عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي، وهو الدرس الحادي والعشرون من هذا العام الهجري، في يوم الاثنين، السابع والعشرين من شهر رجبٍ من عام (1443 هـ).
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا، اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أصول، وبك أحول، وبك أستعين.
أحكام الجوار
ننتقل بعد ذلك إلى “السلسبيل في شرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى أحكام الجوار، تكلمنا في الدرس السابق عن أحكام الصلح، ووقفنا عند أحكام الجوار.
والفقهاء يذكرون أحكام الجوار بعد أحكام الصلح؛ لأن الجوار مظنةٌ لحصول الخلافات والمنازعات، وهذه خلافاتٌ يمكن حلها عن طريق الصلح.
والجار قد أوصى الإسلام به كثيرًا، حتى إن الله يقول: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، ثم قال: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36]، فأوصى الله تعالى بنوعين من الجيران: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، يعني: الجار القريب ذا الرحم؛ كأن يكون هذا الجار أخاك مثلًا، أو يكون قريبًا لك، فهذا له حق الجوار، وحق القرابة.
وَالْجَارِ الْجُنُبِ يعني: الجار البعيد الذي ليس بينك وبينه قرابةٌ، فهذا له حق الجوار، يعني: حتى ولو لم يكن مسلمًا؛ يبقى حق الجوار له.
وفي “الصحيحين” يقول النبي ، وانتبهوا لهذا الحديث العظيم: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيوَرِّثه [1]، الذي أوصى جبريل من؟ هو الله ، ولاحِظ هنا كثرة الوصية بالجار، حتى إنه من كثرة وصية جبريل النبي بالجار، يقول عليه الصلاة والسلام: ظننت أنه سيورثه، يعني: سيجعل للجار حقًّا في ميراث جاره؛ من كثرة وصية جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو عليه الصلاة والسلام الصادق المصدوق، ويقول: حتى ظننت أنه سيورثه، يعني: سيجعل للجار حقًّا في الميراث من جاره، إلى هذه الدرجة! وهذا يدل على عظيم حق الجار.
وجعل النبي شهادة الجيران معتبرةً، سواءٌ كانت للإنسان أو كانت عليه، وقد أخرج أحمد بسندٍ صحيحٍ عن ابن مسعودٍ قال: قال رجلٌ للنبي : كيف أعلم أني أحسنت أو أسأت؟ فقال النبي : إذا قال جيرانك: أحسنت؛ فقد أحسنت، وإذا قالوا: أسأت؛ فقد أسأت [2] فالجيران لا يشهدون لإنسانٍ بالخيرية إلا وهو محسنٌ، ولا يشهدون على إنسانٍ بالسوء إلا وهو مسيءٌ، وهذا يدل على أن شهادة الجيران معتبرةٌ شرعًا.
فعلى المسلم أن يحرص على الإحسان إلى جيرانه، يعني: لا يكفي فقط كف الأذى عنهم، بل ينبغي أن يحسن إليهم بما يمكن من طلاقة الوجه، ومن إلقاء السلام والتحية، والزيارة والهدية، وجميع ما يمكن أن يُحسِن به إلى جيرانه.
ومنه أيضًا، من الأمور الحسنة بين بعض الجيران: جَعْل مجموعةٍ على (الواتساب) للجيران، وهذه المجموعة تكون وسيلةً للتواصل فيما بينهم، بحيث لو حصل حدثٌ في الحي مثلًا، أو أمرٌ يهم الحي، يكتب في هذه المجموعة، هي كالمجلس الافتراضي، يتواصلون فيما بينهم، لو أيضًا احتاج الأمر إلى الإبلاغ عن أحد الجيران بأمرٍ من مثلًا زواجٍ، أو وفاةٍ، أو غير ذلك، فيكتب في هذه المجموعة.
كذلك أيضًا يرسل في هذه المجموعة المقاطع الهادفة المفيدة، فهذه أيضًا تدخل في الإحسان للجار، فالدخول فيها بهذه النية يؤجر عليه الإنسان، وهكذا أيضًا مجموعات (الواتساب) بين الأرحام، تدخل في صلة الرحم، إذا قصد الإنسان بذلك الإحسان إلى أرحامه؛ لأن الإحسان للجار وصلة الرحم ليس لها حدٌّ محدودٌ شرعًا، وإنما المرجع فيها للعرف، فما عده الناس صلةً؛ كان صلةً في عرفهم، وما عدوه إحسانًا؛ كان إحسانًا.
في وقتنا الحاضر -مع كثرة المشاغل، وتباعد المنازل، والزحام- ربما لا تتيسر الزيارة المباشرة، لكن يمكن أن يكون التواصل عبر وسائل التقنية الحديثة، بحيث من يكون معك في هذه المجموعة تكون أنت متواصلًا معهم، مع ما يكون في هذه المجموعات من إرسال المقاطع النافعة المفيدة.
فهذا من استثمار التقنية الحديثة في الإحسان للجار، وفي أيضًا صلة الرحم، وفي الإحسان للآخرين.
حكم إجراء الماء في أرض الغير وسطحه
قال:
ويحرم على الشخص أن يجري ماءً في أرض غيره أو سطحه بلا إذنه.
“يحرم على الشخص أن يجري ماءً”، يعني: يضع جدول ماءٍ، أو ساقيةً في أرض جاره، أو في سطح بيته، بلا إذن صاحب الأرض؛ لأنه يتضرر بذلك، ولأنه نوعٌ من التعدي؛ كما لو زرع في أرض غيره بغير إذنه.
ومن هذا زراعة بعض المستأجرين في أسطح العقارات التي يستأجرونها، فإن بعض المستأجرين يستأجر عقارًا، ثم يزرع في السطح زراعةً من غير أن يستأذن المالك، وهذا لا يجوز، ليس له ذلك إلا بإذن المالك؛ لأن هذه الزراعة ربما تُحدِث ضررًا في العقار، فلا بد من أن يستأذن من المالك، من صاحب العقار.
حكم إجراء الماء في حق الغير بعوضٍ
قوله:
ويصح الصلح على ذلك بعوضٍ.
يعني: إذا احتاج الجار إلى إجراء الماء على أرض جاره أو على سطحه وصالحه بعوضٍ؛ صح ذلك، فإن كان ذلك مع بقاء ملك صاحب الأرض؛ كان إجارةً، وإن كان مع زوال ملكه كان بيعًا، لكن ماذا لو أن صاحب الأرض رفض أن يُجري جارُه ماءً على أرضه؟ فإن لم يكن لهذا الجار حاجةٌ ولا ضرورةٌ؛ فليس له أن يجري ماءه على أرض جاره بدون إذنه، لكن إذا كان هذا الجار محتاجًا أو مضطرًّا لأن يُجري هذا الماء عن طريق أرض جاره؛ فإنه يُجبَر على ذلك عن طريق الحاكم، وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، هناك قولٌ آخر: أنه لا يجبر، والقول الراجح: أنه يجبر.
لماذا يَمنع جاره من أن يجري ماءً في أرضه وهو لا يضره؟! بل يستفيد من إجراء الماء في أرضه، يستفيد من ذلك وينتفع ولا يتضرر بذلك، ويستفيد جاره.
فالقول الراجح: أن جاره إذا احتاج لذلك؛ فإن صاحب هذه الأرض يجبر على إجراء هذا الماء في أرضه، واختار هذا جمعٌ من المحققين من أهل العلم، ويدل لذلك قصةٌ وقعت في عهد عمر ، أخرجها الإمام مالكٌ في “الموطأ” بسندٍ صحيحٍ، عن الضحاك بن خليفة أنه ساق خليجًا له، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فرفض محمدٌ، وقال الضحاك: لِمَ تمنعني وهو لك منفعةٌ، وتشرب به أولًا وآخرًا، ولا يضرك؟! لكنه رفض، فرفع الأمر إلى عمر بن الخطاب ، فدعا محمدَ بن مسلمة فرفض، قال: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافعٌ؛ تسقي به أولًا وآخرًا، أصر على رأيه بالرفض، فقال عمر: والله ليُمَرَّن به ولو على بطنك، فأمر عمر بأن يُمَرَّ به رغمًا عنه [3]، وهذا يدل على أنه إذا رفض الجار ما يحتاج إليه جاره ولا يَلحقه ضررٌ؛ أنه يجبر على ذلك من قِبَل الحاكم؛ لأن بعض الناس متعنتٌ، عنده عنادٌ، شيءٌ لا يضره وينتفع به، وجاره محتاجٌ، ومع ذلك يرفض! هنا يتدخل القاضي ويجبر هذا على أن يسمح لجاره بإجراء الماء على أرضه.
قال:
ومن له حق ماءٍ يَجري على سطح جاره؛ لم يجز لجاره تعلية سطحه؛ ليمنع جري الماء.
إذا كان للإنسان حقٌّ في ماءٍ من نهرٍ أو سيلٍ؛ فليس لصاحب الأرض أو السطح أن يرفع سطحه؛ حتى يمنع جريان الماء، أو حتى ينقص من جريان الماء؛ لأن في هذا إضرارًا بجاره، ومن ذلك في وقتنا الحاضر: المَزارع التي تُسقى السيلَ عن طريق مزارع أخرى، فإن المزارع عندما يأتيها السيل، بعضها يأتيها السيل من وادٍ مباشرةً، وبعضها من مزرعةٍ إلى مزرعةٍ إلى مزرعةٍ، فالكلام عن القسم الثاني: المزارع التي يأتيها السيل من مزرعةٍ إلى مزرعةٍ.
فبعض أصحاب المزارع تجد أنه يرفع السطح، أو يرفع الحاجز الذي بينه وبين جاره، حتى لا يأتيه السيل، إلا بعدما يرتفع منسوب السيل كثيرًا، ويلحق الضرر بجاره، وهذا لا يجوز، وإنما ليس له أن يرفع الحاجز الذي يمنع السيل إلا بمقدار ما ينتفع به، ولا يُلحق الضرر بجاره، أما أن يرفعه كثيرًا، بحيث يحجب السيل، أو ينقص السيل عن جاره، فليس له ذلك.
حكم الجار إذا أحدث بملكه ما يضر بجاره
قوله:
وحرم على الجار أن يُحدث بمِلكه ما يضر بجاره.
يحرم على الإنسان أن يُحدث في مِلكه ما يُلحق الضرر بالجيران؛ لأن التصرف في ملك الإنسان مقيدٌ بألا يضر بغيره؛ لقول النبي : لا ضرر ولا ضرار [4]، حتى وإن كان ملكه، لكن لا يضر بالآخرين، بعض الناس يقول: هو ملكي، هو حلالي، حتى وإن كان ملكك، وإن كان حلالك لا تفعل فيه ما تضر به الآخرين، خاصةً الجيران.
ومثَّل المؤلف لذلك بأمثلةٍ موجودةٍ في زمنه، ونحن سنمثل بأمثلةٍ من واقعنا المعاصر، من أمثلة المؤلف التي ذكرها:
قال:
كحمَّامٍ.
إذا قيل: حمَّامٌ، يعني عندنا منتشرٌ عند العامة أن الحمَّام هو دورة المياه، وهذا ليس مراد الفقهاء، مقصودهم إذا قالوا: حمامٌ، مغتسلٌ معروفٌ في بلاد الشام، في البلاد الباردة؛ مثل بلاد الشام، وله دخانٌ، ومثل ما يسمى الآن بـ(الساونة) ونحوها، هذا يشبه الحمام الموجود قديمًا، فهذا قد يتضرر منه الجار، لو فتح حمامًا مثلًا في ملكه، وأصبح الناس يتوافدون عليه، فهذا ربما يتضرر بكثرة الوافدين، وربما يكون فيه اختلاطٌ، وربما يكون فيه كشف العورات، وربما يكون فيه أذيةٌ.
طبعًا هذه يعني ليست موجودةً الآن عندنا، الآن ليست موجودةً هذه الحمامات، وإن كانت موجودةً قديمًا.
وكَنِيفٍ.
الكَنيف: هو المرحاض، أو ما يسمى بدورة المياه، الموضع المعد لقضاء الحاجة، فلو أن إنسانًا فتح في بيته دورة مياهٍ، وسمح لكل من أراد أن يدخل، إذا كان الجار يتضرر بذلك؛ فليس له أن يفعل.
ورَحًى وتَنُّورٍ، وله منعه من ذلك.
ليس له أن يجعل في بيته رحًى ينزعج منه جاره، أو يهتز منه حائطه، وكذلك التنور الذي يتعدى دخانه لجاره؛ ومن أمثلة ذلك في وقتنا الحاضر:
تربية المواشي في البيوت، بحيث يكون لها روائح كريهةٌ، ليس له ذلك، لو جعل مثلًا في بيته أغنامًا مثلًا، أو ماعزًا، وأصبح لها روائح وأصواتٌ، ويتأذى منها الجيران، ليس له ذلك.
ومن ذلك أيضًا: تربية الكلاب في البيوت، وإحداثها لأصواتٍ مزعجةٍ للجيران، هذا لا يجوز، على أن تربية الكلاب لا تجوز، إلا لما ورد به النص؛ لقول النبي : من اقتنى كلبًا غير كلب صيدٍ أو حرثٍ أو ماشيةٍ؛ فإنه ينقص من أجره كل يومٍ قيراطان [5]؛ وهذا يدل على أنه لا يجوز تربية الكلاب واقتناء الكلاب، إلا أن يكون كلب صيدٍ أو حرثٍ أو ماشيةٍ، فإذا كان يتضرر منه الجار؛ فإن هذا يزيد في الإثم، إذا كانت مثلًا هذه الكلاب لها أصواتٌ مزعجةٌ، ويتضرر الجيران منها، فهذا أيضًا لا يجوز.
ومن أمثلة ذلك: وضع مثلًا ورشة حدادةٍ في بيته، ولها أصواتٌ مزعجةٌ، ونحو ذلك، والقاعدة: أنه ليس للإنسان أن يُحدث في ملكه ما يضر بجيرانه، وتقدير الضرر المرجع فيه للعرف، وإذا تضرر الجار؛ فإنه يرفع الأمر للحاكم، والحاكم يمنع هذا الإنسان من أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره.
حكم التصرف في جدار جارٍ مشترَكٍ
ويحرم التصرف في جدار جارٍ مشتركٍ.
انتقل المؤلف للكلام عن أحكام الجدار المشترك بين الجارين، فيقول المؤلف: إنه يحرم التصرف في جدار جارٍ مشتركٍ إلا بإذن جاره، إذا كان الجدار مشتركًا بين الجارين؛ فليس لأحدهما أن يتصرف فيه إلا بإذن الجار الآخر، ومثل المؤلف بأمثلةٍ:
قال:
بفتح رَوْزَنَةٍ.
الرَّوْزَنة: هي الكُوَّة أو الفتحة، وهي ليست نافذةً كاملةً، يعني نصف نافذةٍ، هذه تسمى: روزنةً أو كُوَّةً.
أو طاقًا.
وهو عَقْد البناء يوضع على شكل قوسٍ.
أو ضرب وتدٍ.
هذا قديمًا، لمَّا كانت البيوت طينيةً؛ كانوا يضربون أحيانًا الأوتاد، فربما يُحدث هذا خرقًا في الحائط، المهم أنه ليس له أن يتصرف في هذا الجدار بأي تصرفٍ إلا بإذن جاره؛ لأن الجدار مشترك بينهما.
وكذا وضع الخشب إلا ألَّا يمكن تسقيفٌ إلا به، ويُجبَر الجار إن أبى.
كذلك يحرم وضع الخشب على الجدار المشترك بدون إذن جاره، إلا إذا احتاج جاره لذلك، فإذا احتاج جاره لذلك وليس على جاره ضررٌ؛ فإنه يضع هذا الخشب على جدار جاره، ويجبر عليه لو أبى؛ لقول أبي هريرة : لا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خَشَبَه في جداره، ثم يقول أبو هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرمين بها بين أكتافكم [6]، متفقٌ عليه.
وقوله: “والله لأرمين بها بين أكتافكم”، قيل يعني: هذه السُّنة وأُحَمِّلُكم إياها، وقيل المقصود: لأُلزمنكم بها، وهذا هو الأقرب؛ لأنه كان واليًا على المدينة.
على هذا نقول: إنه يجوز أن يضع الجار الخشب على جدار جاره بشرطين:
- الشرط الأول: ألا يضر ذلك بجدار جاره.
- والشرط الثاني: أن يكون محتاجًا إلى هذا، فإن أبى؛ أُجبر.
طيب، هنا مسألةٌ معاصرةٌ متفرعةٌ عن هذه المسألة، وهي: هل للإنسان أن يستفيد من الشبكة اللاسلكية للإنترنت، التي تسمى (واي فاي) من جاره بدون إذنه؟
فنقول: إن هذا يجوز بشرطين:
- الشرط الأول: عدم الضرر، ألا يضر ذلك بجاره.
- والشرط الثاني: أن يكون محتاجًا لذلك، أما إذا كان عنده (إنترنت)، ويوفر الإنترنت الخاص به، ويريد أن يستخدم الإنترنت من جيرانه، ليس له ذلك إلا بإذنهم، لكن لو احتاج لذلك؛ كأن يكون مثلًا ليس عنده (إنترنت)، خاصةً في التعليم عن بعدٍ، ونحو هذا، ولا يكون عنده (نت)، فيريد أن يستفيد من (نت) جاره، وهو محتاجٌ لذلك، وهذا لا يضر بالجار؛ فلا بأس بهذا، وليس لجاره أن يمنعه من هذا.
ثم أيضًا كون جاره لم يُشَفِّر الشبكة؛ هذا يعتبر كالإذن باستخدامها، فإنه لو أراد المنع؛ لشفرها ومنع من استخدامها إلا بأرقامٍ سريةٍ، كونه يجعل الشبكة مفتوحةً، هذا كالإذن باستخدامها.
قال:
وله أن يسند قماشه ويجلس في ظل حائط غيره، وينظر في ضوء سراجه من غير إذنه.
يعني: لو كان عنده قماشٌ، وأراد أن يسنده إلى جدار جاره؛ فلا بأس، لو أراد أن يجلس في ظل حائط جاره؛ لا بأس، أو ينظر في سراجه بغير إذنه، لا بأس.
ويتفرع عن هذا مسألة: هل للإنسان أن يوقف سيارته في ظل جدار جاره؟
الجواب: لا بأس بهذا، ما دام أن جاره لا يتضرر بذلك، وهذا متفرعٌ من قول الفقهاء: له أن يجلس في ظل حائطه بغير إذنه، لكن بهذا الشرط، بشرط أن جاره لا يتضرر بذلك، أما لو كان جاره يتضرر بذلك؛ كأن يريد الجار أن يستفيد هو من ظل الحائط، من ظل الجدار، فيأتي جاره ويزاحمه، ويأخذ ظل جداره، ليس له ذلك؛ لأن صاحب البيت أحق بظل جداره، لكن لو كان لا يتضرر؛ لنفترض مثلًا: أن سيارته لها مكانٌ آخر يوقفها فيه، وظل هذا الجدار لا أحد يوقف سيارته فيه، فأراد أحد الجيران أن يوقف سيارته في ظل جدار جاره، لا بأس بذلك، وهذا قد نص الفقهاء على مثله؛ كما في قولهم: إن للإنسان أن يجلس في ظل حائط جاره بدون إذنه.
حكم التصرف في الطريق النافذ بما يضر المار
قال:
وحرم أن يتصرف في طريقٍ نافذٍ بما يضر المار.
المراد بالطريق النافذ، يعني: الطريق السالك، الذي ليس سدًّا، والآن معظم الطرق نافذةٌ، فيحرم أن يتصرف فيها بما يُلحق الضرر؛ لأن ذلك من الحقوق العامة التي يشترك فيها الناس.
ثم ذكر المؤلف أمثلةً؛ قال:
كإخراج دكانٍ.
كأن يُخرج من جداره دكانًا يبيع فيه، ويلحق الضرر بجيرانه، أو بالطريق، أو يضع البضائع في الطريق ويتضرر المارة بذلك.
ودكةٍ.
الدكة يعني: هي بناءٌ مسَطَّحٌ أعلاه للجلوس، ولا زالت تستخدم بهذا المصطلح إلى الآن، فليس له أن يجعل بجوار جداره دكةً ليجلس عليها، إلا بإذن جاره.
وجَناحٍ وسابَاطٍ.
الجَناح يعني: هو الرَّوْشَن [7] على أطراف خشبٍ أو حجرٍ مدفونةٍ، لكن من جهةٍ واحدةٍ، فإن كان من جهتين؛ فهو الساباط [8]، وهذه كانت موجودةً قديمًا عند الناس، ربما قد تكون الآن غير موجودةٍ.
ومِيزابٍ.
الميزاب، ويسميه بعض الناس: مِرزامًا وميزابًا: الذي هو مخرج الماء، فليس له أن يجعل ميزابًا في بيته يخرج منه الماء، فيتضرر من ذلك المارة، يتضرر منه المارة.
والموفق ابن قدامة قال: لا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم، والطريق الأعظم: هو الذي يسمى الطريق العام، أو الشارع العام، ولا يجوز إخراجه إلى دربٍ نافذٍ إلا بإذن أهله؛ وعلل لهذا: بأن هذا تصرفٌ في هواءٍ مشتركٍ بينه وبين غيره بغير إذنه، يعني يقولون: في هذا ضررٌ؛ لأن الماء يقع على المارة، الذين يمرون في الطريق.
والقول الثاني: أنه يجوز إخراج الميزاب إلى الشارع العام؛ لأنه لا ضرر في ذلك، خاصةً في وقتنا الحاضر أصبحت الميازيب توضع بطريقةٍ لا تُلحق الضرر بالمارة، أصبحت توضع في شكل مواسير تنزل إلى الأرض، وحتى لو كانت أيضًا ليست بهذه الطريقة، فأصبحت البيوت لها مقدماتٌ، وخروج الماء عن طريق هذه الميازيب، لا يلحق الضرر بالناس في الطرقات.
فإذنْ تأخذ القاعدة: وهي لحوق الضرر، إذا كان هناك ضررٌ؛ فيمنع من ذلك، ليس هناك ضررٌ؛ لا يمنع، من غير حاجةٍ للدخول في التفاصيل التي ذكرها الفقهاء.
ولهذا الجمهور قالوا: إنه يجوز إخراج الميازيب في الطرق عمومًا، سواءٌ كان الطريق الأعظم، أو أي طريقٍ، ورُوي في ذلك قصةٍ مشهورةٍ، لكنها ضعيفةٌ من جهة الإسناد: أن العباس كان له ميزابٌ، وأن عمر لبس ثيابه يوم الجمعة، وقد ذُبح للعباس فرخان، فلما مر عمر ؛ صب دم الفرخين فأصاب عمر، فأمر عمر بقلع ميزاب العباس، وغيَّر عمر ملابسه، ولبس ملابس أخرى، ثم أتاه العباس وقال: إن هذا الميزاب وضعه النبي ، فقال عمر: وأنا أعزم عليك أن تصعد على ظهري وتضع هذا الميزاب في الموضع الذي وضعه رسول الله [9]، هذه القصة أخرجها أحمد، لكنها ضعيفةٌ من جهة الإسناد، وحتى أيضًا في متنها نكارةٌ، يعني كيف يفعل العباس هذا، يذبح له فرخين ويخرج الدم ويصيب عمر؟! يعني: فيها نكارةٌ، لكن المعول في ذلك على الضرر.
في وقتنا الحاضر أصبح وضع الميازيب ليس فيه ضررٌ؛ لأنها توضع بطريقةٍ معينةٍ؛ وعلى ذلك: فالأمر فيها واسعٌ، وما ذكره الفقهاء كانوا يتكلمون عن بيئتهم في ذلك الزمان، وكانت البيوت طينيةً، والطرق ضيقةً، فإذا وضع الميزاب ربما خرج الماء، أو خرج بعض النجاسات عن طريق هذا الميزاب، فأصابت ثياب الناس المارة، فأضرت بهم.
فإذنْ المعول عليه هو الضرر، من غير حاجةٍ لأن نَدخل في تفاصيل هذه الأمثلة.
قال:
ويضمن ما تلف به.
يعني: من وضع شيئًا مما ذكر، وتضرر جاره بذلك؛ فإنه يضمن، من الأمثلة المعاصرة في وقتنا الحاضر، مما يحدثه بعض الناس، ويُلحق الضرر بالآخرين: أن بعض الناس يجعل حجم الرصيف المحيط بمنزله كبيرًا، فيضيق الطريق، ويتضرر الناس من ذلك، أو أنه يجعل مخلفات البناء بجوار بيته، ونحو ذلك، فيتضرر الناس بذلك، أو أنه يخرج الماء من بيته بطريقةٍ مزعجةٍ تزعج الجيران.
فإذنْ: العبرة بالضرر، إذا حصل من الإنسان إضرارٌ بجيرانه؛ فإن ذلك ممنوعٌ شرعًا، لا ضرر ولا ضرار [10].
قال:
ويحرم التصرف بذلك في ملك غيره أو هوائه، أو دربٍ غير نافذٍ إلا بإذن أهله.
إذا كان يحرم ذلك في تصرف الإنسان في ملكه إذا كان يلحق الضرر بجيرانه؛ فكيف بتصرفه في ملك غيره؟! فهو محرمٌ من باب أولى، فإذا كان يلحق الضرر بجيرانه؛ فإن هذا لا يجوز، ومن ذلك: ما ذكره المؤلف: إذا جعل هواءه، أو تصرف في دربٍ غير نافذٍ بغير إذن أهله.
أيضًا لو كانت أسطح بعض الجيران أعلى من الآخر، فليس لصاحب السطح الأعلى الصعود إلى سطحه على وجهٍ يكشف به بيت جاره، إلا أن يبني سترةً، وليس له أن يفتح النوافذ على بيت جاره.
فبعض الناس ربما يعلي بناء بيته، فيكون أعلى من جاره، فيكشف بيت جاره، وربما في بيت جاره تخرج النساء متكشفاتٍ، فيتسبب هذا في الاطلاع على عورات جاره، وهذا لا يجوز، فليس له إذنْ أن يُعلي بيته أكثر من جاره إلا بإذنه، أو أنه يضع سترةً تستر ما بين الجارين.
وقد جاء في حديث أبي هريرة : أن النبي قال: لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذنك فخذفته بحصاةٍ ففقأت عينه؛ لم يكن عليك جناحٌ [11]، والحديث في “الصحيحين”، يعني: لو أن أحدًا اطلع على بيتك بغير إذنك، فأخذت حصاةً وحذفته وفقأت عينه؛ فهذا هدرٌ، لا تطالَب بشيءٍ، ليس عليك إثمٌ، ولا ضمانٌ، لكن بشرط أن تُثبت ذلك، والإثبات هو الصعب، إثبات أنه اطلع عليك بغير إذنٍ قد يكون صعبًا، لكن لو افترضنا مثلًا أنه وُجد شاهدان فأكثر شهدوا بذلك؛ فعينه هدرٌ، عينه التي فقئت هدرٌ، وقد جاء في “الصحيح”: أن رجلًا أتى بعض بيوت النبي ، فاطلع على بيت النبي عليه الصلاة والسلام، فلحقه النبي عليه الصلاة والسلام بحصاةٍ، وجعل يختله يريد أن يضربه بالحصاة [12]؛ تأديبًا له؛ لأنه اطلع على أمورٍ خاصةٍ.
فليس للإنسان أن يطلع على الأمور الخاصة للآخرين، لا يطلع على بيت جاره بغير إذنه، ولا يطلع أيضًا على سيارته مثلًا، ولا على الأمور الخاصة، حتى لو مثلًا وجد الإنسان الجوال لإنسانٍ آخر، ليس له أن يأخذ جواله ويفتحه ويطلع على ما في الجوال، لا يجوز هذا، هذه أمورٌ خاصةٌ، فليس له أن يطالع جواله بغير إذنه، بل حتى لو كان من بجوارك فتح جواله، فليس لك أن تَطَّلِع، تلتفت وتطلع على المكالمات وعلى الرسائل، هذه أمورٌ فيها خصوصيةٌ، فليس للإنسان أن يفعل ذلك؛ لأن هذا يؤذي جارك، ويؤذي من بجوارك، والنبي يقول: لا يُؤمِن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [13]، عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به، فأنت لا ترضى أن أحدًا يفعل بك هذا، فلا تفعله مع غيرك.
وقوله: “إلا بإذن أهله”، يدل على أنه لو حصل الإذن؛ فلا بأس.
الاشتراك في العمارة والوقف
ويجبر الشريك على العمارة مع شريكه في الملك والوقف.
انتقل المؤلف للكلام عن الاشتراك في العمارة، والاشتراك في الوقف، فإذا كان هناك اثنان أو أكثر اشتركوا في عقارٍ، فانهدم العقار المشترك، أو انهدم جدارٌ مشتركٌ، أو انهدم جزءٌ منه، وخيف الضرر بسقوطه؛ فيجبر الشريك على العمارة مع شريكه، لو أن أحد الشريكين رفض وقال: لا، أنا لا أساهم معك في عمارة العقار، ورفض المشاركة في البناء، أو في ترميم العقار الذي خيف سقوطه؛ فإنه يُجبِره الحاكم على ذلك.
وهكذا الوقف المشترك الذي انهدم حائطه أو سقفه، فطلب أحد الشريكين من صاحبه المشاركة في البناء أو الترميم فأبى الشريك، فإنه يجبر على ذلك.
قال:
وإن هدم الشريك البناء، وكان لخوف سقوطه؛ فلا شيء عليه.
لو تصرف أحد الشريكين وهدم العقار؛ لأنه يخشى أن يسقط؛ فلا شيء عليه، ولو بغير إذن شريكه.
وإلا لزمه إعادته.
يعني: لو هدم الشريك البناء، لكن ليس لخوف سقوطه، وإنما لأجل التحسين والتجميل؛ فيلزمه أن يعيده كما كان، أو أنه يتحمل التكاليف بنفسه، يعني: إذا كان ذلك لأجل التحسين والتجميل، يتحمل التكاليف بنفسه، ولا يجبر شريكه على المشاركة.
وإن أهمل شريكٌ بناء حائط بستانٍ اتفقا عليه، فما تلف من ثمرته بسبب إهماله، ضَمِن حصة شريكه.
يعني: لو كان اثنان شريكان في حائطٍ، في بستانٍ، فاتفقا على أن يبني أحدهما جهةً، والآخر يبني الجهة الأخرى، ثم إن أحدهما أهمل ولم يفعل، فتسبب بذلك في تلف ثمرة البستان؛ فإنه يضمن حصة شريكه؛ لأنه قد تسبب في تلف هذه الثمرة بتفريطه وإهماله.
هذه هي أحكام الجوار، ونلاحظ أن الفقهاء فصَّلوا فيها؛ وذلك لكثرة النزاعات التي تقع فيها، فأرادوا أن يضعوا في هذا قواعد، والقاعدة العظيمة في هذا الباب: هي قول النبي : لا ضرر ولا ضرار [14].
فليس للإنسان أن يحدث في ملكه، أو في ملك غيره ما يضر بجاره، ونرجع في تقدير الضرر إلى العرف، ما عده الناس في عرفهم ضررًا؛ فهو ضررٌ، وما لا فلا، هذه هي القاعدة في التعامل مع الجيران.
كتاب الحَجْر
ننتقل بعد ذلك إلى:
كتاب الحَجْر
تعريف الحجر
أولًا: هذه المادة (الحاء والجيم والراء) في اللغة العربية تدور حول معنى المنع، ومنه قول الله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:22]، يعني: محرمٌ عليهم الفلاح يوم القيامة، ويسمى الحرام حِجْرًا، وأيضًا يسمى العقل حجرًا: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:5]، يعني: لذي عقلٍ؛ لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يشين، ومنه حِجْر الكعبة؛ لأنه يمنع الطائفين من أن يطوفوا به، وإنما يطاف من ورائه، وبعض الناس يسميه حِجْر إسماعيل، وهذا لا أصل له، بعضهم يعتقد أن إسماعيل مات ودُفن -بل بعضهم يقول: دفن هو وأمه هاجر- في الحِجْر، وهذا كله لا أصل له.
وكان حِجْر الكعبة جزءًا من البيت، لكن لما أرادت قريشٌ أن تعيد بناء الكعبة بعد تهدُّم أجزاءٍ منها؛ بسبب السيول، اشترطوا ألا يدخلوا إلا ما تمحض من النفقة الحلال، فقصرت بهم النفقة، فوضعوا الكعبة على هذا الشكل المربع، وأحاطوا بقية الكعبة بجدارٍ قصيرٍ يسمى الحِجْر، أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعيد البناء على قواعد إبراهيم ، لكنه خشي الفتنة، وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما أراد أن يحقق أمنية النبي عليه الصلاة والسلام، فأعاد بناءها على قواعد إبراهيم ، وأدخل الحِجْر؛ ولما أتى الحجاج بن يوسف وقتل ابن الزبير؛ هدم الكعبة، وأعاد بناءها كما كانت، ثم بعد ذلك أراد أبو جعفرٍ المنصور أن يعيد بناءها على قواعد إبراهيم ، فنهاه العلماء وعلى رأسهم الإمام مالكٌ، وقالوا: دعها حتى لا تكون الكعبة ألعوبةً للملوك، كلما أتى ملِكٌ هذا يهدم، وهذا يبني، فتُركت، وكان آخر بناءٍ للكعبة عام (1417)، في عهد الملك فهدٍ رحمه الله، أعيد بناؤها في ذلك العام.
ومن حكمة الله تعالى أنها بقيت هكذا، يعني بقي حِجْر الكعبة خارجًا عن الكعبة، يعني خارجًا عن البناء المربع، هذا من حكمة الله ؛ فإنه لو جُعل لها بابان، لو أن الحِجْر أدخل في الكعبة، وجُعل لها بابان: بابٌ يدخل الناس منه، وبابٌ يخرج الناس منه؛ ربما تعذر الطواف في وقتنا الحاضر، بسبب كثرة الناس، وما تمناه النبي تحقق، فإن الحجر له بابان؛ باب يدخل الناس منه، وباب يخرج الناس منه بكل يسرٍ وسهولةٍ، ومن صلى في الحِجْر؛ فقد صلى في الكعبة؛ لأن الحِجْر جزءٌ من الكعبة.
ومعنى الحَجْر اصطلاحًا: عرفه المصنف فقال:
هو منع المالك من التصرف في ماله.
وهذا تعريفٌ جيدٌ، جامعٌ مانعٌ.
أنواع الحِجر
وهو نوعان:
حَجْرٌ على الإنسان لِحَظِّ غيره، وحجرٌ على الإنسان لحظ نفسه.
الأول: لحق الغير
أشار المؤلف للقسم الأول، قال:
الأول: لِحَقِّ الغير؛ كالحجر على مفلسٍ.
يعني: الحجر على إنسانٍ لِحَظِّ غيره، قال: مثل الحجر على المفلس، والمفلس: هو من كان دَينه أكثر من ماله، وسيأتي الكلام عن أحكامه.
وراهنٍ.
يعني: من أمثلة الحجر لحظِّ الغير: الحجر على الراهن في العين المرهونة لِحَقِّ المرتهن.
ومريضٍ.
يعني: المريض مرض الموت، فإنه محجورٌ عليه في التصرف في ماله، إلا في حدود الثلث فأقل، ولا بد أن يكون مريضًا مرض الموت المَخُوف؛ مثل: المصاب بالسرطان إذا انتشر، إذا وصل إلى الدرجة الرابعة، فهذا يعتبر مرض الموت المخوف، فليس له أن يتصرف في ماله إلا في حدود الثلث فأقل.
وقِنٍّ ومكاتبٍ.
يعني: الرقيق والمكاتب أيضًا ليس له مالٌ، ماله لسيده، فهو محجورٌ عليه في التصرف في ماله؛ لأنه من حق سيده.
ومرتدٍّ.
أيضًا: المرتد محجورٌ عليه في ماله لحقِّ المسلمين؛ لأن تركته تكون فيئًا لبيت المال، فتصرفات المرتد في ماله غير صحيحةٍ؛ لأنه محجورٌ عليه في ماله لحقِّ المسلمين.
ومشترٍ بعد طلب الشفيع.
المشتري محجورٌ عليه من التصرف في المبيع لحق الشفيع إذا طلب الشفعة، فعندما يشتري إنسانٌ عقارًا مثلًا، فيشفع عليه شفيعٌ؛ فإنه يُحجر على هذا المشتري من التصرف لحق الشفيع، وهذا -إن شاء الله- سيأتي الكلام عنه مفصلًا في باب الشفعة.
هذا هو القسم الأول، أشار إليه المؤلف، وسيأتي الكلام عنه بتفصيل.
الثاني: لحظ نفسه
القسم الثاني: حجر على الإنسان لحظ نفسه، أشار إليه المؤلف بقوله:
والثاني: لحظ نفسه، كـ”على صغيرٍ”.
يعني: كالحجر على صغيرٍ، الصغير الذي لم يبلغ محجورٌ عليه في ماله لحظ نفسه؛ وذلك لخفة الضبط عنده، حتى وإن كان قد قارب البلوغ، يعني حتى وإن كان عمره أربع عشرة سنةً، لكنه لم تظهر منه إحدى علامات البلوغ -سيأتي الكلام عنها- فهو محجورٌ عليه في التصرف في ماله إلا بإذن وليه.
طيب، هذا المراهق الذي قد قارب البلوغ إنسانٌ له عقلٌ وفهمٌ وإدراكٌ، كيف نقول: إنه محجورٌ عليه؟
نقول: إنه وإن كان له عقلٌ، إلا أن الضبط عنده غير تامٍّ؛ ولذلك مرفوعٌ عنه القلم: رفع القلم عن ثلاثةٍ..، وذكر منهم: عن الصبي حتى يبلغ [15]، فالضبط عنده غير تامٍّ، إنما يكون تامًّا بعد البلوغ، فلذلك هو محجورٌ عليه حتى يبلغ، وأيضًا يضاف مع ذلك الرشد، البلوغ مع الرشد.
قال:
وسفيهٍ.
أيضًا السفيه محجورٌ عليه من التصرف في ماله لحظ نفسه -وسيأتي الكلام عن ذلك بالتفصيل- لقول الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ.. إلى آخر الآية [النساء:6].
قال:
ولا يطالب المدين، ولا يحجر عليه بدَينٍ لم يَحل.
يعني: المدين دينًا مؤجلًا لا يطالب بهذا الدين، ما دام أنه لم يحل الأجل.
هل للغريم منع المدين من السفر؟
لكن لو أراد سفرًا طويلًا؛ فلغريمه منعه حتى يوثقه برهنٍ يحرز، أو كفيلٍ مليءٍ.
لو أراد هذا المدين الذي عليه ديونٌ مؤجلةٌ أن يسافر سفرًا طويلًا، فللدائن أن يطلب منعه من السفر حتى يوثق دينه، إما برهنٍ أو بكفيلٍ.
مثال ذلك: رجلٌ يطلب آخر مليون ريالٍ، ثم إن هذا المدين طلب بعثةً دراسيةً مدتها مثلًا: أربع سنين، وهذا الدين سيحل بعد ستة أشهرٍ، فللدائن أن يطلب منعه من السفر حتى يوثق هذا الدين برهنٍ أو بكفيلٍ مليءٍ.
الدين المؤجل هل يحل بموت المدين؟
ولا يحل دينٌ مؤجلٌ بجنونٍ ولا بموتٍ، إن وثق ورثته بما تقدم.
هذه مسألةٌ مهمةٌ، وهي الدين المؤجل، هل يحل بموت المدين؟
إنسانٌ عليه ديونٌ مؤجلةٌ ثم مات، فهل للدائن أن يأتي للورثة، ويقول: أعطوني حقي الآن، أو أنه ينتظر حتى يحل الأجل؟
طيب إذا انتظر حتى يحل الأجل؛ ربما أن الورثة تقاسموا التركة، وما بقي عندهم شيءٌ.
طيب إذا قلنا: إن له أن يطالب الآن، كيف يطالب الآن بعد وفاة المدين ولم يحل الأجل؟
هذه المسألة خلافيةٌ بين الفقهاء، اختلفوا على قولين:
- القول الأول: أنه يحل الدين المؤجل بموت المدين، ويجب في تركته، يعني يقولون: إن ذمته خربت، ذمة المدين خربت؛ فالديون المؤجلة كلها تحل، تصبح الديون المؤجلة حالَّةً، وهذا هو قول الجماهير من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في روايةٍ، وقالوا: إن ذمة المدين قد خربت بموته؛ فيحل الدين المؤجل، ولأن مال المدين قد أصبح بموته تركةً، ولو بقي الدائن على أجله؛ ربما اقتسم الورثة التركة -وهذا هو الغالب- وضاع حق الدائن.
- القول الثاني: هو القول الذي قرره المؤلف، وهو المذهب عند الحنابلة، يقولون: الدين المؤجل لا يحل بالموت، بشرط: أن يوثِّق الورثة هذا الدين برهنٍ أو بكفيلٍ، فإذا وثَّق الورثة هذا الدين برهنٍ أو بكفيلٍ؛ لم يحل، يبقى على أجله، لكن إذا لم يوثِّق الورثة هذا الدين بكفيلٍ ولا برهنٍ؛ فإن هذا الدين يحل؛ لأن القول بعدم حلوله فيه إضرارٌ بهذا الدائن، هذا هو القول الراجح، وهو من المفردات، وهذا القول أقرب للعدل والإنصاف من القول الأول؛ لأن القول الأول يقولون: إن جميع الديون المؤجلة تحل، طيب كيف تحل وآجالها لم تحل بعد؟ قالوا: لأجْل حفظ حق الدائنين، حق الدائنين يمكن حفظه بطلب الرهن أو الكفيل المليء، وبذلك يزول الضرر، ما من ضررٍ إذا كان هناك كفيلٌ مليءٌ، أو هناك رهنٌ، زال الضرر عن الدائنين.
ولنفترض مثلًا: أن الدين الآن في وقتنا الحاضر ربما يصل إلى عشرين سنةً، أو ثلاثين سنةً، الآن ديون بعض البنوك تصل إلى عشرين أو ثلاثين عامًا، كيف نقول: إن هذه الديون تحل؟
فالأظهر -والله أعلم- ما أقره المؤلف، وهو المذهب عند الحنابلة، نقول: إن الدين المؤجل لا يحل بموت المدين، بشرط: أن يوثِّق الورثة هذا الدين، إما برهنٍ أو بكفيلٍ مليءٍ.
حكم السداد على المدين القادر المليء
قال:
ويجب على مدينٍ قادرٍ وفاء دينٍ حالٍّ فورًا بطلب ربه.
المدين القادر المليء، هذا يجب عليه أن يسدد الدين متى ما طلب الدائن، بل حتى لو لم يطلب الدائن؛ يجب عليه أن يسدد الدين، النبي يقول: مَطْل الغني ظلمٌ [16]، وإذا كان ظلمًا فهو معصيةٌ، كل يومٍ يمضي على هذا المدين القادر على الوفاء يكتسب بسبب تأخير سداد الدين آثامًا كل يومٍ، ما دام أنه قادرٌ على الوفاء؛ يجب عليه أن يسدد الدين، وليس له أن يؤخر سداد الدين، مَطْل الغني ظلمٌ، فهو ظلمٌ لهذا الدائن.
وبعض الدائنين ربما يستحي أن يطلب الدين من هذا المدين، فعلى المدين -متى ما قدر على السداد- أن يسدد الدين الذي في ذمته، ولا يجوز له أن يؤخره، وهو بتأخيره يتحمل آثامًا، مطل الغني ظلم، وإذا كان ظلمًا فهو آثمٌ لظلم هذا الدائن.
قال:
وإنْ مَطَله حتى شكاه؛ وجب على الحاكم أمره بوفائه، فإن أبى؛ حَبَسه.
إذا ماطل المدين الذي حل عليه الدين حتى ألجأ الدائن إلى الشكاية؛ فإن الحاكم -وهو القاضي- يجبر المدين على السداد، فأن أبى المدين السداد مع قدرته على السداد؛ فإنه يُحبس؛ لقول النبي : لَيُّ الواجد يُحِل عِرضه وعقوبته [17]، الواجد يعني القادر على السداد.
وقوله: ليُّ، يعني: مماطلته، يحل عرضه يعني: شكواه، وعقوبته يعني: حبسه.
قال:
ولا يُخرِجه حتى يتبين أمره.
يعني: لا يَخرج من السجن إلا بعد سداد الدين، أو إثبات أنه معسرٌ، أو إبراء الغريم له.
وقوله: وعقوبته، يشمل أي عقوبةٍ يراها القاضي، ومن ذلك: إيقاف الخدمات، والمنع من السفر، ونحو ذلك، كلها داخلةٌ في العقوبة.
“فإن أبى” المدين، يعني: هذا رجلٌ مستميتٌ، رفض أن يسدد، يا فلان سدد الدين، رفض، حُبس، صَبَر على الحبس وهو رافضٌ أن يسدد، والمال موجودٌ عنده، وهذا قد يوجد عند بعض الناس، بعض الناس عنده تعلقٌ شديدٌ بالمال، فيختار السجن على أن يسدد ديون الناس، فما الحكم حينئذٍ؟ نقول: الحكم أن القاضي يتدخل ويبيع من ماله ما يسدد به ديون الغُرَماء، عندنا في المملكة العربية السعودية، القاضي يخاطب البنك المركزي، الذي يخاطب البنك الذي فيه حساب هذا المدين، ويقتطع الدين من حسابه مباشرةً، وهذا يعني إجراءٌ سهلٌ لا يُحتاج معه إلى حبس المدين.
حكم مطالبة المعسر والحجر عليه
فإن كان ذو عسرةٍ، وجب تخليته، وحرمت مطالبته والحجر عليه ما دام معسرًا.
إن كان المدين معسرًا، والمعسر: هو الذي لا يقدر على وفاء الدين؛ فهذا لا تجوز مطالبته فضلًا عن شكايته وحبسه، والله تعالى يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فيحرم حبس المعسر، ولا يجوز التعرض له، ولا يجوز مطالبته، وليس للدائن مِنَّةٌ في هذا، هذا هو حكم الله ، وهذا هو شرع الله، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280].
هذا أخوك المسلم الآن معسرٌ ما عنده شيءٌ، كيف يسدد؟ وما الفائدة من حبسه وهو معسرٌ؟ هل حبسه سيتسبب في سداد الدين الذي لك؟ بالعكس ستزداد أموره سوءًا، وأيضًا تُعاقِب معه أسرته، إذا حبسته تعاقب أسرته معه؛ فلا يجوز حبس المعسر ما دام معسرًا، لا يجوز حبسه ولا التعرض له، وبهذا نعرف خطأ الذين يرفعون شكايةً في المعسرين، ويتسببون في سجنهم بسبب ذلك، وربما بقوا في السجن سنين طويلةً، فيبوءون بإثمهم، وربما يكون ذلك سببًا لمَحْق بركة أموالهم، وربما يكون ذلك سببًا لحلول المصائب عليهم، إما في صحتهم، وإما في أموالهم، وإما في أولادهم، أو في غير ذلك؛ بسبب تسلطهم على هؤلاء المعسرين، فإذا كان هذا معسرًا؛ فهو قد ابتلي بإعساره، وأنت قد ابتليت به، فعليك أن تصبر، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280].
وقد وردت النصوص في فضل إسقاط الدين عن المعسر، كما في الآية الكريمة: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]، فجعل الله تعالى إسقاط الدين عن المعسر صدقةً، وأنها خيرٌ للإنسان، وهي من أعظم الصدقات وأفضلها.
وجاء في حديث أبي قتادة أن النبي قال: مَن سرَّه أن ينجيه الله من كُرَب يوم القيامة؛ فلينفس عن معسرٍ، أو يضع عنه [18]، وأيضًا جاء في حديث حذيفة قصةٌ عجيبةٌ قصها علينا رسول الله ، قال: تَلَقَّت الملائكة روح رجلٍ ممن كان قبلكم، قالوا: أعملت من الخير شيئًا؟ قال: لا، قالوا: تَذَكَّرْ، قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن يُنظِروا المعسر، وأن يتجوَّزوا عن الموسر، قال الله: نحن أحق بذلك منك، فقال الله: تجاوزوا عن عبدي [19]، وهذا يدل على فضل التجوز عن المعسر.
وفي الحديث: من أنظر معسرًا أو وضع عنه؛ أظله الله في ظله [20]، وهذا يدل على أنه ينبغي السماحة من الإنسان عندما يتعامل مع الآخرين؛ وذلك بأن يُنظِر المعسر، وأن يتجاوز عن الموسر، وأن يكون سمحًا، فلا يكون شديد المطالبة، والنبي يقول: رحم الله امرأً سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى سمحًا، إذا اقتضى [21].
فالسماحة من أسباب حلول البركة في المال، يقول النبي : إن هذا المال خضرٌ حلوٌ، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ؛ بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفسٍ -يعني بتعلقٍ وطمعٍ- لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع [22]، المال خضرٌ حلوٌ، المال محبوبٌ للنفوس، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20].
فمن أخذه بسخاوة نفسٍ، إذا أخذ الإنسان هذا المال بسخاوة نفسٍ، يعني: من غير تعلقٍ، ومن غير شرهٍ، ومن غير طمعٍ؛ بورك له فيه، هذا من أسباب حلول البركة في المال.
ومن أخذه بإشراف نفسٍ، أخذه بطمعٍ وتعلقٍ وجشعٍ؛ لم يبارك له فيه، تنزع البركة من هذا المال، وكان كالذي يأكل ولا يشبع؛ ولذلك من أسباب حلول البركة في المال: السماحة، أن يأخذ الإنسان هذا المال بسماحة نفسٍ، يكون سمحًا مع الآخرين، سمحًا في البيع، سمحًا في الشراء، سمحًا في المطالبة بالدين، سمحًا في تعاملاته، هذه السماحة من أسباب حلول البركة في ماله، لكن إذا لم يكن سمحًا، وكان شديدًا، بعض الناس شديدٌ في البيع، وشديدٌ في الشراء، يحرج الآخرين عندما يبيع وعندما يشتري وعندما يتقاضى دينًا، فهذا من أسباب نزع البركة من ماله.
طيب، هنا نحن قلنا: إن المعسر لا يجوز شكايته فضلًا عن سجنه، لكن بماذا يثبت الإعسار؟ لأن بعض الناس يدعي أنه معسرٌ وليس معسرًا، بل معظم -إن لم يكن جميع- المدينين يدعون الإعسار، المدينين الذين ترفع فيهم شكاياتٌ، معظم -إن لم يكن جميع- المدينين الذين يسجنون بسبب الديون يدعون الإعسار، فبم يثبت الإعسار؟ يثبت بالبينة.
البينة التي يثبت بها الإعسار
لكن ما هي البينة التي يثبت بها الإعسار؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنها شاهدان، وإلى هذا ذهب الجمهور.
القول الثاني: أن بينة الإعسار ثلاثة شهودٍ، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات، وهو القول الراجح، أن الإعسار لا يثبت إلا بثلاثة شهودٍ؛ وذلك لما جاء في “صحيح مسلمٍ” من حديث قَبيصة أن النبي قال: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثةٍ..، وذكر منهم: رجلًا أصابته جائحةٌ، اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيشٍ، قال: ورجلٌ أصابته فاقةٌ -يعني: فقرٌ وإعسارٌ- حتى يقول ثلاثةٌ من ذوي الحِجَا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ [23].
فقوله : حتى يقوم ثلاثةٌ من ذوي الحجا، يعني: يشهد له ثلاثةٌ، وهذا نصٌّ في أن الإعسار إنما يثبت بثلاثة شهودٍ، واختار هذا الإمام ابن القيم وقال: هو الصواب الذي يتعين القول به، لماذا؟ لأن الإعسار من الأمور الخفية التي تقوى فيها التُّهَمة، ويحتاج إلى مزيدٍ من التثبت في إثباته؛ فإنه يدعي الإعسار من ليس بمعسرٍ، فلا بد من التثبت والتحقق بثلاثة شهودٍ على الأقل، يخبرون بأن فلانًا معسرٌ، وسيأتي الكلام -إن شاء الله- عن هذه المسألة في باب الشهادات.
بعض الناس عندهم حِيَلٌ؛ يكتب أملاكه أو بعض أملاكه بأسماء آخرين، ويقول: إنه معسرٌ، وعندما يبحث عنه ما يوجد عنده شيءٌ، وهذه من الحيل المحرمة، هذا لا يجوز، ولا يحل له ذلك، ولو استطاع الدائن أن يثبت هذا؛ فإنه يعتبر هذا مدينًا قادرًا على الوفاء وليس معسرًا.
أحكام الحجر على المفلس
ثم انتقل المؤلف للكلام عن أحكام الحجر على المفلس فقال:
وإن سأل غرماءُ مَن له مالٌ لا يفي بدينه الحاكمَ الحجرَ عليه؛ لزمه إجابتهم.
هذا يسميه الفقهاء المفلس، وتعريف المفلس عند الفقهاء: مَن دينه أكثر مِن ماله، هذا يسمى مفلسًا، أما من ليس عنده شيءٌ فهذا معسرٌ، لكن من عنده مالٌ لكن عليه ديونٌ، والديون أكثر من المال، هذا يسمى مفلسًا.
فإذا سأل الدائنون القاضي الحجر عليه؛ فإن القاضي يحجر عليه، وقد جاء في حديث كعبٍ أن رسول الله حجر على معاذٍ ماله، وباعه بدينٍ كان عليه [24]، لكن لا بد من طلب الدائنين، فلو لم يطلب الدائنون الحجر عليه؛ فإنه لا يُحجر؛ لأنه ربما يسامحونه، وهذا هو المفلس، مفلس الدنيا، أما مفلس الآخرة، فكما قال النبي : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، وذاك من حسناته، فإن فنيت حسناته؛ أُخذ من خطاياه وطرحت عليه، ثم طرح في النار [25]، نسأل الله السلامة والعافية، هذا هو المفلس حقيقةً، الذي يأتي يوم القيامة بحسناتٍ عظيمةٍ كالجبال، ثم تتطاير منه هذه الحسنات، لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، لفلانٍ بسبب أنه قذفه، ولفلانٍ بسبب أنه سخر منه، ولفلانٍ بسبب أنه اغتابه، وتتطاير الحسنات، وتذهب لموازين غيره، وهو ينظر، فهذا يبوء بالحسرات يوم القيامة، هذا هو المفلس حقيقةً.
هل يجوز للمفلس أن يتصدق؟
هنا مسألةٌ: هل يجوز للمفلس أن يتصدق وهو مفلسٌ؟
الفقهاء قالوا: إن المفلس الذي ديونه أكثر من ماله، ليس له أن يتصدق، ولا أن يتبرع بما يضر بأصحاب الديون، حتى لو لم يَحجر عليه الحاكم؛ وبناءً على ذلك: فالمفلس ليس له أن يتبرع بشيءٍ من ماله؛ لا بصدقةٍ، ولا بهبةٍ، ولا بغير ذلك.
واستثنى بعض الفقهاء من ذلك: الشيء اليسير، قالوا: لا بأس أن يتصدق به، وسئل الإمام أحمد عمن عليه دينٌ ويتصدق بشيءٍ، قال: الشيء اليسير، وقضاء دينه أوجب عليه.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المفلس ليس له أن يتصدق حتى بالشيء اليسير، واختار هذا الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وقالوا: إن القليل مع القليل يكون كثيرًا؛ ولأنه إذا مُنع من الصدقة ولو بالشيء اليسير؛ فإن هذا يكون محفزًا له على سداد الديون التي عليه.
وبعض الناس تجد أنه غارقٌ في الديون، ومع ذلك يقيم الولائم الكبيرة، ويتصرف تصرفات الأغنياء، وهذا لا يحل له، فالمفلس الذي دينه أكثر من ماله عليه أن يجمع المال لكي يسدد الديون التي في ذمته، أما أن بعض الناس عليه ديونٌ، ومع ذلك يتصرف تصرفات الأغنياء، يقيم الولائم الكبيرة، ويهدي ويتبرع ويتصدق، هذا من سوء التدبير، وهذا أيضًا يأثم به، هذا يأثم به؛ لأن حقوق الآخرين في ذمته، كيف له أن يأتي بأمرٍ مستحبٍّ، ويترك الأمر الواجب عليه، بل إن هذه الصدقة لا تعتبر مستحبةً بالنسبة له، هذه التبرعات ليست مستحبةً، بل هو ممنوعٌ منها ما دام مفلسًا؛ ولذلك: مَن عليه دينٌ حالٌّ وهو عاجزٌ عن سداده لا يجب عليه الحج وهو أحد أركان الإسلام، بل ليس له أن يحج، إلا إذا استأذن من الدائن؛ لأن هذا المال الذي يريد أن يحج به هو في الحقيقة مستحقٌّ للدائن.
قال:
وسُن إظهار حَجْرِ المفلس.
حتى يتبين أمره ويشتهر، ويعلم الناس بحقيقته فلا يتعاملون معه.
فائدة الحجر على المفلس
طيب، نأخذ أحكام الحجر:
قال:
وفائدة الحجر أحكامٌ:
انتقل المؤلف لأحكام الحجر على المفلس، وذكر أربعة أحكامٍ:
الحكم الأول:
قال:
تعلق حق الغرماء بالمال، فلا يصح تصرفه فيه بشيءٍ ولو بالعتق.
حق الغرماء -يعني الدائنين- يتعلق بمال المفلس؛ فلا يصح تصرف المفلس بالمال الموجود قبل الحجر وبالمال الحادث بعد الحجر.
وقوله: “ولو بالعتق”، إشارةٌ للخلاف؛ لأن بعض الفقهاء قالوا: إن العتق مستثنًى، والصواب: أنه غير مستثنًى، فالمفلس ليس له أن يتصرف في ماله؛ لا ببيعٍ، ولا بهبةٍ، ولا بعتقٍ، ولا بغير ذلك؛ لأن حق الغرماء والدائنين قد تعلق به.
وإن تصرف في ذمته بشيءٍ أو إقرارٍ؛ صح، وطولب به بعد فك الحجر عنه.
نحن قلنا: إنه ليس له أن يتصرف في ماله؛ لتعلق حق الغرماء، لكن ماذا لو تصرف في ذمته، ليس في ماله، وإنما في ذمته؟
يقول المؤلف: إنه يصح، لكن لا يطالب به إلا بعد فك الحجر؛ كأن يشتري مثلًا سلعةً بدينٍ، أو يقر بجنايةٍ توجب مالًا، فيثبت ذلك في ذمته، ويطالب به بعد فك الحجر.
حكم من وجد ماله عند رجل قد أفلس
الحكم الثاني من أحكام الحجر على المفلس:
أشار إليه المؤلف قال:
أن من وجد عين ما باعه أو أقرضه؛ فهو أحق بها.
من وجد عين ماله عند رجلٍ قد أفلس؛ فهو أحق به، يعني مثلًا: بعت سيارةً لإنسانٍ بثمنٍ مؤجلٍ، ثم سمعت بأن فلانًا قد حجر عليه، وسيارتك ما زالت موجودةً عنده، فأنت أحق بأن تسترد سيارتك، لكن بشروطٍ، يعني أنت أحق من بقية الغرماء بالسيارة هذه، بسيارتك، فترجع هذه السيارة لك، ولا يكون بقية الغرماء يشاركونك فيها؛ لقول النبي : من أدرك ماله عند رجلٍ قد أفلس؛ فهو أحق به من غيره [26]، والحديث في “الصحيحين”.
لكن اشترط الفقهاء لذلك شروطًا، متى يكون هذا الإنسان أحق بماله من غيره من الغرماء؟
ذكر المؤلف ثمانية شروطٍ:
الشرط الأول:
قال:
بشرط كونه لا يعلم بالحجر.
أنه لا يعلم بالحجر لمَّا تعامل معه، أما إذا كان يعلم بالحجر، ومع ذلك باعه؛ فلا يكون أحق بماله من غيره، بل يكون أسوة الغرماء.
الشرط الثاني:
قال:
وأن يكون المفلس حيًّا.
لا بد أن يكون المفلس حيًّا، فإن كان ميتًا؛ فإنه يكون أسوة الغرماء، ويدل لذلك قول النبي : أيما رجلٍ باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه؛ فهو أحق به، وإن مات المشتري؛ فصاحب المتاع أسوة الغرماء [27]، وهذا قد أخرجه مالك وأبو داود، فلا بد أن يكون المفلس حيًّا، فإن مات؛ فهو أسوة الغرماء.
الشرط الثالث:
قال:
وأن يكون عوض العين كله باقيًا في ذمته.
يعني: يبقى الثمن كله في ذمة المفلس، فإن قبض الدائن شيئًا من الثمن؛ لم يكن أحق بالسلعة من غيره.
الشرط الرابع:
قال:
وأن تكون كلها في مِلكه.
يعني: بقاء العين كلها في ملك المفلس، فإن وجد بعضها فقط؛ فليس أحق من غيره؛ لأنه لم يجد عين ماله، وإنما وجد بعضه.
الشرط الخامس:
قال:
وأن تكون بحالها، ولم تتغير صفتها بما يزيل اسمها.
أن تكون العين أو السلعة لم تتغير صفتها، بما يغير اسمها؛ لقوله : فوجد متاعه بعينه، فقوله عليه الصلاة والسلام: بعينه، فيه إشارةٌ لهذا الشرط، أو أُخذ منه هذا الشرط.
الشرط السادس:
قوله:
ولم تزد زيادةً متصلةً.
لأنها إذا زادت زيادةً متصلةً؛ لا يكون قد أدرك عين ماله؛ بسبب هذه الزيادة.
الشرط السابع:
قوله:
ولم تُخلط بغير متميزٍ.
أن تكون السلعة لم تخلط بغير متميزٍ، فإن خلطت بغير متميزٍ؛ بحيث لا يمكن تمييزها، فلا يكون أحق بها؛ لأنه لم يدرك متاعه بعينه، لاحِظ، هذه كلها -هذه الشروط- أخذناها من قول النبي عليه الصلاة والسلام: بعينه.
الشرط الثامن:
ولم يتعلق بها حقٌّ للغير.
ألا يتعلق بالعين حقٌّ للغير، فإن تعلق بها حقٌّ للغير؛ كأن يكون المفلس مثلًا قد رهنها في دينٍ آخر عليه؛ فليس صاحب السلعة أحق بها من غيره.
فلا بد من تحقق هذه الشروط الثمانية، إذا تحققت؛ فهذا الدائن يكون أحق من غيره بهذه السلعة، ففي مثالنا السابق: يكون أحق بسيارته من بقية الغرماء، لكن بشرط تحقق هذه الشروط الثمانية؛ ولهذا قال المصنف:
فمتى وُجد شيءٌ من ذلك؛ امتنع الرجوع.
يعني: إذا لم يتحقق أي شرطٍ من هذه الشروط الثمانية؛ فلا يكون أحق من غيره، وإنما يكون أسوة الغرماء.
الحكم الثالث من أحكام الحجر على المفلس، قال:
الثالث: يلزم الحاكمَ قَسْمُ ماله الذي من جنس الدين، وبيع ما ليس من جنسه، ويقسمه على الغرماء بقدر ديونهم.
“يلزم الحاكم -يعني القاضي- قسم ماله”، هذا هو الغرض من الحجر، الحجر على المفلس الغرض منه: هو أن يقسم المال الذي من جنس الدين، ويباع ما ليس من جنسه، ويقسم على الغرماء، وبحسب الحصص، يعني مثلًا: من له نصف الدين يعطى بقدر حصته، من له ربع الدين يعطى بقدر حصته، وهكذا.
ولا يلزمهم بيان ألا غريم سواهم.
يعني: لا يلزم الغرماءَ أن يُثبتوا أنه ليس هناك دائنون غيرهم، قد يكون هناك دائنون، لكن هؤلاء الذين تقدموا هم الذين يُقسَم بينهم مال المفلس.
طيب، إذا قسم مال المفلس بين هؤلاء الدائنين، ثم بعد القسمة ظهر دائنٌ جديدٌ، ما الحكم؟
قال المؤلف:
ثم إن ظهر رب دينٍ حالٍّ، رجع على كل غريمٍ بقسطه.
يعني: ظهر دائنٌ جديدٌ، نقول: ارجع على الغرماء، على الدائنين، وطالبهم؛ لأنه لو كان حاضرًا عند قسمة المال على الغرماء لقاسمهم.
حكم حضور المفلس بيع ماله
هنا فائدةٌ ذكرها الموفق بن قدامة، قال: يُستحب حضور المفلسِ بيعَ ماله، يعني عندما يباع مال المفلس؛ يستحب أن يحضر المفلس بيع المال:
أولًا: ليحصي ثمنه ويضبطه.
ثانيًا: أنه أعرف الناس بثمن متاعه، وجيده ورديئه.
الثالث: أنه تكثر الرغبة فيه؛ لأن شراء الشيء من صاحبه أحب إلى المشتري من أن يكون من وسيطٍ.
الرابع: أن ذلك أطيب لنفسه.
لكن هل فعلًا حضور المفلس لبيع ماله أطيب لنفسه، وأجبر لخاطره؟
قد يكون بالنسبة لبعض الناس، لكن أناس آخرون لا، يرى أن حضور بيع ماله أن فيه كسرًا لخاطره، يرى أن حضوره فيه كسرٌ لخاطره، يرى أنه كيف يباع ماله لأجل القسمة بين الغرماء؟! وربما يكون غنيًّا قبل ذلك، ربما يكون مليئًا ذا مَلاءةٍ، ثم فجأةً إذا بماله يباع، ويحضر بيع ماله، فربما يكون في ذلك كسرٌ لخاطره، فإذا كان في هذا كسرٌ لخاطره؛ فلا يحضر البيع، أما إذا كان يحب أن يحضر البيع فلا بأس، والناس يتفاوتون، الناس يختلفون في هذا اختلافًا كبيرًا ويتفاوتون؛ بعض الناس يحب أن يحضر بيع ماله، وبعض الناس لا، ينكسر، لو حضر بيع ماله انكسر، وربما تسبب هذا له في عقدةٍ نفسيةٍ، فهنا يُخيَّر هذا المفلس، يقال: هل تحب أن تحضر بيع مالك أو لا تحب؟ فإن قال: أنا أحب؛ إذنْ يحضر، للمعاني التي ذكرها الموفق بن قدامة، إن قال: لا، أنا لا أحب أن أحضر، أنا لا أريد أن يُكسر خاطري أمام الناس، وأظهر بمظهر غير مناسبٍ، بعض الناس له هذه الحسابات، فلا يحضر.
فعلى هذا: الأحسن أن يقال: إنه يُخيَّر المفلس بين حضوره بيع ماله، أو عدم حضوره، يُخيَّر، ويختار ما هو الأحب إليه.
حكم بيع بيت المفلس
قال:
ويجب أن يترك له ما يحتاجه من مسكنٍ.
يعني: عندما يريد القاضي بيع مال المفلس يترك حوائجه الأساسية، ومن ذلك: المسكن، فلا يباع بيته لسداد ديونه.
والقول الثاني في المسألة: أنه يباع بيته، ويستأجر له، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية، واختاره ابن المنذر، واستدلوا بحديث أبي سعيدٍ ، قال: أصيب رجلٌ في عهد رسول الله في ثمارٍ ابتاعها، فكثر دينه، فقال عليه الصلاة والسلام: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ وفاء دينه، فقال للغرماء: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك [28]، وهذا في “صحيح مسلمٍ”.
فقوله: خذوا ما وجدتم، يشمل كل شيءٍ يملكه المفلس؛ كالمسكن ونحوه.
فالأقرب -والله أعلم- أن بيته يباع، ويستأجر له ما يليق بمثله، وأما ما ذكره أصحاب القول الأول من أن البيت من الحاجات الأساسية، نقول: السكنى من الحاجات الأساسية، وتندفع هذه الحاجة بأن يستأجر له بيتٌ مناسبٌ لمثله، أما التملك فهو كمالٌ، وليس من الحاجات الأساسية، الإنسان قد يعيش كريمًا عزيزًا، وهو مستأجرٌ طوال حياته، ولم يملك بيتًا، بعض الناس قد يكون عنده بيتٌ قيمته بالملايين، لكنه أفلس، ولو بيع بيته سيسدد جزءًا من ديون الغرماء، فهنا يباع هذا البيت، ويقال: استأجر بيتًا، أنت الآن في ذمتك ديونٌ، وأنت مطالبٌ بديونٍ، فيباع هذا البيت، ويُستأجر له بيتٌ مناسبٌ له، ولو أن يُستأجر له، يعني يُحجز له مبلغٌ مثلًا، أو يستأجر لعدة سنواتٍ مثلًا، يستأجر مثلًا سنتين، ثلاثًا، أربعًا، خمسًا، لكن يباع البيت.
فالأظهر -والله أعلم- أنه يباع البيت لأجل تسديد الديون، أو تسديد بعض الديون التي للغرماء.
حكم شراء بيتٍ للفقير أو المسكين من الزكاة
يشبه هذه المسألة من بعض الوجوه: دفع الزكاة لمن يريد أن يشتري بيتًا، يعني: هل يجوز أن يُشترى بيتٌ للفقير أو المسكين من الزكاة، أو يبنى بيتٌ للفقير أو المسكين من الزكاة؟
هذه المسألة خلافيةٌ، وسبب الخلاف فيها: هو الخلاف في مقدار ما يُعطَى الفقير أو المسكين:
- فعند الحنفية: أن مقدار ما يعطى الفقير أو المسكين: مئتا درهمٍ، فإذا ملك مئتي درهمٍ فأكثر؛ فإنه لا يعطى.
- والقول الثاني: أنه يعطى ما يكفيه مدة سنةٍ، وهذا مذهب الحنابلة والمالكية.
- والقول الثالث: أنه يعطى ما يكفيه على الدوام، وهو مذهب الشافعية.
والأظهر -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو أن الفقير أو المسكين يعطى ما يكفيه لمدة سنةٍ، ثم ينظر السنة الثانية، إن احتاج أيضًا يُستأجر له بيتٌ آخر، وهكذا.
وعلى هذا: يتفرع عن هذه المسألة: أنه لا يجوز أن يُشترى بيتٌ للفقير أو المسكين من الزكاة، ولا أن يُبنى بيتٌ للفقير أو المسكين من الزكاة؛ لأن الفقير أو المسكين إنما يعطى ما يكفيه لمدة سنةٍ فقط، فيستأجر له بيتٌ من الزكاة، ثم ينظر في العام الذي بعده، إن احتاج يستأجر له بيتٌ، وهكذا؛ لأن التملك ليس ضروريًّا، وإنما الضروري السكنى، وحاجة السكنى تندفع بالاستئجار، بأن يُستأجر له بيتٌ مناسب له.
وخادمٍ.
يعني: إذا كان مثله يُخدم؛ فيترك له أجرة الخادم، أما إذا كان مثله لا يخدم؛ فلا يعطى.
وما يتجر به.
يعني: يترك للمفلس إذا كان تاجرًا من ماله شيءٌ يتجر به؛ كأن يكون مثلًا معه سيارة أجرة يتجر بها مثلًا، فلا تباع، وإنما تترك له؛ لأن هذا يعتبر في حكم الحوائج الأساسية.
وآلة حرفةٍ.
كأن تكون مثلًا آلة صيدٍ، لا تباع، وإنما تترك لأجل أن يكتسب بها.
ويجب له ولعياله أدنى نفقة مثلهم؛ من مأكلٍ ومشربٍ وكسوةٍ.
يعني: عند قسمة مال المفلس يترك له أدنى نفقةٍ له ولعياله؛ من المأكل والمشرب والكسوة.
الحكم الرابع وبه نختم، الحكم الرابع من أحكام الحجر على المفلس، أشار إليه المؤلف بقوله:
حكم من باع أو أقرض المحجور عليه
الرابع: انقطاع الطلب عنه، فمن باعه، أو أقرضه شيئًا عالمًا بحجره، لم يملك طلبه حتى ينفك حجره.
إذا حُجر على المفلس؛ فقد أصبح حكمه حكم المعسر، من باعه أو أقرضه وهو يعلم أنه محجورٌ عليه، لا يطالِب بشيءٍ من الديون التي بذمته، إلا بعد فك الحجر؛ لعموم قول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، ولقول النبي في قصة الرجل الذي أفلس، قال لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك [29].
قال:
فمن باعه أو أقرضه شيئًا، عالمًا بحجره؛ لم يملك طلبه حتى ينفك حجره.
يعني: من باع للمفلس المحجور عليه بالدين، بدينٍ مؤجلٍ، أو أقرضه وهو يعلم بذلك؛ فإنه يتحمل تبعة تصرفه، فلا يملك مطالبته بسداد الدين حتى يفك الحجر عنه.
هذه أبرز أحكام الحجر على المفلس، ونقف عند القسم الثاني من أقسام الحجر: وهو الحجر على الإنسان لحظ نفسه، وهو الحجر على الصغير والسفيه والمجنون، نفتتح به الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:
الأسئلة
السؤال: هل الإبل التي يعلفها صاحبها تجب فيها الزكاة؟
الجواب: لا تجب فيها الزكاة، إلا إذا أعدها للتجارة، إذا نوى بها التجارة؛ فتزكى زكاة عُروض التجارة، أما إذا لم ينو بها التجارة؛ فالمواشي المعلوفة لا زكاة فيها، وإنما تجب الزكاة في السائمة، وهي التي ترعى العشب والكلأ أكثر السنة.
أما المواشي التي يعلفها الإنسان؛ كأن يشتري لها شعيرًا أو علفًا، فهذه لا زكاة فيها، إلا أن يكون ممن يتاجر في المواشي، فيزكيها زكاة عروض التجارة، أما إذا كان الإنسان ليس ممن يتاجر بالمواشي، وإنما عنده مواشٍ جعلها في مزرعته، أو جعلها في حوشٍ ونحو ذلك، ويشتري لها علفًا، أو يشتري لها شعيرًا، فهذه لا زكاة فيها ولو كثرت.
السؤال: هل يجوز الإنكار على من قَصَر الصلاة دون (80 كيلومترًا)، باعتبار أنه مسافرٌ، وأن مرجع السفر للعرف؟
الجواب: نعم، ينكر عليه، إذا كانت المسافة أقل من (80 كيلومترًا)، حتى العرف يدل على أنه ليس مسافرًا، عرف الناس أن من ذهب لأقل من (80 كيلو) لا يعتبرونه في العرف مسافرًا، المسافة قليلةٌ، يقطعها بالسيارة ربما في أقل من ساعةٍ، إذا كانت أقل من (80 كيلومترًا)، فكيف يعتبر مسافرًا، في العرف لا يعتبر مسافرًا، وهي أقل من (80 كيلومترًا)، و(80 كيلومترًا) عند الجمهور هي أقل مسافةٍ للسفر.
والراجح أن أقل مسافةٍ للسفر هي (80 كيلومترًا)؛ لقول النبي : لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلةٍ إلا ومعها ذو محرمٍ [30]، كأنه قال عليه الصلاة والسلام: لا تسافر أدنى مسافة سفرٍ، وعبر عن ذلك باليوم والليلة، واليوم والليلة تعادل (80 كيلومترًا)، فأقل مسافةٍ للسفر هي (80 كيلومترًا)، فمن كانت مسافة السفر لديه أقل من (80 كيلومترًا)، فليس له الترخص برخص السفر.
ولكن أيضًا كيف تحسب الـ(80 كيلومترًا)؟
تحسب من مفارقة العمران، وليس من البيت، ليس من منزل الإنسان، وإنما من مفارقة العمران، مثلًا: إذا كان ساكنًا في مدينة الرياض، يبدأ في حساب الـ(80 كيلومترًا) من آخر حيٍّ من أحياء الرياض، إذا كان مثلًا سفره من جهة الشمال، من آخر حيٍّ من أحياء الشمال، من جهة الجنوب، من آخر حيٍّ من أحياء الجنوب، من جهة الشرق، من آخر حيٍّ من أحياء الشرق، من جهة الغرب، من آخر حيٍّ من أحياء الغرب، ثم يبدأ بحساب المسافة إذا بلغت (80 كيلومترًا) فأكثر، فيترخص برخص السفر، وإلا فلا.
السؤال: هل من يستمع مجالس العلم عبر النت يدخل فيمن تحفهم الملائكة؟
الجواب: الظاهر أن هذا لا يكون؛ لأن ظاهر الحديث: إن لله ملائكةً سيارةً، يلتمسون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكرٍ؛ قالوا: هلموا إلى حاجتكم [31]، فهم يلتمسون الأماكن التي يجتمع فيها الناس للذكر ولطلب العلم.
أما من يستمع لمجلس علمٍ عبر وسائل التقنية الحديثة، فهو على خيرٍ، على أجرٍ، ويؤجر على ذلك إن شاء الله تعالى، ولكن الذين ورد فيهم الحديث أنهم تحفهم الملائكة السيارة، ويقول الله تعالى: أشهدكم أني قد غفرت لهم [32]، هذا فيمن يحضرون حلق العلم ومجالس الذكر، هذا هو ظاهر الحديث.
السؤال: ما صحة قصة المرأة التي كانت تصلي وتصوم، وتؤذي جيرانها؟
الجواب: القصة صحيحةٌ رواها الإمام أحمد بسندٍ صحيحٍ، من حديث أبي هريرة ، أن النبي ذُكر له امرأةٌ كانت تكثر من الصلاة والصيام والصدقة، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال النبي : هي في النار، قيل: وإن فلانة ليست بكثيرة صلاةٍ ولا صيامٍ، غير أن عندها أثوارًا من أقطٍ تتصدق بها على جيرانها، وتحسن لجيرانها، فقال النبي : هي في الجنة [33].
فهذا يدل على أن الدِّين المعاملة، وأن مَن أحسن علاقته التعبدية فيما بينه وبين ربه، لكن أساء للآخرين، فهذا عنده قصورٌ، والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر عن هذه المرأة بأنها في النار، لكن من أحسن علاقته التعبدية فيما بينه وبين ربه، وأحسن علاقته بالآخرين، فهذا يكون من أسباب دخول الجنة.
فعلى الإنسان إذنْ أنه كما يحسن علاقته التعبدية فيما بينه وبين ربه؛ ينبغي أن يحسن التعامل مع الآخرين، خاصةً من لهم حقٌّ عليه؛ كجيرانه وأرحامه ونحو ذلك.
السؤال: إذا غابت الدورة الشهرية في سن الثانية والخمسين ثلاثة أشهرٍ، ثم نزلت عليها، هل يعتبر حيضًا أم دم فسادٍ؟
الجواب: يعتبر حيضًا، الحيض قد يتفرق عند المرأة، وقد يجتمع، وقد يتأخر، وقد يتعجل، والعبرة بوجود الأذى، والله تعالى يقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، فمتى ما وَجدت المرأة هذا الدم؛ فالأصل أنه دم حيضٍ، ويمكن أن تستعين المرأة برأي الأطباء المختصين في معرفة طبيعة هذا الدم، فإن أطباء النساء والولادة يميزون دم الحيض من غيره، فيستعان بهم أيضًا، ويؤخذ بما يقررونه من أنه دم حيضٍ، أو ليس بدم حيضٍ.
السؤال: إذا أرادت المرأة الدعاء للاستخارة، وعليها الدورة الشهرية، فكيف تفعل؟
الجواب: تأتي بدعاء الاستخارة من غير صلاةٍ، تستقبل القبلة وترفع يديها، وتقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك.. إلى آخر الدعاء [34]، فهي معذورةٌ بترك الصلاة، وتأتي بالدعاء، تستخير من غير صلاةٍ.
الأسئلة كثيرةٌ الحقيقةَ، لكن نريد أن ننتقي الأهم منها، وإلا كثيرةٌ جدًّا.
السؤال: إذا دخل المسافر المسجد ووجد جماعةً يصلون، ولا يعلم هل هم مقيمون أو مسافرون، ماذا يعمل؟
الجواب: الفقهاء يقولون: إنه يُعمل القرائن، يجتهد في إعمال القرائن، فإذا غلب على ظنه أنهم مسافرون؛ فإنه يقصر معهم، وإذا غلب على ظنه أنهم مقيمون؛ فيتم الصلاة؛ لأن المسافر إذا صلى خلف مقيمٍ؛ وجب عليه الإتمام، فيجتهد في إعمال القرائن، فإذا لم يهتد بذلك -يعني ما عنده قرائن- فيحتاط في هذا، ويعتبر أن هذا الإمام مقيمٌ ويتم الصلاة؛ لأنه إذا فعل ذلك كانت صلاته صحيحةً عند جميع العلماء، ولو قَصَر؛ لم تكن صحيحةً عند طائفةٍ من أهل العلم.
السؤال: هل لعقد القِران في عصر الجمعة أو في مكانٍ مُعَظَّمٍ أصلٌ في الشرع؟
الجواب: لا أعلم لهذا أصلًا، هذا وإن كان قد قال به بعض الفقهاء، لكن ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ، والذي يظهر أنه ليس هناك خصوصيةٌ لزمانٍ يُعقد فيه القِران، أو لمكانٍ يعقد فيه القران، القران إيجابٌ وقبولٌ، يقول الولي: زوجتك، ويقول الزوج: قبلت، ولا يختص ذلك بمكانٍ ولا بزمانٍ.
السؤال: ما حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج؟
الجواب: الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج بدعةٌ، والمسلمون ليس لهم سوى عيد الفطر وعيد الأضحى، ومن اتخذ عيدًا في السنة غير هذين العيدين؛ فقد ابتدع، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج في وقتٍ يتكرر كل سنةٍ هو في معنى اتخاذه عيدًا؛ ولهذا لم يكن أصحاب النبي يفعلون ذلك، ولا التابعون، ولا التابعون لهم بإحسانٍ، فهم أسوتنا وقدوتنا، لم يكونوا يفعلون ذلك، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.
فالاحتفال بالمناسبات الإسلامية؛ مثل رأس السنة الهجرية، ومثل المولد النبوي، ومثل ليلة الإسراء والمعراج، ومثل ليلة النصف من شعبان، كل هذه من البدع المحدثة، والنبي يقول: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رَدٌّ [35].
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 6014، ومسلم: 2624. |
---|---|
^2 | رواه ابن ماجه: 4222-4223. |
^3 | رواه مالك في الموطأ: 2760، والبيهقي في السنن الكبرى: 11882. |
^4 | رواه ابن ماجه: 2341. |
^5 | رواه البخاري: 5481، ومسلم: 1574. |
^6 | رواه البخاري: 2463، ومسلم: 1609. |
^7 | الروشن: الرف، والكوة، والشرفة. المعجم الوسيط: (رشن). |
^8 | الساباط: سقيفة بين حائطين تحتها طريق. مختار الصحاح لزين الدين الرازي: (س ب ط). |
^9 | رواه أحمد: 1790. |
^10, ^14, ^29 | سبق تخريجه. |
^11 | رواه البخاري: 6902، ومسلم: 2158. |
^12 | رواه البخاري: 6900، ومسلم: 2157. |
^13 | رواه البخاري: 13، ومسلم: 45. |
^15 | رواه أبو داود: 4402. |
^16 | رواه البخاري: 2287، ومسلم: 1564. |
^17 | رواه أبو داود: 3628، والنسائي: 4689، وابن ماجه: 2427. |
^18 | رواه مسلم: 1563. |
^19 | رواه مسلم: 1560. |
^20 | رواه مسلم: 3006. |
^21 | رواه البخاري: 2076. |
^22 | رواه البخاري: 1472، ومسلم: 1035. |
^23 | رواه مسلم: 1044. |
^24 | رواه الحاكم: 2348، والطبراني في المعجم الأوسط: 5939، والبيهقي في السنن الكبرى: 11260. |
^25 | رواه مسلم: 2581. |
^26 | رواه البخاري: 2402، ومسلم: 1559. |
^27 | رواه أبو داود: 3520، ومالك في الموطأ: 87. |
^28 | رواه مسلم: 1556. |
^30 | رواه البخاري: 1088، ومسلم: 1339. |
^31 | رواه البخاري: 6408. |
^32 | رواه البخاري: 6408، ومسلم: 2689. |
^33 | رواه أحمد: 9675. |
^34 | رواه البخاري: 1162. |
^35 | رواه مسلم: 1718. |