلك غيره بدون توكيلٍ منه، ثم لمَّا باعه تبيَّن أنه قد مات، وكان هو الذي يرثه، فالبيع صحيح؛ لأنه كان قد باعه وهو يظن أنه مِلكُ غيرِه ثم تبيَّن أنه مِلكه؛ فالعبرة بما في نَفْس الأمر وبما في حقيقة الأمر لا بما غلب على ظنه.
وكذلك أيضًا: لو كان وليَّ يتيمٍ وتصرَّف تصرُّفًا بناءً على غلبة ظنه؛ يعني: تنازل مثلًا عن حصة اليتيم من الدية ظنًّا منه أنه يملك ذلك، ثم تبيَّن له أنه لا يملك التنازل عن حصة اليتيم من الدية؛ فإن هذا التنازل لا يصح، ويُطالَب الشخص الذي تلزمه الدية بأن يدفع الدية، وهذا التنازل تنازلٌ غير صحيح، وهكذا.
استثناء من القاعدة
هذه القاعدة قيَّدها الناظم رحمه الله بقيدٍ؛ قال:
36- لَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ الظَّنُّ خَطَا | فَأَبْرِئِ الذِّمَّةَ صَحِّحِ الخَطَا |
وهذا القيد متعلق بالشطر الأول من البيت السابق، وليس بالشطر الثاني؛ لأن الشطر الأول قلنا إنه متعلق بالعبادات -أنها تُبنى على ظن المكلف-؛ فيقول الناظم: “لَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ الظَّنُّ خَطَا”، إذا كان هذا الظن خطأً فلا بُدَّ من تصحيحه، ومثَّل له الناظم بمثال؛ قال:
أمثلة على هذا القيد
37- كَرَجُلٍ صَلَّى قُبَيْلَ الْوقْتِ | فَلْيُعِدِ الصَّلاةَ بَعْدَ الوَقتِ |
وهذا إنما يكون فيما كان من باب تَرْك المأمور وليس من باب ارتكاب المحظور؛ إذا تبيَّن الخطأُ في العبادة فيما كان من باب تَرْك المأمور فيجب تصحيحه وإعادته، بخلاف ما إذا كان من باب ارتكاب المحظور.
فمثلًا في المثال الذي مثَّل له المؤلف: رجل صلى قُبَيْل الوقت يظن أن الوقت قد دخل، ثم تبيَّن أنه لم يدخل؛ فلا تصح صلاته. مثلًا: صلى صلاة الظهر يظن أنه قد أُذِّن للظهر، ثم تبيَّن أنه لم يؤذَّن؛ فيلزمه أن يعيد الصلاة. صلى صلاة المغرب يظن أن الشمس قد غربت، ثم تبيَّن أنها لم تغرب؛ فيلزمه أن يعيد الصلاة. هذا هو المثال الذي ذكره المؤلف.
من فروع القاعدة
وأيضًا من فروع هذه القاعدة: لو صلى يظن أنه على طهارة، ثم تبيَّن أنه لم يتطهر وأنه نسي أن يتوضأ؛ فيلزمه أن يعيد الوضوء والصلاة، ولا نقول: العبرة بما غلب على ظنه؛ لأن الظن تبيَّن هنا أنه خطأ.
وقد قلنا إن هذا إنما هو مُقيَّد فيما كان من باب تَرْك المأمور، أما لو كان الخطأ فيما كان من باب ارتكاب المحظور فإنه معفوٌّ عنه؛ ومن ذلك مثلًا: لو صلى وعلى لباسه نجاسة، كأن غلب على ظنه طهارة الثوب، ثم بعد الصلاة تبيَّن أن في لباسه نجاسة؛ فصلاته صحيحة.
وكذلك أيضًا بالنسبة للصيام: أكَل أو شَرب يظن أن الشمس قد غربت، فتبيَّن أنها لم تغرب؛ نقول: صومه صحيح، ولا نقول: إن ظنه هنا تبيَّن أنه خطأ؛ لأن هذا من باب ارتكاب المحظور، وما كان من باب ارتكاب المحظور فيُعفى عن الإنسان فيه.
وهذه قاعدة مفيدة جدًّا لطالب العلم: أن ما كان من باب تَرْك المأمور فلا يُعذَر فيه بالنسيان ولا الخطأ ولا الجهل، أما ما كان من باب ارتكاب المحظور فيُعذَر فيه بالنسيان والخطأ والجهل. فلو غطى رأسه وهو محرم ناسيًا أو جاهلًا فلا شيء عليه، لكن لو أنه ترك المبيت مثلًا بمِنًى جاهلًا يظن أنه ليس واجبًا وأنه مستحب مثلًا؛ فهنا يجب عليه دم. الفرق بين المسألتين: أن تغطية الرأس من باب ارتكاب المحظور، وتَرْك المبيت من باب تَرْك المأمور.
فإذَن؛ مراد المؤلف بقوله: “لَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ الظَّنُّ خَطَا” فيما كان من باب تَرْك المأمور “فَأَبْرِئِ الذِّمَّةَ صَحِّحِ الخَطَا”؛ يعني: اِئتِ بهذا المأمور مرة أخرى.
ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن الشك؛ فقال:
الحالات التي يُعفَى فيها عن الشك
38- وَالشَّكُّ بَعْدَ الفِعْلِ لا يُؤَثِّرُ |
ذكر المؤلف الحالات التي يُعفَى فيها عن الشك؛ وذكر ثلاث حالات:
الحالة الأولى: قال: “وَالشَّكُّ بَعْدَ الفِعْلِ لا يُؤَثِّرُ”؛ وهذا مُستنَدُه -أو هذا يعني يريد الناظم بذلك- قاعدة عظيمة عند أهل العلم؛ وهي: أن الشك الطارئ بعد الفراغ من العبادة لا يُلتفَت إليه. فالشك الطارئ بعد الوضوء لا يُلتفَت إليه، والشك الطارئ بعد الصلاة لا يُلتفَت إليه؛ فلو أنك لمَّا صليتَ صلاة العشاء طرأ الشك: هل صليت ثلاثًا أو أربعًا؟ لا تلتفِتْ لهذا الشك، إلا إذا كان الشك في أثناء الصلاة، فهذا هو المؤثر. وكالشك لو أنك لمَّا رميتَ الجمرات، وبعد الفراغ من الرمي طرأ الشك: هل رميت ستًّا أو سبعًا؟ هذا الشك لا يُلتفَت إليه.
فإذَن؛ هذه قاعدة مفيدة جدًّا لطالب العلم، لو أنك بعد الفراغ من الطواف شَكَكْتَ: هل طفت ستة أشواط أو سبعةً؟ فما دام أن الشك طرأ بعد الطواف فلا يُلتفَت إليه.
فإذَن؛ هذه هي الحالة الأولى من الحالات التي يُعفَى فيها عن الشك: أن يكون طروء الشك بعد الفراغ من الفعل.
الحالة الثانية: قال:
وَهَكَذَا إِذَا الشُّكُوكُ تَكْثُرُ |
إذا كثُرت الشكوك من الإنسان، وأصبح الإنسان عنده كثرة شكوك؛ بأن يكون هذا الإنسان كثير الشك: إذا توضأ شك، وإذا صلى شك، وإذا طاف بالبيت شك؛ يعني يشك في كل شيء، فالإنسان كثير الشكوك لا يَلتفِتْ لهذا الشك، وهذا حتى وإن كان في نفس الفعل. يعني مثلًا: إنسان كثير الشكوك، وطرأ عليه الشك في أثناء الصلاة؛ فنقول: لا يَلتفِتْ لهذا الشك، ما دام أنه كثير الشكوك فلا يَلتفِتْ إليه، ولا تُطبَّق عليه الأحكام التي ذكرها أهل العلم في الشك؛ لأن هذا لمَّا كثُرت الشكوك عنده فتُطرح جميعها.
الحالة الثالثة: قال:
39- أَوْ تَكُ وَهْمًا مثلَ وَسْواسٍ فَدَعْ | لِكُلِّ وَسْوَاسٍ يَجِي بِهِ لُكَعْ |
مقصوده بـ”لُكَع” يعني: الشيطان، يجيء به الشيطان. وعبَّر عنه بـ”لُكَع”؛ لأن “لُكَع” كلمةُ ذمٍّ، والمراد بها الشيطان في هذا البيت؛ ومعنى اللُّكَع في الأصل: اللئيم، وهذا وصفٌ يَصدُق على الشيطان الرجيم عدوِّ ابن آدم.
فيقول في الحالة الثالثة: أن يكون الشك مجرد أوهام فقط، وهذا الوهم لا يُلتفت إليه. وهذا الوهم معناه: الوسواس؛ يعني وصل إلى مرحلة الوسواس؛ ولهذا قال العلماء: إن الإنسان الموسوس لا يَلتفِتْ للشكوك، بل حتى لا يَلتفِتْ لغلبة الظن، لا يَلتفِتْ لهذا كله، الإنسان الموسوس لا يَلتفِتْ للشكوك ولا لغلبة الظن. وقالوا: حتى إن طلاقه لا يقع، لا يقع طلاق الموسوس، حتى لو قال إني غلب على ظني كذا؛ مثلًا ذكَرَ وسواسًا في الطهارة وقال: غلب على ظني خروجُ شيء؛ نقول: طهارتك صحيحة، ولا تَلتفِتْ لهذا؛ لأن الغالب أنها وهمٌ.
فما الفرق بين هذه الحالة والحالة السابقة؟ الحالة السابقة لم تصل لدرجة الوسواس؛ يعني الحالة الثانية -كثرة الشكوك- لم تصل لدرجة الوسواس، لكن الشكوك كثيرة. أما الحالة الثالثة زادت هذه الشكوك فانتقلت إلى درجة الوسواس؛ فنقول: هذه الشكوك هي في الحقيقة أوهام، فلا يَلتفِتْ إليها المسلم.
والوسواس: مرضٌ يُبتلى به بعض الناس، قد يكون من أسبابه ضعف البصيرة مع ضعف الإرادة، إذا اجتمعت قلة البصيرة مع ضعف الإرادة تسلَّط الشيطان على الإنسان بالوساوس. وقد يكون أيضًا من أسبابه مرضٌ، مرضٌ يعتري الدماغ فيتسبَّب في هذه الوساوس؛ ولهذا فالأطباء النفسانيون لهم علاج بالنسبة له، علاج حسي وعلاج نفسي، علاج بالعقاقير وجلسات. فإذا وصل الوسواس مع الإنسان إلى مرحلة الوسواس القهري، بحيث أصبح لا يتحكم في نفسه؛ فهنا قد أصبح مريضًا عليه أن يبادر للعلاج.
وأنا أَذكُرُ أن رجلًا اتصل بي وقال إنه كان عنده وسواس في الصلاة، وأنه ترك الصلاة لمدة سنتين، فأخبرتُه أن ذمته لا تبرأ بهذا، وأنه لو مات فهو على خطر عظيم، وأن الوسواس بإمكانه أن يتغلب عليه مع قوة الإرادة، أو حتى يذهب ويعالج هذا الوسواس، وذكَّرتُه بالله وخوَّفتُه، واتصل عليَّ بعد أسبوع وقال إنه بدأ يصلي من ذلك الحين.
فتبيَّن أن المسألة مسألة ضعف إرادة، عنده قدرة على أن يصلي لكن الشيطان تغلَّب عليه بالوسواس، ولمَّا ذَكَرتُ له هذا الكلام اتصل بي بعد مدة وقال إنه من ذلك الحين وهو الآن يصلي.
فانظر؛ كيف أن الشيطان يلعب بالإنسان إلى هذه الدرجة، الشيطان ينظر إلى مواضع الضعف عند الإنسان ويتسلط عليه منها.
إذن؛ عندنا في هذه المواضع الثلاثة نقول: إن الشك فيها غير مُعتبَر؛ اضبطوا هذه المواضع، فضَبْطها مفيد جدًّا:
- الموضع الأول: الشك بعد الفراغ من العبادة لا يُلتفت إليه.
- الموضع الثاني: مع كثرة الشكوك.
- الموضع الثالث: مع الوسواس.
هذه المواضع الثلاثة لا يُلتفت للشك فيها، بل حتى مع الوسواس لا يُلتفت، حتى مع قيام غلبة الظن لا يُلتفت لتلك الشكوك؛ لأنها مع وجود الوسواس هي في الحقيقة وهمٌ.
حديث النفس مَعفوٌّ عنه
ثم قال الناظم رحمه الله:
40- ثُمَّ حَدِيثُ النَّفْسِ مَعْفُوٌّ فَلا | حُكْمَ لَهُ مَا لَمْ يُؤَثِّرْ عَمَلا |
الأدلة على القاعدة
حديث النفس مَعفوٌّ عنه بالإجماع؛ ويدل لهذا حديث أبي هريرة أن النبي قال: إن الله عفا لأمتي ما حدَّثت بها أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم[4] وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة أنه عفا لها عن حديث النفس. فأحاديث النفس إذَن لا يؤاخَذ بها الإنسان، ولا يترتب عليها شيء، حتى لو حدَّث الإنسان نفسه بالمعاصي لا يُكتب عليه ذنوبٌ ولا معاصٍ، ما لم يصل حديث النفس هذا إلى درجة الهمِّ، فإذا همَّ همًّا جازمًا على المعصية؛ فهنا إن فعل المعصية كُتبت عليه معصية، وإن همَّ بها ولم يعملها فننظر: إن تركها لله كُتبت له حسنة، وإن تركها ليس لله لم يُكتب عليه شيء.
الفرق بين الهم بالشيء وحديث النفس
هناك فرق بين الهم بالشيء وبين مجرد حديث النفس؛ فحديث النفس لا يترتب عليه أي شيء، ولا يُكتب على الإنسان، ولا يؤاخَذ به، حتى لو بلغ منه مبلغًا كبيرًا؛ فإن الشيطان قد يتسلط على بعض الصالحين بالوساوس وأحاديث النفس في بعض الأمور المتعلقة بالذات الإلهية ونحوها، فهذه مَعفوٌّ عنها.
وقد شكا بعض الصحابة إلى النبي ، قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: أوَجدتموه؟، قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان؛ يعني: دليل على قوة الإيمان[5] رواه مسلم. وأيضًا جاء في بعض الآثار أن بعضهم كان يقول: “لو أُصبِحُ حُمَمةً ما تحدثتُ بهذا الشيء”[6]؛ يعني: تأتيه أمور عظيمة لا يستطيع الإنسان أن يتحدث بها. ويقول آخر: “لو أَخِرُّ من السماء إلى الأرض ما تحدثتُ بهذا الشيء”[7]. فهذه مَعفوٌّ عنها، فما دامت مجرد حديث نفس فلا يؤاخَذ بها الإنسان، هذا في الحقيقة يُريح الإنسان كثيرًا.
ولهذا؛ لمَّا علمَت اليهودُ بهذا الشيء أَتَوْا إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقالوا: إنا لا نجد هذا الذي تجدونه أنتم أيها المسلمون من أحاديث النفس، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: وماذا يفعل الشيطان بالبيت الخَرِب[8].
انظر إلى هذا الجواب المُسدَّد؛ فمِثل هذا -حديث النفس- نقول إنه لا يؤاخَذ به الإنسان ولا يَقلق منه الإنسان، لكن المشروع عندما تأتي أحاديث النفس هذه أن يستعيذ الإنسانُ بالله من الشيطان الرجيم، وَلْيَنْتَهِ؛ يعني يُعرِض عنها ويفكِّر في شيءٍ آخر؛ وقد جاء في بعض الروايات أنه يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1][9]، وفي بعضها أن يقول: آمنتُ بالله ورُسُله[10].
انتبهوا لهذه المسألة؛ لأنها تؤثر على بعض الناس، خاصةً مَن هو في بداية طريق الاستقامة، قد تؤثر عليهم هذه المسألة تأثيرًا بليغًا؛ فينبغي فَهْم هذه المسألة فَهْمًا جيدًا؛ حديث النفس هذا لا يؤاخَذ به الإنسان، ما دام حديث نفس فلا يؤاخَذ به الإنسان مطلقًا. وكما ورد: الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة[11]؛ فالشيطان يغتاظ من الإنسان إذا رأى منه أنه مُقبِل على الخير وعلى الصلاح والاستقامة، فيبدأ يوسوس للإنسان ويأتي بمثل هذه الأحاديث.
فلو حدَّث الإنسانُ نفسه بأنه سيُطلق زوجته، لكنه لم يتلفظ بالطلاق، فهل يقع الطلاق؟ لا يقع بالإجماع. ولو حدَّث الإنسانُ نفسه بأنه سيتصدق، ولم يتصدق، فهل تلزمه الصدقة؟ لا تلزمه. ولو حدَّث نفسه بأنه سيُعتِق وسيُوقِف وسيفعل شيئًا، ولم يفعل؛ فلا يلزمه. فإذَن؛ حديث النفس هذا مَعفوٌّ عنه.
حُكم حديث النفس إذا ترتب عليه عمل
لكن الناظم قال: “فَلَا حُكْمَ لَهُ مَا لَمْ يُؤَثِّرْ عَمَلا”؛ يعني: إذا ترتَّب عليه عملٌ فيؤاخَذ به الإنسان، للحديث: إن الله عفا لأمتي ما حدَّثت بها أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم[12]. فإذا تكلم الإنسان بما في نفسه، فهنا يؤاخَذ به: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، إذا عمل بما حدَّثَتْه به نفسه فيؤاخَذ به.
فالناظم أخذ هذه القاعدة من الحديث: إن الله عفا لأمتي ما حدَّثت بها أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم، وهذا مما تميز به هذا النظم. لاحِظ؛ هذا النظم لم يقتصر على القواعد الأصولية فقط، بل أتى بقواعد مستنبطة من أحاديث -كما في هذه المسألة-، وجمَعَ هذه المسائل كلَّها في بيتَين؛ يعني لم أرَ له نظيرًا، جَمَع مسائل الشك كلها، حالات المَعفوّ عن الشك فيها، ثم أَلْحَقَ بها حديث النفس؛ فهذا مما تميزت به هذه المنظومة.
نقف عند قول الناظم: “والأمر للفور فبادر الزمن”.
السائل: …
الشيخ: إي نعم.
السائل: …
الشيخ: يعني إذا جزم جزمًا بقطع الصلاة؛ فالفقهاء يقولون: يجب استصحاب حُكم النية بألَّا ينوي قطعها، أما مجرد أنه همَّ -يعني: لم يصل إلى درجة العزم الأكيد- فلا يؤثر.
السائل: …
الشيخ: لا، إذا لم يصل إلى درجة القطع بالنسبة للصلاة، بالنسبة للصلاة.
السائل: …
الشيخ: نعم، مقصوده بعد دخول الوقت.
السائل: …
الشيخ: “آمنتُ بالله ورُسُله” هذه في حالة الوساوس، عندما ترد للإنسان أحاديث النفس، عندما ترد على النفس فيما يتعلق بالذات الإلهية والقضاء والقدر ونحو ذلك؛ فيأتي بهذا ويقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، آمنتُ بالله ورُسُله.
وأحيانًا الشيطان مثلًا قد يأتي بوساوس متعلقة بالذات الإلهية أو بعدل الله أو بأفعال الله عمومًا أو بأشياء من هذا القبيل؛ فهنا يُعرِض الإنسانُ عنها، يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويُعرِض عنها.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 401، ومسلم: 572. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1421، ومسلم: 1022. |
^3 | رواه البخاري: 1959. |
^4 | رواه البخاري: 6664، ومسلم: 127. |
^5 | رواه مسلم: 132. |
^6 | رواه أحمد: 3161، وأبو داود: 5112. |
^7 | رواه البخاري: 3611، ومسلم: 1066. |
^8 | ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في “الفتاوى الكبرى”: 2/ 224. |
^9 | رواه أبو داود: 4722. |
^10 | رواه أحمد: 134. |
^11 | رواه أحمد: 2097، وأبو داود: 5112. |
^12 | سبق تخريجه. |