عناصر المادة
- كتاب الشركة
- تعريف الشركة
- مشروعية الشركة
- أقسام الشركة
- أقسام العقود
- ما نوع عقد الشركة؟
- أقسام شركة العقود:
- القسم الأول: شركة العنان
- تعريف شركة العنان
- شروط شركة العِنان
- حكم الشركة إذا فسدت وربح الشريكان
- القسم الثاني: شركة المضاربة
- تعريف المضاربة
- شروط المضاربة
- حكم ضمان الربح في المضاربة
- حكم المضاربة إذا فسخت وكان المال عَرَض
- مسألة نقل عبء الإثبات على المضارب
- حكم الجمع بين الربح في المضاربة والأجر
- القسم الثالث: شركة الوجوه
- القسم الرابع: شركة الأبدان
- القسم الخامس: شركة المفاوضة
- أقسام شركة المفاوضة
- قواعد مهمة في الشركات:
- باب المساقاة
- الأسئلة
النبي يقول: مَن يُرِد اللهُ به خيرًا يُفقِّهه في الدين[1]، إذا وجدت من نفسك حرصًا على التفقه في الدين، وحرصًا على طلب العلم، ومحبة لذلك، فهذه أمارة إن شاء الله على أنه أريد بك الخير، ومفهوم هذا الحديث: أن من لم يُرَد به الخير لا يُوفَّق للفقه في الدين.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
حياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي، وهو الدرس الثالث والعشرون من هذا العام الهجري، في يوم الإثنين الحادي عشر من شهر شعبان، من عام ألف وأربعمائة وثلاثة وأربعين للهجرة.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا، اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أصول، وبك أحول، وإياك أستعين.
كتاب الشركة
ننتقل بعد ذلك لـ”السلسبيل في شرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى كتاب الشركة، وهذا الكتاب -يعني الشركة- من الأبواب المهمة، والمتعلقة بالواقع المعاصر؛ وذلك لأن الاقتصاد المعاصر يقوم في مجمله على الشركات، الشركات هي عماد الاقتصاد؛ ولذلك لا بد من ضبط أبرز أحكامها وقواعدها.
تعريف الشركة
معنى الشركة في اللغة: المُخالَطة في شيء، يقال: اشتركنا بمعنى: تشاركنا، واشترك الرجلان وتشاركا، يعني صارا فيه شركاء.
أما تعريفه في اصطلاح الفقهاء، فأحسن ما قيل في التعريف: الاجتماع في استحقاق أو تصرف. وهذا تعريف الموفق في “المغني”؛ وذلك لكونه يجمع بين نوعي الشركة؛ شركة الأملاك، وشركة العقود، كما سيأتي الكلام عنها.
فإن شركة الأملاك هي المقصودة في قوله “الاجتماع في استحقاق”، “أو تصرف” المقصود به شركة العقود، وسنتكلم عنها بعد قليل إن شاء الله.
الاشتراك بين الناس، سواء كانت شركة أملاك أو عقود، موجود من قديم الزمان، وقد ذكر الله تعالى ذلك في قصة داود: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ يعني: الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24].
مشروعية الشركة
والشركة ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب الآية السابقة، ومنها أيضًا: قول الله تعالى في ميراث الإخوة لأم: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ أي: فإن كان الإخوة لأم أكثر من واحدٍ، فهم شركاء في الثلث: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً؛ يعني: لا ولد له، ولا والد ذكر وَلَهُ أَخٌ يعني: لأم، أو أخت لأم فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12].
وقوله: شُرَكَاءُ يدل على أن الإخوة لأمٍّ متساوون، فالأنثى تأخذ مثل الذكر، بخلاف الإخوة لأب أو الإخوة الأشقاء، فالذكر له ضعف الأنثى، لكن الإخوة لأم يتساوى الذكر والأنثى؛ لأن الشركة تقتضي التسوية، والله تعالى قال: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ وهذا محل إجماع.
من السنة يُروى حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام عند أبي داود وغيره، وهو حديث ضعيف، يقول الرب : أنا ثالثُ الشريكين، ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خانه خرجت من بينهما[2] لكنه ضعيف.
ويعني: أقف هنا وقفة:
الأحاديث التي في الشركة ضعيفة، جلها ضعيف، معظمها أحاديث ضعيفة؛ ولذلك فالذي ينطلق في التفقه من كتب الحديث تفوت عليه مسائل كثيرة، تفوت عليه معظم مسائل الشركة، يعني الشركة ما فيها إلا حديث أو حديثان، أو أحاديث قليلة معظمها ضعيف من جهة الإسناد، فستفوت عليه مسائل وأحكام الشركة.
ولذلك؛ الطريقة الصحيحة للتفقه: أن تنطلق من كتب الفقه، وتربطها بالحديث، هذه الطريقة الصحيحة، يعني نأتي مثلًا للشركة، نأخذ الأحاديث الواردة فيها، حتى لو كانت الأحاديث ضعيفة، نعلق عليها، نبين كلام العلماء عنها، ونذكر أيضًا الأحكام المبنية على النظر، وعلى التعليل، فيكون التفقه أوسع، بخلاف ما إذا اقتصرنا على ما يدل عليه هذا الحديث.
لو انطلقنا من كتب الحديث، نأخذ الأحاديث الواردة في الشركة، وننطلق منها، ويفوت طالب العلم مسائل كثيرة في أبواب الشركة، فهذا مثال لما ذكرت من أن أفضل طريقة للتفقه: أن تنطلق من كتب الفقه، وتربطها بالحديث، لا العكس، لا أن تنطلق من كتب الحديث وتربطها بالفقه؛ لأنك إذا فعلت ذلك ستفوتك مسائل وأحكام كثيرة.
وقد أجمع العلماء على جواز الشركة في الجملة، لكن اختلفوا في أنواع، منها:
أقسام الشركة
أشرت قبل قليل إلى قسمي الشركة، وهما: قسم شركة الأملاك، وشركة العقود؛ شركة الأملاك يعني: أن يشترك شخصان فأكثر في استحقاق، استحقاق مالي، إما بطريق الإرث، أو بطريق الهبة، أو نحو ذلك.
يعني مجموعة ورثة اشتركوا في الميراث، فهذه شركة أملاك، أو مثلًا مجموعة وهبوا مالًا، اشتركوا في هذه الهبة، أو اشتروا مالًا واشتركوا فيه، هذه تسمى شركة أملاك، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى عن الإخوة لأم: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12].
شركة العقود، القسم الثاني: شركة العقود هي المقصودة في هذا الباب، يعني: يتعاقد شخصان فأكثر بمال أو عمل، أو مال من أحدهما وعمل من الآخر. وهذه هي المقصودة في هذا الباب، التي يتكلم عنها الفقهاء في هذا الباب، وهي: شركة العنان، والمضاربة، والوجوه، والأبدان. وسنتكلم عنها إن شاء الله بالتفصيل.
قال:
وهي.
يعني: شركة العقود.
خمسة أنواع.
وبعضهم يعبر خمسة أقسام، ولا مشاحة في الاصطلاح.
كلها جائزة ممن يجوز تصرفه.
الأصل في الشركة الجواز، لكن لا بد أن يكون ذلك ممن يجوز تصرفه، وهو: الحر، المكلف، الرشيد، فالرقيق لا يصح أن يكون شريكًا، ولا كذلك المجنون، ولا الصبي.
وكذلك لا بد أيضًا: أن يكون رشيدًا، فالسفيه أيضًا لا يصلح أن يكون شريكًا. لكن ما نوع عقد الشركة من جهة اللزوم وعدمه؟
أقسام العقود
العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
- عقود لازمة، مثل: البيع، والإجارة.
- وعقود جائزة، مثل: الوكالة.
- وعقود لازمة من وجه وجائزة من وجه آخر، مثل: الرهن، لازم في حق الراهن، وجائز في حق المرتهن.
ما نوع عقد الشركة؟
يقول الفقهاء: إن عقد الشركة جائز وليس لازمًا، فيجوز لكل من الشركاء الفسخ، وهذا قول عامة أهل العلم في الجملة، وعللوا لذلك، قالوا: إن أكثر الشركات قائم على توكيل واحد من الشركاء لشركائه في التصرف في ماله، والوكالة في أصلها جائزة، فإذن الشركة تقوم على الوكالة، والوكالة جائزة، فلذلك الأصل في عقد الشركة أنه عقد جائز.
ولكن قد يترتب على ذلك أحيانًا، إذا قلنا: الشركة عقد جائز، يترتب في المضاربة بصفة خاصة الضرر، فلو أن رجلًا أعطى آخر مبلغًا من المال، أعطاه مثلًا مليون ريال، وشرع المضارب في العمل، فقال رب المال: فسختُ، أليست المضاربة عقدًا جائزًا؟ فسخت الشركة، فالمضارب سيتضرر، والآن شَرع في العمل وأعد العدة وبذل جهدًا كبيرًا، فكيف يفسخ بعد شروعه في العمل؟ يلحقه ضرر كبير.
ولذلك؛ ذهب بعض الفقهاء إلى أن المضارب إذا شرع في العمل، فإن المضاربة ستصبح لازمة، انتبه لهذه المسألة، هذه ليست موجودة في “السلسبيل”، إلى أن المضارب إذا شرع في العمل تصبح المضاربة لازمة إلى حين التنضيض الحقيقي أو الحُكمي، وهذا هو مذهب المالكية، خلافًا للجمهور؛ الحنفية والشافعية والحنابلة، يقولون: إنها جائزة مطلقًا.
المالكية يقولون: هي لازمة، إلا إذا شرع المضارب في العمل، فتصبح المضاربة لازمة إلى حين التنضيض الحكمي أو الحقيقي؛ لأن الفسخ بعده قد يُفوِّت على الطرفين مقصودَهما، الفسخ بعد الشروع في العمل قد يفوت على الطرفين المقصود، وهو الربح، وقد يؤدي إلى ضياع جهود المضارب.
وهذا قد اعتمدته المعايير الشرعية في أحد المعايير الصادرة عن هيئة المراجعة والمحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية، اعتمدوا مذهب المالكية في هذا، وهو الأقرب والله أعلم؛ لأن فيه رفعًا للضرر، خاصة عن المضارب، والنبي يقول: لا ضرر ولا ضِرَارَ[3] فيكون الأقرب -والله أعلم- هو الاستثناء الذي قرره المالكية.
وكذلك أيضًا إذا اتفق الطرفان، يعني رب المال والمضارب، على تأقيت المضاربة، يعني على أن تكون مؤقتة، فحينئذٍ تكون لازمة إلى حين التنضيض، أو حين انتهائها؛ وذلك لأن المضاربة توكيل، والتوكيل يحتمل التخصيص، وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة، خلافًا للمالكية والشافعية.
الحنابلة والحنفية يرون جواز تأقيت المضاربة، وهذا أقرته المعايير الشرعية أيضًا، وأقره المجمع الفقهي الإسلامي الدولي، وعلى هذا نقول: الخلاصة: أن عقد الشركة عقد جائز، لكل واحد من الشريكين أو الشركاء الفسخ، إلا في حالتين:
- الحال الأولى: إذا شرع المضارب في العمل، فإن عقد المضاربة يكون عقد لازمًا إلى حين التنضيض الحقيقي أو الحكمي.
- الحال الثانية: إذا كانت المضاربة مؤقتة، فإن عقد المضاربة يكون لازمًا، كما هو المذهب عند الحنفية والحنابلة، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وهو المعتمد عند المعايير الشرعية، وكذلك أيضًا عند المجمع الفقهي.
إذن، المضاربة عقد جائز، إلا في هاتين الحالتين:
الحالة الأولى: إذا شرع المضارب في العمل إلى حين التنضيض، والحالة الثانية: إذا كانت المضاربة مؤقتة.
أقسام شركة العقود:
طيب ننتقل بعد ذلك لأقسام شركة العقود، قال:
القسم الأول: شركة العنان
أحدها: شركة العنان.
العِنان بكسر العين، وليس العَنان، سُميت بذلك لتساوي الشريكين في المال والتصرف؛ لماذا سميت عِنانًا؟ أخذًا من عِنان الفرس، فكأن الشريكين تساوَيَا -يعني في أعمالهما- كتساوي الفارسين بعناني فرسيهما.
تعريف شركة العنان
وتعريف شركة العنان اصطلاحًا، عرفها المصنف قال:
هي أن يشترك اثنان فأكثر في مالٍ يتَّجِران فيه، ويكون الربح بينهما، بحسب ما يتفقان عليه.
يعني: يكون من كل من الشريكين مال وعمل، ويكون الربح بحسب ما يتفقان عليه، مثلًا: اشترك رجلان في فتح محل، ودفع كل منهما مبلغًا ماليًّا، ويعملان فيه بأنفسهما، فهذه شركة عِنان.
شروط شركة العِنان
قال:
وشروطها أربعة:
الأول: أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين: الذهب والفضة، ولو لم يتفق الجنس.
وهذا الشرط يذكره الفقهاء في جميع الشركات، احترازًا من أن يكون رأس المال عروضًا، يقول: لا بد أن يكون رأس المال نقدًا وليس عروضًا؛ لأن النقدين هي قيم المتلفات، وأثمان المبيعات.
وقوله: (من النقدين المضروبين)؛ يعني بذلك: الدنانير والدراهم، كان الناس من قديم الزمان يتعاملون بالدنانير والدراهم، الدنانير أصلها الذهب، والدراهم أصلها الفضة، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، ويقول بالنسبة للدنانير: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يعني: وهو المال الكثير يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75]، وبالنسبة للدراهم قال: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف:20] كلها وردت في القرآن، الذهب والفضة، والدنانير والدراهم.
الآن قامت الأوراق النقدية مقام الذهب والفضة، وكانت في البداية لها غطاء، وأصبحت في الوقت الحاضر ليس لها غطاء كامل، وإنما ترجع لأمور أخرى، ليس المجال للحديث عنها، يعني أصبح الغطاء ليس كاملًا.
لكن، هل يصح أن يكون رأس مال الشركة من العروض؟
هذا محل خلاف بين الفقهاء، فظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح؛ لأنه جَعَل كَوْنَ رأسِ المال من النقد شرطًا، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يُشترط أن يكون رأس المال نقدًا، بل يصح أن يكون من العروض؛ لأن مقصود الشركة هو تصرفهما في المالين جميعًا، وكون ربح المالين بينهم، وهذا كما يحصل في النقد يحصل في العروض. وهذا هو القول الراجح، وهذا أيضًا عليه عمل المسلمين من قديم الزمان، ويشبه أن يكون إجماعًا عمليًّا.
يعني في بعض المسائل، لا يسع الناسَ إلا هذا القولُ، مثل هذه المسألة، لا يسع الناس إلا القول بجواز أن يكون رأس المال من العروض، ومثل مسألة: هل يُشترط لِلُزوم الرهنِ القبضُ؟
لا يسع الناس إلا قول المالكية، وهو أنه لا يُشترط للزوم الرهن القبض، كذلك أيضًا الاستصناع، لا يَسَعُ الناسَ إلا قولُ الحنفية، وعليه إجماعٌ عمليٌّ، فنجد أن بعض المسائل يكاد يكون عليها إجماع عملي من قديم الزمان، يعني الآن من الذي يقول: بأن الاستصناع يُشترط فيه ما يُشترط في السَّلَم؟
ما فيه أحد الآن، ما فيه أحدٌ عالم بارز يقول بذلك، فهو إجماع عملي، إجماع عملي من المسلمين على قول الحنفية، وهو أن الاستصناع عقد مستقلٌّ بذاته، ويجوز معه تأجيل رأس المال أو بعضه.
وكذلك أيضًا في هذه المسألة التي بين أيدينا، فبعض المسائل يتجه عَمَلُ الناس لقولٍ من الأقوال بسبب عُسْر القول الآخر أو الأقوال الأخرى.
يبقى التعليل الذي علَّلوا به: مِن أن النقدين قِيَمُ مُتلَفاتٍ وأثمانٌ للمبيعات، هذا غير مُسلَّم، هذا يدل على أن الأَوْلى أن يكون رأس المال نقدًا، لكن لا يدل على أنه إذا كان عروضًا أن الشركة لا تصح.
الشرط الثاني: أن يكون كل من المالين معلومًا.
فلا بد أن يكون معلومًا قدرًا وصفة؛ لأنه لا بد عند فسخ الشركة من الرجوع لرأس المال، ومع الجهالة لا يُعرف ذلك، والنبي نهى عن الغرر.
الشرط الثالث: حضور المالين، ولا يُشترط خَلْطهما، ولا الإذن في التصرف.
يعني: أن يكون رأسُ مال الشركة حاضرًا، فلا يصح الاشتراك في دَينٍ أو مالٍ في الذمة.
وقوله: (ولا يُشترط خَلْطهما)؛ يعني: لا يُشترط لصحة شركة العِنان خَلْطُ المالين؛ لأن المقصودَ هو الاشتراك في المال والعمل جميعًا.
وقوله: (ولا الإذن في التصرف)؛ يعني: لا يُشترط أن يأذن كلُّ واحدٍ من الشريكين لصاحبه في التصرف في ماله؛ لدلالة لفظ الشركة عليه.
الشرط الرابع: أن يشترطا لكلِّ واحدٍ منهما جزءًا معلومًا من الرِّبح، سواءٌ شَرَطَا لكلِّ واحدٍ منهما على قَدْر ماله، أو أقل أو أكثر.
يعني: لا بد مِن اشتراطِ جزءٍ مِن الرِّبح، لا بد أن يكون معلومًا مُشَاعًا، إما بنسبة؛ بالربع، بالثلث، بالنصف، أو بالنسبة المئوية: خمسة في المائة، عشرة في المائة، عشرين في المائة، ونحو ذلك؛ لأن الربح مشترك بينهما، فلا يتميز نصيبُ كلِّ واحدٍ منهما إلا بالتحديد.
لكن، لا يجوز أن يكون الربح بمبلغ مقطوع، فلا يجوز مثلًا أن يقول: خذ هذا المال ضارِبْ به، أعطيك مائة ألف تضارب بها على أن تعطيني كل شهر ألفين. هذا لا يجوز؛ لأن هذا يقلبها من كونها شركة أو كونها مضاربة إلى كونها قرضًا ربويًّا، فتَتحوَّل بهذا التحديد إلى كونها قرضًا ربويًّا؛ لأن هذا هو الفيصل الذي يُفرِّق به بين الشركة وبين القرض الربوي.
في الشركة يكون الربح بنسبة مشاعة، ولا يضمن، بينما القرض الربوي يكون بنسبة مقطوعة، أو يكون مضمونًا.
فمتى فُقد شرط فهي فاسدة.
نحن وافقنا المؤلف في الشروط إلا الشرط الأول، قلنا: إن الصواب عدم اشتراطه.
حكم الشركة إذا فسدت وربح الشريكان
قال المصنف:
وحيث فسدت، فالربح على قَدْر المالين، لا على ما شَرَطَا، لكن يرجع كلٌّ منهما على صاحبه بأجر نصف عمله.
يعني: إذا فسدتِ الشركة وربح الشريكان، فالربح على قدر المالين، وليس على ما اشترطا؛ لأن الربح استُحق من المالين، فكان على قدرهما.
وأما بالنسبة للعمل، كل واحد منهما يرجع على صاحبه بأجر نصف عمله، إذا كانا قد عملا في الشركة، فالعمل يقابله عوض، فإذا قُدِّر أنَّ أحدهما يعني عمله يقدر بعشرة، يرجع على صاحبه بخمسة، والآخر إذا كان بخمسة يرجع على صاحبه باثنين ونصف، وهكذا.
وكلُّ عقدٍ لا ضمان في صحيحه، لا ضمان في فاسده إلا بالتعدي أو التفريط.
هذه قاعدة: كل عقد لا ضمان في صحيحه، لا ضمان في فاسده إلا بالتعدي أو التفريط.
ومثَّل المؤلِّفُ لهذا، فقال:
كالشركة، والمضاربة، والوكالة، والوديعة، والرهن، والهبة.
فهذه لا ضمان في صحيحها، فلا ضمان في فاسدها، وفي المقابل: كل عقد يجب الضمان في صحيحه، يجب الضمان في فاسده، مثل: البيع، والإجارة.
ولكلٍّ من الشريكين أن يبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، ويطالب ويخاصم، ويفعل، كلُّ ما فيه حظٌّ للشركة.
يعني هنا مشكولة: (ويفعل كل) ستكون مفعولًا به لـ(يفعل)، لكن يحتمل أن يكون: (ولكلٍّ من الشريكين… كل ما فيه)، يعني: تكون خبرًا محتملًا، يحتمل الوجهان، فإذا اعتبرناها خبرًا يكون التشكيل صحيحًا، وإذا اعتبرناها مفعولًا لـ(يفعل)، يكون التشكيل: (ويفعل كلَّ ما فيه حظ للشركة).
وذلك لأنه يُنفَّذ تصرُّف أحدهما بحُكم المِلك في نصيبه، وهو بحكم الوكالة في نصيب شريكه، فلكل من الشريكين إذنْ أن يتصرف بالبيع والشراء، والأخذ والإعطاء، والمطالبة والمخاصمة، في نصيبه على أنه مالك، وفي نصيب شريكه على أنه وكيل.
القسم الثاني: شركة المضاربة
ثم ذكر المصنف رحمه الله في القسم الثاني من أقسام الشركات: شركة المضاربة، فقال:
الثاني: المضاربة.
وهذا القسم من أهم الأقسام؛ لأنه أكثر الأقسام شيوعًا بين الناس.
والمضاربة سميت بذلك أخذًا من الضرْب في الأرض، وهو السفر للتجارة، وقد ذكره الله تعالى في قوله: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20]؛ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يعني: يطلبون الرزق.
وبعض الفقهاء يُسمِّي المضاربة القِرَاض، كما هو مشتهر عند المالكية، وبعضهم يسميها شركة المعاملة، ولا مشاحة في الاصطلاح.
تعريف المضاربة
أما اصطلاحًا، فقال:
وهي: أن يدفع مالَه إلى إنسانٍ لِيتَّجِر به ويكون الرِّبح بينهما بحسب ما يتفقان عليه.
هذا أحسنُ ما قيل في تعريفها، يكون من أحدهما المال ومن الآخر العمل، والربح يكون بحسب الاتفاق.
مثال ذلك: أعطيت رجلًا مائة ألف ريال، وقلت: اتَّجِر لي فيه على أن يكون الربح نصفان بيني وبينك، أو يكون الربح مثلًا لي سبعون في المائة؛ ولك ثلاثون في المائة، أو على أيةِ نسبةٍ تتفقان عليها، هذا لا بأس به.
وأجمع العلماء على جواز المضاربة، وما ذكرنا من أحكام شركة العنان ينطبق على شركة المضاربة، كل ما جاز للشريك عمله جاز للمضارب عمله.
شروط المضاربة
وشروطها ثلاثة:
أحدها: أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين.
الكلام في هذا الشرط كالكلام في الشرط الأول من شروط شركة العِنان، وذكرنا أن القول الراجح: أن هذا الشرط لا يُشترط، وأنه يَصِحُّ أن يكون رأس المال من العروض، وكذلك أيضًا في هذه المسألة لا يُشترط أن يكون رأس المال نقدًا، بل يصح أن يكون رأس مال شركة المضاربة من العروض.
الشرط الثاني، قال:
الثاني: أن يكون مُعيَّنًا معلومًا، ولا يُعتبَر قبضه بالمجلس ولا القبول.
يعني: لا بد أن يكون رأس مال المضاربة معينًا، فلا بد أن يكون معلومًا، ولا يصح أن يكون مجهولًا أو مبهمًا.
لكن، كذلك أيضًا لا يصح أن يكون رأس مال المضاربة دَينًا، لا يصح، فلو أن شخصًا يطلب آخر مثلًا مائة ألف، قال: يا فلان، المائة ألف هذه -ترى- رأس مال، ضارِبْ بها، والربح بيني وبينك نصفين. هذا لا يجوز، لا يصح أن يكون رأس مال المضاربة دَينًا، بل لا بد أن يكون نقدًا، وأن يكون معينًا معلومًا، أو يكون عروضًا، لكن لا يكون في الذمة؛ لأن المال الذي في الذمة لم يدخل في مِلك الدائن؛ لأنه لم يقبضه، وقد ذكر ابنُ المنذر الإجماعَ على ذلك.
(ولا القبول)؛ يعني: لا يُشترط لصحة المضاربة أن يتلفَّظ العامل بما يدل على القبول، بل يكفي في ذلك العرف، ومباشرة العامل للعمل والمتاجرة.
الشرط الثالث:
أن يشترطا للعامل جزءًا معلومًا من الربح.
لا بد من معرفة قَدْر الرِّبح للعامل، حتى لا يتسبَّب ذلك في الخلاف والمنازعة، الذي يُفضي للشحناء، وكما ذكرنا أنه لا بد من أن يكون الربح بنسبةٍ: إما بالثلث، وإما بالربع، أو النصف، أو يكون بنسبة مئوية: خمسة في المائة، عشرة في المائة، عشرين في المائة، وهكذا.
حكم ضمان الربح في المضاربة
ولا بد أيضًا عدم ضمان الربح، لا يجوز ضمان الربح في شركة المضاربة، ولا ضمان عدم الخسارة، بل تكون الشركة قابلة للربح والخسارة، الربح غير مضمون، أما لو ضمن عدم الخسارة أو ضمن الربح، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا يحولها ويقلبها إلى قرض ربوي.
فإذن، شركة المضاربة المشروعة: لا يُضمن فيها عدم الخسارة، ولا يُضمن فيها الربح، لكن كيفية قسمة الربح بحسب ما يتفق عليه رب المال مع المضارب.
فإن فُقد شرط فهي فاسدة، ويكون للعامل أجرة مثله.
إذا فسدت شركة المضاربة، فإنها تُفسخ ويكون للعامل أجرة المثل، سواء حصَّل الربح أو لم يحصله.
وما حصل من خسارة أو ربحٍ فللمالك.
وذلك لأنه نَمَاءُ مالِه ومِلْكِه.
وليس للعامل شراءُ مَن يَعْتِق على ربِّ المال.
هذه مسألة متعلقة بتجارة الرقيق، وهذه قد انقرضت في الوقت الحاضر، فيقول: إن العامل ليس له شراء مَن يَعتِق على رب المال، فإذا كان هذا الرقيق سيعتق على رب المال بسبب قرابة مثلًا، فإنَّ من ملك ذا رحم محرم عَتَق عليه، وهو إقرار بحُرِّية، ونحو ذلك، فليس له شراء هذا الذي سيعتِق على رب المال.
فإن فعل.
وشرى رقيقًا سيعتق على رب المال، فإنه يعتق هذا الرقيق، ويضمن العامل الثمن.
قال:
ولو لم يعلم.
حتى لو لم يعلم بأن هذا الرقيق سيعتق على رب المال، وبعض أهل العلم يقول: إنه إذا لم يعلم، فإنه لا يضمن؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يُفرِّط، وهذا هو الأقرب.
ولا نفقة للعامل، إلا بشرط.
الأصل أنَّ العاملَ ليس له إلا الربح الذي اتَّفق مع ربِّ المال عليه، ليس له إلا الربح الذي اتَّفق مع ربِّ المال عليه.
لكن، لو أن المُضارِب اشترط نفقة؛ فلا بأس بذلك، أو أن العرف دلَّ لذلك، دل على أن العامل في المضاربة يُعطَى نفقة؛ فلا بأس بهذا، إذا كان هناك شرطٌ أو عُرْفٌ فيُعمَل به.
قال ابن تيمية: ولا نفقة للمضارب إلا بشرطٍ أو عادة، يعني عرف، فإن شُرطت مطلقًا فله نفقةٌ مِثْلُ طعامه وكسوته، يعني ترجع للعرف أيضًا، مقدار النفقة.
فإن شُرطت مُطْلَقة واختلفا، فله نفقةُ مثلِه عرفًا من طعام وكسوة.
يعني: شُرط في المضاربة النفقةُ للعامل، لكنها مطلقة، واختلف العامل ورب المال في تحديد قدر النفقة، فالمرجع في ذلك للعرف؛ ولهذا قال: (فله نفقة مثله عرفًا)؛ وهذه يعني ليست فقط في المضاربة، يعني في جميع الأمور إذا حصل فيها اختلاف وليس هناك تحديد من الشرع ولا اللغة، فالمرجع في ذلك للعرف.
فلو أنك ركبت مع سيارةِ أجرةٍ مثلًا، ليوصلك إلى مكان معين، فلما أوصلك اختلفت أنت وإياه في الأجرة، فأنت تقول مثلًا: الأجرة خمسون، وهو يقول: الأجرة سبعون، فالمرجع في ذلك للعرف، عُرف الناس في أجرة، سيارة أجرة نقلت فلانًا من المكان الفلاني إلى المكان الفلاني، كم يعطيه أصحاب الأجرة عادة؟ فيُرجَع في ذلك إلى العرف.
ويقال: ليس لك إلا ما دل عليه العرف، إن كان دل العرف على أن له خمسين، فلا يُعطى إلا خمسين، فإن كان دل العرف على أن له سبعين، يُعطَى سبعين.
وهكذا لو أَتَيْتَ مثلًا بعاملٍ، وعَمِلَ لك عملًا ولم تتفق أنت وإياه على أجرة، ثم اختلفت أنت وإياه، فيكون له أجرةُ المِثل عُرْفًا.
قال:
ويملك العامل حصته من الربح بظهوره قبل القسمة، كالمالك، لا الأخذَ منه، إلا بإذنٍ.
العامل المُضارِب يملك حصته من الربح بمجرد الظهور، لكن ليس له الأخذ منه إلا بإذن رب المال، هذه هي القاعدة.
وإنما قلنا: يملك حصته بمجرد الظهور؛ لأن نصيب العامل من الربح مُشَاعٌ، لكنَّ مِلْكَه له غيرُ مستقرٍّ قبل القسمة، وليس له أن يقاسم نفسه بنفسه، فلا بد من إذن رب المال، فهو يملك الربح بمجرد الظهور، لكن ليس له الأخذ منه إلا بعد استئذان رب المال.
حكم المضاربة إذا فسخت وكان المال عَرَض
قال:
وحيث فُسِخَتْ والمالُ عَرَضٌ فرضي ربُّه بأخذه قَوَّمه ودَفَع للعامل حصته، وإن لم يرضَ فعلى العامل بيعُه وقَبْضُ ثمنه.
إذا فُسخت المضاربة بأيِّ سبب من الأسباب، وكان رأس مال المضاربة عروضًا، نفترض مثلًا أنه أقمشة، فرب المال له حالان:
إما أن يرضى بأخذ تلك العُرُوض، يأخذ هذه الأقمشة مثلًا، وتقوَّم: كم قيمتها؛ لكي يعرف مقدار الربح ويعطي العاملَ حصتَه من الربح.
الخيار الثاني: إذا لم يرضَ ربُّ المال بأخذ العروض، فتُباع تلك العروض، يقوم العامل ببيعها، يبيع مثلًا تلك الأقمشة، وبعدما يقبض ثمنها، يأخذ نصيبه من الربح بإذن رب المال، ويُعطي ربَّ المال حقه نقدًا.
والعامل أمين يُصدَّق بيمينه في قَدْر رأس المال.
العامل الذي هو المضارِب أمينٌ، والأصل في الأمين أنه لا يضمن، إلا إذا تعدَّى أو فرَّط، وأنه عند عدم وجود البيِّنة يُرجَّح كلامه ويُصدَّق، فيُصدق في قدر رأس المال، لو اختلفا في قدر رأس المال، إن كان هناك بينة، فالقول قول صاحب البينة، وإن كان ليس هناك بينة، فيُرجَّح جانب المضارِب العامل؛ لأنه أمين.
وأيضًا يُصدَّق في قَدْر الربح، يصدق أيضًا فيما إذا ادَّعى هلاك البضاعة أو الخسارة، قال:
وفي الربح وعدمه.
يعني: يُصدَّق في الربح، لو قال العامل: ربحتُ خمسين، فقال رب المال: لا، بل ربحتَ ستين، فإن كان هناك بينة فالقول قول صاحب البينة، وإن لم يكن هناك بينة فالقول قول العامل المضارب؛ لأنه أمين.
وفي الهلاك والخسران.
يُصدَّق أيضًا المضارب أو العامل في هلاك البضاعة بخسارته، إلا إذا كان هناك بيِّنة، وإذا لم يكن هناك بينة فالقول قول المضارِب.
يعني مثال ذلك: رجلٌ أعطى آخرَ مليون ريال، وقال: خُذْ هذه واتَّجِر بها في سوق الأسهم. ثم أَتَى بعد مدة وقال: والله ما ربحتُ، أو إني خسرت، أنت أعطيتني مليونًا، ما بقي -ترى- من المليون إلا تسعمائة ألف. فخاصمه رب المال، قال: لا، على الأقل أعطني رأس مالي.
إن كان هناك بينة على أن المضارب الذي هو العامل مفرط أو متعدٍّ، فالقول قول رب المال، وإن كان ليس هناك بينة فالقول قول المضارب، فيقال: ليس لك أنت يا رب المال إلا تسعمائة ألف؛ لأن هذا المضارِبَ أمينٌ، ومعنى كونه أمينًا أنه مُصدَّق، فأنت ائتمنته وأعطيتَه مالَك، فهذا يدل على أنه يُصدَّق في قوله بالخسارة، ويقول: إني خسرت، هذه شركة مضاربة، وقابلة للربح والخسارة، وأنا قد خسرت من غير تعدٍّ مني ولا تفريط.
ولذلك؛ لما حصل في بعض الأوقات في أزمات الأسهم، بعض أرباب الأموال رفعوا دعاوى على المضاربين؛ لأنها نزَّلت قيمة الأسهم نزولًا كبيرًا في بعض الأوقات، فرفعوا عليهم دعاوى، وهؤلاء المضاربون ليس منهم تعدٍّ ولا تفريط، وإنما سوق الأسهم كله نزل، فلماذا يُحمَّل هذا المضارب الخسارة؟!
إن كان هناك تعدٍّ أو تفريط من المضارب، فنعم، يتحمل تَبِعَةَ تَعَدِّيه أو تفريطه، لكن إذا لم يكن منه تعدٍّ ولا تفريط، وإنما الأسهم كلها نزلت، فليس لرب المال أن يُحمِّل هذا المضارب الخسارة، وإنما الخسارة على رب المال، وهذا المضارب إنما خسر جهده وتعبه فقط.
قال:
حتى لو أقر بالربح.
يعني: حتى لو أقر العامل بالربح، ثم ادَّعى تلفًا تسبَّب في خسارةٍ بعد الربح، ولا يوجد بينة، فالقول قوله، ولكن -طبعًا- في جميع المسائل التي قلنا: القول قوله، يكون قوله بيمينه.
قال:
ويُقبَل قول المالك في قدر ما شَرَط للعامل.
يعني: في المسائل السابقة كان القولُ قولَ المُضارِب العامل، الآن المؤلف يقول: لا، القول قول رب المال، في مسألة ماذا؟ (في قدر ما شرط للعامل).
لو قال رب المال: شرطتُ للعاملِ الربعَ، أو النصف، وقال العامل: لا، بل أنت شرطت كذا. واختلفا، فيقول المؤلف: إن القول قول رب المال؛ لأنه مُنكِر للزيادة، والأصل عدم الزيادة.
والقول الثاني في المسألة: أنه إذا لم يكن هناك بينة، فالقول قول المضارب العامل، إذا ادَّعى أجرةَ المثل؛ لأن الظاهر صدقه، أما إذا ادَّعى أكثرَ مِن أجرة المثل، فالقول قول المالك فيما زاد على أجرة المثل فقط.
وهذا هو القول الراجح والله أعلم، والموفق أشار لهذا، قال: إن ادعى العاملُ أجرةَ المثل، أو قدرًا يتغابن الناس به، فالقول قوله؛ لأن الظاهر صدقه، أما إن ادَّعى أكثرَ مِن ذلك، فالقول قول المالك؛ لأن الظاهر صدقه.
يعني مثلًا: لو أعطيتَ شخصًا مليون ريال ليستثمرها لك في العقار أو في الأسهم، واختلفتما في الشرط، أنت تقول: شرطتُ لك عشرةً في المائة، وهو يقول: لا، بل لي عشرون في المائة. إن وُجدت بينة فالقولُ قولُ صاحبِ البينة، وإن لم توجد بينة فالمؤلف يقول: إن القولَ قولُ رب المال، المالك، أنت أيها المضارب لك عشرة في المائة.
والراجح أن القول قول العامل إذا كان عشرين في المائة بقدر أجرة المثل في عرف الناس، طيب لو كان قدر أجرة المثل خمسة عشر في المائة، نقول: القول قول العامل في خمسة عشر في المائة، والخمسة في المائة القول قول المالك، الذي هو رب المال.
مسألة نقل عبء الإثبات على المضارب
طيب، فيه مسائل هنا -يعني- معاصرة لم تُذكر من ضمن المسائل: وهي مسألة نقل عبء الإثبات على المضارب، ما معنى نقل عبء الإثبات؟
يعني نحن قلنا: إن المضارب العامل إذا ادعى الخسارة، فإن كان هناك بينة فالقول قول صاحب البينة، وإن لم يكن هناك بينة فيُغلَّب جانب قول المضارب العامل في أنه قد خسر.
لكن لو أراد ربُّ المال من البداية أن ينقل عِبء الإثبات على المضارب، فيقول: إن خسرت فلا بد أن تُثبت لي بأنك قد خسرت، وإلا فالأصل أنك تضمن.
هذه المسألة -مسألة نقل عبء الإثبات من رب المال إلى المضارب- يعني مسألة خلافية، ومجمع الفقه الإسلامي قرر القول بأنه يجوز نقل عبء الإثبات على مستوى الشركات والبنوك ونحو ذلك، أما على مستوى الأفراد فلا يُنقل عبء الإثبات إلى المضارب؛ لماذا؟
لأن الشركات والبنوك والمؤسسات الكبيرة يسهل عليها أن تُثبت الخسارة، فلا تُصدَّق هذه المؤسسات والبنوك في دعوى الخسارة من غير بينة، فإذا قال هذا البنك أو الشركة: إننا خسرنا، نحن صحيح نضارب بأموالكم، لكنا خسرنا. طيب أعطونا البينة التي تدل على الخسارة.
من السهل على البنك أو الشركة أو المؤسسة أن تأتي بأوراق تدل على الخسارة، هذا سهل جدًّا بالنسبة لهم، لا يكلفهم شيئًا، الأوراق موجودة عندهم، والحسابات موجودة عندهم، فهو مجرد أن الشركة أو البنك يطلب من المحاسب القانوني أن يثبت ذلك لأرباب المال. فهو بالنسبة للشركات والبنوك والمؤسسات الكبيرة، نقل عبء الإثبات بالنسبة لهم يعني سائغ.
أما بالنسبة للأفراد، فالأصل أن المضارب أن القول قوله من غير حاجة لإثبات ذلك، الإثبات على رب المال، هو الذي يثبت أن المضارب تعدى أو فرط.
فإذن، مسألة نقل عبء الإثبات على المضارب، هذه نقول: لا بأس بها، لكن على مستوى البنوك والمؤسسات والشركات، وأما على مستوى الأفراد، فالأصل أن المضارب العامل أنه أمين، وإذا لم توجد بينة فيُرجَّح قوله في دعوى الخسارة وفي دعوى التلف.
حكم الجمع بين الربح في المضاربة والأجر
طيب هنا مسألة أخرى أيضًا معاصرة يكثر السؤال عنها، وهي: هل يجوز الجمع بين الربح في المضاربة والأجر؟
يعني أحد الشركاء يعمل في هذه الشركة، ويقول: أريد مرتبًا، أنا أعمل، أنتم أيها الشركاء الآخرون لا تعملون، أنا أريد أن أكون مديرًا لهذه الشركة، وأريد مع الربح، أنتم تعطونني ربحًا -مثلًا- عشرة في المائة، أريد راتبًا شهريًّا عشرة آلاف ريال؛ لكوني أعمل عملًا زائدًا عنكم، فهل يجوز الجمع بين الربح والأجرة؟
هذه المسألة خلافية، والفقهاء السابقون يقولون: إنه لا يجوز الجمع بين الربح في المضاربة والأجرة، ولكن مع وجود الشركات المعاصرة ذهب بعض العلماء إلى قول مُتَّجَهٍ، وهو أنه يجوز بشرط أن يكون عقد الإجارة عقدًا منفصلًا عن عقد المضاربة.
يعني هذا الشخص يعمل عملين، يعمل في هذه المضاربة، ويعمل أعمالًا أخرى غير أعمال المضاربة، فيقال: أنت يا فلان نعقد معك عقدين:
العقد الأول: عقد الشراكة، لك مثلًا عشرة في المائة، أو أكثر، أو أقل. العقد الثاني: عقد أجرة عمل، فلك كل شهر عشرة آلاف ريال على أعمال ليست من أعمال المضاربة، أعمال أخرى، فهذا لا بأس به، بحيث لا يرتبط أحد العقدين بالآخر.
يعني: لو خسرت الشركة، فأجرة هذا الرجل تمشي، يعني عشرة آلاف ريال هذه يستلمها كل شهر، سواء ربحت الشركة أو خسرت، ليس له علاقة بالربح والخسارة؛ لأنه يأخذ عشرة آلاف ريال مقابل عمله، وهو شريك مع بقية الشركاء بحصته.
فإذا كان ذلك بعقدين منفصلين فلا بأس به، وهذا هو الذي أقرته المعايير الشرعية، قالوا: لا يجوز الجمع بين الربح في المضاربة والأجرة، لكن إذا اتفق الطرفان على قيام أحدهما بعمل ليس من أعمال المضاربة، بأجر محدد بعقد منفصل عن عقد المضاربة، بحيث تبقى إذا تم عزله عن ذلك العمل، فلا مانع من ذلك شرعًا.
فإذن نقول: إذا احتيج لشخص يقوم بأعمال أخرى غير أعمال المضاربة، فيُعقَد معه عقد آخر، عقد إجارة لا علاقة له بعقد المضاربة، بحيث إن الشركة لو خسرت، فعقد الإجارة لا يتأثر.
فإذا كان بعقدين منفصلين فلا بأس، أما أن يكون ذلك بعقد واحد فهذا لا يجوز؛ لأنه يكون قد جمع بين الربح وبين الأجرة في عقد واحد، هذا لا يجوز، وعامة الفقهاء على عدم جوازه.
فانتبه لهذه المسألة! هذه المسألة ليست موجودة في “السلسبيل”، لكنها مسألة مهمة، ويكثر السؤال عنها.
يعني تكون هناك شركة، والشركاء يُكلِّفون أحدهم بأعمالٍ زائدة على أعمال المضاربة، ويقول: أنا ما عندي استعداد أن أعمل إلا بأجر، أعطوني راتبًا، فيقولون: نُعطيك راتبًا، راتبًا شهريًّا. نقول: هذا يجوز، لكن بشرط أن يكون بعقدين منفصلين، يعني عقد المضاربة مستقل عن عقد الأجرة.
فيعني كأننا نأتي برجل آخر، ونتعاقد معه على أن يقوم بهذه الأعمال بأجر معينٍ كلَّ شهر.
فإذن، هذا الرجل يعمل بصفتين: بصفة أنه مُضارِب أو رب مال في هذه الشركة، يعني بصفة أنه شريك. ويعمل بصفة أنه أجير. بعقدين منفصلين، إذا كان بعقدين منفصلين فلا بأس، أما أن يكون ذلك بعقد واحد فهذا لا يجوز؛ لأن الفقهاء يقولون: لا يجوز الجمع بين الربح والأجرة في عقد المضاربة، لكن لو كان ذلك بعقدين منفصلين فلا بأس.
القسم الثالث: شركة الوجوه
ننتقل بعد ذلك للقسم الثالث: شركة الوجوه، وفسَّرها المُصنِّف بقوله:
الثالث: شركة الوجوه، وهي: أن يشترك اثنان لا مال لهما في ربحِ ما يشتريان من الناس في ذِمَمِهما.
يعني: اثنان ليس لهما مالٌ، لكن لهما وجاهة عند الناس، فيشتركان فيما يشتريان من الناس في ذممهما، من غير أن يكون لهما رأس مال، وليس يستدينان.
يعني الاستدانة، نحن قلنا: إن الدَّين لا يصلح أن يكون رأس مال الشركة.
لكن، يشترك اثنان فأكثر فيما يشتريانه بجاههما وثقة التُّجَّار بهما، مِن غير أن يكون لهما رأس مال، على أنَّ ما اشترياه فهو بينهما بحسب ما اتفقا عليه، هذه تُسمى شركة وجوه.
ويكون المِلك والرِّبح كما شرطا، والخسارة على قَدْر المِلك.
يكون المِلك بحسب ما شرطا في العقد، وهكذا أيضًا الرِّبح، ولا يلزم أن يكون نصف النصف، ربما أحدهما أكثر وجاهة، فيقول: أنا لي الثلثان، والآخر لك الثلث، أو أكثر أو أقل.
كذلك الخسارة تكون على قَدْر المِلك.
وغالب مَن يحتاج لشركة الوجوهِ الفقراءُ الذين ليس عندهم رؤوسُ أموالٍ يتاجرون بها، وهي جائزة عند الحنابلة والحنفية.
القسم الرابع: شركة الأبدان
قال المصنف:
الرابع: شركة الأبدان، وهي: أن يشتركا فيما يتملكان بأبدانهما من المباح؛ كالاحتشاش، والاحتطاب، والاصطياد، أو يشتركا فيما يتقبلان في ذممهما من العمل.
شركة الأبدان معناها: أن يشترك اثنان في العمل بأبدانهما، ويكون الربح بينهما بحسَب ما يتَّفقان عليه.
والفرق بينها وبين شركة الوجوه: أنه في شركة الوجوه يأخذ الشريكان المالَ مِن شخصٍ ثالثٍ يعملان فيه، أما الأبدان فالشريكان يشتركان في العمل بأبدانهما، أو فيما يتقبَّلان من الأعمال.
والمُؤلِّف مثَّل بالاحتشاش والاحتطاب والاصطياد، يمكن أن نمثل مثلًا: اثنان اشتركا في فتح محل نجارة، كلٌّ منهما يعمل نجَّارًا، ويتفقان على الاشتراك بينهما على النصف فيما يحصلان، فهذه تُسمى شركة أبدان.
أو اشتركا مثلًا في اصطياد السمك، وكل يوم يقول: أنا آتي بما حصلت، وأنت تأتي بما حصلت، ونقسمه بيننا نصفين، فهذا لا بأس به، بل حتى لو اتفقا على ألا يكون بالنصف، هذا مثلًا معلم، والثاني غير معلم، يقول: هذا له الثلثان، وهذا له الثلث، لا بأس بذلك.
رُوي في ذلك حديث، لكنه ضعيف من جهة الإسناد، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، عن ابن مسعود، قال: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نُصِيبُ يومَ بدر، فجاء سعدٌ بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء[4]. هذا حديث ضعيف، وكما قلت في مقدمة الدرس: إن معظم أحاديث الشركة ضعيفة من جهة الإسناد، لكن الحديث مع ضعفِه العملُ عليه عند أهل العلم.
في شركة الأبدان لا يُشترط اتِّحاد الصنعة، تصح حتى مع اختلاف الصنائع، يعني لو كان أحدهما حدَّادًا، والآخر نجارًا، لا بأس، الأمر في ذلك واسع.
القسم الخامس: شركة المفاوضة
القسم الخامس من أقسام الشركة، هذا يضيفه بعض الفقهاء، وبعضهم يكتفي بالأقسام الأربعة السابقة، يسمونها شركة المفاوضة، قال المصنف:
الخامس: شركة المفاوضة، وهي: أن يُفوِّض كلٌّ إلى صاحبه شراءً وبيعًا في الذِّمَّة، ومضاربة، وتوكيلًا، ومسافرة بالمال، وارتهانًا.
يعني: يُفوِّض كلُّ واحدٍ من الشريكين صاحبَه بأن يتصرف في الشركة بكل ما فيه مصلحة، وما حصَّلا من الربح فهو لهما جميعًا، وما كان من خسارة فهو عليهما.
أقسام شركة المفاوضة
ولكن شركة المفاوضة، كما قال الموفق ابن قدامة على قسمين: قسم صحيح، وقسم فاسد.
القسم الصحيح: هو الذي ذكره المصنف: أن يشتركا في جميع أنواع الشركة، كأن يجمعا بين شركة العنان والوجوه والأبدان، فهذا يصح؛ لأن كل واحد منهما يصح منفردًا، فيصح مع غيره.
الثاني وهو النوع الفاسد، ويسمى شركة المفاوضة: أن يكون الاشتراك في كل شيء، سواء كان ميراثًا، أو رِكازًا، أو لُقَطة، أو غير ذلك، وهذا فاسد؛ لما فيه من الجهالة والغرر، وهكذا أيضًا ذكر ذلك أيضًا المَرْداوي.
إذن، شركة المفاوضة لها وجه صحيح ووجه فاسد، إن كانت في كل شيء، حتى في الميراث، حتى في اللقطة، هذا فاسد؛ لما فيه من الغرر والجهالة.
أما إذا كانت على الصفة التي ذكرها المؤلف فلا بأس، إذا كانت في شركةٍ قائمة، وفوَّض كلٌّ منهما صاحبَه في أعمال الشركة، فهذا لا بأس به؛ لأنها لا تخرج عن الأنواع الأربعة السابقة.
قال المصنف رحمه الله:
ويصح دفع دابة أو عبد لمن يعمل به بجزءٍ من أجرته.
لا بأس أن يعطي شخصًا دابة، أو عبدًا، ويعمل بجزء من الأجرة، يعني يقول: إذا حصَّلتَ مثلًا مائةَ ريال، أعطني منها النصف، أو أعطني الثلث، أو الربع، أو أكثر، أو أقل، هذا لا بأس به، كما جاء في الصحيحين: أن النبي أعطى يهود خيبر أرضَ خيبر ليعملوا فيها على الشَّطْر، يعني النصف من ثمرتها.
والمؤلف ذكر يعني أمثلةً فيما هو موجود في زمنه؛ كدفع الدابة، أو العبد، يمكن من الأمثلة في واقعنا المعاصر سيارات الأجرة التي تُعطَى للسائق بشرط أن يدفع جزءًا من الأجرة يوميًّا، وما زاد فهو له، يعطونه إياه.
مثلًا؛ سائق الأجرة، يقولون: تعطينا كلَّ يومٍ مائةَ ريال، أو مائتي ريال إن حصَّلت هذا المبلغ، والقدر الزائد يكون لك؛ هذا لا بأس به، إذا رضي العامل بهذا.
ولا يقال: إن هذا من قبيل المضاربة التي فيها اشتراط دراهم معينة، التي قلنا: إنها لا تجوز، لا، هذه ليست هي المسألة؛ لأنه هنا شخص أو شركة يُعطي شخصًا آخر شيئًا يعمل به، وبجزء من الأجرة إن حصل، هذا لا بأس به.
أما شركة المضاربة التي يقول: الربح بدراهم مقطوعة، بربح مقطوع، أو بدراهم معينة، هذا لا يجوز؛ لأنه يُفضي إلى قطع الاشتراك في الربح.
قال:
ومِثله خياطةُ ثوبٍ، ونَسْجُ غَزْلٍ، وحصاد زرع، ورَضَاع قِنٍّ، واستيفاء مالٍ بجزءٍ مُشَاعٍ منه، وبيع متاع بجزء من ربحه.
يعني: كلُّ هذه جائزة لا بأس بها، قياسًا على المسألة السابقة، لو قال مثلًا: خيِّط لي عشَرةَ ثيابٍ على أن يكون لك واحدٌ منها؛ فلا بأس. وقال: احصُد لي هذا الزرع ولك مثلًا ربعه؛ فلا بأس، أو قال لهذه المرأة: أرضعي هذا القِنَّ -يعني الرقيق- ولكِ ربعُ قيمتِه؛ فلا بأس، أو مثل ذلك في تحصيل الديون، يقول: استوفِ لي هذا الدَّين ولك ثلثُه؛ فلا بأس، أو بِعْ لي هذا المتاع ولك -مثلًا- خمسةٌ في المائة، عشرة في المائة؛ فلا بأس، كل هذا جائز.
قال:
ويصح دفع دابة، أو نحل، أو نحوهما، لمن يقوم بهما، مدةً معلومة، بجزءٍ منهما، والنَّماءُ مِلك لهما.
لو دفع دابة، دفع مثلًا إبلًا، أو بقرًا، أو غنمًا إلى رجل، وقال: أريد أن تَقوم عليها مدةً معينة ولك الربع، أو لك النصف، أو نحو ذلك؛ فلا بأس، ونتاجها يكون -يعني نتاج هذه الدواب- يكون ملكًا لهما، بحسب مِلك كلٍّ منهما.
قال البخاري في “صحيحه”: “قال معمر: لا بأس أن تكون الماشية على الثلث والربع إلى أجل مسمى”.
لا إن كان بجزء من النماء؛ كالدَّرِّ، والنَّسْل، والصُّوف، والعَسَل، وللعامل أجرةُ مِثْلِه.
يعني: إذا كان بجزء من النَّماء فلا يصح، أما إذا كان بجزء من رأس المال فلا بأس، إذا كان بجزء من رأس المال، قال: خذ هذه، مائة من الغنم، قم عليها مدة سنة ولك ربعُها، هذا يقول المؤلف إنه يصح.
لكن، لو كان جزءًا من النماء، كأن يُعطيه الغنم على أن له مثلًا خمسَ شِيَاه مما ستلد هذا العام، أو له نصف ما ستلده، أو له الصوف أو العسل، ونحو ذلك مما يُسمَّى نماءً، يقول المؤلف: لا يصح؛ لحصول النَّماء بغير عملٍ منه، وإذا لم يصح يكون للعامل أجرة المثل.
وقال بعض أهل العلم: إن ذلك يصح، وإنه لا فرق بين أن يكون بجزءٍ من النَّماء أو بجزءٍ منه، وهذا هو القول الراجح، واختاره ابن تيمية وجمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ لأن هذا التفريقَ لا وجه له، لا فرق بين أن يكون بجزءٍ منه أو بجزءٍ من نمائه إذا حصل التراضي بينهما.
فيقول يعني: أنا سأقوم على هذه الأغنام، على أنَّ لي خمسَ شياه مما ستنتج إذا نتجت، هذا لا بأس به.
قواعد مهمة في الشركات:
من القواعد المهمة: أنه لا يصح أن يكون الربح إلا مُشَاعًا، فلا يصح أن يكون مبلغًا مقطوعًا، بل يكون مُشَاعًا إما الربع، أو الثلث، أو النصف، أو بنسبة مئوية: خمسة في المائة، عشرة في المائة، ونحو ذلك، ولا يصح أن يكون بدراهم معلومة، لا يصح أن يقول: اتَّجِرْ لي بهذا المبلغ على أن تعطيني كلَّ شهر مبلغًا وقدره كذا، هذا لا يجوز؛ لأن هذا يقلبها من كونها مضاربةً إلى كونها قرضًا ربويًّا.
وأيضًا من القواعد: القاعدة في الربح أن الربح يكون بين الشريكين أو الشركاء على حسب ما اتفقوا عليه، وأما الخسارة فتكون على قدر رأس المال، فالربح بحسب الاتفاق، وأما الخسارة فتكون على قدر رأس المال، فيصح التفاوت في الربح، أما الخسارة فإنها على قدر المال.
وأيضًا من القواعد: لو اشترط أحد الشريكين التفاوت في الخسارة، من غير اعتبارٍ لرأس المال، فهذا الشرط شرط غير صحيح، أو قال أحدهما: “أعطيك مليونًا تُتاجر به، بشرط: أنه إذا حصل خسارة فما عليَّ خسارة”، هذا شرط غير صحيح، بل الخسارة على رأس المال، ولا يجوز له أن يُحمِّل المضارب الخسارة.
والتجارة المشروعة لا بد أن يكون فيها قدرٌ من المخاطرة، أما التجارة المضمونة التي يُضمن فيها الربح، أو يضمن فيها عدم الخسارة، فهذه غير جائزة؛ لأنها لا تكون مضاربة، وإنما تكون قرضًا ربويًّا.
التكييف الفقهي للشركات المساهمة
طيب، هنا يعني الشركات المساهمة، ما التكييف الفقهي للشركات المساهمة؟ الشركات المساهمة الموجودة اليوم: شركات الألبان، شركات العصائر، شركات الإسمنت، شركات الاتصالات، هذه الشركات المساهمة، ما التكييف الفقهي لها؟
إذا كان مجلس الإدارة يأخذ مكافأة، ولا يكون مساهمًا، فإنها تكون شركة عِنان؛ لأنَّ مجلسَ الإدارة يعمل بالوكالة عن جميع الشُّركاء، والوكالة بالأجرة جائزة؛ لقيامها على أساس التراضي، وكون مجلس الإدارة هو الذي يتصرَّف في أمور الشركة بالوكالة، وكون الشركاء لا يعرف بعضهم بعضًا، هذا لا يمنع من القول بالجواز.
الحالة الثانية: أن يكون مجلس الإدارة مساهمًا، ويأخذ أيضًا مكافأة، فهذه تكون شركة عِنان ومضاربة، كما نصَّ عليه نظام الشركات السعودي، فمجلس الإدارة سيتكفل بالعمل في مقابل نصيبه من الربح، هذه أيضًا تكون لا بأس بها، وتكون شركة عِنان ومضاربة.
لكن كما ذكرنا فيمن يجمع بين الربح في الشركة وبين العمل، لا بد من أن يكون ذلك بعقدين منفصلين.
حكم شراء وتداول أسهم الشركات المساهمة
ما حكم شراء وتداول أسهم الشركات المساهمة؟
تنقسم الشركات المساهمة إلى ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: أن يكون العمل الذي تمارسه مباحًا، فلا تتعامل بالربا إقراضًا ولا اقتراضًا، ولا يكون لها إيرادات مُحرَّمة؛ فهذه لا بأس بها، بعضهم يسميها الشركات النقية، والأحسن أن تُسمَّى الشركات المباحة، أو الشركات التي خلت قوائمها المالية من التعاملات المحرمة؛ لأنَّ تسميتها بالشركات النقية -يعني- نوعُ تزكيةٍ لها، والشركات قد يكون -يعني- فيها بعض الإشكالات اليسيرة، والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأنَّ من يتعامل بالتجارة، أنه قد يعتري التجارة ما يعتريها؛ ولهذا قال: شُوبُوا أموالَكم بالصدقة[5].
ينبغي لمن يتعامل بالتجارة أن يتصدق، كلما ربح يتصدق بجزء من الربح؛ جَبْرًا لما قد يكون في هذه التجارة من الخلل والنقص ونحو ذلك، فيَجْبُر هذا الخَلَلَ بالصدقة.
قال عليه الصلاة والسلام: يا معشر التُّجَّار، إن هذا المال يحضره الكذب واللغو، فشُوبوا أموالكم بالصدقة[6].
فالقسم الأول إذن لا بأس بتداول أسهم الشركات المباحة.
- القسم الثاني: أن يكون العمل الذي تمارسه الشركة محرمًا، كأن تكون شركات خمور مثلًا، فهذه لا يجوز شراء أسهمها، ولا تداول أسهمها مطلقًا.
- القسم الثالث: أن يكون العمل الذي تقوم به الشركة في أصله مباحًا، لكن هذه الشركة عندها قروض ربوية، أو عندها إيرادات محرمة، هذه تُسمَّى الشركات المختلطة؛ كأن تكون شركة ألبان، شركة إسمنت، شركة مثلًا اتصالات، العمل الذي تمارسه والنشاط الذي تمارسه مباح، لكن عندها قروض ربوية، أو عندها إيرادات محرمة، هذه تسمى الشركات المختلطة.
اختلف فيها العلماء المعاصرون على قولين:
- القول الأول: القول بالجواز مع التطهير، والتطهير بأن يَعرف القدر المُحرَّم، ويضربه في عدد الأسهم، ويتصدق به في وجوه البر؛ بنية التخلص لا بنية التقرب، إذا استطاع أن يعرف القدر المحرم، فإذا لم يستطع أن يعرف فأكثر ما قيل: إنه يتصدق بنصف الربح، هذا القول قال به بعض العلماء المعاصرين، وتبنته جميع الهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية.
- والقول الثاني: أنه لا يجوز تداول أسهم الشركات المختلطة مطلقًا، ما دام أن عندها قروضًا ربوية وإيرادات محرمة فلا يجوز.
من قال بالجواز استدل ببعض القواعد التي ذكرها الفقهاء، مثل قاعدة: إذا اختلط المال الحلال بالحرام، غُلِّب جانب الحلال، أو قاعدة: إذا اختلط الحلال بالحرام، وكان الحرام مُحرَّمًا لكَسْبه، لم يُغلَّب، لم يَحرُم الجميع، أو قاعدة: يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا، أو للأكثر حكم الكل.
فقالوا: إن هذا يدل على أن المُعوَّل عليه عند اختلاط الحلال بالحرام هو الأكثر، وهذا هو الواقع بالنسبة للشركات المختلطة.
والنبي تعامَل مع اليهود، وكما قال اللهُ تعالى: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، أموالهم مختلطة، ومع ذلك تعامل معهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقَبِلَ وَلِيمَتهم، لمَّا دعَوْه للوليمة قَبِلَ دعوتهم للوليمة.
وأيضًا يقولون -وهذا هو مرتكزهم، الحقيقة أن هذا هو المرتكز، الأمر الثاني-: إن هذه الشركات المساهمة هي العمود الفقري للاقتصاد، هي التي يقوم عليها الاقتصاد، وتقوم بأعمال كبيرة، هي التي تقوم بالكهرباء، بالمياه، بالإسمنت، بالألبان، وبالعصائر، بالاتصالات، تقوم بأعمال كبيرة للمجتمع، فلو قيل بعدم جواز الدخول فيها وتداول أسهمها؛ لَمَا قامت تلك الشركات، ولتعطَّلت مصالح الناس.
القائلون بالتحريم يقولون: هذه الشركات، نفترض مثلًا شركة إسمنت، مَن الذي يملكها؟ مَن مالِكُ هذه الشركة؟ مالكها هم هؤلاء المساهمون، فأنت إذا ساهمت في هذه الشركة، أو اشتريت مثلًا أسهمًا في هذه الشركة، أنت أحد مُلَّاك هذه الشركة.
فإذا تعاملتِ الشركةُ بالإقراض الربوي، أو الاقتراض الربوي، أو كان عندها إيراد مُحرَّم، هذه التعاملات المحرمة تُنسَب للمُلَّاك، وأنت أحد الملاك باعتبارك أحد المساهمين، فأنت كأنك تتعامل بالربا بالوكالة، هذه وجهة أصحاب هذا القول.
ويقولون: مجلس الإدارة فقط مجرد يشرف على أعمال الشركة، الإدارة التنفيذية إدارةٌ تعمل بأجر، والمسؤولية تقع على الملاك، وأنت أحدهم، كما ترون يعني وجهة أصحاب هذا القول قوية.
والشريعة الإسلامية شددت في الربا تشديدًا كبيرًا، فإذا تداولتَ أسهمَ هذه الشركات، كأنك تعاملت بالربا بالوكالة.
وهذا هو ما ذهب إليه المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، وهذا هو الأقرب والله أعلم، القول الثاني هو الأقرب في هذه المسألة، لكنْ من أخذ بالقول الأول فلا بد من التطهير، بأن يعرف القدر المُحرَّم، ويضربه في عدد الأسهم التي يملكها.
استدلال أصحاب القول الأول بالقواعد الفقهية، هذه قواعد صحيحة، لكنها لا تنطبق على هذه المسألة، هذه تكون فيمن عنده مالٌ مختلط بين الحلال والحرام، الشركات المساهمة هذه ليست فقط مالًا مختلطًا، هي مال وعمل.
فيعني مَن الذي يقوم بأعمال هذه الشركة؟ هم المساهمون، لكن وكَّلوا مَن يقوم عنهم بهذه الأعمال، ومنها الأعمال المحرمة، فهي تُنسب لجميع المساهمين، فهي ليست مسألةَ اختلاطِ مالٍ حلالٍ بحرام، بل فيها أعمالٌ، وهذه الأعمال تُنسب للمساهمين، وإن كانوا لا يُباشرونها، لكنهم وكَّلوا مَن يقوم بها.
نأخذ يا إخوة باب المساقاة، حتى نقف عند كتاب الإجارة، أو باب الإجارة، المساقاة ليس طويلًا.
باب المساقاة
قال المصنف رحمه الله:
باب المساقاة.
المساقاة: مُفاعَلة مِن السَّقْي، والمساقاة، والمزارعة، والمغارسة، من الأعمال التي يزاولها الناس من قديم الزمان، عرفها المصنف بقوله:
وهي دفعُ شجرٍ لمن يقوم بمصالحه بجزءٍ من ثمره.
يعني: “خُذْ هذا الشجر وقُمْ عليه، والثمرة مثلًا بيننا، نصفين مثلًا”، وهذه جائزة؛ دلت السنة على جوازها، فإن النبي أقر يهود خيبر على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع، وقال: نُقِرُّكم على ذلك ما شِئنا[7].
وأجمع العلماء على جوازها، كما ذكر ذلك ابن المنذر.
الفرق بين المساقاة والمزارعة
أما المزارعة فهي أن يدفع أرضًا لمن يزرعها بجزء من الزرع، الفرق بين المساقاة والمزارعة: المساقاة على الشجر، والمزارعة على الزرع.
هناك عقد ثالث يسمى المغارسة، وبعضهم يسميه المناصبة، وهي أن يدفع الأرض لمن يغرسها بأشجار، ويعمل عليها بجزء من الأشجار، وليس بجزء من الثمر، هذه تسمى مغارسة.
والفرق بينها وبين المساقاة: المساقاة بجزء من الثمر، والشجرُ لرب الأرض، أما في المغارسة فهي بجزء من الغرس نفسه، وكلها جائزة المساقاة، والمزارعة، والمغارسة.
شروط المساقاة
وذكر المؤلف ثلاثة شروط للمساقاة:
الشرط الأول، قال:
بشرط كون الشجر معلومًا.
يعني: معلومًا للمالك وللعامل، إما برؤيةٍ أو صفة، كما ذكرنا ذلك في البيع.
الشرط الثاني، قال:
وأن يكون له ثمرٌ يُؤكَل.
لا بد أن يكون له ثمر؛ لأنه سيتفق مع العامل بجزء من الثمر، فلا بد أن يكون له ثمر يؤكل، فلا تصح المساقاة على شجر لا ثمر له، أو لا يثمر.
الشرط الثالث، قال:
وأن يُشترط للعامل جزءٌ مُشَاع معلومٌ مِن ثمره.
يعني: يُشترط نصيبٌ للعامل مُشَاعٌ، يعني على سبيل الشيوع، كالربع، الثلث، النصف، أو بنسبة مئوية: خمسة في المائة، عشرة في المائة، ونحو ذلك؛ لأنه مع عدم وجود هذا الشرط يكون فيه جهالة وغرر، والجهالة والغرر في عقود المعاوضات ممنوعة شرعًا.
وقد جاء في عدة أحاديثَ النهيُ عن الجهالة والغرر في المغارسة والمزارعة، وفي حديث رافع بن خَدِيج، قال: كنا أكثرَ أهلِ المدينة حقلًا، وكان أحدُنا يَكْري أرضَه -يعني: يُؤجِّرها- فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك. فربما أخرجتْ ذِه ولم تُخرج ذِه، فنهاهم النبي . وهذا في “صحيح البخاري”[8].
وجاءت أحاديث أيضًا فيها النهي عن الكِراء، يعني عن التأجير، تأجير الأرض، كحديث جابر: نهى رسول الله عن كِرَاء الأرض. رواه مسلم[9].
وأيضًا جاء في لفظ: مَن كانت له فضل أرض، فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإنْ أبى فَلْيُمسك أرضه. وهذا أيضًا في مسلم[10]، وفي لفظ: من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها، فليمنحها أخاه المسلم، ولا يؤاجرها إياه[11].
وأيضًا حديث رافع بن خديج: كنا نُحاقِلُ الأرضَ على عهد رسول الله ، فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجلٌ من عمومته، فقال: نهانا رسول الله على أمرٍ كان لنا نافعًا، وطواعيةُ اللهِ ورسولِه أنفعُ لنا: نهانا أن نُحاقِلَ بالأرض فنُكْريها على الثلث والربع والطعام المسمى، وأَمَرَ ربَّ الأرض أن يزرعها أو يُزْرِعَها، وكره كراءها وما سوى ذلك[12].
هذه الأحاديث، أحاديث كثيرة، وأيضًا جاءت أحاديث في معناها، لا بد أن نفهم هذه الأحاديث، مَن يقرأ هذه الأحاديث في الصحيحين أو في غيرهما تُشكل عليه؛ كيف نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن كراء الأرض؟! كيف نهى كما قال رافع بن خَدِيج: أن نُحاقِلَ بالأرض فنُكريها على الثلث والربع والطعام المسمى؟!
فنقول: لا بد من الجمع بين الرواياتِ، الرواياتُ يفسر بعضها بعضًا، والمحققون من أهل العلم جمعوا بين هذه الأحاديث الواردة في هذه المسألة، فقالوا: إن الممنوع شرعًا هو أن يكون للعامل جزءٌ معين، هذا هو الذي نهى عنه النبي .
أما إذا كان بجزءٍ من الثمرة، أو بجزءٍ من الشجر، فهذا لا بأس به، إذا لم يكن مُعيَّنًا، وإنما كان -يعني- بنسبة مُشَاعة، إذا كان بنسبة مُشَاعة فلا بأس به.
ويدل لذلك حديث حنظلة بن قيس، قال: سألتُ رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والوَرِق، رافع بن خديج هو الذي وردت عنه الأحاديث في النهي عن محاقلة الأرض وكرائها، هنا حنظلة بن قيس سأله. والحديث في “صحيح مسلم”[13].
سأله عن كِرَاءِ -يعني تأجير- الأرض بالذهب والوَرِق -يعني: بالدراهم والدنانير- قال رافع: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي على المَاذِيَانَات -يعني: مسايل المياه- وأَقْبَالِ الجداول -يعني: أوائلها ورؤوسها- وأشياءَ من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا. فيحمل النهي عن كراء الأرض على هذا الكراء الموجود بهذه الصفة؛ فلذلك زَجَر عنه، فأما شيء معلوم مضمون، فلا بأس به[14].
وعلى هذا؛ نقول: إن اشترط جزءًا معينًا من الثمر أو من الأرض فلا يجوز، كأن يقول: لك ثمرة هذه الشجرة، أو هذه الأشجار، هذا لا يجوز؛ لأنها قد لا تُثمر، أو تكون ثمرتها ضعيفة، أو يقول: لك زرع هذا المكان، أو زرع هذا الجدول، هذا لا يجوز؛ لأنه قد لا يُنبت، وفيه جهالة وغرر، بل لا بد أن يكون بجزء مُشَاع من الثمر أو الزرع، جزء مُشَاع من الثمر، يقول: لي مثلًا نصف الثمرة، لي ربع الثمرة، لي خمسة في المائة، لي عشرة في المائة، هذا لا بأس به.
أو بالزرع، بجزء مُشَاعٍ من الزرع، أو أنه يُؤجِّرها بأوراق نقدية: أؤجرك مزرعتي هذه بمائة ألف سنويًّا؛ لا بأس به، ولا يقول قائل، يعني: إنه جاء في حديث جابر: «نهى رسول الله عن كراء الأرض»، المقصود: عن كراء الأرض؛ يعني: عن تأجيرها بالطريقة التي ذكرنا، يعني: على الماذِيَانَات، وأقبال الجداول.
وأما كما قال رافع: على شيءٍ معلوم مضمون، فلا بأس به، ما كان فيه جهالة وغرر فهو ممنوع شرعًا، وأما ما لم يكن فيه جهالة وغرر فلا بأس به.
وكما ذكرنا، الروايات يفسر بعضها بعضًا، فهذه خلاصةٌ لطالب العلم؛ لأنك لو قرأت هذه الأحاديث لربما تُشكِل عليك، لو قرأتها في الصحيحين وفي كتب السُّنن تجد أحاديث كثيرة بهذا المعنى، لكن خلاصتها: أن الممنوع شرعًا هو أن يكون ذلك بثمرِ أشجارٍ معينة، أو زرعِ مكانٍ معين، هذا هو الذي لا يجوز، أما لو كان بنسبةٍ مشاعة، فلا بأس بذلك.
تعريف المزارعة
ثم قال المؤلف:
والمزارعة: دفع الأرض والحَبِّ لمن يزرعه ويقوم بمصالحه.
هذا هو تعريف المزارعة: أن تدفع الأرض والحَبَّ لمن يزرعه ويقوم عليه، بنسبةٍ مُشَاعة، النصف، الربع، خمسة في المائة، عشرة في المائة، ونحو ذلك، وهذا لا بأس به، وكان عليه العمل في عهد النبي .
ولهذا قال ابن تيمية: إذا كان جميع المهاجرين كانوا يُزَارعون، يعني يقومون بالمزارعة، والخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة، من غير أن يُنكر ذلك مُنكِر، لم يكن إجماعٌ أعظمَ مِن هذا، بل إنْ كان في الدنيا إجماعٌ فهو هذا.
فهذا يدل على إجماع الصحابة على جواز المزارعة.
شروط المزارعة
وذكر المؤلف لها ثلاثة شروط، فقال:
بشرط كون البذر معلومًا جنسه وقدره، ولو لم يؤكل.
لا بد أن يكون معلومًا البذر، معلومًا بالصاع، معلومًا في وقتنا الحاضر بالكيلو جرامات.
والشرط الثاني:
وكونه من رَبِّ الأرض.
يعني: يكون البذر من رب الأرض، فلا يكون من العامل، فعلى كلام المؤلف أن البذر لو كان من العامل لم تصح المزارعة.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا يُشترط أن يكون البذر من رب الأرض، بل يصح أن يكون من العامل، هذا القول رواية عن الإمام أحمد، واختارها الموفق ابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، وأكثرُ المحققين على هذا القول، وهو القول الراجح: أنه لا بأس.
يعني هذه أمور يتفق عليها ربُّ المال والعامل، سواء كانت من رب المال، أو من العامل، أو منهما، يعني هذه أمور لا يترتب عليها حكم شرعي، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
بدليل أن النبي دفع أرض خيبر إلى اليهود، ولم يشترط أن يكون البذر من رب المال؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: الصحيح أن البذر يجوز أن يكون من العامل، كما مضت به السنة؛ لفعل النبي ، يعني في أرض خيبر.
والحديث يدل على عدم اشتراط أن يكون البذر من رب الأرض؛ لأن أرض خيبر كانت للمسلمين، ولم يَرِدْ أن البذر كان على المسلمين، بل الظاهر أن النبي جعل البذر على العاملين فيها، وهم اليهود[15].
فهذا هو القول الراجح: أن البذر لا بأس أن يكون من رب الأرض أو من العامل.
الشرط الثالث هو:
أن يُشْرَطَ للعامل جزءٌ معلومٌ مُشَاعٌ منه.
كما قلنا في المساقاة، يعني: يُشترط أن يُحدَّد للعامل جزءٌ مُشَاعٌ بنسبةٍ مُشَاعةٍ؛ كالربع، أو النصف، أو خمسة في المائة، أو عشرة في المائة، ونحو ذلك.
ويصح كون الأرض، والبذر، والبَقَرِ، من واحد، والعمل من آخر.
فلا بأس إذا حصل يعني اتفاق بينهما على ذلك، فلا بأس بهذا.
فإن فُقد شرط، فالمساقاة والمزارعة فاسدة.
إذا فقد شرط من الشروط السابقة، فتكون فاسدة.
والثمر والزرع لربه، وللعامل أجرة مثله.
يعني: إذا فسدت يكون الثمر والزرع لرب الأرض؛ لصاحب الأرض أو الشجر؛ لأنه نَمَاءُ مِلكه، وأما العامل ليس له إلا أجرة المثل.
ولا شيء له إن فسخ أو هرب قبل ظهور الثمرة.
لو فسخ العامل عقدَ المساقاة، أو المزارعة، أو المغارسة، أو هرب وترك العمل قبل ظهور الثمرة، فلا شيء له على صاحب الأرض؛ لأنه ترك حقَّه باختياره.
وإن فسخ بعد ظهورها، فالثمرة بينهما على ما شرطا.
يعني: فَسَخ العامِلُ بعد ظهور الثمرة، فتكون الثمرة بينهما على ما شَرَطَا في العقد، قياسًا على المُضارِب إذا فُسخت المضاربة بعد ظهور الربح.
مسؤوليات العامل في المزارعة والمساقاة
قال:
وعلى العامل تمام العمل، مما فيه نموٌّ أو صلاحٌ للثَّمَر.
انتقل المؤلف للكلام عن مسؤوليات العامل في المزارعة والمساقاة، قال: إنه يعني (على العامل تمام العمل)؛ يعني: يلزم العاملَ إتمامُ العمل المتفق عليه في المزارعة، والقيامُ بكل ما فيه إصلاحٌ للثمر والشجر والزرع.
طيب، الجَذَاذ؟ قال:
والجَذَاذُ عليهما بقدر حصتهما.
يعني: على العامل، وعلى رب الأرض، بقدر حصة كل منهما.
والقول الثاني: أن الحصاد والجذاذ على العامل. وهذا هو الأقرب والله أعلم، إذا لم يكن هناك عرف؛ لأن النبي دفع أرض خيبر إلى اليهود، على أن يعملوها من أموالهم، والظاهر أن الجَذاذ كان عليهم؛ ولأن العامِلَ أقربُ مِن ربِّ المال إلى الأرض، فإذا كان هناك عرف فيُعمل بالعرف، أما إذا لم يكن هناك عرف فالأقرب -والله أعلم- أن الجَذَاذ يكون على العامل وليس على رب المال.
قال:
ويتبعان العرف في الكُلَف السُّلْطانية، ما لم يكن شرطٌ، فيُتَّبع.
الكلف السلطانية: هي ما يؤخذ على أهل المزارع خراجًا، على حسَب سَعَة المزرعة، وهو ما يسمى في الوقت الحاضر بالضرائب، فإن كان هناك شرط فعلى ما شَرَطَا، وإن لم يكن هناك شرطٌ فالمرجع في ذلك للعرف.
طيب، هنا نختم هذا الدرس بأحاديث فضل الزراعة:
وَرَدتْ أحاديثُ تدل على فضل الزراعة، وهذه الأحاديث فيها سَلْوةٌ للمزارعين ومَن عنده مزرعةٌ، ومنها: حديث أنس أن النبي قال: ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة[16].
وعن جابر أن النبي دخل على أم مُبشِّر الأنصارية في نخل لها، فقال: من غرس هذا النخل؟ أمسلم أم كافر؟. قالت: بل، مسلم. فقال: لا يغرس مسلم غرسًا، ولا يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء؛ إلا كانت له به صدقة رواه مسلم[17].
وهذه الأحاديث تدل على فضل الزراعة، وقد اختار النووي أن الزراعة أفضل المكاسب، واختلف العلماء في أفضل المكاسب، قال بعضهم: إنها الصنعة باليد، وقال بعضهم: التجارة، وقال بعضهم: الصيد، وقال بعضهم: الزراعة، ورجحه النووي، وقالوا: لأنها من عمل يد الإنسان، وأيضًا بعيدة عن الشبهة؛ ولأن مَن زرع زرعًا، ما يأكل منه طير ولا إنسان ولا بهيمة، إلا كان له به صدقة، حتى لو سُرق منها شيء، يكون له به صدقة.
فبعض أهل العلم رجَّحوا أن الزراعة أفضلُ المكاسب، ويعني هذه الأحاديث، وما جاء في معناها، فيها سلوة للمزارعين والفلاحين.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نقف عند باب الإجارة.
الأسئلة
طيب، نجيب عما تيسر من الأسئلة:
السؤال: إذا ابتدأ الإمام الصلاة وهو على غير طهارة، ثم تذكر أثناء الصلاة: هل يستخلف، أو تبطل صلاته وصلاةُ مَن خلفه؟
الجواب: هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء:
فمنهم من قال: إن صلاته تبطل، فلا استخلاف، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
والقول الثاني: أنه يستخلف أحدَ المأمومين فيُكمل بهم الصلاة. وهذا هو القول الراجح، أنه يستخلف أحد المأمومين فيُكمل بهم الصلاة، وصلاة المأمومين صحيحة، أما الإمام فيتوضأ، ثم بعد ذلك يصلي.
وهذا هو ظاهر المنقول عن الصحابة، فإنه لما طُعن عمر بن الخطاب ، أخذ بيد عبدالرحمن بن عوف، فأكمل بالمسلمين الصلاة، وهذا فَعَله عمر بمَحْضَرٍ من الصحابة فكان كالإجماع.
فالأقرب -والله أعلم- أنه إذا تذكر الإمام أنه ليس على طهارة، أو حتى عرض له عارض ولم يستطع أن يُكمل الصلاة، فإنه يستخلف أحد المأمومين يكمل بهم الصلاة، هذا هو القول الراجح الذي تدل له الأدلة، وهو المأثور عن الصحابة.
السؤال: ما رأيكم في ختم القرآن للإمام في صلاة التراويح؟
الجواب: إذا لم يكن في ذلك مشقة على المأمومين، ورغب جماعةُ المسجد في ذلك، فهذا هو الأكمل، والفقهاء ذكروا أن الأفضل أن الإمام يُسمِع المأمومين جميعَ القرآن في رمضان.
لكن إذا كان في ذلك مشقة عليهم، أو على بعضهم، فينبغي ألا يشُق عليهم، وأن يراعي أحوالهم، والنبي يقول: أيكم أمَّ الناسَ فَلْيُخفِّف، فإن مِن ورائه الكبيرَ والصغير وذا الحاجة[18]؛ فلا بد من مراعاة مَن خلفه.
والناس الآن ليسوا كالناس زمن النبي عليه الصلاة والسلام، أو زمن الصحابة والتابعين، نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري، لا بد أيضًا من أن يستحضر إمام المسجد هذا، وأن أحوال الناس الآن ليست كأحوال الناس في صدر الإسلام.
فإذا كان في ختمه للقرآن مشقة؛ فلا يختم، ويراعي أحوال المأمومين، لكن لو أن جماعة المسجد رغبوا في ذلك ونشطوا، فالأفضل أن يختم، فنقول: يراعي أحوال المأمومين في هذا.
السؤال: لماذا اختار الرسول الصيام من بين سائر العبادات عند عرض الأعمال على الله يومي الإثنين والخميس؟
الجواب: لأن الصيام أعظم وأفضل العبادات، بل إن الصيام يجزي الله تعالى عليه جزاء خاصًّا مِن عنده، سواء أكان صيام فريضة أو نافلة، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به[19]، يجزي الله تعالى عليه جزاءً خاصًّا، ليس من باب الحسنة بعشر أمثالها، الله تعالى هو أكرم الأكرمين.
وهذا يدل على عظيم أجر وثواب الصيام؛ فالنبي يقول: أُحِبُّ أن يُرفَع عملي وأنا صائم[20]؛ يعني: وأنا قد أتيت بهذه العبادة العظيمة، مع أيضًا العبادات الأخرى من الصلاة والصدقة والذكر، ونحو ذلك.
لكن لما كان الصيام عبادة عظيمة، يجزي الله تعالى عليه جزاء خاصًّا، قال عليه الصلاة والسلام: أُحِبُّ أن يُرفَع عملي وأنا صائم، بل قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي أُمَامة: عليك بالصيام، فإنه لا مثل له[21]؛ يعني: أن الأجر المُرتَّب عليه عظيم.
السؤال: لديَّ أسهمٌ لا أضارب فيها، بل أنتظر أن تصل لسعر جيد وأبيعها؛ لحاجتي إلى المال، كيف تكون زكاتها؟
الجواب: إذا كنتَ تترك هذه الأسهم ولا تضارب فيها، وإنما تتركها مدة طويلة حتى تأتي لك بسعر معين، أو أنك تريد أن تستفيد من ريعها، فالشركات المساهمة عندنا في المملكة العربية السعودية مُلزَمة بدفع الزكوات إلى مصلحة الزكاة أو هيئة الزكاة والدخل.
وعلى ذلك؛ تكفي زكاة الشركة، تكفي زكاة الشركة إذا كنت قد تركتها لأجل الإفادة من الريع، أو أنك تنتظر حتى تصل لسعر جيد، وهذا الانتظار يصل إلى سنة، فإذا وصل هذا الانتظار مدة سنة، معنى ذلك أن الشركة قد أخرجت الزكاة، أخرجت الزكاة قطعًا عن هذه الأسهم، وهذا الكلام موجه لمن كان داخل المملكة العربية السعودية.
أما من كان خارج المملكة، فإذا كانت الشركة لا تدفع الزكاة للدولة، فعلى المُساهِم أن يزكي؛ وذلك بمعرفة الوعاء الزكوي وضَرْبِه في عدد الأسهم، ويسأل يعني القائمين على الشركة عن مقدار الوعاء الزكوي، ليحددوا عادة، يعني المحاسب القانوني يحدده، فيضربه في عدد الأسهم التي يملكها ويُخرج الزكاة.
أما لو كان المساهم مضاربًا يبيع ويشتري في الأسهم، فلا بد من زكاته بغض النظر عن زكاة الشركة؛ وذلك بأن ينظر إلى قيمة المحفظة عند تمام الحول، ويُخرج ربع العشر، اثنين ونصفًا في المائة.
السؤال: هل يُعمل بالحديث الضعيف؟
الجواب: جمهور الفقهاء على أنه يُعمل بالحديث الضعيف بشروط:
- الشرط الأول: ألا يكون ضعفه شديدًا.
- الشرط الثاني: أن يكون ذلك في الفضائل، وفي الترغيب والترهيب، ولا يكون في الأحكام.
- الشرط الثالث: أن يكون له أصل، فلا ينشئ حكمًا جديدًا، وإنما يكون له أصل.
يعني يكون حديثًا مثلًا ضعيفًا، لكن في فضل الصلاة، أو في فضل الصيام، أو فضل الزكاة، ونحو ذلك.
- الشرط الرابع: ألا يعتقد أن النبي قد قاله.
فالجمهور على أنه إذا تحققت هذه الشروط؛ فلا بأس بالعمل بالحديث الضعيف، أما إذا لم تتحقق؛ فلا يعمل بالحديث الضعيف. هذا هو الأقرب والله أعلم، وهو الذي عليه أكثر العلماء.
السؤال: ابن أختي عمره اثنتا عشرة سنة، هل يجوز أن يكون مَحْرمًا لي في العمرة؟ علمًا بأنني من أهل جدة.
الجواب: من كان من أهل جدة، أصلًا لا تحتاج المرأة لمَحْرم؛ لأن المسافة ما بين جدة إلى مكة أقل من مسافة سفر، لا تعتبر سفرًا؛ لأنها الآن أقل من ثمانين كيلو مترًا، مِن آخر عُمْران جدة إلى أول عمران مكة أقل من ثمانين كيلو مترًا، فلا يُعتبر سفرًا، فلا يُشترط للمرأة التي تريد العمرة من جدة لا يشترط المحرم، وإنما يشترط انتفاء الخلوة، ألا تخلو برجل أجنبي.
فلو أنها اعتمرت مع أشخاص، مع أناس، أو مع مجموعة نساء ذهبن واعتمرن، أو ذهبن لِيُصَلِّينَ في الحرم؛ لا بأس بذلك، ولا يشترط وجود المحرم؛ لأن المسافة ما بين جدة إلى مكة ليست سفرًا.
السؤال: ما حكم تلحين الدعاء في دعاء القنوت في التراويح للإمام؟
الجواب: الأفضل عدم التلحين، وأن يأتي الإمام بالدعاء بتضرع، وبتَمَسْكُن وانطراح بين يدي الله ، وإظهار الفاقة، كما لو كان يدعو وحده، لو كان الإنسان يدعو وحده، هل يُلحِّن في الدعاء؟
أنت الآن افترِض أنك رفعتَ يديك تدعو الله في غير الصلاة مثلًا، هل أنت تلحن؟ لا تلحن، أنت تدعو الله تعالى بتضرع وخشوع، هكذا أيضًا لو كنت إمامًا، لا فرق، لا فرق بين أن تدعو وحدك أو أن تكون إمامًا.
فالأفضل أن الإمام يدعو بتضرع وخشوع من غير تلحين، وأيضًا يكون من غير رَفْعِ صوت، يعني مع وجود مكبرات الصوت يكفي أن الإنسان يأتي بالدعاء بقدر ما يُسمِع المأمومين؛ لأن رفع الصوت هو نوعٌ من الاعتداء في الدعاء؛ والله تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55].
فرفع الصوت في الدعاء يعتبر من الاعتداء في الدعاء، والذي يرفع صوته بالدعاء: “اللهم…”، يعني هذا من الاعتداء في الدعاء، إنما تأتي به وتخفض صوتك، ويكون في تضرع وخشوع، والأفضل أن يكون بغير تلحين، التلحين وتحسين الصوت هذا للتلاوة وليس للدعاء.
السؤال: ما حكم تتبع المساجد الذي فيها صوت الإمام خاشع للتراويح؟
الجواب: لا بأس بذلك، لا بأس أن المسلم يبحث عن المسجد الذي يرتاح ويخشع فيه، بسبب -مثلًا- أن الإمام قراءته حسنة، وصوته حسن، أو أن الإمام يطبق السنة، لا بأس بذلك.
لكن إذا صلى في المسجد القريب من بيته، جبرًا لخاطر إمامه، وحتى أيضًا يلتقي بجماعة المسجد، هذا أفضل؛ لأن هذا من مقاصد الصلاة مع الجماعة، تحقيق التكافل الاجتماعي.
وإلا لو -يعني- كانت المسألة مسألة خشوع، ربما تكون صلاة الإنسان في بيته أكثر خشوعًا من صلاته في المسجد، لكن لأجل تحقيق معاني التكافل الاجتماعي من المحبة والمودة بين المصلين، شُرعت صلاة الجماعة.
فالأفضل أن يصلي في أقرب مسجد إلى بيته، ما عدا المساجد الثلاثة.
لكن، لو أنه رأى أنه يخشع أكثر في مسجد بعيد، وأراد أن يذهب إليه، فالأمر في هذا واسع، ولا بأس بذلك.
السؤال: هل يجب إقامة عرس للإعلان عن الزواج، أو يكفي عقد القران؟
الجواب: الحد الأدنى لإعلان الزواج وجود شاهدَيِ العقد، فإذا كان فيه وليٌّ وشاهدان حصل الحد الأدنى لإعلان النكاح.
أما إقامة حفل للعرس، هذا أفضل وأكمل؛ لأنه أبلغ في إعلان النكاح، والنبي يقول: أَوْلِم ولو بشاة[22]، لكنه ليس واجبًا، لو لم يفعل ذلك واكتفى بشهادة الشاهدين، فهذا كافٍ في تحقيق إعلان النكاح؛ لأن الحد الأدنى لإعلان النكاح هو وجود شاهدين عند العقد.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 3383. |
^3 | رواه مالك: 31، وأحمد: 22778، وابن ماجه: 2341. |
^4 | رواه أبو داود: 3388، والنسائي: 3937، وابن ماجه: 2288. |
^5 | رواه أحمد: 16134، وأبو داود: 3326، والترمذي: 1208، والنسائي: 3797، وابن ماجه: 2145. |
^6, ^14, ^15 | سبق تخريجه. |
^7 | رواه البخاري: 3152، ومسلم: 1551. |
^8 | رواه البخاري: 2722. |
^9, ^11 | رواه مسلم: 1536. |
^10 | رواه البخاري: 2340، ومسلم: 1536. |
^12 | رواه مسلم: 1548. |
^13 | رواه مسلم: 1547. |
^16 | رواه البخاري: 2320، ومسلم: 1553. |
^17 | رواه مسلم: 1552. |
^18 | رواه البخاري: 90، ومسلم: 467. |
^19 | رواه البخاري: 5927، ومسلم: 1151 واللفظ له. |
^20 | رواه أحمد: 21753، والترمذي: 747، والنسائي: 2357. |
^21 | رواه أحمد: 22140، والنسائي: 2221. |
^22 | رواه البخاري: 5153، ومسلم: 1437. |