logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(60) باب الغصب- من قوله “وهو الاستيلاء عرفًا على حق الغير..”

(60) باب الغصب- من قوله “وهو الاستيلاء عرفًا على حق الغير..”

مشاهدة من الموقع

كتاب الغصب

ننتقل بعد ذلك للتعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى:

كتاب الغصب

تعريف الغصب

والغصب لغةً: أخذ الشيء قهرًا وظلمًا.

واصطلاحًا، ذُكر هنا تعريفٌ: الاستيلاء على حق الغير قهرًا بغير حقٍّ، وتعريف المؤلف أيضًا جيدٌ:

وهو الاستيلاء عرفًا على حق الغير عدوانًا.

تحريم الغصب

وأجمع العلماء على تحريم الغصب، وهو أعظم ما يكون به أكل المال بالباطل؛ ولهذا النبي في خطبة عرفة، التي شهدها قرابة..، يعني حج مع النبي عليه الصلاة والسلام قرابة مئة ألفٍ، افتتح خطبته العظيمة بقوله : يا أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [1].

وأيضًا في حديث أبي أمامة ، وهو حديثٌ عظيمٌ رواه مسلمٌ، يقول عليه الصلاة والسلام: من اقتطع حق امرئٍ مسلمٍ بيمينه، تأمل قوله: حق، حق: يشمل المال وغير المال، حتى غير المال، مثل مثلًا حق الزوجة، يدخل في هذا، مثل مثلًا حقه في حد القذف، فجميع الحقوق تدخل، لا يختص هذا بالمال.

وقوله: بيمينه، هذا فيه إشارةٌ إلى أنه اقتطع ذلك عند القاضي، يعني في مجلس القضاء، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال رجلٌ: يا رسول الله، وإن كان شيئًا يسيرًا، قال: وإن كان قضيبًا من أراكٍ [2]، يعني: حتى وإن كان عود سواكٍ؛ وهذا يدل على التشديد في هذه المسائل في حقوق العباد، حقوق العباد أمرها عظيمٌ جدًّا عند الله ​​​​​​​؛ لأن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة، قد يغفر الله تعالى للإنسان ويعفو عنه، لكن حقوق العباد باقيةٌ لأصحابها يوم القيامة لا يكفرها شيءٌ، تبقى لأصحابها يوم القيامة.

لكن قد يقول قائلٌ: إن في حديث القاتل، الذي قتل تسعةً وتسعين نفسًا وأراد أن يتوب، فدُلَّ على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهبٍ، فقال: ليس لك توبةٌ، فكمَّل به المئة، ثم دُلَّ على أعلم أهل الأرض، فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة، ولكنك بأرض سوءٍ، هذه الأرض التي قتلت فيها مئة نفسٍ، هذه بيئةٌ فاسدةٌ، فاخرج منها واذهب إلى أرض كذا وكذا؛ فإن فيها قومًا يعبدون الله ، فأتاه الموت وهو في الطريق، فتنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فملائكة الرحمة تقول: إنه أقبل إلى الله تائبًا، وملائكة العذاب تقول: لم يعمل خيرًا قط، وقتل مئة نفسٍ.

فأرسل الله تعالى للملائكة ملكًا على صورة رجلٍ، وقال: قيسوا ما بين الأرضين، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي هاجر إليها بشيءٍ يسيرٍ، حتى قيل: بصدره، وهو ينأى بصدره، وجاء في بعض الروايات: أن الله تعالى أوحى إلى هذه أن تباعدي، وإلى تلك الأرض أن تقاربي، فقبضته ملائكة الرحمة [3].

طيب، كيف نقول: إن حقوق العباد لا يكفرها شيءٌ، وهنا هذا الذي قتل مئة نفسٍ قبضته ملائكة الرحمة؟ كيف نجيب عن هذا الإشكال؟ فمن يجتهد في الجواب عن هذا؟

الطالب:….

الشيخ: نعم، لكن هذا قَتَل مئة نفسٍ، ومع ذلك قبضته ملائكة الرحمة، نعم، تفضل.

الطالب:….

الشيخ: إي نعم، هذا أجاب عنه ابن القيم وجماعة، قالوا: إنه إذا صدق في توبته؛ فإن الله تعالى يعوض المخلوق خيرًا مما يأخذه من هذا الشخص، ويعفو الله تعالى عن هذا التائب الصادق في توبته، هذا أحسن ما قيل في الجواب، بشرط أن يكون صادقًا في توبته.

فحق المظلوم لا يضيع، هو سيأخذه من هذا، وإن الله سيعوضه، لكن إذا صدق هذا في توبته؛ فإن الله تعالى يعوض هذا المظلوم خيرًا مما يأخذه من ظالمه.

قال النووي رحمه الله: إن هذا الحديث -حديث أبي أمامة – يدل على تغليظ تحريم حق المسلمين، وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره؛ لأنه  قال: وإن كان قضيبًا من أراكٍ.

ولهذا يخلط بعض الناس بين مسألتين:

  • مسألة اللقطة لما لا تَلتفت له همة أوساط الناس، إذا وجدت شيئًا في الطريق لا تلتفت إليه همة أوساط الناس؛ فهذا يجوز لك أن تأخذه من غير تعريفٍ.
  • المسألة الثانية: أن يكون المال معروفًا صاحبه، لكن المال زهيدٌ، هذا لا يحل، حتى وإن كان ربع ريالٍ، وإن كان قلمًا بنصف ريالٍ أو أقل، لا يجوز لك أن تأخذه، حتى وإن كان زهيدًا؛ لا يجوز أن تأخذه؛ لأن صاحبه معروفٌ؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: وإن كان قضيبًا من أراكٍ.

فبعض الناس تشتبه عليه هاتان المسألتان، فالذي يرخَّص فيه ويتسامح في اللقطة، إذا وجدت لقطةً في أمرٍ لا تلتفت إليه همة أوساط الناس؛ يجوز لك أن تلتقطه، وأما إذا كان صاحب الحق معروفًا؛ فلا يجوز أخذه، وإن كان عود سواكٍ، وإن كان قلمًا بنصف ريالٍ، ما يجوز أن تأخذه، وإنما يؤدَّى هذا الحق لصاحبه، ولا يجوز حتى التساهل فيه؛ يعني مثلًا: شخصٌ نسي قلمه، حتى وإن كان قلمًا بنصف ريالٍ أو أقل، يجب أن تعيد هذا القلم لصاحبه ولا تأخذه، وإن كان قضيبًا من أراك، ضع هذا الحديث نصب عينيك، فحقوق العباد أمرها عند الله عظيمٌ جدًّا.

الطالب:….

الشيخ: إن عرفه؛ يعطيه إياه، أو يتركه، إذا كان لا يعرفه يتركه، يتورع.

الطالب:….

الشيخ: إذا تسامح بطيب نفس منه، ما من إشكالٍ، لكن الكلام في الشيء الذي لم يرض صاحبه به، فهذا لا يجوز أخذه، وإن كان شيئًا يسيرًا، وإن كان شيئًا زهيدًا.

يلزم الغاصب رد ما غصب بنمائه

قال:

ويلزم الغاصب رد ما غصب بنمائه، ولو غرم على رده أضعاف قيمته.

سيبين المؤلف ما الذي يلزم الغاصب رده؟

يجب على الغاصب أولًا: أن يرد ما غصبه بنمائه، يعني: بزيادته المتصلة والمنفصلة، حتى وإن كان ذلك كثيرًا، حتى وإن أدى إلى أضعاف قيمته، لا بد هذه العين المغصوبة أن ترد بنمائها.

وسيأتي أيضًا أنه يلزم رد أرش النقص، وأيضًا الأجرة إن كان مما يؤجر.

قال:

وإن سمر بالمسامير بابًا؛ قلعها وردها.

يعني: إذا غصب مسامير، وسمر بها بابًا؛ يجب عليه أن يقلع هذه المسامير، وأن يردها على من غُصبت منه.

وإن زرع الأرض؛ فليس لربها بعد حصده إلا الأجرة، وقبل الحصد يخير بين تركه بأجرته، أو تملكه بنفقته، وهي مثل البذر وعوض لَوَاحِقِه.

يعني: إن كان الذي قد غصب الأرض، فزرع الغاصب الأرض المغصوبة، ثم ردها، وقد حصد الزرع، فما دام أنه قد حصد الزرع؛ نقول لمالك الأرض: ليس لك بعد الحصد إلا الأجرة فقط، إلا أجرة الأرض، ولا يكون للمالك حقٌّ في الزرع؛ لأن الزرع للغاصب، وقد انتقل إليه، وانفصل عن ملكه.

وأما إذا رد الغاصب الأرض قبل حصد الزرع، فنقول لمالك الأرض: أنت بالخيار؛ إن شئت تركت الزرع في أرضه إلى الحصاد بأجرة المثل، وإن شئت تتملك الزرع، لكن بشرط أن تدفع نفقات الغاصب؛ يعني مثل البذر، والسقي، ونحو ذلك.

قال:

وإن غرس أو بنى في الأرض؛ أُلزم بقلع غرسه وبنائه.

يعني: إنسانٌ غصب أرضًا، وغرس فيها، وبنى فيها بناءً، فيلزم بقلع الغرس، وكذلك بهدم البناء، إلا إذا اصطلح مع من غُصبت منه، ويدل لذلك حديث رافع بن خَديجٍ : أن النبي قال: من زرع في أرض قومٍ بغير إذنهم؛ فليس له من الزرع شيءٌ، وله نفقته [4]، وهذا الحديث أخرجه أحمد وابن ماجه، وهو حديثٌ حسنٌ، وأيضًا حديث سعيد بن زيدٍ : ليس لعرقٍ ظالمٍ حقٌّ [5].

قال:

حتى ولو كان أحد الشريكين وفَعَله بغير إذن شريكه.

يعني: حتى لو كان أحد الشريكين هو الذي غرس الغرس، وبنى البناء في الأرض المشتركة بغير إذن الشريك؛ يُلزَم بقلع الغرس، وبهدم البناء؛ لأنه متعدٍّ.

إذا بنى الإنسان في أرض غيره خطأً

هذه المسائل كلها ظاهرةٌ، لكن هنا مسألةٌ تقع، وأحيانًا تصل للقضاء: وهي إذا بنى الإنسان في أرض غيره بطريق الخطأ، وهذه قد وقعت كثيرًا، أحيانًا الإنسان يبني في أرض غيره بطريق الخطأ، فما الحكم؟

نقول: إنه لا يُلزم بالهدم؛ لأن الهدم فيه إضاعةً للمال، وفيه ضررٌ، ويقال لمالك الأرض: أنت بالخيار؛ إما أن تأخذ الأرض ببنائها، وتعوض الذي بنى عليها عن نفقاته التي أنفقها في البناء، يقال: كم تكلفة نفقات البناء؟ قال مثلًا: تكلفة النفقة خمسمئة ألفٍ، تعطيه خمسمئة ألفٍ، وتستلم أرضك ببنائها، هذا الخيار الأول.

الخيار الثاني: أن تكون الأرض وما عليها من بناءٍ لمن بنى عليها، نقول: هذا الذي بنى عليها وأخطأ تكون له الأرض، ويعوض مالك الأرض بقيمة الأرض، فنقول: أنت يا مالك الأرض، نعطيك قيمة الأرض، هذا الخيار الثاني، خذ الأرض بالبناء، لكن تعوض هذا الذي قد أخطأ عن نفقات بنائه، وليس لك إلا أحد هذين الخيارين.

فإن قال صاحب الأرض: هذه أرضي، ومن قال له أن يبني في أرضي؟! لا أقبل إلا بهدم البناء الذي عليها، فلا يوافَق، بعض الناس قد يكون أحمق، يقول: ما أقبل إلا ترجعون لي أرضي كما هي.

طيب هذا الرجل أخطأ، وإزالة هذا البناء فيه إضاعةٌ للمال، وفيه ضررٌ، وقواعد الشريعة قد دلت على نفي الضرر: لا ضرر ولا ضرار، وأيضًا نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال [6]، تكلفة هذا البناء ربما تكون تكلفةً كبيرةً، ربما تصل لنصف مليونٍ أو أكثر، فلا يوافَق هذا الإنسان، لو قال: أنا، أريد أرضي كما كانت، فنقول: هذا الرجل قد ابتُلي بأن أخطأ وبنى في غير أرضه، وأنت أيضًا قد ابتليت به، فلا بد أن تتحمل أيضًا، كل منكما يتحمل، وهذا هو الذي عليه العمل في المحاكم: أنه يخير بين هذين الخيارين، أما القول بأنه يهدم البناء، فقواعد الشريعة تنفي هذا.

الطالب:….

الشيخ: لا، المتعمد هو الغاصب، وهو كالذي ذكرناه قبل قليلٍ، المتعمد يعتبر حكمه حكم الغاصب، هذا له الحق في أن يطالب بهدم البناء.

على الغاصب أَرْش نقص المغصوب، وأجرته مدة مقامه بيده

طيب، ثم قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ

وعلى الغاصب.

يعني: مع رد العين المغصوبة -كما قلنا- بنمائها.

الأمر الثاني:

أرْش نقص المغصوب، وأجرته مدة مقامه بيده.

فإذَنْ الأول: الغاصب يرد العين المغصوبة بنمائها، هذا رقم 1.

2: يجب عليه أن يرد أرش نقص المغصوب، فإذا افترضنا أن هذه الأرض المغصوبة نقصت قيمتها؛ فيلزمه أن يرد أرش النقص.

الأمر الثالث: “أجرته مدة مقامه بيده”، إذا كان لهذا الشيء المغصوب أجرةٌ، يعني: كان مثله مما يؤجر، فيلزم هذا الغاصب أن يدفع أجرة العين المغصوبة، حتى لو لم يؤجر هذا الشيء المغصوب، ما دام أن مثله يؤجر؛ فلا بد أن يدفع أجرته.

فإذنْ نخلص من هذا إلى أن الغاصب يلزم بثلاثة أمورٍ:

  • الأمر الأول: أن يرد العين المغصوبة بنمائها المتصل والمنفصل.
  • الأمر الثاني: أن يرد أرش النقص عند وجود النقص.
  • الأمر الثالث: أن يرد أجرة المثل إذا كان المغصوب مما يؤجر عادةً.

لاحِظ أن الأمر الثاني والثالث محتملان، قد تكون وقد لا تكون، لكن الأمر الأول لا بد منه، أن يرد العين المغصوبة بنمائها، هذا لا بد منه.

إن تلف المغصوب؛ ضُمن المثلي بمثله، والمتقوَّم بقيمته

الثاني: ننظر هل فيه نقصٌ، هل العين المغصوبة فيها نقصٌ أم لا؟ إن كان فيها نقصٌ؛ فيلزم بأرش النقص، الثالث أيضًا هل هو مما يؤجَّر عادةً؟ يلزم أيضًا بدفع الأجرة.

قال:

فإن تلف؛ ضُمن المثلي بمثله، والمتقوَّم بقيمته يوم تلفه في بلد غصبه.

يعني: إذا تلفت العين المغصوبة؛ فإن الغاصب يضمنها.

كيف يكون الضمان؟

يقول المؤلف: المثلي بمثله، المثلي عند الحنابلة، وانتبه لهذا التعريف، سيتكرر معنا حتى في هذا الدرس، يتكرر معنا في أبواب الفقه: “المثلي” و”القِيمِي”، ما هو المثلي؟

المثلي عند الحنابلة: كل مكيلٍ أو موزونٍ يصح السَّلَم فيه، وليس فيه صناعةٌ مباحةٌ، هذا التعريف المثلي عند الحنابلة: كل مكيلٍ أو موزونٍ يصح السلم فيه، وليس فيه صناعةٌ مباحةٌ، والقيمي: ما عداه، والقول الراجح -سبق أن أشرنا لهذا في درس سابق– القول الراجح الذي اختاره ابن تيمية وابن القيم وجماعةٌ من المحققين من أهل العلم: أن المثلي ما له مثيلٌ أو شبيهٌ؛ ولذلك لمَّا كان النبي ذات يومٍ عند عائشة، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن له طعامًا مع خادمٍ، وهو في يوم عائشة، فلما رأت عائشة هذا الطعام أُرسل للنبي عليه الصلاة والسلام وهو عندها؛ غارت غيرةً شديدةً، فأخذت هذا الإناء وكسرته، فتناثر الطعام، فالنبي عليه الصلاة والسلام ابتسم، وقال: غارت أمكم، ثم قال: طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ [7]، فهنا النبي عليه الصلاة والسلام قال: إناءٌ بإناءٍ، اعتبر هذا مثليًّا، يعني: له شبيهٌ، فالمثلي: هو ما له مثل، وما له شبيهٌ، هذا هو القول الراجح الذي تدل له النصوص، هذه المسألة سبق أن تكلمنا عنها.

وأما إذا لم يكن للعين المغصوبة مثلٌ؛ فيضمنها بقيمتها يوم التلف.

قال:

ويضمن مَصَاغًا مباحًا من ذهبٍ أو فضةٍ بالأكثر من قيمته أو وزنه.

طبعًا هذه المسألة يذكرها الفقهاء السابقون لما كانوا يتعاملون بالدنانير، الدنانير تكون من الذهب، فيقول: إن كان المغصوب مَصَاغًا مباحًا من ذهبٍ أو فضةٍ، فيكون الضمان بالأكثر من قيمته، من قيمة هذا المَصاغ، أو وزنه من الذهب أو الفضة، باعتبار أن الناس قديمًا يتعاملون بالدنانير والدراهم، أما الآن فأصبحوا يتعاملون بالأوراق النقدية، ولذلك لا تَرِد هذه المسألة.

يعني نقول: إن المصاغ هذا المغصوب يُضمن بقيمته بالريالات الآن، أو بما يعادلها بالأوراق النقدية.

قال:

والمحرَّم بوزنه.

يعني: لو كان المغصوب أواني ذهبٍ أو فضةٍ فتقوَّم بوزنها، لماذا؟ لأن صناعتها محرمةٌ، فليس لها قيمةٌ.

يقبل قول الغاصب في قيمة المغصوب وقدره

ويقبل قول الغاصب في قيمة المغصوب وقدره.

إن كان هناك بينةٌ، القول قول صاحب البينة، إن لم يكن هناك بينةٌ، وتعارَضَ قول الغاصب وقول من غصبت منه هذه العين، فالفقهاء يقولون: إنه يُقبل قول الغاصب، لماذا؟ لأنه غارمٌ، ودائمًا الغارم يرجَّح جانبه، يرجح جانب الغارم، يقبل قوله بيمينه، ثانيًا: أنه مُنكِرٌ والأصل براءة ذمته.

ضمان جناية المغصوب وإتلافه

قال:

ويضمن جنايته وإتلافه بالأقل من الأرش أو القيمة.

يعني: إذا كان المغصوب له جنايةٌ؛ مثل: لو كان المغصوب عبدًا، وهذا العبد جنى أو أتلف مالًا لغيره؛ فالغاصب يضمن جنايته وإتلافه بالأقل إما من قيمة العبد، أو بأرش الجناية، بالأقل إما من قيمة هذا العبد، أو أرش الجناية.

إن أطعم الغاصب ما غصبه

قال:

وإن أَطعَم الغاصب ما غصبه، حتى ولو لمالكه، فأكله ولم يعلم؛ لم يبرأ الغاصب.

كأن يأتي إنسانٌ بطعامٍ مغصوبٍ مثلًا، ويطعم رجلًا لا يعلم بأن هذا الطعام مغصوبٌ، فالغاصب لا يبرأ بذلك، حتى لو كان الذي أطعمه هو المالك لذلك الطعام؛ لأن هذا معذورٌ، الأصل أن الإنسان لا يتصرف إلا فيما يملك، فعندما أكل الطعام هو معذورٌ، والغاصب هو الذي ليس بمعذورٍ، فيستقر الضمان على الغاصب، لكن إن علم:

وإن علم الآكل حقيقة الحال؛ استقر الضمان عليه.

إذا علم الآكل بأن هذا الطعام مغصوبٌ، فالضمان يستقر عليه؛ لأنه اجتمع عندنا سببان: مباشرةٌ وسببيةٌ، وإذا اجتمع مباشرةٌ وسببيةٌ؛ فالذي يضمن هو المباشر.

قال:

ومن اشترى أرضًا فغرس أو بنى فيها فخرجت مستحَقَّةً للغير، وقُلع غرسه وبناؤه؛ رجع على البائع بجميع ما غرمه.

يعني: لو اشترى إنسانٌ أرضًا وبنى فيها، أو غرس فيها، ثم بعد ذلك وهو لا يعلم بحقيقة الأمر، لا يعلم بأنها مغصوبةٌ، ثم تبين أن هذه الأرض مملوكةٌ للغير، فإذا قلع الغرس والبناء، فهذا المشتري يرجع على البائع بجميع ما غرمه؛ لأن البائع هو الذي قد غره وأوهمه أنها ملكٌ له.

من أتلف ولو سهوًا مالًا لغيره ضمنه

ثم قال المصنف رحمه الله:

ومن أتلف ولو سهوًا مالًا لغيره؛ ضمنه.

الإتلافات لا يُشترط فيها القصد، لو أتلف إنسانٌ مال غيره؛ ضمنه، سواءٌ كان قاصدًا أو غير قاصدٍ، جاهلًا أو غير جاهلٍ، ناسيًا أو غير ناسٍ، باختياره أو بغير اختياره، ما دام هناك إتلافٌ؛ فالإتلاف يوجب الضمان، أما نيته وقصده فهذه لا أثر لها.

فمن أتلف مال غيره؛ ضمن على كل حالٍ؛ ولذلك لو أن إنسانًا وقع له حادثٌ؛ إنسانٌ مثلًا كان يسير بالسيارة، ثم بسبب وجود الأمطار مثلًا السيارة لم يتحكم فيها، فاصطدمت بغيرها، فإنه يُحمَّل، يضمن قيمة هذا الحادث حتى وإن كان بغير اختياره؛ قال: والله مالت السيارة بغير اختياري، بسبب هذا المطر، حتى لو كان بغير اختيارك، لا يُنظر لاختياره وعدمه، ولا للجهل أو عدمه، ولا للنية ولا للقصد، الإتلافات فيها الضمان مطلقًا، ما دمت تسببت في الإتلاف، هذه العوارض كلها لا ينظر لها؛ لأن هذه حقوق آدميين، هذا فيما بينك وبين الله تعالى في الجهل وعدمه والاختيار، أما بالنسبة لحقوق العباد فمبناها على المشاحة.

فيجب على المتلف الضمان، بغض النظر عن قصده ونيته، واختياره وجهله، هذه كلها غير مؤثرةٍ.

إن أكره على الإتلاف، ضمن من أكرهه

قال:

وإن أكره على الإتلاف؛ ضمن من أكرهه.

إذا كان هذا الذي أتلف قد أُكره، فإن الذي أكرهه هو الذي يضمن، ولكن صاحب المال المتلَف له، مخيرٌ بين أن يطالِب المتلِفَ، والمتلِفُ يعود على المكرِه، أو يطالِب المكرِه مباشرةً.

ضمان ما تلف بسببه

وإن فتح قفصًا عن طائرٍ، أو حل قِنًّا أو أسيرًا أو حيوانًا مربوطًا فذهب.

يعني: ضمن، كل هذه يضمن: إذا فتح القفص عن طائرٍ فطار؛ يضمن، أو حل الرباط عن قِنٍّ -يعني عن عبدٍ- مربوطٍ فهرب؛ فإنه يضمن، إذا حل أسيرًا أيضًا فهرب هذا الأسير؛ فإنه يضمن، إذا أيضًا حل حيوانًا مربوطًا؛ فإنه يضمن؛ لأنه هو الذي تسبب في تفويت هذا المال على صاحبه، فكان عليه الضمان.

أو حل وكاء زِقٍّ فيه مائعٌ فاندفق؛ ضمنه.

الزِّقُّ: هو وعاءٌ من جلدٍ، توضع فيه السوائل، يعني الأواني عمومًا، إذا حل هذا الوعاء، فانسكب الماء؛ فقد تسبب في إتلافه؛ فإنه يضمن.

يعني باختصارٍ: كل من حصل منه تعدٍّ أو تفريطٌ، تعدٍّ على مال غيره؛ فإنه يضمن، كل من حصل منه تعدٍّ على مال غيره، فتسبب ذلك في إتلافه، أو في إتلاف جزءٍ منه، فإنه يضمن.

قال:

ولو بقي الحيوان أو الطائر حتى نفرَّه آخر؛ ضمن المنفِّر.

لو افترضنا أنه لما فتح القفص للحيوان، الحيوان لم يطر، حتى أتى إنسانٌ ونفَّره، فيقول: إن الذي يضمن هو المنفِّر، وليس الذي فتح القفص، لماذا؟ لأنه قد اجتمع سببان: مباشرةٌ، وسببيةٌ، وإذا اجتمع المباشر والمتسبب، فالذي يضمن هو المباشر، هذه قاعدةٌ، إذا اجتمع مباشرٌ ومتسببٌ؛ فالذي يضمن هو المباشر، فالمباشرة تقطع حكم السببية.

ومن أوقف دابةً في طريقٍ ولو واسعًا، أو ترك بها نحو طينٍ أو خشبةٍ؛ ضمن ما تلف بذلك.

من أوقف دابةً في الطريق، والطريق واسع، فتسبب إيقافه لهذه الدابة في تلفٍ؛ فيضمن؛ لأنه متعدٍّ، وهذه الدابة من طبعها الجناية، فهو كما لو وضع حجرًا في الطريق؛ فيضمن، أو حفرةً في الطريق، أو طينًا، ومن ذلك: الحُفَر التي تكون في الشوارع، إذا كان هناك حفرةٌ وليس هناك علاماتٌ تحذيريةٌ، وليس هناك توضيحٌ، فأتى إنسانٌ ووقع في هذه الحفرة، فالذي حَفَر هذه الحفرة يضمن، وهذا هو الذي عليه العمل، أحيانًا تأتي شركةٌ وتحفر حفرةً في الطريق، ولا تضع علاماتٍ تحذيريةً، فيأتي بعض الناس ويقع فيها، أو تأتي سيارةٌ وتقع فيها، فالشركة هذه التي حَفَرت هذه الحفرة هي التي تضمن جميع التلف؛ لأنها قد تسببت في ذلك.

أيضًا يقاس على ذلك في الوقت الحاضر: من أوقف سيارةً في الطريق وقوفًا خاطئًا فتسبب بحادثٍ؛ فإنه يضمن، إذا أوقف سيارته في منتصف الطريق، أو وقوفًا خاطئًا عمومًا، فتسبب وقوفه الخاطئ في حادثٍ؛ فإنه يضمن.

الطالب:….

الشيخ: إي نعم، على كل حالٍ: هذا هو الحكم الشرعي.

لكن لو كانت الدابة بطريقٍ واسعٍ، فضربها فرفسته؛ فلا ضمان.

لأنه إذا كان في طريقٍ واسعٍ لا حاجة لضربها، لماذا يضربها؟! فإذا ضربها؛ فلا ضمان؛ لأنه هو الجاني على نفسه بهذا الضرب؛ لكون الطريق واسعةً، فما من حاجةٍ للضرب.

قال:

ومن اقتنى كلبًا عقورًا، أو أسود بهيمًا، أو أسدًا أو ذئبًا أو جارحًا؛ فأتلف شيئًا؛ ضمنه.

لأن هذه الحيوانات لا يجوز اقتناؤها؛ ولذلك قال: “كلبًا عقورًا”، فهذه لا يجوز اقتناؤها، فهو قد تَعدَّى باقتنائها، فإذا اقتناها؛ فإنه يضمن ما أتلفته.

لا إن دخل دار ربه بلا إذنه.

يعني: لا إن دخل دار رب الأسد والنمر والحيوانات التي ذُكرت، بلا إذن صاحبها، فإن الداخل متعدٍّ بهذا الدخول، يعني مثلًا: رجلٌ عنده مثلًا مكانٌ فيه هذه الحيوانات، فدخل رجلٌ إلى هذا المكان بغير إذنه، بغير إذن صاحب المكان، فاعتدى عليه الأسد أو النمر أو الفهد أو الذئب، اعتدى على هذا الرجل، فصاحب هذا المحل لا يضمن؛ لكون الداخل قد دخل بغير إذنه.

ومن أجَّج نارًا في مِلكه فتعدت إلى ملك غيره بتفريطه؛ ضمن.

لو أجج نارًا، أوقد نارًا في ملكه، ثم استشرت هذه النار، وانتقلت إلى جيرانه، وتسببت في تلفيات؛ فإنه يضمن؛ لأنه هو المتعدي بذلك.

لا إن طرأت ريحٌ.

لو أنه مثلًا أوقد في مزرعته نارًا، ثم بفعل الريح طارت هذه النار إلى من حوله من جيرانه، فتسببت في تلفٍ، فإنه لا يضمن؛ لأنه ليس بفعله ولا تفريطه، وقد فعل شيئًا مأذونًا له فيه في ملكه.

ومن اضطجع في مسجدٍ أو في طريقٍ.

يعني: فتسبب في تلفٍ؛ فإنه لا يضمن؛ لأنه فعل فعلًا مباحًا لم يتعد فيه، مثال ذلك: رجلٌ اضطجع في المسجد، وكانت مثلًا الكهرباء مطفأةً، فأتى إنسانٌ وعثر فيه، وتسبب في مثلًا كسره أو في إصابته، فإنه لا يضمن؛ لأنه فعل فعلًا مأذونًا له فيه.

وهكذا لو أتى في طريقٍ، فأتى إنسانٌ وعثر فيه؛ فإنه لا يضمن.

أو وضع حجرًا بطينٍ في طريقٍ ليطأ عليه الناس؛ لم يضمن.

إذا كان هناك طينٌ، فأتى ووضع حجرًا فهو بهذا محسنٌ، وما على المحسنين من سبيلٍ، فلا يضمن، ومن ذلك مثلًا: يضع دَرَجًا مثلًا خاصًّا لذوي الاحتياجات الخاصة، فإذا أتى إنسانٌ وسقط في هذا الدرج؛ فإنه لا يضمن.

فهذه المسائل التي ذكرها المؤلف تحكمها هذه الضوابط والقواعد العامة، أن من تسبب في تلف مال غيره؛ فعليه الضمان، أما من لم يتسبب؛ فالأصل أنه لا ضمان عليه؛ ولذلك لو ضبطتَ في باب الغصب هذه الضوابط؛ تغنيك عن هذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف.

ما يُضمن من جناية البهيمة

ثم انتقل المؤلف للكلام عن ضمان البهائم، قال:

ولا يضمن رب بهيمةٍ غير ضاريةٍ ما أتلفته نهارًا من الأموال.

ضاريةٌ معناها: متعديةٌ بطبعها، فيقول: صاحب البهيمة إذا كانت البهيمة غير ضاريةٍ؛ لا يضمن ما تتلفه نهارًا، ويضمن ما تتلفه ليلًا، كما سيأتي.

ما تتلفه نهارًا من الأموال وغيرها لا يُضمن؛ لأن الأصل أن أرباب المواشي يطلقونها نهارًا؛ لكي ترعى، ويحفظونها بالليل، فما أفسدته المواشي بالنهار غير مضمونٍ، وأما ما أفسدته بالليل فإنه مضمونٌ، وهذا هو الذي قد دلت له السنة، كما في حديث ناقة البراء  لما دخلت حائط رجلٍ فأفسدته، فقضى رسول الله أن على أهلها حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامنٌ على أهلها [8]، هذا الحديث وإن كان في سنده ضعفٌ؛ إلا أن الأمة تلقته بالقبول، وعليه عمل أهل العلم.

إذنْ الضمان يكون لما تتلفه البهائم في النهار يكون على أهل الزرع، وما تتلفه بالليل يكون على أرباب المواشي، هذه قاعدةٌ: ما تتلفه المواشي والبهائم إذا كان نهارًا يكون على أهل الزرع، وما تتلفه بالليل يكون على أرباب المواشي.

فأنت -يا صاحب البهيمة- احفظها في الليل، وإلا فأنت ضامنٌ، وأما في النهار فأرباب المواشي يريدون أن يطلقوا البهائم لكي ترعى، فعلى أرباب الزرع أن يحفظوا زروعهم، هذه هي القاعدة في هذا.

الطالب:

الشيخ:… سيأتي الكلام عنها، سيأتي بعد قليلٍ.

قال:

ويضمن راكبٌ وسائقٌ وقائدٌ وقادرٌ على التصرف فيها.

يعني: يضمن جنايتها، من كان قادرًا على التصرف فيها؛ كأن يكون راكبًا أو سائقًا أو قائدًا لهذه البهيمة، وقد جاء في هذا حديثٌ عن النبي : من أوقف دابةً في سبيلٍ من سبل المسلمين، أو في سوقٍ من أسواقهم فأوطأت بيدٍ أو رجلٍ؛ فهو ضامنٌ [9]، هذا الحديث من جهة الإسناد ضعيفٌ، لكن العمل عليه عند أهل العلم، بعض الأحاديث يكون إسنادها ضعيفًا، لكن العلماء يتلقونها بالقبول، والأمة تتلقاها بالقبول وتعمل بها.

ولذلك تجد أن بعض طلبة العلم، الذي يقول: لا أقبل إلا ما كان حديثًا صحيحًا؛ يقع في شذوذاتٍ؛ لأنه سيخالف إجماعاتٍ، مثل مثلًا: التكبير المطلق والمقيد، لا يصح فيه حديثٌ مرفوعٌ إلى النبي ، لكن عليه عمل الأمة، كما قال الحافظ ابن رجبٍ: عليه عمل الأمة، وفيه إجماعاتٌ، ومأثورٌ عن الصحابة ومَن بعدهم خلفًا عن سلفٍ، فلو قلت: لا أقبل إلا شيئًا فيه حديثٌ؛ فمعنى ذلك: ربما تقع في شذوذاتٍ؛ ولهذا تجد أن الذي ينتهج هذا المنهج يقع في شذوذاتٍ، يخالف إجماعاتٍ، فبعض الأحاديث تكون ضعيفةً، لكن عليها العمل عند أهل العلم، الأمة عملت بهذه الأحاديث، مثل هذا الحديث الذي بين أيدينا.

قال:

وإن تعدد راكبٌ ضمن الأول، أو مَن خَلْفه إن انفرد بتدبيرها.

يعني: إن كان على الدابة أكثر من راكبٍ، فالذي يضمن هو الأول؛ لأنه متصرفٌ فيها، ويضمن مَن خَلْفه إذا كان مَن خلفه أيضًا هو الذي انفرد بتدبيرها؛ لكون مثلًا الراكب الأول صغيرًا، أو لكونه مريضًا أو أعمى، أو نحو ذلك.

وإن اشتركا في تدبيرها، أو لم يكن إلا قائدٌ وسائقٌ؛ اشتركا في الضمان.

يعني: اشتركا في التدبير اثنان على دابةٍ، واثنان هما اللذان يدبرانها ويقودانها، فعليهما جميعًا الضمان، أو أنه لم يكن لها إلا قائدٌ وسائقٌ، فيشترك القائد والسائق في الضمان.

قال:

ويضمن ربها ما أتلفته ليلًا إن كان بتفريطه.

سبق أن قلنا: إن ما تتلفه المواشي في النهار على أرباب الزرع، طيب ما تتلفه بالليل يكون على أرباب المواشي، وهذه القاعدة أصلها حديث البراء السابق، وأيضًا حديث: العجماء -والعجماء يعني: البهيمة- جرحها جُبَارٌ [10]، يعني: هدرٌ، فهذا هو الأصل: أنها بالليل يكون على أرباب المواشي، وبالنهار على أرباب الزرع.

لكن الإبل السائبة التي تعترض السيارات، لو أخذنا وطبقنا هذه القاعدة، سنفرق بين ما إذا وقع الحادث ليلًا أو نهارًا؛ فإذا كان وقع الحادث ليلًا؛ فيكون على صاحب البهيمة، صاحب الناقة هذه أو الجمل هو الذي يضمن، وإذا وقع الحادث نهارًا؛ نقول لصاحب البهيمة: ما عليك شيءٌ.

وهذه الحوادث تسببت في وفياتٍ وفي أضرارٍ عظيمةٍ، وهذا الموضوع درسته “هيئة كبار العلماء” في المملكة قديمًا، ورأت الهيئة أن أرباب الإبل عندما يطلقونها يسببون خطرًا، وأن هذا نوع تعدٍّ وجنايةٍ، وأن هذه المسألة لا تقاس على ما ذكره الفقهاء، وما ورد في حديث البراء من حفظ أربابها بالليل وتركها بالنهار [11]، لماذا؟ قالوا: لأن أصحاب هذه الإبل يتركونها ليلًا ونهارًا، يعني لا يحفظونها بالليل، يتركونها ليلًا ونهارًا، فيسيِّبونها، فتتسبب في حوادث مفجعةٍ؛ ولذلك “هيئة كبار العلماء” قررت أن أصحاب الإبل يضمنون ما يترتب على هذه الحوادث، سواءٌ كان ذلك في الليل أو في النهار.

وهذا الذي رأته الهيئة هو الذي يتفق مع الأصول والقواعد الشرعية، وأصبح عليه العمل في المحاكم: أن ما تتسبب فيه هذه الإبل، فأرباب هذه الإبل يضمنون ما تسببها هذه الإبل من أضرارٍ و(تلفيَّاتٍ)، بغض النظر عن وقت وقوع الحادث ليلًا كان أو نهارًا؛ ولهذه الحيثيات التي ذكرت، أن أصحاب هذه الإبل متعدون، وأنهم لا يحفظونها لا ليلًا ولا نهارًا، وأنهم سيبوها فتسببت في الإضرار بالمسلمين؛ فإذن الإبل السائبة لها نظرةٌ تختلف عما ذكرها الفقهاء، يعني: هي أشبه بالنازلة؛ لأن أصحاب الإبل سيَّبوها ليلًا ونهارًا، لا تقاس على ما ورد في حديث البراء؛ الذي ورد في حديث البراء: أصحاب هذه البهائم يمسكونها في الليل، ويطلقونها في النهار؛ لأجل أن ترعى، لكن هذه أصحابها سيبوها ليلًا ونهارًا، فتسببت في الإضرار بالناس؛ ولذلك فأصحاب هذه الإبل يضمون ما تتسبب فيه، بغض النظر عن وقت وقوع الحادث.

قال:

وكذا مستعيرها ومستأجرها ومن يحفظها.

يعني: هؤلاء حكمهم حكم ربها في الضمان، ثم انتقل المؤلف للكلام عن الصائل، قال:

ومن قتل صائلًا عليه -ولو آدميًّا- دفعًا عن نفسه أو ماله.

يعني: فلا ضمان عليه، فالصائل: هو المتعدي الذي يتعدى على الإنسان، أو يتعدى على ماله، أو يتعدى على عرضه، أو يتعدى على محارمه، هذا يسميه العلماء: صائلًا، ويجب الدفاع عن النفس، إذا تعدى عليك صائلٌ؛ يجب أن تدافع عن نفسك، ولا تستسلم له، وإنما تدافع عن نفسك، ويُدفع الصائل بالأسهل فالأسهل، وهكذا أيضًا لو صال يريد العِرض، يجب الدفاع عن العرض، ويجب الدفاع أيضًا عن عرض محارمه، ولكن يدفع الصائل بالأسهل فالأسهل، ولو لم يندفع الصائل إلا بالقتل؛ فإنه يقتل ودمه هدرٌ، ولا ضمان على القاتل، لكن بشرط أن يثبت أنه صائلٌ، فإذا لم يثبت أنه صائلٌ، فإنه يقاد به، لماذا؟ لأنه لو لم نقل بأنه يقاد به لتعطل القصاص؛ لأن كل قاتلٍ سيَدَّعي بأن المقتول قد صال عليه، كل قاتلٍ يريد أصلًا أن ينجو من القتل سيدعي أن المقتول قد صال عليه.

فلذلك من أراد أن يدفع صائلًا؛ ينبغي أن يدفعه بغير القتل؛ لأنه إذا دفعه بالقتل؛ فلا بد من إثبات أنه قد صال عليه، يعني مثلًا: لو كان معه سلاحٌ يضعه في رجليه، لا يقتله، يدفعه بغير القتل، فإذا لم يندفع إلا بالقتل؛ هنا لا بد من البينة، وإلا يقاد به.

وكم من إنسانٍ قُتل قصاصًا، وهو إنما قَتل هذا الإنسان دفاعًا عن نفسه، أو دفاعًا عن عرضه أو عن محارمه، وأذكر أن أحد الناس كان قد صال على محارمه رجلٌ، فلما قتله دفاعًا عن محارمه، وأُتي به للمحكمة، فقيل له: أنت قتلته، قال: (قتلته ونصف)، قال القضاة له: النصف لك، يكفي أنك قتلته، قال: قتلته دفاعًا عن العرض وكذا، قال: عندك بينةٌ، قام يحلف لهم أيمانًا مغلظةً، طبعًا لا يقبل؛ لأنه يحلف لنفسه، فقال: عندك شهودٌ، فحُكم بالقصاص، ثم بعد ذلك حصل الصلح.

فالشاهد: أنه حتى لو قَتل دفاعًا عن نفسه أو عن عرضه، أو عن محارمه؛ لا بد من الإثبات، لا بد من البينة، وإلا فإنه يقاد به.

واستثنى العلماء من ذلك: الدفاع عن النفس حال الفتنة، قالوا: إنه ليس واجبًا، وإنما هو جائزٌ، ورد في هذا أحاديث عن النبي ؛ منها: فكن كخيري ابني آدم [12]، فكن عبدالله المقتول [13].

فإذنْ حال الفتنة الدفاع عن النفس ليس واجبًا، وأما في غير حال الفتنة فالدفاع عن النفس واجبٌ، وهكذا الدفاع عن العرض.

وأما الدفاع عن المال فليس واجبًا، لو صال عليك أحدٌ يريد مالك؛ يجوز لك أن تعطيه المال وتفتدي نفسك، قال: أعطني جوالك، أعطه الجوال، وتَسلَم من القتل، أعطني المحفظة، تعطيه المحفظة وتسلم من القتل، فالدفاع عن المال ليس واجبًا، والدفاع عن النفس واجبٌ، إلا في حال الفتنة، والدفاع عن العرض واجبٌ.

طيب هنا ابن تيمية رحمه الله له قولٌ في هذه المسألة، يقول: إنه يجوز العمل بقرائن الأحوال، فإذا كان المقتول معروفًا بالفساد؛ كأن يكون من أرباب السوابق، ومعروفًا بالشر والفساد، والقاتل معروفًا بالصلاح، إنسانٌ صالحٌ، ليس بصاحب مشاكل، ولا عرف عنه الشر، لكن صال عليه هذا الإنسان، فيؤخذ بالقرائن فيدرأ عن القاتل القصاص في هذه الحال، ولو لم توجد البينة، هذا رأي ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة، وهو قولٌ قويٌّ؛ فمثلًا: لو وُجد إنسانٌ مقتولًا في بيت إنسانٍ معروفٍ بالصلاح، إنسانٍ مثلًا عالمٍ من العلماء، ومعروفٍ بالصلاح، أو بين جيرانه معروفٌ بالصلاح، ولم يعرف بالشر ولا بالفساد، وهذا المقتول إنسانٌ من أرباب السوابق والمخدرات، ومعروفٌ بالشر، وله سوابق، فعند ابن تيمية رحمه الله تُعمل القرائن، ويُدرأ القصاص؛ لأن الظاهر أن هذا القاتل إنما قتل هذا الرجل؛ لأنه قد صال عليه، وهذا قولٌ متجهٌ، لكن الذي عليه العمل هو قول الجمهور، وهذه المسألة من عُضَل المسائل، يعني لو أخذنا بكلام القاتل في أن المقتول صال عليه؛ لانسد باب القصاص، كل قاتلٍ سيَدَّعي أن المقتول صال عليه، لكن قول ابن تيمية هنا قولٌ قويٌّ، أنه يُعمل القرائن، القرائن تعمل في هذه الحال.

إنسانٌ ما عُرف عنه أنه صاحب شرٍّ، ولا له سوابق، ومزكًّى من جيرانه ومن أهله ومن المجتمع، وهذا المقتول معروفٌ بالسوابق وبالشر، فتُعمَل القرائن في هذه الحال، ويُدرأ عنه القصاص، فهذا القول له وجاهته، لكن الذي عليه العمل هو القول الأول، قول الجمهور.

ولذلك ينبغي إذا صال إنسانٌ عليك؛ أن تدفعه بغير القتل؛ لأنك لو دفعته بالقتل؛ فستحتاج إلى البينة المثبِتة لذلك، لكن فيما بينك وبين الله ذمتك بريئةٌ، لكن أمام القضاء لا بد من الإثبات، أمام القضاء لا بد من الإثبات.

نعم تفضل.

الطالب:….

الشيخ: وشرعًا، شرعًا يجوز للإنسان أن يدافع عن نفسه وعن عرضه وعن ماله، بل يجب الدفاع عن النفس وعن العرض، النفس فقط تستثنى منها حال الفتنة، والمال قلنا: يجوز، لكن لا يجب، لكن لو أراد أن يدافع عن ماله، قال: أعطني ما بيدك، رفض ودافع عن ماله، فله ذلك؛ ولهذا قال رجلٌ للنبي عليه الصلاة والسلام: أرأيت إن جاء رجلٌ يريد يأخذ مالي؟ قال: فلا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: إن قتلته؟ قال: هو في النار [14]، فيجوز الدفاع عن المال، لكنه لا يجب.

ما لا ضمان في إتلافه

ثم ذكر المؤلف ما لا ضمان في إتلافه، والقاعدة: أن الأشياء المحرمة عمومًا لا ضمان في إتلافها، ومَثَّل المؤلف لهذا بأمثلةٍ، قال:

أو أتلف مزمارًا، أو آلة لهوٍ.

لا يضمنه.

أو كسر إناء فضةٍ أو ذهبٍ.

لا يضمنه؛ لأن اتخاذه محرمٌ.

أو فيه خمرٌ مأمورٌ بإراقته.

أيضًا هذا مثالٌ للمحرم.

أو كسَر حليًّا محرمًا، أو أتلف آلة سحرٍ أو تعزيمٍ.

يعني: عزائم محرمة، فهذه كلها لا ضمان فيها.

أو تنجيمٍ.

أيضًا تكون مثلًا كُتبٌ فيها تنجيمٌ، أو آلة تنجيمٍ، فلا ضمان فيها.

أو صور خيالٍ.

“صور خيالٍ” يسمونها: خيال الظل، وهي ضربٌ من اللهو قديمًا كانوا يتسلون بها.

أو أتلف كتب مبتدِعةٍ مُضِلَّةٍ.

فإنه لا يضمن؛ لأنه ليس لها حرمةٌ.

أو أتلف كتابًا فيه أحاديث رديئةٌ، لم يضمن في الجميع.

الأصل ما كان محرمًا فأتلف؛ فلا ضمان فيه؛ لأن النبي هدم مسجد الضرار [15]، وأيضًا في حديث أبي الهيَّاج قال: قال لي عليٌّ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ؟: «ألَّا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مُشْرِفًا إلا سويته» [16]، فهذه الأمور المحرمة لا ضمان فيها من باب أولى.

باب الشفعة

ثم قال المصنف رحمه الله:

باب الشفعة

تعريف الشفعة لغةً واصطلاحًا

الشُّفعة في اللغة: مأخوذٌ من الشَّفْع وهو الزوج؛ لأن الشفيع بالشفعة يَضم المبيع إلى ملكه الذي كان منفردًا، وقيل: من الزيادة؛ لأنه يزيد ملكه، وقيل: من الشفاعة؛ لأنهم أحيانًا يأتون بمن يشفع فيها.

واصطلاحًا: هي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوضٍ ماليٍّ، بثمنه الذي استقر عليه العقد، هذا تعريف صاحب “الزاد”.

مثال ذلك: أرضٌ مشتركةٌ بينك وبين صاحبك، ثم تفاجأت بأن صاحبك باع حصته من هذه الأرض، وسيدخل معك شريكٌ جديدٌ، وأنت ترضى بشراكة صاحبك، ولا ترضى بشراكة هذا الشريك الجديد؛ فهنا لك أن تشفع، تقول لهذا المشتري: كم اشتريت حصة فلانٍ؟ قال: اشتريتها بمئة ألفٍ، تقول: خذ هذه مئة ألفٍ، وتكون الأرض كلها لي، هذه فكرة الشفعة، وتبسيط معنى الشفعة.

والحكمة من مشروعيتها: دفع الضرر عن الشريك؛ لأن الإنسان قد يرضى بشراكة إنسانٍ، ولا يرضى بشراكة إنسانٍ آخر، وكانت معروفةً في الجاهلية، فأقرها الإسلام، وجعل لها قواعد وضوابط.

قال:

لا شفعة لكافرٍ على مسلمٍ.

لقول الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، فالمسلم أعلى من الكافر؛ فلا يكون لكافرٍ شفعةٌ على المسلم.

شروط ثبوت الشفعة

قال:

وتثبت للشريك فيما انتقل عنه ملك شريكه بشروطٍ خمسةٍ:

انتقل المؤلف لشروط ثبوت الشفعة:

الشرط الأول:

أحدها: كونه مبيعًا، فلا شفعة فيما انتقل عنه ملكه بغير بيعٍ.

يعني: يشترط أن يكون انتقال نصيب الشريك بطريق البيع، أو ما كان في معناه، فلا يكون مثلًا بإرثٍ، ولا بهبةٍ، ولا بوصيةٍ.

فمثلًا في مثالنا السابق: أنت وصاحبك شريكان في هذه الأرض، ثم إن صاحبك توفي، فوَرَثَتُه سيدخلون معك شركاء، فهل تملك الشفعة؟ لا، لا تملك، لماذا؟ لأن نصيب شريكك انتقل للورثة بطريق الإرث، ومن شروط ثبوت الشفعة: أن ينتقل بطريق البيع.

أو كان بطريق الهبة، يعني شريكك وهب حصته لشخصٍ آخر، أو أوصى بها، فإذا انتقلت بغير طريق البيع؛ فلا تثبت الشفعة، لا بد لثبوتها من أن تنتقل بطريق البيع.

الشرط الثاني:

كونه مشاعًا من عقارٍ.

يعني: لا بد أن يكون مشاعًا، غير مُفْرَزٍ، “من عقارٍ”، أن تكون الشفعة في عقارٍ؛ كأرضٍ مثلًا، أو مثلًا عمارةٍ، أو نحو ذلك؛ وعلى هذا: فلا شفعة في المنقول، ولا شفعة للجار؛ ولهذا قال المؤلف:

فلا شفعة للجار.

يعني: شفعة الجوار لا تثبت على رأي المؤلف؛ مثلًا جارك باع بيته، ليس لك أن تشفع على جارك، وإذا لم يكن بين الجارين أي اشتراكٍ؛ فلا تثبت الشفعة في قول عامة أهل العلم، لكن إذا كان بين الجارين اشتراكٌ في حقٍّ من الحقوق؛ كاشتراكٍ في بئرٍ، أو اشتراكٍ في جدارٍ، أو اشتراكٍ في طريقٍ مثلًا، ففي هذه الحال اختلف العلماء هل تثبت الشفعة أو لا؟

القول الأول: أنها لا تثبت الشفعة، وهذا قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بعموم الأحاديث الواردة في الشفعة، ومنها: حديث جابر  أن النبي قضى في الشفعة في كل ما لم يُقسَم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة [17].

القول الثاني: أنها تثبت شفعة الجوار إذا كان بينهما اشتراكٌ في حقٍّ من الحقوق، وهذا هو مذهب المالكية، واختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كابن تيمية وابن القيم، واستدلوا بقول النبي : الجار أحق بصقبه [18]، ومعنى بصقبه: يعني القرب والملاصقة، وأيضًا: ‌جارُ ‌الدَّارِ ‌أحقُّ بدارِ ‌الجار [19]، وأيضًا أن الجوار في معنى الشركة؛ لأن ملك الجار متصلٌ بملك جاره، والضرر متوقعٌ في الشركة، ومتوقعٌ في الجوار، وهذا هو القول الراجح.

إذنْ القول الراجح في شفعة الجوار: أنها لا تثبت، إلا إذا كان بينهما اشتراكٌ في حقٍّ من الحقوق.

طيب الآن الشقق التي تباع، شقق التمليك، لو كان بجوارك شقةٌ بيعت، هل لك الحق أن تشفع فيها أو لا؟

الطالب:

الشيخ: نعم، إذا كانوا يشتركون في الجدار، وفي الماء مثلًا، والمدخل، فتثبت الشفعة فيها، والدَّرَج، تثبت الشفعة، لكن لو كانت مثلًا (فيلا) وبجوارها (فيلا)، جارك باع (فيلته)، هنا لا تثبت الشفعة؛ لأنه ليس بينك وبينه أي اشتراكٍ.

فإذنْ القاعدة هي: إذا كان بينك وبين جارك أي اشتراكٍ في أي حقٍّ من الحقوق؛ تثبت الشفعة، وإذا لم يكن أي اشتراكٍ؛ فلا تثبت، هذا هو القول الراجح، وهو الذي عليه العمل.

قال:

ولا فيما ليس بعقارٍ؛ كشجرٍ، وبناءٍ مفردٍ، ويؤخذ الغراس والبناء تبعًا للأرض.

يعني: هذا يسميه العلماء: المنقول، المنقولات هل تثبت فيها الشفعة، أو لا تثبت؟

يعني: مثل الشجر والبناء، مثل مثلًا المحلات، محلٌّ مثلًا تجاريٌّ بينك وبين صاحبك، محل بيع جوالاتٍ، محل بيع خضارٍ، محل بيع أقمشةٍ، فتفاجأت بأن شريكك باع حصته، فهل لك أن تشفع؟ تقول: بكم بعت حصتك؟ قال: والله بعتها بمئة ألفٍ، تذهب لهذا المشتري تعطيه مئة ألفٍ، يكون المحل كله لك، أو ليس لك، أو أن الشفعة لا تثبت إلا في العقار؟

قولان للفقهاء:

  • القول الأول: أن الشفعة لا تثبت إلا في العقار، فلا شفعة في المنقولات، وهذا هو الذي قرره المؤلف، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بعموم الأدلة الواردة في الشفعة، والتي قد نُصَّ فيها على الحدود والطرق.
  • والقول الثاني، وأيضًا قاسوها، قالوا: إن الضرر اللاحق لأحد الشريكين إنما يقع إذا كان المبيع عقارًا؛ لأنها ترد على الدوام، أما المنقولات فليس فيها ضررٌ، أو فيها ضررٌ محتملٌ.

القول الثاني: أن الشفعة تثبت في المنقولات، وهذا رواية عند الحنابلة، وروايةٌ عند المالكية أيضًا، واستدلوا بعموم حديث جابرٍ : “قضى النبي في الشفعة في كل ما لم يقسم” [20]، قالوا: هذا يتناول العقار، ويتناول المنقول؛ لأن (كل) من صيغ العموم.

والراجح والله أعلم: هو القول الثاني، وهو أن الشفعة تثبت في المنقولات، واختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ لعموم الأدلة.

وأما ما استدل به الجمهور من أحاديث الشفعة، فهذه تدل على ثبوت الشفعة في العقار، لكنها لا تنفي ثبوت الشفعة في غير العقار، يعني هذه الأدلة تدل على ثبوت الشفعة في العقار، هذا صحيحٌ، لكنها لا تدل على أن الشفعة لا تثبت في المنقولات، وأما قولهم: إن الضرر يسيرٌ، أو ضررٌ محتملٌ، فهذا غير مُسلَّمٍ، بل ربما يكون ضرر الشفعة أحيانًا في المنقولات أشد من الضرر في العقار، في العقار على الأقل تتفاهم معه، لكن في هذه المنقولات الآن، هذا محلٌّ تجاريٌّ الآن سيدخل معك شريكٌ جديدٌ، أنت ترضى بشراكة صاحبك، ولا ترضى بشراكة هذا الشخص الجديد الذي سيدخل معك، سيدخل معك الآن شريكًا في هذا المحل، فربما يكون الضرر حتى أشد من الضرر في العقار، فالأقرب للأصول والقواعد الشرعية، والذي يدل له عموم الأدلة هو أن الشفعة تثبت في المنقولات.

إذنْ الخلاصة من هذا: أن الجمهور يرون أن الشفعة تثبت في العقار؛ وأنه لا شفعة في الجوار، وقلنا: إن القول الراجح في شفعة الجوار: أنها تثبت إذا كان بينهما اشتراكٌ في حقٍّ من الحقوق، وأيضًا الجمهور يرون أن الشفعة لا تثبت في المنقولات، وقلنا: إن القول الراجح: أن الشفعة تثبت في المنقولات.

الطالب:

الشيخ: إذا فصلوا ما من إشكالٍ، إذا ما كان هناك اشتراكٌ يتسبب في الضرر؛ لا تثبت الشفعة.

قال:

الثالث:

من شروط ثبوت الشفعة.

طلب الشفعة ساعة يعلم، فإن أخَّر لغير عذرٍ؛ سقطت، والجهل بالحكم عذرٌ.

يعني: يشترطون طلب الشفعة عندما يعلم بالشفعة مباشرةً، فإذا تأخر في طلب الشفعة؛ سقط حقه، وهذا قول الجمهور، واستدلوا بحديث: الشفعة كَحَلِّ العقال [21].

والقول الثاني: أن الشفعة على التراخي، وأنها لا تسقط إلا إذا وُجد ما يدل على الرضا بسقوط هذا الحق، وهذا هو مذهب المالكية، وهو الراجح.

وأما الجمهور، فاعتمدوا على حديثٍ لكنه ضعيفٌ، رواه ابن ماجه: الشفعة كحل العقال، هذا حديثٌ ضعيفٌ، فالصواب إذنْ هو قول المالكية، وهو أن الشفعة تثبت على التراخي، قد يكون هذا الشخص يريد أن يتأمل، هو علم بأن شريكه قد باع نصيبه، لكن يريد أن يفكر ويتأمل، وينظر مثلًا هل عنده سيولةٌ يستطيع أن يشتري بها هذا، فلماذا نباغته ونقول: إن لم تطالب بها الآن؛ سقط حقك؟! هو حقٌّ كسائر الحقوق، ما الدليل على أنه لا بد أن يطالب بها في الحال، يعني هذا الحديث ضعيفٌ، إذنْ ما من دليلٍ؛ فيبقى حقًّا كسائر الحقوق.

الرابع: أخذ جميع المبيع، فإن طلب أخذ البعض مع بقاء الكل؛ سقطت.

يعني: لا بد للشريك أن يأخذ جميع المبيع، فلو قال: أنا أريد أن أشفع، لكن ما أريد أن أشفع في جميع نصيبك، في نصفه، نقول: لا، إما أن تأخذ النصيب كاملًا، أو تتركه؛ لأن التجزئة فيها ضررٌ.

قال:

والشفعة بين الشفعاء على قدر أملاكهم.

يعني: لو كان هناك أكثر من شفيعٍ؛ مثلًا أربعةٌ، خمسةٌ، فتكون الشفعة بقدر الأملاك.

الخامس:

من شروط ثبوت الشفعة:

سبق ملك الشفيع لرقبة العقار، فلا شفعة لأحد اثنين اشتريا عقارًا معًا.

وهذا ظاهرٌ، وهو قول عامة أهل العلم، فلا بد من سبق ملك أحدهما، أما لو اشتريا في وقتٍ واحدٍ، فلا تثبت الشفعة.

وتصرف المشتري بعد أخذ الشفيع بالشفعة باطلٌ.

المشتري إذا تصرف بالشفعة، تصرف بالعين بعد أخذ الشفيع بالشفعة، قال: يا فلان، أنا سأشفع، فقام المشتري وتصرف فيها ببيعٍ أو بهبةٍ، كل هذه التصرفات باطلةٌ.

وقبله صحيحٌ.

إذا كان المشتري لم يعلم بأن هذا، بأن الشريك سيشفع؛ فتصرفاته صحيحةٌ.

قال:

ويلزم الشفيع أن يدفع للمشتري الثمن الذي وقع عليه العقد.

هذا الشفيع الآن الذي يريد أن يشفع يلزمه أن يأخذ نصيب شريكه بجميع الثمن، فيقول لهذا المشتري: بكم اشتريت نصيب شريكي؟ قال: اشتريته بمئة ألفٍ، يلزمه أن يدفع مئة ألفٍ بجميع الثمن.

فإن كان مثليًّا؛ فمثله، وإن كان متقومًا؛ فقيمته.

سبق أن عرَّفنا المثلي عند الحنابلة في أول الدرس، قلنا: ما هو؟ كل مكيلٍ أو موزونٍ يصح السلم فيه، وليس فيه صناعةٌ مباحةٌ، وقلنا: إن الراجح في المثل ما هو؟ كل ما له مثلٌ أو شبيهٌ.

وقال:

فإن جُهل الثمن ولا حيلة؛ سقطت الشفعة.

يعني: هذه المسألة مفترَضةٌ، إن كان الثمن الذي أشتري به مجهولًا، ولم تكن الجهالة حيلةً لإسقاط الشفعة؛ لأنها تُستحق بغير بدلٍ، فهذه حالةٌ نادرةٌ يتعذر معها معرفة الثمن، وإلا أحيانًا تكون الجهالة حيلةً، يقول: يا فلان، بكم اشتريت نصيب شريكي؟ قال: والله ما اتفقنا على شيءٍ، أو ما أدري، فهذه قد تكون حيلةً لإسقاط الشفعة، فإن كانت حيلةً؛ لم تسقط، لكن لو افترضنا أن الثمن كان مجهولًا؛ فيقولون: تسقط، لكن هذه حالةٌ نادرةٌ.

وكذا إن عجز الشفيع ولو عن بعض الثمن، وانتُظِر ثلاثة أيامٍ، ولم يأت به.

نفترض أن هذا الرجل قال للمشتري: أنا شفعت، طيب قال: أنا دفعت له مئة ألفٍ، ادفع له أنت مئة ألفٍ، قال: والله ما أستطيع، أنا أستطيع أن أدفع عشرة آلافٍ، ما أستطيع أن أدفع مئة ألفٍ، هنا تسقط الشفعة.

طيب إن قال: أمهلوني، أنا أريد أن أشفع، لكن أمهلوني حتى أجهز مئة ألفٍ، فنقول: لك المهلة ثلاثة أيامٍ فقط، تُحضِر فيها الثَّمَن، فإن لم تأت بالثمن خلال ثلاثة أيامٍ؛ فيسقط حقك في الشفعة.

وبهذا نكون قد انتهينا من الشفعة، ونقف عند باب الوديعة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة، نبدأ بالأسئلة المكتوبة أولًا:

الأسئلة

السؤال: حكم غلبة الظن في الطهر من الحيض؛ لأنه قد يصعب اليقين؟

الجواب: العبادات يكفي فيها غلبة الظن، فالطهر من الحيض -بل حتى الطهر من النجاسات عمومًا- يكفي فيه غلبة الظن، فأمور العبادات كلها يكفي فيها غلبة الظن، ولا يشترط فيها اليقين، بل حتى عند الفطر في نهار رمضان، يكفي غلبة الظن بأن الشمس قد غربت، ولا يلزم اليقين؛ ولهذا جاء في حديث أسماء رضي الله عنها قالت: “أفطرنا على عهد رسول الله في يوم غيمٍ، ثم طلعت الشمس” [22]، فكونهم أفطروا في يوم غيمٍ، هذا بناءً على غلبة الظن؛ ولهذا طلعت الشمس؛ فهذا يدل على أن هذا هو العمل عند الصحابة .

فإذنْ أمور العبادات كلها لا يشترط فيها اليقين، وإنما يكفي فيها غلبة الظن.

السؤال: من أراد أن يجمع في السفر، فلم يُصلِّ في أول وقت الظهر، بل أخر الجمع إلى الساعة الثانية مثلًا، هل فعله صحيحٌ، أو لا بد من الصلاة في أول وقت الظهر، أو أول وقت العصر؟

الجواب: فعله صحيحٌ، إذا أراد أن يجمع في أي جزءٍ من وقت الظهر أو أي جزءٍ من وقت العصر، فجمعه صحيحٌ، إذا كان في وقت الظهر؛ يكون جمع تقديمٍ، وإذا كان في وقت العصر؛ يكون جمع تأخيرٍ.

السؤال: ما حكم التعامل مع الشركات التي تشترط غرامة تأخيرٍ، وتدفع في وجوه البر؟

الجواب: نعم، هذا الشرط -شرط غرامة التأخير، ودفع غرامة التأخير لوجوه البر، وعدم أخذ المشترط لهذه الغرامة- هذه مسألةٌ خلافيةٌ بين المعاصرين:

  • فمن المعاصرين من أجاز هذا الشرط باعتبار أن الدائن لا يأخذ هذه الغرامة، وإنما ينفقها في وجوه البر، ومِن أبرز من ذهب إلى هذا: (أيوفي)، هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية.
  • والقول الثاني: أنه لا يجوز، حتى وإن كان الدائن يريد أن يصرفها في وجوه البر؛ وذلك لأن المدين لا يجوز أن يزاد عليه في الدين بسبب تأخره، وإنما إذا كان موسرًا يجب عليه أن يسدد، وإذا كان معسرًا يجب أن ينظر، وأما أن يؤخذ منه ربا، ثم يقال: يتصدق به في وجوه البر، فلا يجوز، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي عليه كثيرٌ أيضًا من العلماء المعاصرين، أنه لا يجوز فرض غرامة تأخيرٍ على المدين عند تأخره عن السداد، حتى لو كان الدائن سيصرف هذه الغرامة في وجوه البر.

السؤال: أنا معاقٌ، وأجد صعوبةً في دخول دورة المياه، مع خطر التعرض للسقوط، هل أتيمم؟

الجواب: إن وجدت من يساعدك على الوضوء؛ فإنك تتوضأ، أما إن لم تجد، أو كان عليك حرجٌ؛ فلك أن تعدل للتيمم، والقاعدة في هذا هي قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

السؤال: عندي مشاكل في المسالك البولية، تخرج قطراتٌ بعد التبول، ثلث ساعةٍ تقريبًا وتقف، ذهبت للطبيب، وأخذت أدويةً، وقال: القطرات التي تخرج بعد التبول ليس لها علاجٌ معروفٌ، فما الحكم؟

الجواب: صاحب سلس البول يتوضأ، ولا يضره خروج البول بعد ذلك، لا يضر خروج قطرات البول بعد ذلك، والقول الراجح: أنه يستحب أن يتوضأ عند دخول وقت كل صلاةٍ، ولا يجب، كما هو مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية وجمعٍ من المحققين من أهل العلم.

لكن سؤال الأخ الكريم ليس عن سلس البول، هو ما قال: عنده سلسٌ، هو يقول: إن قطرات البول تخرج لمدة ثلث ساعةٍ، ثم تتوقف، فهذه من المسائل المشكلة، لو كان حاله كحال سلس البول؛ حكمه واضحٌ، لكن الآن هو ليس معه سلس بولٍ، إنما قطرات البول تخرج مدةً ثم تتوقف، فإذنْ لا يعطى حكم صاحب السلس، وإنما يقال: هذا رجلٌ قد ابتلي، فيتقي الله تعالى ما استطاع، إن أمكن وتيسر أن يجعل مثلًا تبوله في غير وقت إقامة الصلاة؛ فهذا هو الأولى، إن لم يتيسر هذا؛ فلا حرج عليه، يكون هذا عذرًا له في ترك الجماعة، لكن عليه أن يحرص على ألا يشغل باله بهذا الموضوع؛ لأن إشغال الفكر يؤدي للوسواس، فتتحول المسألة إلى وسواسٍ، فنقول: إن هذا يتقي الله تعالى ما استطاع، يحرص على أن يفعل الأسباب؛ من عصر الذكر، ونحو ذلك، وإذا فعل الأسباب يغسل ذكره، وكما ورد عن ابن عباسٍ يأخذ كفًّا من ماءٍ، ويرش بها الملابس الداخلية، يرش بها السراويل، وحتى لو خرج منه شيءٌ؛ يظن أنه قد كان ذلك من أثر هذا الماء، ويقطع تفكيره في الموضوع، إذا فعل هذه الأسباب؛ فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى.

السؤال: ما هو القرين؟ وكيف التعامل معه، حيث تأتيني وساوس ولا أدري؟

الجواب: نعم، كل إنسانٍ معه قرينٌ، ومعه شيطانٌ؛ ولهذا لما قال النبي لعائشة رضي الله عنها: أتاك شيطانك؟، قالت: وأنت أليس لك شيطانٌ؟ قال: بلى، ولكن أعانني الله عليه فأسلم [23]، فالقرين الذي كان مع النبي عليه الصلاة والسلام أسلم، فلا يأمره إلا بخير [24].

لكن مع كل إنسانٍ من بني آدم شيطانٌ، وهذا الشيطان متفرغٌ لإضلاله، لكن كيده ضعيفٌ، كيد الشيطان ضعيفٌ، فإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم؛ خنس وانكف، وهرب وانقبض، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200]، فإذا أتتك وساوس، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ ستجد أن الوساوس تنقشع عنك مباشرةً وتذهب، حتى لو كنت داخل الصلاة، إذا أتتك الوساوس، هجمت عليك؛ قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ ولهذا جاء رجلٌ للنبي ، فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد لبَّس عليَّ صلاتي، حتى لا أدري ما أقول، يعني: بلغت معه الوساوس إلى هذه الدرجة، أنه لا يدري ما يقول، فقال له النبي : ذاك شيطانٌ يقال له خِنزَب، فإذا وجدت ذلك؛ فاتفل عن يسارك ثلاثًا، وتعوذ بالله منه، قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني [25].

هذا علاجٌ عظيمٌ نافعٌ يغفُل عنه كثيرٌ من الناس، إذا جاءتك الوساوس في الصلاة؛ قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سواءٌ كنت في القيام، أو في الركوع، أو في السجود، أو في أي موضعٍ من مواضع الصلاة، وهذا لا يضر؛ لأنه من جنس الذكر، إنما الممنوع كلام الآدميين، وأما الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وأيضًا قول الحمد لله عند العطاس، هذا لا بأس به، هذا من جنس الذكر، هذا مشروعٌ.

فإذنْ نقول: ينبغي أن يحرص المسلم على الاستعاذة بالله من الشيطان: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200]، كلما أتتك وساوس؛ قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو قل: رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ ‌مِنۡ ‌هَمَزَٰتِ ٱلشَّيَٰطِينِ ۝ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحۡضُرُونِ [97-98].

السؤال: ما حكم معصية الوالدة في اختيار التخصص في الجامعة؟

الجواب: ضابط طاعة الوالدين: أن الوالدين تجب طاعتهما إذا أمرا بما فيه منفعةٌ لهما، وليس فيه ضررٌ على الولد من ابنٍ أو بنتٍ، وأما إذا أمرا بما لا منفعة لهما فيه، أو على الابن أو البنت ضررٌ؛ لا تجب طاعتهما؛ لأن القاعدة في هذا قول النبي : إنما الطاعة في المعروف [26].

فكون الأب أو الأم يطلب من ابنه أن يدخل تخصصًا، والابن أو البنت لا يرغب هذا التخصص، لا تجب طاعته في ذلك؛ لأن طاعته هنا ليست من المعروف، لكن مع ذلك كما قال ربنا سبحانه: فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، قال ذلك فيما إذا كان الوالدان يأمران ولدهما بالشرك، قال: فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].

هكذا أيضًا في هذا نقول: لا يلزمك أن تطيع أباك وأمك في اختيار التخصص، لكن صاحبهما في الدنيا معروفًا، وارفق بهما، وتلطف بهما، وبيِّن وجهة نظرك، لكن لا يلزمك أن تطيعهما في ذلك.

الطالب:

الشيخ: هذا ضابط ابن تيمية رحمه الله: أن يأمر الوالدان ولدهما بما فيه نفعٌ لهما ولا مضرة فيه على الولد.

أما إذا كان ما لهما نفعٌ فيه، أحيانًا بعض الوالدين يتعنت، أو أنه مثلًا بعضهم يكره التدين، ما يريد ابنه مثلًا يعمل أعمالًا صالحةً من صيام نافلةٍ، من مثلًا حفظ قرآنٍ، من..، فهنا لا تلزم طاعتهم، أو أن الابن عليه، أو البنت عليها ضررٌ، فهنا لا تلزم الطاعة، وأما إذا لم يكن عليه ضررٌ، وكان للأب أو الأم منفعةٌ في هذا الأمر؛ فتجب الطاعة.

السؤال: ما حكم البول قائمًا؟

الجواب: البول قائمًا يجوز بشرطين:

  • الشرط الأول: أمن انكشاف العورة.
  • والشرط الثاني: أمن تلويث النجاسة، فإذا كان إذا بال قائمًا؛ أمن من أن تنكشف عورته؛ مثلًا بأن يكون داخل دورة المياه مثلًا، وأمن أيضًا من تلويث النجاسة؛ فلا بأس بأن يبول قائمًا، وقد جاء في حديث حذيفة : “أن النبي أتى سُباطة قومٍ فبال فيها قائمًا” [27]، رواه البخاري ومسلمٌ.

طيب، لعلنا نختم بهذا السؤال، وعندنا أيضًا أسئلةٌ أخرى سنجيب عنها في درس غدٍ إن شاء الله، غدًا سيكون في تكملة شرح “صحيح مسلمٍ” بعد المغرب إن شاء الله، وبين الأذان والإقامة ستكون إجابةً عن الأسئلة، فنختم بهذا السؤال:

السؤال: ما هي الأرحام التي تجب صلتها؟ وهل وسائل التواصل؛ كـ(الواتساب) تعتبر من الصلة؟

الجواب: الأرحام التي تجب صلتها محل خلافٍ بين أهل العلم، والقول الراجح: أنهم المحارم، وضابط ذلك: أنك لو افترضت أحدهم ذكرًا والآخر أنثى؛ لم يجز له أن يتزوج بها، فيشمل ذلك: الوالدين وإن علوا، والأولاد وإن نزلوا، والإخوة والأخوات، سواءٌ كانوا أشقاء، أو من أبٍ، أو من أمٍّ، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، هؤلاء تجب صلتهم، ويأثم الإنسان بترك صلتهم، من عداهم تُستحب، مثلًا أبناء الأعمام تستحب؛ لذلك لو افترضت أحدهم ذكرًا والآخر أنثى جاز له أن يتزوج بها، تستحب ولا تجب، أبناء الأخوال تستحب ولا تجب، أبناء الخالات تستحب ولا تجب.

والدليل لهذا: أن النبي نهى عن أن يُجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها [28]؛ لأن هذا الجمع مظنةٌ لقطيعة الرحم، وقطيعة الرحم مُحرمةٌ، لكن لم ينه النبي عن الجمع بين بنات الأعمام، ولا بنات الأخوال، ولا بنات الخالات، فلو كانت تجب صلتهم؛ لنهى النبي عن الجمع بينهم، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

وأما قول الأخ السائل: هل وسائل التواصل؛ كـ(الواتساب)، تعتبر من الصلة؟

نعم، تعتبر من الصلة؛ لأن ضابط صلة الرحم المرجع فيه للعرف، ما عده الناس صلةً؛ فهو صلةٌ، وفي وقتنا الحاضر وجود مثلًا مجموعةٍ على (الواتساب) يدخل فيها الأرحام، ويكون فيه تواصلٌ معهم، وإلقاء التحية عليهم، وتهنئتهم في المناسبات، وتفقد أحوالهم، وإرسال المقاطع المفيدة في هذه المجموعة، هذا يدخل في صلة الرحم؛ لأن صلة الرحم المرجع فيها للعرف.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1742، ومسلم: 66.
^2 رواه مسلم: 137.
^3 رواه البخاري: 3470، ومسلم: 2766.
^4 رواه أبو داود: 3403، والترمذي: 1366، وابن ماجه: 2466، وأحمد: 17269.
^5 رواه أبو داود: 3073، والترمذي: 1378، وقال: حديث حسن غريب.
^6 رواه البخاري: 1477، ومسلم: 593.
^7 رواه البخاري: 5225، وهو باللفظ المذكور عند الترمذي: 1359.
^8 رواه أبو داود: 3570، وابن ماجه: 2332، ومالك: 37 -واللفظ له- وأحمد: 18606.
^9 رواه الدارقطني: 3385، والبيهقي في السنن الكبرى: 17693.
^10 رواه البخاري: 1499، ومسلم: 1710، بنحوه.
^11, ^20 سبق تخريجه.
^12 رواه أبو داود: 4259، وابن ماجه: 3961، وأحمد: 19663.
^13 رواه أحمد: 21064.
^14 رواه مسلم: 140.
^15 رواه ابن جرير الطبري في تفسيره: 11/ 673.
^16 رواه مسلم: 969.
^17 رواه البخاري: 2213.
^18 رواه البخاري: 6978.
^19 رواه أبو داود: 3517.
^21 رواه ابن ماجه: 2500.
^22 رواه البخاري: 1959.
^23 رواه مسلم: 2815.
^24 رواه مسلم: 2814.
^25 رواه مسلم: 2203.
^26 رواه البخاري: 7145، ومسلم: 1840.
^27 رواه البخاري: 224، ومسلم: 273.
^28 رواه البخاري: 5109، ومسلم: 1408.
zh