logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(61) باب الوديعة- من قوله: “يشترط لصحتها كونها من جائز التصرف..”

(61) باب الوديعة- من قوله: “يشترط لصحتها كونها من جائز التصرف..”

مشاهدة من الموقع

النبي يقول: مَن يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين[1]، إذا وجدت من نفسك حرصًا على التفقه في الدين، وحرصًا على طلب العلم، ومحبة لذلك، فهذه أمارة إن شاء الله على أنه أريد بك الخير، ومفهوم هذا الحديث: أن من لم يُرَد به الخير لا يُوفَّق للفقه في الدين.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

باب الوديعة

طيب، ننتقل بعد ذلك للتعليق على “السلسبيل”، وكنا قد وصلنا إلى (باب الوديعة).

تعريف الوديعة

الوديعة لغة: هذه المادة الواو والدال والعين، تعني: الترك: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ [الضحى:3] يعني: ما تركك ربك؛ وسميت بذلك لأنها متروكةٌ عند المُودَع.

واصطلاحًا: اسم للمال المُودَع عند مَن يتولى حِفظه بغير عوضٍ.

مشروعية الوديعة

وهي جائزة في الكتاب والسنة والإجماع: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ[النساء:58]؛ يعني: الودائع، فسر المفسرون الأمانات في الآية بأنها الودائع: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.

وكما في الحديث: أَدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائتمنك، ولا تخن من خانك[2]، وهي محل إجماع، كان النبي تُوضَع عنده الودائع في مكة، وكان يُسمَّى بالصادق الأمين، يعني كانوا يسمونه بالصادق الأمين، ويأتمنونه على أموالهم.

ولما كان صالحًا في نفسه، يحبونه ويأتمنونه، ويُعطونه الودائع، لكن لما بدأ بالإصلاح حاربوه، فهم يحبون الصالح، ولا يحبون المُصلِح.

كان عليه الصلاة والسلام قبل أن يُبعث يُسمى الصادق الأمين، وتُوضع عنده الودائع، ويحبونه؛ لأنه كان صالحًا فقط، لكن لما بدأ بالإصلاح ودعوة الناس إلى توحيد الله ​​​​​​​ حاربوه، هذه سنة الله تعالى في الناس.

ولما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام، أمر عليًّا أن يتخلف عنه بمكة؛ حتى يؤدي الودائع التي كانت عنده.

والوديعة كان الناس يحتاجون إليها في الأزمنة السابقة أكثر من وقتنا الحاضر؛ لأنه في وقتنا الحاضر وُجدت البنوك التي تحفظ أموال الناس، فقلَّت الحاجة للودائع، لكن قديمًا كان الناس يحتاجون إلى الودائع أكثر من الآن؛ ولذلك نجد تفصيلاتٍ وتفريعاتٍ للفقهاء؛ نظرًا لحاجة الناس في زمنهم إلى الوديعة.

الآن، كثيرٌ من الناس يستغني عن الوديعة، حتى البنوك الآن تحفظ الودائع، الودائع من الذهب والفضة ونحو ذلك، الأشياء النفيسة تحفظها البنوك بأجرٍ؛ فلذلك قلَّت الودائع الآن عند الناس، يعني قلَّ أن الإنسان يذهب لآخر ويقول: أريد أن أضع هذه الوديعة عندك، هذا موجود، لكن أصبح قليلًا مقارنة بالأزمنة السابقة.

ولهذا؛ سنجد تفريعاتٍ للفقهاء ومسائل فيها تفصيل؛ نظرًا لشيوع الوديعة في زمنهم، أكثر من شيوعها في زمننا في الوقت الحاضر.

حكم قبول الوديعة

طيب، حكم قبول الوديعة؟

قبول الوديعة مستحب، لكن بشرط أن يغلب على ظنِّه القدرة على الحفظ، أما إذا عَرَف مِن نفسه أنه فوضوي وأنه لن يحفظها، فلا يُستحب له أن يقبل الوديعة، بل يُستحب له تَرْكه ويعتذر، عَرَف مِن نفسه أنه إنسانٌ غير مُرتَّب وأنه فوضوي، وأن هذه الوديعة قد تضيع، هنا يُعرِّض ذمته للمسؤولية، فالأفضل ألا يقبل الوديعة.

لكن إذا عرف من نفسه أنه قادر على حِفظها، فيُستحب له أن يقبل الوديعة؛ لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى.

شرط صحة الوديعة

قال:

يُشترط لصحتها كونها من جائز التصرف لمثله.

يعني: تكون الوديعة من جائز التصرف لجائز التصرف، وجائز التصرف إذا قاله الفقهاء، المقصود بهذا المصطلح: الحُر المُكلَّف الرشيد. وهذا ظاهر.

وفرَّع المؤلف على هذا الكلام، فقال:

فلو أودع ماله لصغير، أو مجنون، أو سفيه، فأتلفه؛ فلا ضمان.

لأنه قد فرَّط بهذا، كيف تُودِع مالَكَ لسفيهٍ أو صغير أو مجنون؟! فهو قد فرَّط بذلك، فلو أتلفه هذا الذي قد أُودِع فلا ضمان.

طيب، لو كانت المسألة بالعكس:

وإن أودعه أحدهم.

المجنون أو السفيه أو الصبي هو الذي أودَع هذا الإنسانَ.

صار ضامنًا.

أتاه صبي عمره سبع سنوات، وقال: “خُذْ هذه، عشرة آلاف ريال وديعةً عندك” وقَبِلَها؛ يضمنها بكلِّ حال؛ وذلك لأنه قد تعدَّى بأخذ هذه الوديعة، حتى لو كان التلف بغير تعدٍّ ولا تفريط؛ لأن الواجبَ أن يأخذها مِن وليِّه، وليس من هذا الصبي، وإنما من الولي، فإذا قَبِلها من الصبي فإنه يكون ضامنًا لها بكل حال.

ولم يبرأ إلا برَدِّه لوليه.

وأيضًا لا يبرأ برَدِّ هذه الوديعة إلا بوليِّ هذا السفيه أو الصغير أو المجنون.

أين تُحفظ الوديعة؟

قال:

ويلزم المُودَعَ حِفظُ الوديعة في حِرْزِ مِثْلِها.

يعني: هذه ثمرة الوديعة، والمقصود منها أن تُحفظ الوديعة في حرز مثلها.

تعريف الحرز عند الفقهاء

وتعريف الحرز عند الفقهاء: هو المكان الذي يُحفظ فيه المالُ عادةً، وضابطه العُرْف، المرجع فيه للعُرْف، ويختلف باختلاف الأموال، فيعني حِرْزُ -مثلًا- الذهب غير حرز الأغنام، غير حرز الأواني، حِرْزُ كلِّ شيءٍ بحَسَبِه؛ ولهذا قال المؤلف: (في حرز مثلها).

أو بمن يقوم مقامه؛ كزوجته وعبده.

يعني: له أن يحفظ الوديعة بمن يقوم مقامه، كما لو وضعه عند زوجته، أو عند عبده، أو عند خادمه.

طيب، هل له أن يدفع الوديعة لأجنبي؟ قال:

وإن دفعها لعذر إلى أجنبي لم يَضمن.

كأن -مثلًا- يَعرِض له عارضٌ مِن مرضٍ أو سفر ونحو ذلك، فيضع هذه الوديعة عند أجنبي لعذر؛ لهذا العذر، فإذا كان هذا الأجنبيُّ ثقةً فإنه لا يضمن؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يُفرِّط، بشرط أن يكون ثقة، أما إذا لم يكن هذا الأجنبي ثقة فإنه ضامن.

إذن؛ لا بد من تقييد دَفْعها لأجنبي بأن يكون الأجنبيُّ ثقةً.

وإن نهاه مالكها عن إخراجها من الحِرز، فأخرجها لطريان شيءٍ الغالبُ منه الهلاك؛ لم يضمن.

إن قال المُودِع: “احفَظْها عندك في هذا الحِرز، ولا تُخْرِجها منه أبدًا”، لكن طرأ طارئٌ؛ كحريق مثلًا حريق، أو حصل نهب مثلًا، أو نحو ذلك، فأخرجها حتى لا تتلف، فإنه لا يضمن؛ لأنه مُحسِن بذلك الإخراج؛ ولأن تَرْكها مع وجود هذا الطارئ تضييعٌ لها؛ ولهذا قال المؤلف:

وإن تركها ولم يُخرجها، أو أخرجها لغير خوفٍ؛ ضمن.

طيب، إن كان هناك حريق، حريق في البيت مثلًا، والمُودِع يقول: “ضَعْها في هذا الحِرز، ولا تخرجها”، فهنا لا بد أن يُخرجها مع وجود الحريق، فإن لم يُخرجها ضَمِن، حتى وإن قال المُودِع: “لا تخرجها”؛ لأن مقصود المُودِع: لا تخرجها في الأحوال المعتادة، وليس مع طريان طارئ.

أو أخرجها لغير خوفٍ.

يعني: لو أخرج الوديعة مِن حِرزها لغير خوفٍ، ولغير عذرٍ في الأحوال المعتادة؛ فتلفت، فإنه ضامنٌ. طيب.

فإن قال له: لا تُخرجها ولو خِفْتَ عليها. فحصل خوفٌ وأخرجها أو لا؛ لم يضمن.

إن قال صاحب الوديعة: “لا تُخرجها من هذا الحِرز، حتى وإن حصل خوف، حتى وإن حصل حريق، حتى وإن حصل أي شيء”، يقول: فحصل خوف، حصل حريق وأخرجها؛ لم يضمن؛ لأنه مُحسِن، وهكذا قال: (أو لا؛ لم يضمن)، يعني: لو أنه لم يُخرجها أيضًا لم يضمن؛ لأنه ممتثلٌ لأمر ربِّها.

فإذن؛ إذا قال صاحبها: “لا تُخرجها مِن هذا الحِرز، حتى لو حصل خوف”، فإنه لا يضمن بكل حال، سواء أخرجها أو لم يخرجها، أما إذا لم يخرجها فإنه ممتثل لأمر ربها، هو الذي قال: لا تخرجها وإن حصل خوف.

لكن، إن أخرجها فهو محسن، ولا يضمن أيضًا، فإن قال المُودِع: أنا قلت لك: “لا تُخرجها وإن حصل خوف؛ لماذا تخرجها؟ اتركها تحترق”، فنقول: هذا سفه لا يُطاوَع عليه، كونه يقول: اتركها حتى تحترق، هذا كلام غير مقبول، وهذا مالٌ يُحافَظ عليه.

فكونه سفيهًا لا يطاوعه على هذا السفه، لو حصل حريق أو حصل نهب أو نحو ذلك، فأخرَجها؛ فإنه يكون بهذا مُحسِنًا، ولا يضمن، حتى وإن قال صاحبها: اتركها ولا تخرجها؛ لأن بعض الناس قد يكون أحمق، يقول: اتركها حتى لو رأيت حريقًا، أو رأيت نهبًا اتركها، لا تتعرَّض لها. وهذا غير صحيح، لو أتى حريق أو أتى نهب أو أتى أي شيء؛ يخرجها ولا يَضمن؛ لأنه بذلك مُحسِن.

وإن ألقاها عند هجومِ ناهبٍ ونحوِه، إخفاءً لها؛ لم يضمن.

يعني: لو حصل نهبٌ، يعني كما يحصل عند اختلال الأمن وعند الحروب، فعادةُ بعضِ الناس أنهم يُلقونها، حتى لا تُنهب، يلقونها في أيِّ مكان حتى لا تُنهب، فإذا فعل ذلك بهذا القصد؛ فإنه لا يضمن؛ لأنه محسن.

حكم الوديعة إن كانت حيوانًا

طيب، إن كانت الوديعة بهيمة، قال:

وإن لم يَعلف البهيمة حتى ماتت؛ ضَمِنها.

إن كانت الوديعة بهيمةً لا بد مِن عَلْفها، ولا بد مِن سَقْيِها، فإن تركها بدون سقي ولا علف حتى ماتت جوعًا وعطشًا؛ فإنه يضمن.

وهذه التفريعات التي ذُكرت كلها ترجع لمسألةٍ واحدة، وهي أن المُودَع إذا اجتهد في حفظ الوديعة، ولم يحصل منه تعدٍّ ولا تفريطٌ؛ فإنه لا يضمن، أما إذا حصل منه تعدٍّ أو تفريطٌ؛ فإنه ضامن.

ضابط التعدي والتفريط

طيب، ما ضابط التعدي والتفريط؟

العُرْف، الضابط في التعدي والتفريطِ العُرْفُ، إذا قال الناس: إن هذا مُفرِّط، أو إنه متعدٍّ؛ فإنه يضمن، إذا قالوا: إنه لم يُفرِّط ولم يتعدَّ؛ فإنه لا يضمن.

هذه هي القاعدة في الوديعة: إذا اجتهد المُودَع، ولم يتعدَّ ولم يُفرِّط؛ لا يضمن، إذا تعدى أو فرط ضمن. المرجع في تحديد التعدي والتفريط هو العُرْف.

ما يعمل المُودَع إذا أراد السفر؟

ثم قال المصنف رحمه الله:

وإن أراد المُودَع السفر، ردَّ الوديعة إلى مالكها، أو إلى مَن يحفظ مالَه عادة، أو وكيله.

إذا أراد المُودَعُ السفرَ، وخشي على الوديعة من السرقة أو النهب أو التَّلَف، فإما أن يَرُدَّها إلى مالكها، يقول: أنا سأسافر، وهذه وديعتك. أو إلى مَن يحفظ مالَه عادةً؛ كزوجتِه مثلًا ونحو ذلك، أو إلى وكيله.

فإن تعذَّر، ولم يَخَفْ عليها معه في السفر؛ سافَر بها ولا ضمان.

إن لم يجد مالكها وتعذَّر، وأراد أن يسافر بهذه الوديعة؛ لا بأس يسافر بها، بشرط ألا يخاف عليها في السفر، ولا ضمان.

فإن خاف عليها دفعها للحاكم.

إن أراد أن يُسافر بها، وخشي عليها من التلف، ولم يجد صاحبَها، فإنه يَرُدُّها للحاكم الذي هو القاضي، يُعطي القاضيَ هذه الوديعةَ.

فإن تعذَّر.

كما هو عليه الآن في وقتنا الحاضر، الآن لو أن شخصًا ذهب بالوديعة للمحكمة، وقال: “خذوها، أنا ما وجدتُ مالكَها، وسوف أسافر”، هل يقبلون الوديعة؟ ما يقبلون.

(فإن تعذَّر)، كما هو عليه الأمر في وقتنا الحاضر.

فللثقة.

يعني: يودعها عند ثقة، وهذه كما ذَكرتُ، هذه التفريعات الآن لا تكاد توجد في وقتنا الحاضر، بسبب وجود البنوك التي تحفظ أموال الناس عادة، فلم يَعُد الناسُ يحتاجون إلى هذه المسائل التي ذكرها المؤلف.

قال:

ولا يَضْمن مسافرٌ أُودِعَ، فسافَرَ بها، فتلفت بالسفر.

لو أن هذا الشخص لم يجد مالكها، وسافر بها وتلفت؛ فإنه لا يضمن؛ لأن إعطاءه هذه الوديعة يقتضي الإذن بها في السفر، بل حتى لو لم يُكلِّم مالكها، إذا أراد أن يسافر بها، وسافر بها وتلفت؛ فإنه لا يضمن.

ما يلزم المُودَع إذا تعدى في الوديعة؟

وإن تعدى المودَع في الوديعة.

انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن مسائل تَعَدِّي المُودَع، وذَكَر أمثلةً لما هو موجودٌ في زمنه، ونحن قلنا: إن الضابط في ذلك هو العُرْف، ضابط التعدي: المرجع فيه للعُرْف. لكن المؤلف أراد أن يبين معنى التعدي بأمثلة، المثال الأول، قال:

بأن رَكِبَها لا لسَقْيِها.

يعني: إذا كانت الوديعةُ دابةً، ورَكِب هذه الدابة ليس لأجل سَقْيِها، فتلفت؛ فإنه يضمن.

أو لَبِسَها.

إذا كانت الوديعة مما يُلبس كثوب، فلَبِسَه فتمزَّق؛ فإنه يضمن.

لا لخوفٍ مِن عُثٍّ.

يعني: لو كان لُبْسُ هذا الثوب ليس لأجل الخوف من العُثِّ.

والعُثُّ: هو سُوسَةٌ تُتلف الملابس، ويقولون: إنه لا بد من تحريك الملابس حتى لا تُفسدها وتُتلفها هذه السوسة، لا بد من أن تُحرَّك الملابس، إذا تُركت الملابس مدةً طويلة فتُتلفها هذه السوسة.

فلو أنه لَبِسَ هذا الثوبَ ليس لأجل الخوف من هذه السوسة؛ فإنه يضمن، أما إذا لبس الثوب لأجل تحريكها، وخوفًا من هذه السوسة، فإنه مُحسِن بذلك ولا يضمن.

أو أخرج الدراهم لِيُنفقها.

يعني: أُودِعَ دراهمَ وأخذها يُريد أن يُنفقها؛ يضمنها لصاحبها، فإنه يكون ضامنًا لهذه الوديعة بكل حال؛ لأن كونه يأخذ هذه الوديعة ويُنفقها، يرتفع عنه وصف الأمانة، وتصبح يده ليست بيد أمانة.

الطالب:

الشيخ: يعني: هذه لا بأس بها، يعني مثلًا إنسان أعطاك وديعة، مبلغًا نقديًّا، مثلًا عشرة آلاف ريال، وأنت تعرف أن في حسابِكَ أكثر من عشرة آلاف، تقول: أنا أريد أن أصرف العشرة آلاف هذه، على أني ضامن للعشرة آلاف التي في حسابي لفلان؛ هذا لا بأس به؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين، لا فرق بين العشرة آلاف التي عندك أو العشرة آلاف التي في البنك، لا فرق.

أو لِينظُرَ إليها، ثم ردَّها، أو حَلَّ كِيسَها فقط؛ حَرُم عليه، وصار ضامنًا، ووجب عليه ردُّها فورًا.

يعني: أخرج الدراهم من الكِيس لينظر إليها، وقام بعدها؛ يكون قد ضمن، يضمنها، ومعنى “يضمنها” يعني: يرتفع عنه وَصْف الأمانة، ضامن لها بكل حال، حتى لو كان التلف بغير تعدٍّ ولا تفريط.

وهكذا أيضًا لو حلَّ كيسها؛ فإنه يقول: (حَرُم عليه)، يعني: يأثم بذلك ويكون ضامنًا بكل حال.

لكن، مع فعل هذه الأشياء: هل يمكن أن يعود له وصف الأمانة مرة أخرى؟ أجاب المؤلف عن هذا السؤال، فقال:

ولا تعود أمانةٌ بغير عقدٍ متجدد.

إذا ارتفع عنه وصف الأمانة يرتفع عنه في هذا العقد، لكن يمكن أن يعود وصف الأمانة في عقد جديد، وأما هذا العقد فارتفع عنه وصف الأمانة، فلا يمكن أن يعود إليه.

قال:

وصح: “كلما خُنْتَ، ثم عُدْتَ إلى الأمانة، فأنت أمينٌ”.

يعني: هذه مسألة نادرة الوقوع، هذا رجلٌ يُريد أن يُودِع عند شخصٍ وديعةً، قال: “أخشى أني ما أحفظها، ولا أثق في نفسي”، قال له المودِع: “أبدًا، كلما خُنْتَ، ثم عدت إلى الأمانة، فأنت عندي أمين”، يقولون: إن هذا يصح، ولا ينتفي عنه وصف الأمانة، ما دام أن المودِع قال له ذلك.

متى يضمن المُودَع الوديعة؟

ثم قال المصنف رحمه الله:

والمُودَع أمين.

هذه هي القاعدة: أن المودع أمين، والمستأجَر أمين، والمضارِب أمين، والمستعير أيضًا على القول الراجح أنه أمين مطلقًا، وكل هؤلاء يدهم يد أمانة، ومعنى كونه أمينًا يعني: لا يضمن إلا إذا تعدَّى أو فرَّط، وأيضًا أنه عند عدم وجود البينة يُرجَّح قوله على قول صاحبه.

طيب، مِن ثمرة أن المُودَع أمين:

لا يضمن إلا إن تعدى أو فرط أو خان.

طبعًا، الخيانة هي نوعٌ من التعدي، لكن المؤلف ذكرها من باب التوضيح، فإذا تعدى أو فرط فإنه يرتفع عنه وصف الأمانة؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فسمى اللهُ الأمانات ودائع، فالمُودَع أمين.

وقال:

ويُقبل قوله بيمينه في عدم ذلك.

يعني: في نَفْي التعدي والتفريط والخيانة، لو أن رجلًا أودع وديعة عند شخص ثم تلفت، فقال المُودِع: “أنت فرَّطْتَ في حِفظها”، أو “أنت تعديت”، أو “أنت خائن”، ثم ترافعا إلى القاضي، فإن كان هناك بينة فالقول قول صاحب البينة، أما إن لم يكن هناك بينة فيُرجح قول مَن؟ المُودِع أو المُودَع؟ المُودَع؛ لماذا؟ لأنه أمين، فيُرجح قوله، يُقبَل كلامه ويُقدَّم على كلام المُودِع له.

أو أنها تلفت.

يعني: لو أن هذه الوديعة تلفت، فقال المُودِع: أعطني الوديعة، قال: تلفت؛ فيُصدق بهذا.

أو أنك أَذِنْتَ لي في دَفْعها لفلان، وفعلتُ.

فأيضًا يُقبل قوله ويُصدَّق؛ لأنه أمين، لكن بيمينه، في كل هذه المسائل يُقبل قوله بيمينه.

وإن ادعى الرد بعد مَطْله بلا عذر.

يعني: فإنه يرتفع عنه وصف الأمانة: إذا ادَّعى المُودَع أنه ردَّ الوديعة، ونحن قلنا: يُقبل قوله؛ لأنه أمين، لكن إذا كان ماطَلَ، قال له المودِع: “يا فلان، رُدَّ عليَّ الوديعة”، كلَّ يوم: غدًا، غدًا، يماطل في رَدِّ الوديعة، ثم بعد ذلك ادَّعى المُودَع بأن الوديعة قد تلفت، فإنه يكون ضامنًا، ويرتفع عنه وصف الأمانة؛ لأن مَطْلَه رَفَع عنه وصف الأمانة، فأصبح غير أمين، بل كالغاصب.

أو ادَّعى ورثتُه الردَّ؛ لم يقبل إلا ببينة، وكذا كل أمين.

ورثة المُودَع لو ادَّعَوْا ردَّ الوديعة؛ لا يُقبل كلامهم إلا إذا كان عندهم بيِّنة؛ لأنهم غيرُ مؤتمنين عليها، المُودِع يأتمن المودَع ولم يأتمن ورثته، ولا بد من بينة تُثبت أنهم قد ردوا هذه الوديعة. وهذا الحكم يشمل كلَّ أمين.

هل يضمن المُودَع إذا تأخر في رد الوديعة؟

وحيث أخَّر ردَّها بعد طلبٍ بلا عذرٍ، ولم يكن لحَمْلها مؤونة؛ ضَمِن.

إذا تأخر المُودَع في ردِّ الوديعة بلا عذر؛ فإنه يكون ضامنًا؛ لأن هذا التأخر رفع عنه وصف الأمانة، إلا إذا كان لحملها مؤونة؛ فلا بأس أن يتأخر بقدر هذه المؤونة، أما إذا كان له عذر فلا يرتفع وصف الأمانة عنه.

وإن أُكره على دَفْعها لغير ربِّها؛ لم يضمن.

لأن الإكراه عذر له في دفعها لغير ربها؛ فلا يضمن.

قال:

وإن قال له: عندي ألفٌ وديعةً، ثم قال: قَبَضَها، أو تلفت قبل ذلك، أو ظننتُها باقية ثم علمتُ تَلَفَها؛ صُدِّق بيمينه، ولا ضمان.

يعني: في هذه المسائل كلها يُصدق المُودَع، إذا لم توجد بينة يُرجَّح كلامه وقوله؛ لأنه أمينٌ، فلو قال له: عندي ألفٌ وديعة، لكن قبضها فلان؛ يُصدَّق في هذا، أو قال: تلفت؛ يصدق، أو قال: ظننتها باقية ثم علمتُ تلفها؛ فيُصدَّق في هذه المسائل كلِّها بيمينه؛ لأنه أمين.

وإن قال: قبضت منه ألفًا وديعة، فتلفتْ. فقال: بل غصبًا أو عارية؛ ضمن.

يعني: هنا اختلفا في كونها وديعة أو كونها غصبًا أو كونها عارية، هذا الشخص يقول: “أنا قبضتها وديعة وتلفت”، وصاحب المال يقول: “لا، أنت ما قبضتها وديعة، بل أنت قبضتها مني عارية”، على القول بأن العارية مضمونة، أو “أنك أخذتها مني غصبًا”.

فهنا، إن وُجدت بينة فالقول قول صاحب البينة، إن لم توجد بينة فهنا يضمن، يضمن هذا الذي عنده هذا المال؛ وذلك لأن الأصل في قبض مال الغير الضمان.

فإن قال قائل: ألسنا نقول: إن المُودَع أمين، كيف نقول: إنه يضمن؟ فما الجواب؟

يعني: المسائل كلها رجحنا كلام المُودَع إلا هذه المسألة، قلنا: لا، ما نصدق المودَع؟! هنا نقول: القول قول صاحب المال.

نعم، تفضل.

الطالب:

الشيخ: أحسنت، لم يثبت أصلًا أنها وديعة، هما الآن يتنازعان في كونها وديعة، لو ثبت أنها وديعة يكون أمينًا، أصلًا لم يثبت أنها وديعة، هو يقول: إنها وديعة، وصاحب المال يقول: لا، هي غصب، أو يقول: هي عارية.

فالأصل أنَّ مَن أخذ مال غيره أنه يضمن، فهذا هو وجه الضمان في هذه المسألة.

هل يعمل بخط الميت إذا وجد على الوديعة؟

طيب، هنا تنبيهات في -يعني- “السلسبيل” ذُكرت مُلحَقةً بـ”الدليل”:

إذا وُجدت وديعة مكتوبٌ عليها كتابةٌ بخط هذا الإنسان الميت؛ فإنه يُعمل بخطه إذا أقر الورثة بأن هذا هو خطه، فيعمل بخطه، وتثبت هذه الوديعة، حتى لو لم يكن هناك شهود.

إذا كَتب بأن هذه الوديعة لفلان؛ تثبت هذه الوديعة لفلان، ويلزم الورثةَ أن يَرُدُّوها لفلان. أو قال: لفلانٍ في ذمتي كذا؛ فيثبت ذلك، ويلزم الورثة أن يُعطوا فلانًا كذا، بشرط أن يُقِروا بأن هذا الخطَّ خطُّه.

فإذن؛ الخط يُعمل به، وهو مُعتبَر، إلا إذا لم يُقِرَّ الورثةُ بأن هذا خطه، وقامت القرائن مثلًا على التزوير، أو نحو ذلك؛ فلا يُعمل بهذا الخط.

تطبيقات معاصرة للوديعة

من التطبيقات المعاصرة للوديعة: ما يسمى بالودائع المصرفية في البنوك، فالبنوك تسميها وديعة، ويعطونك ويسمونها قسيمة إيداع، وكم ستودع عندنا، لكن هل هي وديعة بالمعنى الفقهي؟

الجواب: أنها ليست وديعة بالمعنى الفقهي؛ لأن الوديعة التي بالمعنى الفقهي: أن المُودَع يحفظ الوديعة، لا يتعرض لها، لا يتصرف فيها. وكما -يعني- مر معنا، حتى لو أخذها لِيَعُدَّها ثم أرجعها؛ ارتفع عنه وصف الأمانة.

فهي -هذه التي تسمى ودائع في الحساب الجاري- حقيقتها وتكييفها الفقهي أنها قرض وليست وديعة، فما يضعه الإنسان في الحساب الجاري، التكييف الفقهي له أنه قرض؛ لأن حقيقة القرض منطبقة عليه تمامًا؛ فإن تعريف القرض عند الفقهاء: دَفْع مالٍ لمن ينتفع به، ويَرُدُّ بَدَلَه.

ومما يدل على أنها قرض: أن البنك يتصرف فيها مباشرة، ربما أنك تودع مبلغًا، تودع مثلًا لدى موظف البنك عشرة آلاف ريال، يأخذ عشرة آلاف ريال، ويعطيها عميلًا آخر وأنت تنظر، يتصرف فيها مباشرة، ولو كانت وديعة لَمَا تصرف فيها، هو يرى أنها قرض.

ومما يدل لذلك أيضًا: أن البنك ضامن لها مطلقًا، حتى لو كان التلف بغير تعدٍّ ولا تفريط من البنك. وهذا يدل على أنها قرض، وليست وديعة. فإذن؛ التكييف الفقهي للحسابات الجارية أنها قرض، وليست وديعة.

طيب، مَن المقرض ومن المقترض؟

المقرض هو العميل، والمقترض هو البنك؛ ولذلك العلاقة بينهما علاقة مُقرِض لمُقْترِضٍ، وينطبق على ذلك أحكام القرض التي ذكرها الفقهاء.

طيب، فإن قال قائل: إن البنوك تُسميها وديعة، ويقولون: ودائع، ويعطونك قسيمة إيداع، فالبنك يعتبرها وديعة، فكيف تقولون: إنها قرض؟

فالجواب: أن الأسماء والمصطلحات لا تُغيِّر من الحقيقة، حتى وإن سَمَّوْها وديعةً، هي في حقيقتها قرضٌ، تسمية الشيء بغير اسمه لا ينقله عن حقيقته؛ أرأيت الخمر لو سُميت بغير اسمها، لو سميت مثلًا مشروبًا روحيًّا، أو بغير اسمها، هل هذا يغير حكمها؟ لا يغير حكمها.

فتسمية -يعني- البنوك لها وديعة، هذه تسمية غير صحيحة بالمعنى الفقهي، فهي ليست وديعة بالمعنى الفقهي، وإنما هي قرض. فهذه الحسابات الجارية هي في حقيقتها قروض وليست ودائع، وإن سمتها البنوك ودائع. نعم؟

الطالب:

الشيخ: نحن كيَّفنا الحساب الجاري بأنه قرض، وأن العميل مُقرِض، والبنك مقترض، وعلى ذلك فإذا أهدى البنك للعميل هدية لأجل الحساب فهذا لا يجوز؛ لأنها هدية من مقترض إلى مقرض قبل الوفاء؛ فلا تجوز.

هدايا البنوك للعملاء لأجل أرصدتهم وحساباتهم، هذه لا تجوز، لكن لو أهدى البنكُ العميلَ هديةً على عمليات الشراء، وليس لأجل الرصيد، فهل هذا يجوز؟

نعم، يجوز، وهذا الآن ما تفعله بعض المصارف الإسلامية، يضعون نقاطًا وهدايا على عمليات الشراء، بغض النظر عن رصيدك، حتى لو كان رصيدك صفرًا، يقول: على كل عملية شراء تأخذ هدية، أو تأخذ نقاطًا، وهذه النقاط بإمكانك أن تستفيد منها في هدايا؛ هذه لا بأس بها؛ لأن الهدايا ليست على الرصيد، وإنما على عمليات الشراء.

فبعض البنوك تتفق مع بعض المتاجر على أنَّ من يشتري مِن هذه المتاجر عن طريق بطاقةِ هذا البنك، أن المتجر يعطي البنك عمولة، فالبنك يقول: هذه العمولة أتقاسمها مع العميل، لن آخذ هذه العمولة كاملة، وأقول للعميل: كلما اشتريتَ عن طريق هذه البطاقة، لك هدية، فهذه لا بأس بها؛ لأن هذه الهدايا على عمليات الشراء، وليست لأجل الرصيد.

فانتبِه لهذه المسألة؛ لأن بعض الناس يقول: بعض البنوك الإسلامية تعطي هدايا لعملائها، لكن تعطيها لأجل ماذا؟ إذا كان لأجل الرصيد والحساب الجاري فهذا لا يجوز، أما إذا كان لأجل عمليات الشراء فلا بأس بذلك.

الطالب:

الشيخ: إي نعم، هذه الجميعُ فيها مستفيد، المتجر مستفيد؛ لأنه بمثابة السمسرة، يجلبون له زبائن، البنك مستفيد يأخذ جزءًا من العمولة، العميل مستفيد، فالأطراف الثلاثة كلهم مستفيدون.

ومن ذلك “كاش باك” الموجودة الآن، هذه أيضًا عمليات استرداد النقدي التي تُسمى “كاش باك”، هذه لا بأس بها؛ لأنها تنطلق من نفس الفكرة، فيعطونك، يسمونها استردادًا، كلما اشتريتَ يكون فيه استرداد على شكل نقاط، فيعني هذه لا بأس بها؛ لأن هذه ليست مقابل رصيد، وإنما مقابل عمليات الشراء.

طيب، ثم قال المصنف رحمه الله:

باب إحياء الموات

باب: إحياء الموات.

وأيضًا كما تكلمت عن الوديعة، وأنه يعني قلَّ استخدام الناس في الوديعة، وأيضًا بالنسبة لإحياء الموات، يعني: أريد قبل أن ندخل في هذا الباب أن أنبه إلى قضية، وهي أن الأراضي قديمًا لم يكن لها كبير قيمة.

أما في الوقت الحاضر، فقد أصبحت الأراضي لها قيمة كبيرة، وأصبحت مستودعًا للثروة، وبعض الناس يُفضِّل أن يضع أمواله في أراضٍ على أن يضعها رصيدًا في البنك.

والإنسان عندما يريد الآن أن يشتري عقارًا، يجد أن ما لا يقل عن نصف قيمة العقار قيمة الأرض، بل أحيانًا تصل -يمكن- سبعين في المائة من قيمة هذا العقار قيمة أرض، فأصبحت الأرض الآن لها قيمة كبيرة.

ولذلك؛ لا بد من أن نستحضر هذا عندما نتكلم عن إحياء الموات، وأن الأحكام التي ذكرها الفقهاء سابقًا قد لا تنطبق على وقتنا الحاضر؛ بسبب هذا التغير الذي حصل.

ولذلك؛ هنا لا بد مِن تدخل ولي الأمر لأجل تنظيم وترتيب إحياء الموات، كما سيأتي.

فيعني أحببت أن أقدم بهذه المقدمة؛ لأبين لكم الاختلاف الكبير بين واقعنا الآن وواقع الناس قديمًا؛ ولذلك أيضًا حتى زكاة الأراضي ينبغي أن يُنظر لها بهذا النظر، الأراضي التي يُقصد بها المتاجرة والمرابحة هذه لا بد من إيجاب الزكاة فيها، كيف لا تجب الزكاة فيها وهذا الذي ما عنده إلا خمسة آلاف ريال نوجب عليه الزكاة؟! وهذا الذي يملك أراضيَ بالملايين لا تجب عليه الزكاة؟!

فاختلاف الأحوال هذه لا بد أن يستحضرها طالب العلم عندما يقرأ كلام الفقهاء السابقين.

تعريف الأرض الموات

طيب، الموات مشتقة من الموت، وهي الأرض الدارسة التي لا مالك لها، وعرفها المصنف، قال:

هي الأرض الخراب الدارسة التي لم يَجْرِ عليها مِلكٌ لأحدٍ، ولم يوجد فيها أثرُ عِمارةٍ، أو وُجد بها أثرُ مِلكٍ وعمارة، كالخِرَبِ التي ذهبت أنهارها واندرست آثارها، ولم يُعلَم لها مالك.

يعني: تعريف المؤلف للموات: أنها الأرض الخراب الدارسة التي لا مالك لها، أو كان لها مالك لكنها خربت.

وعرفها الحَجَّاويُّ في “الزاد” بتعريفٍ أجود، قال: الموات هي الأرض المُنفكَّة عن الاختصاصات، ومِلكٌ معصوم. وهذا تعريف جامع مانع، وخرج بهذا التعريف:

أولًا: ما جرى عليه ملك معصوم، فهذا لا يُملَك بالإحياء.

الثاني: أن تكون الأرض متعلقة بالاختصاصات، كمسايل المياه، والطرقات، والمحتطبات، ونحو ذلك، فهذه لا تُملَك بالإحياء.

إذا قيل: ملك معصوم، المقصودُ بالمعصومِ المُسلِمُ، وكذلك أيضًا غير المسلم من الذمي والمعاهد والمستأمن، والأصل في الموات أنها تُحْيا، أنها تُملَك بالإحياء، الأصل في الموات أنها تُملَك بالإحياء؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: مَن أعمر أرضًا ليست لأحدٍ فهو أحقُّ. وهذا في “صحيح البخاري”[3].

حديث سعيد بن زيد: مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له[4].

إذْن الإمام في إحياء الموات

قال:

فمن أحيا شيئًا من ذلك، ولو كان ذميًّا، أو بلا إذنِ الإمام، مَلَكَه بما فيه مِن مَعْدِنٍ جامد؛ كذهب وفضة، وحديد وكُحْل.

يعني: هنا أشار المؤلف لمسألةِ إذن الإمام في إحياء الموات، هل يُشترط أو لا يشترط؟

إذا قيل: “الإمام”، المقصود به مَن له السلطة الأعلى في الدولة، أو من يُنيبه؟ هذه للعلماء فيها ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه لا يُشترط، وهو مذهب الجمهور مِن المالكية والشافعية والحنابلة، وقالوا: لأن الأدلة عامة، ولم يشترط الإذن؛ كحديث عائشة، وحديث سعيد بن زيد.

والقول الثاني: أنه يُشترط إذن الإمام في إحياء الموات، وهذا مذهب الحنفية، وحملوا حديث: مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له[5] على الإذن السلطاني، وليس الإذن التشريعي، فما الفرق بين الإذن السلطاني والإذن التشريعي؟

يعني: هل قال النبي عليه الصلاة والسلام: مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له بصفته المشرع للأمة، وأن هذا الكلام مُوجَّه للأمة، أو بصفته القائد لدولة الإسلام في زمنه، فيكون إذنًا سلطانيًّا للناس في زمنه فقط؟

الحنفية حملوها على المعنى الثاني، والجمهور على المعنى الأول، والصواب هو قول الجمهور، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: من أحيا أرضًا ميتة فهي له هذا مُوجَّهٌ للأمة جميعًا، كيف يقال: إنه إذن سلطاني؟! فهذا -يعني- القول قول ضعيف.

لكن تعليلهم أن للإمام مدخلًا في النظر، يعني هذا جيد، هناك قول ثالث وسطٌ بين القولين، ولعله هو الأقرب، قالوا: إنه لا يُشترط لإحياء الموات إذن الإمام، لكن للإمام أن يمنع مِن إحياء الموات إلا بإذنه، إذا رأى المصلحة في المنع له أن يمنع، وإلا من حيث الأصل فلا يشترط إذن الإمام.

وهذا هو الأقرب والله أعلم، ورجَّحه الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله، وهو الذي عليه العمل الآن في المحاكم، وهو يجمع بين أدلة القول الأول والثاني.

وعلى ذلك؛ فيلزم الالتزامُ بتعليمات وليِّ الأمر فيما يتعلق بإحياء الموات، يعني: خاصة في وقتنا الحاضر، لو فُتح المجال للناس سيحصل نزاعات عظيمة، كلٌّ يريد أن يُحجِّر أرضًا، يقول: هذه أرضٌ لي، وسينتقلون للصحراء، وسينتقلون لكلِّ مكانٍ، ويُحوِّطون أراضيَ ولا يُحْيونها، يحوطونها ويضرون بالناس، ولا يستفيدون منها، يعني لا يزرعونها ولا يحيونها.

فلا بد مِن تدخُّل ولي الأمر لتنظيم إحياء الموات، كما ذكرنا لكم، يعني الآن الأراضي أصبح لها قيمة كبيرة، أصبحت مستودعًا للثروة، قديمًا الأراضي ليس لها كبير قيمة، لا بد أن نستحضر هذا المعنى، فتدخُّل ولي الأمر لأجل تنظيم إحياء الموات هذا لا بد منه؛ لأن مصلحة الناس لا تستقيم إلا بهذا.

وقوله: (مَلَكه بما فيه من معدن جامد؛ كذهب وفضة، وحديد وكحل)؛ يعني: هذه كلها من أجزاء الأرض، فتتبعه في الملك.

ولا خراج على مَن أحياها إلا إذا كان ذميًّا، فعليه الخراج.

لكن يتقيد ذلك بما إذا كان فَتْحها عَنْوة وليست صُلْحًا، يعني على التفصيلات التي ذَكَرها الفقهاء، وهذه نقرؤها الآن من الناحية النظرية.

هل النفط يُمْلَك بالإحياء؟

قال:

لا ما فيه من معدنٌ جارٍ؛ كنِفْطٍ وقَارٍ.

النِّفط هو البترول نفسه، كانت العرب تسميه نفطًا، وعرفه أصحاب اللغة، يعني هو تعريفه في “السلسبيل” من “لسان العرب” و”العين”، قالوا: هو حُلَابة جَبَلٍ في قعرِ بئرٍ تُوقَد به النار، الذي هو البترول، والتسمية الصحيحة له أن يقال: نَفْط، وبعضهم يقول: نِفط، وهذه الكلمة الفصيحة، والأحسن يقال: نَفْط أو نِفط، ولا يقال: بترول.

فهذا لا يُملَك بالإحياء، بالنسبة للنِّفط لا يُملك بالإحياء، وإنما هو كسائر الأشياء التي يشترك بها الناس، كقول النبي عليه الصلاة والسلام: المسلمون شركاء في ثلاث[6].

والقارُ يظهر أنه هو الذي نسميه الآن هو الزفت، الزفت هو القار نفسه، وحتى الآن العامة يسمونها قارًا، فأيضًا هذا هو جزء من النفط، فلا يُملك بالإحياء؛ لأن النفط له عدة صور: البنزين والديزل والقار، وإلخ، هذه كلها لا تُملك بالإحياء.

وهذا هو الذي عليه العمل، أنها الآن تكون ملكًا للدولة، حتى لو أحيا الإنسان أرضًا ووجد فيها نفطًا، لا يَملك هذا النفط.

قال:

ومن حفر بئرًا بالسَّابلة ليَرْتَفِقَ بها؛ كالسَّفَّارة؛ لشُرْبهم ودوابهم، فهم أحق بمائها ما أقاموا.

(من حفر بئرًا بالسابلة) بالسابلة يعني: بطريق مسلوك (ليرتفق بها كالسفارة) السفارة: المسافرون، يعني ليرتفق بها المسافرون فيشربون منها، فيقول: إن هذا الذي حفرها هو أحقُّ بمائها مِن غيرهم.

وبعد رحيل مَن حفر تكون سبيلًا للمسلمين، فإن عاد الذي حفر يكون أحقَّ.

ويعني: هذه القاعدة في هذا: أنَّ مَن سبق إلى ما لم يُسبَق إليه فهو أحق، ومَن حفر بئرًا فهو أحق.

ثم قال المصنف رحمه الله:

بم يحصل إحياء الأرض؟

ويحصل إحياء الأرض الموات إما بحائط.. إلخ.

بم يحصل إحياء الموات؟ يعني المؤلف وبعض الفقهاء عَدُّوا أمثلةً لإحياء الموات، والقول الثاني: أن إحياءَ المواتِ المَرْجِعُ فيه للعُرْف، ما أعده الناس إحياءً فهو إحياء.

وهذا هو القول الراجح: أن المرجع في الإحياء للعُرْف، وأن هذه التي يذكرها الفقهاء هي مجرد أمثلة، وإلا فالمرجع في الإحياء للعُرْف، وهذا مما يختلف باختلاف الزمان وباختلاف المكان.

المؤلف ذكر أمثلة لإحياء الموات، قال:

إما بحائط منيع.

يعني: أحاط الأرض بحائط منيع، فيملكها بذلك؛ لحديث سَمُرة: مَن أحاط حائطًا على أرض فهي له[7].

أو إجراءِ ماءٍ لا تُزْرَع إلا به.

لأن إجراء الماء أعظم من الحائط، فإذا كانت تُملك بالحائط، فبإجراء الماء من بابٍ أولى.

أو غَرْسِ شجرٍ.

أيضًا يحصل بإحيائه الموات.

أو حَفْرِ بئرٍ فيها.

بشرط أن يصل إلى مائها، فإن لم يصل إلى مائها فإنه لا يملكها، وإنما يكون أحق بها من غيره.

قال:

فإن تَحَجَّر مواتًا بأن أدار حوله أحجارًا.

يعني: هذا ليس بإحياء، مجرد أنه يضع أحجارًا على أرض، لا يُعتبر هذا إحياء، لكن يكون أحق بها من غيره.

أو حَفَر بئرًا لم يصل ماؤها.

يعني: لم يصل هو إلى مائها؛ فلا يملكها بهذا، لكن يكون أحق بهذه البئر من غيره.

 أو سَقَى شجرًا مباحًا، كزيتونٍ ونحوه، أو أصلحه.

هذا أيضًا لا يعد إحياء؛ لأن -أصلًا- هذه الأشجار قائمة، وأيضًا تَشْرب الماءَ بعروقها، لكن يكون أحق بها من غيره.

ولم يُرَكِّبه.

(ولم يُرَكِّبه) هذا المصطلح، يعني عند بعض العامة يُعبِّرون عنه بمن يُطعِّمه، يُسَمُّونه تطعيمًا، يعني الذي له معرفة بالزراعة يعرفون أنه فيه شيء اسمه تطعيم، يأخذون غُصْنًا من شجرة، ويضعونها في شجرة أخرى، وسبحان الله! يلتحم ويُنبت ويُصبح كأنه غُصْنٌ من هذه الشجرة، يسمونه تطعيمًا، والفقهاء يسمونه التركيب.

قال: (ولم يُرَكِّبه)؛ يعني: ولم يُطعِّمه، التطعيم: أن يصل النبات بنات آخر، فإذا لم يُطعَّم الشجر فلا يكون إحياء، أما إذا طعَّمه فإنه يكون إحياء.

قال:

لم يملكه، لكنه أحقُّ به من غيره، ووارثه بعده، فإن أعطاه لأحدٍ كان له.

يعني: في جمع الصور: الوارث مِن بعده يكون أحقَّ؛ لأن الحقوق تنتقل أيضًا للورثة، تنتقل الحقوق للورثة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: مَن تَرَك مالًا، فلورثته[8].

ونحن ذكرنا أنَّ القول الراجح في إحياء الموات أن المرجع فيه للعُرْف، فلا نحتاج لهذه الأمثلة، هذه أمثلة، يجب التوضيح، وإلا فالقول الراجح أن إحياء الموات لا يحصل، يعني: المرجع فيه للعُرْف.

والآن، أصبح هناك تعليمات متعلقة بإحياء الموات مِن ولي الأمر، فهذه ينبغي الالتزام بها؛ نظرًا كما ذكرت للتغيرات التي حصلت في حياة الناس، فأصبح تدخُّل ولي الأمر لا بد منه؛ لأجل فض النزاعات بين الناس، وتحقيق المصلحة العامة.

من سبق إلى مباح فهو له

قال:

ومَن سبق إلى مُباحٍ فهو له.

هذا قد ورد في حديثٍ عن النبي : من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مُسلِم فهو له. وهذا أخرجه أصحاب السُّنن وأحمد[9]، وفي سنده مقال، لكن العمل عليه عند أهل العلم: أنَّ من سبق فهو أحق.

حتى لو سبقتَ إلى مكانٍ في المسجد أنت أحقُّ، سبقت لأيِّ مكانٍ، مثلًا مكان في قاعة المحاضرات أنت أحق، مَن سبق إلى مكان في أيِّ مجالٍ فهو أحقُّ من غيره، السبق يعطيه خصوصية وميزة، ويعطيه أحقية على غيره.

قال:

كصيدٍ وعَنْبرٍ، ولؤلؤٍ ومَرْجان، وحطبٍ وثمر.

يعني: هذه كلها مَن سبق إليها فهو أحقُّ بها من غيره.

ومنبوذٍ رغبةً عنه.

يعني: أيضًا مَن سبق إلى هذا المنبوذِ فهو أحقُّ به، مثل النِّثَار في العُرْس، أو أيِّ شيءٍ مُلقًى وسبق إليه أحدٌ، فمَن سبق فهو أحقُّ.

والمِلك مقصورٌ فيه على القَدْر المأخوذ.

فقط يعني على ما حازَه وأخذه دون غيره.

هذه أبرز الأحكام المتعلقة بإحياء الموات، وكما ذكرنا أنها الآن أصبح لها تنظيمات مِن ولي الأمر، ونظرًا لاختلاف أحوال الناس؛ لاختلاف قيم الأراضي، وما طرأ على الأراضي مِن أنها أصبحت كنزًا ومستودعًا للثروة، وهذا استدعى تدخُّلَ وليِّ الأمر، ووضع التعليمات لأجل الإحياء.

ثم قال المصنف رحمه الله:

باب الجعالة

باب: الجعالة.

الجعالة مثلثة الجيم، يعني: الجَعالة، والجُعالة، والجِعالة، كلها صحيحة، وهي: اسمٌ لما يُجعَل للإنسان على فِعْلِ شيءٍ.

وعرَّفها المصنف بتعريفٍ، قال:

وهي جَعْلُ مالٍ معلومٍ لمن يعمل له عملًا مباحًا، ولو مجهولًا.

هذا معنى الجعالة، يعني يقول: مَن ردَّ ضالتي فله كذا، مَن وجد محفظتي فله كذا، مَن عثر على كذا فله كذا. هذا معنى الجعالة.

صاحب “زاد المستقنع” عرَّفها، قال: أن يجعل شيئًا معلومًا لمن يعمل له عملًا معلومًا، أو مجهولًا، مدة معلومة أو مجهولة.

وهنا، نلاحظ أن الجهالة حاضرة في الجعالة، فالجعالة فيها جهالة، وفيها غرر، والجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة أجازوها، والحنفية منعوها؛ لأجل الجهالة والغرر.

الأدلة على مشروعية الجعالة

لكن دلت السنة على أن الجهالة فيها مغتفرة؛ لما يترتب عليها من المصالح العظيمة، واستدل الجمهور على مشروعية الجعالة بما جاء في قصة يوسف: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72].

لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ يعني: لمن جاء بصُوَاع المَلِك حِمْلُ بَعِيرٍ جعالة؛ لأن صواع الملك لما فُقِد اتَّهموا إخوةَ يوسف، قال: إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70].

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ [يوسف:73]، ويوسف وضع صواع الملك في رَحْلِ أخيه بنيامين؛ لأجل أن يُبقيه معه، فأذَّن مُؤذِّنٌ، قال للمؤذن: لمن جاء بصواع الملك حِمْلَ بعيرٍ، نُعطيه -يعني- جعالة حِمْلَ بعير.

يقول هذا القائل: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أنا الضامن، أنا أتكفل لمن جاء بصواع الملك حمل بعير.

ثم استخرجها يوسف من وعاء أخيه، واستبقى أخاه، يعني وضع له يوسف عليه الصلاة والسلام هذه الخطة؛ لأجل أن يستبقي أخاه، وتحقق ما أراد يوسف عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76].

فالشاهد من هذه القصة أنه قال: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ فهذه جعالة.

وأيضًا قصة النفر من الصحابة الذين نزلوا على حيٍّ من أحياء العرب ولم يُضيِّفوهم، فلُدِغ سيدهم، فأتوا وقالوا: هل عندكم شيء يعني يفيد في علاج سيدنا؟ فأحد الصحابة، ولم يكن مَن معه يعرفون أنه يَرْقِي، قال: والله إني لأرقي، ولكنْ لم تُقْرُونا، يعني تُضيِّفونا. فقالوا: نجعل لكم جُعْلًا، قطيعًا من الغنم.

فجعل يقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] وينفث، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] وينفث، إلى أن أكمل سورة (الفاتحة)، فقام سيدهم كأنما نُشِطَ مِن عِقَالٍ[10].

سبحان الله! انظروا إلى عظيمِ تأثير القرآن، مع أنَّ سُمَّ العقرب نَفَذ إلى دَمِه، ومع ذلك شفاه الله تعالى برقية الفاتحة فقط؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: وما يُدريك أنها رقية[11]. واستشكل الصحابة: هل يأخذون هذا القطيع من الغنم أو لا؟ قال: خذوه، قال عليه الصلاة والسلام: خذوه، واضربوا لي معكم بسهم تأكيدًا للحل.

فهذه كما ترون؛ يعني جعلوا لهم قطيعًا مِن غنمٍ، وجاء في بعض الروايات: اجعلوا لنا جُعْلًا، يعني هذا تصريحٌ بالجعالة، فأخذوا هذا الجُعْل، فأقرَّهم النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، وقال: واضربوا لي معكم بسهم[12] تأكيدًا للحل، وهذا يدل على جواز الجعالة.

وأيضًا، حاجة الناس شديدة للجعالة؛ لأن هناك أشياء لا يصح أن يُعقَد عليها عقد إجارة، والناس محتاجون إليها، مثل: “مَن ردَّ ضالتي فله كذا”، لو أردتَ أن تعقد عليها عقدَ إجارةٍ لم يَجُز؛ لأن فيها غررًا؛ لأن العملَ مجهولٌ، “مَن رد ضالتي” يمكن أن يجد الضالة مباشرة، يمكن أن يبقى عشرة أيام وهو يبحث عنها، العمل مجهول، فلو عقدت عليها عقدَ إجارة لم يصح.

طيب، ما الحل؟ ما فيه إلا حَلٌّ واحد، وهو الجعالة، فحاجة الناس يعني ماسة لهذا العقد.

ولذلك؛ فالصواب هو قول الجمهور، وهو جواز الجعالة، وليس كلُّ جهالةٍ وغرر ممنوعة شرعًا، فالجهالة والغرر أحيانًا قد تُغتفر في الشرع، خاصة إذا كان هناك مصلحة راجحة.

ولذلك؛ عقد السلم فيه غرر أيضًا، وهو جائز شرعًا، فليس كلُّ غررٍ يكون ممنوعًا شرعًا.

فإذن؛ الصواب هو قول الجمهور من جواز الجعالة.

حكم عقد الجعالة

حكم الجعالة من حيث اللزوم وعدمه، عقد جائزٌ غيرُ لازمٍ، فلكلٍّ من الجاعل والعاملِ الفسخُ متى ما أراد؛ ولذلك يُمثِّلون بالجعالة بالعقود الجائزة؛ لأن العقودَ تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

عقود لازمة كالبيع، وجائزة كالجعالة، ولازمة من وجه وجائزة من وجه آخر كالرهن؛ لازم في حق الراهن، جائز في حق المرتهن.

فلذلك؛ يعني تجد أن الفقهاء يعني يُمثِّلون بالجعالة للعقود الجائزة، فهي من العقود الجائزة، مثل الوكالة، الوكالة والجعالة هذه عقود جائزة، بينما البيع والإجارة عقود لازمة.

مثَّل المؤلف للجعالة، فقال:

كقوله: مَن ردَّ لُقَطتي، أو بنى لي هذا الحائط، أو أذَّن بهذا المسجد شهرًا، فله كذا.

هذه أمثلة: مَن عثر على محفظتي، محفظته ضاعت، فله كذا، مَن بنى لي هذا الحائط فله كذا، مَن أذن في هذا المسجد شهرًا فله كذا، من صلى صلاة التراويح بهذا المسجد في رمضان فله كذا، هذه كلها صور للجعالة.

ولو أخذنا صورًا معاصرة من زمننا وواقعنا المعاصر، مثل -مثلًا- جوائز حلقات تحفيظ القرآن الكريم، هذه التكييف الفقهي أنها جعالة؛ لأن الجهة التي تضع الجوائز تقول للطلاب: مَن حفظ كذا فله كذا، من كان مثلًا يحضر حلقات التحفيظ نكرمه في آخر الفصل بجوائز يعني كذا، فهذه صور للجعالة.

وكذلك أيضًا الجوائز التي تكون لحفظ السنة، مثل المسابقات الثقافية، جميع المسابقات التي يكون مُعْطي الجوائز فيها من غير المتسابقين، هذه تكييفها الفقهي جعالة، وأما إذا كانت من المتسابقين فهذه يَرِد فيها الإشكال، لا تصح إلا في ثلاثة: في خفٍّ، أو نصلٍ، أو حافر.

لكن لو كانت الجوائز من غير المتسابقين، هذه جعالة، لا بأس بها.

بعض صور الجعالة

طيب، مِن صور الجعالة: ما يتقاضاه الإمام أو المؤذن على الأذان؛ لأن ما يتقاضاه الإمام والمؤذن ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

إما أن يكون جعالة، وإما أن يكون إجارة، وإما أن يكون رزقًا من بيت المال.

الغالب الآن هو الرزق من بيت المال، ما يُدفع من الدولة للإمام أو المؤذن يكون رزقًا من بيت المال، وجائز بالإجماع؛ لأن بيت المال يُصرف في مصالح المسلمين، ومِن أعظم مصالح المسلمين أن يُعطَى الإمام والمؤذن لأجل أن ينتظم أمر المسجد.

طيب، الصورة الثانية: أن يكون جعالة، يتفق جماعة المسجد مع شخص، يقولون مثلًا: إن صليتَ بنا صلاة التراويح فلك كذا، إن أمَّمتَ هذا المسجد أو أذنت في هذا المسجد فنعطيك كذا؛ فهذا أيضًا لا بأس به.

الصورة الثالثة: إجارة، يعني عقد، عقد بين جماعة المسجد وبين الإمام، أو بين جماعة المسجد وبين المؤذن، فالإجارة أضيق، وبعض العلماء مَنَع منها، وقال يعني: إنه لا يجوز الإجارة على الأذان والإمامة، فيها خلاف كثير.

لكن الجعالة أوسع منها، أما الرزق فجائز بالإجماع، فإذن ثلاث صور: إجارة وفيها خلاف، جعالة والأظهر أنه لا بأس بها، والرزق من بيت المال وهذا جائز بالإجماع من غير شبهة، وليس فيه شبهة.

الشبهة في الإجارة، أما بالنسبة للرزق فليس فيه شبهة، والجعالة أوسع من الإجارة.

مِن أمثلة الجعالة أيضًا: التبليغ عن المطلوبين، مثلًا: مَن بلغ عنه فله كذا.

عمليات التنقيب عن النفط والمعادن أيضًا هذه تدخل في الجعالة، وأيضًا عقد الوساطة: إن بعتَ سيارتي فلك كذا، إن -مثلًا- بعت فيلتي فلك كذا.

تحصيل الديون: إن حصَّلتَ الديون فلك مثلًا كذا أو نسبةٌ منها، فيعني مجالات الجعالة واسعة.

طيب هناك أيضًا يكثر السؤال عن هذه المسألة، أناس يلعبون كرة أو غيرها، مثلًا ألعابًا، ووُضعت جوائز؛ إذا كانت الجوائز من جهة خارجية وليست من اللاعبين، تُكيَّف على ماذا؟ جعالة، لا بأس بها، لكن إذا كانت من اللاعبين أنفسهم، فهذا هو محلُّ الإشكال، إذا كانت من اللاعبين فلا تجوز.

الطالب:

الشيخ: لا، إذا كانت من اللاعبين، والفائز ندفع له مبلغًا من المال، الفائز له كذا، هذا لا يجوز، إلا فيما ورد فيه النص: لا سبق إلا في خف، أو نصل، أو حافر [13].

الطالب:

الشيخ: لا، هذه لا تجوز، لكن لو كان اشتراكًا لأجل خدماتٍ، الخدمات التي تُقدَّم؛ هذا لا بأس به، يكون مثلًا مرفق أو مكان، وفيه خدمات، فيقال: مَن أراد أن يشترك في هذا المرفق يدفع اشتراكًا، أو حتى حلقات تحفيظ القرآن الكريم، إذا أراد أن تأخذ مثلًا اشتراكًا، إذا سمح له مثلًا بأن تأخذ اشتراكات، فهذه لا تدخل في مسألة السبق، هذه مقابل ما تُقدِّم من خدماتٍ، من معلم، مِن -مثلًا- مُرشِد، من أيضًا أحيانًا رحلات، ونحو ذلك.

فإذا كان الشيء فيه خدمات، فلا يُكيَّف.. يعني وكان باشتراكٍ، فهذا خدمةٌ مقابِلُ.. أو منفعةٌ مقابلُ مالٍ؛ هذه لا بأس بها، لكن إذا كانت لأجل الفوز، فهذه لا تجوز إلا في خفٍّ أو نصل أو حافر، إذا كانت من جهة خارجية فهذه لا بأس بها؛ لأنها تُكيَّف على أنها جعالة.

هذا هو الضابط في هذه المسائل، إذا ضَبَطْتَ هذا الضابط، تستطيع معرفة حكم أي مسألة؛ لأن هذه المسائل يكثر السؤال عنها.

الطالب:

الشيخ: هذه لا تجوز، يعني الفريق الأول يضع خمسمائة، والثاني خمسمائة، والفائز يأخذ المبلغ كاملًا، هذه لا تجوز بالنص؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا سبق إلا في خف، أو نصل، أو حافر[14].

الطالب:

الشيخ: أي نعم، يعني هذه حيلةٌ أيضًا، المتسابقون لا يُؤخَذ منهم إلا إذا كان اشتراك، إذا كان في خدماتٍ، دَفْعُ الرسومِ لأجل الخدمات التي تُقدَّم، وليس لأجل الفوز.

الطالب: شاملة.

الشيخ: شاملة كل شيء، ولا تكون حيلة، لا تكون لأجل الفوز، الفوز يكون شيئًا ثانويًّا، هذا لا بأس به، أما إذا كان اللاعبون يدفعون لأجل الفوز، ومن يفوز يُعطَى، لا تجوز أن تكون الجوائز من اللاعبين، تكون من جهة أخرى، من جهة خارجية.

الطالب: المسابقات العلمية.

الشيخ: المسابقات العلمية يعني محل خلاف، المسابقات العلمية هل يجوز أن تكون من المتسابقين أو لا؟

فمِن العلماء من قال: إنه في العلم يجوز، وتُقاس على الخُف والنصل والحافر، نقله المَرْداوي في “الإنصاف”، لم نجده في كتب ابن تيمية، لكن وجدتُ أن المرداوي في “الإنصاف” نسبه لابن تيمية رحمه الله.

ولكن ضَبْطها صعب؛ لأنه.. ما ضابط المسابقات العلمية؟ أذكر أن جهة من الجهات أخذت جوائز من المتسابقين، فلما قيل لهم، قالوا: نحن على فتوى ابن تيمية. فضبطها صعب.

ولذلك؛ الأقرب أن نأخذ بالضابط الذي ذكره الفقهاء: أنها تجوز إذا كانت من جهة خارجية، أما مِن المتسابقين أنفسهم، حتى المسابقات العلمية، يُمنع منه، إلا فيما ورد فيه النص.

أبرز الفروق بين الجعالة والإجارة

طيب، هنا أبرز الفروق بين الجعالة والإجارة؛ لأن بين الجعالة والإجارة تشابهًا، أبرز الفروق:

أولًا: أن الجعالة لا يُشترط لصحتها العلم بالعمل، بخلاف الإجارة.

وأيضًا الجعالة لا يُشترط فيها معرفة المدة بخلاف الإجارة، لاحِظ هنا الجعالة يمكن أن تكون مع جهالة العمل وجهالة المدة.

وأيضًا من الفروق: أن العامل في الجعالة لم يلتزم بالعمل، بخلاف الإجارة فإن العامل قد التزم، والإجارة عقد لازم.

وأيضًا من الفروق: أن الجعالة لا يُشترط فيها تعيين العامل، بخلاف الإجارة.

وأيضًا أن الجعالة عقد جائز، بينما الإجارة عقد لازم.

فلاحِظ هنا أن الإجارة أضيق من الجعالة، الجعالة أوسع؛ ولذلك نحن قلنا: فيها مصلحة كبيرة للناس.

قال:

فمَن فعل العمل بعد أن بلغه الجُعْل، استحقه كلَّه.

يعني: لو قال مثلًا: “مَن رد ضالتي فله كذا”، وقام وبحث عنها فوجدها، فله الجُعل كاملًا.

طيب، المؤلف يُريد أن يُفرِّع على هذا، قال:

وإن بَلَغه في أثناء العمل استحقَّ حصةَ تمامِه، وبعد فراغ العمل لم يستحق شيئًا.

يعني: إذا بلغه الجُعل في أثناء العمل فيستحق الحصة، الحصة يعني القسط.

مثال ذلك: لو قال: “من بنى لي هذا الحائط في يوم واحد فله ألف”، ثم إن هذا الرجل لم يعلم بالجعل، فلما انتصف في بناء الحائط بلغه أن هناك جعلًا، وأنه ألف، فيستحق كم؟ خمسمائة؛ لأن عمله الأول كان متبرعًا، فلا يستحق عليه شيئًا، يعني ما بناه قبل العلم بالجُعْل كان فيه متبرعًا، فلا يستحق شيئًا.

طيب، إن لم يعلم بالجُعْل إلا بعدما قام بالعمل فلا يستحق شيئًا.

يعني إنسان مثلًا ذهب ووجد هذا البعير الشارد، وأتى به لصاحبه؛ لما أتى به لصاحبه قال: يا فلان، إن صاحب هذا البعير وضع جُعلًا، قال: “مَن أتى به فله خمسة آلاف” مثلًا، فهل يستحق؟ لا يستحق؛ لماذا؟ لأنه لما أتى به كان متبرعًا، ولم يكن لأجل الجعل؛ فلا يستحق.

فيُشترط إذنْ لاستحقاق الجُعل العلمُ به، لا بد أن يعلم به حتى يستحق الجُعل، إن لم يعلم به كان متبرعًا ولا يستحق الجُعل، إن علم في أثنائه يستحق بقسطه، هذا هو الضابط في هذه المسألة.

حكم الجعالة إذا فُسخت قبل تمام العمل

قال:

وإن فسخ الجاعل قبل تمام العمل، لزمه أجرة المِثل، وإن فسخ العامل فلا شيء له.

يعني: لو قال: “مَن بنى لي هذا الجدار”، فبنى العامل نصف الجدار ولم يكمله، ثم إن العامل فسخ عقد الإجارة، لا يستحق شيئًا، يقال: إذا أردت الجعل كاملًا أكمِل العمل.

لكن، إن كان الفسخ من الجاعل، إن كانت المسألة بالعكس، المؤلف يقول: لزمه أجرة المثل، فلو قال: “مَن بَنَى لي هذا الجدارَ فله كذا”، فبنى العاملُ نصفَه، ثم الجاعل فسخ، فيقول: يستحق نصف -ليس الجُعل- وإنما نصف الأجرة.

وقال بعض العلماء: إن العامل يستحق حصتَه من الجُعل، وليس من الأجرة، وهذا هو القول الراجح، اختاره الشيخ ابن سعدي، وابن عثيمين، وجمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ لماذا؟

لأنه أحيانًا يكون الجُعل أكثر من أجرة المثل، فيكون هذا العامل أصلًا دَخَل لأجل هذا الجُعل؛ لأنه يجعله جُعلًا مرتفعًا، فيدخل لأجل هذا الجُعل.

مثلًا قال: مَن بنى لي هذا الحائط، يعني أجرة الحائط عند البناء، أجرة المثل ألف ريال، وهذا مُستعجِلٌ على بناء الحائط، ويريد التعجيل، فقال: “مَن بنى لي هذا الحائط في يوم واحد فله ثلاثة آلاف ريال”، فأتى شخص وبنى نصف الحائط، وقال الجاعل: أنا فسخت الجعالة، وأنا فسخته، فهل نقول: يعطيه نصف الأجرة، يعني خمسمائة ريال، أو يعطيه نصف الجُعل ألفًا وخمسمائة؟

هذا على المذهب يعطيه نصف الأجرة، وعلى القول الراجح يعطيه نصف الجُعل ألفًا وخمسمائة، هذا مقتضى العدالة؛ لأن هذا العامل إنما أتى لأجل الجُعل، ولم يأتِ لأجل الأجرة.

فإذن، فرق بين أن يأخذ حصته من أجرة المثل، وبين أن يأخذ حصته من الجُعل المسمى.

فالقول الراجح: أننا نربطه بالجُعل ولا نربطه بالأجرة؛ لأن هذا هو مقتضى العدالة.

ولأن بعض الناس قد يتخذ حيلة، يجعل له جُعلًا مرتفعًا على شيء، ثم قبل أن يُتم العامل العمل يفسخه، يقول: أعطيك أجرة المثل، فهذا يعني ليس عدلًا، وإنما نُلزم هذا الجاعل، نقول: تُعطيه حصته من الجُعل، وليس من أجرة المثل.

حكم من عمل لغيره عملًا من غير تقدير أجرة أو جعالة

قال:

ومَن عمل لغيره عملًا بإذنه من غير تقديرِ أجرةٍ وجعالة، فله أجرة المثل.

هذا يصلح أن يكون قاعدة في الحقيقة، وهذه مسألة لها تفريعات كثيرة، عمل لغيره عملًا بإذنه، لكن ما اتفق معه على شيء، له أجرة المثل.

مثلًا: أتيتَ بعامل، كهربائي أو سباك يصلح عندك مشكلة في الكهرباء أو السباكة، ولم تتفق معه على مبلغ معين؛ لما أصلح هذا الخلل، طلب منك مبلغًا كبيرًا، قلت: لا، أنت ما تستحق، اختلفت أنت وإياه، فما الحكم؟

نقول: هذا العامل له أجرة المثل، إذا كان كهربائيًّا يُسأل الكهربائيون: كم يستحق على هذا العمل؟ السباك، يُسأل السباكون كم يستحق؟ وهكذا، ويعني مثلًا أيضًا هذه تحصل.

تركب سيارة أجرة، تقول: أوصلني للمطار، ثم مثلًا يطلب منك مبلغًا كبيرًا، فتقول له: أنت ما تستحق، يحصل بينك وبينه خلاف، فما الحكم؟ نقول: له أجرة المثل، يُسأل أصحاب سيارات الأجرة: كم مِن حي كذا إلى المطار؟ كم أجرة المثل؟ فيعطى أجرة المثل.

هذه قاعدة مفيدة لطالب العلم، وهذه المسألة يعني يكثر السؤال عنها، أحيانًا يحصل الخلاف بين الإنسان وغيره؛ ولذلك فالأولى هو أن يحصل اتفاق في البداية، لكن لو لم يحصل اتفاق، فيكون له أجرة المثل.

قال:

وبغير إذنه، فلا شيء له.

لو عمل بغير إذنه فإنه يكون متبرعًا، يعني مثلًا: أنت في السوق، وأتى شخص حَمَل.. اشتريتَ خضارًا وفواكه، فقام وساعدك وحَمَلها، ووضعها في سيارتك، وقال: أعطني. أنت ما أذنتَ له أصلًا، ولا قلت له: احمِل معي هذه البضاعة. لا يستحق شيئًا، إلا إذا كان ممن أعدَّ نفسه للحمل.

كإنسان معروف أعدَّ نفسه للحمل، بلباسٍ، عرفته بلباسه، أو عرفته، فأعدَّ نفسه، لكن لو كان أيُّ إنسان من الشارع وأتى وساعدك في الحمل، وقال: أعطني، فلا يستحق شيئًا.

فمَن عَمِل لغيره بغير إذنه، فلا شيء له.

إلا في مسألتين:

إحداهما: أن يُخلِّص متاعَ غيره مِن مَهْلكةٍ، فله أجرة مثله.

يعني: مثلًا حصل حريق، فقام وأنقذ ما في البيت واستخرجه، أنقذ الأمتعة والحوائج التي في البيت، وأخرجها من البيت، حتى تنجو من هذا الحريق، فلما أخمد الحريق أتى لصاحب البيت وقال: يا فلان، أنا أخرجت هذه الأمتعة من البيت، أعطني مقابلًا. هل يستحق أو لا يستحق؟

يقول الفقهاء: إنه يستحق، مع أنه عَمِل بغير إذنه، لكن استثنوا هذه المسألة، يقولون: مِن باب التشجيع على هذا العمل النبيل؛ لأن في هذا العمل إنقاذًا للأموال من الهلكة. فهذه مسألةٌ استثنوها.

المسألة الثانية: أن يَرُدَّ رقيقًا آبِقًا لسيده، فله ما قدَّره الشارع، وهو دينارٌ، أو اثنا عشر درهمًا.

هذا قد جاء في حديثٍ، وإن كان مرسلًا، لكن يعني العمل عليه عند أهل العلم، يقولون: من باب التشجيع له في رد العبد الآبق؛ لأن إباق العبد يقولون: إنه أمر كبير وليس سهلًا؛ لأن هذا العبد الآبق، إما أن يرجع لبلد الكفر، فيعود للكفر، أو أنه إذا تُرك وساح ربما أنه يفتقر؛ لأنه ما عنده شيء، فربما أنه يقع في السرقة، أو نحو ذلك.

فكانت الحكمة تقتضي الحث والترغيب في رده إلى سيده، فيكون له إذا رده دينار أو اثنا عشر درهمًا، ولو كان ذلك بغير إذنه.

وأضاف بعض العلماء مسألةً ثالثة، وهي إذا أعد الإنسان نفسه لعمل، فجاء شخص وطلب منه ذلك العمل، فإنه يستحق أجرة المثل، كما مثَّلنا قبل قليل.

إنسان أعد نفسه لحمل البضائع، فأتى وحمَل بضاعتك بغير إذنك، لكنه مُعِدٌّ نفسَه للحمل، فيستحق الأجرة؛ لأنه بإعداده لنفسه لهذا الشيء، يعني هذه كأنه حمل هذا الشيء بإذنك.

الطالب: العُرْف.

الشيخ: العُرْف نعم، العُرْف مُحكَّم في هذا، يعني المثال هنا الذي ذُكر في “السلسبيل”: وقفتَ في الطريق، فجاءك صاحب سيارة أجرة وعَرَض عليك أن تركب معه، وركبتَ معه ولم تتفق معه على أجرة، فإذا أوصلك لمكان معين، أنت قلت: أصلًا أنا ما طلبتُ منك، أنت الذي أركبتني، وأنت الذي عرضتَ عليَّ. فنقول: لا، هذا أعدَّ نفسه لإركاب الناس بأجرة، فيستحق أجرة المثل، حتى لو لم تطلبه أنت، حتى لو كان هو الذي عرض عليك.

الطالب:

الشيخ: نعم، لا بد من موافقته، لكن ما دام أنه هو الذي عرض عليك، لكنه أعد نفسه لهذه المهنة، فيستحق أجرة المثل.

الطالب:

الشيخ: إذا اتفقا على سعر، فعلى ما اتفقا عليه، إذا كان السعر محددًا فكذلك، وإذا لم يكن السعر محددًا ولم يتفقا على شيء؛ فله أجرة المثل.

ونكتفي بهذا القدر، والآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:

الأسئلة

الشيخ: نعم، تفضل.

الطالب:

الشيخ: هذا مثال لهذه المسألة، يأتي ويمسح سيارتك بغير إذنك، هل يستحق شيئًا؟

هنا، إذا كان أعدَّ نفسه لهذا الشيء، وعلمت بذلك؛ يستحق، إذا ما أعدَّ نفسه ومسح بغير إذنك؛ ما يستحق شيئًا.

الطالب:

الشيخ: إذا ما وافقت، امْنَعْه، لماذا تسمح له؟

الطالب:

الشيخ: لا، إذا -يعني- مسحه وأنت غير موجود؛ ما يستحق شيئًا، لكن إذا مسحه وأنت موجود وسكتَّ وأذنتَ له، فإن كان أعدَّ نفسه لهذا الشيء؛ يستحق.

الطالب:

الشيخ: يعطيه أجرة المثل.

طيب، نجيب عما تيسر، نبدأ أولًا بالأسئلة المكتوبة:

السؤال: مَن يملك شعرًا طويلًا، هل يمسح شعره إلى آخره أو إلى آخر رأسه؟

الجواب: إلى آخر رأسه، وهكذا المرأة التي شعرها طويل، الواجب إلى آخر رأسها، والمستحب إلى آخر شعره.

السؤال: ما الحكم في الشراء بالتقسيط من بعض الشركات، مثل “تمارا” وغيرها؟

الجواب: يعني: هذه الشركات ليس في هيكلتها إشكال، الإشكال فقط عندهم في شرط غرامة التأخير، يقولون: إذا تأخَّر المشتري في السداد، يُحسب عليه غرامة تأخير، وغرامة التأخير هذه تُدفع في وجوه البر، وهذا الشرط محل خلاف بين العلماء المعاصرين، ومن العلماء المعاصرين من أجازه ما دام أن هذه الغرامة لن يأخذها الدائن، وإنما ستُدفع في وجوه البر.

ومِن أشهر مَن أجاز ذلك “أيوفي”، هيئة المراجعة والمحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية المعروفة “أيوفي”.

والقول الثاني: أنها لا تجوز؛ وذلك لأن الواجبَ هو إنظار هذا المَدِين، ولا يجوز أن يُفرَض عليه غرامةٌ لأجل تأخُّره عن سداد الدَّين؛ لأن فرض الغرامة هذا هو أصل ربا الجاهلية، فكانوا في الجاهلية إذا حلَّ الدين على المَدِين، يقول الدائن للمدين: إما أن تقضي، وإما أن تُربي، فكون المدين يُلزَم بدفع غرامة تأخيرٍ لأجل التأخر عن السداد؛ فهذا لا يجوز.

وهذا هو القول الأقرب -والله أعلم- أنه لا يجوز، أما كونه يُؤخَذ منه غرامةُ تأخيرٍ لأجل التأخر عن السداد ويقال: تُدفع في وجوه البر، دفعها في وجوه البر لا يبرر أخذها، فالإشكال في هذه الشركات هو وجود شرط غرامة التأخير.

السؤال: يقول لديَّ مبلغ من المال تحل زكاته في شهر ربيع، وأنا أريد أن أساهم به في سوق الأسهم، ومِن المعلوم أن الشركات في سوق الأسهم تدفع زكاة المال عن المساهمين، هل يجب عليَّ دفع زكاة هذا المبلغ في شهر ربيع، أو يكفي ما تدفعه الشركات؟

الجواب: إذا كان سيحل في شهر ربيع، ودخلتَ فيه في سوق الأسهم، فإما أن تكون مضاربًا متاجرًا، أو تكون مستثمرًا، فإن كنت مستثمرًا فالشركة تُزكِّي عنك، أما إذا كنت مضاربًا فلا بد مِن أن تُزكِّي في شهر ربيع؛ لأن الحول لم ينقطع، فإن تبقَّى عليك شهران أو شهر فالحول لم ينقطع، فيجب عليك أن تُزكِّي إذا كنت مضاربًا، أما إذا كنت مستثمرًا فزكاة الشركة تكفي.

على أن -أيضًا في الشركات- تُدفَع الزَّكَوات في نهاية العام المالي الميلادي، فمعنى ذلك أن هذا المال سيبقى عليه مدة طويلة؛ ولذلك فالأحوط أيضًا أن تُزكِّيه؛ لأن أيضًا الشركة لن تُخرج الزكاة أصلًا في شهر ربيع حتى نقول: إنها زكَّت عنك، هي لن تُخرجها إلا في نهاية السنة الميلادية.

السؤال: ما حكم النَّرد؟

الجواب: النرد قال عنه النبي : من لعب بالنردشير، فكأنما غَمَس يده في لحم خنزير ودمه. رواه مسلم[15]، وهذا يدل على تحريم النرد.

ولكن، ما المقصود بالنرد؟ هذا هو السؤال؛ فالنرد حكمه ظاهر، هو التحريم، لكن ما المقصود به؟

المقصود بالنرد: هو لعبة قديمة كانت موجودة، وهي تشبه الآن ما يسمى بلعبة الطاولة، أما الألعاب التي يسميها بعض الناس بالنرد، مثل لعبة السلم والثعبان ونحوها، أو المكعبات التي على ستة أوجه، هذه ليست هي النرد المقصود في هذا الحديث، هذه الأصل فيها الجواز، إلا إذا أوقعت في محرم أو ألهت عن واجب، إنما المقصود بالنرد: هي لعبة خاصة معينة تشبه لعبة الطاولة، هذه هي المقصودة في الحديث.

السؤال: جدي تُوفي، وقد أوصى أن يُحَج له كلَّ عام من أموال الوقف، وقد صَعُب علينا تنفيذ الوصية؛ لارتفاع التكلفة المالية، هل يمكننا تغيير الوصية لعمل خيري؟

الجواب: ليس لكم أن تغيروا الوصية: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181]، ولكن إذا لم يتيسر تنفيذ الوصية عن كل عام، يمكن أن تُنفذ كل عامين، أو ثلاثة، أو أربعة، بحسب ما يتيسر، لكن لا بد من تنفيذ الوصية كما أوصى بأن يُحَج عنه.

السؤال: هل يجب على المعاقِ استعمالُ الماء وأن يكون تحت مِنَّة غيرِه، بدلًا عن التيمم، إذا وجد مَن يساعده؟

الجواب: لا يجب عليه ذلك، يجوز له أن يَعدِل للتيمم، لكن لو استعان بغيره في الوضوء فلا بأس، لكن ذلك لا يجب، يعني هو الأفضل، هو الأفضل أن يستعين بغيره من أجل أن يتوضأ، لكن هذا لا يجب، فله أن يعدل للتيمم؛ لأنه لا يُلزم الإنسان أن يكون تحت مِنَّة غيره.

السؤال: تتفاوت مدة خطبة الجمعة عند الخطباء، ما هي خطبة الجمعة التي ينبغي ألا يتجاوزها الخطيب ليكون موافقًا للسنة؟

الجواب: مدة الخطبة الموافقة للسنة هي بقدر قراءة سورة (ق) مُرتَّلة، يعني في حدود من عشر دقائق إلى ربع ساعة، هذا هو القدر المناسب.

وهناك طرفان ووسط، هناك مَن يُطيل الخطبة فيُلقي الخطبة نصف ساعة أو أكثر، وهذا خلاف السنة. وهناك أيضًا في المقابل، هناك ردة فِعل لبعض الإخوة فيقصرون الخطبة تقصيرًا مُخلًّا، بعض الخطب مثل ثلاث دقائق أو أربع دقائق.

فيعني أيضًا هذا خلاف السنة؛ لأن المقصود من الخطبة إفادة الناس وموعظة الناس، وخطبة قصيرة في حدود ثلاث أو أربع دقائق ماذا سيقول الخطيب فيها؟!

وهؤلاء الناس ينبغي أن تحترم عقولهم، أتوا للمسجد الجامع مُبكِّرين ومتهيئين، يريدون أن يستفيدوا من الخطبة، فينبغي أن يحترمهم الخطيب، وأن يَعُد خطبة تناسب المقام.

وهذه الخطبة أيضًا تحضرها الملائكة، وسماها الله ذِكْر الله، فينبغي أن تكون خطبة مفيدة، وأن يكون موضوعها مفيدًا، فالذي سيُلقيها في دقيقتين أو ثلاث أو أربع، يعني ماذا سيقول؟!

فهذا أيضًا من الأخطاء التي وقع فيها بعض الإخوة، أنهم يَقْصرون الخطبة تقصيرًا مُخلًّا.

والمطلوب هو الاعتدال، فلا تُطوَّل تطويلًا مملًّا، ولا تُقصَّر تقصيرًا مُخلًّا، وإنما تكون بقدر قراءة سورة (ق) مرتلة، هذا هو، هذه هي السنة في الخطبة.

وينبغي أن يُعلَم أن قول النبي عليه الصلاة والسلام: إن طول صلاة الرجل، وقِصَر خطبته، مَئِنَّة من فقهه[16]، ينبغي أن يُفهَم هذا الحديث الفهم الصحيح؛ لأن بعض الناس يَفهم أن المقصودَ التقصيرُ الشديد؛ ولذلك يجعلون الخطبة من ثلاث دقائق أو أربع دقائق.

المقصودُ القِصَرُ النسبيُّ والطُّولُ النسبي، وإلا لو أخذت الحديث على ظاهره فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في صلاة الجمعة غالبًا بـ(سبِّح) و(الغاشية)، هل معنى ذلك أن الخطبة تكون أقصر من سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [سورة الأعلى]؟ هذا ما قال به أحد.

فالمقصود إذن الطول النسبي والقِصَر النسبي.

السؤال: اغتسلتُ بعد إكمال خمسة عشر يومًا من الحيض؛ لعدم الجفاف، وعدم رؤية القَصَّة البيضاء، وبعد يوم من الغسل رأيت القصة البيضاء، فهل أعيد الغسل؟

الجواب: لا تُعِيدي الغسل؛ لأن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يومًا، وكنتُ فيما سبق أُرجِّح قول ابن تيمية وبعض العلماء: أنه لا حد لأكثر الحيض، حتى وردتني استفتاءات من بعض النساء، بعض النساء يطول معهن الدم، يبقى عشرين يومًا أو أكثر، لا يكون طوال الشهر حتى نقول: إنها استحاضة، وإنما يكون ثلاثة أرباع الشهر، فهذا القول بأنه حيضٌ؛ مُشكِلٌ؛ لأنه يترتب على ذلك أن هذه المرأة لا تصلي ولا تصوم، تُمنَع من المعاشرة الزوجية ثلاثة أرباع الشهر، وهذا فيه ضرر عظيم عليها.

ولذلك؛ فالأقرب -والله أعلم- هو قول الجمهور: أن الحيض لا يزيد على خمسة عشر يومًا، كما هو مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية، وسألت الأطباء فقالوا: إن الحيض غالبًا لا يزيد عن عشرة أيام، لكن في أحوال نادرة يمكن أن يصل إلى خمسة عشر يومًا.

فتكون إذن الخمسة الأيام هذه تستوعب الحالات النادرة، فيكون إذن قول الجمهور بأن الحيض لا يزيد على خمسة عشر يومًا موافقًا لرأي الأطباء، فإذا زاد على خمسة عشر يومًا لا يُعتبر حيضًا، وإنما هو دم فساد.

فنقول للأخت الكريمة: يعني كونُكِ اغتسلتِ بعد خمسة عشر يومًا، هذا فِعل صحيح، ولا يلزمك إعادة الاغتسال.

السؤال: هناك من يقول: بأن قراءة الفاتحة ليست ركنًا في الصلاة، بحجة أنها تسقط عن المسبوق عند إدراك الركوع مع الإمام.

الجواب: ليست ركنًا في حق المأموم، أما في حق الإمام والمنفرد فهي ركن، يعني بعض الإخوة يخلط بين الإمام والمأموم، للإمام والمنفرد قراءة الفاتحة ركن، أما للمأموم فليست ركنًا، وإنما هي واجبة فيما لم يجهر فيه الإمام، وليست واجبة فيما جهر فيه الإمام، بدليل ما ذكره الأخ السائل بأنها تسقط عن المسبوق، لو كانت ركنًا في حق المأموم لم تسقط عن المسبوق، كونها تسقط عن المسبوق دليل على أنها ليست بركن.

فإذن؛ الفاتحة في حق المأموم ليست ركنًا، إما واجبة فيما لم يجهر فيه الإمام، أو ليست واجبة فيما جهر فيه الإمام، فلا بد إذن من التفريق بين الإمام والمنفرد والمأموم.

السؤال: هل على المسافر إذا سافر أكثر من أربعة ليالٍ أن يقصر الصلاة إذا ما نوى الإقامة؟

الجواب: المسافر إذا أقام فلا يخلو من حالين:

إما أن تكون له مهمة لا يدري متى تنقضي، فهذا يترخص برخص السفر وإن طالت المدة، حتى وإن بقي سنة أو أكثر.

الحال الثانية: أن المسافر يُحدَّد له مدة. فكم المدة التي إذا أقامها المسافر لا يَتَرخَّص معها برُخَص السفر؟

هذه مسألة مِن أشكل مسائل الفقه؛ لأنه ليس فيها أدلة ظاهرة، وحتى الآثار عن الصحابة أيضًا مختلفة، والعرف فيها مضطرب.

ولذلك؛ فالأقرب -والله أعلم- هو ما جاء في “صحيح البخاري” عن ابن عباس رضي الله عنهما من التحديد تسعة عشر يومًا، قال: «أقام النبي في مكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، فنحن» يعني: ابن عباس ومَن معه من الصحابة والتابعين «إذا أقمنا تسعة عشر يومًا قصرنا، فإذا زدنا على ذلك أتممنا»[17] هذا هو الأقرب، والله أعلم.

وأيضًا هذا التحديد قريب من العُرْف، يعني إذا أقام أسبوعًا، أسبوعين، في عرف الناس أنه مسافر، لكن إذا أقام مدة طويلة، شهرين، ثلاثة، فهذه تعتبر إقامة طويلة.

فالأقرب أنه إذا كانت تسعة عشر يومًا فأقل فهو مسافر، فإذا زاد على ذلك فهو مقيم لا يترخص برخص السفر.

الطالب:

الشيخ: يقصر إذا كانت مدة إقامته أقل من عشرين يومًا، أقل من عشرين يومًا، نعم.

السؤال: رجل عنده سكنٌ في الرياض، وآخر في القصيم، يجلس في كل منهما مدةً من الزمن قد تطول وقد تقصر، هل يعتبر مسافرًا، أو مقيمًا؟

الجواب: هذه المسألة من مسائل تحقيق المناط، ومسائل تحقيق المناط يكثر الخلاف فيها والنزاع بين طلاب العلم؛ لأنها تتعدد فيها وجهات النظر، فهذه المسألة الحكم الشرعي فيها واضح، وهي أن المرجع للعُرْف، فإذا كان هذا الإنسان في عُرف الناس مسافرًا فيترخص برخص السفر، وإذا كان مقيمًا فلا يترخص.

طيب، هذا الرجل عنده مسكن في الرياض، طبعًا لا يترخص فيه برخص السفر، لكن عنده بيت آخر في القصيم يذهب له من حينٍ لآخر، طيب هل هذا البيت الذي له في القصيم إذا ذهب للقصيم يعتبر مسافرًا أو مقيمًا؟

الحكم الشرعي أن المرجع في ذلك للعُرْف، ما هو عُرف الناس، عُرف الناس في إنسان له بيتٌ مِلكٌ في بلدٍ آخر؟

طيب، لا بد يعني.. عُرف الناس هنا في وقتنا الحاضر مختلف، فنحتاج إلى مُحدِّدات لنعرف بها العُرف، مِن هذه المحددات: أننا نفترض افتراضًا أن هذا الرجل في بلده الآخر، يعني كما ذكر في القصيم، وهو في بيتٍ مِلكٍ، أفطر في نهار رمضان أمام الناس، هل يُنكر عليه الناس أو لا؟

الجواب: ينكرون عليه، وينكرون بشدة، ولا يعذرونه إذا اعتذر بأنه مسافر، كيف تكون مسافرًا وأنت في بيتك؟! فالواقع أنه في العُرْف لا يُعتبر مسافرًا، وفقهاء الحنابلة نصوا على أنه ليس بمسافر، من كان له ملك في بلد آخر، ذكروا أنه ليس مسافرًا، هناك بعض العلماء أفتى بأنه مسافر، فقال: إنه يعني لا يتبسط ولا يترفَّق كما يتبسط في بلده الأصلي.

ولكن الأقرب أنه لا يُعتبر مسافرًا، ما دام أن له بيتًا مِلكًا، كمن له زوجتان: زوجة في بلد، وزوجة في بلد آخر، فلا يعتبر في هذا البلد مسافرًا، ولا يعتبر في ذلك البلد مسافرًا.

ثم نرجع أيضًا للأصل: هل الأصل في الإنسان الإقامة أو السفر؟ الإقامة، فلا يقال: إنه مسافر إلا بشيء واضح كالشمس. ثم أيضًا إذا أتم فصلاته صحيحة عند الجميع، وإذا قصر فصلاته غير صحيحة عند كثير من العلماء.

ثم أيضًا الأصل في السفر أنه البروز في الصحراء، ما كانت العرب تُسمِّي الإنسان يُقيم في بلدٍ أنه مسافر، لكن خُولف هذا الأصل فيما ورد فيه النص، فينبغي عدم التوسع في إطلاقِ وصف السفر على المقيم في بلد.

فالأقرب والله أعلم أنَّ مَن كان له بيت ملك في بلد آخر، أو حتى استراحة ملك، أو مزرعة يملكها في بلد آخر، أنه لا يعتبر مسافرًا، وإنما يعتبر مقيمًا، ولا يترخص برخص السفر.

الطالب: يُعتبر صاحب إقامتين.

الشيخ: يعتبر صاحب إقامتين، فالإنسان قد يكون صاحب إقامتين، قد يكون صاحب ثلاث إقامات، قد يكون صاحب أربع، ما يمنع هذا.

ومما يدل لذلك: أن الإنسان إذا كان له مِلك في بلد آخر، أنه يتبسط ويدعو الناس إلى بيته، يقول: أنا عندي بيت، يدعو الناس ويتبسط، ويأخذ كامل راحته كما في بلده الأصلي.

السؤال: أعمل في المنطقة الشرقية خلال أيام الأسبوع، وفي نهايته أرجع إلى مكان إقامتي في الرياض، فهل لي الجمع والقصر؟

الجواب: نفس الجواب السابق، فأنت صاحب إقامتين: إقامة في المنطقة الشرقية تعمل فيها، وإقامة في الرياض ترجع في نهاية الأسبوع، فأنت لست مسافرًا هنا ولا هناك، وإنما تقصر فقط في الطريق.

السؤال: حكم المساهمة في صندوق الراجحي للتوزيعات الشهرية.

الجواب: لا بأس بذلك، لكن مَن أراد الورع؛ لأن هذا الصندوق وغيرَه، الصناديق عمومًا التي تكون في الأسهم، تتعامل بالشركات المختلطة؛ بناء على فتاوى قديمة للهيئات الشرعية للمصارف بجواز الدخول في الشركات المختلطة، مع أنها -يعني الراجحي والبنوك الإسلامية- تعمل تطهيرًا.

فمِن حيث الحكم نقول: إنه يجوز، يجوز ذلك، لكن مَن أراد الورع وكان يأخذ بالقول بعدم جواز الدخول في الشركات المختلطة؛ فالورع تَرْك ذلك.

السؤال: ما حكم قول: الناس متساوون في الرزق؟

الجواب: هذا غير صحيح، الناس مختلفون: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الإسراء:30]، مختلفون اختلافًا كبيرًا، وتفاوتهم في الرزق لحكمة الله : انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:21]. فهذه المقولة مقولة غير صحيحة، الناس ليسوا متساوين في الرزق، بل مختلفون اختلافًا كبيرًا.

السؤال: ما حكم التمويل من شركة “إمكان” لمعدن البلاديوم؟

الجواب: لا بأس بذلك؛ لأن هذا مستوفٍ للضوابط الشرعية؛ من التملك والتعيين والقبض، فهو مستوف للضوابط الشرعية، ولا بأس بذلك.

طيب، بقية الأسئلة إن شاء الله نجيب عنها غدًا، فيه درس بعد المغرب شرح صحيح مسلم، نجيب عن الأسئلة ما بين الأذان والإقامة.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه أحمد: 15424، وأبو داود: 3534، والترمذي: 1264.
^3 رواه البخاري: 2335.
^4 رواه أبو داود: 3073، والترمذي: 1378.
^5, ^11, ^12, ^14 سبق تخريجه.
^6 رواه أحمد: 23082، وأبو داود: 3477، وابن ماجه: 2472.
^7 رواه أحمد: 20130، وأبو داود: 3077.
^8 رواه البخاري: 2298، ومسلم: 1619.
^9 رواه أبو داود: 3071.
^10 رواه البخاري: 2276، ومسلم: 2201.
^13 رواه أحمد: 10138، وأبو داود: 2574، والترمذي: 1700، والنسائي: 3585، وابن ماجه: 2878.
^15 رواه مسلم: 2260.
^16 رواه مسلم: 869.
^17 رواه البخاري: 1080.
zh