عناصر المادة
هذا الدرس يُعتبر مجلس علمٍ، والنبي يقول: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنة [1]، فالذي يُتابع مثل هذه الدروس ويحتسب الأجر عند الله هو في عبادةٍ.
كتاب الوصية
ننتقل بعد ذلك إلى “السلسبيل”، وكنا قد وصلنا إلى كتاب “الوصية”، وإن شاء الله ننتهي من هذا الكتاب.
وأما الفرائض فسبق أن خصصنا فيها درسًا، وبقي لمدة فصلٍ دراسيٍّ، وانتهينا منه، وموجودٌ على (اليوتيوب)، وحضر معنا كثيرٌ من الإخوة الحاضرين معنا الآن في الدرس، حضروا معنا هذه الدروس في الفرائض، وكان هناك شرحٌ وتطبيقٌ عمليٌّ على السبورة على قسمة المسائل، وربما أيضًا نُعيدها مرةً أخرى، نعتبرها -يعني- كالدورة.
إذا كان هناك عددٌ يرغبون في درسٍ خاصٍّ بالفرائض يمكن أن نُخصص أيضًا درسًا للفرائض، لكن درس الفرائض يختلف عن غيره بأن القسم التطبيقي منه لا بد أن يكون هناك تفاعلٌ بين مَن يتحدث ومَن يستمع، فالتطبيقات العملية لا بد أن تكون على السبورة، ويكون هناك تفاعلٌ، ويُطلب من الحضور أن يحلوا مسائل؛ لأنه بغير هذه الطريقة ما يستفيد، إذا كان مجرد إلقاءٍ في الفرائض ما يستفيد كثيرًا، فالفرائض مثل الرياضيات الآن، والرياضيات التي يدرسها الطلاب في المدارس إذا لم يأخذ الطالب الأمثلة، ويحلّ بنفسه، ويجمع ويقسم، ما يضبط الرياضيات، هكذا أيضًا الفرائض.
حساب الفرائض لا بد فيه من التطبيق العملي؛ ولذلك نحن شرحناها -كما ذكرتُ- في هذا المسجد قبل سنواتٍ، وإذا كان يوجد عددٌ من الإخوة يرغبون في ذلك يُسجلون أسماءهم عند الإخوة في المكتب العلمي، ويمكن أن نضع درسًا في درس الثلاثاء لمَن يرغب في تدريس الفرائض، لكن في هذا الدرس نحن سننتقل إلى المجلد السابع أو الجزء السابع لـ”السلسبيل” اعتبارًا من الدرس القادم: كتاب “النكاح”، وسنتجاوز كتاب “الفرائض” باعتبار أنه قد سبق شرحه، وأيضًا في النية إعادة شرحه لمَن يرغب.
فسنُكمل -إن شاء الله- في هذا الدرس “الوصية”، والأسبوع القادم -إن شاء الله- ننتقل للجزء السابع: كتاب “النكاح” -إن شاء الله تعالى- وكذلك أيضًا “العتق” تبعٌ للفرائض.
تعريف الوصية
طيب، الوصية معناها اللغوي: هذه المادة مأخوذةٌ من: الواو والصاد والياء والتاء، وَصَّيْتُ، وَوَصَيْتُ الشيء: إذا وصلتُه.
سُميتْ بذلك لأن المُوصِي وصل ما كان له في حياته بعد مماته، فالمُوصِي وصل بعض التَّصرف الذي يفعله في حياته ليستمر بعد مماته.
أما معناها اصطلاحًا فمن أحسن التَّعريفات: الأمر بالتَّصرف بعد الموت، أو التَّبرع بالمال بعده.
إذن الوصية تجمع هذين الأمرين:
- الأمر الأول: الأمر بالتَّصرف بعد الموت، أمرٌ بالتَّصرف، يعني: ليس له علاقةٌ بالمال، بالتَّصرف، فذلك بأن يُوصي المُوصِي بأشياء معينةٍ يطلب تنفيذها بعد وفاته؛ كأن يُوصِي -مثلًا- بأن يُغسله فلانٌ، أو أن يُصلي عليه فلانٌ، أو أن يُوصِي -مثلًا- أولاده بصِلة الرحم، وإقامة الصلاة، أو يُوصِي بتزويج بناته، أو يُوصِي بوصايا معينةٍ، فهذه تدخل في الأمر بالتَّصرف بعد الموت.
- الأمر الثاني: التَّبرع بالمال بعده، وهذا هو المقصود في هذا الباب، أي: أن يُوصي بأن يتبرع بجزءٍ من ماله -كالثلث أو الربع أو الخمس- في وجوه البرِّ -مثلًا- فهذا التَّبرع يُسمى: وصيةً، وهو المقصود في هذا الباب.
إذن الوصية تشمل الأمرين جميعًا؛ تشمل الأمر بالتَّصرف بعد الموت، وتشمل كذلك التَّبرع بالمال بعده.
أما التَّبرع في حال الحياة فيُسمَّى: هبةً، وفي مرض الموت يُسمَّى: عطيةً.
الوصية بهذا المعنى مُجْمَعٌ عليها، وأيضًا ورد ذكرها في القرآن في سورة البقرة في قول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180]، وهذا يدل على تأكدها؛ لأن الله قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا، الخير: هو المال الكثير، الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، الوصية للأقارب، يعني: الأقارب غير الوارثين.
لكن كيف تكون الوصية للوالدين؟ ما المقصود بالآية: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ؟ ما معنى الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ؟ كيف تكون الوصية للوالدين والأقربين؟
طالب: قبل نزول آيات المواريث.
الشيخ: أحسنتَ، هذا كان قبل أن تنزل آيات المواريث، وقبل قول النبي : إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارثٍ [2]، فنزلت الآية قبل ذلك، فَنُسِخَ هذا الحكم بأنه لا وصية لوارثٍ، فلا يجوز أن يُوصي لوالديه إلا أن يكون والداه لا يرثانه، قد يكون أحيانًا هناك مانعٌ من موانع الإرث للوالدين، وإن كانت هذه مسائل نادرةً.
إذن هذه منسوخةٌ بقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا وصية لوارثٍ، وهذا مثالٌ لنسخ السنة للقرآن، وكان بعض العلماء يمنع منه، لكن هذا أمرٌ واقعٌ.
وأما وَالْأَقْرَبِينَ فَنُسِخَ ما يتعلق بالأقارب الوارثين، نُسِخَ بالحديث: لا وصية لوارثٍ، لكن تبقى الآية في الأقارب غير الوارثين.
ولما قسم اللهُ الميراثَ قال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، يُوصِي بها أو دَين، أو يُوصَى بها أو دَين؟
وردتْ الاثنتان جميعًا، ورد: يُوصِي بها أو دَين، ويُوصَى بها أو دَين: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ، أو مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12].
فالوصية مُقدمةٌ على الإرث؛ لأن الله تعالى لما قسم المواريث قال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ.
أيّهما يُقدم: الدَّين أو الوصية؟
الدَّين بالإجماع.
طيب، ما دام أن الدَّين مُقدَّمٌ في الإخراج على الوصية؛ لماذا بدأ الله بالوصية في الذكر فقال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ؟ لماذا لم يقل الله: من بعد دَينٍ أو وصيةٍ؟
طالب: ……….
الشيخ: نعم؛ لأن الغالب على الورثة التَّساهل في إخراج الوصية، فقدَّمها الله تعالى من باب الاهتمام بشأنها؛ ولأن الدَّين له صاحبه الذي يُطالب به، لكن الوصية ما لها أحدٌ يُطالب بها، فيتساهل الورثة في إخراجها، وربما يشقُّ عليهم إخراجها، فقدَّمها الله في الذكر؛ اهتمامًا بشأنها.
وأما من السنة فأحاديث كثيرةٌ، منها: حديث سعد بن أبي وقاصٍ في الصحيحين، قال: “عادني النبي في حجة الوداع من وجعٍ أَشْفَيْتُ منه على الموت” يعني: ظنَّ سعدٌ أنه سيموت من ذلك المرض، فقلتُ: يا رسول الله، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلا ابنةٌ لي واحدةٌ، أفأتصدق بثلثي مالي؟ يعني: أُوصي بثلثي مالي، قال: لا، قلتُ: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، قلتُ: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثيرٌ، إنك أن تَذَرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفَّفون الناس، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ولعلك تُخَلَّف حتى ينتفع بك أقوامٌ، ويُضرَّ بك آخرون [3].
طيب، وقد شفاه الله تعالى، وبقي وانتفع به أقوامٌ، وضُرَّ به آخرون.
مَن الذي انتفع به؟ ومَن الذي ضُرَّ به؟
نعم.
طالب: ………
الشيخ: قاد المسلمين في معركة القادسية، القائد كان سعد بن أبي وقاصٍ ، وضُرَّ به الفرس، فتحقق ما أخبر به النبي .
العجيب أنه بعدما شُفِيَ تزوج أربع زوجاتٍ، ورزقه الله تعالى سبعة عشر ابنًا وتسع بناتٍ، يعني: ثماني بناتٍ مع هذه البنت، وسبعة عشر ابنًا، سبحان الله!
مع أنه في حجة الوداع يقول: “أَشْفَيْتُ منه على الموت”، ظنَّ أنه سيموت، وأراد أن يُوصي، فشفاه الله ، ونفع الله تعالى به المسلمين نفعًا عظيمًا، فقاد المسلمين في معركة القادسية، ورزقه الله تعالى سبعة عشر ابنًا، وثماني بناتٍ مع هذه البنت، يعني: تسع بناتٍ، فسبحان الله! يعني: بدَّل الله تعالى حاله من حالٍ كاد أن يموت فيها، فشفاه الله، وأغناه الله، وقاد المسلمين في معركة القادسية، ورزقه الله تعالى أبناء وبناتٍ كثيرين.
أيضًا حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي قال: ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده [4]، قال ابن عمر: “ما مرَّتْ عليَّ ليلةٌ منذ سمعتُ رسول الله قال ذلك إلا وعندي وصيتي” [5]، وفي لفظٍ: “إلا ووصيتي عندي مكتوبةٌ” [6].
فهنا أرشد النبي إلى كتابة الوصية؛ ولذلك أقول: كثيرٌ من الناس ينوي أن يُوصي، وينوي أن يُوقف أوقافًا، ولكنه بسبب الكسل والتَّواني يتأخر حتى يفجأه الموت، أو يفجأه مرض الموت، فيندم ندمًا عظيمًا، ومَن لم ينفع نفسه وهو حيٌّ، لا ينتظر من ورثته أن ينفعوه بعد مماته.
أذكر أن رجلًا أتى إليَّ، وطلب أن أكتب عقارًا وَقْفًا أو وصيةً، فقلتُ له: لعلك تأتي بصورة صَكِّ العقار حتى نذكر البيانات فيما يُكتب. فوعد أن يأتي بصورة الصَّكِّ، وكل يومٍ: غدًا، وكل يومٍ: غدًا، حتى بغته الموت، ويقول مَن حضر وفاته: إنه كان يريد أن يتكلم ويقول لمَن حوله شيئًا، ولم يستطع. فقلتُ لهم: يغلب على الظنِّ -والله أعلم- أنه يريد أن يقول لكم: إني أريد أن أُوصي، أو أن أُوقف، فارجعوا لفلانٍ سيُخبركم بما أريد، لكن لم يستطع أن يتكلم.
فذهبتُ لأولاده وعزَّيتهم، وكتبتُ لهم خطابًا بأن والدكم كان يريد كذا وكذا وكذا، وهذا غير لازمٍ شرعًا لكم، لكن من البرِّ أن تُنفذوا ذلك، من البرِّ به. فأجمعوا وقتها كلهم على أن يُنفذوا ما أوصى به، ثم بلغني بعد ذلك أنهم تراجعوا، ولم يُنفذوا شيئًا.
فلذلك ينبغي أن يُبادر مَن كان يريد أن يُوصي أو أن يُوقف، يُبادر الآن، وليس غدًا، يُبادر بكتابة وصيته، أو أن يُوقف ما أراد أن يُوقفه.
وبعض الناس يقول: أخشى أني أكتب وصيةً وأحتاج في المستقبل.
أقول: الوصية لا تلزم إلا بالموت، فبإمكانك أن تكتب الوصية الآن، ومتى ما أردتَ أن تلغيها فإنه يجوز لك أن تلغيها، أن تشطبها، أن تُبدل، أن تُعدل عليها؛ لأنها لا تلزم إلا بالموت، فلا يضرك أن تكتب الوصية الآن، اكتب وصيتك الآن، ومتى ما أردتَ أن تشطبها، أو أن تُعدل، أو أن تُبدل، فالأمر لك؛ لأنها لا تلزم إلا بالموت.
طالب: ……..
الشيخ: نعم، سيأتي الكلام عن هذه -إن شاء الله- مجالات الوصية سيأتي الكلام عنها، إن شاء الله.
شروط صحة الوصية
طيب، قال:
تصح الوصية من كل عاقلٍ لم يُعاين الموت.
فلا تصح من المجنون، ولا من الصبي غير المُميز، أما الصبي المُميز فتصح، كما سيأتي.
وقوله: “لم يُعاين الموت” يعني: لم تبلغ روحه الحلقوم، فإن عاين الموت لم تصح وصيته.
قالوا: لأن قوله غير مُعتبرٍ.
ونقل صاحب “منار السبيل” اتِّفاق الفقهاء على ذلك، لكن حكاية الاتفاق هذه محل نظرٍ؛ لأن المسألة خلافيةٌ، فمن العلماء مَن قال: تُقبل الوصية ما دام أن عقله ثابتٌ، ما المانع؟ حتى لو بلغت الروح الحلقوم، ما المانع من قبول وصيته؟ بشرط: أن عقله معه.
وهذا هو القول الراجح: أنها تُقبل، وظاهر السنة يدل لذلك، كما في قول النبي لما سُئل: أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تُمهل حتى إذا بلغت الحلقوم وهذا نصٌّ في المسألة قلتَ: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلانٍ [7]، فهذا الحديث كالنص في المسألة على قبول الوصية عند بلوغ الروح الحلقوم.
فالقول الراجح: أنها تصح -الوصية- حتى لو بلغت الروح الحلقوم، بشرط: أن يكون العقل ثابتًا، لكن الوصية في حال الصحة أفضل.
إنما الذي لا يُقبل عندما تبلغ الروح الحلقوم: التوبة، فإنه إذا بلغت الروح الحلقوم يُغلق باب التوبة في وجه الإنسان.
لماذا لا تُقبل التوبة إذا بلغت الروح الحلقوم؟
مَن يُجيب عن هذا السؤال؟
نعم، تفضل.
طالب: ………
الشيخ: أحسنتَ؛ لأنه قد أصبح عالم الغيب في حقِّه شهادةً، فإذا أصبح عالم الغيب في حقِّه شهادةً هذا يُنافي التَّكليف؛ لأنه لا يُنكر الشهادة إلا مُكابرٌ؛ ولهذا في آخر الزمان عندما تطلع الشمس من مغربها، كل الناس، كل مَن على الأرض يُؤمنون ويتوبون إلى الله ، لكن لا تُقبل التوبة، تُغلق التوبة؛ لأنه يُصبح الغيب شهادةً.
فعندما تبلغ الروح الحلقوم يصبح الغيب شهادةً، كما حصل لأكبر طاغيةٍ في تاريخ البشرية، وهو فرعون؛ لما رأى الموت قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، لكن لم تُقبل توبته: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91].
فإذا بلغت الروح الحلقوم لا تُقبل التوبة، لكن بالنسبة للوصية القول الراجح أنها تصح، ما المانع؟ ليس هناك تلازمٌ بين عدم قبول التوبة، وقبول الوصية.
وأيضًا يُشبه أن يكون إجماعًا عمليًّا: كثيرٌ من المسلمين عندما يحضره الموت يُوصي مَن حوله بكذا وكذا، وتُنفذ وصيته، هذا يُشبه أن يكون إجماعًا عمليًّا من المسلمين جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ.
قال:
ولو مُميزًا، أو سفيهًا.
تصح وصية المُميز، وكذلك السَّفيه؛ لماذا؟
لأنه حُجِرَ عليهما لأجل حفظ أموالهما، وليس في وصيتهما ضررٌ؛ لأنهما إن عاشا فهو لهما، وإن ماتا فلهما الثواب والأجر.
وقد صحَّ عن عمر أنه أجاز وصية صبيٍّ من غسان، وكان هذا بمحضرٍ من الصحابة، فكان كالإجماع على صحة وصية الصبي المُميز.
حكم الوصية
ثم ذكر المؤلف حكم الوصية، وأنها تدور عليها الأحكام الخمسة.
وإذا قلنا: الأحكام الخمسة، ما المقصود بها؟
هذا مصطلحٌ عند الأصوليين، إذا قيل: الأحكام الخمسة.
طالب: ……..
الشيخ: أحسنتَ: الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والتَّحريم، والكراهة، هذه الأحكام الخمسة.
إذن الوصية تارةً تكون واجبةً، وتارةً مُستحبةً، وتارةً مُباحةً، وتارةً مكروهةً، وتارةً مُحرمةً.
طيب، هذه الأحكام الخمسة فصَّلها المؤلف.
بدأ المؤلف بالاستحباب فقال:
الوصية المُستحبة
فَتُسَنّ بِخُمُسٍ: مَن ترك خيرًا، وهو المال الكثير عُرْفًا.
هذا هو الحكم الأول، وهو الاستحباب.
فَتُسَنّ الوصية في حقِّ مَن ترك خيرًا، يعني: مالًا كثيرًا؛ لقول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]، فالخير هو المال الكثير، فهنا سمَّى الله المال: خيرًا، وسمَّاه أيضًا في سورة العاديات: خيرًا: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]؛ لأن المال إذا أحسن الإنسان الاستفادة منه فهو خيرٌ للإنسان في الدنيا والآخرة، فسمَّى الله المال: خيرًا.
المال إذا استفاد الإنسان منه، وكسبه من كسبٍ حلالٍ، وأنفقه في مصارفه الشرعية؛ فهو خيرٌ له.
فَتُسَنّ الوصية وتجوز بالثلث، وتُستحب بالخمس، تجوز بالثلث؛ لقول النبي : الثلث، والثلث كثيرٌ، لكن المؤلف قال: إنها تُسَنّ بالخمس، فالمُستحب أن تكون الوصية بخُمُس المال، وتجوز بالثلث.
طيب، لماذا بالخُمُس؟
قال المُوفق ابن قُدامة: الأولى ألا يستوعب الثلث بالوصية، وإن كان غنيًّا؛ لأن النبي قال: والثلث كثيرٌ، فكأن في هذا إشارةً إلى أنه ينبغي أن تكون الوصية بأقلّ من الثلث.
ولهذا قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “لو أن الناس غَضُّوا من الثلث .. فإن النبي قال: الثلث، والثلث كثيرٌ“.
وأبو بكر الصديق اشتُهر عنه أنه أوصى بالخمس، وقال: “رضيتُ بما رضي الله به لنفسه”، يعني: في قول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41].
وقال علي بن أبي طالبٍ : “لأن أُوصي بالخمس أحبّ إليَّ من الربع”.
فالأفضل إذن أن تكون الوصية بالخمس، لكن تجوز بالثلث، الحدُّ الأعلى الثلث، والأفضل الخمس.
الوصية المكروهة
الحكم الثاني: الكراهة.
قال:
وتُكره لفقيرٍ له ورثةٌ.
إذا كان الإنسان فقيرًا فتُكره الوصية في حقِّه؛ لماذا؟
لأن ورثته أولى بهذا المال من الأباعد، والله تعالى لما ذكر الوصية قال: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]، وهذا لم يترك خيرًا، هذا فقيرٌ، وأيضًا النبي قال في حديث سعدٍ السابق: إنك أن تَذَرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفَّفون الناس، ولحديث: ابدأ بمَن تعول [8].
فمَن كان فقيرًا أو عليه ديونٌ -مثلًا: غارم- فالأفضل أنه لا يُوصي، يترك تركته لورثته من بعده، لا يُوصي، فإن أوصى فالوصية صحيحةٌ، لكنها مكروهةٌ في حقِّه.
الوصية المباحة
الحكم الثالث: الإباحة.
قال:
وتُباح له إن كانوا أغنياء.
يعني: يُباح للإنسان أن يُوصي إن كان ورثة المُوصي أغنياء، فإذا كان ورثته أغنياء لن يحتاجوا لهذا المال كثيرًا، فلا بأس، فيُباح أن يُوصي، لكن القول بالإباحة محل نظرٍ؛ لأنه في هذه الحال يُستحب أن يُوصي، وليس يُباح، يُستحب، ما دام أن ورثته أغنياء، ليسوا فقراء، فيُستحب له، لا أن يُباح.
ولعل المؤلف عبَّر بذلك؛ لأنه أراد أن يستوعب حكم الإباحة، حتى يقول: إنها تجري عليها الأحكام الخمسة.
لكن هناك أمثلةٌ أخرى صحيحةٌ للإباحة، فمن العلماء مَن ذكر أيضًا مثالًا آخر، قال: تُباح بجميع المال لمَن لا وارث له.
وأيضًا التعبير بالإباحة هنا محل نظرٍ، يعني: لمَن لا وارث له تُستحب، وليس مجرد إباحةٍ.
ولذلك من الأمثلة الصحيحة: أنه لو كان له ورثةٌ أغنياء، وأوصى لغنيٍّ غير وارثٍ، فهذه مُباحةٌ، لا نقول: إنها مُستحبةٌ، هي مُباحةٌ، ورثته أغنياء، لكنه أوصى لغنيٍّ غير وارثٍ، فهذا المثال الصحيح لهذا القسم: الإباحة.
الوصية الواجبة
الحكم الرابع: الوجوب.
قال:
وتجب على مَن عليه حقٌّ بلا بينةٍ.
مَن عليه حقٌّ، سواء كان حقًّا لله أو للآدميين؛ حقٌّ لله كأن تكون في ذمته زكاةٌ، فيجب عليه أن يُوصي بتسديد هذه الزكاة؛ لأنها دَينٌ لله ، أو حقٌّ لآدميٍّ كأن يكون قد طُولِبَ بِدَينٍ، لكن هذا الدَّين ليس عليه بينةٌ، أسلفك فلانٌ من الناس عشرة آلاف ريالٍ، ولم يكن هناك شهودٌ ولا كتابةٌ، سلفٌ لوجه الله، يجب عليك أن تُوصي بأن يُسدد هذا القرض لفلانٍ؛ وذلك لأنك إذا لم تُوصِ فقد يضيع حقّ الدائن، والورثة لا يلزمهم أن يُصدقوه إذا لم تكن معه بينةٌ، فالمسؤولية تقع على هذا المدين، فإذا كان الحق ليست عليه بينةٌ يجب على الإنسان أن يُوصي به، أما لو كانت عليه بينةٌ لا يجب.
الوصية المُحرمة
الحكم الخامس: التَّحريم.
قال:
وتحرم على مَن له وارثٌ بزائدٍ على الثلث.
تحرم الوصية لوارثٍ؛ لقول النبي : إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارثٍ [9].
وتحرم أيضًا لغير الوارث بأكثر من الثلث؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: الثلث، والثلث كثيرٌ؛ ولهذا قال المؤلف:
ولوارثٍ بشيءٍ.
إذن تدور على الوصية هذه الأحكام الخمسة: تارةً تجب، وتارةً تُستحب، وتارةً تُباح، وتارةً تحرم، وتارةً تُكره، فتدور عليها الأحكام الخمسة.
قال:
وتصح وتقف على إجازة الورثة.
يعني: لو أوصى بأكثر من الثلث، أو أوصى لوارثٍ، فتصح الوصية إذا أجاز الورثة ذلك، أما إذا لم يُجِز الورثة ذلك فلا تصح ولا تُنفذ بالإجماع.
طيب، قلنا: بالثلث، متى الثلث؟ هل الثلث وقت الوصية، أو الثلث عند الموت؟
قال المؤلف:
والاعتبار بكون مَن وُصِّي أو وُهِبَ له وارثًا أو لا عند الموت.
الاعتبار بكونه وارثًا أو غير وارثٍ عند الموت، أما قبل الموت فلا يُعتبر.
مثلًا: رجلٌ له أخٌ وارثٌ، فأوصى له بوصيةٍ.
يعني: رجلًا ليس له في الدنيا إلا أخوه -معنى ذلك: أنه لو مات ورثه أخوه- أوصى له بوصيةٍ، فهذه الوصية لوارثٍ لا تجوز، لكن وُلِدَ لهذا المُوصي ابنٌ، فأصبح هذا الأخ غير وارثٍ؛ لأن الابن يحجب الأخ، فتصح الوصية؛ لأن العبرة بحاله عند الموت، وليس وقت الوصية.
طيب، لو كانت المسألة بالعكس: رجلٌ له ابنٌ، فأوصى لأخيه باعتبار أن أخاه غير وارثٍ، ثم إن هذا الابن تُوفي، فأصبح الذي يرثه أخوه، فلا تصح الوصية؛ لأنه عند الموت أصبح أخوه وارثًا، والوصية لا تصح لوارثٍ.
إذن العبرة بحاله وقت الموت، وليس وقت الوصية.
وبالإجازة أو الردِّ بعده.
يعني: العبرة بإجازة الورثة للوصية أو عدم إجازتهم لها إنما تكون بعده، يعني: بعد موت المُوصي، ولا عبرة بإجازتهم أو ردِّهم قبل ذلك؛ لأن ما بعد الموت هو وقت لزوم الوصية، وأحيانًا الورثة قد يُجاملون المُوصي في حياته؛ فيقبلون أن يُوصي لوارثٍ، أو يقبلون أن يُوصي بأكثر من الثلث، لكن بعد وفاته يتغير رأيهم فلا يقبلون، فهل يُؤخذ رأيهم قبل الوفاة أو بعد الوفاة؟
بعد الوفاة، فالعبرة إذن برأي الورثة بعد الوفاة، وليس قبل الوفاة.
فإذا امتنع المُوصَى له بعد موت المُوصِي من القبول ومن الردِّ حُكِمَ عليه بالردِّ، وسقط حقُّه.
المُوصَى له هذا أحد أركان الوصية؛ لأن الوصية لها أربعة أركانٍ:
- المُوصِي: وهو الذي صدرتْ منه الوصية.
- والمُوصَى له: وهو مَن يستفيد وينتفع من الوصية.
- والمُوصَى به: الشيء الذي يُوصَى به من مالٍ أو منفعةٍ.
- والصيغة: وتكون بالإيجاب والقبول وما دلَّ عليه.
هناك مصطلحٌ آخر: المُوصَى إليه، وهذا ليس من أركان الوصية، يعني: الوصي الذي يُؤمر بتنفيذ الوصية، وإذا امتنع المُوصَى له، يعني: هذا رجلٌ أوصى لفلانٍ من الناس بمبلغٍ ماليٍّ؛ لكونه فقيرًا، لكن بعد وفاة هذا المُوصي، هذا الفقير امتنع من قبول الوصية، وامتنع من الردِّ: يا فلان، إن فلانًا أوصى لك. سكت، لا هو الذي قبل، ولا هو الذي ردَّ، فيُحكم عليه بالردِّ، ويسقط حقّه؛ لعدم قبوله.
قال:
وإن قَبِلَ، ثم ردَّ، لزمتْ، ولم يصح الردُّ.
إن قَبِلَ الوصية، ثم ردَّها، لزمت الوصية، ولم يصحّ الرد؛ لأنها دخلتْ في ملكه، واستقرتْ في ملكه، ولا يصحّ الردّ إلا إذا رضي الورثة؛ لأنها تُعتبر هبةً منه للورثة، والهبة لا بد من قبولها.
وتدخل في ملكه من حين قبوله.
كسائر العقود.
فما حدث من نماءٍ مُنفصلٍ قبل ذلك فلورثته.
يعني: ما حدث في المُوصَى به -في الشيء المُوصى به- من النَّماء المُتَّصل أو المُنفصل قبل قبول المُوصَى له، فيكون للورثة؛ لأنها إنما تدخل في ملكه من حين القبول.
يعني: لو أن هذا المُوصَى به كان -مثلًا- شاةً، أو كان ناقةً فَنَتَجَتْ، فهذا النّتاج يكون للورثة قبل قبول المُوصَى له الوصية، في هذه الفترة التي بعد الوفاة، وقبل قبول المُوصَى له الوصية، النّتاج والنَّماء يكون للورثة.
مُبطلات الوصية
ثم انتقل المؤلف للكلام عن مُبطلات الوصية، وهي خمسة مُبطلاتٍ:
الأول: قال:
وتبطل الوصية بخمسة أشياء: برجوع المُوصِي بقولٍ أو فعلٍ يدل عليه.
فإذا رجع المُوصي بطلت الوصية؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بالموت.
إما أن يكون بقولٍ، بأن يقول: أبطلتُ وصيتي، أو بفعلٍ: أن تكون الوصية مكتوبةً ويُمزقها، مثلًا.
فتبطل الوصية إذن بالرجوع.
الأمر الثاني:
وبموت المُوصَى له قبل المُوصِي.
يموت المُوصَى له قبل المُوصِي.
أوصى لفلانٍ من الناس بمبلغٍ ماليٍّ، وهذا المُوصَى له مات؛ تبطل الوصية مباشرةً.
الثالث:
وبقتله للمُوصِي.
إذا قتل المُوصَى له المُوصِي تبطل الوصية؛ لأنه قد تعجل شيئًا قبل أوانه، ومَن تعجل شيئًا قبل أوانه عُوقِب بحرمانه.
هذا إذا كان القتل عمدًا، لكن إذا كان القتل خطأً، فهل يُحرم المُوصَى له من الوصية؟
نعم، يُحرم من الوصية، بل حتى يُحرم من الميراث، يُحرم من الوصية ومن الميراث.
إذا كان وارثًا وقتل المُورِّث يُحرم من الميراث، وكذلك إذا كان المُوصَى له يُحرم من الوصية، سواء كان القتل عمدًا أو خطأً؛ سدًّا للذريعة؛ لأنه لو فُتح المجال ربما يستعجل المُوصَى له أو الوارث في قتل مُورثه، أو في قتل المُوصي، ويُعاقَب بنقيض قصده، لكن إذا كان القتل بطريق الخطأ في حوادث السيارات، يعني: على كلام الفقهاء أنه إذا تسبب الوارث في قتل المُورث يُحرم من الميراث.
فلو كان ابنٌ بارًّا بأبيه، وأركبه في سيارته، ثم وقع حادث سيارةٍ، وقُدِّرتْ نسبة خطأ على قائد السيارة الذي هو الابن، فعلى كلام فقهاء الحنابلة أنه يُحرم من الميراث؛ لأنه تسبب في قتل مُورثه، ومَن تسبب في قتل مُورثه يُحرم من الميراث.
وقد عُرض هذا الموضوع على هيئة كبار العلماء، ورأت الهيئة بالأغلبية أنه لا يُحرم من الميراث بشرط: ألا تكون هناك شُبهةٌ أو قرينةٌ تدل على أنه فعل ذلك تَعَجُّلًا للميراث، فإذا لم تقم هناك قرينةٌ، ولم تكن ثَمَّ شُبهةٌ بأن كان هذا الابن ابنًا بارًّا، صالحًا، فكيف يُعاقب هذا الابن البار ويُحرم من الميراث؛ لكونه قد بَرَّ بأبيه، ووقع منه هذا الحادث بغير اختياره؟ ربما يكون منه نوع تفريطٍ، لكن لم يتعمد؛ لأن هذا الحادث كما أنه يحتمل وفاة مُورثه، يحتمل وفاته هو أيضًا، كما أنه قد يتسبب في وفاة مُورثه، فهو قد يتسبب في وفاته هو، فاحتمال أن يكون قد قصد قتل مُورثه احتمالٌ بعيدٌ، احتمالٌ ضعيفٌ.
ولهذا فالصواب أن هذا التَّسبب لا يمنع الوارث من الميراث، ولا يمنع المُوصَى له من الوصية.
هذا هو القول الراجح، وبه صدر قرار هيئة كبار العلماء.
وبِرَدِّه للوصية.
هذا أيضًا المُبطل الرابع: إذا ردَّ المُوصَى له الوصية بعد موت المُوصِي بطلت الوصية.
بعض الناس عنده عزة نفسٍ، قيل: يا فلان، إن فلانًا أوصى لك. قال: لا، ما أقبل. تبطل الوصية مباشرةً، ولا يُلزم بالقبول.
وبتلف العين المُعينة المُوصَى بها.
إذا تلفت العين المُوصَى بها بطلت الوصية كما هو ظاهرٌ.
فهذه إذن هي مُبطلات الوصية الخمسة، والفقهاء يُفصِّلون في مسائل الوصية ويُفرِّعون تفريعاتٍ دقيقةً أكثر من غيره من الأبواب، وربما يكون في أزمنةٍ سابقةٍ كانت الحاجة قائمةً لذلك أكثر، بينما تجد أنهم يُجْمِلون في أبوابٍ أخرى، يعني: يُفصِّلون في أبوابٍ، ويُجْمِلون في أبوابٍ.
وربما أن بعض الفقهاء الذين يقومون بتأليف هذه المتون يختارون ما هو المناسب لزمنهم، وما يحتاج إليه الناس في زمنهم؛ ولذلك ينبغي في كل زمانٍ أن تَنْبَري طائفةٌ من الفقهاء، ويُصنِّفون متونًا مناسبةً لأهل ذلك الزمان.
ولذلك -إن شاء الله- هناك فكرةٌ سبق أن تحدثتُ بها في دروسٍ سابقةٍ: وضع متنٍ فقهيٍّ معاصرٍ يشمل أبرز المسائل المعاصرة، وأبرز النَّوازل، وتكون في متنٍ فقهيٍّ يشمل المسائل التي ذكرها الفقهاء السابقون، والمسائل المعاصرة؛ تُقرب الفقه لطالب العلم.
مثلًا: المُفَطِّرات المعاصرة، مُفَطِّرات الصيام المعاصرة كلها تُذكر في نصف صفحةٍ، بحيث مَن ضبطها يكون ضبط المُفَطِّرات المعاصرة.
هذا -إن شاء الله- نعمل عليه، ونسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.
باب: المُوصَى له
قال المصنف رحمه الله:
باب: المُوصَى له.
المُوصَى له ذكرنا أنه أحد أركان الوصية؛ لأن الوصية: المُوصِي، والمُوصَى له، والمُوصَى به، والصيغة.
وأما المُوصَى إليه فقلنا: هذا ليس من أركان الوصية.
انتبه: الفرق بين المُوصَى له، والمُوصَى إليه، والمُوصَى به:
- المُوصَى به يعني: المال المُوصَى به.
- المُوصَى له يعني: الذي يستفيد من الوصية.
- المُوصَى إليه يعني: الوصي الذي يُنفذ الوصية.
فلا بد أن تضبط هذه المصطلحات وتُفرق بينها.
طيب، المُوصَى له يعني: المُستفيد من الوصية، يعني: الذي أوصى له الميت بأن يكون هذا الشيء له وملكًا له.
لمَن تصح الوصية؟
تصح الوصية لكل مَن يصح تمليكه ولو مُرتدًّا، أو حَرْبِيًّا، أو لا يملك: كحملٍ وبهيمةٍ.
كل مَن صحَّ تمليكه صحَّت الوصية إليه، حتى لو كان كافرًا، وصفية بنت حُيي -زوج النبي عليه الصلاة والسلام- أوصتْ لأخٍ لها يهوديٍّ بوصيةٍ.
فالوصية أوسع من البيع، وأوسع من الهبة، وأوسع من سائر العقود.
أيضًا تصح الوصية لمَن لا يمكن تمليكه: كالحمل والبهيمة، لكن يمكن أن تُصحح الوصية للحمل بأن تُرصد له، يعني: الوصية للحمل تكون مثلًا: أوصى هذا الرجل بأن هذا المبلغ المالي لحمل فلانة، يعرف أنهم عائلةٌ فقيرةٌ وكذا، فهذه الوصية صحيحةٌ.
وكذلك أيضًا بهيمةٌ، الوصية للبهيمة تُرصد في علفها؛ ولهذا قال:
ويُصرف في علفها.
تُرصد هذه الوصية في علف البهيمة، ولكن قول المُصنف: “ولو مُرتدًّا أو حَرْبِيًّا” يعني: تصح الوصية للكافر حتى لو كان مُرتدًّا أو حَرْبِيًّا.
والقول الثاني: إنها لا تصح للمُرتد ولا للحربي؛ لأن المُرتد أصلًا يجب قتله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَن بدَّل دينه فاقتلوه [10]، والحربي أيضًا مطلوبٌ دمه، بينه وبين المسلمين حربٌ مُعلنةٌ، فكيف تصح الوصية له؟
وهذا هو القول الراجح: أنها لا تصح الوصية للمُرتد، ولا للحربي.
قال:
وتصح للمساجد والقناطر ونحوها، ولله ورسوله ، وتُصرف في المصالح العامة.
الوصية للمساجد تصح، وكذلك القناطر، فالقناطر توجد في الأماكن التي توجد فيها الأنهار ونحوها، وأيضًا المدارس والمستشفيات، وما فيه منفعةٌ للمسلمين.
وأيضًا لو قال: هذه الوصية لله ورسوله ، فتصح، وتُصرف في المصالح العامة.
قال:
وإن وصَّى بإحراق ثلث ماله صحَّ.
يعني: هذا إنسانٌ عنده فلسفةٌ، أو ربما يكون أحمق، أوصى بإحراق ثلث ماله، كيف نتعامل مع هذه الوصية؟
يعني: هذه مسألةٌ مُفترضةٌ طبعًا، وقد تقع، يعني: ليست مُمتنعةً عقلًا، لكنها نادرة الوقوع.
هذا إنسانٌ أوصى بإحراق ثلث ماله، فالفقهاء يقولون: يُصحح كلامه ما أمكن، فإذا أوصى بإحراق ثلث ماله صحَّ.
وصُرِفَ في تجمير الكعبة، وتنوير المساجد.
يُوضع في بخورٍ، وبذلك يكون قد أُحرق ثلث ماله؛ يُوضع هذا الثلث في بخورٍ -مثلًا- للمسجد.
وقوله: “تجمير الكعبة” قد لا يلزم، فإن تيسر تجمير الكعبة هذا لمَن كان ساكنًا في مكة ومَن حولها، لكن في البلدان الأخرى يجعله في بخورٍ للمسجد، وتصح الوصية بذلك.
وأما قوله: “وتنوير المساجد”، كانوا قديمًا يستعملون مصابيح في تنوير المساجد، وأما في الوقت الحاضر فما الذي يُغني عن تنوير المساجد؟
الكهرباء.
طالب: ……..
الشيخ: لا، المقصود في المصالح العامة، فيمكن أن يُجعل إما في بخورٍ، وطبعًا هنا في المملكة فاتورة الكهرباء تُدفع من بيت المال، لكن في بعض الدول فاتورة الكهرباء يدفعها -مثلًا- جماعة المسجد، فيمكن أن تُصرف: إما في فاتورة الكهرباء، أو في البخور، فهذه الوصية لا تُردّ.
نقول: الوصية صحيحةٌ، لكن إما أن تُصرف في بخورٍ للمسجد، أو في دفع فاتورة كهرباء المسجد.
طيب، لو أوصى.
بدفنه.
بدفن هذا المال.
في التراب.
قال: ثلث مالي يُدفن في التراب؛ لماذا؟
يعني: إما عنده فلسفةٌ، أو أنه أحمق، أو لغير ذلك، فنُصحح الوصية ما أمكن.
طيب، كيف تُدفن في التراب؟
قال:
صُرِفَ في تكفين الموتى.
يُصرف هذا المبلغ في تكفين الموتى، ويصدق عليه فعلًا أنه دُفِنَ في التراب.
يعني: هذه من الحِيَل الفقهية التي يمكن أن يُستفاد بها في هذه الوصايا، وتُنفذ ولو بطريقٍ غير مباشرٍ.
طيب، أوصى بأن يُرْمَى هذا المال في الماء.
أيضًا يمكن أن نُصحح الوصية.
قال:
وبِرَمْيه في الماء، صُرِفَ في عمل سفنٍ للجهاد.
يكون في سفنٍ للجهاد، أو -مثلًا- يُصرف للقوات البحرية على اعتبار أنها تعمل في البحر.
قال:
ولا تصح لكنيسةٍ أو بيت نارٍ.
لا تصح الوصية لكنيسةٍ، أو أي معبدٍ من معابد الكفار عمومًا.
أو كتب التوراة والإنجيل.
لأنها منسوخةٌ، فلا تصح الوصية لها.
أو مَلَكٍ، أو ميتٍ، أو جنيٍّ.
لأنهم لا يملكون، ولا فائدة من الوصية لهم.
وقال بعض العلماء: إنها يمكن أن تصح الوصية للميت، لكن تكون صدقةً عن هذا الميت.
وهذا هو الأقرب -والله أعلم- وهذا هو الظاهر أيضًا عندما يُوصي إنسانٌ لميتٍ: أن المقصود أنها صدقةٌ تُدفع عن هذا الميت.
ولا لمُبْهَمٍ: كأحد هذين.
لو قال -يعني-: أوصيتُ لأحد هذين.
يقول المؤلف: إنها لا تصح.
وقال بعض العلماء: إنها تصح، ويُقرع بينهما.
وهذا هو الأقرب، يعني: قد يكون أحيانًا الإنسان يتحرج، عنده اثنان فقيران، ويريد أن يُوصي لأحدهما، وربما يكون المبلغ ليس كبيرًا، يعني: ما يُقْسَم بينهما، فيقول: أوصيتُ لأحد هذين. فالأقرب -والله أعلم- أنه يُقرع بينهما، فمَن جاءت القرعة عليه أخذ هذا المبلغ.
قال:
فلو أوصى بثلث ماله لمَن تصح له الوصية، ولمَن لا تصح، كان الكل لمَن تصح له.
هذا يصح أن يكون ضابطًا في هذا الباب: أوصى لمَن تصح له الوصية، ومَن لا تصح، كأن يقول: أوصيتُ لزيدٍ ولجبريل أو لميكائيل أو لإسرافيل -مثلًا- فالوصية تصح لزيدٍ، لكن لا تصح للمَلَك، فيكون الكل لزيدٍ، يكون الثلث هذا كله لزيدٍ.
لكن لو أوصى لحيٍّ وميتٍ، كان للحيِّ النصف فقط.
طيب، لحيٍّ وميتٍ، على المذهب: أنه أوصى لمَن تصح له الوصية، ولمَن لا تصح، فمُقتضى المذهب ماذا يكون؟
أن يكون كله للحي، فلماذا قال المؤلف: كان للحي النصف فقط؟
يعني: هذه العبارة مشكلةٌ، وبعض الشُّراح قال: إن الفرق أنه في المسألة الأولى أوصى بثلث ماله لمَن تصح له الوصية، ومَن لا تصح، فكان الكل لمَن تصح له، وأما في المسألة الثانية: أوصى بثلث ماله لحيٍّ وميتٍ، فكان للحي نصف الثلث.
ولكن هذا غير مُقنعٍ -هذا التَّفريق- ولهذا قال بعض الفقهاء: إنه إذا أوصى لحيٍّ وميتٍ فالكل للحي.
وهذا وجهٌ عند الحنابلة، كما ذكر ذلك المرداوي في “الإنصاف”.
وعلى القول الراجح يكون نصفها للحي، والنصف الآخر يُصرف صدقةً عن الميت؛ لأننا قلنا: إن القول الراجح أنه تصح الوصية للميت، وتكون صدقةً عن الميت، فعلى القول الراجح يكون نصفها للحي، والنصف الآخر للميت.
لكن على كلام المؤلف -في الحقيقة- لا فرق بين المسألتين، لا فرق، لا نجد فرقًا بين قوله: فلو أوصى بثلث ماله لمَن تصح له الوصية، ومَن لا تصح، وبين قوله: لكن لو أوصى لحيٍّ وميتٍ؛ لأنهم عندهم أن الوصية لا تصح للميت أصلًا، فهذا مُشكلٌ من كلام المؤلف؛ ولذلك الوجه الآخر عند الحنابلة يزول به الإشكال.
ثم قال المصنف رحمه الله:
وإذا أوصى لأهل سِكَّتِه، فلأهل زُقَاقِه حال الوصية، ولجيرانه تناول أربعين دارًا من كل جانبٍ.
“أوصى لأهل سِكَّتِه” السِّكَّة هذا المصطلح ما زال مُستعملًا إلى الآن، يُقال: السِّكَّة، ويُقال: الزُّقَاق، ومعناها: الطريق الضيق، يُسمى: سِكَّةً، ويُسمى: زُقَاقًا.
فإذا أوصى لأهل سِكَّتِه تُصرف الوصية لأهل البيوت الواقعة على هذه السِّكَّة، أو هذا الزُّقَاق.
طيب، قال: أوصيتُ بهذا المبلغ لجيراني. كتب في وصيته: أوصيتُ -مثلًا- بخمسين ألف ريالٍ لجيراني.
طيب، مَن هم جيرانه؟
يقول المؤلف: أربعون دارًا من كل جانبٍ، هؤلاء هم جيرانه، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا بحديثٍ يُروى عن النبي أنه قال: حقُّ الجوار أربعون دارًا هكذا، وهكذا، وهكذا، يمينًا وشمالًا، وقُدَّامًا وخلفًا [11]، وهذا الحديث أخرجه أبو يعلى والبيهقي، ولكنه حديثٌ ضعيفٌ.
والقول الثاني: أن المرجع في تحديد الجوار للعُرف، والتحديد بأربعين دارًا لم يثبت فيه شيءٌ عن النبي ، والناس يُفرقون بين الجيران، يقول: هذا جارٌ، ويقول: هذا ليس بجارٍ.
فالقول الراجح: أن المرجع في تحديد وصف الجوار العُرف.
وأما ما استدلَّ به الحنابلة من حديث أبي هريرة : حق الجوار أربعون دارًا فهذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ.
في وقتنا الحاضر كيف يُحدد الجيران؟
مَن يسكن عن يمينه وشماله وقُدَّامه في نفس الشارع الذي عليه البيت، فهذه البيوت التي عن يمينه وشماله، والتي تُقابله، هؤلاء يُعتبرون جيرانه، لكن البيوت التي في الشارع الآخر المقابل، أو التي في الخلف لا يُعتبرون جيرانًا، يعني: بالمعنى الشرعي الدقيق.
إذن العرف يمكن أن يضبط هذه المسائل.
طالب: ……
الشيخ: أوصى بسابع جارٍ، لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم انتقل المؤلف للتعريف ببعض المصطلحات؛ لأن هذه المصطلحات مهمةٌ في تفسير الوصية، وأيضًا في وقتنا الحاضر.
يعني: هناك مُصطلحاتٌ -خاصةً من بعض كبار السنِّ عند تنفيذ الوصية- تُشْكِل على المُوصَى إليه: كيف يُنفذها؟ ولهذا لا بد من فهم ماذا يريدون؟ وما المقصود بهذه المصطلحات؟
فذكر المؤلف عدة مصطلحاتٍ.
قال:
والصغير، والصبي، والغلام، واليافع، واليتيم.
هذه كلها مصطلحاتٌ لمَن لم يبلغ، تُطلق على مَن لم يبلغ.
طيب، الذي ماتت أمه، وأبوه موجودٌ، هل يُقال: إنه يتيمٌ؟
هذا ليس يتيمًا، وإنما اليتيم مَن فَقَدَ أباه قبل البلوغ.
أيّهما أشدّ: فَقْد الأم، أو فَقْد الأب؟
فَقْد الأب؛ لأن الأم يمكن أن يأتي بخادمةٍ تُربي هذا الطفل، يعني: هناك مَن يقوم بحضانته وخدمته، لكن فَقْد الأب أشدّ؛ لأنه هو الذي يُنفق عليه، وهو الذي يرعاه، وهو الذي يقوم على شؤونه، فَفَقْد الأب أشدّ من فَقْد الأم، وإن كان حقُّ الأم أعظم، لكن فَقْد الأب أشدّ؛ فلذلك مَن فَقَدَ أمه لا يُقال: إنه يتيمٌ، إنما اليتيم مَن فَقَدَ أباه قبل البلوغ، أما مَن فَقَدَ أباه بعد البلوغ أيضًا لا يُقال: يتيم.
والمُميز.
يعني: مصطلح التَّمييز.
مَن بلغ سبعًا.
هذه المسألة تكلمنا عنها بالتفصيل، وذكرنا خلاف العلماء في ضابط التَّمييز، ورجحنا أن المُميز هو مَن أتمَّ سبع سنين ودخل الثامنة، وأن هناك قولًا لبعض الفقهاء: أن المُميز هو مَن يفهم الخطاب، ويرد الجواب. لكن هذا غير مُنضبطٍ.
الآن ربما طفلٌ عمره ثلاث سنواتٍ يفهم الخطاب، ويردّ الجواب، أليس كذلك؟
تتحاور معه يردّ، يفهم الخطاب، يفهم ما تقول ويردّ عليك، هل هذا مُميزٌ وعمره ثلاث سنواتٍ؟
بل إن بعضهم ربما أقلّ من ثلاث سنواتٍ ويفهم الخطاب، ويردّ الجواب.
فأحسن ما قيل في ضابط المُميز: أنه مَن أتم سبع سنين ودخل الثامنة.
والطفل.
مصطلح: الطفل.
مَن دون سبعٍ.
مَن دون سبع سنين يُقال له: طفل.
والمُراهق.
المُراهق يعني: مَن قارب البلوغ.
قال:
مَن قارب البلوغ.
لكن المُراهق عند التربويين لهم مصطلحٌ خاصٌّ: ما بين ثنتي عشرة سنة إلى عشرين، أو إلى اثنين وعشرين، لكن هذا -يعني- ليس هو المصطلح عند الفقهاء، فعند الفقهاء إذا قالوا: مُراهق، يعني: مَن قارب البلوغ.
والشَّاب والفتى من البلوغ إلى الثلاثين.
من البلوغ إلى الثلاثين يُقال له: شابّ، ويُقال: فتى.
والكهل من الثلاثين إلى الخمسين.
من الثلاثين إلى الخمسين انتهى سنُّ الشباب، انتقل إلى سنِّ الكهولة.
من الثلاثين إلى الخمسين لا يُقال له: شابّ، إنما يُقال له: كهل، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران:46]، فَسِنُّ الكهولة من الثلاثين إلى الخمسين.
والشيخ من الخمسين إلى السبعين.
من الخمسين إلى السبعين لا يُقال له: شابّ، ولا كهل، وإنما يُقال له: شيخ.
ثم بعد ذلك هَرِم.
من السبعين فما فوق يُقال له: هَرِم.
هذه مصطلحاتٌ عند الفقهاء، ومأخوذةٌ من معناها في اللغة العربية، هكذا معناها في اللغة العربية.
والأَيِّم والعازب: مَن لا زوج له من رجلٍ وامرأةٍ.
الأَيِّم والعازب يعني: الأعزب الذي لا زوج له، يُقال: رجلٌ عازبٌ أو أعزب، وامرأةٌ عَزْبَاء، وأَيِّم؛ ولهذا قال الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، الأَيَامَى يعني: مَن لا زوج له من رجلٍ أو امرأةٍ.
والعازب ما زال هذا المصطلح مُستعملًا، يُقال: فلانٌ أعزب، أو عازب، وامرأةٌ عَزْبَاء.
والبِكْر: مَن لم يتزوج.
البِكْر يشمل الذكر والأنثى، كما في حديث عبادة: البِكْر بالبِكْر جلد مئةٍ، ونَفْي سنةٍ [12].
ورجلٌ ثَيِّبٌ، وامرأةٌ ثَيِّبةٌ: إذا كانا قد تزوجا.
المُتزوج يُقال له: ثَيِّب، لكن لفظ “المُحْصَن” مَن وطئ في نكاحٍ صحيحٍ.
والثُّيُوبة: زوال البَكَارة ولو من غير زوجٍ.
إذا قالوا: امرأةٌ ثَيِّبٌ، يعني: زالتْ بَكَارتها، وهذا أكثر ما يكون بالزواج، لكن قد تزول البَكَارة بغير الزواج، فربما تزول بالزنا، أو تزول باليد، أو تزول أيضًا أحيانًا بالقفزة، أو الضربة الشديدة، يقولون: إن بعض الفتيات أحيانًا عند القفزة الشديدة تزول معها البَكَارة.
ولذلك تُنصح -يعني: البكر- بألا تُمارس التمارين الرياضية الشاقة؛ لأنها ربما تزول معها البكارة، فالبكارة قد تزول بغير الزواج: إما بالزنا، أو باليد، أو بالقفز، ونحوه؛ ولذلك زوال البَكَارة لا يُعدّ دليلًا قاطعًا على الزنا.
والأرامل: النساء اللاتي فارقهن أزواجهن بموتٍ أو حياةٍ.
هذا هو التعريف المشهور، وقيل: إن الأرملة هي فقط مَن مات زوجها، ولا يشمل المُطلَّقة. وقيل: إنها هي المُحتاجة. ولكن الأشهر هو ما ذكره المؤلف.
والرَّهْط: ما دون العشرة من الرجال خاصةً.
يعني: ما بين الثلاثة إلى العشرة يُقال له: رَهْط، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ [هود:92]، وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [هود:91] يعني: قرابته، كانوا من الثلاثة إلى العشرة.
فإذا أوصى لصنفٍ مما ذُكِرَ دخل غنيُّهم وفقيرهم؛ لشمول الاسم لهم، ولم يدخل غيرهم.
باب: المُوصَى به
ثم قال المصنف رحمه الله:
باب: المُوصَى به.
والمُوصَى به أحد أركان الوصية.
نحن قلنا: أركان الوصية: مُوصٍ، ومُوصًى له، ومُوصًى به، وصيغة، فانتقل المؤلف الآن للكلام عن المُوصى به بعدما تكلم عن المُوصى له.
تكلم المؤلف عن المُوصِي، ثم المُوصَى له، وانتقل إلى الركن الثالث وهو المُوصَى به، والصيغة أيضًا تكلم عنها.
بقي المُوصَى به، والمُوصَى إليه.
المُوصَى به يعني: الشيء المُوصَى به من مالٍ أو منفعةٍ، وهذا بابه واسعٌ، يعني: يشمل حتى المجهول والمعدوم كما سيأتي.
قال:
تصح الوصية حتى بما لا يصح بيعه: كالآبق، والشارد، والطير بالهواء، والحمل بالبطن، واللبن بالضّرع، وبالمعدوم كَبِمَا تحمل أَمَته أو شجرته أبدًا، أو مدةً طويلةً.
يعني: أنه تصح الوصية بالمجهول، وتصح الوصية بالمعدوم؛ وذلك لأن المُوصَى له إما غانمٌ، وإما سالمٌ.
مَن أُوصي له بجملٍ شاردٍ، هل عليه ضررٌ؟
إن وجد الجمل وإلا لم يلحقه ضررٌ، فهو إما غانمٌ، وإما سالمٌ، ما المانع من الصحة؟
ولهذا تذكرون الدرس السابق أيضًا رجحنا أن هبة المجهول والمعدوم تصح، خلافًا للمذهب؛ فالحنابلة يُفرقون بين الهبة والوصية، فعندهم أن الهبة لا تصح بالمجهول ولا بالمعدوم، وتصح الوصية بالمجهول وبالمعدوم، والقول الراجح أنها تصح الهبة والوصية بالمجهول والمعدوم، وأن أبواب التَّبرعات أوسع من أبواب المُعاوضات.
طيب، إذن ما الغَرَر الممنوع شرعًا؟ يعني: يكون في أي أبوابٍ؟
في المُعاوضات.
الغَرَر الممنوع شرعًا إنما يكون في المُعاوضات فقط؛ لأن منع الشارع من الغَرَر لكونه مظنةً للمُنازعة والخصومة مما يُؤدي للشَّحناء والبغضاء بين المسلمين، وهذا إنما يكون في عقود المُعاوضات، ولا يكون هذا في عقود التَّبرعات.
فالذي قد وُهِبَتْ له هبة مجهولٍ، إن استطاع أن يُحصل هذا الموهوب وإلا فليس بخسران: إما غانمٌ، وإما سالمٌ.
المُوصَى له بمجهولٍ أو معدومٍ ليس عليه ضررٌ، إما أن يُحصل هذا المُوصى به، أو أنه سالمٌ، فهو مُترددٌ بين الغُنْم والسلامة.
بينما الغَرَر في المُعاوضات ليس إما غانمٌ، وإما سالمٌ، إما غانمٌ، وإما غارمٌ، فهو مُترددٌ بين الغُنْم والخسارة، الربح والخسارة.
فلاحظ الفرق، وإذا ضبطتَ هذه الأصول فهذا يُعين طالب العلم على فهم هذه الأبواب، فأنت تضبطها بهذه الطريقة: أبواب المُعاوضات عمومًا الغَرَر والجهالة فيها ممنوعةٌ، وأبواب التَّبرعات عمومًا يُتسامح فيها في الغرر والجهالة؛ وذلك لأنه في أبواب المُعاوضات الغَرَر مظنةٌ للخصومة وللنِّزاع الذي يُفضي للشَّحناء والبغضاء، بينما ذلك المعنى غير واردٍ في أبواب التَّبرعات، فالموهوب له أو المُوصَى له مُترددٌ بين الغُنْم والسلامة، وليس بين الغُنْم والغُرْم.
فعلى هذا الوصية بالمجهول تصح، وعلى القول الراجح: هبة المجهول تصح.
قال:
فإن حصل شيءٌ فللمُوصَى له.
يعني: إن حصل شيءٌ للمُوصَى له، وإن لم يحصل شيءٌ فليس عليه ضررٌ، لكن استثنوا مسألةً واحدةً.
إلا حمل الأَمَة فقيمته يوم وضعه.
لو أوصى بحمل أَمَةٍ أنه لفلانٍ، فيقولون: حمل الأَمَة لا تصح الوصية به، وإنما يكون للمُوصَى له قيمته وقت وضعه، لماذا؟ لماذا استثنوا هذه المسألة؟
استثنوا هذه المسألة لحُرمة التَّفريق بين الأم وولدها، فقد نهى النبي عن ذلك، نهى أن يُفرق بين الأم وولدها [13]، وإن كان الحديث في سنده مقالٌ، لكن أجمع العلماء عليه؛ ولذلك لو أوصى بحمل أَمَةٍ لا يجوز أن يُفرق بين الأم وولدها، فيُقال: أنت -المُوصَى له- نُعطيك قيمة هذا الحمل، لكن لا تأخذ هذا الولد من أُمِّه.
وتصح بغير مالٍ: ككلبٍ مُباح النَّفع، وزيتٍ مُتنجسٍ.
تصح الوصية بغير مالٍ، بينما ذلك لا يصح في المُعاوضات، لكن في غير المُعاوضات تصح بغير مالٍ.
“ككلبٍ” يعني: بيع الكلب لا يصح، بينما تصح الوصية به.
“ككلبٍ مُباح النَّفع” وهو كلب الصيد والحَرْث والماشية.
“وزيتٍ مُتنجسٍ” كانوا قديمًا يُوقِدون على الزيت، يُوقِدون البيوت والمساجد على الزيت، يأتون بالزيت ويضعون عليه ما يُوقَد به، ويُوقِدون فيه النار، ويُضيؤون المسجد والبيت، هذه أشبه بالشمع.
فأحيانًا يكون الزيت مُتنجسًا، فيقولون: تصح الوصية به.
وتصح بالمنفعة المُفردة: كخدمة عبدٍ، أو أُجرة دارٍ، ونحوهما.
يعني: حتى لو كانت المنفعة مجردةً عن الرقبة تصح، كأن يقول: أُوصي بأن عبدي فلانًا يخدم فلانًا طوال حياته، أو: أُوصي بأجرة داري لفلانٍ لمدة كذا.
ومن الأمثلة المُعاصرة أن يقول: أُوصي بأن السائق الذي عندي تُنقل كفالته لفلانٍ، ويعمل عند فلانٍ.
عنده سائقٌ -مثلًا- أحبه، ويريد أن يُكرمه، فأوصى بأن تُنقل كفالته -مثلًا- لأخيه أو لأُخته، أو لمَن يرغب، فهذه الوصية بهذه المنفعة المُجردة تصح.
وتصح بالمُبْهَم كثوبٍ.
تصح الوصية بالمُبْهَم لكن:
يُعطى ما يقع عليه الاسم.
يُعطى أيَّ ثوبٍ يقع عليه الاسم.
فإن اختلف الاسم بالعُرف والحقيقة غُلِّبَت الحقيقة.
يعني: اسمًا اختلف العُرْف عن الحقيقة اللغوية، فالمؤلف يقول: إنه تُغَلَّب الحقيقة، الحقيقة اللغوية تُغَلَّب على العُرْف، قالوا: لأن الحقيقة اللغوية هي الأصل الذي يُحمل عليه كلام الشارع، وهذا هو المذهب.
القول الثاني: أنه إذا تعارضت الحقيقة اللغوية والعُرْف، فيُقدَّم العُرْف على الحقيقة.
طيب، أيّهما أقرب لمقصود المُوصي: الحقيقة اللغوية أو العُرْف؟
العُرْف، العُرْف أقرب؛ ولهذا فالقول الراجح أنه يُقدَّم العُرْف على الحقيقة اللغوية، وقد اختار هذا المُوفق ابن قدامة رحمه الله.
قال:
فالشاة والبعير والثور: اسمٌ للذكر والأنثى من صغيرٍ وكبيرٍ.
يعني: هذا مثالٌ للحقيقة اللغوية، هنا تُقدم على العُرْف.
والحصان والجمل والحمار والبغل والعبد: اسمٌ للذكر خاصةً.
وهذا أيضًا مثالٌ للحقيقة اللغوية، لكن لو وُجِدَ عُرْفٌ فعلى القول الراجح العُرْف يُقدَّم.
والعبد يُطلق على الذكر كما في الآية: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ [النور:32]، عِبَادِكُمْ جمع عبدٍ؛ ولذلك قال: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ.
والحِجْر.
الأنثى من الخيل.
والأَتَان والنَّاقة والبقرة: اسمٌ للأنثى.
وهذه كلها لغويةٌ وعُرْفِيةٌ.
والفرس والرَّقيق: اسمٌ لهما.
يعني: للذكر والأنثى في الحقيقة اللغوية، وأيضًا في العُرْفية.
والنَّعْجَة: اسمٌ للأنثى من الضَّأن.
في الحقيقة اللغوية، وأيضًا في العُرْفية.
والكَبْش: اسمٌ للذكر الكبير منه.
يعني: هذا في الحقيقة اللغوية.
والتَّيْس: اسمٌ للذكر الكبير من المَعْز.
في الحقيقة اللغوية.
والدَّابة عُرْفًا: اسمٌ للذكر والأنثى من الخيل والبغال والحمير.
هنا المؤلف لم يذكر الحقيقة اللغوية، وذكر العُرْف فقال: إنه يُقدَّم في الدابة العُرْف، فالعُرْف أن الدَّابة اسمٌ للذكر والأنثى من الخيل والبغال والحمير، وهذا يُؤكد ما رجَّحناه من تقديم العُرْف على الحقيقة اللغوية، لكن هذا في زمن المؤلف: أن الدابة: الخيل والبغال والحمير، لكن في وقتنا الحاضر لو قال رجلٌ: أُوصي بدابتي لفلانٍ، المقصود بها السيارة، فالدابة الآن أصبحت هي السيارة.
باب: المُوصَى إليه
ثم قال المصنف رحمه الله:
باب: المُوصَى إليه.
وهو آخر الأبواب، والفصل قبل الأخير: باب المُوصَى إليه.
المُوصَى إليه ليس من أركان الوصية؛ لأن أركان الوصية -كما ذكرنا-: المُوصِي، والمُوصَى له، والمُوصَى به، والصيغة، وهذه كلها تكلمنا عنها.
المُوصَى إليه يعني: الذي يُسميه الناس: الوَصِي، الذي يُنفذ الوصية، فهو المأمور بالتَّصرف بعد الموت في المال وغيره، فهو الذي عُهِدَ إليه بتنفيذ الوصية، يُسميه الناس: وَصِيًّا، يُسمونه: وصيًّا، وبعضهم يُسميه: وليًّا، أو ناظر الوصية، ولا مُشاحة في الاصطلاح.
الشروط الواجب توفرها في المُوصَى إليه
تصح وصية المسلم إلى كل مسلمٍ.
انتقل المؤلف للكلام عن الشروط الواجب توفرها في المُوصَى إليه:
الأول: أن يكون مُسلمًا، فلا يصح أن يكون المُوصَى إليه كافرًا؛ لأن الكافر ليس من أهل الولاية على المسلم، لكن لو كانت الوصية من كافرٍ لكافرٍ تصح.
الشرط الثاني: التَّكليف، فالمجنون لا يصح أن يكون وصيًّا؛ لأن المجنون أصلًا ليس بأهلٍ للتَّصرف في ماله، فكيف يُوكَل له التَّصرف في مال غيره؟
الشرط الثالث:
رشيد.
الرُّشْد، فلا يصح أن يكون المُوصَى إليه سفيهًا.
الشرط الرابع: العدالة.
قال:
عدلٌ ولو ظاهرًا.
فلا يصح أن يكون المُوصَى إليه فاسقًا، لكن قال بعض العلماء: إنه يصح أن يكون المُوصَى إليه فاسقًا، لكن يُضم إليه أمينٌ، وهذا هو القول الراجح.
مثلًا: لو كانت الوصية تحتاج إلى صرف شيكاتٍ، فيُمكن أن يُقال: إن هذا الشيك لا بد له من توقيعين: توقيع من هذا المُوصَى إليه الفاسق، ويُضم إليه أمينٌ، وبذلك يزول الإشكال.
أو أعمى.
يصح أن يكون المُوصَى إليه أعمى، فكونه أعمى لا يمنعه من أن يكون وصيًّا.
أو امرأة.
لا تُشترط الذكورية في المُوصَى إليه، فيصح أن يكون الوصي امرأةً، ويدل لذلك أن عمر أوصى أن تتولى حفصة نظارة وقفه الذي بخيبر؛ ولأن المرأة من أهل الشهادة، فتصح الوصية إليها؛ ولهذا لو أن رجلًا أوصى بأن يكون الوصي على أولاده أمهم -زوجته التي هي أمهم- هل يصح هذا؟
نعم، يصح، بل إنه إذا كانت الأم عاقلةً، رشيدةً، فهي أولى بأن تكون الوصية على هؤلاء الأيتام من عمِّهم، أو من رجلٍ آخر، وهذا هو الذي عليه العمل في المحاكم: أنه يصح أن تكون الوصية امرأةً.
يعني: بعض الناس -خاصةً ممن يكون في مرض الموت- يُوصي بأن تكون زوجته هي الوصية على أولاده، فوصيته صحيحةٌ، وتكون زوجته -التي هي أمهم- هي الوصي، وهي المُوصَى إليه.
أو رقيقًا.
يصح أن يكون المُوصَى إليه رقيقًا، لا يُمنع.
لكن لا يُقبل إلا بإذن سيده.
لأن منافعه ربما تفوت، فيحتاج إلى إذن السيد.
وتصح من كافرٍ إلى عدلٍ في دينه.
يعني: تصح الوصية من كافرٍ إلى كافرٍ بشرط: العدالة في الدين.
ويُعتبر وجود هذه الصفات عند الوصية والموت.
يعني: هذه الشروط والصفات تُعتبر عند النُّطق بالوصية، وعند الموت كذلك.
طيب، إذا كانت الوصية على أيتامٍ، أو على مجانين، أو على ذوي احتياجاتٍ خاصةٍ، فإن الوصي ينبغي أن يقوم بتنمية أموالهم والاتِّجار فيها حتى لا تأكلها الزكاة، كما قال عمر : “اتَّجروا في أموال اليتامى كي لا تأكلها الصدقة”، يعني: الزكاة، فينبغي أن يتَّجر بها في مجالات استثمار قليلة المخاطر، ويجب عليه أن يُزكيها، وأن يُخرج زكاتها عن كل سنةٍ، لكن حتى لا تأكلها الزكاة أو تنقصها نقصانًا كثيرًا ينبغي أن يتَّجر بأموال هؤلاء اليتامى أو المجانين أو ذوي الاحتياجات الخاصة في مجالات استثمار قليلة المخاطر.
وللمُوصَى إليه أن يقبل، وأن يعزل نفسه متى شاء.
المُوصَى إليه -الذي هو الوصي- له أن يقبل الإيصاء في حياة المُوصِي، وأن يعزل نفسه متى شاء، لكن إذا عزل نفسه فينبغي أن يُعَيَّن غيره عن طريق الحاكم، يعني: القاضي؛ لأن القاضي له الولاية العامة على الوصايا والأوقاف.
حكم الوصية المُعلقة
وتصح الوصية مُعلقةً: كإذا بلغ، أو حضر، أو رشد، أو تاب من فسقه.
يعني: أن الوصية كما تصح مُنَجَّزةً فتصح مُعلقةً، وباب الوصية أوسع من أبواب المُعاوضات، ففي أبواب المُعاوضات الحنابلة والجمهور عمومًا يمنعون من تعليق العقود، وإن كان القول الراجح صحة التَّعليق، لكن في الوصية يقول: يصح التعليق، فيصح أن يقول: إذا بلغ فلانٌ الصغير فهو وصيي، أو إذا حضر فلانٌ الغائب فهو الوصي، أو إذا رشد فلانٌ السَّفيه فهو الوصي، ونحو ذلك.
أو إن مات زيدٌ فعمرو مكانه.
أيضًا تصح الوصية بهذه الصفة من التعليق؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن قُتِلَ زيدٌ فجعفر، وإن قُتِلَ جعفر فعبدالله بن رواحة في غزوة مُؤْتَة [14].
وتصح مُؤقتةً: كزيدٍ وصيي سنةً، ثم عمرو.
لا مانع من التَّأقيت، يقول: فلانٌ وصيي لمدة سنةٍ، ثم من بعده فلان.
وليس للوصي أن يُوصي إلا إن جُعِلَ له ذلك.
الوصي كالوكيل، والوكيل ليس له أن يُوكل إلا بإذن المُوكل، فهكذا الوصي ليس له أن يُوصي إلا إذا جُعِلَ له ذلك.
وقال بعض العلماء: إن الوصي له أن يُوصي؛ لأنه قائمٌ مقام المُوصي. وهذا هو القول الراجح.
فلو جُعِلَ إنسانٌ وصيًّا، ثم حضرته الوفاة -حضرتْ هذا الوصي الوفاة- فقال: الوصي على هذه الأموال من بعدي فلانٌ. فالقول الراجح أن هذا لا بأس به.
ولا نظر للحاكم مع الوصي الخاص إذا كان كفؤًا.
إذا كان هناك وصيٌّ خاصٌّ فهو مُقدَّمٌ على القاضي، ولا نظر للقاضي -الذي هو الحاكم- مع وجود الوصي الخاص، ومثل ذلك الوقف؛ فلا نظر للحاكم مع وجود النَّاظر الخاص على الوقف.
مسائل متعلقة بالوصية
آخر فصلٍ معنا في كتاب “الوصية”: مسائل متعلقة بالوصية ختم بها المصنف فقال:
ولا تصح الوصية إلا في شيءٍ معلومٍ يملك المُوصِي فعله: كقضاء الدَّين، وتفريق الوصية، وردّ الحقوق إلى أهلها، والنَّظر في أمر غير مُكلَّفٍ.
مُراد المؤلف: أنه لا تصح الوصية إلا في شيءٍ معلومٍ، فإذا كانت في شيءٍ مجهولٍ فإن هذا الوصي لن يستطيع التَّنفيذ، فلا بد أن تكون في شيءٍ معلومٍ.
من أمثلة ما ذكره المؤلف: قضاء الدَّين، أو تفريق الوصية، أو ردّ الحقوق، أو نحو ذلك.
وقوله: “والنَّظر في أمر غير مُكلَّفٍ” يعني: أن الوصية تكون في تولي شؤون غير المُكلف: كالصبي والمجنون، والقيام برعايته.
وقوله: “غير مُكلَّفٍ” يُفهم منه أن المُكلَّف لا تصح الوصية عليه.
إنسانٌ مُكلَّفٌ كبيرٌ في السنِّ ما يصح أن يُجعل عليه وصيٌّ.
هذا رجلٌ عنده أولاد، عنده قُصَّرٌ، وعنده كبارٌ راشدون، فالقُصَّر يصح أن يجعل عليهم وصيًّا بأن يقول: أمّهم هي الوصي عليهم، لكن الكبار -الذي عمره مثلًا خمسةٌ وعشرون وثلاثون- هل يصح أن يجعل عليهم وصيًّا؟
لا يصح؛ فالوصي لا يصح على المُكلف.
قال:
لا باستيفاء الدَّين مع رُشْد وارثه.
يعني: لو أوصى باستيفاء الدَّين بأن قال: ديوني يستوفيها فلانٌ من الناس. وله ورثةٌ، وهؤلاء الورثة راشدون، لا تصح هذه الوصية؛ لأن هذا الدَّين أصلًا أصبح حقًّا للورثة، فالورثة هم الذين يستوفون الديون، ما في داعٍ لأن يجعل وصيًّا يستوفي الديون لهم، فهم الذين يستوفون الديون بأنفسهم، أو يُوكِّلون مَن أرادوا، إلا إذا كان الورثة قُصَّرًا، فله أن ينصب وصيًّا، لكن إذا كان الورثة كبارًا راشدين، فلو أوصى باستيفاء الديون مع وجود الورثة الراشدين لا تصح هذه الوصية.
ومَن وُصِّيَ في شيءٍ لم يَصِرْ وصيًّا في غيره.
لو حُدِّدت الوصية في شيءٍ معينٍ فإنها تتحدد ولا تصح في غيره، فلو أوصى -مثلًا- بوصيةٍ في تفريق الزكاة أو الكفارات فلا ينتقل ذلك إلى توزيع الإرث، ولا إلى غيره.
وإن صرف أجنبيٌّ المُوصَى به لمُعينٍ في جهته لم يضمنه.
المقصود بالأجنبي في باب الوصية يعني: مَن ليس بوارثٍ، وليس بوصيٍّ، يعني: ليست له علاقةٌ بالوصية، فلو أنه تدخل وصرف المُوصَى به لمعينٍ، ووافق هذا الصرف جهته -جهة المُوصَى به- فإنه لا يضمن لو حصل التَّلف.
يعني مثلًا: لو عرف أن فلانًا أوصى بماله لمسجدٍ، وليس له وارثٌ ولا وصيٌّ، فأخذ هذا المال ووضعه في المسجد، تدخل من نفسه ووضع هذا المال في المسجد، فَسُرِقَ هذا المال أو تلف لا يضمن؛ لأنه وضعه في جهته.
وإن قال له: ضَعْ ثلث مالي حيث شئتَ، أو أعطه أو تصدق به على مَن شئتَ، لم يَجُزْ له أخذه.
يعني: يقول هذا المُوصِي للمُوصَى إليه -للوصي-: خُذْ هذا المال، خُذْ ثلث مالي وضعه في وجوه البرِّ، أو تصدق به، أو أعطه مَن شئتَ. وهذا الوصي فقيرٌ، يقول: هل آخذ أنا من هذا الثلث؟
نقول: لا، وهذه مسألةٌ يكثر السؤال عنها، فيقول: أنا وصيٌّ في تفريق ثلث فلانٍ في وجوه البرِّ، وعلى الفقراء والمساكين، وأنا الآن فقيرٌ، هل أدخل أنا في هذا الثلث وآخذ منه؟
نقول: لا، ليس لك ذلك.
وهكذا لو كان وكيلًا في توزيع الزكاة، وهذه مسألةٌ يكثر السؤال عنها: هذا رجلٌ أعطاك مبلغًا من المال -أعطاك عشرة آلاف ريالٍ- وقال: هذه زكاةٌ وزِّعها على الفقراء والمساكين. وأنت فقيرٌ أو مسكينٌ، هل لك أن تأخذ من هذه الزكاة؟
الجواب: لا؛ لماذا؟
لأنه إنما أعطاك لتُوزع هذا المال على غيرك، وليس لتأخذ منه، فالمُوكل إنما وكلك بتوزيع هذه الأموال على غيرك، فلا يجوز لك أن تأخذ منها إلا بإذن المُوكل.
فليس للوصي أن يبيع ويشتري من مال مَن وُصِّيَ عليه لنفسه؛ لأنه مُتَّهمٌ بمُحاباة نفسه كالوكيل.
إذن ما الحلُّ في مثل هذا؟
أحيانًا بعض الناس يُعطى مالًا، يُقال: وزِّعه على الفقراء والمساكين. وهو فقيرٌ أو مسكينٌ، يقول: أستحي أن أُكلمه وأقول له: إنني فقيرٌ أو مسكينٌ.
نقول: ليس لك أن تأخذ من هذا المال شيئًا، وإذا أردتَ أن تأخذ من هذا المال شيئًا صارحه، وقل: والله أنا مُحتاجٌ، فهل تأذن لي أن آخذ منه؟ فإن أذن لك فلا بأس، أما أن تأخذ منه بغير علمه، وهو إنما أعطاك هذا المال لتُوزعه على الآخرين، فليس لك ذلك.
طالب: …….
الشيخ: لا، العاملون عليها هذه مسألةٌ أخرى، فالعاملون عليها هم الذين يبعثهم ولي الأمر لجباية الزكاة، وهذا وكيلٌ، ليس عاملًا عليها.
العاملون عليها ينحصرون فقط فيمَن يبعثهم ولي الأمر لجباية الزكاة، وأما مَن يقوم بتوزيع الزكاة والجمعيات الخيرية فهؤلاء ليسوا من العاملين عليها، هؤلاء وكلاء في توزيع الزكاة.
ولا دفعه إلى أقاربه الوارثين.
يعني: ليس للوصي أن يدفع المال المذكور في المسألة السابقة إلى أقاربه الوارثين؛ لأنه مُتَّهمٌ.
وقال بعض العلماء: إنه إذا كان أقاربه الوارثون ينطبق عليهم الوصف من فقرٍ ونحوه فلا بأس. وهذا هو القول الراجح؛ إذ لا دليل على حرمان هؤلاء لكونهم أقارب لهذا الوصي.
ولا إلى ورثة المُوصِي.
يعني: لا يجوز أن يدفع هذا المال إلى ورثة المُوصي ولو كانوا فقراء.
مثال ذلك: هذا رجلٌ أوصى بتوزيع ثلث ماله على الفقراء والمساكين، ثم إن ورثته كانوا فقراء أو مساكين، فهل لهذا الوصي أن يدفع هذا الثلث للورثة؟
نقول: لا؛ لأن هذا المُوصي إنما أراد غير الورثة، فالورثة أعطاهم حقَّهم، أو الورثة سيأتيهم حقُّهم من الميراث، فهو إنما أراد غير الورثة.
ومَن مات بِبَرِّيَّةٍ ونحوها، ولا حاكم، ولا وصي، فلكل مسلمٍ أخذ تركته وبيع ما يراه، ويُجهزه منها إن كانت.
يعني: هذه من المسائل النَّادرة الوقوع: لو مات إنسانٌ بمكانٍ -“بِبَرِّيَّةٍ” يعني: بِبَرٍّ ونحو ذلك- لا حاكم فيه ولا وصيّ، لا قاضي ولا وصيّ، وهذا الميت معه مالٌ، فلمَن وجده من المسلمين أن يأخذ من هذا المال، وأن يُجهزه في تغسيله وتكفينه، ونحو ذلك.
إن كانت.
يعني: إن كانت له تركةٌ، أما إذا لم تكن له تركةٌ فقد قال المؤلف:
وإلا جهَّزه من عنده.
يعني: يُجهزه هذا الذي وجده من عنده.
وله الرجوع بما غرمه إن نوى الرجوع.
هذا إنسانٌ وجد في البرِّ ميتًا، وتغسيل الميت وتكفينه فرض كفايةٍ، إن وُجِدَ معه مالٌ يُؤخذ من ماله لأجل تجهيزه، وأيضًا لو وُجِدَ معه شيءٌ يمكن أن يُباع، مثلًا: وُجِدَ معه جوالٌ، يُباع جواله ويُجهز به هذا الميت، وإن لم يوجد معه مالٌ يجب على هذا الذي وجده أن يُجهزه من عنده، لكن هل يرجع على الورثة أو لا يرجع؟
إن نوى الرجوع رجع، وإن نوى التَّبرع لم يرجع.
وهذه هي القاعدة فيمَن دفع مالًا عن غيره: إن نوى الرجوع رجع، وإن لم يَنْوِ الرجوع لم يرجع.
لو دفعتَ مالًا عن غيرك، هل لك أن ترجع على هذا الغير أو على ورثته؟
نقول: إن نويتَ الرجوع رجعتَ، وإن لم تَنْوِ الرجوع وكنتَ مُتبرعًا لم ترجع.
وهذه المسألة أيضًا يُحتاج إليها فيمَن يُقدم مالًا لوالديه، فبعض الناس يُقدم مالًا لوالديه، مثلًا: بيت والده يحتاج إلى ترميمٍ، يقوم بترميمه، أو يُعطي والده شيئًا: سيارةً، يُعطيه شيئًا ما، أو يُعطي والدته، وبعد وفاة الوالدين يرجع ويُطالب الورثة بما دفع، يقول: هذه سيارتي، أنا أعطيتُها أبويّ، أنا قمتُ بترميم هذا البيت، فأريد أن يُخصم هذا من التركة. فما الحكم؟
نقول له: هل نويتَ الرجوع أو نويتَ التَّبرع؟
إن كنتَ نويتَ التَّبرع لوالديك فليس لك شيءٌ، ويُصبح المال مال وارثٍ، أما إن نويتَ الرجوع على الورثة فلك أن ترجع.
كيف نعرف أنه نوى الرجوع أو التَّبرع؟
يحلف بالله العظيم؛ لأن هذا أمرٌ مُتعلقٌ بالنية، والنية أمرٌ باطنيٌّ، لا يُعرف ذلك إلا عن طريقه، وإذا شُكَّ في صدقه، ولم يُصدقه الورثة فإنه يحلف.
طيب، نختم كتاب “الوصية” بالوصية الواجبة.
هذا المصطلح مصطلحٌ مشهورٌ عند القانونيين، والوصية الواجبة منصوصٌ عليها في قوانين الأحوال الشخصية تقريبًا في جميع دول العالم الإسلامي ما عدا المملكة.
وصورتها: أن يكون لرجلٍ مجموعة أبناء، فيموت أحدهم في حياته، ويكون لهذا الابن الميت أولادٌ من بنين وبناتٍ، فيقولون: يجب على الجدِّ أن يُوصي لأولاد هذا الميت بحقِّ والدهم من الميراث.
يعني: كأن هذا الميت حيٌّ، لكن يأخذ نصيبه أولاده، فيقولون: هذه الوصية الواجبة، فإن لم يُوصِ الجدُّ فيكون لهم الثلث شاء أم أبى.
وهذا غير مقبولٍ في الفقه الإسلامي؛ لأن هؤلاء -أولاد الابن الميت- محجوبون بمَن؟
بأعمامهم، فليس لهم شيءٌ.
ولذلك نقول: الجدّ يُستحب له -ولا يجب عليه- أن يُوصي لأحفاده، خاصةً أنهم أيتام -إذا كانوا دون البلوغ- فيُستحب له أن يُوصي لأحفاده، لكنه لا يجب.
أما جعل قوانين الأحوال الشخصية ذلك واجبًا، فهذا غير مقبولٍ في الفقه الإسلامي، هذا غير واجبٍ، وإنما هو مُستحبٌّ، وليس واجبًا، والأمور لا تُؤخذ بالعاطفة، الأمور تُؤخذ بالدليل من الكتاب والسنة، فهؤلاء الأحفاد محجوبون بأعمامهم، فكيف يُوجَب على الجدِّ أن يُوصي لهم؟
لكن نقول: يُستحب، ولا يجب.
وبذلك نكون قد انتهينا من كتاب “الوصية”، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
إن شاء الله الدرس القادم في الأسبوع القادم نبدأ في كتاب “النكاح” في الجزء السابع.
الأسئلة
السؤال: هل يدخل في الصدقة: الإنفاق على الأهل والأبناء، ويدخل ذلك في دعاء المَلَك؟
الجواب: نعم، الإنفاق على الأهل من أعظم أنواع الصدقة، بل جاء في “صحيح مسلم”: أن النبي قال: دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينارٌ أنفقتَه في رقبةٍ، ودينارٌ تصدقتَ به على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقتَه على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلك [15]، وهذا الحديث نصٌّ في أن النَّفقة على الأهل أعظم أجرًا من الصَّدقة على الفقراء والمساكين.
وهذا المعنى يغفل عنه كثيرٌ من الناس، يُنْفِق على أهله من زوجةٍ وأولادٍ، ولا يحتسب النَّفقة، لا يحتسب أجر النَّفقة.
ينبغي إذا أنفقتَ على أهلك أن تحتسب الأجر؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إنك لن تُنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ عليها، حتى ما تجعل فِي فِي امرأتك [16]، فإذا أنفقتَ على الزوجة، أنفقتَ على الأولاد، احتسب الأجر عند الله ، فهذا من أعظم أنواع الصدقة، ومن أعظم أنواع النَّفقة، والظاهر أن مَن يفعل ذلك يدخل في دعاء المَلَك له بالخُلْف.
طالب: …….
الشيخ: إذا استحضر النية فإنه أعظم أجرًا، لكن إذا لم يَنْوِ فإنه يُؤجَر، مجرد النَّفقة يُؤجَر عليها.
السؤال: حكم المَنِّ على الأصدقاء على سبيل المزاح؟
الجواب: هذا من المزاح المذموم، فإذا فعلتَ معروفًا لا تَمْتَنَّ به ولو على سبيل المزاح، وأكثر ما تقع المشاكل بين الأصدقاء والعداوات بسبب المزاح.
البعيد الذي ليس بصديقٍ يتعامل الإنسان معه معاملةً خاصةً؛ يتعامل معه -يعني كما يُقال- معاملةً رسميةً، لكن الصديق ربما يتبسط معه كثيرًا، وربما يتوسع معه في المزاح، فتقع بينهما شحناء، وربما تقع عداوةٌ، والله تعالى يقول: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53]، فالشيطان يستغل مثل هذه المواقف للنَّزْغ بين الناس.
السؤال: في قول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة:180] يقول: ما وجه صرف كُتِبَ عَلَيْكُمْ إلى الاستحباب؟ وهل لفظ كُتِبَ تُفيد الوجوب؟
الجواب: الأصل في كُتِبَ الوجوب، كما في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، لكن هنا دلَّت الأدلة الأخرى على أن المراد الاستحباب؛ لأن الوصية للوالدين لا تصح؛ لقول النبي : إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارثٍ [17]، وهكذا أيضًا الأقارب الوارثون لا تصح الوصية لهم.
وعلى هذا فتُحمل الوصية على الاستحباب لغير الوارثين، والذي صرف ذلك هو الإجماع على ذلك.
السؤال: ما حدود تخفيف اللحية إذا كانت اللحية ليست متساويةً؟
الجواب: حدود تخفيف اللحية مرَّتْ معنا في أول “السلسبيل” في كتاب “الطهارة”.
قلنا: إنه يجوز أخذ ما زاد على القبضة، قال صاحب “الدليل”: “وله الأخذ مما زاد على قبضته”، وأن هذا رأي عامة الفقهاء المُتقدمين: أنه يجوز أخذ ما زاد على القبضة، ورُوي ذلك عن بعض الصحابة، فما زاد على القبضة يجوز، أما ما دون القبضة فإنه لا يجوز الأخذ منه؛ لأنه يتنافى مع قول النبي عليه الصلاة والسلام: أَعْفُوا اللِّحَى [18]، أَرْخُوا اللِّحَى [19]، أوفوا اللِّحَى [20]، خالفوا المشركين [21]، خالفوا المجوس [22]، لكن ما زاد على القبضة اعتبارًا بما ورد عن بعض الصحابة ، بل تعرفون بعض العلماء يرى الوجوب، فالشيخ الألباني رحمه الله يرى وجوب أخذ ما زاد على القبضة، والصواب أن هذا ليس واجبًا، لكنه يجوز، كما قال الفقهاء: إنه يجوز الأخذ مما زاد على القبضة.
السؤال: ما حكم لعب (البلوت)؟
الجواب: لعب (البلوت) إذا كان بمالٍ فإنه من المَيْسر، ولا يجوز، أما إذا كان بغير مالٍ؛ لأجل التَّسلية فقط، فإذا كان لا يُلهي عن واجبٍ، ولا يُوقِع في مُحرمٍ فلا بأس؛ لأن الأصل في هذه الألعاب الجواز، لكن إذا كان يُلهي عن واجبٍ، أو يُوقِع في مُحرمٍ فلا يجوز.
السؤال: هل الشعر النَّابت أعلى الخَدِّ من اللحية؟
الجواب: ليس من اللحية؛ لأن اللحية هي ما نبت على الذقن والعارضين فقط، فما ينبت على الخَدِّ، وما ينبت على الحَلْق، هذا ليس من اللحية.
السؤال: هل الاتِّكاء على باطن اليد واحدةً أو اثنتين جائزٌ؟
الجواب: الاتِّكاء جائزٌ، الأصل في الاتِّكاء أنه يجوز، والنبي كان أحيانًا يتَّكئ كما جاء في الحديث: وكان مُتَّكئًا فجلس، وقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور فما زال يُكررها حتى قلنا: لَيْتَه سكتَ [23]، لكن الاتِّكاء عند أكل الطعام مكروهٌ؛ لأن هذه صفة المُترفين، فعند أكل الطعام حتى لا تصل لدرجة التَّحريم، وإنما مكروهٌ، فقط كراهةٌ.
والاتِّكاء عمومًا ذكره الله تعالى من نعيم أهل الجنة: عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس:56]، يتَّكؤون على الأرائك، ويتبادلون الأحاديث.
تبادل الأحاديث مع مَن تُحب ذكره الله تعالى من نعيم أهل الجنة، فهو من صور النَّعيم.
فالاتِّكاء مع الحديث مع مَن تُحب هذا ذكره الله تعالى من نعيم أهل الجنة، فالأصل فيه الجواز، لكن الاتِّكاء عند الأكل هذا هو المكروه، أن تأكل وأنت مُتَّكئٌ مكروهٌ كراهةً فقط؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا آكل مُتَّكئًا [24].
طالب: ……
الشيخ: لا، ما صحَّ، ما جاء أن الاتِّكاء جلسة أهل النار لا يصح، غير صحيحٍ، فالنبي عليه الصلاة والسلام فعل هذا: كان مُتَّكئًا فجلس.
طالب: ……
الشيخ: لا، لا يصح من صور الاتِّكاء إلا الاتِّكاء على الجنب فقط: كان مُتَّكئًا فجلس، يعني: مائلًا لأحد جانبيه هكذا، مُتَّكئٌ ثم جلس، هذا المقصود بالاتِّكاء، وما عدا ذلك مما قيل كله لا يثبت فيه شيءٌ.
السؤال: هل الصدقات المعنوية -كالابتسامة وكفِّ الأذى- داخلةٌ في دعاء المَلَك؟
الجواب: غير داخلةٍ، المقصود بالخَلَف في دعاء المَلَك يعني: بذل المال، مَن بذل مالًا في وجهٍ من وجوه البرِّ فيدخل في دعوة المَلَك: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا [25]، أما الصدقات المعنوية فلا تدخل، وإن كان صاحبها مأجورًا.
السؤال: رجلٌ شعر بخروج المَذْي أثناء صلاته، فما الحكم؟
الجواب: هذا عنده وسوسةٌ، فلا يمكن أن يشعر بخروج المَذْي أثناء الصلاة؛ لأن المَذْي لا يخرج أصلًا إلا عند اشتداد الشهوة، فهو مُنشغلٌ بصلاته، بعيدٌ عن الشهوة.
فمثل هذا الذي ذكره الأخ الكريم في الغالب أنه وسوسةٌ، وإذا كان خرج شيءٌ بالفعل وتأكد وتيقَّن، فهذا ليس مَذْيًا، وإنما هو وَدْيٌ، بالدال.
الوَدْي: هو سائلٌ لَزِجٌ يخرج عقب التَّبول بغير شهوةٍ.
فالفرق بين المَذْي والوَدْي: أن المَذْي يخرج بشهوةٍ، وأما الوَدْي فيخرج بغير شهوةٍ، وكلاهما ناقضٌ للوضوء، وكلاهما نجسٌ إلا أن نجاسة المَذْي مُخففةٌ.
السؤال: ما حكم الاحتفال بالمولد النبوي؟
الجواب: الاحتفال بالمولد النبوي بدعةٌ؛ وذلك لأنه تعظيم زمنٍ يتكرر كل عامٍ من غير دليلٍ، فهذا التَّعظيم هو نوعٌ من اتِّخاذه عيدًا، والمسلمون ليس لهم إلا عيد الفطر وعيد الأضحى، فمَن اتَّخذ عيدًا غير هذين العيدين فقد ابتدع في دين الله .
ولهذا في القرون الثلاثة المُفضلة -قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم- لم يكونوا يحتفلون بمولد النبي ، بل إن النبي نفسه لم يكن يحتفل بذلك، وإنما أول مَن أحدثه الفاطميون العُبيديون في القرن السادس، وتبعهم على ذلك بعض المسلمين.
فهذا الاحتفال بالمولد النبوي نقول: إنه من البدع المُحدثة.
ومحبة النبي إنما تكون في اتِّباعه، وليس بإحداث هذه الطقوس الفارغة، وهذه الاحتفالات، إنما تكون باتباع النبي ، كما قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فاتِّباع النبي دليلٌ على محبة الله، وعلى محبة رسوله .
طالب: ……. من باب العادة.
الشيخ: لا، ليس من باب العادة، كونه يُعظم الزمن ويتكرر هذا ليس من قبيل العادة، وإنما هو تخصيصٌ لزمنٍ على وجه التَّعظيم، ويتكرر كل عامٍ، هذا معنى العيد، ما معنى العيد؟
العيد معناه: يتكرر كل عامٍ على وجهٍ مُعظمٍ.
السؤال: إذا أوتر بخمس ركعاتٍ سَرْدًا، فهل السنة أن يقرأ بـسَبِّحِ [الأعلى] و”الكافرون” و”الإخلاص”؟
الجواب: نعم، لا بأس، لكن أُنبه هنا إلى قضيةٍ هي: أن مَن أراد أن يسرد بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ ينبغي أن يكون ذلك على غير الغالب؛ لأن الغالب من هدي النبي أنه يُصلي مثنى مثنى، ثم يُوتر بواحدةٍ، لكن سرد ثلاث ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ، أو سرد خمسٍ، أو سرد سبعٍ، هذا ورد في حالاتٍ قليلةٍ عن النبي ، فينبغي ألا يتَّخذها الإنسان عادةً، وهكذا أيضًا سرد ثلاث ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ.
ولذلك تجد بعض أئمة المساجد في صلاة التراويح طوال رمضان يسردون الثلاث الركعات الأخيرة بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ، وهذا خلاف السنة، ولو فعل ذلك أحيانًا بصفةٍ عارضةٍ لا بأس، لكن يكون طوال رمضان بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ، هذا خلاف السنة.
فهذه ينبغي أن تُطبق كما وردتْ، وهي قد وردتْ عن النبي في حالاتٍ قليلةٍ، وإلا فالغالب هو مثنى مثنى، ثم يُوتر بواحدةٍ.
السؤال: ما حكم البطاقات الائتمانية للمصارف الإسلامية، حيث إن أرباحهم تكون شهريةً في حال عدم سدادك للمُستحقات قبل تاريخٍ معينٍ من كل شهرٍ؟
الجواب: لا بأس بذلك، فهذه البطاقات الائتمانية أصبحت الآن بطاقات مُرابحة، وليست بطاقات إقراض، وكانت في السابق بطاقات إقراض التي هي بطاقات (الفيزا) و(الماستر كارد)، كانت بطاقات إقراض، وفي الآونة الأخيرة أصبحت بطاقات مُرابحة.
يعني: البنك يُعطيك هذه البطاقة بطريق المُرابحة، ويجعل سقفًا أعلى للربح، فإن التزمتَ بالسداد خلال فترة السماح المجانية أسقط عنك هذا الربح، وإن لم تلتزم احتسب عليك هذا الربح.
فهذه لا بأس بها؛ لأنها بطاقات مُرابحةٍ، ومُنضبطة بالضوابط الشرعية، ولا يحتاجون مع وجود بطاقات المُرابحة، أو بهذه الطريقة لا يحتاجون أصلًا إلى شرط غرامة التأخير؛ لأنهم جعلوا الربح بسقفٍ أعلى، فإن التزمتَ بالسداد خلال فترة السماح المجانية أسقطوا عنك هذا الربح، وإن لم تلتزم حسبوا عليك هذا الربح.
فهذه البطاقات لا بأس بها، ومُنضبطةٌ بالضوابط الشرعية.
السؤال: هل للإحرام صلاةٌ خاصةٌ به؟
الجواب: القول الراجح أنه ليس للإحرام صلاةٌ خاصةٌ به، وهذا هو الذي اختاره جمعٌ من المُحققين من أهل العلم، لكن قد دلَّت السنة على أنه يُستحب أن يكون الإحرام عقب صلاةٍ، فإن كان وقت صلاة الفريضة قريبًا فينتظر حتى يُصلي صلاة الفريضة، ثم يُحرم، وإن لم يكن قريبًا يأتي بصلاةٍ مشروعةٍ، فإن كان -مثلًا- في وقت الضُّحى يأتي بركعتي الضحى، وإن كان في الليل يأتي بصلاة الوتر، أو يأتي مَن يتوضأ -مثلًا- بركعتي الوضوء ثم يُحرم بعد ذلك.
السؤال: هل الاستقطاع اليومي بمبلغٍ يسيرٍ لإحدى الجمعيات الخيرية يدخل في الحديث: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا؟
الشيخ: نعم، يدخل في ذلك؛ لأنك تتصدق كل يومٍ بصدقةٍ لله ، فتدخل في دعوة المَلَك: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وهذه من الطرق اليسيرة، والتي تُساعد الإنسان على أن يتصدق كل يومٍ.
يكون استقطاعٌ يوميٌّ ولو بمبلغٍ يسيرٍ، ولو بريالٍ، لكن تضمن أنك كل يومٍ تصدقتَ فيه لله بصدقةٍ، وتدخل في دعوة المَلَك لك بالخَلَف.
طيب، لعلنا نختم بهذا السؤال، وبقية الأسئلة -إن شاء الله- نُرْجِؤها إلى درس الغد.
السؤال: أنا عملي كل يومٍ إلى مكانٍ يبعد مئةً وخمسين كيلو، هل يجوز أن أقصر الصلاة؟
الجواب: نعم، مئةٌ وخمسون كيلو مسافة سفرٍ، أقلّ مسافةٍ للسفر: ثمانون كيلو مترًا، فإذا كنت تذهب إلى مكانٍ يبعد مئةً وخمسين كيلو فهذه مسافة سفرٍ.
معنى ذلك: أنك تُسافر كل يومٍ لأجل عملك، فلك أن تقصر وتجمع، وتترخص بِرُخَص السفر.
لكن أُنبه هنا إلى أن حساب المسافة إنما يكون من مُفارقة العمران، وليس من البيت؛ لأن في مدينةٍ كبيرةٍ -مثل: مدينة الرياض- لو حسبتها من البيت قد لا تنضبط معك المسافة؛ ولذلك تحسب المسافة من آخر عمران البلد الذي تُقيم فيه، مثلًا: الرياض آخر عمران مدينة الرياض، يعني: في الغالب أن نقاط التَّفتيش تكون على آخر العمران، في الغالب، فتكون هذه كالقرينة.
فمثلًا: من جهة الخَرْج من بعد نقطة التَّفتيش تحسب المسافة، ومن جهة الغرب كذلك أيضًا من نقطة التَّفتيش التي في جهة الغرب قبل نزلة القدية تبدأ في حساب المسافة، فإذا كانت المسافة تبلغ ثمانين كيلو مترًا فأكثر فهي مسافة سفرٍ، لك أن تقصر، وأن تجمع، وأن تترخص بِرُخَص السفر، ولو كان ذلك كل يومٍ؛ لأن معنى ذلك أنك تُسافر كل يومٍ للعمل، فلا مانع من أن تترخص بِرُخَص السفر من القصر والجمع وبقية رُخَص السفر.
وفَّق الله الجميع لما يُحب ويرضى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2699. |
---|---|
^2, ^9, ^17 | رواه أبو داود: 2870، والترمذي: 2120 وقال: حسنٌ. |
^3 | رواه البخاري: 4409، ومسلم: 1628. |
^4 | رواه البخاري: 2738، ومسلم: 1627. |
^5 | رواه مسلم: 1627. |
^6 | رواه أحمد: 6100. |
^7 | رواه البخاري: 1419، ومسلم: 1032. |
^8 | رواه البخاري: 1426، ومسلم: 1042. |
^10 | رواه البخاري: 3017. |
^11 | رواه أبو يعلى الموصلي في “مسنده”: 5982، وبنحوه البيهقي في “السنن الكبرى”: 12612. |
^12 | رواه مسلم: 1690. |
^13 | رواه الدارقطني في “سننه”: 3049، والحاكم في “المستدرك”: 2366. |
^14 | رواه البخاري: 4261. |
^15 | رواه مسلم: 995. |
^16 | رواه البخاري: 56، ومسلم: 1628. |
^18 | رواه البخاري: 5893، ومسلم: 259. |
^19, ^22 | رواه مسلم: 260. |
^20 | رواه مسلم: 259. |
^21 | رواه البخاري: 5892، ومسلم: 259. |
^23 | رواه البخاري: 5976، ومسلم: 87. |
^24 | رواه البخاري: 5398. |
^25 | رواه البخاري: 1442، ومسلم: 1010. |