logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(64) باب الهبة- من قوله “وهي التبرع بالمال في حال الحياة.”

(64) باب الهبة- من قوله “وهي التبرع بالمال في حال الحياة.”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

طيب، ننتقل بعد ذلك إلى “السلسبيل”، وفي هذا الدرس نشرح -إن شاء الله- باب الهبة والعطية، ثم في الأسبوع القادم -إن شاء الله- الوصية، ثم بعده سننتقل للمجلد السابع، باب الفرائض، هذه سبق أن شرحناها في درسٍ خاصٍّ، وربما أيضًا نعيد شرحها مرةً أخرى في دورةٍ أو درسٍ خاصٍّ؛ لأنها تحتاج لطريقةٍ خاصةٍ في الشرح، وتحتاج إلى سبُّورةٍ، وتحتاج إلى جوانب عمليةٍ أكثر من الجوانب النظرية؛ فلذلك -إن شاء الله- بقي معنا هذان الدرسان، ثم ننتقل بعد ذلك إلى المجلد السابع، ثم الثامن، ثم ننتهي من “السلسبيل” على حسب الخطة بإذن الله ​​​​​​​.

باب الهبة

باب الهبة

تعريف الهبة لغةً واصطلاحًا

“الهبة”: هذه المادة في اللغة العربية: مصدر وَهَبَ يَهَب هِبَةً، والهبة تعني: العطية، وهب: يعني أعطى، وتعني: التبرع.

واصطلاحًا: عرفها المؤلف بقوله:

وهي التبرع بالمال في حال الحياة.

التبرع بالمال في حال الحياة، وعرفها بعضهم بأنها: التبرع بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيرَه، وهذا بناءً على القول بعدم صحة هبة المجهول، وسيأتي أن الراجح: أن هبة المجهول تصح؛ ولهذا تعريف المؤلف جيدٌ.

الفرق بين الهبة والهدية

الفرق بين الهبة والهدية: الهدية يقصد منها التودد إلى المُهدَى إليه، وأما الهبة فيقصد بها نفع المعطَى، وقد يريد بها أيضًا التقرب إلى الله تعالى، ولكن مَن تمحَّض قصدُه في التقرب إلى الله؛ فهذه صدقةٌ، من أراد التودد لمن أعطاه؛ فهذه هديةٌ، من كان بين وبين، يعني يريد نفع المعطَى، وقد يريد التقرب؛ فهذه تسمى هبةً.

والصدقة أفضل من الهدية؛ لأن الصدقة يريد بها التقرب إلى الله ، فهي عبادةٌ محضةٌ، بخلاف الهدية فيقصد بها إكرام من يُهديه، لكن قد يعرض للمفضول ما يجعله فاضلًا، قد تكون الهدية أفضل؛ كما لو كانت الهدية للوالدين مثلًا؛ لأنها تدخل في بر الوالدين، وكما لو كانت الهدية لذي رحمٍ؛ تَدخل في صلة الرحم، أو لجارٍ؛ تدخل في الإحسان للجار، قد يعرض للمفضول ما يجعله فاضلًا.

حكم الهبة

وهي مستحبةٌ.

وهذا بالإجماع، ومِثل ذلك الهدية؛ ولهذا جاء في حديث أبي هريرة  أن النبي قال: تهادَوا تحابُّوا [1].

طيب بم تنعقد؟

قال:

منعقدةٌ بكل قولٍ أو فعلٍ يدل عليها.

وسبق أن ذكرنا أن القول المرجَّح عند المحققين: أن العقود تنعقد بكل ما دل عليها من قولٍ أو فعلٍ.

شروط الهبة

وشروطها ثمانيةٌ:

الشرط الأول:

كونها من جائز التصرف.

وهو الحر المكلف الرشيد، فلا تصح من غيره، لا تصح من غير المكلف، ولا تصح من الرقيق، ولا تصح من السفيه.

الشرط الثاني:

كونه مختارًا غير هازلٍ.

فإن كان هازلًا؛ فإنها لا تنعقد؛ وذلك لأنه لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ، إلا بطيبةٍ من نفسه، لو قال: وهبتك هذا الشيء أو أهديتك، ثم قال: كنت أمزح، لا تنعقد هذه الهبة.

الشرط الثالث:

كون الموهوب يصح بيعه.

قالوا: لأن عقد الهبة يُقصد به تمليك العين، أشبه البيع، ولكن يَرِد على هذا: أن هناك أمورًا لا يصح بيعها، والناس محتاجون للقول بجواز هبتها؛ مثل الكلب، الكلب لا يجوز بيعه، ولكن على كلام المؤلف أن هبة الكلب لا تصح؛ لأنه اشترط لصحة الهبة: أن يكون الموهوب يصح بيعه، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو أيضًا قولٌ عند المالكية، وأيضًا مذهب الحنفية.

والقول الثاني: عدم اشتراط هذا الشرط، أنه لا يشترط لصحة الهبة: أن يكون الموهوب يصح بيعه؛ لأنه لا دليل يدل على اشتراط هذا الشرط، وهذا هو القول الأقرب، والله أعلم؛ وعلى ذلك: تصح هبة الكلب، فإذنْ من اشترط هذا الشرط قال: لا تصح هبة الكلب، ومن لم يشترطه قال: إنه تصح هبة الكلب، والصحيح: عدم اشتراط هذا الشرط، فتصح هبة الكلب مع أنه لا يصح بيعه.

وكذلك أيضًا ما كان فيه جهالةٌ وغررٌ؛ مثل الحمل في البطن، واللبن في الضرع، هذه لا يصح بيعها، لكن هل تصح هبتها؟

المذهب عند الحنابلة: أن هبة المجهول لا تصح، لكن عندهم الوصية بالمجهول تصح، يفرقون بين الهبة وبين الوصية.

والقول الراجح: أنه لا يشترط هذا الشرط، فتصح هبة الحمل في البطن، وأن الجهالة والغرر في أبواب التبرعات عمومًا غير مؤثرةٍ، سواءٌ كان في الهبة، أو في الوصية، وأن الغرر إنما هو مؤثرٌ في عقود المعاوضات؛ لأن النصوص إنما وردت بالنهي عن الغرر في المعاوضات فقط، ولأن الغرر في المعاوضات هو مظِنة المنازعة والخصومة التي تؤدي للشحناء والبغضاء، وأما عقود التبرعات فالجهالة فيها لا تضر، عندما يقول: وهبتك هذا الشيء المجهول، الموهوب له إن حصل له، وإلا لن يضره شيئًا، يعني هو إما سالمٌ وإما غانمٌ، بخلاف عقود المعاوضات إذا كان فيها جهالةٌ وغررٌ، هذه مظنةٌ للنزاع والخصومة.

وعلى هذا فالراجح: أنه يغتفر في الجهالة والغرر في عقود التبرعات عمومًا، وهذا هو مذهب المالكية، واختيار الإمام ابن تيمية رحمه الله.

فإذنْ عندنا من العلماء من قال بأنه لا يغتفر في الجهالة والغرر في التبرعات عمومًا.

ومنهم من قال: إنه يغتفر فيها في باب الوصية فقط، وأما في غير الوصية فلا يغتفر، وهذا مذهب الحنابلة.

ومنهم من قال: إنه يغتفر في أبواب التبرعات في الجهالة والغرر عمومًا، وهذا هو القول الراجح، فجميع أبواب التبرعات يغتفر فيها في الجهالة والغرر.

وهذا يقودنا إلى مسألةٍ معاصرةٍ، وهي: مسألة التأمين، فالتأمين التجاري عند جمهور العلماء المعاصرين محرمٌ، وعلة التحريم هي الجهالة والغرر، لا يسلم مما قيل في علل التحريم سوى هذه العلة، يعني القول بأنها ربًا، هذا غير صحيحٍ، وغير مُسلَّمٍ، وهكذا أيضًا ما قيل من الأمور الأخرى، لكن فقط المؤثر هو الجهالة والغرر.

فالتأمين التجاري: الجهالة والغرر فيه ظاهرةٌ، أما التأمين التعاوني: التأمين التعاوني يقوم أصلًا على التبرع.

فانطلاقًا من القول الراجح في هذه المسألة، وهو أن الجهالة والغرر في عقود التبرعات مغتفرةٌ؛ فنقول: الجهالة والغرر في التأمين التعاوني مغتفرٌ؛ وعلى ذلك نقول: التأمين التعاوني يجوز، والتأمين التجاري لا يجوز، فإن قال قائلٌ: التأمين التعاوني فيه جهالةٌ وغررٌ مثل الجهالة والغرر في التأمين التجاري ولا فرق.

نقول: لا، هناك فرقٌ، التأمين التجاري: عقد معاوضةٍ لا يغتفر فيه الجهالة والغرر، التأمين التعاوني: عقد تبرعٍ يغتفر فيه الجهالة والغرر؛ فبينهما فرقٌ، طبعًا هو عقد تبرعٍ، لكن تشوبه شائبة المعاوضة، مثل شركات التأمين التعاوني، ليس تبرعًا محضًا، هو تبرعٌ في الأصل، لكن تشوبه شائبة المعاوضة، فبذلك نجيب عن قول من قال: إنه لا فرق بين التأمين التجاري والتعاوني.

فنقول: هناك فرقٌ كبيرٌ، وهو أن التأمين التجاري عقد معاوضةٍ، فيمنع في عقود المعاوضات من الغرر، بينما عقد التأمين التعاوني لا يعتبر عقد معاوضةٍ، بل من عقود التبرعات، وعقود التبرعات يغتفر فيها الجهالة والغرر.

قال:

وكون الموهوب له يصح تملكه.

فإن كان لا يصح كالحمل؛ لا تصح الهبة.

وكونه يَقبل ما وُهب له بقولٍ أو فعلٍ يدل عليه قبل تشاغلهما بما يقطع البيع عرفًا.

فهذا الشرط الخامس، وهذا مرتبطٌ بما ذكرناه في بداية الدرس من قضية المنة، لا بد أن الموهوب له يقبل الهبة؛ لأن بعض الناس عنده عزة نفسٍ، يقول: لا، أنا لا أقبل هبة فلانٍ، لا أقبلها؛ لأنه يعرف أن فلانًا كثير المنة، لا يقبل هبةً منه.

فإذنْ الفقهاء يشترطون لصحة الهبة وانعقادها: أن الموهوب يَقبل ما وُهب له بقولٍ أو فعلٍ.

قال: “قبل تشاغلهما”، يعني: قبل تشاغل المتعاقدين، “بما يقطع البيع عرفًا”، يعني: في مكان الهبة قبل التفرق.

وكون الهبة مُنَجَّزةً.

هذا مرتبطٌ بمسألةٍ مرت معنا كثيرًا، وهي: تعليق العقود، فالجمهور -ومنهم الحنابلة- يمنعون من تعليق العقود، والقول الراجح: أنه لا بأس بتعليق العقود، ومن ذلك الهبة؛ فعلى هذا: الصحيح، أو القول الراجح: أنه لا يشترط هذا الشرط، فلو قال: وهبتك هذا الشيء عند دخول شهر رمضان، أو وهبتك إن قدم زيدٌ، أو وهبتك إن رضي أبي، أو.. فما المانع من صحة ذلك؟

القول الراجح إذنْ: عدم اشتراط هذا الشرط، ومما يدل لذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها، وفيه: “لا أرى هديتي إلا مردودةً عليَّ، فإن ردت عليَّ؛ فهي لك”، هذا في قصة النجاشي، وعن سفينة  قال: كنت مملوكًا لأم سلمة، فقالت: “أُعتقتك وأشترط عليك أن تخدم رسول الله ما عشت، فقلت: وإن لم تشترطي عليَّ، ما فارقت رسول الله ما عشت، فأعتقتني واشترطت عليَّ” [2]، قالوا: هذه هبةٌ، ومُعَلَّقةٌ؛ فعلى ذلك: القول الراجح: أن الهبة يصح تعليقها، بل جميع العقود يصح تعليقها.

الشرط السابع:

كونها غير مؤقتةٍ.

يعني: لا تكون مثلًا لمدة شهرٍ، أو مدة أسبوعٍ؛ لأنها إذا كانت مؤقتةً أصبحت عاريةً، ولم تكن هبةً، ليس معنى ذلك أنها لا تجوز، لكن لا يصح تسميتها هبةً.

لكن لو وُقتت بعمر أحدهما؛ لزمت ولغا التوقيت.

ما معنى العُمرَى والرُّقبَى؟

هذه لها مصطلحٌ عند العلماء، يسمونها: العُمرى والرُّقبى، وهما نوعان من الهبة، ما معنى العُمرى والرُّقبى؟

العُمرى: أن يقول شخصٌ لآخر: أعمرتك داري هذه، أو داري هذه لك عمرَك، يعني طوال عمرك، فالعُمرى مشتقةٌ من العمر.

والرُّقبى: أن يقول: أرقبتك داري هذه على أنك إن مت قبلي فهي لي، وإن مت قبلك فهي لك، فأحدهما يراقب متى يموت الآخر، فسميت رُقبى، فهما نوعان من الهبة، وهما جائزتان، ولكن يقول المؤلف: “لزمت”، يعني تلزم هذه الهبة، “ولغا التوقيت”، يعني لغا الشرط، فلا ترجع للواهب.

وهذه جاء فيها عدة أحاديث عن النبي ؛ منها حديث جابرٍ : أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها؛ فإن من أَعمَر عُمرى؛ فهي للذي أُعمِرَها حيًّا وميتًا ولعقبه [3]، ولهذا مسألة: هل ترجع العين الموهوبة -التي كانت هي العمرى أو الرقبى- للمُعْمِر وللمُرْقِب؟

فيها قولان للعلماء:

  • القول الأول: أنها لا ترجع، وإنما تكون للمُعْمَر وللمُرْقَب، له في حياته، ولورثته بعد مماته، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وأيضًا مذهب الشافعية.
  • والقول الثاني: أنها ترجع للذي أعمرها، وهذا مذهب المالكية؛ لقول النبي : المسلمون على شروطهم [4].

والقول الراجح والله أعلم: هو القول الأول؛ لأن الأحاديث ظاهرةٌ في أنها لا ترجع، يعني: لو تأملنا حديث جابرٍ ، يقول عليه الصلاة والسلام: أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها؛ فإن من أَعمَر عُمرى، فهي للذي أعمرها حيًا وميتًا، ولعقبه [5]، هذا رواه مسلمٌ، وهل هناك أصرح من هذا؟

يعني: لو أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعبر بأن العُمرى والرُّقبى تكونان للمُعمَر وللمُرقَب ولورثته من بعده، هل هناك صيغةٌ أصرح من هذا؟! هذا كما ترون الحديث صحيحٌ، في “صحيح مسلمٍ”، وصريحٌ، وظاهر الدلالة في أن الهبة تنتقل للمُعمَر وللمُرقَب.

الشرط الثامن:

وكونها بغير عوضٍ.

يعني: تكون بدون عوضٍ؛ لأنها عقد إرفاقٍ؛ لأنها إذا كانت بعوضٍ، ما الذي يترتب على ذلك؟

قال:

فإن كانت بعوضٍ معلومٍ؛ فبيعٌ.

إذا أصبحت بعوضٍ؛ لم تَعُد هبةً، وإنما أصبحت بيعًا.

قال:

وبعوضٍ مجهولٍ؛ فباطلةٌ.

إذا كانت بعوضٍ؛ قلنا: إنها بيعٌ، طيب، إذا كان العوض مجهولًا؛ فمعنى ذلك: أصبح بيعًا بعوضٍ مجهولٍ؛ فتكون باطلةً.

ومن أَهدَى؛ ليهدى له أكثر؛ فلا بأس.

هذه يسميها الفقهاء: “هبة الثواب”، وهي جائزةٌ إلا في حق النبي ، فإنه ممنوعٌ منها بقول الله تعالى: وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6]، فالنبي عليه الصلاة والسلام ممنوعٌ من هبة الثواب، أما من عداه..، يعني ممنوعٌ أن يفعل هو، أن يهدي لغيره كي يستكثر، أما غيره فهي جائزةٌ.

وَلَا تَمْنُنْ يعني: لا تهب، تَسْتَكْثِرُ يعني: ترجو أكثر من ذلك، فهذه لا تكون لأصحاب النفوس الرفيعة، أن يهب هبةً ليرجو أكثر منها، تكون لأصحاب النفوس الدنيئة والأقل من ذلك؛ ولهذا نهى الله تعالى نبيه ؛ لأن هذا لا يليق بمقام النبوة، أن يهب هبةً أو يهدي هديةً؛ ليرجو أكثر منها.

طيب، كيف نعرف هبة الثواب؟

تعرف بالقرائن؛ كأن يهدي فقيرٌ هديةً لأميرٍ أو لثريٍّ، يأتي للإنسان من الأمراء أو الأثرياء، وهذا الإنسان المهدِي فقيرٌ، فهذه تسمى هبة ثوابٍ؛ لأن هذا الفقير يرجو بهذه الهدية أن يُعطَى أكثر منها، فهذه تسمى: “هبة الثواب”، فهي جائزةٌ.

حكم رد الهبة

ويكره رد الهدية وإن قَلَّت.

رد الهدية مكروهٌ، وقد ورد في ذلك حديث ابن مسعودٍ : لا تردوا الهدية [6]، ولِمَا في ردها من كسر خاطر أخيك المسلم، فينبغي أن تجبر بخاطر أخيك المسلم، وأن تقبل هديته وإن قَلَّت، وإذا كان هناك سببٌ يقتضي الرد؛ ينبغي أن تصرح له بهذا السبب، ولهذا لما أَهدَى الصَّعْبُ بن جَثَّامة النبي حمارًا وحشيًّا وهو مُحرِمٌ؛ رد النبي عليه هديته، فلما رأى تغير وجه الصعب بن جثامة؛ قال: إنا لم نرده عليك إلا لأنَّا حُرُمٌ [7]، فأراد أن يطيب خاطره بذلك.

مثلًا: معلمٌ أهدى له طالبٌ هديةً، فيعتذر ويقول: أنا رددتها لأني أنا معلمٌ، ولا يجوز أن أقبل هذه الهدية، لكن -إن شاء الله- سأقبل هديتك عندما تتخرج، يعني يجبر خاطره بمثل هذه الكلمات.

قلنا: إذنْ رد الهدية مكروهٌ، رد الهدية مكروهٌ؛ لما فيها من كسر خاطر أخيك المسلم، وقبول الهدية عمومًا مستحبٌّ، وقد كان النبي يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة، حتى وإن كانت الهدية قليلةً.

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لو دُعيت إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ؛ لأجبت، ولو أُهدي إليَّ ذراعٌ أو كراعٌ؛ لقبلت [8]، أخرجه البخاري، وقال: يا نساء المسلمات، لا تَحقرَنَّ جارةٌ لجارتها، ولو فِرْسِن شاةٍ [9]، والفِرْسِن: هو العظم قليل اللحم، ولو أن تُهدِي لها عظمًا قليل اللحم، وهذا مبالغةٌ في إهداء الشيء اليسير، فينبغي أن تقبل الهدية، حتى وإن كانت قلمًا، وإن كانت سواكًا، وإن كانت دهن عودٍ مثلًا، أو طيبًا، فينبغي للمسلم أن يقبل الهدية، ولا يردها، هذه هي السنة، السنة قبول الهدية وعدم ردها.

ويتأكد قبول الهدية وعدم ردها إذا كانت من الطِّيب؛ لقول النبي : من عُرض عليه طِيبٌ فلا يرده؛ فإنه خفيف المحمل، طيب الرائحة [10]، وهذا نهيٌ من النبي ، وأقل ما يفيد النهي: الكراهة، وهذا الحديث أخرجه بلفظ الطِّيب: من عرض عليه طيبٌ، أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد أيضًا، لكن أخرجه مسلمٌ بلفظ: من عرض عليه ريحانٌ فلا يرده [11]، لكن المحفوظ من الرواية من حيث الصناعة الحديثية أنه ورد بلفظ الطيب، وليس بلفظ الريحان، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجرٍ وغيره؛ لأن الذين رووه بلفظ الطيب جماعةٌ، وأحمد وسبعة أنفسٍ معه رووه عن عبدالله بن يزيد المَقبُري عن سعيد بن أبي أيوب بلفظ الطيب، فرواية الجماعة أولى من رواية الواحد.

فإذنْ المحفوظ من حيث الرواية: من عرض عليه طيبٌ، وليس: ريحانٌ.

حكم المكافأة على الهدية

قال:

بل السنة أن يكافئ أو يدعو.

يعني: إذا أُهدي للإنسان هديةٌ؛ فالسنة: أن يكافئ على هذه الهدية، أهدى لك هديةٌ، أن تهدي له مثل ما أَهدَى إليك، أو على الأقل تدعو له؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه؛ فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه [12].

ومن أفضل الأدعية ماذا؟ “جزاك الله خيرًا”، أن تحيل الجزاء إلى الله ، والله تعالى هو أكرم الأكرمين، فمن أفضل الأدعية: “جزاك الله خيرًا”؛ ولهذا جاء في الحديث: من قال لأخيه: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء [13].

فينبغي أن يُعوِّد المسلم نفسه على مكافأة صاحب المعروف إن أمكن، أو على الأقل أن يدعو له وأن يشكره، بعض الناس عنده نوعٌ من الجفاء، يُهدَى إليه المعروف، ويسدى إليه المعروف، ومع ذلك حتى الشكر لا يشكر، وحتى الدعاء لا يدعو، والذي ينبغي للمسلم: إما أن يكافئ على هذا المعروف أو هذه الهدية، أو على الأقل أن يشكر الذي عمل معه هذا المعروف أو أهدى له هذه الهدية، وأن يدعو له، أن يشكره وأن يدعو له، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا يشكر الله من لا يشكر الناس [14].

فينبغي أن يُعَوِّد الإنسان نفسه على الشكر، إذا أُهدي لك أي معروفٍ، أي معروفٍ، فتشكر الذي أعطى لك هذا المعروف، وتدعو له، ومن أحسن الأدعية أن تقول: جزاك الله خيرًا.

قبول الهدية مستحبٌّ، ما يلزم، بعض الناس قد يكون عنده عزة نفسٍ، ما يريد أحدًا يُهدي له شيئًا، فالقول بالوجوب يقتضي التأثيم، فقبول الهدية مستحبٌّ وليس واجبًا، لكن الهدية قد تكون محرمةً، متى؟ تكون محرمةً إذا كانت من قَبيل هدايا العمال؛ فإن هدايا العمال غُلولٌ، وكما جاء في حديث ابن اللُّتْبِيَّة  لمَّا أرسله النبي لقبض الزكوات، فأتى بالزكوات، وأتى معه بهدايا من الناس، وهذا لكم، وهذا أهدي إليَّ، فعظَّم النبي هذه المسألة، وخطب وقال: ما بال الرجل نستعمله فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ؟! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيءٌ أم لا، ثم قال عليه الصلاة والسلام: والله لا يأخذ أحدٌ منكم شيئًا بغير حقه؛ إلا لقي الله يحمله يوم القيامة [15]، فعظم النبي هذه المسألة من عدة وجوهٍ:

  • الوجه الأول: أنه أنكر على هذا العامل علانيةً، وليس سرًّا.
  • الثاني: أنه خطب على المنبر، وأنكر هذا الإنكار على المنبر؛ وهذا يدل على تعظيم هذه المسألة.
  • الثالث: أنه أخبر أنه من فعل ذلك؛ فإنه سيأتي به يوم القيامة؛ وهذا يدل على خطورة المسألة.

ومن ذلك: أن يُهدَى لموظفٍ في دائرةٍ حكوميةٍ، إذا لم يكن بينه وبين هذا الموظف عادةٌ جاريةٌ بالتهادي؛ فهذا لا يجوز، مثلًا يُهدِي لموظفٍ في أي دائرةٍ حكوميةٍ؛ في المرور، في الجوازات، في أي دائرةٍ، البلدية، هذا لا يجوز، إلا إذا كان صديقًا له، وبينه وبينه عادةٌ جاريةٌ قبل ذلك، هنا لا بأس.

ومن ذلك: هدية المعلم للأستاذ، ما دام معلمًا له، أو يمكن أن يعلمه، يعني ما دام في المدرسة؛ فهذه أيضًا تدخل في هدايا العمال، لا يجوز للمعلم أن يقبل هذه الهدية، وكذلك هدايا الموظفين للمدير، هذا لا يجوز، ما هي القاعدة في هذا؟

القاعدة: هي قول النبي : فهلا جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى إليه شيء أم لا؟ هذه القاعدة.

فنقول: هذا المهدى إليه هذه الهدية، لو جلس في بيت أبيه وأمه، هل هذا المهدي سيهدي له هذه الهدية؟ إن كان الجواب: نعم، سيهدي له، لما بينهما من الصداقة القديمة، وما بينهما من العلاقة، إذن نقول: هذه الهدية لا بأس بها، أما إذا كان هذا المهدى إليه، لو جلس في بيت أبيه وأمه، لن يهدي له هذا المهدي هذه الهدية، أي أنه إنما أهدى له بسبب منصبه الوظيفي، فهذه الهدية لا تجوز، وهذه من هدايا العمال التي هي غلول، فلا تجد ضابطًا لهذه المسألة أحسن من الضابط الذي ذكره النبي في قوله: أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيءٌ أم لا، هذا هو الضابط في هذه المسألة.

الطالب:

الشيخ: المؤذن والإمام لا بأس، لا تدخل، لكن إذا كان لا يترتب عليها شيءٌ، يعني هدية مقصود منها..، يعني كل هذه المسائل ترجع للضابط، يعني مثلًا: إذا كان مدرس حلقة التحفيظ التي تكون في المساء، أما الصباحية فتدخل، لكن في المساء لو جلس في بيت أبيه وأمه هذا المعلم للحلقة لربما يهدى إليه؛ لأنه ما أهدى إليه يعني ليس فيها شهادةٌ أو وظيفةٌ يترتب عليها وظيفةٌ أو أي شيءٍ، فهذه لا بأس بها؛ لأن هذا المعلم لحلقة التحفيظ لو جلس في بيت أبيه وأمه ربما يهدي إليه هذا الطالب، فواضحٌ فيها أنه يريد من ذلك مجرد التودد والمحبة، لكن التي تُهدى لأجل منصبه الوظيفي، هذه هي المحرمة.

كذلك أيضًا من الهدايا المحرمة: هدايا البنوك لعملائها لأجل الحساب الجاري، هذه لا تجوز؛ لأن التكييف الفقهي للعلاقة بين البنك والعميل: أن البنك يعتبر بمثابة المقترض، والعميل مقرِضٌ، فإذا أهدى البنك للعميل هديةً، فهي هديةٌ من مقترضٍ لمقرضٍ قبل الوفاء؛ فلا تجوز.

لكن لو كانت هدية البنك لعملائه ليس لأجل الحساب الجاري، وإنما لأجل عمليات الشراء؛ فلا بأس، وهذا ما تفعله بعض المصارف الإسلامية، تعطي هدايا؛ لأجل الشراء، فيقولون مثلًا: كلما اشتريت عن طريق هذه البطاقة، سواءٌ كانت بطاقة الصراف، أو البطاقة الائتمانية؛ أعطيناك نقاطًا، وهذه النقاط تمثل هدايا، فهذه لا بأس بها إذا كان السبب هو الشراء، يعني: إذا كانت مرتبطةً بعمليات الشراء، فهم يعطون من يحمل هذه البطاقة هذه الهدايا، حتى لو كان رصيده صفرًا، فالهدايا مرتبطةٌ بعمليات الشراء، وليست مرتبطةً بالحساب الجاري، هذه لا بأس بها.

أما إذا كانت الهدايا لأجل الحساب الجاري، هذه لا تجوز؛ ولذلك بعض البنوك التقليدية تُهدِي لعملائها هدايا بحسب أرصدتهم؛ إذا كان رصيده عاليًا؛ ربما تصل الهدية لسيارةٍ، وإذا كان رصيده قليلًا؛ تقل الهدية، هذه لا تجوز؛ لأنها هديةٌ من مقترضٍ إلى مقرِضٍ، لكن إذا كانت الهدايا لأجل عمليات الشراء، ولا ترتبط بالرصيد، حتى لو كان الرصيد صفرًا يعطونه هدايا على عمليات الشراء؛ فهذه لا بأس بها، وبهذا يزول الإشكال؛ لأن بعض الإخوة يقول: بعض المصارف الإسلامية تعطي هدايا، نقول: هي تعطي هدايا لأجل عمليات الشراء، وليس لأجل الرصيد، فإذا كان لأجل عمليات الشراء؛ فلا بأس بذلك، إذا كانت الهدية لأجل البطاقة؛ لا بأس، المهم ألا تكون لأجل الرصيد، إذا كانت لأجل الرصيد؛ هذه التي لا تجوز؛ لأنها تدخل في هدية المقترض للمقرض، أما إذا كانت لأجل البطاقة، لأجل حمل البطاقة، أو لأجل عمليات الشراء؛ فهذه مرتبطةٌ بالبطاقة، ليس لها علاقةٌ بالقرض، فهذه لا بأس بها.

قال:

متى يجب رد الهدية؟

وإن علم أنه أُهدِي حياءً؛ وجب الرد.

إذا علم من أُهدي إليه بأن المهدي إنما أهداه على سبيل الحياء، فيجب عليه أن يرد هذه الهدية؛ لأن هذا مالٌ بغير طيبةٍ من نفس صاحبه، فيجب رده عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا بطيب نفسٍ منه [16]، فإذا كان بسيف الحياء؛ فهذا لا يجوز، وإنما تُرَدُّ على المهدي هديته.

ثم قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ

وتُملك الهبة بالعقد.

يعني: بمجرد الإيجاب والقبول؛ تُملك الهبة، فهي عقدٌ كسائر العقود، تكون بالإيجاب والقبول.

وتَلزم بالقبض.

الهبة لا تلزم إلا بالقبض، لا بمجرد الإيجاب والقبول؛ ولذلك لو أنك وهبت غيرك هبةً ولم يقبضها، يجوز أن ترجع فيها، لكن مع الكراهة، لكن إذا قبضها؛ لا يجوز لك الرجوع.

والدليل لذلك: قصة أبي بكرٍ ، هذه قصةٌ أخرجها الإمام مالكٌ في “الموطأ” بسندٍ صحيحٍ: أن أبا بكرٍ نحل عائشة رضي الله عنها عشرين وَسْقًا من ماله الذي بالغابة، فلما حضرته الوفاة، قال: يا بنية، ما من الناس أحدٌ أحب إليَّ غنًى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وكنت قد نحلتك جادَّ عشرين وسقًا، فلو كنت قد احتزتيه أو جددتيه؛ كان لك، وإنما هو اليوم مال وارثٍ، وإنما هما أخواك وأختاك، فاقتسموه بينكم على كتاب الله، قلت: والله لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء، يعني قال: أخواك، له ابنان: عبدالله، وعبدالرحمن، وأختاك، أختها الأولى أسماء، قالت: إنما هي أسماء، يعني من الأخرى؟ من أختي الأخرى؟ قال: ذو بطنِ بنتِ خارجةَ، أُراها جاريةً [17]، كانت زوجته بنت خارجة بن زيدٍ، حبيبة بنت خارجة بن زيدٍ، وكانت حاملًا، وقال أبو بكرٍ: إني أراها جاريةً، ستلد أنثى، فهي أختك.

طيب، كيف عرف أبو بكرٍ  أنها ستلد أنثى؟

قيل: إنه عرف ذلك فراسةً، كان أبو بكرٍ من أعظم الصحابة فراسةً، يعني بعض الناس ربما إذا نظر لحال زوجته يتفرس أنها ستلد أنثى، أو ستلد ذكرًا بالفراسة، وقيل: إنما ذلك لأجل رؤيا رآها فعبرها، وكان أبو بكرِ  أيضًا من المعبرين للرؤى، وهذا أظهر، وكان الأمر كما قال، أنجبت أنثى، وسميت أم كلثومٍ بنت أبي بكرٍ، فهذا معنى قوله: إنما هما أخواك وأختاك، يعني: أسماء وأم كلثومٍ التي لا زالت حملًا وستُولَد.

والشاهد من هذه القصة: أن أبا بكرٍ ذكر لعائشة رضي الله عنها أن هذه الهبة لم تلزم؛ لكون عائشة لم تقبضها، وأنها لو قبضتها؛ لكانت لها، واشتهر هذا بين الصحابة  ولم يُعرف لأبي بكرٍ مخالفٌ؛ فكان إجماعًا.

قال:

بشرط أن يكون القبض بإذن واهبٍ.

يعني: لا بد أن يكون بإذن الواهب ورضاه، وهذا ظاهرٌ، ثم بين المؤلف صفة القبض:

فقبض ما هو بكيلٍ أو وزنٍ أو عدٍّ أو ذرعٍ بذلك.

يعني: ما هو بكيلٍ بكيله، وما هو بعدٍّ بعدِّه، وما هو بوزنٍ بوزنه، وما هو بذرعٍ بذرعه.

وقبض الصُّبْرة وما يُنقل بالنقل، وقبض ما يُتناول بالتناول، وقبض غير ذلك بالتخلية.

“الصُّبرة”: هي الطعام المجتمع كالكومة، فقبضها يكون بالنقل، وقبض ما يُتناول بالتناول، والعقار مثلًا بالتخلية، وبعض العلماء وضع لذلك ضابطًا، قال: إن المرجع في ذلك هو العرف، وأن الضابط في القبض هو العرف، وهذا هو القول الراجح: أن القبض مرجعه للعرف، وأن قبض كل شيءٍ بحَسَبه؛ قبض الذهب يختلف عن قبض الأغنام، يختلف عن قبض الأخشاب، قبض كل شيءٍ بحسبه.

إذنْ الهبة تنعقد بالإيجاب والقبول، وتلزم بالقبض، فلو أنك وهبت هبةً، وتراجعت فيها قبل قبضها؛ يجوز، أما إذا قبضها الموهوب؛ فلا يجوز.

قال:

ويَقبل ويَقبض لصغيرٍ ومجنونٍ وليُّهما.

يعني: الذي هو الأب أو وصيه أو الحاكم، يتولى القبض عنهما.

ويصح أن يهب شيئًا، ويستثني نفعه مدةً معلومةً.

كما أن ذلك يصح في البيع؛ يصح في الهبة؛ كأن يقول: وهبتك هذا الشيء لكني أستثني الانتفاع به لمدة شهرٍ، هذا رجلٌ أراد أن يهب لصديقه سيارةً لديه، لكن قال: أنا أريد أن أشتري سيارةً جديدةً لكن بعد شهرٍ، أنتظر مثلًا حتى تُستورد هذه السيارة، أو نحو ذلك، فأنا وهبتك هذه السيارة بشرط أن أنتفع بها لمدة شهرٍ، ثم بعد ذلك تكون هبةً لك، فهذا يصح، ولا بأس به.

وأن يهب حاملًا ويستثني حملها.

يعني: يصح، يهب له شاةً ويستثنى حملها؛ لأن هذا في باب التبرعات، وباب التبرعات واسعٌ.

وإن وهبه وشرط الرجوع متى شاء؛ لزمت ولغا الشرط.

وهبه هبةً، لكن اشترط عليه أن يرجع متى شاء، الهبة صحيحةٌ، والشرط باطلٌ؛ لأنه شرطٌ ينافي مقتضى العقد، كما لو مثلًا باع له شيئًا، وشرط عليه مثلًا أنه لا يبيعه، أو شرط عليه ألا تخسر، أو نحو ذلك من الشروط التي تنافي مقتضى العقد، فالبيع صحيحٌ والشرط باطلٌ.

هبة الدين

وإن وهب دينه لمدينه، أو أبرأه منه، أو تركه له؛ صح ولزم بمجرده، ولو قبل حلوله.

من أنواع الهبة: أن يهب الدَّين، إنسانٌ يطلب آخر دينًا، ورأى أن هذا المدين فقيرٌ، قال: هذا الدين هبةٌ لك، يصح، أو أبرأه منه، قال: أبرأتك من هذا الدين، يصح، أو تركه له، تركت لك هذا الدين، يصح.

“بمجرده، ولو قبل حلوله”، ولو كان الدين مؤجلًا، بل إن هذا من الأعمال الصالحة، إذا كان المدين فقيرًا؛ فهذا من أجل الأعمال الصالحة؛ لقول النبي : ‌من ‌أنظر ‌معسرًا ‌أو ‌وضع ‌عنه؛ أظله الله في ظله [18].

وتصح البراءة، ولو مجهولًا.

يعني: يصح الإبراء من الدين، ولو كان الدين مجهولًا، مثلًا إنسانٌ بينه وبين آخر مدايناتٌ، وهو صديقٌ له، أو صاحبٌ له، قال: أبرأتك من جميع الديون التي لي في ذمتك، والدائن لا يعرف مقدار الدين، والمدين لا يعرف مقدار الدين، هذا يصح.

وكما جاء في قصة الرجلين من الأنصار الذين اختصما في مواريث درست بينهما، وليس لأيٍّ منهما بينةٌ، فقال عليه الصلاة والسلام: إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشرٌ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن -يعني: أفصح- بحجته من بعضٍ، فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه؛ فإنما أقطع له قطعةً من نارٍ، فليأخذها أو ليدعها [19]، فبكى الرجلان، وقال كلٌّ منهما: حقي لأخي، انظر إلى الورع عند الصحابة ! لما وعظهم النبي بهذه الموعظة البليغة؛ بَكَيَا وتأثرا، وكلٌّ منهما قال: حقي لأخي، فقال عليه الصلاة والسلام: أمَا إذا فعلتما ذلك؛ فاذهبا واقتسما، وتوخَّيَا الحق، ثم ليحلل كل واحدٍ منكما صاحبه [20]، وهذا التحليل مهمٌّ في المصالحة على المجهول، وفي البراءة من الديون المجهولة، لا بد من التحليل، يصطلحان ثم كل واحدٍ منهما يقول للآخر: حللتك، أو الله يحللك، أو نحو ذلك.

وهذه المسائل يحتاج إليها عند عدم الوضوح، أحيانًا يكون بين شريكين معاملاتٌ كثيرةٌ، ودخل بعضها في بعضٍ، ومختلطةٌ، ولا يعرف كلٌّ منهما ما له وما عليه، فيصطلحان ويتوخيان الحق، ويتحريان الحق، ثم كل واحدٍ منهما يحلل صاحبه.

ثم بعد ذلك انتقل المؤلف للكلام عن هبة الدين لغير من هو عليه، فقال:

ولا تصح هبة الدين لغير من هو عليه، إلا إن كان ضامنًا.

يعني: إذا وهب الدين لغير من هو عليه الحق، يقول المؤلف: إنها لا تصح؛ لأن عقد الهبة يقتضي وجود معيَّنٍ معلومٍ، وهو منتفٍ غير معلومٍ، وغير مقدورٍ على تسليمه؛ مثلًا: هذا الرجل يقول: أنا أطلب فلانًا دينًا، وهبتك هذا الدين، المؤلف يقول: إنه لا يصح، إلا إذا كان ضامنًا، يعني كفيلًا لهذا الدين.

والقول الثاني: أن ذلك يصح؛ لأن الجهالة والغرر في عقود التبرعات مغتفرةٌ، فهذا الموهوب إما أن يحصل له هذا الدين، أو أنه سالمٌ، يعني إما سالمٌ وإما غانمٌ، قال: وهبتك الدين الذي لي على فلانٍ، طيب إن حصل له هذا الدين، وإلا لن يخسر شيئًا.

فالقول الراجح: أن هذا يصح، وأنه لا بأس به.

حكم الرجوع في الهبة

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لحكم الرجوع في الهبة، فقال:

ولكل واهبٍ أن يرجع في هبته قبل إقباضها مع الكراهة.

يعني: يجوز الرجوع في الهبة، سواءٌ كان في الواهب يرجع عن هبته، أو الموهوب في قبوله للهبة، قبل القبض، لكن هذا مع الكراهة؛ لأن أبا بكرٍ رجع في هبته لعائشة رضي الله عنها؛ لأنها كانت هبةً قبل القبض، لكن ذلك يكره.

ولا يصح الرجوع إلا بالقول.

يعني: لا بد من التصريح بأن يقول: رجعت عن الهبة التي أعطيتك، رجعت عن هبتي لك.

وبعد إقباضها يحرم.

إذا أقبض الواهب الموهوب له الهبة، فيحرم عليه الرجوع فيها؛ لقول النبي : العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه [21]، متفقٌ عليه، وفي روايةٍ: ليس لنا مَثَل السَّوء، فلا يجوز الرجوع في الهبة بعد قبضها؛ لأن النبي شبه ذلك بالكلب الذي يتقيأ ثم يرجع في قيئه، كما قال الإمام الشافعي: ليس لنا مثل السوء، يعني: هذا يدل على الذم لمن يفعل ذلك؛ لأن هذا يدل على الدناءة، أن الإنسان يَهَبُ هبةً، ويقبضها الموهوب، ثم يرجع فيها، يدل على الدناءة، وعلى قلة المروءة، وعلى أيضًا المنة في هذه الهبة، والمنة تكلمنا عنها في الدرس السابق.

قال:

ولا يصح، ما لم يكن أبًا.

يستثنى من ذلك الأب، الأب يجوز أن يرجع في هبته لولده من ابنٍ أو بنتٍ، ولو بعد قبضها؛ لقول النبي : لا يحل لرجلٍ أن يعطي عطيةً ثم يرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده [22]؛ ولأن مال الولد مالٌ لأبيه، كما سيأتي.

شروط رجوع الوالد في هبته لولده

فله أن يرجع بشروطٍ أربعةٍ:

يعني: للوالد أن يرجع في هبته لولده بأربعة شروطٍ:

الأول:

ألا يُسقط حقه من الرجوع.

يعني: ألا يسقط الأب حقه من الرجوع، فإن أسقط الأب حقه؛ فلا يملك الرجوع.

الثاني:

وألا تزيد زيادةً متصلةً.

“متصلةً”؛ كالسِّمَن، وهذا عند الحنابلة، يفرقون بين الزيادة المتصلة والمنفصلة، والقول الراجح: عدم اشتراط هذا الشرط؛ إذ لا دليل عليه.

والشرط الثالث هو:

أن تكون باقيةً في مِلكه.

يعني: تكون العين الموهوبة لا زالت باقيةً في ملك الولد، فإن كان الولد تصرف فيها ببيعٍ أو هبةٍ، ونحو ذلك؛ فليس للأب الرجوع.

الشرط الرابع:

وألا يرهنها.

فإن رهن الولد هذه العين الموهوبة؛ فلا يملك الأب الرجوع؛ لأن في ذلك إسقاطًا لحق المرتهن.

شروط أخذ الأب من مال ولده

ثم انتقل بعد ذلك لمسألةٍ مهمةٍ، وهي: حكم أخذ الأب من مال ولده، فقال:

وللأب الحر أن يتملك من مال ولده ما شاء بشروطٍ خمسةٍ:

وذلك لأن الولد هبةٌ لأبيه؛ ولهذا قال : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ [الأنعام:84]، فسمى الله الابن هبةً، هبةً لأبيه: وَوَهَبْنَا لَهُ، ما قال: أعطيناه، قال: وَوَهَبْنَا لَهُ، وقال: وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى [الأنبياء:90]، وقال عن زكريا : فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:5]، وقال عن إبراهيم : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ [إبراهيم:39]، فالولد هبةٌ لأبيه، هبةٌ من الله، وما كان موهوبًا له؛ كان له الأخذ من ماله؛ ولهذا لما قال الله : وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ [النور:61]، ولم يقل: ولا بيوت أولادكم؛ لأن بيوت الأولاد هي بيوت للوالدين في الحقيقة؛ ولأن مال الأولاد مالٌ للوالدين في الحقيقة.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: أنت ومالك لأبيك [23]، في قصةٍ لرجلٍ أتى النبي يشتكي أن أباه أخذ ماله، فدعا النبي هذا الأب، وقال: إن ابنك يشكو أنك أخذت ماله، فقال: يا رسول الله، سله لم صنعت ذلك؟ وهل أنفقه إلا على عماته أو أخواته أو على نفسي، قال عليه الصلاة والسلام: دعنا من ذلك، وأخبرنا عن شِعرٍ قلته في نفسك ما سمِعَتْه أذناك، قال: والله ما يزيدنا بك الله إلا تصديقًا، والله لقد قلت في نفسي شيئًا ما سمعته أذناي، قال: قله وأنا أسمع، قال:

غَذَوتُك مولودًا ومُنْتُك يافعًا تُعَلُّ بما أجني عليك وتَنْهلُ
إذا ليلةٌ ضافَتْك بالسُّقم لم أبت لسقمك إلا ساهرًا أتململُ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طُرِقْتَ به دوني فعيناي تَهمُلُ

إلى أن قال:

فلما بلغتَ السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمِّلُ
جعلتَ جزائي غلظةً وفظاظةً كأنك أنت المنعم المتفضلُ
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعلُ
تراه مُعَدًّا للخلاف كأنه بِرَدٍّ على أهل الصواب موكَّلُ

فقال عليه الصلاة والسلام: أنت ومالك لأبيك [24]، وفي روايةٍ: أنه بكى عليه الصلاة والسلام، وقال: أنت ومالك لأبيك.

وأيضًا قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة رضي الله عنها: إن أطيب ما أكلتم مِن كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم [25]، وهذا الحديث أصح من جهة الإسناد، رواه أصحاب السنن وأحمد بسندٍ صحيحٍ، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم؛ فهذا يدل على أن الأب له أن يأخذ من مال ولده بشروطٍ، ذكر المؤلف أنها خمسةٌ، سنناقش هذه الشروط، وبعضها لا نوافق المؤلف فيه، وبعضها سنوافقه.

الشرط الأول:

ألا يضره.

يعني الشرط الأول: ألا يأخذ الأب من مال ولده، إذا قلنا: الولد، يعني يشمل الذكر والأنثى؛ لأن الولد في اللغة العربية وفي الشرع يشمل الذكر والأنثى، لكن الذكر يطلق عليه ابنٌ، والأنثى بنتٌ، ألا يأخذ من مال ولده ما يضر الولد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لا ضرر ولا ضرار [26]، مثلًا يعني: يكون هذا الولد عنده سيارةٌ يذهب بها لعمله، أو للجامعة، أو لمدرسته، وهذا الأب عنده سيارةٌ أخرى، فيريد أن يأخذ سيارة ابنه، فليس له ذلك؛ لأن في هذا إضرارًا بهذا الولد.

الثاني:

ألا يكون في مرض موت أحدهما.

وذلك لانعقاد سبب الإرث، ومن كان في مرض الموت؛ فهو محجورٌ عليه من التصرف إلا في حدود الثلث فأقل.

الثالث:

ألا يعطيه لولدٍ آخر.

وذلك لأن الأب ممنوعٌ من أن يفضِّل بعض أولاده على بعضٍ من مال نفسه، فلأن يمنع من تخصيصه مما يأخذه من مال ولده من باب أولى.

الشرط الرابع:

أن يكون التملك بالقبض مع القول أو النية.

وبعض العلماء ذهب إلى عدم اشتراط هذا الشرط؛ لأنه تحصيل حاصلٍ؛ لأن الأب عندما يأخذ مال ولده سيقبضه مع النية؛ وعلى هذا: فلا يشترط الشرط الرابع.

الشرط الخامس:

أن يكون ما يتملكه عينًا موجودةً، فلا يصح أن يتملك ما في ذمته من دَين ولده، ولا أن يبرئ نفسه.

قالوا: لأن الدين لا يملك التصرف فيه قبل قبضه، وذهب بعض العلماء إلى عدم اشتراط هذا الشرط، وأنه لا مانع من أن يتملك الأب الدين الذي لولده في ذمته، أو أن يبرئ نفسه من دين ولده، وهذا هو الأظهر، والله أعلم؛ وعلى هذا: فالشرط الرابع والخامس، الصحيح عدم اشتراطهما، وأنه يُكتفى بالشروط الثلاثة الأولى فقط، وهي: ألا يأخذ ما يضر الولد، وألا يكون في مرض موت أحدهما، وألا يأخذ من ولده ويعطيه لولدٍ آخر.

طيب، هل تشترط الحاجة؟ هل يشترط أن يكون الأب محتاجًا؟

فيها قولان للفقهاء، والقول الراجح: أنه لا يشترط؛ لعموم الأدلة؛ ومنها: قول النبي : إن أطيب ما أكلتم مِن كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم [27]، وهذا ظاهرٌ في عدم اشتراط الحاجة.

طيب، هل الأم في ذلك كالأب؟

هذا محل خلافٍ، والقول الراجح: أن الأم كالأب؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها ظاهر الدلالة في أن الأم كالأب في قوله عليه الصلاة والسلام: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وهذا خطابٌ للأب والأم، وإن أولادكم من كسبكم، ولأن المعنى الذي لأجله جاز للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء موجودٌ أيضًا في الأم؛ فعلى ذلك نقول: يجوز للأب وللأم أن يأخذا من مال أولادهما ما شاءا بهذه الشروط الثلاثة.

وعلى ذلك تُخرَّج مسألة: إذا كان هذا الابن أو البنت له دخلٌ شهريٌّ؛ مثل مثلًا مكافأةٍ من مدرسةٍ، أو مثلًا أحيانًا يكون هذا الابن أو البنت عنده إعاقةٌ مثلًا، فيعطى مكافأةً من بعض الجهات الحكومية، ونحو ذلك، أو مثلًا: يكون يتيمًا، والذي يرعاه هو أمه، فنقول: لا بأس أن يأخذ الأب أو الأم من مال هذا الابن أو البنت ما شاءا بهذه الشروط الثلاثة، وهي: ألا يأخذ ما يضره، وألا يأخذه ويعطيه ولدًا آخر، وألا يكون في مرض موت أحدهما؛ ولهذا في مثل مكافآت الأبناء والبنات الصغار، لا حرج، ما دام أنه أبوه أو أمه، لا بأس أن يأخذ من مكافأته، لا حرج، الأمر في هذا واسعٌ، هو أبوه أو أمه، أنت ومالك لأبيك [28]، لكن بهذه الشروط الثلاثة التي ذكرناها.

حكم مطالبة الابن أباه بما في ذمته من دينٍ

وليس لولده أن يطالبه بما في ذمته من الدين، بل إذا مات أخذه من تركته من رأس المال.

إذا كان الولد من ابنٍ أو بنتٍ، يطلب أباه أو أمه دينًا؛ فليس له أن يطالبه به، ليس له أن يطالبه؛ أولًا: لقول النبي للذي طالب أباه: أنت ومالك لأبيك، وقوله عليه الصلاة والسلام: أنت ومالك لأبيك، إنما ورد في قصة ولدٍ طالب أباه بدينٍ له عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: أنت ومالك لأبيك.

ثانيًا: أن مطالبة الولد من ابنٍ أو بنتٍ لأبيه أو أمه يعتبر نوعًا من العقوق، كونه يجرجر أباه أو أمه للمحكمة لمطالبته بدينٍ له عليه، هذا من أعظم العقوق.

ولذلك القاضي إذا عرضت له هذه القضية؛ لا يسمع، ولا يفتح أصلًا الدعوى، ولا يسمع القضية، لا يسمع من هذا الولد، بل ينبغي أن يوبخه، كيف يشتكي أباه أو أمه لدينٍ عليه؟!

الأب والأم أصلًا يجوز لهما أن يأخذا من مال ولدهما ما شاءا، فكيف يشتكيه، يرفع فيه شكايةً لأجل أن يسدد دينًا له عليه، فهذا من العقوق العظيم.

فلذلك الفقهاء يقولون: ليس للولد أن يطالب أباه أو أمه بدينٍ له عليه، لكن يُستثنى من ذلك النفقة، فإذا كان الأب لا ينفق، فيجوز لأولاده أن يطالبوه بالنفقة؛ لأن بعض الآباء قد لا ينفق، يرفض النفقة، فيتضرر الأولاد، فلهم أن يطالبوا أباهم بالنفقة، أما ما عدا النفقة؛ فليس لهم أن يطالبوه به.

طيب، إذا قلنا: إن الولد ليس له أن يطالب أباه بالدين، كيف يحصل هذا الولد على دَينه؟ يقول المؤلف:

إذا مات أخذه من تركته.

نقول: إذا مات أبوك؛ فتأخذ هذا الدين من التركة، من رأس المال، يعني قبل القسمة، قبل قسمة التركة.

تقسيم الميراث حال الحياة

ثم قال المؤلف رحمه الله:

فصلٌ

ويباح للإنسان أن يقسم ماله بين ورثته في حال حياته.

يجوز للإنسان أن يقسم تركته بين أولاده، أو بين ورثته عمومًا في حال حياته.

وقال بعض العلماء: إنه يكره ذلك؛ لما فيه من استعجال قسمة الله تعالى؛ ولأنه لا يدري، فقد يموت ورثته قبله، وهذا هو القول الراجح أنه يكره للإنسان أن يقسم ماله بين ورثته في حياته، إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحةٍ.

ومن ذلك: إذا كان يخشى من اختلاف الورثة بعد موته، فتزول الكراهة حينئذٍ، وهذا يكون لمن كانت ثروتهم كبيرةً، فيخشى بعد وفاته أن الورثة يختلفون عليها، فيقسم تركته في حياته، أو إذا كان أولاده من أكثر من أمٍّ، فيخشى الاختلاف بينهم، فإذا وجد مصلحةً في قسمة تركته في حياته؛ فلا بأس من غير كراهةٍ، أما إذا كان ذلك لغير سببٍ، فهذا مكروهٌ؛ لأن هذا فيه استعجالٌ لقسمة الله تعالى؛ ولأن هذا أيضًا لا يدري، فقد يموت ورثته قبله.

قال:

ويعطي من حَدَث حصته وجوبًا.

يعني: لو قسمها في حياته، ثم ولد له مولودٌ؛ فيجب عليه أن يعطي هذا المولود حصته؛ لأجل تحقيق العدل بين الأولاد.

العدل بين الأولاد في العطية

ويجب عليه التسوية بينهم على قدر إرثهم.

يعني: العدل، أفادنا المؤلف بأن العدل بين الأولاد في العطية واجبٌ، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين:

  • القول الأول: وهو القول الذي أقره المؤلف وهو وجوب العدل بين الأولاد في العطية.
  • القول الثاني: أنه مستحبٌّ وليس بواجبٍ، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية.

والجمهور استدلوا بقصة أبي بكرٍ  لما أعطى عائشة رضي الله عنها دون غيرها من إخوانها وأخواتها.

وأما الحنابلة فاستدلوا بحديث النعمان بن بشيرٍ  لما وهبه أبوه هبةً، فقالت أمه عمرة بنت رواحة رضي الله عنها: لا أرضى حتى تشهد رسول الله ، فأتى النبي وقال: يا رسول الله، وهبتُ ابني هذا هذه الهبة، فأريد أن تشهد، فقال: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟، قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم [29]، وفي لفظٍ قال: لا تُشهدني على جورٍ، أَشهِد على هذا غيري [30]، وهذا -كما قال الموفق بن قدامة- يقتضي التحريم؛ لأن النبي سمى هذا جورًا، وأمر برده، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرامٌ.

فالقول الراجح إذنْ وجوب العدل بين الأولاد، حتى إنه لينبغي للأب والأم أن يعدلا بين أولادهما في المحبة، أو على الأقل لا يظهرا المحبة لبعض الأولاد دون بعضٍ؛ لأن إظهار المحبة لبعض الأولاد دون بعضٍ تورث الكراهية من المفضَّل عليهم، الكراهية لأبيهم أو لأمهم، ولأخيهم أو أختهم.

ولنا عبرةٌ في قصة يوسف، يوسف عليه الصلاة والسلام كان هو وأخوه بنيامين كانا لهما أمٌّ، وماتت أمهما، وكان يعقوب يعطف عليهما أكثر؛ لأنه يريد أن يعوضهما عن فقد الأم، لكن بقية إخوتهما لم يعذروا يعقوب ، حتى إنهم وصفوه بالضلال، نسأل الله العافية! قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف:8]، ليس ضلالًا فقط، ضلالٌ مبينٌ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [يوسف:9]، لكن هل خلا لهم وجه أبيهم؟ ما خلا، تولى عنهم، سبحان الله! يعقوب عليه الصلاة والسلام له اثنا عشر ابنًا، ما ملأ عينه منهم إلا هذا الابن، يوسف ، حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيمٌ، سبحان الله!

فانظر في قصة يوسف ، العبرة في أن الأب أو الأم لا يفضلا بعض الأولاد على بعضٍ؛ ولذلك قص الله تعالى علينا قصة يوسف ، وما فيها من الأحداث العظيمة، وكان السبب هو تفضيل يعقوب ليوسف ولأخيه، ويعقوب يرى أنه معذورٌ، يرى أن يوسف وأخاه أمهما غير موجودةٍ، فيريد أن يعوضهما، لكن بقية أولاده لم يعذروه بذلك.

ولهذا كان تألم يعقوب  أشد من تألم يوسف نفسه ، يعقوب  ابيضت عيناه من الحزن، لكن يوسف  هل ابيضت عيناه؟ يعقوب  أشد.

أيضًا لما طلب إخوة يوسف من يوسف أن يعفو عنهم، قال: يغفر الله لكم، مباشرةً، لكن يعقوب قال: سوف أستغفر لكم ربي، يعني: لا زال خاطره لم يَصْفُ بعدُ، ويريد وقتًا حتى يهدأ فيه، وحتى يزول ما في الخاطر، ثم يستغفر لهم، وإن كان بعض العلماء قال: إنه أراد أن يستغفر لهم في السحر، لكن هذا لم يثبت، الذي يظهر أنه يريد وقتًا؛ لكي يهدأ فيه، ويزول ما في نفسه، وما في خاطره، ثم بعد ذلك يستغفر لهم.

لاحِظ أن ألم الأب أشد من ألم الابن، فهذه القصة فيها عبرٌ، ومن أعظم العبر: أنه ينبغي للأب والأم ألا يفضلا بعض أولادهما على بعضٍ.

قال:

فإن زوَّج أحدهم أو خصصه بلا إذن البقية؛ حرم عليه.

هذا هو القول الراجح: أنه لا يجوز تخصيص بعض الأولاد دون بعضٍ، فإذا زوج أحدهم؛ يجب أن يزوج البقية، إذا خصص للبعض يجب أن يعطي البقية مثلما أعطى هذا الولد.

لكن كيف نجيب عما استدل به الجمهور من تخصيص أبي بكرٍ لعائشة رضي الله عنهما؟

فقيل في الجواب عن ذلك: إن ذلك خاصٌّ بعائشة رضي الله عنها؛ لكونها إحدى أمهات المؤمنين، ولا كسب لها؛ لأن النبي مات عنها، ولم يورث لها شيئًا؛ لأن الأنبياء لا يورَّثون، وكانت لما مات عنها النبي كانت صغيرةً كان عمرها ثماني عشرة سنةً، ولا كسب لها، فخصها أبو بكرٍ لحاجتها.

وقيل: إنه يحتمل أنه أعطاها وأعطى غيرها من إخوانها وأخواتها.

والأقرب: هو القول الأول، أنه إنما أعطاها لحاجتها.

كيف يكون العدل في عطية الأولاد؟

يكون العدل كما قال المؤلف: للذكر مثل حظ الأنثيين، وقال بعض الفقهاء: إنه يسوي بينهم، الذكر والأنثى سواءٌ، والقول الراجح: هو أن العدل في عطية الأولاد مثل الميراث؛ يكون للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنه لا أعدل من قسمة الله ؛ ولهذا قال عطاءٌ: ما كانوا يَقسِمون إلا على كتاب الله، لو أعطى مثلًا الابن خمسة آلافٍ، يعطي البنت ألفين ونصفًا، وهكذا.

طيب، عطية الأولاد تنقسم إلى ثلاثة أقسامٍ، هذه الأقسام ذكرها ابن تيمية وغيره من أهل العلم:

  • القسم الأول: العطية المحضة، يعني غير المرتبطة بالحاجة، أو بسببٍ، فهذه يجب فيها العدل بين الأولاد؛ وذلك بالتسوية بين الذكور، وأن تعطى الأنثى نصف الذكر.
  • القسم الثاني: العطية المرتبطة بالحاجة، فالعدل فيها: أن يعطى كل واحدٍ بقدر حاجته، فحاجة الذكر تختلف عن حاجة الأنثى، ربما الأنثى تكون عطيتها أكثر من الذكر؛ لأنه في الغالب أن حاجة الأنثى أكثر، فتعطى الأنثى بحسب حاجتها، والذكر بحسب حاجته، وعطية الصغير تختلف عن عطية الكبير، الصغير مثلًا الذي في المرحلة الابتدائية يختلف عن الذي في المرحلة الثانوية، عطية هذا تختلف عن عطية ذاك؛ فإذنْ العدل فيها: أن يعطي كل واحدٍ بقدر حاجته.
  • القسم الثالث: أن ينفرد أحد الأولاد بحاجةٍ غير معتادةٍ؛ كأن يكون مثلًا أحد الأولاد مريضًا، ويحتاج لشراء أدويةٍ، أو يحتاج إلى تمريضٍ، فيعطيه ما يسد حاجته من غير أن يعطي بقية إخوانه وأخواته، أو أن البنت مثلًا تحتاج إلى مخالعة زوجها، فيعطيها، ولا يلزم أن يعطي بقية إخوانها وأخواتها مثلها.

أو مثلًا يكون أحد أولاده ترتبت في ذمته ديونٌ، فيريد أن يسدد عنه دينه، فلا بأس، يسدد عنه دينه، ولا يلزمه أن يعطي بقية إخوانه وأخواته.

طيب، إذا كان أحد أولاده فقيرًا، فهل يجوز أن يخصه أبوه أو أمه بعطيةٍ دون بقية إخوانه وأخواته؟ ما الجواب؟

الطالب:

الشيخ: نعم، يجوز ذلك، فإذا كان أحد الأولاد فقيرًا؛ فيجوز، والدليل لذلك قصة أبي بكرٍ ، فإن أبا بكرٍ  إنما خص عائشة رضي الله عنها بالعطية دون إخوانها وأخواتها؛ لحاجتها؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: لو كان أحد الأولاد محتاجًا دون الآخرين؛ أنفق عليه قدر كفايته؛ فمثلًا: لو كان عنده ابنٌ راتبه لا يكفيه، دخله لا يكفيه، وعنده ابنٌ آخر غنيٌّ؛ فلا بأس أن يعطي هذا الفقير بقدر حاجته، وبقدر كفايته.

طيب، لو كان أحد الأولاد فاسقًا؛ فهل يجوز أن يحرمه من العطية، أو لا يجوز؟

هذه المسألة يكثر السؤال عنها، نعم.

الطالب:

الشيخ: نعم، العلماء يقولون: إنه يجوز أن يحرمه من العطية؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: لو كان أحد الأولاد فاسقًا، فقال والده: لا أعطيك مثلما أعطي إخوتك حتى تتوب؛ فهذا حسنٌ، بل يتعين استثناؤه، وإذا امتنع من التوبة؛ فهو الظالم، وإذا تاب؛ وجب عليه أن يعطيه مثلما أعطى إخوته، فإذا كان أحد أولاده فاسقًا، وقال الأب أو الأم: لن أعطيك مثل إخوانك إلا إذا تبت من هذه المعصية؛ فهذا لا بأس به، وكما قال ابن تيمية وغيره: هذا هو الظالم لنفسه، هذا الأب يأمره بخيرٍ، ويأمره بما فيه مصلحته، يقول: تب إلى الله ، وأنا أعطيك مثلما أعطي إخوانك، لكن إذا كنت مقيمًا على هذه المعصية؛ فلن أعطيك، فهذا لا بأس به.

طيب، لو كان أحد أولاده يعمل معه، فهل يجوز أن يخصه دون بقية إخوانه بمالٍ؟

هذا رجلٌ عنده مؤسسةٌ تجاريةٌ مثلًا، عنده أعمالٌ تجاريةٌ، أو أنه في مزرعته وأحد أولاده يعمل معه، فيقول: هذا الذي يعمل معي أريد أن أعطيه راتبًا شهريًّا، هل يجوز؟

الطالب:

الشيخ: أحسنت، نقول: نعم، يجوز أن يعطيه بقدر عمله من غير محاباةٍ، كما لو كان يعمل معه رجلٌ أجنبيٌّ، فيعطيه بقدر عمله من غير محاباةٍ، فالأحسن أن نربطها، نقول: مثل الأجنبي.

طيب، لو كان أحد الأبناء أو البنات فرَّغ نفسه لخدمة أبيه أو أمه، فهل له أن يخصه بعطيةٍ؟

الطالب:

الشيخ: فرغ نفسه، لكن لاحِظ قول: إنه فرغ نفسه، يعني إذا كان فرغ نفسه؛ نعم، يجوز، لكن من غير محاباةٍ، كما لو أتى بأجنبيٍّ ليخدمه، أليس لو أتى بأجنبيٍّ ليخدمه؛ يعطي الأجنبي؟ فيعطيه كذلك؛ كما لو أعطى أجيرًا أجنبيًّا، فلو كان أحد الأبناء دائمًا مع أبيه، أو إحدى البنات دائمًا مع أبيها، أو مع أمها، فلا بأس بتخصيصها بعطيةٍ نظير ذلك، نظير ذلك التفريغ للخدمة، وهذا أيضًا ذكره ابن تيمية وغيره من أهل العلم.

وقوله: “فإن زوَّج أحدهم أو خصصه بلا إذن البقية؛ حرم عليه”، التخصيص بدون سببٍ من القسم الأول فيحرم، لكن إذا زوج أحدهم؛ فمن القسم الثاني، فمن بلغ سن الزواج؛ وجب على والده أن يزوجه.

ولزمه أن يعطيهم حتى يستووا.

يعني: إذا خص أحد الأولاد بعطيةٍ، فإما أن يسترد عطيته، وإما أن يعطي بقية إخوانه مثله.

فإن مات قبل التسوية بينهم، وليس التخصيص بمرض موته المخوف؛ ثبت للآخذ.

يعني: أعطى أحد أولاده عطيةً، وقلنا: الواجب أن ترجع في العطية، أو تعطي بقية إخوانه مثله، لكنه لم يفعل فمات، فلا تُنقض هذه الهبة، وإنما تثبت، إلا إذا أراد بقية الورثة أن يبرئوا ذمة والدهم فنقضوها؛ فلا بأس.

وإن كان بمرض موته؛ لم يثبت له شيءٌ زائدٌ عنهم إلا بإجازتهم.

إذا كان في مرض الموت، يقول: لم تثبت له هذه الهبة، إلا بإجازة بقية الورثة، وقال بعض العلماء: إن هذه الهبة تُنقض حتى وإن قبضها الولد، ما دام أنه قد فضَّل هذا الولد على بقية إخوانه فتُنقض، وهذا هو القول الراجح: أنها تُنقض، والله تعالى يقول: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182].

ما لم يكن وقفًا، فيصح بالثلث؛ كالأجنبي.

يعني: إذا وقف على أحد أولاده في مرض الموت؛ فيصح بالثلث، وسبق أن قلنا: إنه لا يجوز أن يخص بعض أولاده بالوقف دون بعضٍ على سبيل العين، أما على سبيل الوصف فيجوز؛ كأن يقول: هذا وقفٌ مثلًا على المحتاج من أولادي، لا بأس، لكن على سبيل العين، وقف على فلانٍ دون بقية إخوانه، فهذا لا يجوز؛ كما بينا ذلك في الدرس السابق.

عطية المريض في المرض غير المخوف

طيب، آخر فصل معنا، قال المصنف رحمه الله:

والمرض غير المَخُوف.

انتقل المؤلف للكلام عن توضيح المرض المَخُوف والمرض غير المخوف، وسبق أن قلنا: إن المرض المخوف يُحجر على الإنسان أن يتصرف في ماله، إلا في حدود الثلث فأقل، إذا كان مرض الإنسان مخوفًا؛ فليس له أن يتصرف في ماله إلا في حدود الثلث فأقل.

طيب ما هو المرض المخوف؟

المرض المخوف مثَّل له المؤلف، قال:

أولًا: بدأ بالمرض غير المخوف، ثم بعد ذلك سيأتي المرض المخوف:

والمرض غير المخوف؛ كالصداع، ووجع الضرس.

الصداع مرضٌ غير مخوفٍ، الزكام مرضٌ غير مخوفٍ، وجع الضرس مرضٌ غير مخوفٍ، هذه تُعرف بالعُرف، وهذا ظاهرٌ، كل الناس يعرفون أن مجرد الزكام، مجرد وجع الضرس، أن هذا لا يعتبر مرضًا مخوفًا؛ فعلى هذا: تصرفات المريض في هذه الحال في جميع المال.

وتبرع صاحبه نافذٌ في جميع ماله؛ كتصرف الصحيح، حتى ولو صار مخوفًا، ومات منه بعد ذلك.

يعني: نفترض أن إنسانًا كان مرضه غير مخوفٍ؛ زكام، وتصرف مثلًا في أكثر من الثلث مع هذا المرض، تبرع مثلًا بنصف ماله، ثم هذا الزكام تطور معه فمات بسببه، فيقول المؤلف: إن تبرعه صحيحٌ؛ لأن هذا المرض غير مخوفٍ أصلًا.

حتى ولو صار مخوفًا، ومات منه بعد ذلك.

فتصرفه نافذٌ، وتبرعه نافذٌ.

عطية المريض في المرض المخوف

ثم انتقل المؤلف للتمثيل للمرض المخوف، قال:

والمرض المخوف؛ كالبرسام.

“البِرْسَام”: وجعٌ في الدماغ يختل به العقل.

وذات الجَنب.

قروحٌ تكون بباطن الجنب.

والرُّعَاف الدائم.

يعني: النزيف المستمر، يقول: إن النزيف المستمر هذا يؤدي للوفاة.

والقيام المتدارَك.

يعني: الإسهال المصحوب بدمٍ، يسمونه: “القيام المتدارَك”، أيضًا لو أخذنا أمثلةً من الواقع المعاصر، أمثلة للمرض المخوف، من يذكر لنا؟

الطالب:

الشيخ: نعم، السرطان إذا انتشر، أما إذا لم ينتشر؛ فلا يعتبر مرضًا مخوفًا، هم يذكرون للسرطان أربع درجاتٍ، إذا كان في الدرجة الأولى لم ينتشر؛ هذا يمكن السيطرة عليه، يُستأصل مكان الورم وما حوله، ولا يكون مرضًا مخوفًا.

لكن إذا وصل للدرجة الرابعة، انتشر؛ فهذا يعتبر مرضًا مخوفًا، ومثل ذلك أيضًا: الجلطة أيضًا إذا قال أهل الخبرة: إنه لن ينجو صاحبها منها، إذا قالوا: إنها مميتةٌ وقاتلةٌ؛ لأن بعض الجلطات أيضًا قد تكون خفيفةً، قد تكون جلطةً في الرجل؛ ولذلك يرجع لأهل الاختصاص فيها.

الطالب:

الشيخ: كذلك الحالات الحرجة إذا كان كبيرًا في السن ممكن، أما إذا كان شابًا أيضًا قد لا يعتبر مخوفًا، المقصود أن المرجع في ذلك لأهل الخبرة.

وكذلك مَن بين الصفين وقت الحرب.

أيضًا في حكم المرض المخوف.

أو كان باللُّجة وقت الهيجان.

يعني: بلُجَّة البحر وقت هيجان البحر.

أو وقع الطاعون ببلده، أو قُدِّم للقتل، أو حُبس له.

هذا كله في حكم المرض المخوف.

أو جرح جرحًا موحيًا.

يعني: مهلكًا.

فكل من أصابه شيءٌ من ذلك ثم تبرع ومات؛ نفذ تبرعه بالثلث فقط للأجنبي فقط، وإن لم يمت؛ فكالصحيح.

يعني: إن لم يمت بهذا المرض المخوف، فتنفذ عطاياه، كما تنفذ عطايا الصحيح، لكن إن مات؛ فلا يصح تصرفه إلا في حدود الثلث فأقل، إلا الوصية، فإنها لا تصح إلا لغير وارثٍ، أما الوارث فلا تصح.

والمرجع لكون المرض مخوفًا أو غير مخوفٍ لأهل الاختصاص، أهل الاختصاص هم الذين يقررون، الفقيه يرجع مثلًا للأطباء، يقول: هل عندكم في عرفكم أنتم أيها الأطباء، هل تعتبرون هذا المرض مخوفًا، أو غير مخوفٍ؟ إذا قالوا: إنه مرضٌ مخوفٌ؛ إذنْ يُحجر على هذا المريض في جميع تصرفاته المالية، إلا في حدود الثلث فأقل، إذا قالوا: إننا لا نعتبره مرضًا مخوفًا، فتنفذ تصرفاته في جميع ماله.

طيب، لو أراد أن يتصدق أو يوقف جميع ماله، رجلٌ أراد أن يوقف جميع أمواله، وليس في مرضٍ مخوفٍ، في حال الصحة، يجوز أو لا يجوز؟

يجوز، الإنسان حرٌّ في ماله، لكن العلماء قالوا: يكره أن يتصدق بجميع ماله؛ لأنه قد يحتاج، ثم ربما يمد يده للغير، فالأفضل ألا يتصدق بجميع ماله، فإن قال قائلٌ: أليس أبو بكرٍ الصديق  لما دعا النبيُّ الصحابة  للبذل، وأتى عمر  بنصف ماله، وقال: اليوم أسبق أبا بكرٍ، قال: “فلما أتيت وقلت: يا رسول الله، أتيت بنصف مالي؛ فإذا بأبي بكرٍ أتى بماله كله، فقلت: والله لا أسابق أبا بكرٍ بعد اليوم أبدًا”، كيف نجيب عن تصرف أبي بكرٍ، لما أتى أبو بكرٍ بماله كله، قال له النبي : ما أبقيت لأهلك يا أبا بكرٍ؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله» [31]، ونحن قلنا: إنه يكره أن يتصدق بجميع ماله، فكيف نوفق بين هذا، بين فعل أبي بكرٍ، وإقرار النبي له؟

الطالب:

الشيخ: أحسنت نقول: من كانت حاله مثل حال أبي بكرٍ في قوة الإيمان واليقين؛ فلا بأس أن يتصدق بجميع ماله من غير كراهةٍ، لكن من كانت حاله ليست كحال أبي بكرٍ، وهذا حال معظم الناس؛ فيكره له أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن أبا بكرٍ عنده من اليقين والصدق والعلم، وأعمال القلوب ما ليس عند غيره.

الطالب:

الشيخ: إذا تصدق ببعض ماله لا بأس، كعب بن مالكٍ في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، لما أتاه البشير، ثم انطلق للنبي والناس يهنئونه بالتوبة؛ قال: “يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً لله”، يعني أتصدق بجميع مالي، فقال له النبي : أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خيرٌ لك [32]، لكن أبا بكرٍ أقره؛ لأن أبا بكرٍ عنده من اليقين وأعمال القلوب ما ليس عند غيره.

ونقف عند كتاب الوصية.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

السؤال: هل يجوز قبول الهدية من موظفٍ لآخر لأجل حصوله على الترقية؟

الجواب: لا بأس بذلك، الهدية من موظفٍ لزميله لا بأس، وليست من هدايا العمال التي هي غلولٌ، إذا كان كل منهما موظفًا، فأهدى الموظف لزميله في العمل، فلا بأس بذلك، وإنما الممنوع أن يهدي الموظف لمديره، هذا هو الذي لا يجوز، أما أن يهدي موظفٌ لزميله، أو يهدي معلمٌ لمعلمٍ آخر؛ فهذا لا بأس به.

السؤال: ما حكم تمويل (البلاديوم) من “مصرف الراجحي”؟

الجواب: لا بأس بذلك؛ لأنه منضبطٌ بالضوابط الشرعية، وجميع تعاملات هذا المصرف تخضع للرقابة الشرعية، مستوى الرقابة عالٍ، وتَبرأ الذمة بالتعامل معهم إن شاء الله.

السؤال: هل لسورة الدخان فضلٌ على غيرها؟

الجواب: رُوي في ذلك أحاديث، لكنها ضعيفةٌ، وهناك أحاديث ضعيفةٌ كثيرةٌ في فضائل بعض السور، فينبغي التأكد من صحة الحديث، قبل أن ينشره الإنسان يتأكد من صحته، فما روي في فضل سورة الدخان ضعيفٌ لا يثبت عن النبي .

السؤال: في حال حدد الواقف أجرة الوقف بسعرٍ محددٍ، وبعد وفاته زادت الأجرة في الحي، هل يزاد في الإيجار، أو يبقى كما حدده الواقف؟

الجواب: إذا لم يكن للواقف غرضٌ معينٌ من هذا التحديد؛ فيزاد في الأجرة، أما إذا كان له غرضٌ معينٌ من هذا التحديد؛ كأن يكون مثلًا المستأجر لهذه العين الموقوفة فقيرًا، فحدد أجرته وقال: يؤجر عليه بكذا، ولا يزاد عليه، فيلتزم بشرط الواقف.

السؤال: ما حكم من نسي قراءة الفاتحة مع إمامه في صلاةٍ سريةٍ؟

الجواب: صلاته صحيحةٌ، والمأموم إذا ترك واجبًا من واجبات الصلاة، فيتحمل ذلك الإمام، ولا يجب عليه سجود السهو، وقراءة الفاتحة للمأموم واجبةٌ وليست ركنًا؛ ولذلك المسبوق يدرك الركعة مع الإمام في الركوع، مع أنه لم يقرأ الفاتحة، ولو كانت الفاتحة ركنًا في حق المأموم؛ لما صح إدراك المسبوق للركعة في الركوع، فقراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة السرية من واجبات الصلاة وليست من أركانها؛ وعلى هذا: فلو نسي المأموم قراءة الفاتحة في الصلاة السرية صلاته صحيحةٌ، وليس عليه سجود السهو، وإنما لو نسي ركنًا؛ فيجب عليه أن يأتي بالركعة التي نسي فيها ذلك الركن، وأما إذا ترك واجبًا فيتحمل الإمام عنه ذلك الواجب.

السؤال: مقولةٌ مشتهرةٌ عند الناس: أن من سخر من أحدٍ؛ سيبتلى، فهل هذا صحيحٌ؟

الجواب: تجارب الناس تدل لهذا، وآثارٌ عن السلف أيضًا تدل لذلك، أنه ما من أحدٍ يسخر من أحدٍ؛ إلا ويبتلى بمثل الذي قد سخر به، وإن كان لم يَرِد في ذلك شيءٌ صحيحٌ عن النبي فيما أعلم، لكن وردت آثارٌ عن بعض السلف، وأيضًا تجارب الناس قديمًا وحديثًا تدل لهذا، في أن من سخر من أحدٍ؛ يبتلى بمثل الذي قد سخر به.

السؤال: كيف يعالج المسلم ميل نفسه للشهوات؟

الجواب: يكون ذلك بالمجاهدة، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، لا بد من مجاهدة النفس؛ لأن اتباع الهوى وطريق الشهوات تميل إليه النفس، فهي تحتاج إلى مجاهدةٍ، وتحتاج إلى نهيٍ؛ ولهذا قال الله : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]، فالنفس بطبيعتها تنجرف للهوى، تنجرف للشهوات، فهي تحتاج إلى نهيٍ من المسلم، ولهذا تأمل الآية: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فلا بد من نهي النفس، ولا بد من مجاهدتها حتى تستقيم على طاعة الله .

السؤال: من وقف على فقراء، ثم افتقر، فهل له من غلة الوقف أكثر من غيره؟

الجواب: هذه تكلمنا عنها في الدرس السابق، وقلنا: من وقف على فقراء، ثم افتقر؛ فله أن يأخذ من غلة الوقف، مثلما يأخذ بقية الفقراء.

السؤال: ما حكم من يبيع الناقة على شرط أن ما في بطنها له، هل تقاس على الهبة؟

الجواب: هذا بيعٌ، لكن استثناء الحمل في البيع، هذا محل خلافٍ بين الفقهاء؛ فمنهم من قال: إنه لا يجوز؛ لما في ذلك من الجهالة.

والقول الثاني: أنه يجوز، وهذا هو القول الراجح؛ لأن هذا الحمل لم يقع عليه البيع أصلًا، هو يقول: أبيعك هذه الناقة، لكن لا أبيعك حملها، حملها مستثنًى، فالحمل لم يقع عليه العقد أصلًا، وإنما استثناه المالك، فالقول الراجح: أن هذه الصورة تجوز.

السؤال: هل الإثم يَلحق المُهدِي والمهدَى إليه في هدايا العمال، أو يختص بالمُهدِي؟

الجواب: يلحق الاثنين جميعًا: المهدي والمهدى إليه؛ لأن هدايا العمال غلولٌ.

السؤال: هل المصاحف التي فيها تفاسير تأخذ حكم المصاحف الأخرى من حيث الطهارة؟

الجواب: إذا كان المصحف أكثر من التفسير؛ فيأخذ حكم المصحف، أما إذا كان التفسير أكثر، فلا يأخذ حكمه، فينظر للأكثر والأغلب، إذا كان الأكثر هو التفسير، معنى ذلك أن هذا كتاب تفسير وليس مصحفًا، فلا تجب الطهارة عند مسه.

لكن إذا كان الأكثر هو المصحف، والتفسير على هامشه، فهذا يأخذ حكم المصحف، وتجب الطهارة عند مسه.

السؤال: كيف تكون المنة بالمعروف؟

الجواب: ذكرنا هذا، وقلنا: إن المنة معناها: التذكير بالمعروف، والتذكير بالإحسان، والتذكير بالصدقة، يقول: أنا أعطيتك كذا، أنا فعلت معك كذا، فيذكره بذلك، هذه هي المنة، وهي محرمةٌ.

السؤال: ما هي السنة بعد صلاة الجمعة، هل هي ركعتان أو أربعٌ؟

الجواب: السنة بعد صلاة الجمعة أربع ركعاتٍ على القول الراجح؛ لحديث أبي هريرة  أن النبي قال: إذا صلى أحدكم الجمعة؛ فليصل بعدها أربعًا [33]، رواه مسلمٌ، لكن جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى بعد الجمعة ركعتين، وجاء في بعض الروايات أنه إذا صلاها في بيته، صلاها ركعتين، وإذا صلاها في المسجد صلاها أربعًا، لكن حديث أبي هريرة مقدمٌ؛ لأن حديث أبي هريرة  من قول النبي ، ودلالة القول أقوى وأرجح من دلالة الفعل، وهذا اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله: أن السنة التي بعد صلاة الجمعة أربع ركعاتٍ وليست ركعتين.

الطالب:

الشيخ: الأمر واسعٌ، سواءٌ أكانت في المسجد، أو كانت في البيت.

السؤال: ما حكم من صلى بدون طهارةٍ ناسيًا؟

الجواب: يجب عليه أن يتوضأ وأن يعيد الصلاة؛ لماذا لا يعذر بالنسيان في هذه الحال؟ نقول: لأن هذا من باب ترك المأمور، وما كان من باب ترك المأمور لا يعذر فيه بالجهل ولا بالنسيان؛ فلا بد أن يتوضأ وأن يعيد الصلاة، بخلاف ما لو كان على لباسه أو بدنه نجاسةٌ ناسيًا لها، أو جاهلًا بوجودها، ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة، فصلاته صحيحةٌ؛ لأن اجتناب النجاسة من باب ترك المحظور، وما كان من باب ترك المحظور يعذر فيه بالجهل والنسيان، وهذا مُطَّرِدٌ في العبادات كلها.

فمثلًا على سبيل المثال: في الصيام لو أكل أو شرب ناسيًا؛ صومه صحيحٌ؛ لأن هذا من باب ارتكاب المحظور، يعذر فيه بالجهل والنسيان، لكن لو أنه لم يبيت النية من الليل جاهلًا بدخول شهر رمضان؛ فيجب عليه قضاء ذلك اليوم، ولا يعذر بالجهل.

وفي الحج لو فعل محظورًا من محظورات الإحرام؛ تَطَيَّب ناسيًا، غطى رأسه ناسيًا، إذا كان رجلًا؛ فليس عليه شيء،ٌ أو جاهلًا، لكن لو أنه مثلًا ترك واجبًا من واجبات الحج؛ مثلًا: لم يبت بمنًى جاهلًا أو ناسيًا؛ فعليه دمٌ، ترك الرمي ناسيًا أو جاهلًا؛ فعليه دمٌ.

فإذنْ هذه قاعدةٌ مطردةٌ في أبواب العبادات كلها: أن ما كان من باب ترك المأمور لا يعذر فيه بالجهل ولا بالنسيان، وما كان من باب ارتكاب المحظور، يعذر فيه بالجهل والنسيان.

والإجابة عن بقية الأسئلة نرجئها إلى غدٍ إن شاء الله.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البيهقي في السنن الكبرى: 11946، والطبراني في المعجم الأوسط: 7240.
^2 رواه أبو داود: 3932.
^3 رواه مسلم: 1625.
^4 رواه أبو داود: 3594، والترمذي: 1352.
^5, ^27, ^28 سبق تخريجه.
^6 رواه أحمد: 3838، وابن حبان: 5603.
^7 رواه البخاري: 1825، ومسلم: 1193.
^8 رواه البخاري: 2568.
^9 رواه البخاري: 2566، ومسلم: 1030.
^10 رواه أبو داود: 4172، والنسائي: 5259، وأحمد: 8264.
^11 رواه مسلم: 2253.
^12 رواه أبو داود: 1672.
^13 رواه الترمذي: 2035.
^14 رواه أبو داود: 4811، والترمذي: 1954، وأحمد: 7939.
^15 رواه البخاري: 6636، ومسلم: 1832، بنحوه.
^16 رواه أحمد: 20695، والدارقطني: 2885، والبيهقي في السنن الكبرى: 11545.
^17 رواه مالك في الموطأ، ت: الأعظمي: 2783.
^18 رواه مسلم: 3006.
^19 رواه البخاري: 2458، ومسلم: 1713.
^20 رواه أبو داود: 3584.
^21 رواه البخاري: 2589، ومسلم: 1622.
^22 رواه أبو داود: 3539، والترمذي: 2132، والنسائي: 3690، وقال الترمذي: حسن صحيح.
^23 رواه ابن ماجه: 2291.
^24 رواه الطبراني في المعجم الصغير: 947.
^25 رواه أبو داود: 3528، والترمذي: 1358، والنسائي: 4449، وابن ماجه: 2290، وأحمد: 25296.
^26 رواه ابن ماجه: 2341.
^29 رواه البخاري: 2587.
^30 رواه البخاري: 2650، ومسلم: 1623.
^31 رواه أبو داود: 1678، والترمذي: 3675، وقال: حسن صحيح.
^32 رواه البخاري: 2757، ومسلم: 2769.
^33 رواه مسلم: 881.
zh