عناصر المادة
هذا الدرس يُعتبر مجلس علمٍ، والنبي يقول: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنة [1]، فالذي يُتابع مثل هذه الدروس ويحتسب الأجر عند الله هو في عبادةٍ.
ننتقل بعد ذلك لـ”السلسبيل”، وكنا قد وصلنا إلى:
باب: الوليمة وآداب الأكل
باب: الوليمة وآداب الأكل.
وأصل الوليمة: تمام الشيء، أصل الوليمة في اللغة العربية: تمام الشيء واجتماعه، ثم نُقلتْ لطعام العُرْس خاصةً؛ لاجتماع الرجل والمرأة؛ ولهذا مُراد المؤلف بالوليمة هنا: طعام العُرس.
حكم وليمة العُرس
قال:
وليمة العُرس سنةٌ مُؤكدةٌ.
وهذا بالإجماع.
وعبدالرحمن بن عوف لمَّا آخى النبي بينه وبين سعد بن الربيع ، وهذا من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن المهاجرين أتوا من مكة وليس معهم شيءٌ، تركوا ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، فآخى النبي عليه الصلاة والسلام بين كل مُهاجري وأنصاري، وكان في أول الأمر آخى بينه في كلِّ شيءٍ، كأنه أخوه من النَّسب، حتى إنهما يتوارثان، ثم نُسخ الإرث بعد ذلك.
فكان ممن آخى النبي عليه الصلاة والسلام بينهما: عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فأتى سعد بن الربيع إلى عبدالرحمن وقال: يا أخي، قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالًا، وسأتنازل عن نصف مالي وأقسمه بيني وبينك نصفين -يعني: يكون لك نصف الثروة التي عندي ولي النصف- وعندي زوجتان، انظر إلى أيّتهما هويتَ أُطلقها فتعتدّ ثم تتزوجها [2].
انظر إلى هذه الأخلاق العظيمة؛ يريد أن يتنازل عن نصف ماله لأخيه في الله، يقوله صادقًا، ويريد أيضًا أن يُسهل عليه أمر الزواج: أن يُطلق زوجته، فتعتدّ، فيتزوج بها أخوه، ولكن أيضًا انظر إلى جواب عبدالرحمن، عنده عِزَّة نفسٍ، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق [3].
فدلُّوه على السوق، وكان المُسيطر عليه اليهود، كانوا أهل تجارةٍ من قديمٍ، فدخل معهم وباع واشترى -سبحان الله!- ففتح الله عليه في الرزق وأصبح من أثرياء الصحابة.
وفي بداية الأمر -في بداية اكتسابه- حصَّل مالًا فتزوج، فدخل على النبي وبه رائحة الطِّيب، وفيه أثر صُفْرَةٍ، فقال عليه الصلاة والسلام: مَهْيَم؟ يعني: ما هذا؟ قال: إني تزوجتُ. قال: كم أصدقتها؟ قال: نواة من ذهبٍ. قال: أَوْلِمْ ولو بشاةٍ [4].
فقوله: أَوْلِمْ ولو بشاةٍ هذا هو الشاهد، وهذا يدل على أن الوليمة عند العُرس سُنةٌ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يُولِم على زوجاته؛ ولهذا قال أنسٌ : ما أَوْلَم النبي على شيءٍ من نسائه ما أَوْلَم على زينب؛ أَوْلَم بشاةٍ [5].
ولكن أيضًا يجوز أن تكون الوليمة بغير ذبحٍ، يعني: بغير شاةٍ، والنبي عليه الصلاة والسلام لما تزوج صفية بنت حُيَيٍّ أَوْلَم عليها بالأَقِطِ والسَّمْن فقط [6]، وأَوْلَم على بعض نسائه مُدَّيْن من شعيرٍ [7].
فالأمر في هذا واسعٌ، لكن مَن وسَّع الله عليه ينبغي أن يُولِم بشاةٍ، وإذا وسَّع الله عليه أكثر تكون الوليمة بأكثر من شاةٍ؛ لأن قوله: ولو بشاةٍ يعني: هذا الحدّ الأدنى بالنسبة لمَن كان مثل حالة عبدالرحمن بن عوف ؛ ولذلك فالوليمة عند العُرس سنةٌ، يُولِم الإنسان بما تيسر، ويدعو مَن شاء من أقاربه وجيرانه، هذا سُنةٌ، وينوي بذلك التَّقرب إلى الله ، ويُؤْجَر ويُثاب على ذلك.
حكم إجابة وليمة العُرس
قال:
والإجابة إليها في المرة الأولى واجبةٌ.
المذهب عند الحنابلة: أن إجابة وليمة العُرس واجبةٌ، وهذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء على قولين:
- القول الأول: أنها واجبةٌ، وهذا قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، على أن المالكية لهم قولٌ آخر، قيل: إنه هو المذهب، وهو أنها غير واجبةٍ كما سيأتي.
- والقول الثاني: أنها مُستحبةٌ، وهذا مذهب الحنفية، وقولٌ عند المالكية، وقولٌ عند الحنابلة، واختارها الإمام ابن تيمية.
القائلون بالوجوب استدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي قال: إذا دُعِيَ أحدكم إلى الوليمة فَلْيَأْتِهَا [8].
وأيضًا حديث أبي هريرة : إذا دُعِيَ أحدكم فَلْيُجِبْ، فإن كان صائمًا فَلْيُصَلِّ، وإن كان مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ [9].
وأيضًا -وهو من أقوى الأدلة عندهم- حديث أبي هريرة : أن النبي قال: مَن لم يُجِب الدعوة فقد عصى الله ورسوله [10].
لاحظ: أنه بهذه الرواية التي عند مُسلمٍ مرفوعٌ إلى النبي ، فقالوا: هذا صحيحٌ -في “صحيح مسلم”- وصريحٌ: مَن لم يُجِب الدعوة فقد عصى الله ورسوله.
وأيضًا استدلوا بأنه نَقَلَ الإجماع بعضُ العلماء -الإجماع على وجوب إجابة وليمة العُرس- كابن عبدالبر والقاضي عياض.
والقائلون بالاستحباب استدلوا بحديث البراء : “أمرنا النبي بسبعٍ”، وذكر منها: “إجابة الداعي” [11]، قالوا: فالأمر بإجابة الداعي محمولٌ على الاستحباب؛ لأنه قَرَنَ ذلك بأمورٍ انعقد الإجماع على استحبابها، فَقَرَنَ ذلك بعيادة المريض، واتِّباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المُقْسِم، وهذه كلُّها مُجْمَعٌ على استحبابها، فكذلك إجابة الداعي.
وقالوا: إنه لم يَرِدْ دليلٌ صحيحٌ صريحٌ يدل على وجوب إجابة الداعي لوليمة العُرس، فتكون إجابة دعوة وليمة العُرس كغيرها.
وأما حديث أبي هريرة : مَن لم يُجِب الدعوة فقد عصى الله ورسوله، فقالوا: إنه لا يصح مرفوعًا إلى النبي ، وإنما هو موقوفٌ على أبي هريرة كما هي رواية الصحيحين، فإن الرواية التي اتَّفق عليها البخاري ومسلمٌ: أن هذا من كلام أبي هريرة ، وليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أيضًا عند مالكٍ وأحمد وأبي داود كلها جاءتْ موقوفةً على أبي هريرة ، ولم تَأْتِ مرفوعةً إلا في روايةٍ عند مسلمٍ ذَكَرَها مُتابَعةً بعد ذِكْره عدة روايات موقوفة على أبي هريرة .
وسبق أن ذكرنا في الدرس مرارًا أن منهج الإمام مسلمٍ في “صحيحه”: أنه يُورد الرواية الصحيحة، ثم يُورد بعدها الرواية الضعيفة من باب التَّنبيه على ضعفها، وقد أشار إلى ذلك في “مقدمته”.
ومن أمثلة ذلك: غَيِّروا هذا بشيءٍ [12] لمَّا أُوتي بوالد أبي بكر -أبي قُحَافَة رضي الله عنهما- قال عليه الصلاة والسلام: غَيِّروا هذا بشيءٍ، ثم أورد مسلمٌ روايةً أخرى بزيادة: واجتَنِبُوا السَّواد [13]، والزيادة غير محفوظةٍ.
ومن ذلك: لا تُخَمِّروا رأسه في الذي وَقَصَتْه راحلتُه [14]، رواها مسلمٌ بهذا اللفظ، ثم ذكر روايةً أخرى بزيادة: ولا وجهه [15]، والزيادة غير محفوظةٍ.
كلُّ هذا من باب التَّنبيه على ضعف الرواية المُتأخرة عنده.
وهكذا أيضًا هنا ذكر الرواية الصحيحة: أنها من قول أبي هريرة ، ثم ذكر الرواية الأخرى: أنها مرفوعةٌ للنبي عليه الصلاة والسلام من باب التَّنبيه على ضعفها.
فَخُذْ هذه الفائدة، يعني: كأن الإمام مسلمًا لما ذكرها مُتأخرةً يُشير بذلك إلى عدم ثبوتها.
والحافظ الدارقطني في “العلل” لمَّا ذَكَر روايات الحديث قال: الصحيح أنه موقوفٌ على أبي هريرة ، والحُفَّاظ يُرجِّحون الرواية الموقوفة.
إذن من حيث الصناعة الحديثية حديث: “مَن لم يُجِب الدعوة فقد عصى الله ورسوله” من كلام أبي هريرة ، وليس من كلام النبي ، وعلى ذلك فليس هناك شيءٌ مرفوعٌ.
بعض العلماء قال: حتى إن كانت من كلام أبي هريرة فلها حكم الرفع.
ولكن هذا غير مُسلَّمٍ؛ لأن أبا هريرة فهم ذلك فهمًا، فهم من قول النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث السابقة: إذا دُعِيَ أحدكم فَلْيُجِبْ فهم الوجوب من ذلك، وخالفه بقية الصحابة على هذا الفهم، فيكون قولَ صحابيٍّ، وقول الصحابي إذا خالفه صحابةٌ آخرون لا يكون حُجَّةً.
وأما حكاية القاضي عياض وابن عبدالبر للإجماع فهذا غير مُسلَّمٍ؛ لأن هناك مذهب الحنفية يرون عدم الوجوب، وهناك قولٌ عند الحنابلة يرون عدم الوجوب، بل ذكر اللَّخْمِي أن مذهب المالكية عدم الوجوب، فالقول بحكاية الإجماع هذه غير صحيحةٍ.
وعلى هذا فالأقرب -والله أعلم- أن إجابة وليمة العُرس مُستحبةٌ استحبابًا مُؤكدًا، وأنها ليست واجبةً؛ لأن القول بالوجوب يقتضي تأثيم مَن لم يحضر، وهذا يحتاج إلى دليلٍ، وما عندنا دليلٌ صحيحٌ صريحٌ يدل على وجوب إجابة الدعوة لوليمة العُرس، لكن المؤلف ذكر خمسة شروطٍ للقول بوجوبها، وعند الحنابلة شرطٌ سادسٌ لم يذكره المؤلف، وسنذكر الشروط الستة كلها.
شروط إجابة دعوة الوليمة
الشرط الأول قال:
إن كان لا عذر.
يعني: هو ألا يكون لدى المدعو عذرٌ في عدم الإجابة، فإن كان عنده عذرٌ -كأن يكون مريضًا أو مشغولًا أو نحو ذلك- فلا تكون واجبةً.
الشرط الثاني:
ولا مُنْكَر.
بألا يكون في العُرس مُنْكَرٌ، فإن كان في العُرس مُنْكَرٌ -كمعازف ونحوها- فلا تجب إجابة الدعوة.
قال:
وفي الثانية سُنةٌ.
يعني: هنا المؤلف استطرد، ولو أنه أتى بالشروط مُتواليةً لكان أحسن في العبارة.
“وفي الثانية” يعني: أن إجابة الدعوة في المرة الثانية سنةٌ.
وفي الثالثة مكروهةٌ.
يعني: عند بعض الناس تكون الوليمة ثلاثة أيامٍ، يقول: في اليوم الأول الإجابة واجبةٌ، وفي الثاني سنةٌ، وفي الثالث مكروهةٌ.
ويُستدل لذلك بحديث: الوليمة أول يومٍ حقٌّ، والثاني معروفٌ، والثالث رياءٌ وسُمْعَةٌ [16]، ولكن هذا الحديث أخرجه أبو داود وأحمد، لكنه حديثٌ ضعيفٌ لا يصح.
ولهذا فالأقرب أنه لا يُكره، بل ربما نقول: إنه مُستحبٌّ؛ لأن عادة بعض الناس -خاصةً قديمًا في الأزمنة السابقة- أن وليمة العُرس تمتد لثلاثة أيامٍ، فالناس يرجعون في هذا لعوائدهم وما تعارفوا عليه.
فالقول بأن الإجابة في اليوم الثالث مكروهةٌ، هذا محل نظرٍ، بل الأقرب أنها مُستحبةٌ في الأيام الثلاثة كلها.
قال:
وإذا كان الداعي مسلمًا.
هذا هو الشرط الثالث، فإذا كان الداعي كافرًا لم تَجِب إجابة الدعوة في قول عامة العلماء.
يحرم هجره.
هذا هو الشرط الرابع لإجابة الدعوة؛ أي: إذا كان الداعي مسلمًا فيحرم هجره.
وفي هذا إشارةٌ إلى أن من المسلمين مَن لا يحرم هجره، وهو الداعي إلى بدعته والمُجاهِر بفسقه، وأيضًا الهجر لمصلحةٍ دينيةٍ إذا كان يغلب على الظنِّ أن لهذا الهجر أثرًا، كما هجر النبي عليه الصلاة والسلام الثلاثة الذين خُلِّفُوا خمسين ليلةً.
قال:
وكسبه طيبٌ.
هذا هو الشرط الخامس، فإذا كان الداعي كَسْبُه ليس طيبًا، وإنما كسبه حرامٌ؛ لم تجب إجابة دعوته.
ثم فصَّل المؤلف في الكسب قال:
فإن كان في ماله حرامٌ كُرِهَ إجابته ومُعاملاته وقبول هديته، وتقوى الكراهةُ وتَضعُف بحسب كثرة الحرام وقِلَّته.
أولًا: إذا كان مال الداعي مُتَمَحِّضًا في الحُرْمَة -يعني: كل ماله مثلًا من بيع الخمور- فهذا لا تجوز إجابة دعوته.
أما إن كان مُختلطًا بين حلالٍ وحرامٍ -وهذا حال أكثر المسلمين- فيرى المؤلف أنه تُكره إجابة دعوته، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقِلَّته.
والقول الثاني: أنه لا تُكره إجابته، بل تُستحب، حتى إن كان ماله مُختلطًا.
وهذا هو القول الراجح؛ لأن النبي قَبِلَ دعوة اليهود لمَّا دَعَوه إلى وليمةٍ، مع أن الله وصفهم بأنهم أكَّالون للسُّحْت، لكن أموالهم كانت مُختلطةً.
وأيضًا القول بأنه تُكره إجابته، معنى ذلك -خاصةً في وقتنا الحاضر- أنه سيُقال بكراهة إجابة دعوة معظم المسلمين، فبعض المسلمين لا تخلو أموالهم من اختلاط الحلال بالحرام.
فالأقرب -والله أعلم- أن مَن كان ماله مُختلطًا لا تُكره إجابة دعوته، بل تُستحب.
هذه خمسة شروطٍ، وهناك شرطٌ سادسٌ عند الحنابلة لم يذكره المؤلف، وهو: أن يُعيِّن المدعو، فإن لم يُعيِّنه لم تجب إجابة الدعوة.
والدعوة العامة التي لا يُعيَّن فيها المدعو تُسميها العرب: الجَفَلَى -تُسمِّيها يعني: الدعوة العامة- وكانت العرب تفتخر بها فيقولون:
نحن في المَشْتَاة ندعو الجَفَلَى | لا ترى الآدِبَ فينا يَنْتَقِر |
يعني: دعوة الجَفَلَى، يعني: الجميع، كلكم مَدْعُوون -مثلًا- للوليمة غدًا، لوليمة العُرس غدًا، كلكم مدعوون لكذا، من غير تخصيصٍ، هذه تُسمَّى: الجَفَلَى، وفي هذه يقول: إذا كانت الدعوة جَفَلَى فلا تجب إجابة الدعوة لوليمة العُرس.
وبناءً على القول الذي رجَّحناه: أنها أصلًا لا تجب إجابة الدعوة لوليمة العُرس مطلقًا، وإنما تُستحب استحبابًا مُؤكدًا.
كيفية الإجابة إذا دعاه اثنان فأكثر
قال:
وإن دعاه اثنان فأكثر وجب عليه إجابة الكل إن أمكنه الجمع.
وهذا يحصل -خاصةً في وقتنا الحاضر- تأتيك دعوة وليمة عُرسٍ من أكثر من شخصٍ، فإذا أمكنك أن تُوفق بين الجميع فتذهب لهذا وتمكث قليلًا عنده ثم الآخر؛ فهذا هو الأفضل.
وإلا أجاب الأسبق قولًا.
يعني: إن لم يتَّسع الوقت ولم يتيسر أن تُجيب دعوتهما جميعًا، فيكون الحقُّ للأسبق.
فَالْأَدْيَنَ.
يعني: استويا في السَّبق فَيُقَدّم الأَدْيَن، الأكثر تقوى فيما يظهر؛ لأنه أكرم عند الله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
طيب، إن استووا في الأسبقية وفي التَّقوى، يعني: كلهم مُتقاربون، كلهم من أصحاب المساجد والصلاح، فقال:
فالأقرب رَحِمًا.
يُقدم الأقرب رَحِمًا على غيره.
طيب، فإن تساووا في الأسبقية وفي التَّقوى وفي الرحم، قال:
فَجِوَارًا.
يُقدم الأقرب جِوَارًا، يُقدمه على غيره.
ويستدلون في هذا بحديثٍ رواه أحمد وأبو داود: إذا اجتمع الداعيان فَأَجِبْ أَقْرَبَهما بابًا، فإنَّ أَقْرَبَهما بابًا أقربهما جِوَارًا، وإن سبق أحدهما فَأَجِب الذي سَبَقَ [17]، لكن هذا حديثٌ ضعيفٌ كما ترون، ليس عليه نور النبوة، يعني: حتى تركيبة الحديث فيها شيءٌ من الركاكة، ليس هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام كما يقول العلماء، يقولون: الحديث عليه نور النبوة، لكن لاحظ هذا الكلام: إذا اجتمع الداعيان فَأَجِبْ أَقْرَبَهما بابًا، فإنَّ أَقْرَبَهما بابًا أقربهما جِوَارًا يعني: ليس هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
طيب، إن استووا في الأمور السابقة كلها، وهذا أمرٌ نادرٌ، لكن الفقهاء يفترضون الأمور النادرة أو الأمور غير الممكنة؛ حتى يكون طالب العلم مُستحضرًا لها، يعني: استووا في الأسبقية، وفي الدِّين، وفي الرحم، وفي الجوار، فيقول:
يُقْرِع بينهم.
يعمل قُرعةً، وأيّهما خرج يذهب لهذا الذي خرجتْ له القُرعة؛ لأن القُرعة يُصار إليها عند الاستواء في الحقوق مع وجود المُشاحة.
وعلى القول الذي رجَّحناه لا نحتاج لهذا كله؛ فإجابة وليمة العُرس مُستحبةٌ، وليست واجبةً، فيختار ما يريد من هؤلاء الذين دَعَوه ويعتذر للبقية.
استحضار النية عند إجابة الدعوة
قال:
ولا يقصد بالإجابة نفسَ الأكل، بل ينوي الاقتداء بالسُّنة وإكرام أخيه المؤمن.
يعني: ينبغي للمسلم عند إجابة الدعوة أن يستحضر النية؛ حتى يكون ذهابه عبادةً يُؤْجَر عليها، وذلك بأن ينوي -أولًا- الاقتداء بالسُّنة، وأن ذهابه لإجابة الدعوة سُنةٌ.
وأيضًا ينوي بذلك إكرامَ أخيه المسلم وإدخالَ السرور عليه، فيكون ذَهَابُه عبادةً يُؤْجَر ويُثاب عليها، ولا يقصد الأكل، يعني: يجعل الأكل آخر اهتماماته.
ولئلا يُظَنّ به التَّكبر.
يعني: لأن عدم إجابة الدعوة من غير سببٍ ومن غير مُبررٍ قد يظن بعض الناس أنه مُتكبِّرٌ، فينبغي أن يحرص على إجابة الدعوة.
حكم الأكل من الوليمة
ويُستحب أكله ولو صائمًا، لا صومًا واجبًا.
إذا دُعِيَ المسلم -مثلًا- دعوة غداءٍ، وكان صائمًا، وكان الصيام صيام نافلةٍ، فيُستحب له أن يُفطر؛ لأن فِطْره فيه جبرٌ لخاطر أخيه المسلم، وفيه إدخالٌ للسرور عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: إذا دُعِيَ أحدكم فَلْيُجِبْ، فإن كان صائمًا فَلْيُصَلِّ، وإن كان مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ [18].
وإن أراد أن يستمر في صومه ويعتذر لأخيه فلا بأس، لكن كونه يقطع صومه ويَطْعَم ويُدْخِل السرور على أخيه المسلم هذا أفضل، ويصوم مكان هذا اليوم يومًا آخر.
قال:
ويَنْوِي بأكله وشُربه التَّقَوِّي على الطاعة.
وهذا عمومًا، ينوي المسلم بالأكل والشرب التَّقوِّي على الطاعة؛ حتى يُصبح ذلك عبادةً.
والمسلم يستطيع بالنية الصالحة أن يُحوِّل العادات إلى عبادات؛ ولهذا يقول العلماء: إن النيات تجارة العلماء، فتنوي بالأكل وبالشرب وبالنوم، تنوي بذلك التَّقَوِّي على طاعة الله ؛ حتى تُثَاب على ذلك كله.
ويحرم الأكل بلا إذنٍ صريحٍ أو قرينةٍ، ولو من بيت قريبه أو صديقه.
إذا لم يُؤْذَن للإنسان بالأكل فلا يجوز؛ لأن مال الغير مُحترمٌ، فلا بد من إذنٍ صريحٍ أو قرينةٍ تدل على الإذن، ومن ذلك قال:
والدعاء إلى الوليمة، وتقديم الطعام إذنٌ في الأكل.
يعني: الدعاء إلى الوليمة بحدِّ ذاته يُعتبر إذنًا، وكذلك تقديم الأكل يُعتبر إذنًا، وكذلك أيضًا إذا كانت عنده غلبةُ ظنٍّ بأن صاحب البيت يُسَرُّ بالأكل فيُعتبر هذا إذنًا، ولا يحتاج إلى أن ينتظر حتى يأذن له صاحب الطعام.
وقد جاء في حديث أبي هريرة : إذا دُعِيَ أحدكم إلى طعامٍ فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذنٌ [19]، لكنه حديثٌ ضعيفٌ.
وهذا الكلام الذي يذكره المؤلف كان الناس يحتاجون له قديمًا، وأيضًا ربما في الوقت الحاضر في الأماكن التي يكثر فيها الفقر ويحتاج الناس إلى الطعام، فعندما يُوضع الطعام على المائدة بعض الناس يأكل مباشرةً من غير إذنٍ، فربما تترتب على هذا إشكالاتٌ؛ ولهذا تَرِد هذه الكلمات من العلماء لأجل بيان ذلك.
أما في وقتنا الحاضر فعندنا هنا في المملكة الأمور ميسورةٌ، فهذه الأمور لا نحتاج إليها، بل صاحب الطعام يُسَرُّ إذا رأى أن الضيوف أو الزائرين أكلوا، لكن مثل هذه الآداب يُحتاج إليها مع الفقر ومع الجوع.
قال:
ويُقَدِّم ما حضر من الطعام من غير تكلفٍ.
يعني: أن صاحب الطعام ينبغي أن يُقدم ما تيسر، وأن يبتعد عن التَّكلف، وقد ورد في الحديث: “نُهِينا عن التَّكلف” [20]، لكن إذا كان الزائر ضيفًا، فالضيف يجب إكرامه، قال عليه الصلاة والسلام: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيُكْرِم ضيفه [21]، فإكرام الضيف واجبٌ، يجب إكرام الضيف.
والله تعالى أثنى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمَّا أتته الملائكة على صورة بشرٍ لا يعرفهم، وأتى بعجلٍ حَنِيذٍ، سَمِينٍ، وقرَّبه إليهم، يعني: أتى بأفضل الموائد في زمنه، أفضل ما عندهم العجل، وأيضًا عجلٌ حَنِيذٌ، جعله على شكل حَنِيذٍ، وسَمِينٌ أيضًا، وقرَّبه إليهم.
وهذا يدل على عظيم الكرم عند إبراهيم، فأناسٌ يأتونك في البيت، ولا تعرفهم، وتُقدم لهم هذه الوليمة العظيمة، فأثنى الله عليه، وهذا يدل على استحباب الكرم، فالكرم مندوبٌ إليه، وإكرام الضيف واجبٌ.
ما الفرق بين الضيف والزائر؟
نعم.
طالب: …..
الشيخ: نعم، أحسنتَ؛ الضيف: الذي يَقْدم عليك من خارج البلد، أما الزائر فهو الذي يأتيك من داخل البلد، فداخل البلد لا يُقال له: ضيف، إنما هذا زائرٌ، ولا تجب ضيافته أصلًا، لكن الذي ينزل عليك من خارج البلد.
وكانوا في السابق، ما كانت هناك فنادق ولا شقق، فكانت عادة العرب أن الإنسان إذا أتى من بلدٍ إلى بلدٍ ونزل على أحد الناس يجب عليه أن يُضيفه، حتى إنه ورد في الحديث: أنه إذا لم يُضيفه يأخذ الضيف حقَّه [22]، فإن أبى رفع أمره للحاكم حتى يُعطيه حقَّ الضيافة.
فهذا هو الضيف، يعني: في وقتنا الحاضر مع وجود الفنادق، ومع تيسير أمور الناس أصبح هذا قليلًا جدًّا أو نادرًا، أصبح الناس يأتون للفنادق مباشرةً وللشقق، لكن كان هذا موجودًا عند الناس قديمًا، أما الذي يأتيك من داخل البلد فهذا زائرٌ.
وعلى كلٍّ يُستحب إكرام الاثنين جميعًا: الضيف والزائر، لكن من غير تكلفٍ، والتَّكلف أن الإنسان يأتي بأمورٍ فوق طاقته؛ يعني: يذهب ويقترض لأجل أن يضع وليمةً -مثلًا- لكن الإنسان الذي أموره ميسورةٌ ينبغي أن يحرص على الكرم، وأن يُكرم ضيفه من غير إسرافٍ، يُكرم الضيف ويُكرم الزائر من غير إسرافٍ، فالكرم من الخِصَال الكريمة التي كانت العرب تُثْنِي على أصحابها، والكرم أثنى الله تعالى به على إبراهيم .
وكان نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام كريمًا، ولما أتاه لَقِيط بن صَبْرَة قال: لقيتُ النبي عليه الصلاة والسلام ومعه الراعي ومعه أغنامٌ. قال: فَدَعَاه عليه الصلاة والسلام، وقال للراعي: اذْبَحْ واحدةً منها، فكأن لقيطًا قال: ما يحتاج يا رسول الله. قال: لا تحسبنَّ أنَّا من أجلك ذبحناها، لنا غنمٌ مئةٌ لا نريد أن تزيد، قال: وسألتُه عن الوضوء، فقال عليه الصلاة والسلام: بالِغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا. الحديث المعروف. قال: وقلتُ: إنَّ لي امرأةً لسانها بَذِيءٌ. قال: طَلِّقْها، قلتُ: إنَّ لي منها ولدًا. قال: عِظْهَا، فإن يَكُ فيها خيرٌ فستفعل [23].
الشاهد من هذا: أنه عليه الصلاة والسلام في آخر حياته أغناه الله تعالى بالغنائم ونحوها، كما قال سبحانه: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:8]، فكانت عنده مئةٌ من الغنم، ولما أتى لَقِيط بن صَبْرَة أمر بأن تُذْبَح شاةٌ إكرامًا له.
فالكرم صفةٌ ممدوحةٌ، لكن في حقِّ الميسور؛ حتى لا يكون مُتكلفًا، في حقِّ الميسور، وأيضًا لا يصل لدرجة السَّرف أو التَّبذير، إنما يُقدِّم الإنسانُ بقدر ما يأكله هؤلاء الضيوف أو الزائرون؛ لأن بعض الناس يخلط بين قضية الكرم وقضية السَّرف، فتجد أنه لا يُكرم الضيف بحجة عدم الإسراف وعدم التَّكلف، وهذا غير صحيحٍ، فالضيف ينبغي أن تُكرمه.
وهناك فرقٌ بين إكرام الضيف والتَّكلف والسَّرف، فإكرام الضيف: أن تُكرمه من ميسور مالك، ولا يصل لدرجة السَّرف، يعني: إذا بقي شيءٌ -مثلًا- من المأدبة يُعطى للفقراء والمساكين ونحو ذلك، لكن الكرم من الصفات العظيمة النبيلة التي ينبغي أن يحرص المسلم عليها.
وليس الكرم فقط في تقديم المأدبة، بل حتى الكرم في التَّرحيب بالضيف، التَّرحيب بالزائر، ومُؤانسته، والانبساط إليه، وإدخال السرور عليه، هذا كله داخلٌ في الكرم، بل ربما تكون هذه المعاني أبلغ من تقديم المأدبة؛ لأن بعض الناس فَهْمه للكرم فهمٌ محدودٌ، يظن أنه فقط في الأكل والشرب.
لا، التَّرحاب والانبساط وإدخال السرور على الضيف وعلى الزائر، هذه ربما تفوق تقديم الأكل والشرب، خاصةً في وقتنا الحاضر مع تيسر أمور الناس.
فينبغي أن يُقابل الضيف ويُقابل الزائر بانشراحٍ وبانبساطٍ وبترحيبٍ، يُرحِّب به، ويُكْرِمه، ويُدْخِل السرور على نفسه، ويُؤانسه بالكلام وبالحديث ونحو ذلك، هذا كله داخلٌ في إكرام الضيف وإكرام الزائر.
طالب: …….
الشيخ: نعم، الكرم صحيحٌ يستر العيوب -كما ذكر الإمام الشافعي- فالكرم مما تُستر به العيوب؛ ولذلك تجد بعض الناس كريمًا وتُسْتَر عيوبه، فلا يكاد الناس يذكرون له عيبًا بسبب كرمه.
حكم تقبيل الخُبْز
قال:
ولا يُشْرَع تقبيل الخُبْز.
يعني: اعترافًا بالنعمة، وإكرامًا للخُبْز، لا يُشْرَع ذلك، بل حتى جميع الجمادات لا يُشْرَع تقبيل شيءٍ منها إلا شيءٌ واحدٌ وهو الحجر الأسود فقط.
أما تقبيل المصحف فقد ورد عن عكرمة بن أبي جهل: أنه كان إذا قرأ المصحف قَبَّله وقال: كتاب ربي.
ولكن لم يَرِد هذا عن بقية الصحابة، فمَن فعله فلا يُنْكَر عليه، ولكن الأقرب عدم فعله إلا إذا امتُهِنَ، كأن يسقط -مثلًا- على الأرض فتأخذه وتُقبله، لا بأس، لكن أن يتَّخذها الإنسان عادةً لم يرد هذا عن أكثر الصحابة، إنما ورد عن عكرمة، فلا يُنْكَر على مَن فعله، لكن لا يُعتبر هذا أمرًا مندوبًا يُحَثُّ الناس عليه؛ لأن تعظيم المصحف ليس فقط بتقبيله، تعظيم المصحف إنما يكون باتباعه والعمل به، ونحو ذلك.
قال:
وتُكره إهانته.
يعني: إهانة الخُبْز.
ومسح يديه به.
لأن مسح يديه به فيه نوعٌ من الإهانة.
ووضعه تحت القصعة.
القصعة: هي وعاءٌ يُؤكل فيه يُصْنَع من الخشب، فيقولون: إن إهانة الخبز بوضعه تحت القصعة مكروهٌ؛ لأن فيه إهانةً له.
وبكل حالٍ، كل ما كانت فيه إهانةٌ للنعمة فهذا منهيٌّ عنه، أقل أحواله الكراهة، ومن ذلك: وضع بقايا الأكل في القمامة مع النفايات، هذا فيه نوعٌ من امتهان النعمة، فبقايا الطعام لا تُوضع مع النفايات، وإنما تُوضع في كيسٍ أو وعاءٍ مُستقلٍّ، وإما أن تُعطى البهائم أو الطيور أو على الأقل تُعْزَل وتُوضَع في مكانٍ بعيدٍ، لكن لا تُمْتَهن النعمة.
وضابط الامتهان المرجعُ فيه للعُرف، وما ذكره المؤلف يظهر أنه موجودٌ في زمن المؤلف، يعني: تقبيل الخبز يظهر أن هذا ليس موجودًا في وقتنا الحاضر، لكن يتكلم المؤلف عن شيءٍ موجودٍ في زمنه، لكن الضابط في هذا هو أن يُقال: كل ما كان فيه امتهانٌ للنعمة فأقلّ أحواله الكراهة.
فصلٌ في آداب الأكل
ثم قال المصنف رحمه الله:
فصلٌ في آداب الأكل.
قال:
ويُستحب غسل اليدين قبل الطعام وبعده.
لحديث سلمان : بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده [24]، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، لكنه حديثٌ ضعيفٌ.
والمراد بالوضوء فيه: غسل اليدين، وإذا قلنا: الحديث ضعيفٌ، فإن القول بالاستحباب يحتاج إلى دليلٍ، وليس في المسألة دليلٌ.
والأقرب أن غسل اليدين قبل الطعام أو بعد الطعام من الأمور المُباحة، ولا يُقال: إنه مُستحبٌّ؛ لأن الاستحباب يحتاج إلى دليلٍ، وليس في المسألة دليلٌ صحيحٌ.
قال:
وتُسن التَّسمية جهرًا على الطعام والشراب.
يعني: يُسن عند الطعام وعند الشراب أن يقول: “بسم الله” من غير زيادة: “الرحمن الرحيم”، وإنما يقول: “بسم الله” فقط؛ لأن هذا هو الوارد في جميع الأحاديث، حتى إنه لم يرد ولو في حديثٍ ضعيفٍ زيادة: “الرحمن الرحيم”، فالأفضل أن يقتصر على قول: “بسم الله”.
وقوله: “جهرًا” يعني: يرفع صوته، يقول: “بسم الله”؛ لأنه إذا قال جهرًا فَيُذَكِّر مَن حوله بالتسمية ونحو ذلك، ولو قاله سرًّا فلا بأس، لكن الأفضل أن يقوله جهرًا؛ حتى يُذَكِّر مَن حوله بالتسمية عند الطعام والشراب.
وقوله: “تُسن التسمية” حُكِيَ الإجماع على ذلك، حكاه النووي وغيره، لكن الظاهرية يرون أن التَّسمية واجبةٌ عند الطعام والشراب.
يعني: هل مذهب الظاهرية يُعتدّ به أو لا يُعتدّ؟
يعني: هذه مسألةٌ أخرى، وقد ورد الأمر به، لكن الأمر عند الجمهور محمولٌ على الاستحباب؛ لأنه في الآداب، وإلا فقد ورد: يا غلام، سَمِّ الله [25]، قالوا: هذا أمرٌ، والأصل في الأمر يقتضي الوجوب.
والظاهرية ذهبوا إلى الوجوب خلافًا للجمهور الذين ذهبوا للاستحباب، واستدلّ الظاهرية قالوا: إن هذا ظاهر الأحاديث: سَمِّ الله هذا أمرٌ، والأمر يقتضي الوجوب، وقصة الجارية التي أتتْ فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام بيدها، وأتى أعرابيٌّ وأخذ بيده، وقال: إن الشيطان يَسْتَحِلُّ الطعام ألا يُذْكَر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية لِيَسْتَحِلَّ بها فأخذتُ بيدها، فجاء بهذا الأعرابي لِيَسْتَحِلَّ به فأخذتُ بيده [26].
فقالوا: هذا دليلٌ على وجوب التَّسمية عند الطعام والشراب.
وممن ذهب إلى ذلك الشيخُ محمد بن عثيمين رحمه الله، لكن يُشْكِل على هذا: أنه لم يقل أحدٌ بالوجوب إلا الظاهرية فقط، وهل خلاف الظاهرية مُعتبرٌ أو غير مُعتبرٍ؟
هذه المسألة مرَّتْ معنا في دروسٍ سابقةٍ، نحتاج أن نستذكرها: إذا خالف الظاهريةُ، خلاف المذاهب الأربعة مُعْتَبَرٌ: الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنابلة، ولو روايةٌ عندهم، لكن إذا كان الفقهاء كلهم على رأيٍ، وانفرد الظاهرية أو ابن حزمٍ برأيٍ، فهل خلافه مُعتبرٌ أو غير مُعتبرٍ؟ هل خلافهم ينقض الإجماع أو لا؟ أو يُعتبر رأيهم رأيًا شاذًّا؟
مَن يُجيب عن هذا السؤال؟
يعني مسألة: أنه يَسْتَنِد على نصٍّ أو دلالةٍ، يعني: هذا أمرٌ نسبيٌّ، فكلٌّ يدَّعي أنه يستند على دليلٍ، لكن نريد مسألة خرق الإجماع، هل يُعتبر خرق الإجماع فلا نقول: انعقد الإجماع، أو لا يُعتبر ونعتبره قولًا شاذًّا؟
هذه مسألةٌ خلافيةٌ، والأقرب: أن خلافهم لا يُعتبر فيما انفردوا به، وأما إذا لم ينفردوا فخلافهم مُعتبرٌ، ويُستفاد من أدلتهم ومُناقشتهم ونحو ذلك، لكن ما انفردوا به فلا يُعتبر، ويكون الإجماع قائمًا:
أولًا: لأن مذهبهم مُتأخرٌ.
ثانيًا: لأن مذهبهم لا يُبْنَى على أصولٍ صحيحةٍ عند أكثر العلماء؛ يعني: يأتون بغرائب وأشياء لا تستقيم على أصول العلم.
فلذلك الأقرب -والله أعلم- أن ما انفردوا به يُعتبر شاذًّا، هذا هو الأقرب عند كثيرٍ من المُحققين من أهل العلم؛ ولذلك يُخالفون في مسائل كثيرةٍ إلا إذا وافقهم أحدٌ، فإذا وافقهم أحدٌ -ولو أحد التابعين أو أي أحدٍ يُعتبر- فقولهم يكون مُعتبرًا، ولا يستقيم الإجماع، وإلا إذا انفردوا عن جميع العلماء فلا يُعتبر خلافهم، بل يُعتبر قولًا شاذًّا.
يعني مثلًا: قول أبي محمد: أن مَن لم يضطجع بعد ركعتي الفجر فصلاة الفجر في حقِّه باطلةٌ.
هذا قولٌ لا يستقيم على أصول العلم، ونحو ذلك من المسائل الغريبة.
فهذا الأقرب -والله أعلم- عند المُحققين: أن ما انفردوا به لا يُعتبر، هذا هو الأظهر في هذه المسألة.
قال:
وأن يجلس على رِجْله اليُسرى.
إذن قلنا: إن التَّسمية مُستحبةٌ عند عامة العلماء عند الأكل وعند الشرب، وأن يجلس على رِجْله اليُسرى.
وينصب اليمنى أو يتربع.
يجلس على رِجْله اليُسرى وينصب اليمنى، يعني: كجلوسه للتَّشهد، ولكن هذا لا دليل عليه.
وأيضًا قوله: “أو يتربع” كذلك، وقد جاء عن أبي جُحَيفة: أن النبي قال: لا آكُل مُتَّكئًا [27]، هذا رواه البخاري، وورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه جَثَا على ركبتيه [28]، يعني: قعد على ركبتيه، وأيضًا أكل تمرًا وهو مُقْعٍ [29].
فالذي يظهر -والله أعلم- أنه ليست في هذا سنةٌ محددةٌ للجلوس عند الأكل والشرب، وإنما يختار الإنسان الجلسة التي تُناسبه، ولم يرد في هذا شيءٌ صحيحٌ صريحٌ، وما ذُكِرَ عن النبي عليه الصلاة والسلام وقع اتِّفاقًا، يعني: مرةً جَثَا، ومرةً أَقْعَى، ومرةً جلس مُتربعًا، يعني: وقع كلُّ هذا اتِّفاقًا، لكن يُكْرَه أن يأكل مُتَّكئًا، وهذا سيأتي بعد قليلٍ الكلامُ عليه.
قال:
ويأكل بيمينه بثلاث أصابع مما يليه.
“يأكل بيمينه” وهذا قد ورد الأمر به، كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: وكُلْ بيمينك [30]، ولكن الأكل باليمين هل هو مُستحبٌّ أو واجبٌ؟
قولان للعلماء:
- القول الأول: أنه مُستحبٌّ، وهو قول الجمهور، وقالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام: وكُلْ بيمينك هذا ورد في الآداب، والأوامر في الآداب محمولةٌ على الاستحباب.
- والقول الثاني: أن الأكل باليمين واجبٌ، واختاره ابن عبدالبر وابن حجر وابن القيم، وهو القول الراجح -والله أعلم- أنه واجبٌ؛ لأنه وردتْ قرائن تدل على وجوب الأكل باليمين، ومن ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام أَخْبَر بأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله [31]، وقد نُهينا عن اتِّباع الشيطان، هذه قرينةٌ.
وكذلك أيضًا حديث سلمة بن الأكوع في الذي أكل بشماله، فقال له النبي : كُلْ بيمينك، قال: لا أستطيع. قال: لا استطعتَ، ما منعه إلا الكِبْر، فما رَفَعَها إلى فِيهِ [32].
فكون النبي عليه الصلاة والسلام يدعو عليه -يعني- هذا دليلٌ على تأكُّد الأمر، وعلى أن الأكل باليمين واجبٌ.
فالصواب إذن أن الأكل باليمين واجبٌ، وأنه يحرم الأكل بالشمال.
وقوله: “بثلاث أصابع” لأن النبي كان يأكل بثلاث أصابع، كما في حديث أنسٍ [33]، والأمر في هذا واسعٌ.
قال: وإن الأكل بثلاث أصابع يدعو الإنسان إلى التقليل من الأكل، ويُشبه الأكل بثلاث أصابع الأكل بملعقةٍ؛ لأنها قريبةٌ من الثلاث الأصابع أكثر من قُربها من الأكل بخمسة أصابع.
وقوله: “مما يليه” لقوله عليه الصلاة والسلام: وكُلْ مما يليك [34]، لكن هذا إذا كان الطعام نوعًا واحدًا، أما إذا كان مُتنوعًا فلا بأس أن يأكل من غير ما يليه.
قال:
ويُصَغِّر اللقمةَ، ويُطيل المَضْغ.
هذا ليس عليه دليلٌ؛ ولهذا فابن تيمية قال: “لم أجد هذه المسألة مأثورةً ولا عن أبي عبدالله” يعني: عن الإمام أحمد، لكن فيها مُناسبةٌ، وهي: أن تصغير اللقمة يُنْبِئ عن عدم الشَّراهة في الأكل، وكذلك إطالة المَضْغ.
وهم يعتبرونها الآن من الناحية الصحية مُفيدةً: إطالة المَضْغ، يقولون: حتى تنزل الإنزيمات الموجودة في الفم، ويستفيد منها الإنسان عند هضم الطعام.
وبكل حالٍ، تبقى هذه أمورًا مُباحةً، والقول بالاستحباب حكمٌ شرعيٌّ يحتاج إلى دليلٍ، فهذه أمورٌ مُباحةٌ.
ويمسح الصَّحْفَة.
الصَّحْفَة يعني: الوعاء الذي يُؤكل فيه؛ لحديث أنسٍ : أمرنا النبي أن نَسْلُتَ الصَّحْفَة، وقال: إن أحدكم لا يدري في أي طعامه يُبارك له [35].
يعني: بأن يلعق الصَّحْفَة بعد الأكل، الوعاء الذي يأكل فيه يلعقه، فإنه ربما تكون هذه البقايا هي التي فيها البركة.
ويأكل ما تناثر.
يعني: السُّنة أن يأكل ما تناثر من الطعام؛ لحديث جابرٍ : أن النبي قال: إذا وقعتْ لُقْمَة أحدكم فليأخذها، فَلْيُمِط ما كان بها من أذًى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان [36].
ويَغُضّ طَرْفَه عن جليسه.
يعني: لئلا يستحي منه، فلا ينظر لمَن حوله كيف يأكل ويتبعه بنظراتٍ، هذا خلاف المروءة وخلاف الأدب، لكن هذا نقول: إنه أولى، ولا يصل لدرجة الاستحباب.
ويُؤْثِر المُحتاج.
يعني: يُؤْثِر المُحتاجَ على نفسه، وهذا يُحتاج إليه عند الجوع، وعند الفقر، والله تعالى أثنى على المُؤْثِرين فقال: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
وأتى رجلٌ للنبي وقال: إني مجهودٌ. فأرسل النبي إلى جميع نسائه وكلُّهن قُلْنَ: ما عندنا إلا ماء.
سبحان الله!
لأنه أكرم البشر، ومع ذلك جميع بيوته، جميع زوجاته التسع كل واحدةٍ تقول: ما في بيتي إلا الماء. فقال عليه الصلاة والسلام: مَن يُضَيِّف هذا الليلة رحمه الله؟ قال رجلٌ من الأنصار: أنا يا رسول الله. فذهب إلى زوجته.
وانظر إلى المرأة الصالحة، قالت: ما عندي إلا قُوت صِبْيَاني. قال: عَلِّلِيهم بشيءٍ حتى يناموا، ونُقدِّم طعام الصِّبيان للضيف، ونُطْفِئ السراج، وأذهب كأني أريد أن أُصْلِحَه فَأُطْفؤه، وأتظاهر عند هذا الضيف أني آكُل معه، وأنا لا آكل.
فأكل الضيف حتى شَبِعَ، وبقي الرجل وزوجته وأولاده جائعين، طاوين، فقال عليه الصلاة والسلام: قد عَجِبَ الله من صنيعكما بضيفكما الليلة أو ضحك [37]، ثم أنزل سبحانه: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
قال:
ويأكل مع الزوجة والمملوك والولد ولو طفلًا.
لأن هذا هو هَدْي النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: ينبغي أن يتواضع، وألا يَسْتَنْكِفَ من الأكل مع هؤلاء، فيأكل مع الجميع: يأكل مع الزوجة، يأكل مع الولد، يأكل مع الطفل، يأكل مع الجميع.
ويَلْعَق أصابعه.
لَعْقُ الأصابع سُنةٌ، وقد أمر النبي بِلَعْقِ الأصابع وقال: إنَّكم لا تدرون في أي طعامكم البركة [38]، لكن الأمر بِلَعْق الأصابع نحن قلنا: سُنةٌ، فما الذي يصرف هذا الأمرَ عن الوجوب؟
طالب: ……
الشيخ: نعم، أحسنتَ، أنه في الآداب، وإلا فالذي لا يقول بقاعدة: أن الأمر في الآداب محمولٌ على الاستحباب، يُشْكِل عليه هذا الحديث وما جاء في معناه، يُشْكِل عليه.
ولذلك يلتزمون مثل: الشيخ الألباني رحمه الله يرى وجوب لَعْق الأصابع، يقول: هذا أمرٌ، والأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، لكن على قول الجمهور، الجمهور يقولون: لا، هو صحيحٌ أنه أمرٌ، لكنه في الآداب، والأمر في الآداب محمولٌ على الاستحباب، والنَّهي في الآداب محمولٌ على الكراهة.
فهذه قاعدةٌ تُفيد طالب العلم، لكن الذي لا يقول بها تأتي عليه إشكالاتٌ كثيرةٌ، منها: هذا الحديث: أمر النبي بِلَعْق الأصابع.
طيب، الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، فمَن لم يلتزم بقاعدة: أن الأمر في الآداب يقتضي الاستحباب؛ يلزمه أن يقول بوجوب لَعْق الأصابع؛ ولذلك فالألباني رحمه الله التزم بهذا اللازم، لكن أيضًا نفس الكلام الذي قلناه قبل قليلٍ: لم يقل أحدٌ بوجوب لَعْق الأصابع سوى الظاهرية، وقول الظاهرية هنا غير مُعتبرٍ.
ويُخَلِّل أسنانه.
“يُخَلِّل أسنانه” يعني: بعُودٍ ونحوه.
وقد رُويتْ في ذلك أحاديث ضعيفةٌ، منها: “إن فَضْلَ الطعام الذي يبقى بين الأضراس يُوهِن الأضراس” [39]، لكنه حديثٌ ضعيفٌ أو موضوعٌ.
وتَرْك تخليل الأسنان يُضْعِفها، وأيضًا يجعلها مَحَلًّا للسوس الذي يَنْخر الأسنان، لكن القول باستحباب تخليل الأسنان يحتاج إلى دليلٍ، فالأظهر -والله أعلم- أنه مُباحٌ، يعني: هذا من الآداب الصحية، لكن لا تصل إلى درجة الاستحباب، فالاستحباب يحتاج إلى دليلٍ.
قال:
ويُلْقِي ما أخرجه الخِلَال، ويُكْرَه أن يبتلعه، فإنْ قَلَعَه بلسانه لم يُكْرَه.
يعني: عندما يُخَلِّل أسنانه بعد الطعام بعودٍ ونحوه فقد تخرج بقايا الطعام، فيقول: إنه يُلْقِي ما أخرجه، يَلْفِظُه ولا يبتلعه، يُكره، إلا إذا اقتلعه بلسانه فلا بأس أن يبتلعه.
وهذا قد رُوي فيه حديثٌ، لكنه ضعيفٌ، حديث: مَن أكل فما تَخَلَّل فَلْيَلْفِظ، وما لَاكَ بلسانه فَلْيَبْتَلِع، مَن فعل فقد أحسن، ومَن لا فلا حرج [40]، كما ترون ليس عليه نور النبوة، وهذا الحديث رواه أحمد وأبو داود، لكنه حديثٌ ضعيفٌ.
والذي يظهر أن هذا كله داخلٌ في دائرة المُباح.
ويُكْرَه نَفْخ الطعام.
وأيضًا نَفْخ الشراب، وهذا قد ورد النَّهي عنه، كما في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما [41].
والسنة عند الشُّرب: أن يشرب ثلاث مراتٍ، وكان النبي يتنفس في الإناء ثلاثًا -يعني: يشرب ثلاث مراتٍ- ويقول: إنه أَرْوَأ وأَبْرَأ وأَمْرَأ [42]، وتكلم عن هذا ابن القيم في “الطب النبوي”.
أَرْوَأ يعني: أكثر رِيًّا.
وأَمْرَأ أسهل في الشرب، يشربه مَرِيئًا.
وأَبْرَأ هذه شرحها ابن القيم في “الطب النبوي”، يقول: إن المعدة فيها حرارةٌ، فإذا أتاها الماء فجأةً فهذا يضرُّها؛ ولذلك فالأحسن أن يجعله على ثلاث مراتٍ.
ويُشَبَّه هذا بالقِدْر الذي أُوقِد تحته نارٌ عندما تَصُبّ فيه الماء دَفْعَةً واحدةً يطيش ما في القدر، لكن عندما تَصُبّ الماء على دفعاتٍ لا يطيش، هكذا المعدة.
فمثلًا: عندما تشرب الماء تُقَسِّم الشَّربة ثلاث مراتٍ، هل تُسمِّي عند كلِّ مرةٍ؟
نعم، تُقسم الماء ثلاث مراتٍ، تقول: “بسم الله”، ثم تشرب، هذه المرة الأولى، “الحمد لله”، والثانية كذلك، والثالثة كذلك.
وتكون بهذه الطريقة: تُقسم الماء ثلاث مراتٍ: “بسم الله” ثم تشرب، ثم تقول: “الحمد لله”، ثم الثانية: “بسم الله”، ثم “الحمد لله”، ثم الثالثة: “بسم الله”، ثم “الحمد لله”، هذا هو الأكمل والأفضل، وأَمْرَأ وأَرْوَأ وأَبْرَأ.
انظر لهذه الفوائد الثلاث: أَمْرَأ وأَرْوَأ وأَبْرَأ.
فهذه ينبغي أن يحرص المسلم عليها؛ عندما تشرب تحرص على هذه السُّنة: أن تُقسم الشرب ثلاث مراتٍ، وتُسمِّي عند كل مرةٍ وتحمد الله تعالى.
والنَّفخ في الطعام، قال الآمدي: لا يُكْرَه إذا كان حارًّا، وصوَّبه صاحب “الإنصاف”.
وهذا إذا كان خاصًّا بالإنسان، أما مع الناس فلا ينفخ فيه مطلقًا.
قال:
وكونه حارًّا.
يعني: يُكْرَه أن يأكل الطعام حارًّا، واعتمدوا في هذا على أحاديث كلها ضعيفةٌ، منها حديث أبي هريرة : لا يُؤْكَل طعامٌ حتى يذهب بُخَاره [43]، أَبْرِدُوا الطعام الحارَّ؛ فإن الطعام الحارَّ غير ذي بركةٍ [44]، كلها أحاديث ضعيفةٌ.
وأيضًا حديث أسماء رضي الله عنها: أنها كانت إذا ثَرَدَتْ غَطَّتْه شيئًا حتى يذهب فَوْرُه، ثم تقول: إني سمعتُ رسول الله يقول: إنه أعظم للبركة [45]، وهذه -كما ذكرنا- ضعيفةٌ، والكراهة تحتاج إلى حكمٍ شرعيٍّ.
فيُقال: إن الأولى ألا يأكل الطعام حارًّا، لكن لا يتعلق بذلك حكمٌ شرعيٌّ.
وأكله بأقلّ أو أكثر من ثلاث أصابع.
يقول: إنه يُكْرَه ذلك؛ لأن في هذا مُشابهةً للمُتكبرين، ولأنه مظنَّةٌ للشَّرَه.
ولكن الذي يظهر: أنه لا تصل المسألة لدرجة الكراهة، والأمر في هذا واسعٌ، يعني: خلاف الأولى.
أو بشماله.
يعني: يُكْرَه أن يأكل بشماله.
قلنا: إن هذا قول الجمهور، ورجَّحنا قبل قليلٍ أنه يحرم.
ومن أعلى الصَّحْفَة أو وسطها.
يعني: لا يأكل من أعلى الصَّحْفَة أو وسطها، وإنما يأكل من جوانبها مما يليه، كما سبق.
ونَفْض يده في القصعة.
يُكْرَه أن ينفض يده هكذا؛ لأن هذا مما تستقذره النفوس.
وتقديم رأسه إليها عند وضع اللُّقْمَة.
يعني: عندما يأكل يُقدم رأسه هكذا، وهذا مكروهٌ.
وكلامه بما يُسْتَقْذَر.
هذا إذا أكل الإنسان مع غيره فلا يتكلم بكلامٍ يستقذره الحاضرون، أو يَتَمَخَّط عند الأكل، ونحو ذلك.
وأكله مُتَّكئًا.
يعني: يُكره أن يأكل مُتَّكئًا، وجاء في حديث أبي جُحَيفة: أن النبي قال: لا آكل مُتَّكئًا [46].
والقول بالكراهة هو قول الجماهير، خلافًا للظاهرية الذين قالوا: يحرم الأكل مُتَّكئًا.
والصواب ما عليه الجمهور: أن ذلك مكروهٌ؛ لأن فيه نوعًا من الاستخفاف بالنعمة؛ ولأن فيه مظهرًا من مظاهر التَّرف غير المقبول.
لكن ما معنى الاتِّكاء؟
الاتِّكاء للعلماء في معناه أقوالٌ:
- فمنهم مَن قال: إن معنى الاتِّكاء أن يعتمد بيده اليُسرى على الأرض.
- ومنهم مَن قال: الاتِّكاء على الجنب.
- ومنهم مَن قال: الاتِّكاء هو التَّربع.
والأقرب -والله أعلم- أن الاتِّكاء معناه: الميل على أحد الشّقين، يعني هكذا، تأكل هكذا أو هكذا، يعني: هذا معنى الاتِّكاء: تميل على أحد الشّقين وتأكل وتشرب.
وهذا اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
واستدلَّ أصحابُ هذا القول بحديث أبي بكرة : أن النبي قال: ألا أُنَبِّئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان مُتَّكئًا فجلس -وهذا موضع الشاهد: وكان مُتَّكئًا هكذا ثم جلس- وقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يُكررها حتى قلنا: لَيْتَه سكت [47].
فالأقرب -والله أعلم- أن الاتِّكاء معناه: أن يميل إلى أحد الشّقين، فَيُكْرَه أن يأكل أو أن يشرب وهو مُتَّكِئٌ، إنما إذا أراد أن يأكل أو يشرب يجلس، يجلس ويأكل أو يشرب، فكونه يأكل وهو مُتَّكئٌ هذا -كما ذكرنا- فيه تَشَبُّهٌ بالمُتكبرين، وأيضًا قد يضر الإنسان الأكل أو الشرب بهذه الطريقة، فإذا كان مريضًا فهذا معذورٌ، والكلام في غير المريض، في الأحوال المُعتادة.
وأكله كثيرًا بحيث يُؤذيه، أو قليلًا بحيث يضره.
يعني: لا يُكْثِر الإنسان من الطعام بحيث يُؤذيه، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسب ابن آدم لُقَيماتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه [48]، ولكن لو شبع أحيانًا على غير الغالب فلا بأس؛ لأنه جاء في قصة أبي هريرة : أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أعطاه اللبن قال: اشرب، قال: فشربتُ. ثم قال: اشرب، ثم قال: اشرب، حتى قلتُ: والذي بعثك بالحقِّ، ما أجد له مسلكًا [49].
فهذا يدل على أنه لو شبع أحيانًا فلا بأس، لكن ينبغي أن يكون الغالب أنه لا يُكْثِر الأكل، وأيضًا لا يأكل قليلًا بحيث يضره، إنما يكون مُعتدلًا في ذلك.
وهذه كلها آدابٌ يظهر أنها لا يتعلق بها حكمٌ شرعيٌّ، كلها آداب، يعني: على سبيل الأولوية.
ويأكل ويشرب مع أبناء الدنيا.
هذه العبارة منقولةٌ عن الإمام أحمد، وأتى بها المؤلف هنا: “ويأكل ويشرب مع أبناء الدنيا”.
بالأدب والمروءة.
يعني: مع أرباب الدنيا يكون بالأدب، ولا يأتي بشيءٍ يُخِلُّ بالمروءة.
ومع الفقراء بالإيثار.
يعني: بالإيثار والتواضع والاحترام؛ لأن الغالب على النفوس ازدراء الفقراء والمساكين.
ومع العلماء بالتَّعلم.
يتعلم من أدبهم، ومن سَمْتِهم، ومن طريقتهم.
ومع الإخوان بالانبساط وبالحديث الطيب والحكايات التي تليق بالحال.
يعني: مع الأصدقاء يكون بالانبساط وبالسَّوالف والأحاديث المناسبة التي تليق بالحال، فلا يكون هناك كلامٌ مُحرمٌ، ولا يكون أيضًا صامتًا كما قال الشافعي، يقول: “الوقار في البستان يُخالف المروءة”.
فبعض الناس إذا ذهب مع أصدقائه أو أصحابه في بَرِّيةٍ أو نحو ذلك يغلب عليه الصمت.
نقول: الأولى أن ينبسط معهم؛ لأن هذا مما يُدْخِل السرور على مَن معه، وعلى نفسه أيضًا، والنبي قال: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيَقُلْ خيرًا أو لِيَصْمُتْ [50].
يعني: جعل الصَّمت المرحلة الثانية، والأولى: لِيَقُلْ خيرًا، فَلْيَقُلْ خيرًا أفضل من الصَّمت.
ومن كونه يقول خيرًا: أنه يأتي بكلامٍ يُؤْنِس به مَن حوله، بكلامٍ مُباحٍ يُؤْنِس به الحاضرين؛ لأن الإنسان إذا كان في المجلس، وكان صامتًا لا يتكلم، فالناس تستوحش منه، بخلاف ما إذا كان يُباسطهم ويُؤانسهم، لكن المهم أنه يكون في دائرة الكلام المباح.
والعامة تُفضل هذا الإنسان الذي يُؤْنِس الحاضرين ويُباسطهم في الكلام ويتحدث معهم أكثر من الذي يكون صامتًا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قدَّم: فَلْيَقُلْ خيرًا على الصَّمت، يعني: الصمت إذا لم يقل خيرًا يصمت أحسن، لكن إذا كان سيقول خيرًا فهذا مُقدَّمٌ.
وخيرٌ من ذلك: أنه يُلقي على الحاضرين كلمةً دعويةً، أو توجيهيةً، أو مسألةً علميةً، أو نحو ذلك، أو أنه يأتي بكلامٍ فيه مُؤانسةٌ ومُباسَطةٌ للحاضرين، فهذا أحسن من الصمت؛ لأن هذا يُدْخِل السرور على مَن معه.
وما جَرَتْ به العادة من إطعام السائل ونحو الهِرِّ ففي جوازه وجهان.
يعني: هل يجوز للضيف إذا دُعِيَ وأتى فقيرٌ أن يُعطيه من الوليمة، أو أتى هِرٌّ مثلًا -قِطٌّ- أو نحو ذلك يُعطيه؟
يقول المؤلف: فيه وجهان عند الحنابلة، والأظهر الجواز؛ لأن هذا مما يُتسامح فيه عُرْفًا إلا إذا علم أن صاحب الوليمة يكره ذلك فلا يفعله، أما إذا كان يعلم أن صاحب الوليمة لا يكره ذلك فلا بأس أن يُعطي السائل، أو أن يُعطي حيوانًا كَهِرٍّ ونحوه، فهذا مما يُتسامح فيه.
لنأخذ هذا الفصل أو نُؤجله: “باب عِشْرَة النساء”.
بقي فصلٌ يسيرٌ نأخذه.
طيب، كله في الآداب، لن نُطيل فيه، إن شاء الله.
قال:
وسُنَّ أن يحمد الله إذا فرغ.
إذا فرغ من الأكل والشرب يحمد الله: إن الله لَيَرْضَى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشَّربة فيحمده عليها [51].
ينبغي أن يُعوِّد المسلمُ نفسه كلما أكلتَ أو شربتَ تقول: الحمد لله، أو تأتي بأية صيغةٍ من الصيغ الواردة.
قال:
ويقول: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورَزَقَنِيه من غير حولٍ مني ولا قوةٍ.
لكن هذا الحديث ضعيفٌ، حديث معاذ بن أنس [52].
وجاء في حديث أبي أُمَامة : الحمد لله كثيرًا، طيبًا، مُباركًا فيه، غير مَكْفِيٍّ، ولا مُوَدَّعٍ، ولا مُسْتَغْنًى عنه ربنا [53].
أو يأتي بأية صيغةٍ، لكن المهم أن يأتي بكلمة: “الحمد لله”.
ويدعو لصاحب الطعام.
السُّنة أنك إذا أتيتَ لصاحب طعامٍ وفرغتَ من ذلك: أن تدعو له، والنبي دعا للرجل الذي ضَيَّفَهم قال: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم، رواه مسلمٌ [54]، وهذا أصحُّ ما ورد في الدعاء لمَن قدَّم طعامًا، أصحُّ ما ورد هذا الحديث.
إذن أصحُّ ما ورد في الدعاء لمَن قدَّم طعامًا: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم.
وجاء في حديث أنسٍ : أَفْطَرَ عندكم الصائمون، وأكل طعامَكم الأبرارُ، وصَلَّتْ عليكم الملائكة [55]، وفي سنده مقالٌ، لكنه بمجموع طرقه ثابتٌ.
ولو أتى بأية صيغةٍ فلا بأس، كأن يقول -مثلًا-: “أنعم اللهُ عليكم”، أو “أكثر الله خيركم”، أو نحو ذلك من العبارات المناسبة، لكن المهم أنَّ مَن أتى لطعامٍ، مَن دُعِيَ لطعامٍ فالسنة أن يدعو لصاحب الطعام بعد الفراغ منه.
وهذه سنةٌ -ولله الحمد- شائعةٌ عند الناس اليوم، لكنها تتأكد في حقِّ طلاب العلم، فليس من المناسب أن يدعوك إنسانٌ إلى طعامٍ وتقوم ولا تدعو له، ادعُ له بأي دعاءٍ، والأفضل أن تأتي بما ورد: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم، المهم أنه يدعو بأية صيغةٍ.
قال:
ويُفْضِل منه شيئًا، لا سيما إن كان ممن يُتَبَرَّك بِفَضْلَتِه.
يعني: أن الضيف لا يأكل الطعام كله، يُبْقِي شيئًا، لكن هذا لا دليل عليه.
المؤلف لعله ربط هذا بمسألة التَّبرك، والمؤلف -عفا الله عنا وعنه- أتى بهذا القول، لكنه قولٌ غير صحيحٍ، جانب المؤلف فيه الصواب؛ فالتَّبرك خاصٌّ بالنبي ، هو الذي يُتَبَرَّك به عليه الصلاة والسلام في حياته، ويُتَبَرَّك بآثاره بعد وفاته.
ولذلك كان عند أم سلمة رضي الله عنها جُلْجُلٌ من فضةٍ فيه شعراتٌ كانوا يتبركون بها [56]، ولو قُدِّر -مثلًا- أنه وُجِدَ شيءٌ من آثار النبي عليه الصلاة والسلام يُتَبَرَّك بها، لكن نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري، وأكثر ما يُنْقَل أن هذا من آثار النبي عليه الصلاة والسلام لا يصح.
فهذا خاصٌّ بالنبي عليه الصلاة والسلام، أما غير النبي فلا يجوز التَّبرك بآثاره؛ لأن هذا هو المنقول عن الصحابة، والصحابة لم يكونوا يَتَبَرَّكون بغير النبي عليه الصلاة والسلام، لم يَتَبَرَّكوا بأبي بكرٍ، ولا بعمر، ولا بعثمان، ولا بعليٍّ، ولا بالعشرة المُبَشَّرين بالجنة ، ولا بغيرهم، ولو كان هذا مشروعًا لفعله الصحابة ولتسابقوا إليه.
فالصواب إذن أنه لا يُشْرَع التَّبرك بغير النبي عليه الصلاة والسلام، فالتَّبرك بآثار الصالحين الموجودة عند بعض الطوائف هذا من البدع، وإن كان المؤلف هنا نصَّ عليه، لكن المؤلف قد جانبه الصواب في هذه المسألة.
وهذا يُبيِّن أهمية التَّحقيق لدى طالب العلم، فقد يجد بعض المُؤلفات، حتى بعض فقهاء الحنابلة مع حِرْصهم على العقيدة السلفية واجتناب البدع، لكن قد يوجد في بعض الكتب ما يوجد من مثل هذه المسائل.
حكم إعلان النكاح والضَّرب فيه بالدُّفِّ
قال:
ويُسن إعلان النكاح والضَّرب فيه بِدُفٍّ.
وقد أمر النبي بذلك فقال: أعلنوا النكاح [57]، وقال: فصل ما بين الحلال والحرام الدُّف والصوت في النكاح [58].
فالسنة في إعلان النكاح: ضرب الدُّف فيه للنساء.
قال:
لا حِلَقَ فيه ولا صُنُوجَ للنساء.
يعني: يُشترط في الدُّف ألا تكون فيه حِلَقٌ ولا صُنُوج.
والصُّنُوج: هي ما يُجْعَل في إطار الدُّف من النحاس والحديد ونحوه، وأما الطَّبل فلا يجوز.
والفرق بين الطَّبل والدُّف:
أن الدُّف مُغْلَقٌ من جهةٍ واحدةٍ، ومفتوحٌ من الجهة الأخرى.
أما الطَّبل فمغلقٌ من الجهتين، والطَّبل قد ورد فيه حديث: إن الله حرَّم الخمر والمَيْسر والكُوبَة [59]، والكُوبَة: هي الطَّبل.
وقوله: “للنساء” هذا باتِّفاق العلماء: أنه يُباح أو يُستحب ضرب الدُّف للنساء في العُرس، وقد كان هذا شائعًا في عهد النبي .
ويُكره للرجال.
يعني: يُكره ضرب الدُّف للرجال في العُرس.
وهذه مسألةٌ محلُّ خلافٍ؛ فمنهم مَن قال: إنه مكروهٌ؛ لأن هذا من شأن النساء، ولأن فيه تَشَبُّهًا بالنساء.
ومن العلماء مَن قال: إن ضرب الدُّف للرجال في العُرس مباحٌ؛ لأن المقصود هو إعلان النكاح.
وقالوا: لأن إعلان النكاح بالدُّف للرجال أبلغ من إعلانه بِدُفِّ النساء؛ لأن النساء يَفْعَلْنَ ذلك في أماكن مُغلقةٍ، بينما الرجال في أماكن مفتوحةٍ، فيكون هذا أبلغ في الإعلان.
هذا هو الأقرب -والله أعلم- لكن هل الناس يتقيدون بذلك؟
لا يتقيدون، ولو تقيدوا بالدُّف لقلنا: ما فيه إشكالٌ للرجال، لكن يضربون الطبل، ويتجاوزن الطبل إلى المعازف، فهذا هو الذي فيه الإشكال.
الأصل في الدُّف -يعني: إذا أردنا تأصيل المسألة-: هل الأصل فيه الجواز أو الأصل فيه المنع؟
الأصل فيه المنع؛ ولذلك فأبو بكر الصديق لما دخل بيت عائشة رضي الله عنها وعندها جاريتان تضربان الدُّف وتُغَنِّيان، والنبي عليه الصلاة والسلام كان موجودًا، وقد حوَّل وجهه إلى الجهة الأخرى، فدخل أبو بكرٍ مُغْضَبًا، ونَهَرَ عائشة وقال: مزمار الشيطان! مرتين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دَعْهُما يا أبا بكر؛ إن لكل قومٍ عيدًا، وإن عيدنا هذا اليوم [60].
الشاهد من هذا: أن أبا بكرٍ فهم أن الدُّفَّ لا يجوز؛ ولذلك نَهَرَ عائشة رضي الله عنها وأنكر عليها هذا الإنكار الشَّديد.
فهل النبي عليه الصلاة والسلام أقرَّه على هذا الفهم أو لم يُقرّه؟
أقرَّه، لكن بيَّن أن هذه حالةٌ مُستثناةٌ؛ لكونه عيدًا.
وهذا يدل على أن الأصل فيه المنع، فَخُذْ هذه الفائدة في تأصيل المسألة.
على ذلك لو اقتصر الرجال على ضرب الدُّف في العُرس فلا بأس، لكن لا يزيدون على ذلك.
ولا بأس بالغَزَل في العُرس.
يعني: يأتي بقصائد فيها غَزَلٌ، لكن يُشترط في ذلك شرطان:
- الشرط الأول: أن يكون غَزَلًا عفيفًا، فلا يكون فاحشًا.
- والشرط الثاني: ألا يكون بامرأةٍ معينةٍ.
فإذا تحقق هذان الشرطان فلا بأس؛ لأن ذلك كان يُلْقَى بحَضْرَة النبي عليه الصلاة والسلام، كما قال كعبٌ:
بَانَتْ سعاد فقلبي اليوم مَتْبُولُ | مُتَيَّمٌ إِثْرَها لم يُفْدَ مَكْبُول [61] |
وهذا نوعٌ من الغَزَل، لكنه غزلٌ عفيفٌ، وليس بامرأةٍ مُعينةٍ.
وأيضًا قول الجَوَارِي:
ولولا الحبَّة السوداء | ما سَمِنَتْ عَذَارِيكم |
هذا نوعٌ من الغزل.
إلى غير ذلك مما ورد.
وضرب الدُّف في الخِتَان.
يعني: لا بأس بضرب الدُّفِّ في الختان.
كانوا قديمًا عند الختان يضعون مثل الحفلة، ويضربون الدُّف، لكن هذا في وقتنا الحاضر انقطع، لكن كان هذا قديمًا موجودًا، لكن القول بجوازه هنا يحتاج إلى دليلٍ.
نحن أصَّلنا قلنا: إن الأصل عدم الجواز، فاستثناء الختان يحتاج إلى دليلٍ؛ ولذلك فالأقرب أنه باقٍ على التَّحريم.
وقدوم الغائب كالعُرس.
يعني: يجوز ضرب الدُّفِّ عند قدوم الغائب؛ لأن امرأةً أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إني كنتُ نذرتُ إن ردَّك الله سالمًا أن أضرب بين يديك بالدُّفِّ وأتغنَّى. فأذن لها النبي أن تضرب الدُّفَّ، ثم دخل أبو بكرٍ وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فَأَلْقَت الدُّفَّ تحت اسْتِهَا؛ خافتْ من عمر ، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر [62].
الشاهد من هذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام أقرَّ هذه المرأة على ضرب الدُّفِّ عند قدومه، لكن هل هذا لكل غائبٍ، أو يختص بصاحب الجاه أو المنصب: كالأمير ونحوه؟
قولان للعلماء، وأيضًا يجوز ضرب الدُّف في العيد؛ للقصة السابقة في الجاريتين اللتين كانتا تضربان الدُّفَّ، لكن تقتصر على الدُّف.
المشكلة عند كثيرٍ من الناس أنهم لا يقتصرون على ما ورد، يتوسعون، فلو اقتصر الناس في الأعياد على ضرب الدُّفِّ فهذا لا بأس به.
ونقف عند باب: “عِشْرَة النساء”.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
السؤال: هذا سؤالٌ يقول فيه السائل: هل يجوز للأب أن يمنع أبناءه من زيارة والدتهم التي تُقيم في بيت زوجها؟ وهل يصح أن يزوروا والدتهم في بيتها دون إخبار والدهم؟
الجواب: أولًا: لا يجوز للأب أن يمنع أولاده من زيارة أُمِّهم حتى لو كانت في بيت زوجها، هذا لا يجوز.
ومَنْع الأب لأولاده من زيارة أُمِّهم حرامٌ عليه، يكسب بذلك آثامًا وأوزارًا، ولا تجب على الأولاد طاعة أبيهم في ذلك؛ لقول النبي : إنما الطاعة في المعروف [63]، وليس من المعروف أن يمنع الأبُ أولادَه من زيارة أُمِّهم.
وعلى الأب أن يتَّقي الله وأن يسمح، بل يحثّ أولاده على زيارة أُمِّهم؛ لأن منعه إياهم معنى ذلك: أنه يأمرهم بالعقوق، والعقوق من أكبر كبائر الذنوب، فعليه أن يتَّقي الله ، لكن إذا لم يستجب الأب لذلك فلا يُطِعْهُ أولاده، ويزورون والدتهم، وإذا كانوا يخشون من غضبه يزورون والدتهم ولو سِرًّا من غير أن يُخْبِروا أباهم بذلك.
السؤال: إذا صليتُ العشاء وأردتُ أن أُصلي السنة الراتبة، هل يصح أن أنوي أنها أيضًا شفعٌ؛ لكي أُصلي بعدها ركعة الوتر؟
الجواب: السنة الراتبة تختلف عن صلاة الوتر، فلا يكون هناك تداخلٌ بينهما في النية، إنما تنوي السنة الراتبة، وصلاة الوتر مُستقلةٌ.
صلاة الوتر أدناها ركعةٌ، ولا حدَّ لأكثرها على القول الراجح.
تنوي أن هذه هي السنة الراتبة لصلاة العشاء، وإذا أردتَ أن تُوتر: إما أن تُوتر بواحدةٍ، أو تجعلها ثلاثًا: ثنتين ثم واحدة، والأفضل أن تُوتر بإحدى عشرة ركعة.
السؤال: ……
الجواب: صلاة الوتر وردتْ بعدة صفاتٍ، أفضلها وأكملها -وهي الصفة التي عليها أكثر الأحاديث-: مَثْنَى، مَثْنَى، ثم يُوتر بواحدةٍ [64]، لكن له أن يأتي بإحدى الصفات الواردة على غير الغالب -انتبه لهذا القيد-؛ لأن بعض أئمة المساجد في رمضان يسرد ثلاث ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وبسلامٍ واحدٍ طوال رمضان، وهذا خلاف السنة، فإذا فعل ذلك يفعله أحيانًا على غير الغالب، لكن الأصل أن صلاة الليل مَثْنَى، مَثْنَى، ثم يُوتر بواحدةٍ.
السؤال: هل السائق غير المسلم الذي يكون عند عائلةٍ مسلمةٍ، ولم يقم الكفيل بدعوته للإسلام يُحاجُّونه يوم القيامة، ويأثم الكفيل؟
الجواب: الكفيل يُعتبر مُقصِّرًا، لكنه لا يأثم، ولا يُحاجُّونه؛ لأن هذا ليس فرض عينٍ، الدعوة فرض كفايةٍ، وليست فرض عينٍ.
الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر هذه كلها من فروض الكفاية، لكن هذا الكفيل يُعتبر مُقصِّرًا، لكن من حيث الإثم: لا يأثم.
السؤال: ما حكم مَن له ابنٌ أو بنتٌ يأمرهما بالصلاة، ولكن مرةً يقوم أحدهم ويُصلي، ومرةً يتأخر ويعجز عن إيقاظه؟ فماذا يفعل؟
الجواب: هذه المشكلة يشكو منها كثيرٌ من الآباء والأمهات، فعليهم أن يصبروا، والله تعالى يقول: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، فلا بد من الصبر مع الاستمرار في الإيقاظ وفي النُّصح.
وإذا أمر الأب أو الأم ابنه بالصلاة بَرِأَتْ ذِمَّته، وأصبحت المسؤولية على هذا الابن أو البنت، فإن لم يُصَلِّ فهو الذي يتحمل الإثم، لكن أباه أو أمه لا بد أن يأمُرَاه بالصلاة، وأن يستمرا على ذلك في كل وقتٍ.
السؤال: رجَّحتم أن سجود السهو قبل السلام في ثلاث حالاتٍ، أحدها: إذا جاء بعد الشك يقينٌ وغلبة ظنٍّ؟
الجواب: ذكرنا الخلاف في سجود السهو، وقلنا: من العلماء مَن قال: إنه قبل السلام مطلقًا. ومنهم مَن قال: بعد السلام مطلقًا. ومنهم مَن قال: إذا كان عن زيادةٍ فبعد السلام، وإذا كان عن نَقْصٍ فقبل السلام.
وذكرنا أن القول الراجح: أنه قبل السلام إلا في الموضعين اللذين ورد النصُّ بأنهما بعد السلام؛ لأن سجود السهو فيهما بعد السلام، وهما: إذا سلَّم عن نقصٍ في عدد الركعات، وإذا شكَّ وكان مع الشك تَحَرٍّ وغلبة ظنٍّ.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
فيكون سجود السهو قبل السلام إلا إذا كان هناك نقصٌ في عدد الركعات؛ بأن صلَّى -مثلًا- الظهر ثلاث ركعاتٍ، ثم تنبه أو نُبِّهَ فأتى بالرابعة، فيجعل سجود السهو بعد السلام؛ لأن هذا بعينه هو الذي حصل في قصة ذي اليدين، وسجد فيها النبي بعد السلام [65].
الحالة الثانية: إذا شكَّ وكان مع الشك تَحَرٍّ وغلبة ظنٍّ، يعني: شكَّ: هل هي ثلاثٌ أو أربعٌ؟ فغلب على ظنِّه أنها أربعٌ، فيعمل بغلبة ظنِّه ويسجد بعد السلام؛ لحديث ابن مسعودٍ ، وفيه: فَلْيَتَحَرَّ الصوابَ، فَلْيُتِمَّ عليه، ثم ليسجد سجدتين [66] بعدما يُسلم.
وما عدا ذلك فقبل السلام، ومن ذلك: أن يشكَّ شكًّا مُتساويًا؛ يعني 50% أنها ثلاثٌ، و50% أنها أربعٌ، فيبني على اليقين وهو الأقل: يجعلها ثلاثًا ويأتي بواحدةٍ، ويسجد قبل السلام.
فتبين بهذا أن الشكَّ ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: أن يكون شكًّا مُتساويًا ليس فيه ترجيحٌ، فيبني على اليقين، ويسجد للسهو قبل السلام.
- القسم الثاني: أن يكون شكًّا معه غلبة ظنٍّ وترجيح، فيعمل بغلبة ظنِّه، ويسجد للسهو بعد السلام.
سائل: …..
الجواب: نعم، سجود السهو: يُسلم ثم يأتي بسجدتين بينهما جلسةٌ.
السؤال: يقول: نقل النووي: أن الشافعي يَستحب قراءة القرآن عند دفن الميت؟
الجواب: هذا محل نظرٍ، والأقرب: أن هذا غير مشروعٍ؛ لأنه لا دليل يدل لذلك، حتى وإن نقله النووي عن الشافعي وعن غيره من أهل العلم؛ لأنه كلٌّ يُؤْخَذ من قوله ويُردّ إلا رسول الله ، فالأقرب أن هذا غير مشروعٍ.
السؤال: ما حدّ عورة النظر للرجل؟
الجواب: عورة النظر تنقسم إلى قسمين:
- العورة في الصلاة ما بين السُّرة إلى الركبة، مع دخول السُّرة والركبة.
- وعورة النظر هذه الواجب فيها ستر السَّوأتين وما حولهما، واختلف العلماء في الفخذين: هل هما عورةٌ أو لا؟
فمنهم مَن قال: إن الفخذين عورةٌ، كما في الحديث: غَطِّ فَخِذَكَ؛ فإن الفخذ عورةٌ [67]، لكن في سنده مقالٌ.
والقول الثاني: أنه ليس بعورةٍ؛ لأن النبي كشف عن فخذيه في عدة مواطن، كما في الحديث لما كان جالسًا ودخل أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما وهو كاشفٌ عن فخذيه، ولما دخل عثمان غَطَّى فخذيه، وسُئل عن ذلك فقال: ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة؟ [68]، وأيضًا لما كان في غزوة خيبر على فرسٍ كان كاشفًا عن فخذيه [69]، ونحو ذلك.
وهذا هو الأقرب -والله أعلم- إلا إذا كان كَشْف الفخذ تترتب عليه فتنةٌ؛ كأن يكون شابًّا ونحو ذلك، أما لو كان لا تترتب عليه فتنةٌ مثل: إنسانٍ كبيرٍ في السنِّ -مثلًا- أو عاملٍ من العمال ونحو ذلك؛ فالأظهر أن هذا لا يدخل في العورة.
السؤال: ما حكم زكاة الحُلي المُعدّ للاستعمال؟
الجواب: هذا فيه خلافٌ بين أهل العلم؛ فالجمهور على أنه لا تجب الزكاة في الحُلي المُعدِّ للاستعمال، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وهو المنقول عن أكثر الصحابة، خلافًا للحنفية الذين أوجبوا الزكاة في الحُلي المُعدِّ للاستعمال، لكن جميع الأحاديث المروية في زكاة الحُلي المُعدِّ للاستعمال ضعيفةٌ، قال الإمام الترمذي: لا يثبت في هذا الباب شيءٌ.
ولهذا فالأقرب -والله أعلم- هو قول الجمهور، وهو: أنه لا تجب الزكاة في الحُلي المُعدِّ للاستعمال.
السؤال: يقول: هل ما ذهب إليه صاحب “الدليل” تفويضٌ؟ قد نقل أنه نسبه إلى مذهب السلف.
الجواب: لا، هذا غير صحيحٍ: التفويض.
يقول العلماء: إن التَّفويض شرٌّ من التَّأويل.
التَّفويض أَشَرُّ وأسوأ من التَّأويل، وليس مذهب السلف التَّفويض، السلف يُثْبِتُون لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله من الأسماء والصفات من غير تحريفٍ، ومن غير تمثيلٍ، ومن غير تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
أما القول بأن مذهب السلف هو التَّفويض فهذا قولٌ باطلٌ، بل التَّفويض شرٌّ من التأويل، كلاهما باطلٌ: التأويل والتفويض.
ونسبة ذلك للسلف نسبةٌ غير صحيحةٍ، وتكلم عن هذا العلماءُ كثيرًا -ومن أحسن مَن تكلم عن ذلك ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى- وبيَّنوا أن نسبة التَّفويض إلى السلف قولٌ باطلٌ.
السؤال: ما حكم الدعاء: يا خفي الألطاف؟
الجواب: الله تعالى لطيفٌ، ومن معاني اللُّطف: إيصال الخير إلى الإنسان بِخُفْيةٍ، فإيصال المعروف والخير للإنسان بِخُفْيةٍ هذا يُعتبر لُطْفًا من الله : أن الله يُحْسِن إليك بأمرٍ خفيٍّ.
فيظهر أن هذا الوصف صحيحٌ ويدخل في هذا المعنى.
السؤال: ما الضابط في قول الصحابي الذي يأخذ حكم المرفوع؟
الجواب: الضابط فيه: الذي ليس للعقل فيه مجالٌ للنظر والاجتهاد، فهذا هو الذي يأخذ حكم المرفوع، وهذا عند التَّنظير متفقٌ عليه بين العلماء، لكن عند التَّطبيق يختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا، فكثيرٌ من المسائل عند التَّنظير العلماء يتَّفقون عليها، وعند التَّطبيق يختلفون.
مثلًا: يقولون: لا قياس في العبادات. ثم تجدهم يقيسون في العبادات، وحتى الظاهرية الذين يمنعون القياس يقيسون.
فعند التَّنظير تجد الاتفاق، أما عند التَّطبيق فتجد الاختلاف.
السؤال: كيف يكون الدعاء بأسماء الله أو صفاته؟
الجواب: تأتي باسمٍ من أسماء الله تعالى أو صفةٍ من صفاته وتدعو بها: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]: يا غفور، اغفر لي، يا رحمن، ارحمني، ونحو ذلك.
والله تعالى ذكر أدعيةً في القرآن الكريم مختومةً بأسمائه: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، فختمها الله تعالى بالوهاب؛ لأن هذه هبةٌ: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
ولهذا ينبغي أن يكون الاسم مُوافقًا للطلب، فإذا قلتَ: “وَهَبْ لي من لدنك رحمةً”، فتقول: “إنك أنت الوهاب” -مثلًا- ولا تقل: “إنك أنت الغفور”، تقول: “إنك أنت الوهاب”.
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]، وأيضًا كما في قول الله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، ونحو ذلك.
فيأتي باسمٍ من أسماء الله أو صفةٍ من صفاته يختم بها الدعاء، أو يُقدِّمها بين يدي الدعاء، وهذا من أسباب الإجابة، مثلًا: تقول: يا أرحم الراحمين، ارحمني، يا غفور، اغفر لي، يا تواب، تُبْ عليَّ. ونحو ذلك.
السؤال: أنا طالبٌ مُتخرجٌ من الجامعة قبل أشهرٍ، وما زلتُ أبحث عن عملٍ، ويأتيني شيءٌ من الحزن والهَمِّ، فهل من نصيحةٍ؟
الجواب: ننصحك بأمرين:
- الأمر الأول: أن تفعل السبب، والله تعالى له سننٌ في الكون، فلا يبقى الإنسان بدون فعل السبب وينتظر أن تأتيه الوظيفة، فالله له سننٌ في الكون، ولا بد من احترام هذه السنن.
فافعل السبب: قَدِّم على المجالات التي يمكن أن يحصل لك فيها الوظيفة المناسبة. - والأمر الثاني: الدعاء، فإذا فعلتَ السبب تدعو الله أن يُيسر لك الوظيفة؛ لأن الوظيفة من جملة الرزق، والدعاء بالرزق أمرٌ مشروعٌ ومطلوبٌ.
فتفعل هذين الأمرين وتجتهد فيهما: تفعل الأسباب، وتسأل الله تعالى أن يُيسر لك الوظيفة المناسبة.
فإذا استنفدتَ فعل الأسباب ودعوتَ الله فلا داعي للحزن، ولا داعي للقلق؛ لأن الرزق المكتوب لك سيأتيك، ولن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها.
والنبي لما ذَكَر الجنين في بطن أمه، وأنه عندما تمر عليه أربعة أشهرٍ يأتيه المَلَك ويُؤْمَر بنفخ الروح فيه، ويُؤْمَر بأربع كلماتٍ، أول كلمةٍ قالها عليه الصلاة والسلام ما هي؟
بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد [70]، فالرزق مكتوبٌ، فلا داعي للحزن، ولا داعي للقلق، ما كان من الرزق سيأتيك، لكن المهم ألا تُعَطِّل الأسباب، تفعل الأسباب، لا بد أن تفعل الأسباب، وأن تبحث عن الرزق، ولا تنتظر الرزق أن يأتي إليك، كما قال عمر : “إن السماء لا تُمطر ذهبًا ولا فضةً”.
فأنت افعل السبب، واسأل الله الرزق، وبعد ذلك لا داعي للقلق، ولا داعي للحزن؛ لأنك استنفدتَ الأسباب، والرزق بيد الله .
سائل: …….
الجواب: نعم.
السؤال: ما القول الصحيح في دوران الأرض والشمس؟
الجواب: الشمس تدور بنص القرآن، وأيضًا هذا هو الذي عليه علم الفلك قديمًا وحديثًا، والله يقول: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38]، وكذلك أيضًا الأرض، فالأرض تدور؛ فلها دورانٌ حول نفسها، وحول الشمس، ومن آثار دورانها حول نفسها: الليل والنهار، وحول الشمس: الفصول الأربعة.
والله تعالى قال: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، كل الأجرام السماوية تدور: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، وهذا يدل على عظيم قُدرة الله .
وقد ذكر بعض المُفسرين -ذكر ذلك صاحب “التحرير” وغيره- أن قول الله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ أن المقصود بذلك دوران الأرض: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88].
وقول بعض العلماء: إن هذا يكون يوم القيامة، هذا لا يُناسب السياق؛ لأن الله قال: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، فهذا دليلٌ على أن المقصود شيءٌ في الدنيا.
فهذه المسألة الأظهر -والله أعلم- أنها كما قال ربنا سبحانه: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، كلٌّ يسبح ويدور بالطريقة التي هيَّأها الله تعالى عليها.
وعلى طالب العلم ألا يقول ما لا يعلم: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]؛ لأن بعض الإخوة يجزم في هذه المسائل بأمورٍ معينةٍ وينسبها للشرع.
فلا تقل بشيءٍ لا تعلمه، إذا كنت لا تعلم في هذه الأمور قل: لا أعلم، لكن الجزم بأن الأرض ثابتةٌ، أو أن الشمس ثابتةٌ، أو نحو ذلك، يعني: لا تجزم إلا بعلمٍ.
الشمس تدور وتجري لمُستقرٍّ لها، ولا يجوز اعتقاد غير ذلك؛ لأن الله قال: وَالشَّمْسُ تَجْرِي، فلا بد أن تعتقد أن الشمس تجري.
أما الأرض فليس في النصوص شيءٌ صريحٌ، لكن قول الله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يُشير لهذا المعنى.
فالأقرب أن يُقال: إنها -جميع الأجرام- تدور كلها: الشمس والقمر وغيرها من الأجرام، وهو ظاهر القرآن: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، وهو الذي عليه أيضًا علم الفلك: أنهم يرون أن كل الأجرام السماوية لها دورانٌ.
السؤال: يقول: التَّفريق بين الزائر والضيف، بحثتُ في المعاجم فلم أجد مَن ذكر ذلك؟
الجواب: ذكره الفقهاء، فالفقهاء في كتاب “الأطعمة” ذكروا ذلك، وذكروا أنه لا تجب الضيافة إلا بشروطٍ.
لو رجعتَ إلى كلام الفقهاء -وفي “السلسبيل” سيأتينا إن شاء الله هذا الكلام- ذكروا أن الضيافة لا تجب إلا بشروطٍ، ومنها: أن يكون القادم من خارج البلد، فهذا تجده في كلام الفقهاء.
السؤال: ما حكم التَّأجير المُنْتَهي بالتَّمليك بصورته الموجودة الآن: كتأجير السيارات؟
الجواب: الصورة الموجودة الآن هي الصورة الجائزة بشرط: ألا يوجد شرط غرامة التأخير.
التَّأجير المُنْتَهي بالتَّمليك له عدة صورٍ، منها الصورة التي منعتها هيئة كبار العلماء، وهي: أن يجتمع التَّأجير مع التَّمليك في العقد نفسه، وهذه لا تجوز، وهذه الصورة غير موجودةٍ الآن، وأصلًا الشركات والبنوك لا تريدها؛ لأنهم يريدون أن تبقى الملكية للمُؤَجِّر.
الصورة الثانية من الصور الجائزة: أن يكون تأجيرًا حقيقيًّا تترتب عليه آثار عقد الإجارة، مع وعدٍ بالتَّمليك، وهذه الصورة الشائعة الآن، هذه لا بأس بها، لكن بشرط: ألا يوجد فيها شرط غرامة التَّأخير.
واطلعتُ أنا على بعض عقود التَّأجير مع الوعد بالتَّمليك، فوجدتُ أن الإشكالية في بعضها في شرط غرامة التَّأخير، فإذا وُجِدَ فيها شرط غرامة التَّأخير فهذا الشرط غير جائزٍ، لكن لو خلا من شرط غرامة التأخير فيبقى على الأصل، وهو: أن هذا عقد تأجيرٍ حقيقي تترتب عليه آثار عقد الإجارة مع الوعد بالتَّمليك: إما بطريق الهبة، أو بالبيع بسعرٍ مُخفضٍ، وهو ما يُسمى بالدفعة الأخيرة؛ فهذا لا بأس به.
فالصورة الموجودة الآن هي الصورة الجائزة، لكن انتَبِه من عدم وجود شرط غرامة التَّأخير.
الأسئلة الواردة كثيرةٌ، يعني: بقية الأسئلة لعلنا نُؤجلها إلى درسِ غدٍ، إن شاء الله.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2699. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 3781. |
^3 | رواه البخاري: 2049. |
^4 | رواه البخاري: 2048، ومسلم: 1427. |
^5 | رواه البخاري: 5168، ومسلم: 1428. |
^6 | رواه البخاري: 371، ومسلم: 1365. |
^7 | رواه البخاري: 5172. |
^8 | رواه البخاري: 5173، ومسلم: 1429. |
^9, ^18 | رواه مسلم: 1431. |
^10 | رواه مسلم: 1432. |
^11 | رواه البخاري: 1239، ومسلم: 2066. |
^12, ^13 | رواه مسلم: 2102. |
^14, ^15 | رواه مسلم: 1206. |
^16 | رواه أبو داود: 3745، وابن ماجه: 1915، وأحمد: 20325. |
^17 | رواه أبو داود: 3756، وأحمد: 23466. |
^19 | رواه أبو داود: 5190، وأحمد: 10894. |
^20 | رواه البخاري: 7293. |
^21, ^50 | رواه البخاري: 6018، ومسلم: 47. |
^22 | رواه البخاري: 2461، ومسلم: 1727. |
^23 | رواه أبو داود: 142، وأحمد: 16384. |
^24 | رواه أبو داود: 3761، والترمذي: 1846، وأحمد: 23732. |
^25, ^30, ^34 | رواه البخاري: 5376، ومسلم: 2022. |
^26 | رواه مسلم: 2017. |
^27, ^46 | رواه البخاري: 5398. |
^28 | رواه أبو داود: 3773، وابن ماجه: 3263. |
^29 | رواه مسلم: 2044. |
^31 | رواه مسلم: 2020. |
^32 | رواه مسلم: 2021. |
^33, ^38 | رواه مسلم: 2034. |
^35 | رواه أبو داود: 3845، والترمذي: 1803 وقال: حسنٌ صحيحٌ. |
^36 | رواه مسلم: 2033. |
^37 | رواه البخاري: 3798، ومسلم: 2054. |
^39 | رواه الطبراني في “المعجم الكبير”: 13065 من قول ابن عمر رضي الله عنهما. |
^40 | رواه أبو داود: 35، وابن ماجه: 337، وأحمد: 8838. |
^41 | رواه أحمد: 2817. |
^42 | رواه أحمد: 13207. |
^43 | رواه البيهقي في “السنن الكبرى”: 14631. |
^44 | رواه الطبراني في “المعجم الأوسط”: 6209، والحاكم في “المستدرك”: 7125. |
^45 | رواه أحمد: 26958، وابن حبان: 1182. |
^47 | رواه البخاري: 2654، ومسلم: 87. |
^48 | رواه الترمذي: 2380 وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 3349، وأحمد: 17186. |
^49 | رواه البخاري: 6452. |
^51 | رواه مسلم: 2734. |
^52 | رواه أبو داود: 4023، والترمذي: 3458. |
^53 | رواه البخاري: 5458. |
^54 | رواه مسلم: 2042. |
^55 | رواه أبو داود: 3854. |
^56 | رواه البخاري: 5896. |
^57 | رواه الترمذي: 1089، وابن ماجه: 1895. |
^58 | رواه الترمذي: 1088، والنسائي: 3369. |
^59 | رواه أبو داود: 3696، وأحمد: 2476. |
^60 | رواه البخاري: 3931، ومسلم: 892. |
^61 | رواه الحاكم في “المستدرك”: 6477. |
^62 | رواه الترمذي: 4022 وقال: حسنٌ صحيحٌ. |
^63 | رواه البخاري: 7145، ومسلم: 1840. |
^64 | رواه البخاري: 472، ومسلم: 749. |
^65 | رواه البخاري: 482، ومسلم: 573. |
^66 | رواه مسلم: 572. |
^67 | رواه الترمذي: 2798 وقال: حسنٌ، وأحمد: 15932. |
^68 | رواه مسلم: 2401. |
^69 | رواه البخاري: 371، ومسلم: 1365 |
^70 | رواه البخاري: 3208، ومسلم: 2643. |