logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح منظومة أصول الفقه وقواعده/(4) من قوله: “والأصل أن الأمر والنهي حُتِم..”

(4) من قوله: “والأصل أن الأمر والنهي حُتِم..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علما نافعًا ينفعنا.

نبدأ أولًا بـ”منظومة أصول الفقه”، وكنا قد وصلنا إلى قول الناظم: (والأصل أن الأمر والنهي حُتم)، نعم؟

الطالب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول الشيخ العلامة محمد بن صالحٍ العثيمين، رحمه الله تعالى وشيخنا والحاضرين، وجمعنا بهم في جنات النعيم:

25- والأصلُ أن الأمر والنهي حُتِمْ إلا إذا النَّدب أو الكُره عُلِمْ
26- وكل ما رُتِّب فيه الفضلُ مِن غير أمرٍ فهْو نَدْبٌ يَجْلُو
27- وكل فعلٍ للنبي جُرِّدَا عن أمره فغير واجبٍ بَدَا
28- وإن يكن مُبيِّنًا لأمرِ فالحُكم فيه حكمُ ذاك الأمرِ
29- وقَدِّمِ الأعلى لدى التزاحمِ في صالحٍ والعكسُ في المظالمِ
30- وادفع خفيف الضررين بالأخفْ وَخُذْ بعالي الفاضلَيْنِ لا تَخفْ

الأصل في الأمر: الوجوب، والنهيِ: التحريم

الشيخ: حَسْبُك.

يقول الناظم رحمه الله:

والأصلُ أن الأمر والنهي حُتِمْ إلا إذا النَّدب أو الكُره عُلِمْ

(والأصل أن الأمر)؛ يريد الناظم بهذا أن يبين أن الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، وأن الأصل في النهي أنه يقتضي التحريم، هذا هو الأصل، هذه قاعدةٌ معروفةٌ عند الأصوليين: الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، والأصل في النهي أنه يقتضي التحريم، وقال بها أكثر أهل العلم.

أدلة القاعدة

ويدل لهذه القاعدة أدلةٌ كثيرةٌ؛ منها: قول الله ​​​​​​​: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]؛ فهذا يدل على أن ما ورد من الشارع على وجه الأمر فيجب امتثاله، وما ورد من الشارع على وجه النهي فيجب اجتنابه.

ويدل لذلك أيضًا: قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، فهذا وعيدٌ شديدٌ في مخالفة أمر النبي ، وهذا يقتضي أن أمره يقتضي الوجوب.

وكذلك أيضًا يدل لهذا من السنة: قول النبي : لولا أن أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك عند كل صلاةٍ [1]؛ فهذا يدل على أن الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب؛ ولذلك لم يأمر النبي أمته بالسواك أمرَ إيجابٍ، وإنما حثَّهم عليه فقط ليكون ذلك على سبيل الندب وليس على سبيل الإيجاب؛ وهذا يدل على أن الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب؛ لقوله: لأمرتهم لأمرتهم بالسواك عند كل صلاةٍ.

ويدل أيضًا لهذه القاعدة: أن النبي لمَّا أمر أصحابه في غزوة الحديبية أن يَنْحَروا ويتحللوا؛ توقَّفوا ، ليس عصيانًا لأمره، ولكن رجاء أن يُنسخ ذلك الأمر؛ لأنهم كانوا متعلقين بالبيت الحرام، فلما دخل على أم سلمة وهو مُغضَبٌ عليه الصلاة والسلام، قالت: ما أغضبك يا رسول الله؟! قال: ما لي آمر أمرًا فلا يُتبع؟!، فقالت: احلق رأسك فإذا حلقت رأسك؛ فسيحلقون رءوسهم، ففعل عليه الصلاة والسلام، حلق رأسه [2]، فلما حلق رأسه عرفوا أن الأمر أنه ليس فيه مجالٌ للنسخ، وأنه أمرٌ حتمٌ محتومٌ، وهذه هي المشورة، مشورة أم سلمة رضي الله عنها للنبي عليه الصلاة والسلام، إنما هي في هذا الأمر، وكانت مشورةً عظيمةً من هذه المرأة للنبي عليه الصلاة والسلام.

الشاهد من هذه القصة، وجه الدلالة: أن النبي عليه الصلاة والسلام غضب، فلو كان الأمر لا يقتضي الوجوب؛ لما غضب، ولما قال هذه المقولة: ما لي آمر أمرًا فلا يُتبع.

وأيضًا في حجة الوداع، نجد أن النبي رغَّب أصحابه في التمتع، ثم أكَّد عليهم ذلك، ثم بعد أن طافوا وسَعَوا ألزمهم بهذا، وحتى قالوا: يا رسول الله، أيُّ الحِل؟ قال: الحِل كلُّه [3]؛ فدل ذلك على أن الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان له أسلوبٌ معهم في البداية، ثم أسلوب معهم لما أراد إلزامهم به.

وأيضًا قول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، والأدلة في هذا كثيرةٌ.

إذنْ الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، والأصل في النهي أنه يقتضي التحريم، وهذا معنى قول الناظم: (والأصل أن الأمر والنهي حُتِم).

متى يُصرف الأمر إلى الاستحباب والنهي إلى الكراهة؟

ولكن إذا وُجد قرينةٌ تَصرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب فيُعمل بها، أو تَصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة فيُعمل بها.

فمَن يذكر لنا مثالًا لأمرٍ وُجد معه قرينةٌ فصرفته من الوجوب إلى الاستحباب؟

الطالب:

الشيخ: نعم، قوله: صَلُّوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء [4]، فهذه قرينةٌ على أنه أراد بذلك الأمر الاستحبابَ وليس الوجوب.

من يذكر لنا مثالًا لنهيٍ وُجد قرينةٌ صرفته من التحريم إلى الكراهة؟

الطالب:

الشيخ: نعم نهيه عن الشرب قائمًا، ثم قام عليه الصلاة والسلام [5]، وكذلك أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: إذا رأيتم الجنازة فقوموا [6]، قال عليٌّ : “قام ثم قعد” [7]؛ يعني على رأي بعض أهل العلم.

فإذنْ: إذا وُجد قرينةٌ تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة؛ فلا يكون هذا النهي للتحريم، وإنما يكون للكراهة.

الأمر في الآداب يقتضي الاستحباب

من المباحث في الأمر أيضًا: “الأمر في باب الآداب”؛ فالأمر في الآداب يقتضي الاستحباب في قول أكثر أهل العلم، وقد نص على هذا الشافعي في “الأم”، وألمح إلى هذا في “الرسالة”، وكذلك نص عليها ابن عبدالبر -على هذه القاعدة- وكذلك أيضًا أبو العباس ابن تيمية والحافظ ابن حجرٍ، بل أشار ابن رجبٍ إلى أن هذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة.

فإذنْ: الأمر في الآداب يُحمَل على الاستحباب، والنهي في الآداب يُحمَل على الكراهة.

وكأن الآداب قرينةٌ، كأنها قرينةٌ صُرف بها الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، وصُرف بها النهي من التحريم إلى الكراهة، فمَن يذكر لنا مثالًا للأمر في الآداب؟

الطالب:

الشيخ: غَطُّوا الإناء، وأوكوا السقاء [8]، نعم، هذا في الآداب، صحيحٌ، والأمر بلعق الأصابع ولَعْق الصَّحْفة [9] هذا في الآداب، لكن لو بحثت عن صارفٍ؛ لا تجد صارفًا، لكن هذه قاعدةٌ تُزيل كثيرًا من الإشكالات عن طالب العلم.

ولذلك؛ بعض العلماء الذين لا يقولون بهذا، مثل الشيخ الألباني رحمه الله، أخذ بظاهر اللفظ، وقال: يجب لعق الأصابع، ومَن لم يلعق أصابعه بعد الأكل؛ فإنه يأثم؛ لأن الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب.

لكن نُجيب عن هذا نقول: إن هذا في باب الآداب، ويُحمل على الاستحباب، وليس على الوجوب.

انتبه لهذه القاعدة المفيدة جدًّا لطالب العلم، وتزول بها إشكالاتٌ كثيرةٌ.

إذنْ نخلص من هذا إلى أن:

  • الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب.
  • والأصل في النهي أنه يقتضي التحريم.
  • وإذا وُجد قرينةٌ تصرف الأمر من الوجوب؛ فإنه يكون للاستحباب.
  • وإذا وُجد قرينة تصرف النهي من التحريم؛ يُحمَل على الكراهة.
  • والأمر في الآداب يقتضي الاستحباب.
  • والنهي في الآداب يقتضي الكراهة وليس التحريم.

السائل:

الشيخ: إي نعم كذلك، نعم.

قال: (إلا إذا النَّدب أو الكُره عُلِم)، يعني: إذا الندب عائدٌ إلى الأمر، (أو الكره) يعني: المكروه عائد إلى النهي إذا عُلم فنأخذ بما علمنا، ونعلم ذلك بالقرائن كما ذكرنا، نعلم ذلك بالقرائن.

فإذا علمنا بأن النبي لم يُرِد الوجوب، وإنما أراد الاستحباب في الأمر، أو لم يرد التحريم، وإنما أراد الكراهة، فإننا نعمل بهذه القرائن.

ما رُتب عليه فضلٌ ولم يؤمر به؛ فإنه يقتضي الاستحباب

ثم أراد الناظم أيضًا أن يبين الندب ويُجلِّيَه أكثر، قال:

وكل ما رُتِّب فيه الفضلُ مِن غير أمرٍ فهْو نَدْبٌ يَجْلُو

كل ما رُتِّب عليه فضلٌ، وحَثَّ عليه الشارع من الأمور القولية والفعلية بدون أن يؤمر به؛ فإنه يقتضي الاستحباب؛ كقول النبي عليه الصلاة والسلام مثلًا: السواك مطهرةٌ للفم، مرضاةٌ للرب [10]، هو معلقٌ، لكن على القول بتصحيحه مرفوعًا، وكقوله عليه الصلاة والسلام مثلًا: مَن نفَّس عن مسلمٍ كُربةً من كُرَب الدنيا؛ نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة [11]، وما ورد في بعض الأمور من الحث مِن غير أمرٍ.

ما ورد مثلًا في صيام يوم عرفة، فضل صيام يوم عرفة [12]، وفضل صيام عاشوراء [13]، وفضل صيام أيام البيض [14]، وفضل صيام ست من شوالٍ، هذه ورد الحث عليها، لكن لم يرد الأمر بها، فمثلًا: مَن صام رمضان ثم أتبعه سِتًّا من شوالٍ كان كصيام الدهر كله [15]، أين الأمر؟ ما تجد أمرًا، وإنما تجد فقط حثًّا، فهذا يُحمَل على الاستحباب.

فهذا معنى قول الناظم: (وما رُتِّب فيه الفضل)؛ يعني: ورد فيه الحث والترغيب لكن من غير صيغة الأمر، (من غير أمرٍ)؛ يعني: من غير أن يأتي بصيغة الأمر، (فهو نَدْبٌ يجلو)؛ يعني: ندب ظاهرٌ وواضحٌ، (يجلو) يعني: يتبين ويتضح.

فعل النبي المجرد عن الأمر يقتضي الاستحباب

ثم انتقل الناظم للكلام عن أفعال النبي ، قال:

وكل فعلٍ للنبي جُرِّدَا عن أمره فغير واجبٍ بَدَا

كل فعلٍ للنبي مجردٍ عن أمره عليه الصلاة والسلام؛ يعني: لم يقترن بأمرٍ من النبي ، وإنما هو مجردٌ، فهذا يقتضي الاستحباب ولا يقتضي الوجوب، مجرد فعل النبي يقتضي الاستحباب ولا يقتضي الوجوب.

فمَن يذكر لنا مثالًا لفعلٍ من أفعال النبي مجردٍ عن الأمر؟

الطالب:

الشيخ: نعم، طيب، مثالٌ أوضح.

الطالب:

الشيخ: لكن نريد فعلًا للنبي عليه الصلاة والسلام فَعَلَه.

الطالب:

الشيخ: لا، هذا ورد من قوله ، لكن نريد من فعله .

الطالب:

الشيخ: إي نعم، أحسنت، الاستياك عند دخول المنزل مثلًا، الاستياك عند دخول المنزل [16]، أو عند القيام من النوم [17]، هذا ورد من فعل النبي ، ولم يَرِد من قوله ، فيُحمَل على الاستحباب.

هذا إذا كان مجردًا؛ ولهذا قال الناظم:

وكل فعلٍ للنبي جُرِّدَا عن أمره فغير واجبٍ بَدَا

وأفعال النبي الكلام فيها كثيرٌ، ولكن هذا هو الأصل، الأصل فيها هو أنها إذا كانت مجردةً عن القرائن؛ فتحمل على الاستحباب.

قال الناظم:

وإن يكن مبيِّنًا لأمرِ فالحكم فيه حُكم ذاك الأمرِ

يعني: إن كان فِعل النبي مُبيِّنًا لأمرٍ من أوامر الله ورسوله؛ فيكون حكمه حكم ذلك الأمر؛ فإن كان ذلك الأمر واجبًا؛ فيكون فِعل النبي عليه الصلاة والسلام هنا واجبًا، وإن كان مستحبًّا؛ فهو مستحبٌّ.

يعني مثال لفعل النبي عليه الصلاة والسلام: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، “أقيموا الصلاة”، هذا مجمَلٌ بيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام، بيَّن كيفية إقامة الصلاة، بيَّنها النبي بأفعاله، وبيَّنها أيضًا بأقواله.

وكذلك أيضًا ما ورد الأمر به وبيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام بفعله: وَآتُوا الزَّكَاةَ، كيف نؤتي الزكاة؟ كيف نزكي؟ بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام ذلك بقوله وبفعله عليه الصلاة والسلام، والحج كذلك بيَّنه النبي .

فإذنْ: ما كان من أفعال النبي مُبيِّنًا لأمرٍ؛ فيكون حكمه حكم ذلك الأمر؛ ولهذا قال الناظم: (فالحكم فيه حكم ذاك الأمر).

إذنْ الخلاصة: أن أفعال النبي الأصل فيها أنها لا تقتضي الوجوب، وإنما على الاستحباب، إلا إذا كانت مُبيِّنةً لأمرٍ واجبٍ فإنها تقتضي الوجوب كما مثَّلنا.

ومباحث أفعال النبي عليه الصلاة والسلام -كما أسلفت فيها- الكلام عنها يطول.

قاعدة تزاحم المصالح والمفاسد

قال:

وقَدِّمِ الأعلى لدى التزاحمِ في صالحٍ والعكس في المظالمِ

يريد الناظم بهذا أن يشير إلى قاعدةٍ معروفةٍ عند أهل العلم، وهي قاعدة: “إذا تعارضت مصلحتان؛ فتقدم الأعلى منهما، وإذا تعارضت مفسدتان؛ فيُرتكب الأدنى منهما”.

ولهذا قال: (وقدِّمِ الأعلى)، يعني: من المصلحتين، (لدى التزاحمِ في صالحٍ) يعني: في المصالح، (والعكس في المظالم)، يقصد بالمظالم يعني: المحرمات أو المفاسد، لكن الناظم عبَّر بالمظالم لأجل الضرورة الشعرية، لكنه يقصد بها المفاسد أو المحرمات.

ويرتبط بهذا البيتِ البيتُ الذي بعده:

وادفع خفيف الضررين بالأخفْ وخُذ بعالي الفاضلَيْن لا تَخفْ

يعني: إذا اجتمع ضرران؛ يُدفع أشد الضررين بارتكاب أخفهما، وإذا اجتمع مصلحتان؛ فيؤخذ بأعلى المصلحتين.

هذان البيتان -كما ذكرتُ- يريد الناظم بهما الإشارة إلى هذه القاعدة: “إذا تعارضت مصلحتان؛ فيُقدَّم الأعلى منهما، وإذا تعارضت مفسدتان؛ ترتكب الأدنى”.

أمثلة على القاعدة

إذا تعارضت مصلحتان؛ يقدم الأعلى منهما؛ كأن تتزاحم عباداتٌ فيُقدَّم الأعلى من هذه العبادات، كأن يتزاحم مثلًا طلب العلم ونافلةٌ من نوافل العبادات، فأيهما أعلى مصلحةً: طلب العلم أو النافلة؟ طلب العلم، لو أن شخصًا قال: أيهما أفضل: أن آتي الآن وأقرأ قرآنًا، أو أني أحضر الدرس؟ أيهما أفضل؟ حضور الدرس، طلب العلم، لماذا؟ لأن طلب العلم نفعه متعدٍّ، بينما نوافل العبادة نفعها قاصرٌ على صاحبها.

فهذا مثالٌ لتعارض المصلحتين، نعم؟

الطالب:

الشيخ: لا، هذه تختلف، هذه لا بد فيها من تحية المسجد؛ لأنه إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قطع الخطبة وأمر رجلًا من الصحابة بتحية المسجد [18]؛ فالدرس من باب أولى؛ فلذلك نقول: يأتي تحية المسجد، لكن في الخطبةِ النبيُّ عليه الصلاة والسلام قال: وخفِّفْهما [19]، فيمكن أن يجمع بينهما.

طيب، من يذكر لنا أمثلةً لتزاحُمِ المصالح؟ إذا تزاحمت مصلحتان؟

الطالب:

الشيخ: تزاحُم حقِّ الأم وحق الأب، حق الأم أعلى وأعظم من حق الأب، نعم؟

الطالب:

الشيخ: نعم، الفريضة مع النافلةِ، الأمرُ فيها ظاهرٌ، الفريضة أفضل من النافلة، لكن نريد أن يكونا من جنسٍ واحدٍ؟

الطالب:

الشيخ: الصيام، نعم، ممكنٌ، صيامُ النافلة وإجابة الدعوة، فإذا كانت الدعوة المصلحة فيها أرجح؛ فيقدمها على صيام النافلة.

والطواف في المواسم، ومثلًا الصلاة أو تلاوة القرآن، فهنا أي المصلحتين أرجح؟ الصلاة أو تلاوة القرآن؟ لأن الطواف في المواسم وإن كان عملًا فاضلًا؛ إلا أن تركه أولى؛ لأجل التوسعة على الناس؛ لأنه لو كل واحدٍ يريد أن يتطوع بالطواف زاحم غيره..، فمسائل الطواف -وكذلك ما يتعلق بها- ينبغي أن تراعى فيها المصالح أيضًا، ينبغي أن تراعى فيها مسألة المصالح.

صدقة السر والعلن، أيهما أفضل؟ في الأصل أن صدقة السر أفضل من صدقة العلن، هذا هو الأصل، لكن أحيانًا قد تكون صدقة العلن أفضل، وهذا أيضًا يقودنا إلى مسألةٍ وهي: أنه قد يَعرِض للمفضول ما يجعله فاضلًا؛ فعندنا صدقة العلن هي مفضولٌ، وصدقة السر أفضل، لكن قد يعرض لصدقة العلن ما يجعلها أفضل من صدقة السر، مثل ماذا؟

طالب: ….

الشيخ: نعم، مثل إنسانٍ يُقتدَى به، إذا تصدق؛ الناس سيقلدونه ويتصدقون، لا شك أن هنا صدقة العلن أفضل، أو أنه مثلًا يريد تشجيع الناس، دعا مثلًا لتبرُّعٍ أو لصدقةٍ أو لمشروعٍ خيريٍّ، فقام وأعلن قال: “أنا أتبرع بكذا”؛ حتى يحث الناس على التبرع، فنقول هنا: كونه يعلن تبرعه، ويعلن صدقته، هذا أفضل من السر.

فإذنْ قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل، انتبه لهذا، هذا بالنسبة لتزاحم المصالح.

(والعكس في المظالم)؛ يعني في المفاسد، مقصود الناظم بالمظالم: يعني المفاسد أو المحرمات، فإذا اجتمع عندنا أكثر من مفسدةٍ؛ فيلتزم أدنى المفسدتين.

وهذا ما صرح به الناظم في البيت الذي بعده: (وادفع خفيف الضررين بالأخف)؛ يعني: إذا وُجد ضرران عندك فارتكب أدناهما لدفع أعلاهما.

ومِن هذا ما حصل للخَضِرِ مع موسى : رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71]، ثم أخبره بعد ذلك، قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، كانت هذه السفينة لمساكين، وكانت تمر هذه السفينة بمَلِكٍ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف :79]، فخَرَقها الخَضِر؛ لكيلا يغتصبها ذلك الملك، فارتكب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، فخَرْقُ السفينة أدنى مفسدةً مِن غَصْبها.

وأيضًا يدل لهذا قول الله : وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، فعندنا الآن مفسدةُ تَرْك سب آلهة المشركين، ومفسدة سبِّ الله تعالى، فأيهما أشد؟ سب الله أشد، فإذنْ نترك سب آلهة المشركين ونلتزم بهذه المفسدة لدفع المفسدة الأعلى، وهي سب الله .

قال: (وخُذ بعالي الفاضلَيْن لا تَخفْ)، هذا تكرار لما سبق؛ يعني: خذ بالمصلحة الأعلى عند التزاحم.

فإذنْ القاعدة في هذا: أنه عند تزاحم المصالح فيؤخذ بالأعلى، وعند تزاحم المفاسد يُرتكب الأدنى لدفع الأعلى، هذه أيضًا قاعدةٌ مفيدةٌ جدًّا لطالب العلم.

ومعرفة الأصلح، والصالح من الأصلح، والفاسد من الأفسد، والضار من الأشد ضررًا، هذه تحتاج إلى فقهٍ ومعرفةٍ؛ ولهذا يقول بعض أهل العلم، يقول: معرفة الخير من الشر كلٌّ يُحسِنه، لكن معرفة خير الخيرين وشر الشرين هذه التي تحتاج إلى فقهِ تعرُّف خيرِ الخيرين وشرِّ الشرَّين، أما تمييز الخير من الشر فكلٌّ يُحسنه، لكن أيهما أفضل: هذه المصلحة أو المصلحة هذه؟ وأيهما أشد ضررًا: هذه المفسدة أو تلك المفسدة؟ هذه تحتاج إلى فقهٍ وعلمٍ، وتحتاج أيضًا توفيقًا من الله .

نكتفي بهذا القدر في درس أصول الفقه، وننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه.

الأسئلة

السائل: …؟

الشيخ: لكن لماذا نهى الله عن ترك سب آلهة المشركين؟ قال: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، لو كانوا لا يسبون الله تعالى؛ لكان سب آلهتهم مطلوبًا: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۝ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:1-3]، فلا بد من الكفر بالطاغوت؛ يعني لا يكفي أن الإنسان يؤمن بالله دون أن يكفر بالطاغوت، لا بد من الكفر بالطاغوت، الكفر بالطاغوت يقتضي سب آلهتهم وتعييبها، لكن إذا كان يترتب عليها -على سب آلهة المشركين- أن يسبوا الله تعالى؛ نترك هذا؛ لدفع هذه المفسدة الأعظم.

السائل: …؟

الشيخ: هذه الأسئلة التي خارج الدرس نُرجئها آخر الدرس، أو تقصد أنها مرتبطةٌ بهذا؟

السائل:

الشيخ: طيب، ما وجه الارتباط؟

السائل:

الشيخ: إي نعم، نعم؟

السائل:

الشيخ: هذا للإرشاد؛ يعني حديث: غَطُّوا الإناء؛ فإن في السَّنة ليلةً ينزل فيها وباءٌ لا يوافق إناءً لم يُخمَّر إلا وقع فيه [20]، هذا رواه مسلمٌ، هذا للإرشاد، للآداب، حتى مع وجود هذه كلها فالمقصود بها الآداب؛ لتنبيه المسلم أن ينتبه لهذه الآداب، مثل تنبيهه أيضًا لإطفاء النار، وإغلاق الباب.

كل هذه آدابٌ وإرشاداتٌ، فهي عند أهل العلم تُحمَل على الاستحباب ولا تحمل على الوجوب، فالوجوب ما كان في غير الآداب.

هذا هو الأصل في العبادات أو في المعاملات، يعني في غير الآداب، أما ما كان من باب الآداب فكونه في الآداب هذا قرينةٌ صارفةٌ للأمر من الوجوب إلى الاستحباب، وللنهي من التحريم إلى الكراهة.

السائل:

الشيخ: … غير متحقَّقٍ، يعني غير متيقنٍ، قد يقع وقد لا يقع، ليس متيقنًا.

السائل: …؟

الشيخ: السبب أن الآداب نفسها.. كون الأمر في الآداب قرينةٌ صارفةٌ للأمر من الوجوب إلى الاستحباب؛ ألسنا قلنا: إن الأمر الأصل أنه يقتضي الوجوب، إلا أن توجد قرينةٌ تصرفه من الوجوب إلى الاستحباب؟

مِن القرائنِ: كونُه في الآداب، هنا القرائن كثيرةٌ، لكن من القرائن: كونه في الآداب.

السائل:

الشيخ: على كل حالٍ: ما هو عدم الدليل؟ نحن نطالبك، العلماء لمَّا قالوا: إن الأمر يقتضي الوجوب إلا في الآداب، قرَّروا هذه القاعدة من الأدلة الشرعية، فالآداب قالوا: إن النصوص سياقها يدل على الإرشاد والتوجيه وعدم الإلزام، كأنه أدبٌ؛ يعني يرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذا، فهو مِن أصله يقتضي عدم الإلزام.

السائل:

الشيخ: لا، هنا وُجد قرينةٌ، فالأكل والشرب باليد اليسرى وُجد قرينةٌ تدل على أنه للتحريم، ما هي هذه القرينة؟ أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله [21]، فإذا وُجد قرينةٌ تدل على أن الشارع قصد التحريم فيُحمل على التحريم.

لكن إذا ما وُجد قرينةٌ؛ مثل لعق الأصابع، لعق الأصابع هذا إرشادٌ وتوجيهٌ من النبي عليه الصلاة والسلام، إرشادٌ بأن يلعق الإنسان أصابعه، لكن لو لم يلعق أصابعه هل نقول: إنه آثمٌ؟ صعب يعني، فلا يقول أحدٌ: إنه آثمٌ إلا الظاهرية فقط، أما بقية أهل العلم غير الظاهرية فيقولون: إن هذا أراد النبي عليه الصلاة والسلام به التوجيه، وأراد به مجرد الإرشاد ولم يُرِد به الإلزام.

يعني: عَرَفوا هذا مِن سياق أوامره عليه الصلاة والسلام ونواهيه، عرفوا أن النبي عليه الصلاة والسلام في غير الآداب مثلًا قد يقصد الإلزام، وقد يقصد عدم الإلزام.

أما في الآداب، فاستقرأ العلماء أوامر النبي عليه الصلاة والسلام فعرفوا أنها تقتضي الاستحباب ولا تقتضي الوجوب، لما استقرءوا نواهي النبي عليه الصلاة والسلام؛ عرفوا أنها تقتضي الكراهة ولا تقتضي التحريم.

السائل:

الشيخ: نعم، وقال به الجمهور، قالوا: إنه للآداب، وحملوه على الاستحباب.

السائل:

الشيخ: الإشكالُ ضبطُ الآداب، هذه مسألةٌ أخرى أيضًا فيها إشكالٌ، فما هو الضابط؟ هل هذا من الآداب أو ليس من الآداب؟ يعني: هذا أيضًا يعني محل اجتهادٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 887، ومسلم: 252.
^2 رواه البخاري: 2732.
^3 رواه البخاري: 1564، ومسلم: 1213.
^4 رواه البخاري: 1183.
^5 رواه البخاري: 5616.
^6 رواه البخاري: 1307، ومسلم: 959.
^7 رواه مسلم: 962.
^8 رواه البخاري: 3316، ومسلم: 2012.
^9 رواه مسلم: 2033.
^10 رواه أحمد: 7، وابن ماجه: 289، والدارمي: 711.
^11 رواه البخاري: 2442، ومسلم: 2580.
^12, ^13 رواه مسلم: 1162.
^14 رواه البخاري: 1981، ومسلم: 721.
^15 رواه مسلم: 1164.
^16 رواه مسلم: 253.
^17 رواه البخاري: 245، ومسلم: 255.
^18 رواه البخاري: 931، ومسلم: 875.
^19 رواه مسلم: 875، بلفظ: وتَجَوَّزْ فيهما.
^20 رواه مسلم: 2014.
^21 رواه مسلم: 2019.
zh