عناصر المادة
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
نبدأ أولًا بأصول الفقه، وكنا قد وصلنا إلى قول الناظم: “إِنْ يَجْتَمِعْ مَعَ مُبِيحٍ مَا مَنَع”.
نعم، تفضل.
الطالب: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزِدْنَا علمًا وعملًا وتُقًى يا كريم، واغفر اللهم لنا ولشيخنا والحاضرين والمسلمين.
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في منظومته الموسومة بـ”منظومة القواعد والأصول”، قال رحمه الله تعالى:
31- إِنْ يَجْتَمِعْ مَعَ مُبِيحٍ مَا مَنَعْ | فَقَدِّمَنْ تَغْلِيبًا الَّذِي مَنَعْ |
32- وَكُلُّ حُكْمٍ فَلِعِلَّةٍ تَبِعْ | إِنْ وُجِدَتْ يُوجَدْ وَإِلَّا يَمْتَنِعْ |
33- وَأَلْغِ كُلَّ سَابِقٍ لِسَبَبِهْ | لَا شَرْطِهِ فَادْرِ الْفُرُوقَ وَانْتَبِهْ |
34- وَالشَّيْءُ لَا يَتِمُّ إِلَّا أَنْ تُتِمّ | شُرُوطَهُ وَمَانِعٌ مِنْهُ عُدِمْ |
الشيخ: حسبك.
نعم، تفضل.
الطالب: قال الناظم رحمه الله تعالى …..
الشيخ: لا، فقط الأبيات التي نشرحها الآن.
طيب، الآن -يا إخوان- مَن أراد أن يحفظ، نحن قلنا: إذا انتهينا من المنظومة فهناك مُسابقةٌ تحريريةٌ في تسميع الأبيات، ووضعنا الجائزة عليها: الموسوعة الفقهية الكويتية كاملةً.
قلتُ: إنها موجودةٌ الآن لأفضل حافظٍ.
فإن شاء الله بعدما ننتهي من هذا سنُسمع، لكن مَن أراد تسميع الأبيات التي ستُشرح الآن لا مانع.
طالب: …….
الشيخ: نعم، أحسنتَ، بارك الله فيك.
الإخوة الذين ليس معهم متن المنظومة، هي موجودةٌ عند الإخوان في إدارة الحلقات، وبإمكانهم أن يأخذوها، وهي تُبْذَل مجانًا للإخوة، وهي موجودةٌ الآن عند الأخ ياسر، لكنه حتى الآن ما أتى، وستأتي بعد قليلٍ، إن شاء الله.
إذا اجتمع مُبِيحٌ وحاظِرٌ قُدِّم الحاظر على المُبِيح
قال الناظم رحمه الله تعالى:
31- إِنْ يَجْتَمِعْ مَعَ مُبِيحٍ مَا مَنَعْ | فَقَدِّمَنْ تَغْلِيبًا الَّذِي مَنَعْ |
“إِنْ يَجْتَمِعْ مَعَ مُبِيحٍ” يعني: مُراد المؤلف بهذه القاعدة الفقهية، وهي: إذا اجتمع مُبيحٌ وحاظِرٌ قُدِّم الحاظر على المُبيح.
هذه من القواعد الفقهية، والناظم رحمه الله دقيقٌ في عبارته، فهذه ليست على إطلاقها، ليست مُطَّردةً في جميع المسائل؛ ولهذا احترز الناظم بأن قيَّدها بالأغلبية فقال: “فَقَدِّمَنْ تَغْلِيبًا الَّذِي مَنَع”.
فقوله: “إِنْ يَجْتَمِعْ مَعَ مُبِيحٍ مَا مَنَعْ” يعني: ما كان مُحرمًا، أي: إذا اجتمع مُبيحٌ وحاظرٌ، اجتمع مُوجِب المنع مع مُوجِب الإباحة، فيُقدم مُوجب المنع، يُقدم الحاظر على المُبيح؛ وذلك لأنه لا يتأتى اجتناب الممنوع إلا بترك المُباح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ، هذا وجه القاعدة.
أمثلةٌ على القاعدة
لهذه القاعدة فروعٌ كثيرةٌ أو صورٌ متعددةٌ، منها: لو اشتبهتْ شاةٌ مُذَكَّاةٌ بميتةٍ فيحرم الجميع؛ لأنه لا يمكن اجتناب الميتة إلا باجتناب الشاة المُذَكَّاة.
فنقول: إذا كنت لا تعرف الميتة من المُذَكَّاة فإنه يحرم الجميع؛ تغليبًا لجانب الحظر.
ومن ذلك أيضًا: لو اشتبهتْ أُخته من الرضاع مع نساءٍ محصوراتٍ في قريةٍ، قيل: إن أمك أرضعتكَ في هذا الحي -مثلًا- وهنا أربع أو خمس نساء، واشتبهتْ أُخته من الرضاع منهن، لا يدري أيَّتهن أخته من الرضاع؛ فيحرم عليه أن ينكح جميع هؤلاء النسوة؛ تغليبًا لجانب الحظر.
ومن ذلك أيضًا: لو اشترك مُحْرِمٌ وغير مُحْرِمٍ في قتل صيدٍ، فإن هذا الصيد يكون حرامًا؛ تغليبًا لجانب الحظر.
وصور هذه القاعدة كثيرةٌ.
واستدلَّ بعض أهل العلم لهذه القاعدة بقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، قالوا: فأمر الله تعالى باجتناب الخمر والميسر، مع أنه ذكر في الآية الأخرى قال: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، لكنه غلَّب جانب الإثم والحظر على جانب المنفعة والمصلحة.
فهذا مما استدلَّ به أهل العلم لهذه القاعدة، ولكن هذه ليست على إطلاقها، فأحيانًا يجتمع المنع والإباحة، ويُغلَّب جانب الإباحة، كما لو أقام إنسانٌ ثم سافر، وكان قد لَبِسَ الخُفَّين، ومضى يومٌ على لبسه الخُفَّين، ثم سافر، فهل يُتِمّ مسح مُسافرٍ أو مسح مُقيمٍ؟
على المذهب أنه يُتمّ مسح مُقيمٍ، والقول الصحيح: أنه يُتمّ مسح مُسافرٍ، مع أنه اجتمع هنا جانب المنع وجانب الإباحة، يعني: جانب الرخصة له هو أن يُتمّ مسح مُسافرٍ، وجانب المنع نُغلِّب جانب الإقامة فنمنعه من المسح على ما زاد على يومٍ وليلةٍ، لكن القول الصحيح الذي تدل له الأدلة: أنه يُتمّ مسح مُسافرٍ.
ومثل ذلك أيضًا: لو دخل عليه الوقت وهو في الحضر ثم سافر، فأذَّن عليه الظهر في الرياض، وأراد أن يُصليها في الطريق إلى مكة، فهل يُصليها قصرًا أو يُصليها تامةً؟
هذا محل خلافٍ بين العلماء: فالحنابلة يُطَبِّقون القاعدة فيقولون: إذا اجتمع حاظرٌ ومُبيحٌ يُغلَّب جانب الحظر، فالحظر يعني: منع هذا الإنسان من التَّرخص بِرُخَص السفر وهو مُقيمٌ، ومُبيحٌ هو أنه قد سافر، فيُغلب جانب الحظر، فيقولون: يُتمّ ويُصليها أربعًا.
لكن القول الصحيح -وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، وهو الذي اختاره أكثر المُحققين من أهل العلم- أنه يُصليها قصرًا ركعتين؛ فإن العبرة بحاله وقت الأداء، وحاله وقت الأداء أنه مُسافرٌ.
ومما يدل على هذا أنك لو عكستَ المسألة: لو دخل عليه الوقتُ وهو في السفر، ثم صلاها في الحضر، فهل يُصليها مقصورةً أو تامةً؟
تامة بالإجماع، فلماذا فرَّقنا بين المسألتين؟
إذن العبرة بحاله وقت الأداء.
إذن هذه القاعدة نقول: إنها أغلبيةٌ، ومعظم القواعد الفقهية أغلبيةٌ؛ ولهذا حتى في تعريف القواعد الفقهية بعض أهل العلم يُعرفها بأنها: حكمٌ أغلبيٌّ، ولا يقول: حكمٌ كُلِّيٌّ.
فتجد أن معظم القواعد أغلبيةٌ؛ ولهذا فالناظم احترز وقال: “فَقَدِّمَنْ تَغْلِيبًا الَّذِي مَنَع”.
الحكم يدور مع عِلَّته وجودًا وعدمًا
ثم قال الناظم رحمه الله:
32- وَكُلُّ حُكْمٍ فَلِعِلَّةٍ تَبِعْ | إِنْ وُجِدَتْ يُوجَدْ وَإِلَّا يَمْتَنِعْ |
هذه القاعدة أصلها القاعدة الأصولية، هذا البيت أصله القاعدة الأصولية، وهي: أن الحكم يدور مع عِلته وجودًا وعدمًا.
عبَّر الناظم عن هذه القاعدة الأصولية بهذا البيت: الحكم يدور مع عِلته وجودًا وعدمًا.
“وَكُلُّ حُكْمٍ فَلِعِلَّةٍ تَبِعْ” يعني: تكون الأحكام الشرعية أحكامًا مُعللةً.
“إِنْ وُجِدَتْ يُوجَدْ وَإِلَّا يَمْتَنِعْ” يعني: يدور الحكم مع عِلته وجودًا وعدمًا.
والعِلة هي: وصفٌ ظاهرٌ مُنضبطٌ مُعرِّفٌ للحكم.
هذا تعريف العِلة، هي: الوصف الظاهر المُنضبط المُعرِّف للحكم.
أقسام العلة
وهي تنقسم إلى:
- عِلة منصوص عليها.
- وعِلة مُستنبطة.
مثال العِلة المنصوص عليها
قول النبي : إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يُحْزِنه [1]، وهذا الحديث متفقٌ عليه.
فإن ذلك يُحْزِنه هنا نصَّ على عِلة النَّهي، فدلَّ هذا على أنه لو كان لا يُحْزِنه جاز ذلك.
لو كان -مثلًا- أبٌ ومعه ابنان، ولو تناجيا لَسَرَّه هذا ولم يُحْزنه، أو -مثلًا- هم ثلاثةٌ، وبينهم من الوُدِّ والمحبة والإخاء ما يجعله لا يشك في مُناجاتهما، أو أنه يعرف مضمون الحديث، فلا تكون المُناجاة هنا مُحرمةً، لكن إذا كان ذلك يُحزنه أو مظنةً لأن يُحزنه كان ذلك مُحرمًا.
فهذا مثالٌ للعلة المنصوص عليها.
مثالٌ للعلة المُستنبطة
العِلة الربوية، ولما كانت مُستنبطةً اختلف فيها العلماء اختلافًا كثيرًا، والقول الصحيح فيها: أنها في النقدين الثَّمَنية، وفي غير النَّقدين الطُّعْم مع الكيل أو الوزن.
هذه مُستنبطةٌ، واستنبطها كثيرٌ من أهل العلم من حديث مَعْمَر بن عبدالله: أن النبي قال: الطعام بالطعام مِثْلًا بِمِثْلٍ [2].
فقوله: الطعام إشارةٌ لعلة الطُّعْم، مِثْلًا بِمِثْلٍ إشارةٌ إلى المعيار الشرعي، ما المعيار الشرعي؟
الكيل أو الوزن.
فهذا مثالٌ للعلة المُستنبطة، فمتى وُجِدَ الطُّعْم مع الكيل أو الوزن، أو وُجِدَت الثَّمَنية، فإن هذا الشيء يجري فيه الربا وإلا فلا.
فمثلًا: الأوراق النقدية يجري فيها الربا؛ لأنه توجد فيها عِلة الثَّمنية، والأرز يجري فيه الربا؛ لأنه يوجد فيه الطُّعْم مع الكيل، واللحم يجري فيه الربا؛ لأنه يوجد فيه الطُّعْم مع الوزن، وهكذا.
لكن -مثلًا- بيع هاتف جوال باثنين، هل يجري فيه الربا؟
ما يجري فيه الربا؛ لأنه ليس بمطعومٍ.
وبيع سيارةٍ بسيارتين لا يجري فيه الربا؛ لأنه ليس بمطعومٍ.
إذن الحكم يدور مع عِلته، وهذا خلافٌ لمَن قال: إن العِلة في الربا في الأشياء الستة فقط: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعير بالشَّعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سواءً بسواءٍ، يدًا بيدٍ [3].
الظاهرية قالوا: لا يجري الربا إلا في هذه الأشياء الستة.
وهذا قولٌ ضعيفٌ؛ لأن الشريعة لا تُفرق بين المُتماثلين.
إذن نقول: يجري في هذه الأشياء الستة وفيما شاركها في العِلة، وهذا تطبيقٌ لهذه القاعدة.
فما العِلة التي تجمع لنا هذه الأمور الستة المذكورة في هذا الحديث؟
هذه اختلف فيها العلماء اختلافًا كثيرًا، والقول الصحيح هو ما أشرتُ إليه: أنها في النَّقدين الثَّمَنية، وفي غير النَّقدين الطُّعْم مع الكيل أو الوزن.
ولا نقول: إن الربا لا يجري إلا في هذه الأشياء الستة؛ لأن عندنا قاعدةً عظيمةً، هي: أن الحكم يدور مع عِلته وجودًا وعدمًا؛ لأن هذه الشريعة أتتْ من حكيمٍ عليمٍ، ولا يمكن للشريعة أن تُفرق بين مُتماثلين، فما الفرق بين الأرز والبُرِّ؟ كلاهما مطعومٌ، وكلاهما مَكِيلٌ، فلا فرق بينهما، فلماذا نقول: يجري الربا في هذا، ولا يجري الربا في هذا؟
فقول الظاهرية هنا قولٌ ضعيفٌ.
إذن الصواب: أنه يجري الربا في كل ما تحققتْ فيه هذه العِلة.
وكذلك -مثلًا- عِلة الخمر هي الإسكار؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: كلُّ مُسْكِرٍ خمرٌ [4]، فكل ما وُجِدَتْ فيه عِلة الإسكار فهو مُحرمٌ، سواء كان من العنب، أو من الزبيب، أو من التمر، أو من المُركَّبات الكيميائية في الوقت الحاضر، فكل ما وُجدتْ فيه عِلة الإسكار هو مُحرمٌ.
وفي هذا أيضًا ما لم توجد فيه عِلة الإسكار إذا كان كثيره يُسْكِر، فهذا أيضًا دلَّ دليلٌ خاصٌّ على تحريمه، وهو قول النبي : ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ [5]، وهذا على قول الجمهور، وإلا فالحنفية عندهم أن هذا خاصٌّ بعصير العنب، وما عدا عصير العنب فعندهم لا يحرم القليل إذا كان غير مُسْكِرٍ، والصحيح: أنه يحرم القليل والكثير.
والأمثلة لهذا كثيرةٌ، لكن يرد عندنا هنا تساؤلٌ يُبْحَث في كتب الأصول، وهو: ما الفرق بين العِلة والحكمة؟ هل هما بمعنًى واحدٍ، أو بينهما فرقٌ؟
نعم، تفضل.
طالب: …….
الشيخ: والحكمة؟
الطالب: …….
الشيخ: طيب، هل يمكن أن تُعطينا مثالًا؟
الطالب: …….
الشيخ: نعم.
طالب آخر: …….
الشيخ: والحكمة؟
الطالب: …….
الشيخ: نعم، أحسنتَ، هذا هو الفرق بين العِلة والحكمة.
الفرق بين العِلة والحكمة
نقول: الفرق بين العِلة والحكمة: أن العِلة هي الوصف الظاهر المُنضبط المُعَرِّف للحكم.
إذن نقول: العِلة هي الوصف الظاهر المُنضبط المُعَرِّف للحكم، بينما الحكمة هي: المصلحة التي قصدها الشارع من هذا الحكم.
هذا هو الفرق في التَّعريف بينهما.
العِلة: هي الوصف الظاهر المُنضبط المُعَرِّف للحكم، بينما الحكمة هي: المصلحة التي قصدها الشارع من هذا الحكم.
المثال الذي ذكره الأخ محمد: العِلة في القصر في السفر هي ماذا؟
السفر نفسه، هي السفر، فمتى وُجِدَ السفر جاز القصر.
والحكمة: هي رَفْعُ المشقة والحرج عن المُكلَّفين.
لو ذكرنا مثالًا آخر: قطع يد السارق في السرقة، ما العِلة؟
السرقة؛ لأن السرقة وصفٌ ظاهرٌ مُنضبطٌ يمكن تحديده ومعرفته، ومُنضبطٌ لا يختلف باختلاف الأزمان ولا المكان، وصفٌ واضحٌ وظاهرٌ ومُنضبطٌ.
طيب، ما الحكمة من قطع يد السارق؟
حفظ أموال الناس وصيانتها وحمايتها.
هذا إذن الفرق بين العِلة والحكمة.
مثالٌ آخر: العِلة في تحريم الخمر ما هي؟
الإسكار، العِلة هي الإسكار؛ لأن هذا وصفٌ ظاهرٌ مُنضبطٌ وواضحٌ.
طيب، ما الحكمة من تحريم الخمر؟
حفظ عقول الناس وحمايتها.
إذن هناك فرقٌ بين الحكمة والعِلة، فانتبه.
الحكم لا يدور مع حكمته، وإنما مع عِلته؛ ولهذا لو كان لا يشقّ عليك السفر، هل يجوز لك أن تُفطر في نهار رمضان؟
يجوز بالإجماع، ويجوز أن تقصر بالإجماع، ويجوز أن تجمع؛ لأن الحكم يدور مع عِلته، وليس مع حكمته، وإنما مع عِلته.
العبادات لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها، ويجوز تقديمها قبل شرط الوجوب
ثم قال الناظم رحمه الله:
33- وَأَلْغِ كُلَّ سَابِقٍ لِسَبَبِهْ | لَا شَرْطِهِ فَادْرِ الْفُرُوقَ وَانْتَبِهْ |
يُشير الناظم رحمه الله إلى قاعدةٍ فقهيةٍ ذكرها بعضُ أهل العلم، وممن نصَّ عليها الحافظ ابن رجب في كتابه “القواعد”، وهي: أن العبادات لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها، ويجوز تقديمها بعد السبب وقبل شرط الوجوب.
إذن العبادات لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها، لكن يجوز تقديمها بعد السبب وقبل شرط وجوبها.
فالأحكام لها شروطٌ، ولها أسبابٌ، فَفِعْل الشيء قبل سببه لا يصح؛ لأنه لم يثبت أصلًا، فلا يُعتدّ به، أما إذا فعله بعد السبب وقبل الشرط فإنه يصحّ.
أمثلةٌ على القاعدة
نُوضح هذا بأمثلةٍ:
مثلًا: اليمين سببٌ للحِنْث في الكفارة، والحِنْث شرطٌ للكفارة، فاليمين سببٌ، والحِنْث شرطٌ.
فلو قال رجلٌ: أنا أريد أن أُطْعِم عشرة مساكين؛ حتى إذا حلفتُ مستقبلًا تكون هذه كفارةً لأيِّ يمينٍ أحلفها مستقبلًا. فهل هذا يصح؟
لا يصح؛ لأنه لم ينعقد سبب اليمين بعدُ، لم ينعقد السبب وهو اليمين والحلف.
لكن لو أنه لمَّا حلف كفَّر قبل أن يَحْنَث، قال: “والله لا أذهب إلى بيت فلانٍ”، وبعدما حلف كفَّر قبل أن يذهب إلى بيت فلانٍ؛ فيصح هذا.
إذن لا يصح التَّقديم قبل السبب، ويصح بعد السبب وقبل شرط الوجوب.
أيضًا لو أن شخصًا قال -وهذا تكرر السؤال عنه في بداية شهر رمضان-: أنا أريد أن أُطعم ثلاثين مسكينًا. عنده إنسانٌ مريضٌ لا يُرْجَى بُرؤه، أو كبيرٌ في السنِّ، فقال: أريد أن أُخرج الإطعام في أول يومٍ من شهر رمضان عن رمضان كله؟
فنقول: إن هذا لا يصح؛ لأنه قدَّم الإطعام قبل السبب؛ لأن السبب هو إدراك شهر رمضان، فلا يصح أن يُقدِّم ويُخرج الإطعام قبل انعقاد السبب، فإما أن يُخرج كل يومٍ بيومه، أو ينتظر إلى آخر رمضان ثم يُخرج الإطعام عما سبق.
طالب: …….
الشيخ: ورد عن أنسٍ : بعد رمضان، وليس في أول رمضان، وكلامنا الآن في شخصٍ يريد أن يُخرج -نفترض- في شعبان، قال: أنا هذه السَّنة ما أستطيع أن أصوم، فأنا أريد أن أُطعم ثلاثين مسكينًا في شهر شعبان.
فنقول: إن هذا لا يصح؛ لأن هذا قبل انعقاد السبب.
طالب: …….
الشيخ: لا، هو ليس في أول يومٍ، ورد عنه: أنه كان يُطْعِم مطلقًا، لكن في آخر رمضان.
والمسألة أيضًا محلُّ خلافٍ بين أهل العلم، لكن هذه تصلح كمثالٍ لهذه القاعدة.
أيضًا من الأمثلة: لو أن رجلًا أحرم بالحج، وخشي أن يحتاج إلى حلق رأسه؛ فدفع فدية الأذى قبل وجود الأذى، وقبل أن يحتاج إلى حلق الرأس، فيقولون: إن هذا لا يصح.
إذن لا يصح الشيء قبل انعقاد سببه، وأما بعد انعقاد سببه وقبل شرط الوجوب فإنه يصح؛ ولهذا قال الناظم: “فَادْرِ الْفُرُوقَ وَانْتَبِهْ” يعني: اعرف الفرق بين هذا وهذا.
الشيء لا يتم إلا باكتمال شروطه وانتفاء موانعه
34- وَالشَّيْءُ لَا يَتِمُّ إِلَّا أَنْ تُتِمّ | شُرُوطَهُ وَمَانِعٌ مِنْهُ عُدِمْ |
الشيء هنا في كلام الناظم يشمل كلَّ شيءٍ، يشمل: العبادات والمُعاملات والأحكام والعقائد، فالشيء لا يتمّ إلا باكتمال شروطه وانتفاء موانعه.
وهذه قاعدةٌ مفيدةٌ جدًّا لطالب العلم: أن الشيء لا يتم إلا باكتمال شروطه وانتفاء موانعه، فإذا انتفى شرطٌ من الشروط أو وُجِدَ مانعٌ من الموانع فإن هذا الشيء لا يتم.
أمثلةٌ على القاعدة
مثلًا: في باب العقائد تَرِدُ عليك إشكالاتٌ كثيرةٌ.
مثلًا: قول النبي : مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة [6].
لو كان إنسانٌ لا يُصلي ولا يصوم، ولكن قال قبل أن يموت: “لا إله إلا الله”، هنا نقول: إنه لا بد لدخول الجنة من توفر شروط وانتفاء موانع، فالمنافقون يقولون: “لا إله إلا الله”، هل نفعتهم؟
لا تنفعهم؛ لأنها لا بد لها من توفر شروطٍ وانتفاء موانع.
أيضًا في قول الله : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، عند أهل السنة والجماعة: أن القاتل لا يُخلَّد في النار خلودًا مُؤبَّدًا، وقالوا: لوجود مانعٍ وهو الإيمان، فإن الإيمان يمنعه من أن يُخلَّد فيها خلودًا مُؤبدًا، فيُحمل الخلود في الآية على الخلود المُؤقت.
الدعاء: يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل [7]، لكن إذا توفرت شروط الدعاء، وانتفت الموانع، فقد لا يُستجاب الدعاء لفقد شرطٍ من الشروط، وقد لا يُستجاب الدعاء لوجود مانعٍ: كأكل الحرام، مثلًا.
وكذلك أيضًا في الأحكام الشرعية، فلو أنه صلَّى بغير طهارةٍ -مثلًا- فإن صلاته لا تصح؛ لفقد شرطٍ من الشروط وهو الطهارة، ولو أنه صلَّى في وقت النَّهي -مثلًا- تطوعًا مُطلقًا لا تصح صلاته؛ لأنه وُجِدَ مانعٌ.
وفي المُعاملات -مثلًا-: لو باع ما لا يملك لا يصح البيع؛ لفقد شرطٍ من الشروط، وهو: أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، أو مأذونًا له فيه.
لو باع بعد نداء الجمعة الثاني لا يصح البيع؛ لوجود مانعٍ، وهو كون البيع بعد نداء الجمعة الثاني.
فهذه القاعدة قاعدةٌ عظيمةٌ تنتظم أو تدخل في جميع أبواب الدين؛ لأن الشيء لا يتم إلا باكتمال شروطه وانتفاء موانعه.
لو أتى إنسانٌ وقال: إن النبي يقول: مَن صلَّى البَرْدَين دخل الجنة [8]، وأنا لا أريد أن أُصلي إلا الفجر والعصر فقط.
فنُجيبه بهذه القاعدة فنقول: إن دخول الجنة لا بد له من شروطٍ، ومن الشروط: أن تُصلي بقية الأوقات، ومن الشروط كذا، وانتفاء الموانع من الكفر والتَّكذيب.
فلا يأتي أحدٌ ويأخذ هذه الأحاديث على ظاهرها، ونقول: لا بد أيضًا من وجود شروطٍ وانتفاء موانع.
فهذه قاعدةٌ مفيدةٌ جدًّا لطالب العلم، وتدخل في جميع الأبواب.
نكتفي بهذا القدر في درس أصول الفقه.
الأسئلة
السؤال: …….
الجواب: يا إخوان، الذي يسأل يرفع صوته؛ حتى يسمع الإخوة السؤال.
السؤال: …….
الجواب: لا، هو في اللحوم، إذا تحقَّقتَ فِعلًا من الحظر فَيُغَلَّب جانب الحظر على جانب الإباحة، وهذا ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في الصيد: إن وجدتَه غريقًا في الماء فلا تأكل [9].
وكذلك أيضًا إذا أرسل كلبه المُعلَّم مع كلابٍ غير مُعلمةٍ، ولا يدري هل صاد كلبُه المُعلم أو لا؟ فلا يحلّ له أن يأكل من الصيد.
إلى غير ذلك، وهذا مع التَّحقق، أما مع عدم التَّحقق فنبني على الأصل، فالأصل أن ذبيحة المسلم تحلّ، وذبيحة الكتابي تحلّ، وكون الإنسان يتورع، فالتَّورع له مقامٌ آخر، الورع له مقامٌ آخر.
السؤال: …….
الجواب: نعم، في اللحوم والذبائح يُغلِّب العلماءُ جانبَ الحظر، ويمكن أن نجعلها تأصيلًا في هذا.
وعلى كلِّ حالٍ ستأتينا -إن شاء الله تعالى- في الأبواب الآتية بإذن الله.