عناصر المادة
- نكاح المرأة بأقل من مهر المثل
- إذا تزوج العبد بإذن سيده أو بدون إذنه
- الزوجة تَملِك بالعقد جميع المسمى
- من الذي بيده عقدة النكاح؟
- ما يُسقِط الصداق ويُنصِّفه ويُقرِّره
- أحكام اختلاف الزوجين في الصداق
- هدية الزوج ليست من المهر
- من تزوجت بلا مهرٍ أو بمهرٍ فاسدٍ
- لا مهر في النكاح الفاسد إلا بالخلوة أو الوطء
- لا مهر في النكاح الباطل إلا بالوطء في القُبُل
- مهر الموطوءة بشبهةٍ
- مهر المكرهة على الزنا
- يتعدد المهر بتعدد الشبهة والإكراه
- لا يصح تزويج مَن نكاحُها فاسدٌ قبل الفرقة
- الأسئلة
ننتقل بعد ذلك لـ”السلسبيل في شرح الدليل”، وكنا بدأنا بالكلام عن الصداق، ونستكمل الحديث في هذا الدرس عن بقية أحكام الصداق.
نكاح المرأة بأقل من مهر المثل
قال المصنف رحمه الله:
وللأب تزويج ابنته مطلقًا بدون صداق مثلها وإن كرهت.
الأب له خصائص بالنسبة لعلاقته بأبنائه وبناته؛ فمِن جهة المال: أن الأب له أن يرجع في الهبة، مع أن الرجوع في الهبة بعد القبض محرمٌ، لكن يستثنى من ذلك: الأب، وهكذا الأم، وأيضًا الولد ليس له أن يطالب أباه بالدَّين، ما عدا النفقة، والأب له أن يأخذ من مال ولده ما شاء، بشرط ألا يضره، أو يعطيه ولدًا آخر.
وهكذا أيضًا: للأب أن يزوج ابنته بدون صداق مثلها، يعني: بأقل من صداق مثلها حتى وإن كرهت؛ لأن الأب أصلًا له أن يأخذ من مالها ما شاء؛ فله أن يزوجها بدون صداق مثلها، وقد زوج سعيد بن المسيب ابنته بدرهمين، وهو من سادات قريشٍ، وكان قد خطبها الخليفة، وكانت من أجمل النساء، لكنه أبى، وزوجها واحدًا من طلابه الفقراء بدرهمين، في قصةٍ مشهورةٍ، ولم يكن هذا مهر مثلها، ولأن الأب له من الشفقة ما ليس عند غيره من الأولياء، فالظاهر أنه لن ينقصها عن صداق مثلها إلا لتحصيل معنًى من المعاني الحسنة؛ ولذلك فالأب خاصةً له تزويج ابنته بدون صداق مثلها.
قال:
ولا يلزم أحدًا تَتِمَّته.
يعني: لا يلزم الزوجَ أو الأب أن يُتم ذلك المهر الذي هو دون مهر المثل؛ لصحة التسمية.
وإن فعل ذلك غير الأب بإذنها مع رشدها؛ صح.
غير الأب؛ كالأخ، هل له أن يزوج أخته بأقل من مهر المثل؟ نقول: إن رضيت بذلك؛ فلا بأس، أما إن لم ترض؛ فليس له ذلك، إنما هذا الحكم خاصٌّ بالأب فقط.
وبدون إذنها؛ يلزم الزوجَ تتمته.
يعني: لو أن أخاها زوَّجها بأقل من مهر المثل بدون إذنها، فيقال للزوج: أكمل المهر.
مثال ذلك: رجلٌ كان مهر المثل في بلده أربعين ألف ريالٍ، فزوَّج أخته بثلاثين ألفًا، ولم ترض أخته بذلك، فيَلزم الزوج أن يكمل المهر إلى أربعين ألفًا.
فإن قدَّرَتْ لوليها مبلغًا فزوَّجها بدونه؛ ضمن.
يعني: ضمن النقص، فإن قالت: لا تزوجني إلا بستين ألفًا، فزوجها بخمسين؛ فيضمن النقص، يضمن النقص بذلك؛ لأنه مفرطٌ.
وإن زوَّج ابنه، فقيل له: ابنك فقيرٌ، مِن أين يؤخذ الصداق؟ قال: عندي؛ لزمه.
زوَّج ابنه، وابنه فقيرٌ ما عنده شيءٌ، فقيل: من أين يأتي ابنك بالصداق؟ فقال: “عندي”؛ فإنه يلزمه المهر؛ لأن كلمة (عندي) من ألفاظ الضمان؛ فيكون ضامنًا للمهر بتلك الكلمة.
وليس للأب قبض صداق ابنته الرشيدة ولو بكرًا، إلا بإذنها.
ابنته الرشيدة هي المتصرفة في مالها؛ فيعتبر إذنها، حتى الأب ليس له أن يقبض مهر ابنته بغير إذنها، بل لا بد من أن يستأذنها في قبض مهرها.
فإن أقبضه الزوجُ لأبيها؛ لم يبرأ، ورجعت عليه، ورجع هو على أبيها.
لو أقبض الزوجُ أبا المرأة بغير إذنها؛ لم تبرأ ذمته بذلك؛ لأنه يفترض أن يُسلِّم المهرَ إليها وليس إلى أبيها؛ لأن الأب قد يكون إنسانًا بخيلًا أو مقتِّرًا أو متسلطًا، فإذا أعطاه الزوج المهر؛ أخذه ولم يعط البنت شيئًا؛ فهنا يضمن الزوج المهر للمرأة، ويرجع الزوج على الأب.
لكن إن دل العرف على إذن البنت عادةً؛ كما هو عليه الحال مثلًا عندنا هنا في المملكة، وأن الأب عادةً يستلم المهر من الزوج؛ فهذا يكفي، إلا إذا كان في الأسرة نزاعٌ وتفككٌ وخلافٌ بين البنت وأبيها؛ فليس للزوج أن يعطي المهر الأب ولا غيره من الأولياء بدون إذن المرأة، لكن إذا كانت أمور الأسرة متماسكةً، وليس بينهم نزاعٌ؛ فيمكن أن يعطي المهرَ الأبَ؛ اعتبارًا بدلالة العرف، وإذا شك في ذلك؛ فيمكن أن يتواصل مع هذه المرأة عبر وسائل التواصل الحديثة في وقتنا الحاضر: هل أسلم المهر لأبيك أو لا؟
قال:
وإن كانت غير رشيدةٍ؛ سلمه إلى وليها في مالها.
كأن تكون مثلًا مجنونةً أو صغيرةً، فيسلم هذا المهر إلى وليها، ووليها يحفظ هذا المال لها.
إذا تزوج العبد بإذن سيده أو بدون إذنه
وإذا تزوج العبد بإذن سيده؛ صح، وعلى سيده المهر والنفقة والكسوة والمسكن.
العبد على وليه أن يزوجه إذا طلب الزواج، و”وليه” يعني: سيده، يقصد: على سيده أن يزوجه إذا طلب الزواج، وسيده هو الملزم بالمهر والنفقة والكسوة والمسكن، ويدل لذلك قول الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، فأمر الله تعالى بإنكاح الصالحين من العِباد -يعني جمع عبدٍ- والإماء، فهذا خطابٌ للسيد بأن يزوج عبده أو أمته: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32].
فإذا تزوج العبد بإذن سيده؛ صح ذلك، وتعلَّق المهر بذمة السيد.
وإن تزوج بغير إذنه.
فهذا لا يجوز، و:
لم يصح.
النكاح باتفاق العلماء.
وقد جاء في هذا حديث جابرٍ أن النبي قال: أيُّما عبدٍ تزوج بغير إذن سيده؛ فهو عاهرٌ [1]، أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
فالعبد لا بد من إذن سيده له في الزواج.
فلو وطئ؛ وجب في رقبته مهر المثل.
يعني: لو وطئ العبد في النكاح الذي لم يأذن سيده فيه؛ فيجب المهر في رقبته، أشبه أَرْش الجناية.
الزوجة تَملِك بالعقد جميع المسمى
ثم قال المصنف رحمه الله:
فصلٌ
وتَملِك الزوجة بالعقد جميع المسمى.
“المسمَّى” يعني: المسمى عند العقد، فتَملِك الزوجة هذا المهر بمجرد العقد، بمجرد أن يقول: زوَّجتك ابنتي بمهرٍ قَدْرُه كذا، ويقول الزوج: قبلت؛ فالزوجة تَملِك هذا المهر المسمى.
ولها نماؤه إن كان مُعَيَّنًا.
يعني: المهر لا يلزم أن يكون نقودًا؛ الناس الآن في وقتنا الحاضر جعلوا المهر نقودًا؛ أربعين ألفًا، خمسين ألفًا، أو أكثر أو أقل، لكن لا يلزم، يمكن أن يكون المهر حديقةً، ويمكن أن يكون المهر دارًا، ويمكن أن يكون المهر حيوانًا، ويمكن أن يكون سيارةً.
فإذا كان هذا المهر له نماءٌ، يقول المؤلف: “ولها نماؤه إن كان مُعَيَّنًا”، يعني: للزوجة نماء مهرها من حين العقد، فلو كان المهر مثلًا دارًا، عقارًا، وهذا العقار مُؤجَّرٌ؛ فلها أجرة العقار من حين العقد، يكون للزوجة.
ولها التصرف فيه.
يعني: للزوجة أن تتصرف في هذا المهر بما تريد.
لكن تجيء مسألة: حكم الشيء قبل قبضه؛ عند الحنابلة: أنه خاصٌّ بالمكيل والموزون، وعند بعض العلماء؛ كالمالكية: أنه خاصٌّ بالطعام، وسبق أن رجحنا في أبواب المعاملات: أنه عامٌّ في كل شيءٍ؛ كما اختاره ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ ولحديث: من ابتاع طعامًا؛ فلا يبعه حتى يقبضه [2]، وأيضًا حتى حديث: من ابتاع طعامًا؛ فلا يبعه حتى يقبضه، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: ولا أحسب كل شيءٍ إلا مثله؛ فعلى هذا: ليس للمرأة أن تبيع مهرها المسمى حتى تقبضه، بناءً على القول الراجح.
وضمانه ونقصه عليها.
لأنه مِلكٌ لها.
إن لم يمنعها قَبْضَه.
فإن منعها؛ فيكون الضمان عليه؛ كالغاصب.
وإن أقبضها الصداق ثم طلق قبل الدخول؛ رجع عليها بنصفه إن كان باقيًا.
هذا رجلٌ عَقَد على امرأةٍ ودفع المهر، وقبل الدخول طلَّقها، فيكون له نصف المهر؛ لقول الله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237]، وهذا بالنص والإجماع.
فمن طلق امرأةً قبل الدخول؛ فله نصف المهر؛ يعني: مثلًا المهر أربعون ألفًا، تُرد إليه المرأة عشرين ألفًا فقط، والعشرون الألف الأخرى تكون للمرأة، وهذا بالإجماع.
وإن كان قد زاد زيادةً منفصلةً؛ فالزيادة لها.
يعني: لو كان مثلًا المهر زاد زيادةً منفصلةً؛ يعني: المهر دابةٌ، ونتجت هذه الدابة، فالزيادة تكون للزوجة؛ لأنه ملكٌ لها.
وإن كان تالفًا؛ رجع في المثلي بنصف مثله، وفي المُتقوَّم بنصف قيمته يوم العقد.
يعني: هذا رجلٌ تزوج امرأةً على شيءٍ معينٍ، ثم طلَّقها قبل الدخول، قلنا: لكَ نصف المهر، قالوا: المهر تالف، فهنا يقول المؤلف: إذا كان المهر مثليًّا؛ فيرجع بنصف المثل، أما إذا كان مُتقوَّمًا؛ فيرجع بنصف القيمة.
وهذه المسألة الآن، أصبحت غير موجودةٍ في وقتنا الحاضر، وأصبحت مهور الناس نقودًا، لكن كانت في الأزمنة السابقة موجودةً.
من الذي بيده عقدة النكاح؟
قال:
والذي بيده عقدة النكاح: الزوج.
أراد المؤلف أن يبين هذه المسألة؛ ليفرع عليها مسائل، وأراد أن يفسر المقصود بقول الله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]، فمن الذي بيده عقدة النكاح؟
قولان للعلماء:
- القول الأول: أن الذي بيده عقدة النكاح: هو الولي، وهذا مذهب المالكية، واختاره ابن تيمية وابن القيم؛ قالوا: لأن الولي هو الذي يعقد النكاح لِمُوَلِّيَته، فأخذوا بظاهر اللفظ.
- القول الثاني: أن الذي بيده عقدة النكاح: هو الزوج، وهذا قول الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك أولًا: رُوي في هذا حديث: وَلِيُّ عقدة النكاح هو الزوج [3]، لكنه ضعيفٌ، رواه الدارقطني، لكنه ضعيفٌ، وثانيًا: ورد هذا عن عليٍّ بسندٍ صحيحٍ، وورد أيضًا عن سعيد بن المسيب ومجاهدٍ وابن سيرين وسعيد بن جبيرٍ، وأيضًا، الزوج هو الذي بيده العصمة؛ إن شاء أبقى المرأة، وإن شاء حل عصمتها بالطلاق، فهو الذي بيده عقدة النكاح، وأيضًا، الولي ليس له العفو عن صداق موليته إلا بإذنها، إلا الأب كما ذكرنا، وأيضًا، إذا قيل: الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح؛ صار العفو من الجانبين؛ من الزوجة: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ، ومن الزوج: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]، أما إذا قلنا: الذي بيده عقدة النكاح: هو الولي؛ فإن العفو من جانبٍ واحدٍ، يكون المعنى: إلا أن تعفو الزوجة أو وليها، ولا شك أن دلالة الآية على العفو من جانبين أولى، أيضًا الله تعالى قال: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:237]، الخطاب موجهٌ لمن؟ نقرأ الآية من أولها: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ، الخطاب موجه لمن؟ للأزواج، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ، يعني: الزوجات، أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا، فالخطاب لمن؟ للأزواج، فقال الله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ولم يقل: “وأن يعفوا”، لو كان الذي بيده عقدة النكاح الولي؛ لقال: “أو يعفو”، وما قال: وَأَنْ تَعْفُوا؛ لأن الخطاب من أول الآية موجهٌ للأزواج: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ؛ يعني: أيها الأزواج مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا، يعني: أنتم أيها الأزواج، أيضًا حَكَى القرطبي الإجماعَ على أن الولي لا يملك من مال مُوَلِّيَته شيئًا، وأن المهر كله لها، فكيف يقال: إن الولي هو الذي يعفو عن مالٍ ليس من ماله، وإنما من مال موليته الذي لا يملكه؟!
فعلى هذا: يتضح بذلك ضعف القول بأن الذي بيده عقدة النكاح: الولي، والعجب كيف اختاره ابن تيمية وابن القيم على جلالة علمهما وقدرهما! هذا يدل على أن العلماء يبقون بشرًا، والعبرة بالدليل.
ولاحِظ أن اختيار ابن تيمية وابن القيم للقول الأول، قوَّاه وجعل له حظًّا وشهرةً عند الناس؛ وهذا يدل على أن العالم الكبير إذا اختار قولًا ضعيفًا؛ يتقوى هذا القول باختياره، لكن الأدلة -كما ترون- كلها ظاهرةٌ ومتضافرةٌ على أن الذي بيده عقدة النكاح: هو الزوج، وأن القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، قولٌ ضعيفٌ، وما من دليلٍ يدل لهذا، إلا فقط ظاهر الآية، مع أن ظاهر الآية أيضًا أقرب للزوج منه للولي، قالوا: إن الولي هو الذي يعقد النكاح، وهو الذي بيده عقدة النكاح؛ طيب الزوج أيضًا يعقد النكاح، فالقول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، قولٌ ضعيفٌ، والصواب قول الجمهور: وهو أن الذي بيده عقدة النكاح: هو الزوج، قال: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، يعني: أنتم أيها الأزواج أو الزوجات أقرب للتقوى.
وهذا فيه فائدةٌ: هذا يدل على أن الذي يعفو أقرب إلى تقوى الله من الذي لا يعفو في جميع أمور الحياة، الذي يعفو أقرب للتقوى من الذي لا يعفو، فإذا وجدت من نفسك أنها تميل للعفو أكثر من غيرك؛ فهذه قرينةٌ ودلالةٌ على أنك أكثر تقوى لله من ذلك الغير، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]؛ لأن التقوى تدفع الإنسان للعفو، والله تعالى ذكر من أوصاف المتقين -أصحاب الجنة التي عرضها السماوات والأرض- قال: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، فالعفو من صفات المتقين، والعفو أقرب للتقوى.
ثم قال: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، الْفَضْلَ يعني: الإحسان، فينبغي ألا ينسى الناس عند الخلاف الإحسان بينهم، خاصةً عندما يكون الخلاف بين الزوج والزوجة، فينبغي ألا ينسى الإحسان، وأن يتحلى الإنسان بالإحسان، حتى عند الخلافات الشديدة يتحلى بالإحسان، وأما الذي إذا اختلف معك فَجَر؛ فهذه من صفات المنافقين: إذا خاصم فجر [4]، فبعض الناس إذا اختلف معك؛ يفجر في الخصومة، وينشر الأسرار، ويفتري ويكذب، ويأتي بأمورٍ عظيمةٍ، هذه من صفات المنافقين، فإن من صفات المنافق: أنه إذا خاصم فجر، وأما المؤمن التقي: فإنه عند الخصومة يردعه إيمانه وتقواه ومخافته لله ، بل يمتثل قول الله تعالى: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237].
فمهما اختلفت مع أي إنسانٍ؛ لا تنس الفضل الذي بينك وبينه، أَبْقِ حبال المودة والمحبة مهما اختلفت معه.
أما الذي إذا اختلف مع إنسانٍ؛ فجر في الخصومة؛ فهذه من صفات المنافقين: إذا خاصم فجر.
بعد هذا التحقيق في الذي بيده عقدة النكاح، وأنه هو الزوج، فرَّع المؤلف على ذلك، قال:
فإن طلق قبل الدخول، فأي الزوجين عفا لصاحبه عما وجب له من المهر وهو جائز التصرف؛ برئ منه صاحبه.
إذا طلق الزوج قبل الدخول -كما قلنا- يكون لها نصف المهر، وللزوج نصف المهر، لكن أيهما عفا؛ برئ الطرف الآخر، إن عفا الزوج؛ برئت الزوجة من أن ترد نصف المهر، وإن عفت الزوجة؛ برئ الزوج مِن أن يعطي نصف المهر للزوجة، والذي يعفو أقرب للتقوى، خاصةً إذا كان العافي أموره ميسورةٌ، فهذا أقرب للتقوى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237].
وإن وَهَبَته صداقها قبل الفرقة، ثم حصل ما يُنصِّفه؛ كطلاقٍ؛ رجع عليها ببدل نصفه.
هذه امرأةٌ لمَّا دفع زوجها مهرًا لها أربعين ألفًا مثلًا، فقالت: وهبتك مهري، هبة، وقَبِل الهبة ثم طلقها قبل الدخول، وقلنا: إذا طلقتَ قبل الدخول؛ فلكَ نصف المهر، طيب، هل يكون له نصف المهر؟ يقول المؤلف: نعم، له نصف المهر، طيب هي وهبته؟ حتى ولو وهبته، يكون له نصف المهر، هذا معنى قول المؤلف: “رجع عليها ببدل نصفه”.
وإن حصل ما يسقطه؛ رجع ببدل جميعه.
حتى لو حصل ما يُسقط المهر؛ كرِدَّة الزوج، أو فَسْخها النكاح؛ يرجع عليها ببدل المهر، مع أنها قد وهبته إياه، لكن الذي وهبته انتهى.
وهبتُه أربعين ألفًا؛ انتهى موضوع الأربعين ألفًا، فإن طلق قبل الدخول؛ أُعْطِيه نصف المهر.
طيب، أنا وهبتُه، فالذي وهبتُه انتهى، طيب، حصل فسخٌ؟ أرجعي له المهر كاملًا، طيب، أنا وهبتُه المهر من قبل، لا، ذاك انتهى، هذا معنى كلام المؤلف.
ويقولون: إن الجهة منفكةٌ هنا، فالهبة الأولى هبةٌ قد قُبضت وانتهت، وأما حصول ما يُنصِّف؛ كالطلاق، أو يُسقطه، فهذه مسألةٌ أخرى، فلا ارتباط بين المسألتين، هذا هو مراد المؤلف، وهذا قد يحصل، فبعض الناس عندهم لؤمٌ، المرأة تهب له المهر كاملًا، ثم يطلقها ويطالبها بنصف المهر عند الطلاق، أو يطالبها بالمهر كاملًا عند الفسخ! وهذا يدل على دناءةٍ في النفس، لكن هذا موجودٌ في البشر، وإلا يُفترض أنه ما دامت وهبت له المهر؛ أنه لا يطالبها بشيءٍ، لكن الدناءة موجودةٌ لدى بعض النفوس.
ما يُسقِط الصداق ويُنصِّفه ويُقرِّره
ثم قال المؤلف رحمه الله:
فصلٌ فيما يُسقِط الصداق ويُنصِّفه ويُقرِّره
القاعدة في هذا الباب، أو الضابط في هذا الباب: أن الفُرقة إذا كانت من جهة المرأة؛ فإن الصداق يسقط كله، وإن كانت من قِبَل الرجل؛ فيَسقط نصف الصداق، هذه هي القاعدة.
إذا كانت الفُرقة من جهة المرأة؛ فالصداق يسقط كله، وإذا كانت من جهة الزوج؛ فيسقط نصف الصداق.
وعلى هذا: هذه التفريعات التي ذكرها المؤلف:
الأحوال التي يَسقط فيها الصداق كله
التفريع الأول:
قال:
يَسقط كلُّه قبل الدخول -حتى المتعة- بفُرقة اللِّعان.
يعني: لو تزوَّجها ولم يُسَمِّ لها مهرًا، ثم حصلت فرقةٌ مسقطةٌ للمهر الذي لم يُسَمَّ، فهذه فرقةٌ باللعان؛ فإنه يَسقط كله، وأيضًا تسقط حتى المتعة بفرقة اللعان.
والمعنى: إذا حصل اللعان، يعني: قبل الدخول، وهذه مسألةٌ غريبةٌ: رجلٌ عَقَد على امرأةٍ ثم لاعنها، كان بإمكانه أن يطلقها؛ لأنه أصلًا ما وطئها، لكن بعض الناس قد يلجأ لهذا؛ يختار هذا الخيار ويطلب ملاعنتها، فإذا لاعنها قبل الدخول؛ فهنا يقول الفقهاء: إن المهر يسقط، يسقط المهر كله، وتَرُدُّ المرأة المهر كاملًا على الزوج، حتى وإن متَّعها ترد المتعة.
وبفسخه لعيبها.
يعني: إذا وجد فيها عيبًا من عيوب النكاح وفسخ العقد؛ فيسقط المهر كله، ويلزم الزوجة أن ترد المهر على الزوج كاملًا.
وبفُرقةٍ مِن قِبَلها.
يعني: إذا كانت الفرقة بأي سببٍ من الزوجة؛ سقط المهر كاملًا وردَّته عليه.
كفسخها لعيبٍ.
كما لو وجدت فيه عيبًا وطلبت الفسخ قبل الدخول؛ فترد عليه المهر كاملًا.
وإسلامِها تحت كافرٍ، ورِدَّتها تحت مسلمٍ.
يعني: عند اختلاف الدِّين الواقع من جهة الزوجة، تَرُد عليه المهر كاملًا؛ كما لو أسلمت تحت كافرٍ، أو ارتدت تحت مسلمٍ، فترد عليه المهر كاملًا.
ورضاعِها مَن ينفسخ به نكاحها.
هذه مسألةٌ نادرة الوقوع، وسبق أن مرَّت معنا في كتاب الرضاع، يقول: إنه ينفسخ به النكاح.
فإن كانت الفُرقة من قِبَلها؛ فيَسقط المهر كله، لكن إذا كانت المسألة بالعكس؛ إذا كانت الفرقة مِن قِبَل الزوج؛ قلنا: إن المهر يتنصَّف: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237].
حالات استحقاق المرأة نصف المهر
ولهذا قال المؤلف:
ويتنصَّف بالفُرقة مِن قِبَل الزوج.
ومثَّل المؤلف لهذه الفرقة، قال:
كطلاقه.
الزوجة، حتى لو كان بسؤالها، فإن طلق امرأته قبل الدخول؛ يكون لها نصف المهر بالإجماع.
وخُلعِه.
يعني: لهذه المرأة حتى ولو بسؤالها؛ لأن الفرقة إنما أتت بجواب الزوج، فيكون نصف المهر.
وإسلامِه.
يعني: إسلام الزوج قبل وجود ما يستقر به المهر ونحوه، إن كانت الزوجة طبعًا غير كتابيةٍ.
ورِدَّتِه.
قبل وجود ما يستقر به المهر؛ لوجود الفُرقة من الزوج.
وبملك أحدهما للآخر.
يعني: إذا كان الزوجان رقيقين، ثم عَتَق أحدهما، فملك أحدهما الآخر؛ فينفسخ العقد، فيتنصَّف المهر إذا اشتراها الزوج من مالك رقبتها قبل الدخول، وإذا ملكته هي قبل الدخول؛ يتنصَّف المهر.
طبعًا، هذه مسألةٌ متعلقةٌ بالرق، والرق الآن انقرض وليس له وجودٌ.
أو قِبَلِ أجنبيٍّ؛ كرضاعٍ ونحوه.
يعني: يتنصَّف المهر إذا كانت الفرقة بسبب رجلٍ أجنبيٍّ، بسبب أجنبيٍّ عمومًا، رجلٍ أو امرأةٍ، يتنصَّف المهر إذا كانت الفرقة بسبب أجنبيٍّ.
وقوله: “قِبَلِ أجنبيٍّ”، معطوفٌ على: “ويتنصَّف بالفرقة..”.
“كرضاعٍ”: يقولون: كما لو أرضعت أختُه زوجتَه الصغرى رضاعًا مُحرِّمًا؛ هذا رجلٌ عنده زوجتان: زوجةٌ كبرى وزوجةٌ صغرى عمرها أقل من سنتين، فأرضعت أختُه زوجتَه الصغرى خمسَ رضعاتٍ فأكثر، فيُصبح هو خالَ زوجتِه؛ فينفسخ النكاح، وهذه مسألةٌ طبعًا مفترَضةٌ، هذه كيف تكون؟! يعني: شرعًا ممكنةٌ، يمكن إنسانًا أن يتزوج هذه بهذه السن، لكن واقعًا هذا غير موجودٍ.
حالات استحقاق المرأة صداقها كله
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لبيان ما يستقر به المهر، قال:
ويُقرِّره.
يعني: يستقر المهر.
كاملًا: موتُ أحدهما.
يستقر المهر كاملًا بموت أحدهما، فلو عَقَد رجلٌ على امرأةٍ ثم مات؛ استقر لها المهر.
طيب، هذا رجلٌ عقد على امرأةٍ، وبعد العقد بدقيقةٍ مات؛ بسبب مثلًا نوبةٍ قلبيةٍ، أو حادث سيارةٍ، فكم يكون للمرأة من المهر؟ يكون المهر كاملًا، وترثه، وعليها عدة الإحداد كاملةً، هي غنمت غنائم؛ أخذت المهر كاملًا، وأيضًا وَرِثته، إذا كان ليس له أولادٌ، فلها الربع، ولكن أيضًا عليها عدة الإحداد كاملةً، أربعة أشهرٍ وعشرٌ، سبحان الله! كل هذا بسبب عقد النكاح! قال: زوَّجتُكَ، فقال: قبلت، ثم مات الزوج، فتغنم الزوجة منه هذه الغنائم: المهر كاملًا، وأيضًا أنها ترثه، وأيضًا يكون عليها عدة الإحداد، مع أنه ما وطئها، ولكن مع ذلك عليها عدة الإحداد؛ وهذا يدل على أن عدة الإحداد ليست لأجل براءة الرحم، وإنما براءة الرحم من الحكم، وإنما -كما قال ابن القيم وغيره- حتى تكون حَرَمًا بين النكاح الأول والنكاح الثاني، ونحو ذلك من الحكم.
فإذنْ، مَن عَقَد على امرأةٍ ثم مات؛ فإن المهر كاملًا للمرأة، وليس نصف المهر، بخلاف من عَقَد على امرأةٍ ثم طلقها، فيكون نصف المهر.
لاحِظ الفرق بين المسألتين، اضبط الفرق بين المسألتين:
رجلٌ عقد على امرأةٍ ثم طلقها قبل الدخول، فلها نصف المهر.
رجلٌ عقد على امرأةٍ ثم مات قبل الدخول؛ فلها المهر كاملًا، وأيضًا لها الإرث، ترثه.
قال:
ووطؤها.
يعني: إذا وطئ الرجل الزوجة؛ فإنه يستقر المهر.
طيب، فإن وَجد بها عيبًا من عيوب النكاح بعد الدخول؟ هذا رجلٌ دَخل على امرأةٍ ووطئها، لكن بعدما وطئها اكتشف أن فيها عيبًا من عيوب النكاح، فهل يرجع عليها بنصف المهر؟ لا، لها المهر كاملًا، بماذا يتعامل مع العيب؟ هذا مر معنا في الدرس السابق: يرجع على من غرَّه.
ولمسه لها.
يعني: إذا لمسها بشهوةٍ ولو لم يخل بها؛ استقر بها المهر.
ونظره إلى فرجها لشهوةٍ.
يستقر به المهر.
وتقبيلها ولو بحضرة الناس.
لأن القبلة تجري مجرى الوطء في قَطع خيار المشتري، ولكن قوله: “ولو بحضرة الناس”؛ ليبيِّن أنه لم يخلُ بها.
وهذه مسألةٌ مفترضةً، وإلا فتقبيل الرجل زوجته أمام الناس هذا أمرٌ غير مقبولٍ، وينافي المروءة، وأمرٌ غير مقبولٍ، ولا تُقبَل به شهادة هذا الإنسان؛ لأن هذا مما ينافي المروءة، حتى وإن كانت زوجته، زوجتُه لكن لا يقبلها أمام الناس، لا يفعل هذا أمام الآخرين؛ لأن هذا مما ينافي المروءة، لكن الفقهاء يذكرون ذلك من باب الافتراض، يعني: لو افترضنا أنه فَعَل كذا؛ فما الحكم بالنسبة للصداق؟
وبطلاقها في مرضٍ ترث فيه.
يعني: لو أن الزوج طلق زوجته في مرض موته؛ فرارًا من ميراثها؛ فإن المهر يستقر كاملًا، وترث منه.
خلاف العلماء في استقرار المهر بالخلوة
وبخلوته بها عن مميِّزٍ إن كان يطأ مثلُه ويوطأ مثلها.
يعني: هل يستقر المهر بخلوة الرجل بزوجته عن أي أحدٍ حتى وإن كان مميِّزًا؟
اختلف العلماء في استقرار المهر بالخلوة على قولين:
- القول الأول: أن المهر يستقر بالخلوة، وكذلك العدة تجب على المرأة، وأن الخلوة لها حكم الوطء، ما دام أنه خلا بها؛ فيجب عليها العدة إذا طلقها قبل الدخول، وأيضًا يكون لها المهر كاملًا ولا يتنصف، وهذا القول مرويٌّ عن الخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ ، وعن زيد بن ثابتٍ ، وهو مذهب الحنفية، وقول الشافعي في القديم، وهو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا: أولًا بأثرٍ عن زرارة بن أبي أوفى أنه رَوَى عن الخلفاء الراشدين : أنه إذا أُرخي الحجاب، وأُغلق الباب؛ فإن عليها العدة، إذا أُرخي الحجاب، وأغلق الباب؛ فعليها العدة، لكن هذا الأثر ضعيفٌ، لكن جاء عن عمر أنه قال هذه المقولة، قال: “إذا أغلق الباب، وأرخي الستور؛ فقد وجب المهر”، وورد مثله عن عليٍّ ؛ وعللوا ذلك، قالوا أيضًا: إنَّ عَقد النكاح عقدٌ على المنافع، فالتمكين منه يجري مجرى الاستيفاء؛ كعقد الإجارة.
- القول الثاني: أن الخلوة لا تأخذ حكم الدخول؛ وعلى ذلك: فمن طُلقت قبل الدخول مِن امرأةٍ خلا زوجها بها ولم يطأها؛ فلا عدة عليها، وأيضًا بالنسبة للمهر يتنصَّف المهر، وهذا هو مذهب المالكية، وقول الشافعي في الجديد، إلا أن المالكية يرون أن للخلوة تأثيرًا يَقوى به قول من يدعي الإصابة، واستدل أصحاب هذا القول بظاهر الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، قالوا: المراد بقول الله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، يعني: المقصود بالمَسيس: الوطء، وهذا قد ورد عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ . وقال ابن عبدالبر: لا تَعرف العرب أن الخلوة دون الوطء يسمى مسيسًا، وابن عباس رضي الله عنهما قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها: “ليس لها إلا نصف المهر”؛ لأن الله تعالى قال: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ؛ ولهذا قال شُرَيحٌ: لم أسمع أن الله ذكر في كتابه بابًا ولا سترًا إذا زَعَم أنه لم يمسها، فلها نصف الصداق.
ومِن لازِمِ القولِ بتنصيف المهر: القول بعدم وجوب العدة، لكن هنا ترى في القول الثاني، فقط فيه تعديلٌ في “السلسبيل”، قلنا: لا يترتب أن الخلوة لا تأخذ حكم الدخول، ولا يترتب عليها عدةٌ، وأن المهر يتنصف، أن الخلوة لا تأخذ حكم الدخول، ولا يترتب عليها العدة، وأن الخلوة يتنصف بها المهر، ولا يكون للمرأة المهر كاملًا.
أو بعبارةٍ أخرى: ولا يترتب عليها عدةٌ، ولا استقرار المهر، ربما هذه أوضح؛ لأن كلمة “ولا مهر” توهم بأنه ليس لها مهرٌ مطلقًا؛ ومع الخلوة لها نصف المهر، على هذا القول: لها نصف المهر، فهذه العبارة، يعني هذه الكلمة، لعلها تُعدَّل -إن شاء الله- في الطبعة القادمة، فيكون القول الثاني: “الخلوة لا تأخذ حكم الدخول، ولا يترتب عليها عدةٌ، ولا استقرار المهر”.
وإن شئت بعبارةٍ أخرى قل: إذا خلا الرجل بالمرأة ثم طلقها؛ فلا عدة عليها، ويكون لها نصف المهر، هذا هو القول الثاني، ومن أدلة هذا القول أيضًا: أن الخلوة لا تأخذ حكم الدخول.
هناك دليلٌ آخر أيضًا لم يُذكر في “السلسبيل”، لعله يضاف -إن شاء الله- في الطبعة القادمة: ما جاء في “الصحيحين” عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث الملاعِن أنه قال للنبي : مالي يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: لا مال لك، إن كنت صَدَقت عليها -يعني: لم تكن كاذبًا- فهو -يعني فالمهر- بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها [5].
وموضع الشاهد: قوله : إن كنت صدقت؛ فهو بما استحللت من فرجها، فالمهر هو مقابل استحلال الفرج، فمع الخلوة ليس فيه استحلال الفرج، هو مجرد أنه خلا بها فقط، وهذا ما استدل به أصحاب هذا القول: أن الخلوة لا تأخذ حكم الدخول.
والراجح: هو القول الثاني: وهو أن الخلوة لا تأخذ حكم الدخول، ولا يترتب عليها عدةٌ، ولا استقرار المهر أيضًا، نكرر هنا عبارة: “ولا استقرار المهر، وإنما يتنصف المهر”.
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول من آثارٍ عن بعض الصحابة ، فأولًا: أثر زرارة بن أوفى عن الخلفاء الراشدين لا يصح، وأما الآثار المروية عن عمر وعليٍّ رضي الله عنهما، فهذا قول صحابيٍّ، يقابِل قول صحابةٍ آخرين؛ كابن مسعودٍ وابن عباسٍ ، ومعلومٌ أن قول الصحابي إذا خالفه صحابيٌّ آخر: هل يكون حجةً؟ لا يكون حجةً بالإجماع، إنما قول الصحابي إذا لم يخالفه صحابيٌّ آخر: هل يكون حجةً أو لا؟ هذا هو محل الخلاف.
فما هو القول الراجح في قول الصحابي إذا لم يخالفه صحابيٌّ آخر؟
نعم، ما الدليل؟ إذا قلنا: حجةٌ؛ اعتبرناه من مصادر التشريع.
على كل حالٍ: المسألة خلافيةٌ، ومذكورةٌ في كتب أصول الفقه، ولكن الذي عليه جمهور الأصوليين، وهو القول الراجح: أنه إذا لم يَشتهِر؛ فلا يكون حجةً، أما إذا اشتهر، ولم يخالفه صحابيٌّ آخر؛ فهذا يكون إجماعًا سكوتيًّا، ويكون حجةً، لكن إذا لم يشتهر؛ فلا يكون حجةً، كيف نعتبره من مصادر التشريع بدون دليلٍ؟! ما من دليلٍ يدل على هذا؛ لأنك إذا قلت: حجةٌ؛ اعتبرته من مصادر التشريع، وقد يكون بعض الصحابة لهم اجتهاداتٌ ولا يُنقل عن غيرهم خلافٌ، فيبقى أنه ليس في منزلة الكتاب والسنة والإجماع، فلا يكون حجةً إلا إذا اشتهر، إذا اشتهر ولم يُعرف له مخالفٌ؛ فهذا يكون حجةً، ليس لأنه قول صحابيٍّ وإنما لأنه إجماعٌ سكوتيٌّ.
وهذه المسألة منفصلةٌ عن فضل الصحابةِ، وعظيمِ عِلمهم، وهم أعرف الناس بالنصوص، وبمراد النبي عليه الصلاة والسلام، هذا شيءٌ ليس محل بحثٍ، هذا متفقٌ عليه.
الكلام في اعتبار قول الصحابي من مصادر التشريع، هذه المسألة مبسوطةٌ في كتب أصول الفقه، لكن أحببت أن أثير الخلاف فيها؛ حتى تتوسعوا فيها أكثر، لكن الأظهر والله أعلم: أن قول الصحابي إذا خالفه صحابيٌّ آخر؛ فهذا لا يكون حجةً بالإجماع، وإذا لم يخالفه صحابيٌّ آخر ففيه تفصيل:
- فإن كان اشتهر فهو حجةٌ؛ لأنه يعتبر إجماعًا سكوتيًّا.
- وإن كان لم يشتهر فليس بحجةٍ على القول الراجح، وهو قول أكثر الأصوليين.
وأما ما استدلوا به من قياس النكاح على الإجارة: فقياسٌ مع الفارق؛ للفارق الكبير ما بين النكاح والإجارة.
هذه المسألة تقع كثيرًا: رجلٌ يعقد على امرأةٍ ثم يخلو بها -غالبًا في بيت أهلها- ثم يطلقها، هل يكون لها المهر كاملًا؟ هل عليها عدةٌ؟ فعلى القول الراجح: أنه ليس عليها عدةٌ، وأن لها نصف المهر، لكن حكم الحاكم يرفع الخلاف، فالذي عليه القضاء عندنا في المملكة، والذي أيضًا اعتمدَتْه المدونة القضائية -مدونة الأحوال الشخصية- هو مذهب الحنابلة، وهو: أنه يأخذ حكم الدخول؛ فيكون لها المهر كاملًا، وعليها العدة.
فإذا رأى ولي الأمر، اختار قولًا، أو القاضي، الحاكم؛ فحُكم الحاكم يرفع الخلاف.
أحببت فقط أن أشير لهذه المسألة؛ لأن بعض الناس قد يستشكل مع الواقع، فالواقع كما ذكرنا: المسألة هذه نحن ندرسها من ناحيةٍ نظريةٍ: أن الراجح مِن حيث الدليل: أن الخلوة لا تأخذ حكم الدخول، لكن واقعًا الآن: الذي يَحكم به القضاة هو المذهب الحنبلي، وهو: أنها تأخذ حكم الدخول، وهو المنصوص عليه الآن في مدونة الأحوال الشخصية التي يعمل بها القضاة الآن.
طالب:…
الشيخ: إي نعم، لا بد من الوطء، لا بد، بدون وطءٍ لا، كما قال أصحاب هذا القول: المسيس بلغة العرب: هو الوطء، كيف نعتبر الخلوة تأخذ حكم المسيس؟! ما الدليل لهذا؟ ما الدليل؟ ما من دليلٍ لا من القرآن، ولا من السنة، ولا من لغة العرب، لكن اعتمدوا على بعض الآثار: أن هذا قول الخلفاء الراشدين؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين.. [6].
لكن هذا لم يثبت، لو ثبت عن الخلفاء الراشدين لربما يستدل بهذا الحديث، ويقال: إنه حجةٌ، لكنه ضعيفٌ، أثر زرارة ضعيفٌ؛ فعلى هذا من حيث التحقيق: القول الثاني أرجح: أن الخلوة لا تأخذ حكم الدخول، لكن إذا كانت عند القضاء؛ فحكم الحاكم يرفع الخلاف.
أحكام اختلاف الزوجين في الصداق
عَقَد المؤلف هذا الفصل؛ ليبيِّن أحكام اختلاف الزوجين في الصداق، ومعلومٌ أنه عند الطلاق تحصل النفرة غالبًا، ويحصل الخلاف الشديد في الأمور المالية؛ ولذلك كرَّر الله في سورة الطلاق الأمر بالتقوى، سبحان الله! سورة الطلاق سورةٌ ليست طويلةً؛ يعني في المصحف وجهان، انظر كيف تُكرَّر التقوى فيها: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ [الطلاق:1]، ثم ذكر تعالى ثمرات التقوى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5]، فكرَّر الأمر بالتقوى، وبيان فائدته وثمراته؛ وهذا لأجل حث الزوج والزوجة عند الطلاق على الالتزام بتقوى الله؛ لأنه عند الطلاق يحصل نفرةٌ، وعند عدم تقوى الله يحصل فجورٌ في الخصومة، ويحصل خلافٌ شديدٌ، ويحصل نزاعٌ، لكن عندما يكون عند الزوج والزوجة تقوى لله سبحانه؛ فإنه لا يحصل هذا النزاع ولا الشقاق؛ ولهذا فالزوجان مأموران بتقوى الله تعالى عند الطلاق، ولعل هذا من الحِكم في كثرة تكرار الأمر بالطلاق، وبيان عظيم فائدة التقوى وثمرات التقوى في هذه السورة، في سورة الطلاق.
قال:
وإذا اختلفا.
يعني: الزوجان، أو ورثتُهما، أو زوجٌ وولي صغيرةٍ.
في قَدْرِ الصداق.
في السابق كانت كثيرٌ من زيجات الناس شفهيةً، وهذا يمكن.. كبار السن عندنا زيجاتهم هكذا، هذا الولي يقول: “زوَّجتُكَ”، وهذا يقول: “قَبِلتُ”. فتدوين الزيجات هذا لم يكن موجودًا في عصورٍ سابقةٍ بهذه الصورة التي في وقتنا الحاضر؛ ولذلك لا تستغرِب مثل هذا الطرح لمثل هذه المسائل!
“إذا اختلفا في قدر الصداق”؛ كأن يقول الزوج مثلًا: أربعون، والمرأة تقول: خمسون.
أو جنسِه.
الزوج يقول مثلًا: إنه فضةٌ، والزوجة تقول: ذهبٌ.
أو ما يستقر به.
إن ادَّعت أنه وطئها، وادعى الزوج أنه لم يطأ.
فقول الزوج أو وارثه.
طبعًا، إن كان هناك بينةٌ؛ فالقول قول صاحب البينة، وإن لم يكن هناك بينةٌ؛ فيُرجَّح جانب الزوج؛ لأن الأصل براءة ذمته من القدر المختلف عليه، فمن ادعى هذا القدر فعليه البينة.
فعلى هذا نقول: إن القول قول صاحب البينة، وإن لم توجد بينةٌ؛ فيقدم قول من معه الأصل، وهو الزوج، إلا إذا وُجد أمرٌ ظاهرٌ يغلب على هذا الأصل؛ فيقدم الظاهر على الأصل.
وهذه أيضًا مسألةٌ مبسوطةٌ في كتب الأصول: تقديم الأصل على الظاهر، متى يقدم الأصل على الظاهر، أو الظاهر على الأصل؟ مبسوطةٌ في كتب الأصول.
وفي القبض.
إن اختلفا في القبض، قالت الزوجة: لم أقبض المهر، والزوج قال: لا، بل أقبضتك المهر.
أو تسميةِ المهر.
قال الزوج: لم أُسمِّ المهر، وقالت الزوجة: بل سميته، فهنا يُرجَّح جانب الزوجة إن لم يكن هناك بينةٌ؛ ولهذا قال:
فقولها أو وارثها.
يعني: لأن الأصل معها، وهو عدم القبض، فإن لم يوجد بينةٌ؛ ننتقل للأصل، الأصل عدم القبض.
وإن تزوجها بعقدين على صداقين سرًّا وعلانيةً؛ أُخذ بالزائد.
هذا رجلٌ تزوج امرأةً بعقدين: عقدٍ في السر، وعقدٍ في العلانية، ومهر السر مختلفٌ عن مهر العلانية، فيقول المؤلف: إنه يؤخذ بالزائد، لماذا؟ لأنه إذا كان السر أكثر؛ فقد وجب بالعقد، وإن كان العلانية أكثر؛ فقد بَذَل لها الزائد، فلزمه الزائد.
هدية الزوج ليست من المهر
وهدية الزوج ليست من المهر.
يعني: هذه مسألةٌ يكثر السؤال عنها؛ الزوج أحيانًا عندما يعطي المرأةَ المهر؛ يعطيها هدايا، أو يعطيها ما يسمى (الشَّبْكة)، هدايا في الشبكة التي تكون بعد العقد.
طيب، هل هذه الهدايا المصاحِبة للمهر، عند الطلاق تُرَد للزوج أو لا ترد؟ فيقول المؤلف: إن هدية الزوج ليست من المهر.
والفرق بين هدية الزوج والمهر يُحدِّده العرف، فعندنا مثلًا في الوقت الحاضر: المهر هو الذي يُسجَّل في العقد، وما عداه يعتبر هديةً.
وانتقل المؤلف للكلام عن أحكام الهدايا التي تكون مع المهر، قال:
فما قبل العقد إن وعدوه ولم يَفُوا؛ رُجِع بها.
يعني: هذا رجلٌ خطب امرأةً وأهداها هدايا قبل العقد، ثم طلقها، طبعًا يكون لها نصف المهر، وماذا عن الهدايا؟ إن كانوا قد وعدوه بالزواج، وأهدى المرأة الهدايا بناءً على وعدهم؛ فتُرد جميع الهدايا للزوج، لماذا؟ لأنها هديةٌ مشروطةٌ، هو إنما أهداها ليتزوج بهذه المرأة.
وتُرد الهدية في كل فُرقةٍ اختياريةٍ مسقطةٍ للمهر.
يعني: تُرد للزوج الهدية في كلِّ فُرقةٍ مسقطةٍ للمهر؛ يعني: الفرقة التي لا تستحق المرأة المهر معها، كما لو فُسِخ عقد النكاح، فسخ العقد ورُد المهر كاملًا.
وتثبت كلها مع مُقرِّرٍ له أو لنصفه.
إذا استقرَّ المهر بالدخول؛ فتثبت، أو بالموت، تثبت الهدية للزوجة، وكذا مع تنصيف المهر تكون الهدية للزوج، وإنما ترد الهدية إذا رد كامل المهر.
طيب، هذا رجلٌ عقد على امرأةٍ، وبعد العقد حصل بينه وبينها خلافٌ فطلقها؛ فالواجب: يُرد عليه ماذا؟ نصف المهر، طيب ماذا عن الهدايا؟ تُرد أو لا ترد؟ لا ترد، الهدايا هدايا للمرأة قُبضت.
طيب، هذا رجلٌ عقد على امرأةٍ ثم فسخ العقد فسخًا بسبب مثلًا عيبٍ في المرأة لم يخبروه به ثم اكتشفه، فنقول: كيف يكون التعامل مع المهر؟ يُرد كاملًا للزوج. طيب، وماذا عن الهدايا؟ ترد أيضًا الهدايا، ترد الهدايا، إذا رُد المهر كاملًا؛ تُرد معه الهدايا، وإذا لم يُرد المهر كاملًا، رُدَّ نصفه أو أنه استقر، فلا تُرد الهدايا، فهذه هي القاعدة في هذا الباب.
من تزوجت بلا مهرٍ أو بمهرٍ فاسدٍ
قال:
ولمن زُوِّجت بلا مهرٍ.
انتقل المؤلف للكلام عن التفويضِ، والتفويضُ على ضربين:
- تفويض البُضع، يعني الفَرْج، ومعنى ذلك: أن يُزوِّج الرجل ابنته البكر، أو تأذن لوليها بأن يزوجها بلا مهرٍ، فكأن الولي فوَّض إلى الزوج بُضع هذه المرأة، فهذا العقد عقدٌ صحيحٌ، ولها مهر المثل؛ لقول الله تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236].
- والنوع الثاني: تفويض المهر: أن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبيٌّ، فأيضًا هذا صحيحٌ، والفرق بين تفويض البُضع والمهر: أن تفويض البضع لا يُذكر فيه المهر أصلًا، بينما تفويض المهر فيُذكر، لكن من غير تعيينٍ، ففي الحالتين يكون للزوجة مهر المثل.
“ولمن زُوِّجت بلا مهر” يعني: يشمل النوعين.
أو بمهرٍ فاسدٍ.
كأن يكون خمرًا أو خنزيرًا.
فُرض مهر مثلها عند الحاكم.
جميع هذه المسائل للزوجة مهر المثل، لكن مَن الذي يفرض مهر المثل؟ الحاكم، القاضي، فيُنظر إلى مهر مَثيلاتها، المهر المستقر في البلد كم؟ ويطالب الزوج بمهر المثل.
فإن تراضيا فيما بينهما ولو على قليلٍ؛ صح.
إن تراضيا؛ صحَّ ذلك، ولا يلزم أن يكون مهرَ المثل، سواءٌ كان قليلًا أو كثيرًا؛ لقول الله تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ [النساء:24].
فإن حصلت لها فرقةٌ مُنصِّفةٌ للصداق قبل فرضه؛ وجبت لها المتعة.
هذا رجلٌ عقد على امرأةٍ ولم يُسَمِّ لها مهرًا، ثم طلقها، يعني قال: “زوَّجتُكَ”، قال: “قبلتُ”، لكن ما سمَّيا مهرًا، المهر كم؟ ما ذُكر، فما الحكم؟ الحكم مذكورٌ في قول الله تعالى، مَن يذكر لنا الآية؟ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ [البقرة:236].
عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236].
فهنا تجب المتعة لها إذا طُلِّقت قبل الدخول ولم يُسَمَّ لها المهر، تجب لها المتعة بنص الآية: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].
أما إذا كان الطلاق بعد الدخول، فهل تجب المتعة أو لا تجب؟
رجلٌ دخل بامرأةٍ أو مثلًا بقيت عنده سنين ثم طلقها، فهل تجب لها المتعة أو لا تجب؟ لا تجب، وإنما تستحب عند الجمهور، وذهب الإمام ابن تيمية إلى وجوب المتعة لكل مطلقةٍ؛ واستدل بقول الله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، وقول ابن تيمية قولٌ قويٌّ، ولكن الذي عليه أكثر الفقهاء: أن المرأة بعد الدخول تستحب لها المتعة ولا تجب.
قبل الدخول تجب أو لا تجب، أو فيه تفصيلٌ؟ نحن قلنا: بعد الدخول لا تجب المتعة، وإنما تستحب عند الجمهور طبعًا.
قبل الدخول تجب أو لا تجب؟
الطالب:…
أحسنت، إذا سُمِّي المهر؛ تستحب المتعة؛ لأن لها أصلًا نصفَ المهر، وإذا لم يُسَمَّ المهر؛ تجب لها المتعة.
فإذنْ، لو وضعنا سؤالًا: ما حكم المتعة للمطلقة؟
الجواب: لا يخلو إما أن يكون دخل بها، أو لا يكون دخل، فإن طلقها بعد الدخول؛ فلا تجب المتعة عند الجمهور، وإنما تستحب، إن طلقها قبل الدخول ننظر؛ إن كان قد سمَّى لها المهر؛ فلا تجب المتعة، وإنما لها نصف الصداق، وإن كان لم يُسَمِّ لها مهرًا فتجب لها المتعة.
انتبه! اضبط هذه المسألة.
فإذنْ، إنما المتعة تجب في حالةٍ واحدةٍ: إذا طلقها قبل الدخول ولم يُسمِّ لها مهرًا؛ ولذلك فالله تعالى فرَّق بين الحالتين؛ قال في التي لم يُسمَّ لها مهرٌ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ [البقرة:236]، بينما قال في التي سُمِّي لها مهرٌ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237]، ولم يذكر المتعة.
لكن ابن تيمية ومَن وافقه قالوا: إن الله تعالى قال في آيةٍ أخرى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا [البقرة:241]، فقال: إن هذا يقتضي الوجوب، لكن جمهور العلماء على أنه مستحبٌّ وليس واجبًا، وقول ابن تيمية قولٌ قويٌّ.
طيب، ما هي المتعة؟
قال المؤلف:
أعلاها: خادمٌ، وأدناها: كسوةٌ تجزئها في صلاتها إذا كان معسرًا.
هذا رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، يعني “خادم”: يقصد جاريةً تخدمها، والآن انقرض الرِّق، وأقلها كسوةٌ.
والقول الثاني: أن المرجع في ذلك للعرف، وأن هذا أيضًا بحسب حال الزوج؛ لقول الله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]، وأنه ليس لذلك قدرٌ محددٌ، وإنما نقول للزوج: متِّع هذه المرأة بما تجود به نفسك، لكن إذا كنت موسرًا؛ فينبغي أن تكون المتعة كبيرةً، وإذا كنت معسرًا، أو أمورك ليست ميسورةً؛ فتكون بحسب حالك: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236].
لا مهر في النكاح الفاسد إلا بالخلوة أو الوطء
ثم قال المصنف رحمه الله:
ولا مهر في النكاح الفاسد إلا بالخلوة أو الوطء.
النكاح الفاسد هو غير المجمع على فساده، مثل ماذا؟ يعني: نكاحٌ مختلَفٌ فيه، مثل النكاح بلا وليٍّ، فاسدٌ عند الجمهور، أو باطلٌ عند الجمهور، وصحيحٌ عند الحنفية، فهذا يسمى نكاحًا فاسدًا؛ فلو أن امرأةً مثلًا تزوَّجت بغير وليٍّ، ثم بعد ذلك طُلِّقت، فيقول المؤلف: “لا مهر في النكاح الفاسد إلا بالخلوة أو الوطء”، يعني: لا يستقر المهر إلا بالخلوة أو الوطء، والخلوة على الخلاف الذي ذكرنا.
فإن حصل أحدهما؛ استقر المهر إن كان، وإلا فمهر المثل.
يعني: أن النكاح الفاسد كالنكاح الصحيح؛ يحصل استقرار المهر المسمى بحصول الخلوة أو الوطء، وإن لم يكن قد سُمِّي لها؛ استحقت مهر المثل.
فإذنْ: النكاح الفاسد -على رأي المؤلف- كالصحيح كما سبق.
لا مهر في النكاح الباطل إلا بالوطء في القُبُل
أما الباطل، قال:
ولا مهر في النكاح الباطل.
الباطل هو المُجمَع على بطلانه؛ كالزواج من خامسةٍ، أو الزواج من معتدةٍ، أو من أخت زوجته وزوجتُه في عصمته.
فهذا يسمى نكاحًا باطلًا، فيُفرِّقون بين الفاسد والباطل: الباطل مجمعٌ على بطلانه، الفاسد مختلفٌ فيه.
قال: “ولا مهر في النكاح الباطل”.
إلا بالوطء في القُبُل.
يعني: إذا تزوَّج زواجًا باطلًا؛ لم يجب المهر إلا بالوطء في القُبُل.
مهر الموطوءة بشبهةٍ
وكذا الموطوءة بشبهةٍ.
أيضًا؛ يعني هذه لها مهر المثل، إذا وَطِئ في نكاحٍ باطلٍ؛ فلها مهر المثل، وكذلك أيضًا الموطوءة بشبهةٍ لها مهر المثل؛ الموطوءة بشبهةٍ؛ كأن يطأ امرأةً يظنها زوجته ثم تبين أنها ليست بزوجته، أو أنه يطأ امرأةً ثم يتبين أنها أخته من الرضاع؛ فلها مهر المثل.
مهر المكرهة على الزنا
والمكرهةُ على الزنا، لا المطاوِعةُ، ما لم تكن أَمَةً.
يعني أيضًا ممن تستحق مهر المثل: المكرهة على الزنا؛ لأنه وطئها كوطء زوجته، أما المُطاوِعة في الزنا؛ فليس لها شيءٌ؛ لأنها رضيت بذلك، بشرط ألا تكون أَمَةً، أما إذا كانت أمةً؛ وجب لسيدها مهر المثل.
والقول الثاني: أن المزني بها لا مهر لها، سواءٌ أكانت مكرهةً أو مطاوِعةً، وهذا هو القول الراجح؛ لأن الله تعالى إنما أوجب في الزنا حدًّا معلومًا فلا يزاد عليه، ولا يصح قياس الوطء المُحرَّم على الوطء الحلال؛ للفارق بينهما.
أما كونه قد وطئها، وطئ المرأة المزني بها، حتى وإن كانت مكرهةً؛ فلها أرشُ البكارة -إن كانت بكرًا- مقابل التعدي والإتلاف، وهذا هو القول الراجح.
إذنْ الراجح: أن المزني بها لا مهر لها مطلقًا، سواءٌ كانت مطاوِعةً أو مكرهةً، وأما عقوبة الزاني فهذا شيءٌ آخر.
يتعدد المهر بتعدد الشبهة والإكراه
ويتعدد المهر بتعدد الشبهة.
يعني: كلما تعددت الشبهة؛ تعدد المهر؛ هذه مسألةٌ مفترضةٌ، يقولون: كما لو وطئ الرجل امرأةً أجنبيةً يظنها زوجته فاطمة، ثم وطئها مرةً أخرى ظانًّا أنها زوجته عائشة؛ فيلزمه مهران، يلزمه مهران، طبعًا هذه مسألةٌ مفترضةٌ.
والإكراه.
يعني: يتعدد المهر بتعدد الإكراه على الزنا، وسبق أن ذكرنا أن أصلًا المزني بها لا مهر لها مطلقًا.
وعلى من أزال بكارة أجنبيةٍ بلا وطءٍ أرش البكارة.
يعني: يجب على من تسبب في إزالة البكارة لامرأةٍ ليست زوجةً له من غير وطءٍ أن يضمن أرش التعدي على البكارة، وهو الفرق ما بين مهرها ثيبًا وبكرًا.
مثال ذلك: ممرضةٌ مثلًا أو طبيبةٌ أرادت أن تفحص امرأةً، فتسببت في إزالة بكارتها؛ فعليها الأرش، وهو الفرق ما بين مهرها ثيبًا وبكرًا.
وإن أزالها الزوج ثم طلق قبل الدخول؛ لم يكن عليه إلا نصف المسمى إن كان، وإلا فالمتعة.
إذا كان الذي أزال البكارة الزوج، طبعًا بلا وطءٍ، ثم طلق زوجته قبل الدخول؛ هنا لها نصف المهر كما سبق، وإن لم يكن قد سمَّى المهر؛ فلها المتعة، يعني: أنه ليس عليه شيءٌ بسبب إزالة بكارة زوجته بغير الوطء.
طيب، لماذا فرَّقنا بين الزوج وغيره؟ لأن الزوج مأذونٌ له أصلًا بإزالة البكارة، وله أن يستمتع بزوجته، بينما غير الزوج ليس له ذلك.
فالزوج إذنْ إذا أزال بكارة زوجته بغير الوطء فليس عليه شيءٌ، وأما غير الزوج فهو الذي عليه الأرش.
لا يصح تزويج مَن نكاحُها فاسدٌ قبل الفرقة
ولا يصح تزويج مَن نكاحُها فاسدٌ قبل الفرقة.
يعني: هذه امرأةٌ مثلًا تزوجت بغير وليٍّ؛ نكاحها فاسدٌ، ولا يصح تزويجها من رجلٍ آخر قبل أن تفارق الزوج الأول بطلاقٍ أو فسخٍ، حتى وإن قلنا: إنه نكاحٌ فاسدٌ؛ لأنه نكاحٌ يسوغ فيه الاجتهاد، فاحتاج إلى فُرقةٍ، وهذا بخلاف النكاح الباطل، فلا يحتاج إلى فرقةٍ.
يعني: رجلٌ تزوج بامرأةٍ معتدةٍ، فنقول: نكاحه باطلٌ، طيب هل يجب على المرأة عدةٌ؟ لا يجب، ولها أن تتزوج مباشرةً.
رجلٌ تزوج امرأةً بغير وليٍّ ثم طلقها، هل عليها عدةٌ؟ نعم، عليها عدةٌ، لماذا فرقنا بين المسألتين؟ لأن النكاح الأول باطلٌ، والثاني فاسدٌ.
فإنْ أباها الزوجُ؛ فَسَخه الحاكم.
يعني: هذا رجلٌ تزوج امرأةً بلا وليٍّ، وقال: أنا على مذهب أبي حنيفة النعمان، أنا على مذهب الحنفية؛ رُفع أمره للقاضي، قال القاضي: قول الحنفية ضعيفٌ، وهذا الزواج فاسدٌ، فأمره بالطلاق فأبى، فما الحكم؟ يفسخ القاضي العقد؛ ولهذا قال: “فسخه الحاكم”.
والنكاحُ بلا وليٍّ، القولُ بصحته قولٌ ضعيفٌ؛ ولذلك حتى أبو يوسف ومحمد بن الحسن لا يقولان به، إنما رُوي فقط عن أبي حنيفة؛ ولذلك فكثيرٌ من الحنفية لا يأخذون بهذا القول؛ لأنه قولٌ ضعيفٌ تترتب عليه مفاسد أيضًا، كلما أراد رجلٌ أن يزني بامرأةٍ؛ يعقد عليها، تقول: زوجتك نفسي، ويقول: قبلت، فتترتب عليه مفاسد عظيمةٌ، فهو قولٌ ضعيفٌ، لكنه يبقى قولًا؛ ولذلك يكون النكاح فاسدًا ولا يكون باطلًا.
ونقف عند باب الوليمة وآداب النكاح.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآن نجيب عما تيسَّر من الأسئلة:
نبدأ أولًا بالأسئلة المكتوبة:
الأسئلة
السؤال: نحن في جامعةٍ خارج المملكة، يوجد فيها مصلًّى، وبعض الطلاب لا يصلي مع الجماعة في المصلى، بحجة أنه ليس مسجدًا؟
ج: إذا كان هناك مسجدٌ قريبٌ؛ فينبغي الصلاة في المسجد القريب، أما إذا لم يكن المسجد قريبًا، أو يحتاج إلى الخروج من الجامعة فيصلون في المصلى؛ لأن وجوب الصلاة في المسجد أدنى من وجوب الصلاة في جماعةٍ.
فوجوب الصلاة في المسجد هي واجبةٌ، إذا لم يكن هناك سببٌ لصلاتها خارج المسجد، أما إذا وُجد سببٌ؛ كوجود مصلحةٍ مثلًا راجحةٍ، أو وجود عذرٍ أو نحو ذلك، فلا بأس أن يصلوا جماعةً خارج المسجد؛ كصلاة الطلاب في المدارس، وصلاة الموظفين في مقارِّ العمل، ونحو ذلك، فلا يُشدَّد في هذه المسألة، بخلاف الصلاة مع الجماعة؛ فالصلاة مع الجماعة أشدُّ وجوبًا من وجوبها في المسجد.
فعلى هذا نقول للأخ السائل: إذا كان المسجد قريبًا؛ ينبغي أن تصلوا في المسجد، أما إذا كان المسجد ليس قريبًا؛ فلا بأس أن تصلوا جماعةً داخل الجامعة.
س: ما حكم جَمْع الصلاة لغير عذرٍ، والاستدلال بحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما؟
ج: جمع الصلاة من غير عذرٍ لا يجوز، ومعدودٌ من الكبائر، وشرط الوقت هو آكد شروط الصلاة، قد يسقط كثيرٌ من شروط وأركان وواجبات الصلاة مراعاةً لشرط الوقت، والله تعالى يقول: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
وهذا الأصل أصلٌ مُحكَم، وجوب الصلاة في وقتها أصلٌ مُحكَمٌ، وكون شرط الوقت آكد شروط الصلاة هذا متفقٌ عليه بين أهل العلم، وأما حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوفٍ ولا سفرٍ، وسئل ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن ذلك؟ قال: “أراد ألا يُحرج أمته” [7]، هذا الحديث رواه مسلمٌ، ولكن هذا الحديث نقل الترمذي إجماع الأمة على ترك العمل بظاهره، فأجمع العلماء على ترك العمل بظاهره، قيل: إن ابن عباسٍ رضي الله عنهما كان صغيرًا، وإن هناك عذرًا خفي على ابن عباسٍ رضي الله عنهما؛ قيل: كان هناك وباءٌ في المدينة، وقيل: كان هناك مطرٌ، ذكره مالكٌ وأيوب، وقيل: إن النبي جَمَع جمعًا صوريًّا؛ أخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر لأول وقتها، وأخر المغرب لآخر وقتها، وقدم العشاء لأول وقتها، وهذا قد جاء في روايةٍ عند النسائي [8]، وقيل غير ذلك.
ويبقى هذا الحديث مشتبهًا، والقاعدة عند الراسخين من أهل العلم: رد المتشابه للمحكم، فالنصوص الكثيرة المتضافرة من الكتاب والسنة تدل على وجوب أداء الصلاة في وقتها، وحديثُ ابن عباسٍ غاية ما يقال عنه أنه متشابهٌ؛ فلا يؤخذ بحديثٍ واحدٍ متشابهٍ وتترك بقية النصوص، هذه ليست من طريقة أهل العلم، وإنما ذكره الله تعالى من طريقة أهل الزيغ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، فيُرد حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما للنصوص الأخرى التي تدل على وجوب أداء الصلاة في وقتها؛ ولهذا لا يجوز الجمع بين الصلاتين من غير عذرٍ، بل إن الجمع بين الصلاتين من غير عذرٍ، معدودٌ من كبائر الذنوب؛ فالله تعالى يقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، جاء عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما في تفسيرها: يعني الذين يؤخرونها عن وقتها، يعني: يؤخرونها عن وقتها ويجمعونها من غير عذرٍ.
هناك تساهلٌ -الحقيقة- في الجمع من بعض أئمة المساجد، حتى إنه بلغني أن أحد أئمة المساجد هنا في الرياض جمع لأجل البرد.
وهذا عجيبٌ! البرد الذي يصيبنا الآن كان يصيب الناس في عهد النبي عليه الصلاة والسلام مثله أو أشد، وكان الناس ليس عندهم إلا.. أكثر الصحابة ليس لهم إلا ثوبٌ واحدٌ، قال جابرٌ : أيُّنا كان له ثوبان على عهد النبي ؟! [9]، ولم ينقل عن النبي -ولو في حديثٍ ضعيفٍ- أنه جَمَع لأجل البرد.
والبرد يمكن التغلبُ عليه بالتدفئة ولبس الملابس الثقيلة، فهذا من أعجب العجب! أن بعض الناس يتساهل في الجمع، وليس في الأمر نفسه، بل فيما يتعلق بالناس.
فإذنْ لا بد من وجود سببٍ ظاهرٍ يقتضي الجمع، وإلا نبقى على الأصل: وهو وجوب أداء الصلاة في وقتها.
مداخلة:…
الشيخ: يعيد الصلاة الثانية التي قدَّمها.
السؤال: إذا دخلتُ الصلاة والإمام في الركعة الثانية، هل يُشرَع لي أن أصلي على النبي وأدعو بالمأثور في التشهد الأخير، بالنسبة للإمام وليس الأخير بالنسبة لي؟
الجواب يعني هذا سؤالٌ جيدٌ، دخلت مع الإمام في الركعة الثانية، وجلست معه في التشهد الأخير، وهو بالنسبة لك لا يعتبر التشهد الأخير، فهنا يشرع لك أن تأتي بالتشهد، وكذلك الصلاة على النبي ، لكن هل يشرع لك الدعاء مع الإمام؟ الجواب: نعم؛ لأنك مطلوبٌ منك متابعة الإمام في الأفعال، فكيف بالأقوال!
فتُتابع الإمام، وتفعل كما يفعل الإمام تمامًا، ثم إذا سلَّم الإمام؛ تقوم وتقضي ما فاتك.
السؤال:…
الجواب: لا، لا يسكت، يفعل كما يفعل الإمام.
السؤال: هل من الممكن أن يخاصم الرجل الرجل ولا يكون في قلبه غلٌّ عليه؟
الجواب: هذا ممكنٌ، لكن الخصومة مظِنةٌ لوجود الشيء في القلب، والمسلم ينبغي له أن يبتعد عن الجدل وعن الخصومات، وعن أيضًا التعامل مع الطبقات غير المحترمة، وإنما يُعرِض عنها في المجتمع، يوجد طبقاتٌ غير محترمةٍ، فإذا خاطبوك؛ فقل: سلامٌ، أَعرِض عنهم، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، فقد يكون إنسانٌ من طبقةٍ غير محترمةٍ، يخطئ عليك بكلامٍ، بتصرفٍ، فهنا ينبغي لك أن تُعرِض عنه، فلا تقابل السيئة بمثلها، وإنما تعرض عنه، أو تدفع بالتي هي أحسن.
السؤال: إذا أراد المسافر أن يصلي صلاة العشاء مع جماعةٍ مقيمةٍ تصلي المغرب، فهل يُتِم صلاته أو يقصر؟
الجواب: هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء، والقول الراجح أنه يقصر؛ لأن صلاة المغرب ليست رباعيةً، فليست مما يُقصَر، وإنما هي ثلاثيةٌ، فإذا صلى العشاء معهم ركعتين؛ أتم لنفسه وسلَّم.
مداخلة:…
الشيخ: إذا أتى والإمام في الركعة الثانية، يسلم مع الإمام.
السؤال: سهوت في صلاة الجماعة عصرًا أثناء التشهد الأول، ولم أسجد سجود السهو، فهل عليَّ شيءٌ؟
الجواب: كان الواجب أن تسجد سجود السهو، وأيضًا الجماعة من خلفك كان ينبغي أن ينبهوك لهذا، لكن إذا نسيت سجود السهو ومضى على ذلك مدةٌ؛ فإنه يسقط عنك سجود السهو، والصلاة صحيحةٌ عند جمهور العلماء.
السؤال: ما حكم الصلاة خلف الشخص الكذاب؟
الجواب: الصلاة خلف الفاسق عمومًا صلاة صحيحةٌ؛ لأنها صلاةٌ مكتملة الأركان والشروط والواجبات، لكن ينبغي ألا يؤم الناسَ الفاسقُ، لكن إذا أمهم، وكان هو الإمام الراتب؛ فمذهب السلف أنهم كانوا يصلون خلف الأئمة الفسقة، وكان الصحابة يصلون خلف الحجاج، ومعلومٌ أمر الحجاج وجرأته على الدماء، وابن مسعودٍ ومن معه صلوا خلف الوليد بن عقبة وكان يشرب الخمر، وذات مرةٍ صلى بهم صلاة الفجر ثم سلم وقال: هل أزيدكم؟ وهو سكران.
فكان الصحابة يصلون خلف الفُساق، فهذا الكذاب غاية ما يوصف به: الفسق، وتصح الصلاة خلفه.
السؤال: ماذا يفعل من أراد أن يطلب العلم ولا يجد علماء في بلده يطلب عليهم العلم؟
الجواب: الحمد لله، الآن في وقتنا الحاضر أصبحت وسائل التقنية الحديثة تنقل لك الدروس، تنقلها على الهواء مباشرةً، ومسجلةً أيضًا، ومُفرَّغة، وفي الكتب، فأصبح تحصيل العلم ميسورًا، بإمكانك أن تتتلمذ على أي عالمٍ تريد عبر وسائل التقنية الحديثة.
فنقول للأخ الكريم: إذا لم تجد علماء في بلدك، فبإمكانك أن تتتلمذ على علماء مِن بلدانٍ أخرى، لكن لا بد من أن يكونوا من العلماء الثقات المعروفين بالصلاح والاستقامة، وسلامة العقيدة، وسلامة منهجهم وطريقتهم، فإذا كانوا مِن هؤلاء، كانوا علماء معروفين؛ فيمكن أن تتتلمذ عليهم وعلى دروسهم عن بُعدٍ، وهذا من الوجوه المشرقة لوسائل التقنية الحديثة.
السؤال: شخصٌ يضارب في سوق الأسهم ستة أشهرٍ، ثم يدخل بكامل سيولته في الشهر التاسع الميلادي، فيبيع في شهر 3 من السنة القادمة، ويقول: في هذه الفترة تدفع الشركات زكاة أسهمي؛ وبالتالي لا تجب عليه الزكاة؟
الجواب: إذا كان يضارب في الستة الأشهر الأولى، ثم بعد ذلك يبيع في شهر 3 من السنة القادمة؛ يعني هل يعتبر مضاربًا؛ فتجب عليه الزكاة، أو يعتبر مستثمرًا؛ فتكفي زكاة الشركة عنه؟
هذا مُحتمِلٌ للأمرين؛ لأن هذا الرجل الآن لم يتضح كونه مضاربًا؛ لأنه بعد ستة أشهرٍ يتوقف عن المضاربة، ولم يتضح كونه مستثمرًا، وأيضًا لأن جزءًا من المدة يمضي في المضاربة، فهو بينهما: بين المضاربة وبين الاستثمار، فيحتمل الأمرين؛ ولذلك فالأحوط: أن يزكي.
وهذه من المسائل المشكلة في زكاة الأسهم، وهي من المسائل المشكلة في باب الزكاة، بالنسبة لحال هذا الرجل: لو بقيت الأسهم عنده سنةً كاملةً؛ فهو مستثمرٌ، تكفي زكاة الشركة عنه، ولو كان يضارب أكثر السنة؛ فهو مضاربٌ يجب عليه الزكاة.
لكن حال هذا الرجل بين الاستثمار وبين المضاربة، فهو يحتمل الأمرين؛ ولذلك فالأحوط: أن يزكي على سبيل الاحتياط.
السؤال: والدتي تستعمل حبوبًا نفسيةً، ومر عليها أربعة رمضاناتٍ ولم تستطع الصوم؟
الجواب: تطعم عن كل يومٍ مسكينًا عن الأشهر الماضية، وينبغي المبادرة بالإطعام؛ كونها يذهب عليها أربع رمضاناتٍ ولم تصم ولم تطعم؛ فهذا تفريطٌ، فينبغي عليكم المبادرة بدفع الفدية عن كل يومٍ مسكينًا عن جميع الأيام التي أفطرتها.
السؤال: ما ضابط اشتهار قول الصحابي؟
الجواب: نحن ذكرنا أن قول الصحابي إذا خالف صحابيًّا آخر؛ لا يكون حجةً، إذا قال الصحابي قولًا، ولم يخالفه صحابيٌّ آخر؛ فإن لم يشتهر؛ فلا يكون حجةً على القول الراجح، أما إذا اشتهر قول الصحابي؛ فيكون إجماعًا سكوتيًّا؛ فيكون حجةً.
ضابط الاشتهار: هو القرائن الدالة على الاشتهار؛ كأن يخطب مثلًا خطبةً ويذكر فيها رأيه، هذا يعتبر مشتهرًا، كأن يتكلم بحضرة الناس ويشيع قوله؛ فيكون مشتهرًا، لكن إذا نُقل ذلك عن صحابيٍّ وليس بحضرة الناس، وليس على منبرٍ؛ فلا يكون مشتهرًا؛ كأن يتناقل الصحابة قوله، أو يتناقل العلماء قوله، ويستفيض ويشتهر.
فإذنْ: المرجع في ذلك للعرف، المرجع في الشهرة هنا للعرف؛ فمثلًا: عمر بن الخطاب لما كان يُعلِّم الناس الاستفتاح بـسبحانك اللهم وبحمدك.. [10]، هذا الحديث المروي في دعاء الاستفتاح: سبحانك اللهم وبحمدك..، في سنده مقالٌ، لكن كون عمر يعلمه الناس على المنبر ويشتهر هذا عند الصحابة ؛ فهذا يكون كالإجماع السكوتي؛ ولهذا فالاستدلال بأثر عمر على هذا الدعاء -دعاء الاستفتاح- أقوى من الاستدلال بالحديث المرفوع؛ فالحديث المرفوع في سنده مقالٌ، لكن هذا قاله عمر على المنبر، واشتهر عند الصحابة؛ فكان كالإجماع السكوتي على مشروعية الإتيان بدعاء الاستفتاح هذا: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك..، هذا مثالٌ للاشتهار.
لكن ما ورد عن بعض الصحابة من أنه كان يأكل البَرَد في نهار رمضان ولا يعتبره مفطرًا؛ لم يشتهر، ولم يُعرَف أيضًا عن غيره خلافٌ، لكنه لم يشتهر هذا القول؛ فلا يكون حجةً.
وهذه مسألةٌ من المسائل الأصولية التي الكلام فيها كثيرٌ، ومطروقةٌ في كتب أصول الفقه، والخلاف فيها أيضًا قويٌّ.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أحمد: 15031، وأبو داود: 2078، والترمذي: 1111. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2133، ومسلم: 1525. |
^3 | رواه الدارقطني في “سننه”: 3718، والبيهقي في “الكبرى”: 14567. |
^4 | رواه البخاري: 2459، ومسلم: 58. |
^5 | رواه البخاري: 5312، ومسلم: 1493. |
^6 | رواه أبو داود: 4607، والترمذي: 2676، وابن ماجه: 42-42، وأحمد: 17144، وقال الترمذي: حسن صحيح. |
^7 | رواه مسلم: 705. |
^8 | رواه النسائي: 587. |
^9 | رواه البخاري: 352 |
^10 | رواه مسلم: 399، موقوفا على عمر ، ورواه مرفوعا أبو داود: 775، والنسائي: 899، وابن ماجه: 804، من حديث أبي سعيد الخدري ، وأبو داود: 776، والترمذي: 243، وابن ماجه: 806، من حديث عائشة رضي الله عنها. |