logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من مختصر خوقير/(56) كتاب الحجر- من قوله “ومن دفع ماله إلى صغير أو مجنون أو..”

(56) كتاب الحجر- من قوله “ومن دفع ماله إلى صغير أو مجنون أو..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فحياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي، وهو الدرس الثاني والعشرون من هذا العام الهجري، في هذا اليوم الاثنين الرابع من شهر شعبان من عام (1443 هـ).

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أصول وبك أحول، وإياك أستعين.

بعد ذلك إلى “السلسبيل في شرح الدليل”، وكنا قد بدأنا في كتاب الحجر، ووصلنا إلى القسم الثاني من أقسام الحجر، وهو الحجر على الإنسان لِحَظِّ نفسه، الحجر على الإنسان لحظ نفسه.

وعبر عنه المصنف رحمه الله بقوله: “ومن دفع ماله إلى صغيرٍ أو مجنونٍ أو سفيهٍ”.

الحجر على الصغير والمجنون والسفيه، هو حجرٌ على الإنسان لِحَظِّ نفسه، أما الحجر على الإنسان لحظ غيره: فهذا هو الحجر على المفلس، تكلمنا عنه في الدرس السابق، وعن أحكامه بالتفصيل، الحجر على الإنسان لحظ غيره: هو الحجر على المفلس.

الحجر على الصغير والمجنون والسفيه

القسم الثاني: الحجر على الإنسان لحظ نفسه، هذا هو الحجر على الصغير والمجنون والسفيه.

ابتدأ المؤلف الكلام عن هذا القسم بقوله:

ومن دفع ماله إلى صغيرٍ أو مجنونٍ أو سفيهٍ فأتلفه؛ لم يضمنه.

أي إنسانٍ يدفع ماله إلى صغيرٍ، إلى طفلٍ مثلًا، أو حتى صبيٍّ، أو إلى مجنونٍ، أو إلى سفيهٍ، وهو يعلم بذلك، يعلم أن هذا سفيهٌ، وأن هذا مجنونٌ، وأن هذا صغيرٌ، فأتلفه، لم يضمن ذلك الصغيرُ، أو السفيه، أو المجنون؛ لأنه سلط هذا الصغير، أو السفيه، أو المجنون، على ماله عالمًا مختارًا، كما لو أعطاه سيارةً مثلًا، أعطى سيارته صبيًّا عمره سبع سنواتٍ، وهذا الصبي صَدَم بها وتَلِفت، فإن هذا الصبي لا يضمن، ولا يضمن وليُّه، كيف تعطي صبيًّا السيارة؟! أنت الذي سلطته على مالك باختيارك.

وهكذا لو أعطى مجنونًا السيارة، أو أعطى إنسانًا لا يحسن القيادة السيارة، وهو يعلم بحاله؛ فإنه لا يضمن.

قال:

ومن أخذ من أحدهم مالًا؛ ضمنه حتى يأخذه وليه.

لو أن إنسانًا أخذ مالًا من صغيرٍ أو من سفيهٍ، أو من مجنونٍ، ثم تلف هذا المال؛ فإنه يَضمن؛ لأنه بقبضه قد تعدى، والواجب عليه أن يأخذ هذا المال من الولي، وليس من هؤلاء، فإذا أخذه من هؤلاء، ثم حصل تلفٌ، فإنه يضمن.

لا إن أخذه ليحفظه وتلف ولم يفرط؛ كمن أخذ مغصوبًا ليحفظه لربه.

لو أن أحدًا وجد مالًا مع صغيرٍ، أو سفيهٍ، أو مجنونٍ، وأخذ منه هذا المال بقصد حفظه، ثم تلف هذا المال؛ لم يضمن، ما لم يتعد أو يفرط.

مثال ذلك: رأيتَ مع صبيٍّ عشرة آلاف ريالٍ، فأخذتها منه؛ لتحفظها، ولكي تعطيها وليه، ثم إنها تلفت بأي سببٍ؛ احترق البيت وكانت من ضمن ما احترق مثلًا، فلا تضمن، ما دمت لم تتعد ولم تفرط؛ لا تضمن؛ لأنك محسنٌ بأخذ هذا المال، تريد أن تحفظه، رأيته مع هذا الصبي، وهذا الصبي قد يتلفه، أو هذا المجنون.

قال: “كمن أخذ مغصوبًا ليحفظه لربه”، كمن وجد مالًا مغصوبًا، فأخذه لكي يحفظه لربه، فتلف من غير تعدٍّ منه ولا تفريطٍ، فإنه لا يضمن؛ لأن هذا محسنٌ، وما على المحسنين من سبيلٍ، وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ ‌مِنَ ‌ٱلۡمُصۡلِحِ [البقرة:220].

من بلغ سفيهًا، أو بلغ مجنونًا، ثم عَقَل ورَشَد

ومن بلغ سفيهًا، أو بلغ مجنونًا، ثم عَقَل ورَشَد؛ انفك الحَجْر عنه، ودُفع إليه ماله.

“من بلغ سفيهًا”، يعني: بلغ الصغير سفيهًا، أو بلغ مجنونًا، فإنه لا ينفك الحجر عنه، يبقى محجورًا عليه، لكن إذا عقل هذا المجنون، ورشد هذا السفيه، فإنه يزول الحجر عنه، ويدفع إليه ماله، بلا حكم حاكمٍ؛ وذلك لأن سبب الحجر قد زال.

والصغير يدفع إليه ماله بشرطين: البلوغ، والرشد؛ كما قال : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ، هذا الشرط الأول، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا، هذا الشرط الثاني، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، فلا بد من تحقق هذين الشرطين.

هذا إنسانٌ يتيمٌ، وأنت تحفظ مال اليتيم عندك، متى تسلمه ماله؟ تسلمه ماله بشرطين:

  • الشرط الأول: أن يَبلغ هذا اليتيم بإحدى علامات البلوغ، كما سيأتي.
  • الشرط الثاني: أن يكون راشدًا، أن تأنس منه الرشد، إيناس الرشد، فلو أنه بلغ ولم يؤنس منه الرشد لا يُدفع إليه ماله، فلا بد من أن يبلغ، وأن يؤنس منه الرشد، إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6]، فذكر الله تعالى الشرطين: البلوغ، وإيناس الرشد.

قال:

لا قبل ذلك بحالٍ.

يعني: لا ينفك الحجر عن الصغير والسفيه والمجنون قبل البلوغ والعقل، ومع الرشد.

علامات البلوغ

وبلوغ الذكر بثلاثة أشياء:

انتقل المؤلف للحديث عن علامات البلوغ، والفقهاء يذكرون علامات البلوغ في هذا الباب.

العلامة الأولى: الإمناء

بالإمناء.

والعلامات هنا ذكر المؤلف ثلاثة أشياء مشتركةً بين الذكر والأنثى، وعلامةً رابعةً تختص بها الأنثى:

العلامات المشتركة الأولى: قال: “بالإمناء”، يعني: خروج المني يقظةً أو منامًا من الذكر أو الأنثى، وهذا بالإجماع، أما من الذكر فهو ظاهرٌ، وأما خروج المني من الأنثى، فإذا كان خروجًا بدفقٍ مع لذةٍ، فهذا هو المني الذي يتحقق به البلوغ؛ لقول الله تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59]، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: رفع القلم عن ثلاثةٍ..، وذكر: عن الصبي حتى يحتلم [1]، فذكر الاحتلام هنا: خروج المني.

العلامة الثانية: بلوغ تمام خمس عشرة سنةً

بلوغ تمام خمس عشرة سنةً.

وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة.

وأما المالكية فلهم تفصيلٌ كما قال ابن عبدالبر، قال: حد البلوغ عند مالكٍ في الرجال: الاحتلام، أو الإنبات، أو يأتي عليه من الزمان ما يُعلم أنه لا يبلغه إلا محتلمًا، وحده في النساء: الحيض، أو الاحتلام، أو الإنبات، أو الحمل، أو يأتي عليها من الزمان ما يُعلم به أنها قد بلغت في الأغلب.

فلا يحددون بخمس عشرة سنةً، المالكية، لكن يقولون: أنْ يأتي عليه زمان يعلم أنه لا يبلغه إلا محتلمًا، وأما الحنابلة والشافعية فحددوا سن البلوغ بخمس عشرة سنةً.

وأما الحنفية فحددوه بثماني عشرة سنةً.

والقوانين والأنظمة في دول العالم الآن تحدد زوال وصف الإنسان بكونه قاصرًا بثماني عشرة سنةً، ومن كان أقل من ثماني عشرة سنةً؛ يسمونه القاصر، ومعظم الأنظمة في بلدان العالم الإسلامي أخذت بمذهب الحنفية، وهو التحديد بثماني عشرة سنةً، وإلا فالجمهور على خمس عشرة سنةً.

والأقرب -والله أعلم- هو قول الجمهور: أن البلوغ يتحقق بتمام خمس عشرة سنةً؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: “عُرضتُ على النبي يوم أُحُدٍ وأنا ابن أربع عشرة سنةً، فلم يجزني، ثم عرضت يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنةً فأجازني”، قال نافعٌ: فقدمت على عمر بن عبدالعزيز وهو خليفةٌ، فحدثته بهذا الحديث فقال: إن هذا لَحَدٌّ بين الصغير والكبير، وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة سنةً [2]، وهذا في “الصحيحين”.

فكون النبي عليه الصلاة والسلام لم يُجِز ابن عمر رضي الله عنهما وهو ابن أربع عشرة سنةً، ثم أجازه وهو ابن خمس عشرة سنةً؛ هذا يدل على أن بلوغ خمس عشرة سنةً بلوغٌ لسن التكليف؛ ولهذا عمر بن عبدالعزيز كتب إلى عماله بذلك، وبوب عليه النووي في “شرحه على مسلمٍ”، قال: باب بيان سن البلوغ، وابن حبان كذلك.

والمراد بـ”خمس عشرة سنةً”: يعني أتم خمس عشرة سنةً، ودخل في السادسة عشرة؛ ولذلك يعبرون بـ”تمام”.

بعض الناس يفهم أنه أتم أربع عشرة سنةً، ودخل السنة الخامسة عشرة، وهذا فهمٌ غير صحيحٍ، وهكذا أيضًا في الأحاديث الأخرى، كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: مُروا أبناءكم بالصلاة لسبعٍ [3]، يعني: أتم سبعًا ودخل في الثامنة، واضربوهم لعشرٍ يعني: أتم عشرًا ودخل في الحادية عشرة.

وأنت في عمرك، لو كان عمرك مثلًا ثلاثين؛ لا بد أن تكون أتممت ثلاثين ودخلت العام الحادي والثلاثين، وأما لو أكملت تسعًا وعشرين ودخلت الثلاثين، لا يقال: عمرك ثلاثون، عمرك تسعةٌ وعشرون، بعض الناس يكبِّر عمره سنةً، يعني يكون دخل في الثلاثين، ويقول: عمري ثلاثون، لا، عمرك ليس ثلاثين، حتى لو كان عمرك تسعةً وعشرين وأحد عشر شهرًا، عمرك تسعةٌ وعشرون، فإذا أكملت اثني عشر شهرًا، يعني دخلت في السنة الحادية والثلاثين؛ يكون عمرك ثلاثين، فتُحسب هكذا بهذه الطريقة.

العلامة الثالثة: نبات الشعر الخشن حول الفرج

نبات الشعر الخشن حول الفرج.

وهذه العلامة أيضًا تشمل الذكر والأنثى، وقولنا: “الخشن”؛ احترازًا من الخفيف؛ لأن الخفيف قد يحصل لبعض الصغار، قد يحصل أحيانًا لصبيانٍ أعمارهم سبع سنين، ثماني سنين، هذا لا يعتبر بلوغًا، لا بد أن يكون خشنًا.

وهذه العلامة اعتمد عليها النبي في قصة بني قريظة لمَّا طلبوا النزول على حكم سعد بن معاذٍ، فحكم فيهم بقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وقال عليه الصلاة والسلام: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماواتٍ [4]، فلما أراد الصحابة تنفيذ الحكم؛ أشكل عليهم كيف يعرفون أن هذا قد بلغ وهذا لم يبلغ من الصبيان؟ فأمر النبي بأن يُكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت؛ فهو من البالغين المقاتلة، ومن لم يُنبت؛ يكون من الصبيان، وهذا أيضًا يدل على أنه يجوز كشف العورة عند الحاجة، كما لو احتاج لكشف العورة عند طبيبٍ ونحو ذلك، والقاعدة: أن ما حرم سدًّا للذريعة، يباح ما تدعو إليه الحاجة، فكشف العورة حرم سدًّا لذريعة الفتنة، فيجوز منه ما تدعو إليه الحاجة.

العلامة الرابعة: الحيض عند الأنثى

تزيد الأنثى علامةً رابعةً، قال:

وبلوغ الأنثى بذلك.

يعني: بهذه العلامات الثلاث.

وبالحيض.

الحيض هي العلامة الرابعة، أو الحمل، الحمل أصلًا لا يمكن أن تحمل المرأة إلا وهي تحيض؛ ولذلك المرأة التي لا تحيض لا تحمل، فالحمل علامةٌ تابعةٌ للحيض.

وهذه العلامة في الغالب أنها أسرع علامات البلوغ، أسرع علامات البلوغ: هي الحيض بالنسبة للمرأة.

قال البخاري رحمه الله: بلوغ النساء في الحيض؛ لقول الله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، وقال ابن المنذر: في المرأة خصلةٌ رابعةٌ تجب بوجودها فيها عليها الفرائض وهي الحيض، وأجمع العلماء على ذلك.

إذنْ هذه علامات البلوغ: ثلاث علاماتٍ يشترك فيها الذكر والأنثى: خروج المني يقظةً أو منامًا، وبلوغ تمام خمس عشرة سنةً، ونبات الشعر الخشن حول الفرج، وتزيد الأنثى علامةً رابعةً، وهي خروج دم الحيض.

تعريف الرشد

أما الرشد، فنحن قلنا: إنه ينفك الحجر عن الصغير بشرطين: البلوغ، والرشد، البلوغ ذكرنا علامات البلوغ، أما الرشد ما هو الرشد؟ وكيف يعرف الرشد؟

قال المصنف:

والرشد: إصلاح المال وصونه عما لا فائدة فيه.

هذا هو تعريف الرشد؛ وذلك بأن يُمتحن الصبي إذا بلغ، فإذا وجد أنه يحسن البيع والشراء والمماكسة، ولا يغبن غبنًا فاحشًا، ولا يصرف ماله في حرامٍ، ولا فيما لا فائدة فيه، فهذه علامةٌ على رشده.

أما إذا لم يكن كذلك، يغبن في البيع والشراء، ولا يحسن المماكسة، وربما صرف ماله فيما لا فائدة فيه، أو في أمورٍ محرمةٍ؛ فهذا دليلٌ على أنه لم يؤنس منه الرشد، وهذا يُعرف بالعرف، والناس تفرق، يقولون: إن هذا راشدٌ، ويقولون: هذا سفيهٌ.

إذا بلغ الصبي ولم يرشُد

طيب إذا بلغ الصبي ولم يرشُد؟

لا يعطى ماله، حتى لو تقدم به السن، حتى لو أصبح عمره ستين أو أكثر، حتى لو أصبح شيخًا كبيرًا؛ ولهذا رُوي أن القاسم بن محمدٍ كان يلي شيخًا من قريشٍ ذي أهلٍ ومالٍ، وكان هذا ضعيف العقل، وكان يخضب لحيته، فقال للقاسم: يا أبا محمدٍ، ادفع إليَّ مالي؛ فإنه لا يولَّى على مثلي، فأبى القاسم، قال: إنك فاسدٌ، يعني: لا تُحسن تدبير المال، فطلق نساءه، وأعتق عبيده إن لم يدفع إليه ماله، فرفض القاسم، وقال: لا يحل لنا أن ندفع إليك مالك.

فهذا رجلٌ صالحٌ، يخضب لحيته، ورجلٌ معروفٌ بالصلاح، لكنه عنده سوء تدبيرٍ للمال، فحجر عليه، فقد يكون الإنسان عابدًا صالحًا تقيًّا، لكنه لا يحسن تدبير المال، فهذا يعتبر سفيهًا في المال، فيحجر عليه، لا يترك يضيع ماله، وإنما يحجر عليه لمصلحته هو.

الخلاصة: أن الحجر يزول عن الصغير بأمرين: بالبلوغ، بظهور إحدى علامات البلوغ، وبإيناس الرشد، ويزول الحجر عن المجنون بأمرين: بزوال الجنون، وأيضًا بإيناس الرشد، ويزول الحجر عن السفيه: بزوال السفه، واتصافه بصفة الرشد.

لمن ولاية المملوك؟

قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ

وولاية المملوك لمالكه ولو فاسقًا.

وولاية الرقيق لسيده، حتى وإن كان هذا السيد فاسقًا؛ لأن هذا المملوك يعتبر مالًا، والعدالة ليست شرطًا في تصرف الإنسان في ماله.

لمن ولاية الصغير، والبالغ بسفهٍ أو جنونٍ؟

وولاية الصغير والبالغ بسفهٍ أو جنونٍ لأبيه.

وهذا بإجماع العلماء، أن الولاية للأب، ولاية الصغير، وكذلك من بلغ بسفهٍ أو بلغ بجنونٍ، وليُّه أبوه، وأحق الناس بولايته، كولاية النكاح؛ لأن الأب هو الأكمل شفقةً على ابنه.

فإن لم يكن.

له أبٌ.

فوصيُّه.

يعني: إذا كتب الأب أن الولي من بعدي: فلانٌ، فهذا يعتبر وصيًّا، يكون هو الولي.

ثم الحاكم.

إذا ليس له أبٌ، ولا وصيٌّ، فيكون وليه الحاكم، يعني: القاضي.

فإن عُدم الحاكم، فأمينٌ يقوم مقامه.

فإن عدم، يعني وجود القاضي، كما في بعض البلدان، فيولَّى عليه أمينٌ يجمع بين القوة والأمانة، يقوم مقام الحاكم.

شروط الولي

وشُرط في الولي: الرشد والعدالة ولو ظاهرًا.

لا بد أن يكون الولي راشدًا، وأما لو كان الولي سفيهًا، فكيف يولَّى السفيه على إنسانٍ قاصرٍ؟! فلا بد من الرشد في الولي، وأيضًا يكون عدلًا، ولو ظاهرًا، يعني: لا يُحتاج إلى تعديله، بل تكفي العدالة الظاهرة.

وهل الأصل في الإنسان العدالة، أو الأصل في الإنسان عدم العدالة؟

هذه محل خلافٍ بين الفقهاء:

فمنهم من قال: إن الأصل في المسلم العدالة.

والقول الثاني: إن الأصل في الإنسان عدم العدالة، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي عليه كثيرٌ من المحققين من أهل العلم، لأن الله تعالى يقول: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، فوصف الله الإنسان بالظلم والجهل؛ وهذا يدل على أن الأصل عدم العدالة، وهذا هو الذي عليه عمل المسلمين من قديم الزمان، فإنه عندما يأتي الإنسان بشهودٍ، يطلب القاضي مزكِّين لهؤلاء الشهود، ولو كان الأصل العدالة لما طلب المزكون، وهذا يشبه أن يكون إجماعًا عمليًّا على هذه المسألة من قديم الزمان.

بعض الإجماعات العملية يمكن أن يستفاد منها في الترجيح في المسائل الخلافية، كهذه المسألة، ومنها مثلًا: مسألة الاستصناع، الاستصناع عليه إجماعٌ عمليٌّ من المسلمين، جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ على العمل به، وأنه عقدٌ مستقلٌ بذاته، ونحو ذلك من المسائل التي يكون فيها إجماعٌ عمليٌّ.

لكن في هذه المسألة يكفي العدالة الظاهرة.

الجد والأم وسائر العصبات لا ولاية لهم إلا بالوصية

قال:

والجد والأم وسائر العصبات لا ولاية لهم إلا بالوصية.

يعني هؤلاء: الجد والأم، وكذلك سائر العصبات، ليسوا كالأب، فلا ولاية لهم على الصغير إلا بالوصية؛ لأنهم ليسوا في الشفقة كالأب، والمال محل تهمةٍ، فلا بد من وصيةٍ أو توجيهٍ من الحاكم، فيمكن أن تذهب الأم للحاكم، للقاضي، وتطلب أن تكون وصيةً على هذا القاصر، أو الجد يذهب للقاضي ويطلب أن يكون وصيًّا على هذا القاصر.

أما الأب فلا يحتاج لأن يذهب للحاكم، هو الولي بذاته، الأب وليٌّ بذاته على هذا القاصر.

مسؤولية الولي

ثم انتقل المؤلف للكلام عن مسؤولية الولي، قال:

ويحرم على ولي الصغير والمجنون والسفيه أن يتصرف في مالهم إلا بما فيه حظٌّ ومصلحةٌ.

ولي اليتيم والصغير والمجنون والسفيه لا يجوز له أن يتصرف في مالهم إلا بالتي هي أحسن، والأحسن أن نعبر عن ذلك -بالنسبة للأب إذا كان الولي هو الأب- أن نقول بالنسبة للأب: لا يدخل في هذا الأب؛ لأن الأب له أن يأخذ من مال ولده ما شاء، بشرط ألا يضره، ولا يعطيه ولدًا آخر، وهكذا الأم على القول الراجح.

أما غير الأب فيحرم عليه أن يتصرف في مال من ولي عليه إلا بالتي هي أحسن؛ لقول الله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152]، فنهى الله عن التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، يعني بما فيه مصلحةٌ؛ فمثلًا: لا يجوز لولي اليتيم أن يقرض ماله؛ لأنه ليس من التصرف بالتي هي أحسن، فإن أقرضه؛ فإنه يأثم، ويضمن لو تلف، وليس له أن يتصدق منه؛ لأن هذا ليس من التصرف بالتي هي أحسن، ومثل ذلك: كل من ولي مالًا لغيره ليس له أن يقربه إلا بالتي هي أحسن، ومن ذلك: أنه أحيانًا يكون الإنسان كبيرًا في السن، ويخف الضبط عنده، فيريد أولادُه أو بعض أولاده أن يتصدقوا عن أبيهم من ماله، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا ليس من التصرف بالتي هي أحسن، تصدقوا عنه من أموالكم، جزاكم الله خيرًا، وأنتم -إن شاء الله- مأجورون، أما أن تتصدقوا عنه من ماله، فهذا لا يجوز، وهذه المسألة يخطئ فيها بعض الناس، يكون عندهم كبيرٌ في السن، يخف الضبط عنده، فيتصدقون عنه من ماله، ويقولون: إنه كان يتصدق هو من أمواله، فنريد أن نستمر على صنيعه السابق، وهذا فهمٌ غير صحيحٍ.

إذا وليت مال غيرك؛ ليس لك أن تقربه إلا بالتي هي أحسن، لا تتصرف فيه إلا بما فيه مصلحةٌ راجحةٌ، فالذي عنده كبيرٌ في السن، وخف الضبط عنده، وتصدق عنه من ماله، يجب عليه أن يضمن، لا يجوز له أن يتصدق عنه من ماله، ولا أن يقرض من ماله، ولا أن يتصرف فيه بأي شيءٍ، إلا بالتي هي أحسن، ينفق على هذا الكبير، ينفق عليه، وعلى من تلزمه نفقته فقط، ويحفظ ماله له، ويزكيه أيضًا، ولو احتاج إلى أيضًا تنميته واستثماره فيما مخاطره قليلةٌ، والغبطة في الاستثمار، فلا بأس، يعني يتعامل معه كما يتعامل مع مال اليتيم تمامًا: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]، هذا ليس خاصًّا باليتيم، بل يشمل كل من ولي مالًا لغيره.

وهكذا أيضًا القائمون على الأوقاف وعلى المؤسسات وعلى الجمعيات، حكمهم حكم ولي اليتيم تمامًا، ليس لهم أن يتصرفوا فيها إلا بالتي هي أحسن، فلا يجوز الإقراض منها، ولا يجوز محاباة أحدٍ فيما يتعلق بهذه الأموال، لا ببيعٍ ولا بشراءٍ، ولا حتى محاباة موظفٍ من الموظفين، ما دام أنه يتقاضى راتبه من أموال هذه المنشأة، فالقائمون على هذه المنشآت يتعاملون مع أموالها كتعامل ولي اليتيم في مال اليتيم، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]

فالمسألة مسألةٌ عظيمةٌ وكبيرةٌ، وبعض الناس يتساهل فيها، يلي أموالًا لغيره، ومع ذلك يتوسع ويتصرف تصرفاتٍ ليست من التصرفات التي هي بالتي هي أحسن، وهذا لا يجوز، يكسب بهذا آثمًا، ولو حصل تلفٌ؛ فإنه يضمن، فمن ولي مالًا لغيره فعليه أن يستحضر هذا المعنى، وألا يتصرف في هذا المال إلا بالتي هي أحسن، ما عدا الأب والأم؛ فإن أيديهما مبسوطةٌ في أموال أولادهما، فهؤلاء ليس حكمهم حكم غيرهم، هؤلاء مستثنون، الأب والأم مستثنيان، فلهما أن يأخذا من أموال أولادهما ما شاءا بشرطين:

الشرط الأول: ألا يضر ذلك الولد.

والشرط الثاني: ألا يأخذ مالًا من الولد، ويعطيه إلى ولدٍ آخر، لكن يده -يد الأب ويد الأم- مبسوطةٌ في مال ولده؛ لقول النبي : إن أطيب أموالكم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم [5].

أما ما عدا الأب والأم، ووَلِيَ الإنسان مالًا لغيره، فالقاعدة: أنه لا يتصرف فيها إلا بالتي هي أحسن.

تصرف الصغير والمجنون والسفيه

قال:

وتصرف الثلاثة ببيعٍ أو شراءٍ أو عتقٍ أو وقفٍ أو إقرارٍ غير صحيحٍ.

تصرف الثلاثة -الثلاثة هم الصغير والمجنون والسفيه- ببيعٍ، يعني: لا يصح تصرفهم ببيعٍ، لا يصح أن يبيع الصغير أو المجنون أو السفيه، ولا بشراءٍ ولا بعتقٍ ولا بوقفٍ ولا بإقرارٍ، فتصرفاتهم كلها غير صحيحةٍ؛ لأنه محجورٌ عليهم.

لكن السفيه إن أقر بحدٍّ أو نسبٍ أو طلاقٍ أو قصاصٍ؛ صح وأخذ به في الحال.

لأنه غير متهمٍ في نفسه، والحَجْر متعلقٌ بماله، هو عنده سوء تدبيرٍ للمال فقط، فالحجر في ماله، وأما بقية أموره فهي صحيحةٌ، فلو أقر بحدٍّ؛ أقيم عليه، لو أقر بنسبٍ، أقر بطلاقٍ، أقر بقصاصٍ، هذه ليس لها علاقةٌ بالحجر عليه، الحجر عليه متعلقٌ بماله فقط، فإقراره بهذه الأمور إقرار صحيحٌ، ويؤاخذ به.

وإن أقر بمالٍ، أخذ به، بعد فك الحجر عنه.

نحن قلنا: إن إقراره صحيحٌ، ويؤاخذ به، لكن ماذا لو أقر بمالٍ؟

لو أقر بمالٍ أيضًا يؤاخذ به، لكن بعد فك الحجر عنه.

الأخذ من مال اليتيم عند الحاجة

ثم قال المصنف رحمه الله:

وللولي مع الحاجة أن يأكل من مال مُوَلِّيه الأقلَ من أجرة مثله أو كفايتِه.

هذا يصلح أن يكون ضابطًا في هذه المسألة، ولي اليتيم، وهكذا أيضًا ولي المجنون وولي السفيه الذي يلي ماله، لو قال: أنا لا أريد أن أكون وليًّا لماله مجانًا، أريد أجرًا، فما مقدار الأجر الذي يأخذه الولي؟

مقدار الأجر الذي يأخذه الولي

هنا المؤلف وضع ضابطًا، فقال: “الأقل من أجرة مثله أو كفايته”.

هذا هو الضابط: أن الولي يأخذ الأقل من أجرة مثله أو كفايته؛ لقول الله تعالى: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]، فأجرة المثل والكفاية المرجع فيها للعرف؛ فمثلًا: لو كانت أجرة المثل ألفي ريالٍ، وكانت كفايته ثلاثة آلاف ريالٍ، فإنه يأخذ ألفين، ولو كانت أجرة المثل ألفي ريالٍ، والكفاية ألفٌ مثلًا، يأخذ ألفًا، المهم أنه يأخذ الأقل من أجرة المثل أو الكفاية، هذا هو الضابط في هذه المسألة، هذا هو الضابط في مقدار ما يأخذه الولي.

طيب، ماذا لو كان الولي غنيًّا، ليس فقيرًا، لكن قال: أنا ما عندي استعداد أني أتبرع بالقيام على هذه الأموال؟ ربما أحيانًا تكون الأموال كثيرةً، فيريد أجرةً على قيامه بمال هذا الصبي أو المجنون، قال المصنف:

ومع عدم الحاجة يأكل ما فرضه له الحاكم.

والله تعالى يقول: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6]، الأفضل أن يستعفف ولا يأخذ شيئًا، لكن لو أراد أجرةً على قيامه بشؤون أموال هذا اليتيم أو المجنون؛ فلا بد من الرجوع للقاضي، فيقدر القاضي كم أجرة مثله، فيُعطَى بمقدار أجرة المثل.

والأحسن من هذا كله بالنسبة للأوقاف، وهكذا أيضًا بالنسبة للأوقاف، لو أن الناظر على الوقف قال: أنا ما عندي استعدادٌ أن أتولى النِّظَارة مجانًا، فإن القاضي يفرض له أجرة المثل، لكن الأفضل والأحسن أن المُوقِف نفسه هو الذي يقدر أجرة النظارة.

وهكذا أيضًا ولي اليتيم والمجنون، يعني الأب مثلًا يكتب في وصيته: أن الولي فلانٌ، وأن يأخذ مثلًا كذا؛ حتى لا يكون في هذا تعدٍّ على الأموال.

وبالنسبة للوقف إحسان النظارة مهم جدًّا في استمرار الوقف وعظيم نفعه، واستمرار ثوابه وأجره، ومن إحسان النظارة: فرض أجرةٍ للناظر؛ حتى يتشجع على القيام بشؤون الوقف؛ ولهذا ضاعت كثيرٌ من أوقاف المسلمين بسبب إهمال النظَّار القيام بشؤون هذه الأوقاف؛ لأن غالبها تكون مجانًا بدون مقابلٍ، فالناظر يهمل، لكن لو كان للناظر أجرةٌ؛ فإنه يتشجع ويحمي هذا الوقف، ويستمر هذا الوقف.

ولهذا ينبغي لمن أراد أن يوقف وقفًا أن يضع أجرةً للناظر، وللناظر إن يأخذها، أو يتركها إن شاء، لكن الأفضل للموقف أن يقدر أجرةً للناظر، ولعل هذا -إن شاء الله- يأتينا الكلام عنه بالتفصيل في كتاب الوقف.

التصدق بما لا يضر من غير إذنٍ

قال:

وللزوجة، ولكل متصرفٍ في بيتٍ، أن يتصدق منه بلا إذن صاحبه، بما لا يضر؛ كرغيفٍ ونحوه، إلا أن يمنعه، أو يكون بخيلًا؛ فيحرم.

يعني هذه مسألةٌ ذكرها المؤلف استطرادًا في هذا الموضع، يعني الزوجة والخادم ونحوهم، هؤلاء إذا علموا أن صاحب البيت لا يمنع من الصدقة؛ فلا بأس أن يتصدقوا بما لا يضر، بما لا يلحق الضرر بصاحب البيت. ومثَّل المؤلف قال: “كرغيف ونحوه”، فلا بأس.

لكن المؤلف يقول: “إلا أن يمنعه”، إلا إذا كان رب البيت قال: أنا لا أسمح لأحدٍ في البيت أن يتصدق ولو برغيفٍ، ولو بأي شيءٍ، هنا يحرم، لا يجوز أن يتصدق، أو أن صاحب البيت بخيلٌ جدًّا أو شحيحٌ، ولو علم بأن زوجه تصدقت؛ لَغَضِبَ وما قَبِل، هنا لا يجوز لها أن تتصدق، لكن إذا لم يكن بخيلًا، ولم يمنع الزوجة، فلها أن تتصدق من البيت بغير إذنه، يكفي علمه، أو يكفي الإذن العام منه، والعمل بالقرائن، فإذا عرف أن هذا الإنسان ليس بخيلًا، ولا يمنع، ولو علم لرضي بذلك؛ فللزوجة أن تتصدق بغير إذنه وبغير علمه.

والنبي يقول: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدةٍ؛ كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك [6]، يعني: لها أجرٌ، ولزوجها أجرٌ، وكذلك لو كان عندهم خادمٌ أيضًا، فيؤجر على ذلك.

وقوله عليه الصلاة والسلام أيضًا في الحديث الآخر: الخازن الأمين الذي يعطي ما أُمِر به، أحد المتصدقين [7]، وفي لفظٍ: الخازن المسلم الأمين، الذي يعطي ما أُمر به كاملًا موفَّرًا طيبةً به نفسه، فيدفعه إلى الذي أُمِر له به، أحد المتصدقين [8]، وهذه بشرى لمن يلي الأعمال الخيرية بأن يكون له مثل أجر من تصدق، فمن كان في مؤسسةٍ خيريةٍ أو في جمعيةٍ خيريةٍ، فأعطي أموالًا ووزعها على الفقراء والمساكين، والغارمين والمستحقين، يكون له مثل أجر المتصدقين، ومثل أجر المزكِّين، مثل أجرهم تمامًا؛ لهذا الحديث، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: الخازن الأمين أحد المتصدقين، يعني: كما أن هذا متصدقٌ؛ أنت أيضًا أيها الخازن، أنت أيها الوسيط الذي توصل هذه الزكوات والصدقات للمستحقين، أنت أحد المتصدقين.

وهذه بشرى لمن يعمل في القطاع الخيري، والمجال الخيري، ويوصل المساعدات؛ من زكواتٍ وصدقاتٍ وغيرها إلى المستحقين، بأنه يكون له مثل أجر هؤلاء المتصدقِين أو المزكين.

لو أعطاك إنسانٌ خمسة آلاف ريالٍ، وقال: خذ هذه الخمسة الآلاف، وأعطها من ترى أنه مستحقٌّ، وهي صدقةٌ، فيؤجر هذا المتصدق، وتؤجر أنت مثل أجره تمامًا.

وقوله: إلا أن يمنعه، قلنا: إذا رفض؛ فليس لأحدٍ من البيت، لا الزوجة، ولا الخادم، أن يتصدق، أو أن يكون بخيلًا أيضًا، لا بد من استئذانه.

باب الوكالة

ثم قال المصنف رحمه الله:

باب الوكالة

تعريف الوكالة

الوكالة: يقال: وِكالةٌ ووَكالةٌ، وهي اسم مصدرٍ من التوكيل، المصدر توكُّلًا، واسم المصدر وكالةٌ، يعني توكَّل توكُّلًا، اسم المصدر وكالةٌ، أو وكَّل وكالةً، لكن توكل وكالةً تكون اسم مصدرٍ، وهو التفويض والاعتماد على الغير.

وعرفها المصنف بقوله:

استنابة جائزِ التصرف مثلَه فيما تَدخله النيابة.

وهذا تعريفٌ جيدٌ، جامعٌ مانعٌ، ودل لها من الكتاب قول الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60]، فجوز العمل على الصدقات نيابةً عن المستحقين، وهذا يدل على جواز الوكالة.

وأصحاب الكهف قالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ [الكهف:19]، يعني: وكلوا من يشتري لهم طعامًا، وشرعٌ من قبلنا شرعٌ لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه.

ووكل النبي عروة بن الجعد في أن يشتري له شاةً بدينارٍ، فاشترى له شاتين، وباع إحدى الشاتين بدينارٍ، وأتى النبي بشاةٍ ودينارٍ، فدعا له بالبركة، فكان لو اشترى ترابًا؛ لربح فيه [9].

وأجمع العلماء على جواز الوكالة في الجملة.

ومثَّل المؤلف لها فقال:

كعقدٍ وفسخٍ، وطلاقٍ ورجعةٍ.

يعني: ما تدخله النيابة هذه الأمور، قال: “استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة؛ كعقدٍ وفسخٍ، وطلاقٍ ورجعةٍ..” إلخ.

طيب قوله: “جائز التصرف”، إذا أطلقه الفقهاء يريدون به: الحر المكلف الرشيد، فمن لم يَجمع هذه الأوصاف؛ لا يعتبر جائز التصرف، يعني: الرقيق ليس بجائز التصرف، غير المكلف ليس بجائز التصرف، السفيه ليس بجائز التصرف.

قوله: “استنابة جائز التصرف مثله”، يعني: استنابة جائز تصرفٍ آخر، وهذا يدل على أن أيضًا الوكيل لا بد أن يكون جائز التصرف، الموكل والوكيل.

قوله: “فيما تدخله النيابة”، من حقوق الله وحقوق الآدميين، ولا بد فيها من إيجابٍ وقبولٍ، الإيجاب: اللفظ الصادر من الموكِّل، أو ما يقوم مقامه؛ كأن يقول: وكلتك، فوضتك، ونحو ذلك.

القبول: اللفظ الصادر من الوكيل؛ كأن يقول: قبلت، ونحو ذلك، وفي قتنا الحاضر يكفي إصدار صك الوكالة من كتابة العدل، أو من الموثِّق، أو عبر الأنظمة الإلكترونية التابعة لوزارة العدل، وتوقيع الوكيل بالقبول، أو بإدخاله الرمز الذي يرسل له، ونحو ذلك.

ولا يشترط أن يكون القبول مقارنًا للإيجاب، لا يشترط، فلو كان القبول بعد الإيجاب بمدةٍ فإنه يصح، يعني الوكالة تصح على التراخي، ولا يشترط أيضًا حضور الوكيل ولا علمه، وعلى هذا يجوز للإنسان أن يوكل شخصًا بغير علمه، وبغير رضاه، ثم بعد ذلك هذا الذي قد وُكل إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل، وهذا هو الذي عليه العمل في كتابات العدل، أنهم لا يشترطون حضور الوكيل، وإنما الموكِّل يأتي ويقول: أنا أريد أن أوكل فلانًا، فتُكتب الوكالة، والوكيل إن شاء رفض الوكالة وإن شاء قبلها.

وقول المصنف:

كعقدٍ.

هذا مثالٌ لما تَدخله النيابة من الوكالة؛ كعقد البيع مثلًا، أو عقد الإجارة، أو عقد النكاح أيضًا، فيصح للولي أن يوكل غيره في تزويج ابنته مثلًا، أو تزويج مُوَلِّيَته، ويصح أيضًا أن يوكل الزوج غيره في قبول الزواج، لو كان الإنسان مثلًا يريد أن يسافر؛ كأن يكون طالبًا مبتعثًا، أو إنسانًا يريد أن يسافر لبلدٍ آخر، فيوكل أباه، أو يوكل أحد إخوانه، أو يوكل صديقًا له في قبول النكاح؛ لا بأس.

وقد جاء في قصة أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي وكَّل من يَقبل عنه النكاح من الصحابة، وزوَّجها النجاشيُّ [10].

والتوكيل في النكاح يجوز مطلقًا ومقيدًا؛ “مقيدًا” ظاهرٌ؛ بأن يوكل بالتزويج رجلًا معينًا، “مطلقًا”: أن يوكل بالتزويج من يرضاه.

إنسانٌ مثلًا يريد أن يسافر، أو إنسانٌ بعيدٌ، أو مغتربٌ مثلًا، وعنده بناتٌ فيأتي لرجلٍ صالحٍ يثق فيه، ويقول: وكَّلتك في تزويج بناتي من تراه كُفئًا، فهذا لا بأس به.

وقد روي أن رجلًا من العرب وكَّل عمر بن الخطاب في تزويج ابنته، فزوجها عثمان بن عفان، وهي أم عمر بن عثمان، فاختار هذا الرجلُ قويًّا أمينًا، وهو عمر بن الخطاب ، الذي اختار لها زوجًا كفئًا أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الخلفاء الراشدين، وهو عثمان.

وفسخٍ وطلاقٍ.

يعني: يصح أن تكون الوكالة في الفسخ؛ كالإقالة والخلع، وأن تكون في الطلاق، فيجوز للإنسان أن يوكل غيره في تطليق زوجته، رجلًا كان أو امرأةً، فله أن يوكل مثلًا أمه أو أخته أو أي امرأةٍ في تطليق زوجته، أو يوكل شخصًا آخر، بل إنه يصح أن يوكِّل المرأة في تطليق نفسها، يعني هذا الرجل أشغلته زوجته، تقول: طلق، طلق، قال: وكَّلتكِ في تطليقك نفسك متى ما أردت، فهذا يصح؛ ولهذا قال الموفق بن قدامة رحمه الله: فإن قال لزوجته: طلقي نفسك، ونوى عددًا، فهو على ما نوى، يعني لو قال: طلقي نفسك ثلاث تطليقاتٍ، أو طلقتين، أو طلقةً واحدةً؛ فهو على ما نوى، وإن أطلق من غير نيةٍ؛ لم يملك إلا واحدةً؛ لأن الأمر المُطْلَق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، وهو واحدةٌ إن أطلق، قال: طلقي نفسك، وسكت، فتملك تطليقةً واحدةً.

وقوله:

ورجعةٍ.

يعني له أن يوكِّل في مراجعة امرأته غيره؛ مثلًا رجلٌ يريد أن يسافر، ويخشى ألا يضبط العدة، ويوكل من يراجعها نيابةً عنه، فلا بأس بذلك؛ لأنه إذا كان يملك التوكيل في إنشاء النكاح؛ ففي المراجعة من باب أولى.

وكتابةٍ وتدبيرٍ وصلحٍ.

هذه كلها يدخلها التوكيل كالبيع.

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لبيان ما تدخله النيابة من حقوق الله ، قال:

وتفرقة صدقةٍ.

كأن يوكل فردًا، أو جمعيةً، أو مؤسسةً في تفريق زكاةٍ، أو صدقاتٍ، والنبي كان يوكل من يقبض الزكوات ويفرقها.

ونذرٍ وكفارةٍ.

يصح أن يوكل شخصًا، أو جمعيةً، أو مؤسسةً في تفريق مال نذرٍ، أو توصيل مال كفارةٍ إلى المستحقين، ونحو ذلك، أو توكيل مثلًا جمعيةٍ خيريةٍ في إخراج زكاة الفطر، فلا بأس بذلك، ولا بأس أن يعطي الجمعية نقدًا، والجمعية تشتري طعامًا وتسلمه للفقراء والمساكين في الوقت المحدد شرعًا لزكاة الفطر.

وفعل حجٍّ وعمرةٍ.

يعني: يصح أن يوكل غيره في فعل الحج والعمرة، لكن النيابة في الحج والعمرة، إنما تكون عن الميت، وعن المعضوب -يعني العاجز- أما القادر ففي حج الفرض لا تجوز النيابة، في حج الفرض بالإجماع، وأما القادر يريد أن يوكل غيره في حج نافلةٍ، أو في عمرة نافلةٍ محل خلافٍ بين الفقهاء، والمذهب عند الحنابلة: أنه يصح، لكن القول الراجح: أنه لا يصح، ما دام أنه يستطيع بنفسه أن يحج أو يعتمر؛ فليس له أن ينيب غيره في الحج أو العمرة، إنما تصح النيابة في الحج أو العمرة عن الميت، وعن العاجز فقط.

لا فيما لا تدخله النيابة؛ كصلاةٍ وصومٍ وحلفٍ وطهارةٍ من حدثٍ.

يعني: هذه الأمور لا تدخلها النيابة؛ لأنها عباداتٌ محضةٌ، تتعلق ببدن من هي عليه؛ كالصلاة، لا يصح التوكيل في الصلاة، لا يصح أن الإنسان يقول لآخر: وكَّلتك أن تصلي عني، أو أن تصوم عني، ولا في الحلف أيضًا، ولا في الطهارة، وهذا أمرٌ ظاهرٌ.

وتصح الوكالة مُنَجَّزةً.

يعني: من غير شرطٍ، ومن غير قيدٍ، وكَّلتك.

ومعلقةً.

يعني: بشرطٍ أو قيدٍ؛ كأن يقول مثلًا: إذا دخل شهر رمضان؛ فبع بيتي، أو مثلًا: إذا سافرت فأنت وكيلي في تأجير بيتي، ونحو ذلك.

ومؤقتةً.

تصح الوكالة مطلقةً ومؤقتةً؛ كأن تكون مثلًا لستة أشهرٍ، أو لسنةٍ.

بم تنعقد الوكالة

وتنعقد بكل ما دل عليها من قولٍ وفعلٍ.

في بعض نسخ “الدليل”: “وتعقد”، والأقرب هو المثبت: وتنعقد.

والوكالة والعقود عمومًا تنعقد بكل ما دل عليها من قولٍ أو فعلٍ، كما قرر ذلك ابن تيمية رحمه الله، وشرحنا هذا بالتفصيل في أول كتاب البيع، فكل ما دل على لفظ الوكالة انعقدت به.

وشُرِط تعيين الوكيل لا علمه بها.

يعني: لا بد أن يكون الوكيل معيَّنًا، لا يصح أن يكون مجهولًا؛ كأن يقول: وكلت رجلًا من أهل هذه القرية، أو من أهل هذا البلد، فهنا لا تصح الوكالة، لكن لا يشترط علمه بها، ولكنها لا تنعقد إلا برضاه، فلو باع رجلٌ سلعةً لزيدٍ على أنه فضوليٌّ، ثم تبيَّن أن زيدًا قد وكَّله في بيعها دون علمه؛ فإنه يصح البيع؛ اعتبارًا بما في نفس الأمر، هذا بناءً على المذهب عند الحنابلة، وإن كان الراجح في بيع الفضولي وشرائه أنه يصح إذا أجازه المالك.

قال:

وتصح في بيع ماله كله، أو ما شاء منه.

يصح أن تكون الوكالة في بيع جميع أمواله، أو في بيع بعضها، وهذا ظاهرٌ.

وبالمطالبة بحقوقه كلها، وبالإبراء منها كلها، أو ما شاء منها.

يصح أن يوكله في المطالبة بحقوقه كلها أو ببعضها، وهذا ما يسمى بتحصيل الديون، هي وكالةٌ في تحصيل الحقوق المالية التي له أو الديون التي له.

أو “بالإبراء منها”، أن يوكِّله في الإبراء من هذه الديون أو من بعضها، وهذا ما يسمى في الوقت الحاضر بـ”المحاماة”، فهذا يدل على أن الأصل في المحاماة أنها جائزةٌ ولا بأس بها، وكان عليٌّ لا يحضر الخصومة، ويوكل من يترافع عنه، ويقول: إن للخصومة قُحَمًا، وإنه يحضرها الشيطان، فكان يوكل عَقيلًا، ويقول: ما قضى لوكيلي فلي، وما قضى على وكيلي فعليَّ.

وجاء عن عبدالله بن جعفرٍ أنه قال: كان عليٌّ يكره الخصومة، فإذا كانت له خصومةٌ؛ وكَّل فيها عَقيل بن أبي طالبٍ، فلما كبر عقيلٌ؛ وكَّلني.

وبعض الناس يأنف من حضور مجلس الحكم، إما تورعًا؛ لأنه يرى أن هذه -كما قال عليٌّ – مواطن يحضرها الشيطان، وإما ترفعًا؛ فإن ذوي المروءة يترفعون عن حضور مثل هذه المجالس، فبعض الناس مقامه رفيعٌ، ويأنف أن يحضر مجلس خصومةٍ، وبعضهم ربما على سبيل الورع، يقول: الدنيا كلها ما تساوي عندي شيئًا، كيف أذهب وأخاصم بنفسي، وإما أن يكون لضعف حجته، بعض الناس أيضًا ضعيف الحجة، لا يستطيع أن يبين، أو ليس عنده سرعة بديهةٍ، والنبي يقول: إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعضٍ [11]، فبعض الناس عنده ضعف حجةٍ، فيوكِّل غيره، فلا بأس أن يوكل الإنسان غيره في الترافع عنه، سواءٌ كان الحق له أو عليه، لا بأس بذلك.

وبالنسبة للوكيل: لا بأس أن يمتهن هذه المحاماة، بشرط أن تكون دفاعًا عن الحق، أما أن يترافع دفاعًا عن باطلٍ أو إبطالًا لحقٍّ؛ فهذا لا يجوز، لكن إذا كان المحامي لا يترافع إلا دفاعًا عن حقٍّ، فلا بأس بها، أما المحاماة دفاعًا عن باطلٍ أو إبطالًا لحقٍّ، فإنها لا تجوز، ويأثم هذا المحامي، ويشترك مع موكله في الإثم.

قال:

ولا تصح إن قال: وكَّلتك في كل قليلٍ وكثيرٍ، وتسمى: المفوَّضة.

يعني: لا يصح إطلاق الوكالة، حتى وإن كنت تثق في إنسانٍ؛ لا يصح أن تعطيه وكالةً مطلقةً في كل شيءٍ، قليلٍ وكثيرٍ، وهذه يسميها الفقهاء: مسألة المفوَّضة.

يقولون: لأنه يعظم الغرر والضرر فيها، إذا وكلته في كل شيءٍ، حتى لو كنت تثق فيه يبقى بشرًا، وقال بعض أهل العلم: إنه لا مانع من التوكيل في ذلك، ما الدليل على المنع؟!

وأما قولهم: إنه يعظم الضرر والغرر، فلا يسلم بذلك؛ لأن الإنسان العاقل لا يوكِّل في كل شيءٍ إلا من وثق فيه ورضي به، ثم إنه إذا رأى من الوكيل تصرفاتٍ غير مناسبةٍ؛ يستطيع أن يفسخ الوكالة في أي وقتٍ، فيزول بذلك الضرر العظيم، أو الغرر الكبير، فإذا وكله في كل شيءٍ، ثم رأى منه تصرفاتٍ غير مناسبةٍ؛ يفسخ الوكالة، والغرر يكون في هذا الشيء فقط الذي قد وكله فيه، وهذا هو الأقرب والله أعلم، ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على المنع.

وللوكيل أن يوكل فيما يعجز عنه مثله، لا أن يعقد مع فقيرٍ.

يعني: هذه مسألة توكيل الوكيل لغيره فيما وُكِّل فيه، هذا له أحوالٌ:

  • الحال الأولى: أن يَنهى الموكل وكيله عن التوكيل، فليس له أن يوكل بالاتفاق.
  • الحال الثانية: أن يأذن له بالتوكيل، فيصح ذلك بالاتفاق.
  • الحال الثالثة: أن يُطلِق الموكل الوكالة، فلم يأذن ولم ينه، فليس للوكيل أن يوكل إلا في مسائل معدودةٍ.

ذكر المؤلف من هذه المسائل:

قال:

فيما يعجز عنه مثله.

يعني: يعجز عن العمل الذي وُكِّل فيه مثله، فله أن يوكل غيره، يعني مثلًا: وكله على بناء منزلٍ له، وهذا الإنسان لا يستطيع أن يبني بنفسه، ولا يحسن حتى البناء بنفسه، فإنه يوكل العمالة لكي تبني له هذا البناء، حتى لو لم يقل موكله: لك أن توكل؛ لأن العرف ودلالة الحال تقتضي ذلك.

لا أن يعقد مع فقيرٍ، أو قاطع طريقٍ.

يعني: لا يملك الوكيل أن يعقد الوكالة مع الفقير؛ وذلك لأن الفقير قد تدفعه الحاجة والفقر للإخلال بالوكالة.

“ولا قاطع طريقٍ”؛ لأن قاطع الطريق إنسانٌ فاسقٌ، عنده جرأةٌ على التعدي على الأموال والأعراض والأنفس.

أو يبيع مؤجلًا.

يعني: ليس للوكيل أن يبيع مؤجلًا، وهو قد وكله في أن يبيع نقدًا، حتى لو لم ينص الموكل على أنه يبيع نقدًا؛ لأن الإطلاق يقتضي ذلك.

أو بمنفعةٍ أو عَرْضٍ.

يعني: ليس للوكيل أن يبيع بمنفعةٍ؛ كأن يقول: بع سيارتي هذه، فيبيع السيارة مقابل استئجار بيتٍ عشر سنين، ليس له ذلك، أو عرضٍ أو مقابل سلعةٍ أخرى، وإنما يلتزم بمقتضى الوكالة.

أو بغير نقد البلد.

ليس للوكيل أيضًا أن يبيع بغير نقد البلد؛ كأن يكون مثلًا في المملكة، فيبيع بالدولار، ليس له ذلك.

إلا بإذن موكله.

في المسائل هذه كلها لا بد من إذن الموكل، وفي وقتنا الحاضر أصبح التواصل مع الموكِّل سهلًا، بإمكانه أن يتصل عليه عن طريق الهاتف المنقول ويستشيره، يقول: في كذا وكذا، هل أفعل كذا، هل أبيع بغير نقد البلد، هل أبيع مؤجلًا، هل أبيع بسلعةٍ؟ فيستطيع في وقتنا الحاضر أن يتواصل معه في أي مكانٍ، يتصل عليه عن طريق الهاتف المنقول ويستأذنه، وبذلك يزول الإشكال.

ثم قال المصنف رحمه الله:

والوكالة والشركة والمضاربة والمساقاة والمزارعة والوديعة والجعالة عقودٌ جائزةٌ من الطرفين، لكل من المتعاقدين فسخها.

هذه العقود سنتكلم عنها -إن شاء الله- بالتفصيل، يهمنا منها الوكالة، هذه العقود كلها -التي ذكرها المؤلف- عقودٌ جائزةٌ، وسبق أن قسَّمنا العقود إلى ثلاثة أقسامٍ:

  1. عقودٌ لازمةٌ؛ مثل البيع والإجارة، ومعنى “لازمةٍ”: يعني لا يملك أحد المتعاقدين الفسخ إلا برضا الطرف الآخر.
  2. وعقودٌ جائزةٌ، لكلٍّ من الطرفين الفسخ ولو بغير رضا الطرف الآخر، ومن أمثلتها هذه العقود التي ذكرها المؤلف.
  3. وعقودٌ لازمةٌ من وجهٍ، وجائزةٌ من وجهٍ آخر؛ مثل الرهن، لازمٌ في حق الراهن، جائزٌ في حق المرتهن.

هذه العقود التي ذكرها المؤلف عقودٌ جائزةٌ، ومنها: عقد الوكالة، فلكلٍّ من الموكل والوكيل الفسخ ولو بغير رضا الطرف الآخر.

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن مبطلات الوكالة، قال:

وتبطل كلها بموت أحدهما.

إذا مات الموكل أو الوكيل؛ فقد بطلت الوكالة.

وجنونِه.

لو جن الموكل أو الوكيل؛ فإن الوكالة تبطل أيضًا، وهذا بالاتفاق؛ لأنها تعتمد على الحياة والعقل، فإذا انتفيا؛ انتفت صحتها.

الثالث:

وبالحجر لسفهٍ.

إذا أصبح الموكل أو الوكيل سفيهًا وحُجر عليه؛ فإن الوكالة تبطل، يعني لو وكَّلت إنسانًا في بيعٍ، ثم سمعت أنه حُجر عليه لسفهه؛ بطلت الوكالة مباشرةً.

حيث اعتبر الرشد.

يعني: المقصود ببطلان الوكالة بالحجر عليه لسفهٍ، يعني في المسألة الأخيرة، في التصرفات المالية فقط، أما الوكالة في غير التصرفات المالية؛ فلا تبطل بالسفه؛ كأن يوكله في طلاقٍ مثلًا أو في نكاحٍ.

وتبطل الوكالة بطروء فسقٍ لموكلٍ ووكيلٍ فيما ينافيه.

هذا هو المبطل الرابع، لو أن هذا الوكيل كنت تعرف أنه عدلٌ، ثم بعد ذلك فَسَق، قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن! رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، طرأ الفسق على هذا الموكل أو الوكيل؛ فإن الوكالة تبطل، لكن فيما ينافيه، يعني فيما ينافي هذا الشيء الذي قد وُكل فيه؛ لخروجه بالفسق عن أهلية التصرف.

كإيجاب النكاح.

يعني: لو أن الولي وكل رجلًا في أن يعقد النكاح لمُوَلِّيَته، ثم إن هذا الوكيل طرأ عليه فسقٌ، قُدِّر عليه أنه مثلًا ضُبط متلبسًا بجريمةٍ، ونحو ذلك، فتبطل الوكالة مباشرةً.

وبفَلَس موكِّلٍ فيما حُجر عليه فيه.

هذا المبطل الخامس، إذا أفلس الموكِّل وحُجر عليه، حجر عليه وهذه الوكالة متعلقةٌ بهذا الذي قد حجر عليه فيه؛ فتبطل؛ لانقطاع تصرفه بالحجر؛ مثلًا: وكَّل إنسانٌ رجلًا في أن يبيع سيارته، ثم حُجر على هذا الموكِّل، أصدرت المحكمة الحجر عليه، فهنا تبطل الوكالة مباشرةً، ليس له أن يبيع سيارته.

المبطل السادس:

وبِرِدَّته.

لو أن الموكل ارتد -نسأل الله السلامة والعافية!- بطلت الوكالة؛ لأنه ممنوعٌ من التصرف في ماله.

والمبطل السابع:

وبتدبيره أو كتابته قِنًّا وَكَّل في عتقه.

التدبير معناه: تعليق عتق العبد بالموت، يقول: إذا متُّ فأنت حرٌّ، والكتابة: أن يتفق العبد مع سيده على أن يدفع له أقساطًا، فإذا دفعها كلها؛ أصبح حرًّا.

فلو كان السيد قد وَكل في عتق رقيقٍ، ثم إنه دَبَّر هذا الرقيق، أو وَكَّل في عتقه ثم كاتبه؛ فإن الوكالة تبطل مباشرةً؛ لأن هذا التدبير أو المكاتبة تدل على رجوعه عن وكالته.

وبوطئه زوجةً وَكَّل في طلاقها.

لو أن رجلًا وكل آخر في أن يطلق زوجته، ثم جامعها، جامع الزوج زوجته؛ بطلت الوكالة؛ لأن مجامعته لها يدل على إبطاله للوكالة في الطلاق.

وبما يدل على الرجوع من أحدهما.

يعني: تبطل الوكالة بأي شيءٍ يدل على رجوع الموكل أو الوكيل.

وينعزل الوكيل بموت موكله.

إذا مات الموكل؛ فإن الوكالة تنفسخ مباشرةً، وإذا انفسخت؛ انعزل الوكيل، سواءٌ علم أو لم يعلم.

وبعزله ولو لم يعلم.

إذا عزل الموكل الوكيل عزلًا مباشرًا، حتى لو لم يعلم الوكيل بذلك.

ويكون ما بيده بعد العزل أمانةً.

يعني: ما بعد العزل، الأشياء التي بيد الوكيل تبقى أمانةً لا يضمنها إلا بتعدٍّ أو تفريطٍ، ولكن هذا قد يكون فيه إشكالٌ؛ لأن بعض الناس قد يعزل الوكيل، والوكيل يتصرف تصرفاتٍ وهو لم يعلم بالعزل إلا بعد مدةٍ، فيكون قد عزله، وبعد أسبوعٍ علم الوكيل بالوكالة، طيب تصرفات هذا الوكيل خلال هذا الأسبوع، على المذهب: أنها تصرفاتٌ باطلةٌ، وقال بعض العلماء: إن الوكالة لا تنفسخ إلا بعد علم الوكيل بعزله، وليس من حين عزله، من بعد علمه بالعزل، وعلى هذا تصرفات الوكيل قبل العلم بالعزل صحيحةٌ.

ففي مثالنا السابق: هذا الذي عزل وكيله، ولم يخبره إلا بعد أسبوعٍ، تصرفات الوكيل في هذا الأسبوع صحيحةٌ بناءً على القول الثاني، وهذا هو القول الراجح، وروايةٌ عند الحنابلة، واختاره ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم.

وينبغي لمن عَزل وكيله ألا يُشهِّر به؛ لأن بعض الناس يقوم بالتشهير بعزل هذا الوكيل، مما قد يوحي بأن هذا الوكيل ارتكب خيانةً ونحو ذلك، فينبغي عند العزل ألا يشهر بالوكيل.

ثم قال المصنف رحمه الله:

وإن باع الوكيل بأنقص عن ثمن المثل، أو عما قَدَّر له موكله، أو اشترى بأزيد أو بأكثر مما قدره له؛ صح، وضمن في البيع كل النقص، وفي الشراء كل الزائد.

يعني: الوكيل عليه أن يلتزم بمنصوص الوكالة، ليس له أن يزيد أو ينقص، فإن خالف وزاد أو نقص؛ ضمن، هذا مقصود المؤلف بذلك.

فمثال البيع بأنقص من المثل: لو وكله في أن يبيع سيارته، وسعرها في السوق عشرون ألفًا، فباعها الوكيل بخمسة عشر ألفًا، ضمن خمسة آلافٍ، فالبيع صحيحٌ، لكن ضمن خمسة آلافٍ.

وأيضًا لو كانت السيارة قيمتها في السوق مثلًا: عشرون ألفًا، لكن الموكل قال: لا تبعها بأقل من ثلاثين، فباعها بعشرين؛ فإنه يضمن الفرق.

وقوله: “أو عما قدَّر له موكله”، إذا باعها الوكيل بأنقص مما قدره له، مثلما ذكرنا، قال: لا تبع بأقل من ثلاثين، فباعها بعشرين؛ فيضمن الفرق.

وقوله: “أو اشترى بأزيد” من ثمن المثل، هذه السيارة سعرها في السوق عشرون، واشتراها بثلاثين، فيضمن القدر الزائد.

وقوله: “أو بأكثر مما قدره له”، قال: لا تشتر بأكثر من عشرين، وذهب واشترى بثلاثين، فيضمن الزائد.

قال: “وضمن في البيع كل النقص، وفي الشراء كل الزائد”؛ لتفريطه.

قال:

وبعه لزيدٍ، فباعه لغيره؛ لم يصح.

لو قال: هذه السيارة خذها وبعها لزيدٍ، فباعها لعمرٍو مثلًا، ولم يبعها لزيدٍ، فإن البيع لا يصح؛ لأنه ربما أن الموكل قد قصد نفع زيدٍ بذلك.

ومن أمر بدفع شيءٍ إلى معينٍ ليصنعه، فدفع ونسيه؛ لم يضمن.

يعني: الموكل أمر وكيله بدفع ثوبٍ إلى خياطٍ لكي يخيطه، فدفع الثوب إليه وسلمه له، لكن الموكل نسي هذا الثوب، وضاع أو تلف عند الخياط، فالوكيل ليس عليه شيءٌ؛ لأنه لم يتعد ولم يفرط.

وإن أطلق المالك، فدفعه إلى من لا يعرفه؛ ضمن.

لو أن المالك قال للوكيل: خذ هذا القماش، وأعطه الخياط ليخيط لي منه ثوبًا، فدفعه الوكيل لخياطٍ لا يعرفه الموكل، فتلف هذا الثوب؛ فإن هذا الوكيل يضمن؛ لأنه مفرطٌ؛ لكونه أعطاه خياطًا غير معروفٍ.

وهذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف ترجع إلى قاعدةٍ، وهي: تصرفات الوكيل، إذا كانت بغير تعدٍّ ولا تفريطٍ فإنه لا يضمن؛ لأنه أمينٌ، وأما إذا تعدى أو فرط؛ فإنه يضمن.

هنا ذُكر في “السلسبيل” مثالًا لتفريط الوكيل: أن يوكل في بيع سيارةٍ، وفي الطريق ينزل إلى محل تسوقٍ ويترك السيارة تشتغل، فيسرقها سارقٌ؛ فإنه يضمن؛ لأنه مفرطٌ بترك السيارة مُسرِعةً، هذا مثالٌ للتفريط.

مثالٌ للتعدي: لو أسرع بسرعةٍ كبيرةٍ فوقع حادثٌ فتلفت السيارة؛ فإنه يضمن.

قال:

والوكيل أمينٌ.

هذه هي القاعدة: أن الوكيل أمينٌ، وهكذا الأجير والمضارب والمودع أمينٌ، والمستعير -على القول الراجح- أمينٌ، ومعنى كونه أمينًا: يعني لا يضمن إلا بتعدٍّ أو تفريطٍ؛ ولهذا قال المصنف:

لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريطٍ، ويُصَدَّق بيمينه في التلف وأنه لم يفرط.

يعني: لو أنه اختلف الموكل والوكيل في التفريط؛ الوكيل يقول: ما فرطتُ، والموكل قال: لا، بل فرطتَ، إن كان هناك بينةٌ؛ فالقول قول صاحب البينة، أما إذا لم يكن هناك بينةٌ؛ فيرجح جانب الوكيل، فيصدَّق الوكيل لكن بيمينه.

طيب لماذا رجحنا جانب الوكيل، ولم نرجح جانب الموكل؟ لأن الوكيل أمينٌ، ومعنى كونه أمينًا: أنه يُقبل قوله، إلا أن الفقهاء استثنوا ما لو ادعى تلفًا بأمرٍ ظاهرٍ، مثل الحريق مثلًا، قال: والله حصل حريقٌ في الحي الفلاني، فهنا لا بد من إقامة البينة؛ لأن إقامة البينة أمرها ميسورٌ، وهذه من الأمور التي لا تخفى، يستطيع أن يجد شهودًا، يستطيع أن يجد مثلًا صورًا وقرائن، ونحو ذلك.

وأنه أَذِن له في البيع مؤجلًا، أو بغير نقد البلد.

يعني: اختلف الموكل والوكيل في البيع والشراء مؤجلًا، هل مؤجلًا أو بنقدٍ، أو بنقد البلد أو بغير نقد البلد؟ إن كان هناك بينةٌ، فالقول قول صاحب البينة، إن لم يكن هناك بينةٌ، فيرجح قول الوكيل؛ لأنه أمينٌ، لكن بيمينه.

وإن ادعى الردَّ لورثة الموكِّل مطلقًا أو له وكالةً بجُعلٍ؛ لم يقبل.

يعني: لو ادعى الوكيل أنه رد البضاعة لورثة الموكل، لا يقبل قوله، سواءٌ كانت الوكالة بجعلٍ أو بدونه، أو ادعى الرد إلى الموكل، يعني بجعلٍ، بأجرةٍ، فلا يقبل قوله في الرد؛ لأن الأصل عدم الرد.

ويفهم من كلام المؤلف: أنه إذا ادعى الرد للموكل وكان بجعلٍ؛ فإن قول الوكيل يقبل؛ لأن الأصل عدم الرد، وإذا كان بجعلٍ؛ فقد قبض المال لنفع نفسه.

والقول الثاني في المسألة: أنه يقبل قول الوكيل مطلقًا بيمينه، سواءٌ ادعى الرد للوكيل بجعلٍ أو بغير جعلٍ، أو لورثة الموكل؛ لأنه أمينٌ، وهذا هو القول الراجح، كيف نعتبره أمينًا ثم لا نقبل قوله؟!

فالقول الراجح والأقرب للأصول والقواعد الشرعية: أن الوكيل يُقبل قوله مطلقًا في الرد من غير حاجةٍ لهذا التفصيل الذي ذكره المؤلف، سواءٌ كان بجعلٍ أو بغير جعلٍ، وسواءٌ كان للموكل، أو لورثة الموكل، فيقبل قوله مطلقًا، إلا إذا كان هناك بينةٌ؛ فالقول قول صاحب البينة.

ومن عليه حقٌّ، فادعى إنسانٌ أنه وكيل ربه في قبضه فصدقه؛ لم يلزم دفعه إليه.

يعني: لو أن رجلًا عليه دينٌ لآخر، وأتى شخصٌ وقال: أنا وكيل فلانٍ، وطلب مني أن تدفع الدين لي، لا يلزمه أن يدفع الدين إليه؛ لأن الموكل قد ينكر، يقول: من قال لك إنه وكيلي، كيف صدقته؟

وهذا مفترضٌ في زمن المؤلف، وأما في وقتنا الحاضر فبالإمكان أن يتصل المدين بالدائن ويسأله: هل وكلت فلانًا في قبض الدين؟

وإن ادعى موته، وأنه وارثه؛ لزمه دفعه.

لو ادعى شخصٌ موت صاحب الدين، وأنه هو الوارث له، وطلب أخذ الحق؛ فيلزمه دفع الدين إليه إن صدَّقه، أتى إليه وقال: أنا ابن فلانٍ، وهو قد مات، وأنا وارثه، فأعطني الدين الذي لمورثي، إن صدقه؛ فيلزمه أن يدفع هذا الدين إليه.

في وقتنا الحاضر قد لا يُحتاج لهذه المسائل؛ لأنه يمكن أن يعرف القرابة بين المدعي والموكل عن طريق بطاقة الأحوال، وجواز السفر، ونحو ذلك، وأيضًا من كونه الوارث بطلب صك حصر الورثة، ونحو هذا.

وإن كذَّبه، حلف أنه لا يعلم أنه وارثه، ولم يدفعه.

يعني: إن لم يصدق الوكيل المدعي بأنه وارثٌ؛ فلا يعطيه شيئًا، ولا يدفع إليه المال، لكنه يحلف بذلك.

هل يجوز للوكيل أو للوصي أو لولي اليتيم أن يتولى طرفي العقد؟ يعني يبيع من نفسه لنفسه، يشتري من نفسه لنفسه؟

الجمهور على أنه لا يجوز، يقولون: لأنه قد يتهم بالمحاباة، وفي ترك الاستقصاء في الثمن.

وقال بعض العلماء: إنه يجوز إذا أمنت المحاباة؛ لأن الأصل الجواز، وإحسان الظن بالناس.

هناك قول ثالثٌ بالتفصيل: أنه يجوز بشرطين:

  • الشرط الأول: أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء، فإذا نودي على السلعة فيزيد على الثمن ثم يشتري.
  • والشرط الثاني: أن يتولى النداءَ غيرُه، ويكون هو أحد المشترين.

فإذا تحقق هذان الشرطان؛ جاز أن يتولى طرفي العقد، وهذا هو الأقرب والله أعلم؛ لأنه إذا تحقق هذان الشرطان؛ انتفت تهمة المحاباة، إذا تولى النداء غيره، وزاد على مبلغ الثمن في النداء، انتفت هذه التهمة، تهمة المحاباة.

فالأقرب -والله أعلم- هو القول الثالث، وهو القول بالتفصيل.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند كتاب الشركة.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة، وأذكِّر بما ذكرته في أول الدرس، بأن -إن شاء الله تعالى- الدرس سيستمر للأسبوع القادم بإذن الله تعالى، لن يتوقف الدرس، إن شاء الله سيستمر.

الأسئلة

السؤال: هل الأفضل للنساء صلاة الجمعة إن كن يجدن لها أثرًا طيبًا؟

الجواب: الأفضل للمرأة صلاتها في بيتها؛ لقول النبي : وبيوتهن خيرٌ لهن [12]، لكن قد يعرض للمفضول ما يجعله فاضلًا، فإذا كانت المرأة تستفيد من خطبة الجمعة، وكان هناك مصلًّى مهيأٌ للنساء؛ فالأفضل حينئذٍ أن تذهب المرأة وتصلي الجمعة مع الرجال؛ حتى تستفيد من الخطبة، فيكون هذا هو الأفضل، ومثل ذلك صلاة التراويح، فالأفضل أن تصلي المرأة صلاة التراويح في بيتها، لكن إذا كانت لو صلت في المسجد فإنها تنشط أكثر من صلاتها في البيت، يغلبها الكسل في البيت، وإذا صلت مع الناس في المسجد فإنها تنشط وتصلي التراويح كلها، ويكون هذا أكثر خشوعًا؛ فتكون صلاتها في المسجد حينئذٍ أفضل، فقد يعرض للمفضول ما يجعله فاضلًا.

السؤال: ساهمت في شركةٍ لا تعطي الأرباح، هل تجب الزكاة في الأسهم؟

الجواب: إذا كنت مستثمرًا، لست مضاربًا، يعني ساهمت في هذه الشركة، وتركت الأسهم، لا تبيع وتشتري فيها؛ فتكفي زكاة الشركة، وهذا الكلام موجهٌ لمن كان داخل المملكة العربية السعودية؛ لأن الشركات تدفع الزكوات عن المساهمين، وأما إذا كنت مضاربًا تبيع وتشتري؛ فلا بد من زكاة هذه الأسهم.

من كان خارج المملكة، إذا كان مستثمرًا، اشترى هذه الأسهم وتركها؛ فلا بد من أن يعرف مقدار الوعاء الزكوي للسهم، ويضربه في عدد الأسهم، يستفسر من قانونيين في الشركة: كم مقدار الوعاء الزكوي في السهم، أو محاسبٍ يستفسر منه كم مقدار الوعاء الزكوي للسهم، ويضربه في عدد الأسهم، أما إذا كان مضاربًا؛ فلا بد من زكاة جميع الأسهم.

السؤال: هل للأم الوصيةِ على بناتها القُصَّر حقُّ التصرف في حقهم وراتب آبائهم الذي يصرف لهم من مؤسسة التقاعد؟

الجواب: الأم والأب لا بأس أن يتصرفا في أموال أولادهم بشرطين:

  • الشرط الأول: ألا يأخذ ما يضر الولد، وإذا قلنا: الولد؛ يشمل الذكر والأنثى.
  • والشرط الثاني: ألا يأخذ من ولدٍ ويعطيه لولدٍ آخر، ما عدا ذلك فيجوز؛ لقول النبي : إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم [13]، هذا حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد بسندٍ جيدٍ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: أنت ومالك لأبيك [14]، فيد الأب -وهكذا يد الأم- مبسوطةٌ في أموال أولادهم؛ فعلى هذا: لا بأس أن تتصرف الأم في الراتب التقاعدي لأبنائها وبناتها القصر، ما دامت هي أمهم، فالأمر في هذا واسعٌ، وهكذا بالنسبة للأب، إنما غير الأم والأب هذا هو الذي لا يقرب هذه الأموال إلا بالتي هي أحسن.

السؤال: ما حكم إخراج كفارة اليمين عبر الجمعيات الخيرية؟

الجواب: لا بأس بذلك، ما دامت هذه الجمعيات موثوقةً؛ فلا بأس بذلك، لكن ينبغي أن تخبرهم بأنها كفارة يمينٍ، يعني لا يكفي أن تحول المبلغ لحساب الجمعية؛ لأن القائمين على الجمعية ربما لا يعلمون بأنها كفارة يمينٍ، إلا إذا كانت الجمعية خصصت حسابًا لكفارة اليمين، وهذا غير موجودٍ في كثير من الجمعيات؛ فلا بد أن تتواصل معهم وتخبرهم بأن هذا المبلغ أنه كفارة يمينٍ؛ حتى يشتروا به طعامًا ويوزعوه على عشرة مساكين.

السؤال: إذا كنت مسافرًا عائدًا لبلدي، ونويت جمع المغرب والعشاء جمع تأخيرٍ، هل إذا وصلتُ بلدي قبل خروج وقت المغرب أجمع جمع تأخيرٍ؟

الجواب: ليس لك أن تجمع جمع تأخيرٍ إذا وصلت إلى بلدك؛ لأنك إذا وصلت إلى بلدك انقطع في حقك جميع رخص السفر، ومنها رخصة الجمع، فإذا وصلت إلى بلدك؛ يلزمك أن تصلي المغرب، وتنتظر العشاء وتصليها في وقتها.

وهكذا لو وصلت إلى بلدك وقت صلاة الظهر، يلزمك أن تصلي صلاة الظهر في وقتها، وليس لك أن تؤخرها حتى تصليها مع العصر، والقاعدة أنك إذا وصلت إلى بلدك؛ انقطعت في حقك جميع رخص السفر.

السؤال: هل دعاء ذي النون يقال لوحده، ويُكتفى بذلك، أم يقوله، ثم يسأل الله حاجته؟

الجواب: الأمر في هذا واسعٌ، لو قاله واكتفى به؛ فهو ذكرٌ عظيمٌ، قاله يونس عليه الصلاة والسلام، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، وأيضًا لو أتى به في مقدمة الدعاء؛ فهذا أمرٌ حسنٌ، وربما يكون من أسباب إجابة الدعاء، وقد ورد هذا في بعض الأحاديث، فإذا قدمت بين يدي دعائك أنك أتيت بدعوة ذي النون في مقدمة الدعاء، قلت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وكررتها، ثم دعوت الله ؛ فيرجى أن يكون ذلك من أسباب إجابة الدعاء.

السؤال: ما القول الصحيح في تحريك الأصابع في التشهد؟ وما الكيفية الصحيحة؟

الجواب: الراجح في تحريك الأصابع، أولًا: الراجح بالنسبة للأصابع ورد في ذلك صفتان:

  • الصفة الأولى: قبض جميع الأصابع ما عدا السبابة هكذا.
  • والصفة الثانية: قبض الخنصر والبنصر، وتحليق الإبهام مع الوسطى، يعني: أن تكون على شكل حلقةٍ هكذا، ويشير بالسبابة، وأما بالسبابة فإنه ينصبها مع إحنائها قليلًا، يعني لا يجعلها هكذا ولا هكذا، إنما هكذا، ينصبها مع إحنائها قليلًا، ويرفعها من أول التشهد إلى التسليم هكذا، يحركها عند ذكر الله، فإذا قال: التحيات لله؛ حركها، أشهد أن لا إله إلا الله؛ حركها، اللهم صل على محمدٍ؛ حركها، رب آتني في الدنيا حسنةً؛ حركها، كلما ذكر اسم الله؛ يحركها قليلًا، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

السؤال: أنا طالبٌ أمكث في الرياض أربعة أيامٍ، ومحل إقامتي: الخَرْج، هل يجوز لي الترخص برخص السفر؟

الجواب: ليس لك الترخص برخص السفر، أنت لك إقامتان: إقامةٌ في الرياض تقيم فيها أربعة أيامٍ، وإقامةٌ في الخرج، تقيم بقية أيام الأسبوع، فأنت صاحب إقامتين، وحتى الطريق، ليس لك الترخص؛ لأن المسافة الآن ما بين الرياض والخرج أقل من (80 كيلومترًا)، فلا تعتبر أنت مسافرًا، والناس أصلًا لا يعتبرونك في عرفهم مسافرًا؛ ولذلك لا تستعد بعدة المسافر، والأصل في الإنسان الإقامة، وليس الأصل السفر، فلم يتضح أنك مسافرٌ، والأصل أنك مقيمٌ، وإذا أتممت ولم تترخص برخص السفر؛ ففعلك صحيحٌ عند جميع العلماء، وإذا قصرت؛ فصلاتك غير صحيحةٍ عند جمهور العلماء.

طيب، لعلنا نختم بهذا السؤال:

السؤال: متى تقرأ أذكار المساء؟ وما فضلها؟

الجواب: أذكار المساء الأفضل أن يؤتى بها بعد صلاة العصر؛ لقول الله : وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42]، والأصيل: آخر النهار بعد العصر، فالأفضل أن يؤتى بأذكار المساء بعد صلاة العصر.

وأما فضلها: فأذكار الصباح والمساء هي حصنٌ حصينٌ للمسلم، فيتحصن بها من الشرور بإذن الله ، فينبغي للمسلم أن يحافظ عليها، تحصنه بإذن الله من الشياطين، من السحر، من شرورٍ كثيرةٍ.

على سبيل المثال: من أذكار الصباح والمساء: أن يقرأ سورتي الفلق والناس، ويكررها ثلاث مراتٍ، هاتان السورتان قد تضمنتا الاستعاذة بالله تعالى من جميع الشرور في الدنيا، سبحان الله! قد تضمنت هاتان السورتان الاستعاذة بالله تعالى من جميع الشرور في الدنيا، فكيف إذا جمع مع هاتين السورتين بقية أذكار الصباح والمساء؟!

فأذكار الصباح والمساء حصنٌ حصينٌ يتحصن بها المسلم من الشرور.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 4401.
^2 رواه البخاري: 2664، ومسلم: 1868.
^3 رواه أبو داود: 495، وأحمد: 6756.
^4 رواه البخاري: 3043، ومسلم: 1768، بنحوه.
^5 رواه أبو داود: 3528، والترمذي: 1358، والنسائي: 4451، وابن ماجه: 2290، وقال الترمذي: حديث حسن.
^6 رواه البخاري: 1425، ومسلم: 1024.
^7 رواه البخاري: 1438، بنحوه.
^8 رواه البخاري: 1438، ومسلم:  1023.
^9 رواه البخاري: 3642.
^10 رواه الحاكم: 6966.
^11 رواه البخاري: 2680، ومسلم: 1713.
^12 رواه أبو داود: 567.
^13 رواه أبو داود: 3528، والترمذي: 1358، والنسائي: 4451، وابن ماجه: 2290، وأحمد: 6678.
^14 رواه ابن ماجه: 2291، وأحمد: 6902.
zh