logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(52) باب القرض- من قوله “يصح بكل عين يصح بيعها إلا بني آدم.”

(52) باب القرض- من قوله “يصح بكل عين يصح بيعها إلا بني آدم.”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. 

أما بعد: 

حياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي، وهو الدرس الثامن عشر من هذا العام، في هذا اليوم الاثنين، السادس من شهر رجبٍ من عام (1443 هـ). 

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا. 

اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أصول، وبك أحول، وبك نستعين يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام. 

باب القرض 

في شرح “دليل الطالب”، “السلسبيل في شرح الدليل”، وصلنا إلى باب القرض، وهذا الباب من الأبواب المهمة، والتي يَحتاج طالب العلم إلى أن يضبطها؛ لأن لها صلةً كبيرةً بالواقع. 

قال المصنف رحمه الله: 

باب القرض 

تعريف القرض لغةً واصطلاحًا 

أولًا: نعرف القرض:

القرض في اللغة: مصدر قَرَضَ الشيءَ يقرضه قرضًا، وهذه المادة (القاف والراء والضاد) تعني: القطع، قرضه يعني: قطعه، فمادة القرض في اللغة العربية تعني: القطع. 

واصطلاحًا: دفع مالٍ لمن ينتفع به ويرد بدله، هذا أحسن تعريف للقرض: دفع مالٍ لمن ينتفع به ويرد بدله، ويقال له: السلف، وقد ورد هذا المعنى في قول النبي : لا يحل سلفٌ وبيعٌ [1]، والمراد بالسلف: القرض، ولا زال استعمال الناس لهذا المصطلح، يقولون: سَلِّفْني، يأتيك شخصٌ ويقول: سلفني مثلًا عشرة آلاف ريالٍ، فإذا قال: سلِّفْني، أو أسلِفْني، يريد: أقرِضني، ويقول: سلفةٌ، فلانٌ عنده سلفةٌ، وسلفت فلانًا، وأسلفت فلانًا، فهذا أيضًا مصطلح رديف للقرض، ويستخدمه كثيرٌ من الناس، وهو أيضًا مصطلحٌ صحيحٌ وفصيحٌ، وقد ورد في السنة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا يحل سلفٌ وبيعٌ؛ فإذنْ يقال: القرض، ويقال: السلف، وإن كان أيضًا لفظ السلف يطلق على السَّلَم؛ كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: من أسلف في شيءٍ -من أسلف بالفاء- فليسلف في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ [2].

من أسلف يعني: أسلم، فإذنْ مادة السلف تطلق على القرض، وتطلق على السَّلَم. 

طيب ما الذي يحدد المراد؟ هل المراد بالسلف: القرض، أو المراد به: السَّلَم؟ 

الذي يحدده السياق؛ فمثلًا: قول النبي عليه الصلاة والسلام: من أسلف في شيءٍ؛ فليسلف في كيلٍ معلومٍ، هذا المراد به: السَّلَم، وقوله عليه الصلاة والسلام: لا يحل سلفٌ وبيعٌ، المراد به: القرض، فهنا سلفٌ، وهنا سلفٌ، لكن الذي ميز هذا من هذا هو السياق.

حكم القرض

الإقراض حكمه مستحبٌّ، فهو من عقود الإرفاق، وقد جاء في فضله حديث ابن مسعودٍ: أن النبي قال: ما من مسلمٍ يُقرِض مسلمًا قرضًا مرتين؛ إلا كان كصدقةٍ مرةً [3]، ورجح الدارقطني وقفه على ابن مسعودٍ ، ونبه على هذا في الحاشية رقم (3).

وعنه  أن النبي قال: من أقرض وَرِقًا مرتين؛ كان كعَدل صدقةٍ مرةً [4]، وجاء هذا في حديث البراء، وقال البيهقي في الشعب: والموقوف أصح.

لكن جاء في حديث البراء  أن النبي قال: من منح منيحة ورقٍ، أو منيحة لبنٍ، أو هَدَى زُقَاقًا؛ كان كعتق رقبةٍ [5]، هذا الحديث أخرجه أحمد والترمذي بسندٍ صحيحٍ.

أعيد الحديث مرةً أخرى: من منح منيحة ورقٍ، الورق يعني: الفضة، منح منيحة ورقٍ يعني: أقرض فضة، أو ما كان في معناها، أو منيحة لبنٍ، وهي الشاة أو الناقة أو البقرة، تُعطى للغير؛ لكي ينتفع بلبنها ثم يردها، هذه تسمى منيحةً، كان الناس يمنحون جيرانهم وأقاربهم، يعطيه شاةً ويقول: تَمَنَّحْها، يعني: انتفع بلبنها ثم رُدَّها عليَّ، تسمى منيحةً، أو هدى زقاقًا، يعني: أرشد ضالًّا، أرشد إنسانًا ضائعًا ضالًا للطريق، كان له كعتق رقبةٍ؛ وهذا يدل على الفضل العظيم لهذه الأعمال الصالحة الثلاثة:

  1. العمل الأول: القرض: من منح منيحة وَرِقٍ يعني: أقرض مسلمًا فضةً، أو ما كان في معناها، وفي معناها في الوقت الحاضر: الأوراق النقدية.
  2. أو منح منيحة لبنٍ، والناس الآن أصبح كثيرٌ منهم يستغني عن منيحة اللبن، لكن كانت موجودةً قديمًا، وربما تكون الآن موجودةً لدى بعض المجتمعات الإسلامية، أنه يمنح الدابة لغيره؛ لكي ينتفع بحليبها، ثم يردها إليه.
  3. أو هدى زُقَاقًا يعني: أرشد ضالًّا الطريق، فـكان له كعتق رقبةٍ؛ فهذا يدل على عظيم أجر هذه الأعمال الثلاثة المذكورة في الحديث، ومنها القرض؛ وهذا يدل على فضل القرض.

فالحديث الذي ذكر، حديث ابن مسعودٍ : من أقرض وَرِقًا مرتين؛ كان كعَدل صدقةٍ مرةً، هذا مثل ما قال البيهقي يعني: موقوفٌ، لكن حديث البراء الذي ذكرت هو حديثٌ صحيحٌ مرفوعًا: من منح منيحة وَرِقٍ، أو منيحة لبنٍ، أو هَدَى زُقاقًا؛ كان كعتق رقبةٍ.

أيهما أفضل الإقراض أم التصدق؟

اختلف العلماء في أيهما أفضل: القرض أو الصدقة؟

فقال بعضهم: إن القرض أفضل؛ للأحاديث السابقة؛ ولحديث أنسٍ : رأيت -ليلة أسري بي- على باب الجنة مكتوبٌ: “الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر”، فقلت: يا جبريل، ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجةٍ [6]، أخرجه ابن ماجه والبيهقي، لكنه ضعيفٌ، وفيه شيءٌ من النكارة، يعني: كيف يكون القرض بثمانية عشر، والصدقة بعشرة؟! وأيضًا يعني المتن فيه شيءٌ من النكارة.

وقال أكثر أهل العلم: إن الصدقة أفضل من القرض، وهذا هو الراجح؛ لحديث ابن مسعودٍ السابق، وهو حديثٌ صحيحٌ: ما من مسلمٍ يقرض مسلمًا قرضًا مرتين؛ إلا كان كصدقةٍ مرةً، وإن كان قد رُجِّح وقفه، إلا أن له حكم الرفع، وهو ظاهر الدلالة في أن الصدقة أفضل من القرض.

ثم إن المقرض يسترد ما أقرضه، بينما المتصدق لا يسترد ما تصدق به؛ وعلى هذا: فإن الصدقة أفضل من القرض، لكن يبقى القرض عملًا صالحًا عظيمًا.

والإقراض مستحبٌّ؛ لما فيه من إعانة المسلم وتفريج كربته ومساعدته، وقد قال عليه الصلاة والسلام: من كان في حاجة أخيه؛ كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كُربةً من كرب الدنيا؛ فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة [7]، من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة؛ فلينفس عن معسرٍ، أو يضع عنه [8].

وأما في حق المقترض فهو مباحٌ وليس مكروهًا، خاصةً إذا كان الاقتراض لحاجةٍ، قال أحمد: لا إثم على من سُئل القرض فلم يُقرض؛ لأنه من المعروف، فأشبه صدقة التطوع؛ لأنه ليس واجبًا على الإنسان أن يقرض غيره، وليس بمكروهٍ في حق المقترض، قال أحمد: ليس القرض من المسألة، يعني: ليس بمكروهٍ؛ لأن النبي فعله، ولو كان الاستقراض مكروهًا؛ لكان النبي أبعد الناس عنه، لكن ينبغي ألا يقترض الإنسان إلا من حاجةٍ؛ لأن الدين أمره شديدٌ كما سيأتي.

طيب، هنا تنبيهٌ على بعض المصطلحات المهمة، وهذه المصطلحات ينبغي أن يضبطها طالب العلم:

الفرق بين القرض والدين

عندنا مصطلح “القرض”، ومصطلح “الدين”، فما الفرق بين القرض والدين؟

الدين أعم من القرض، فكل قرضٍ دينٌ، وليس كل دينٍ قرضًا، فبينهما عموم وخصوص.

القرض الذي هو السلف: دفع مالٍ لمن ينتفع به، ويرد بدله، أما الدين فيعرِّفونه بأنه: كل ما ثبت في الذمة من حقوق الله وحقوق الآدميين؛ على هذا: يشمل الدين من حقوق الله: الزكاة، فالزكاة دينٌ، يشمل الحج، الحج دينٌ، يشمل الكفارات، الكفارات دينٌ، كذلك أيضًا: حقوق الآدميين، حقوق الآدميين تشمل القرض، القرض دينٌ، يشمل كذلك إذا اشتريت سلعةً بثمنٍ مؤجلٍ، هذا الثمن المؤجل يعتبر دينًا؛ فإذنْ القرض أخص من الدين، كل قرضٍ دينٌ، وليس كل دينٍ قرضًا، قد يكون الدين ثمن سلعةٍ مؤجلًا، ليس قرضًا، قد يكون الدين متعلقًا بحقٍّ من حقوق الله؛ مثل الزكاة، مثل الحج، مثل الكفارة، فكل قرضٍ دينٌ، وليس كل دينٍ قرضًا.

الآن هناك مصطلح عند كثيرٍ من العامة، يقول: أخذت من البنك قرضًا، هو لا يريد القرض الذي هو السلف؛ لأن هذا ليس من خُلق البنوك، البنوك مؤسساتٌ ربحيةٌ تجاريةٌ، ليست جمعياتٍ خيريةً تُقرض الناس؛ ولذلك فلا يعتبر قرضًا، وإنما أخذ تمويلًا بالتقسيط؛ بطريق المرابحة، أو بطريق التورق، أو بطريق التأجير مع الوعد بالتمليك، أو بطريق المشاركة، أو بأي صيغةٍ من الصيغ المشروعة.

فلذلك التسمية الدقيقة أن يقال: تمويلٌ، وليس قرضًا، تقول: أخذت من البنك تمويلًا وحسب عليَّ أرباحًا، ولا تقل: أخذت من البنك قرضًا وحسب عليَّ فائدةً؛ لأن هذا المصطلح مصطلحٌ غير صحيحٍ، أنت لم تأخذ قرضًا، أخذت تمويلًا، القرض هو السلف، والبنوك لا تسلف، لا تقرض لوجه الله تعالى، إلا أن يكون قرضًا ربويًّا، يعني قرضًا بفائدةٍ، وهذا لا يريده الناس في حديثهم، لا يريدون هذا، إنما يريدون التمويل بربحٍ، وقد رأيت أحد المفتين يسأل في أحد البرامج، يسأله المستفتي يقول: أخذت من البنك قرضًا بزيادةٍ، فما حكم ذلك؟ فالمفتي قال: إن هذا قرضٌ ربويٌّ، وعليك التوبة إلى الله .

المستفتي لا يريد هذا، المستفتي يريد: أخذت تمويلًا بطريق التورق، أو بطريق المرابحة، وإذا كان بطريق التورق أو المرابحة؛ فلا بد أن يكون فيه ربحٌ للبنك، فلذلك ينبغي فهم مصطلحات المستفتين، عندما يقول المستفتي: أخذت قرضًا بزيادةٍ، يريد أخذت تمويلًا بربحٍ، ولا يريد أخذت قرضًا ربويًّا.

خطورة أمر الدَّين

ذكرنا أنه ينبغي للإنسان ألا يقترض إلا عند الحاجة؛ لأن القرض دينٌ، والدين ورد في شأنه نصوصٌ تدل على عظيم أمره؛ ومن ذلك: أن النبي أخبر بأن الشهيد يغفر له كل شيءٍ إلا الدين [9]، الشهيد الذي باع نفسه لله تعالى، يغفر له كل شيءٍ إلا الدين، والنبي كان يستعيذ بالله من غلبة الدين، كما جاء في “الصحيحين” من حديث أنسٍ  أن النبي كان يكثر من أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من اللهم والحَزَن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غَلَبة الدين [10]، وفي لفظٍ: ومن ضَلَع الدين -يعني: غلبته وشدته- وقهر الرجال [11].

فكان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله تعالى من غلبة الدين، وغلبة الدين هي من المصائب على الإنسان، وتسبب له همًّا وغمًّا، وضيقًا وحرجًا؛ ولهذا كان النبي يستعيذ بالله من غلبة الدين.

وقال للرجل الذي طلب من النبي أن يزوجه الواهبة نفسها: التمس ولو خاتمًا من حديدٍ [12]، ولم يقل له: اقترض من الصحابة؛ وذلك لعظم شأن الدين.

وأيضًا في أول الأمر كان عليه الصلاة والسلام لا يصلي على من مات وعليه دينٌ، وفي قصة أبي قتادة لما أتي بجنازةٍ، قال عليه الصلاة والسلام: هل عليه دينٌ؟ قالوا: نعم، عليه ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم، حتى قال أبو قتادة: الدين عليَّ يا رسول الله، فصلى عليه النبي [13]؛ وذلك لأن الدين أمره عظيمٌ، وهو من حقوق العباد، وحقوق العباد مبناها على المشاحة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [14].

وإذا احتاج الإنسان للاقتراض أو الاستدانة؛ فعليه أن يعقد النية على السداد، وعلى الأداء؛ لأن هذه النية من أسباب إعانة الله تعالى له على سداد الدين، يدل لذلك: قول النبي : من أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها؛ أتلفه الله [15]، وهذا نجده في الواقع، انظر إلى الإنسان المدين المهتم بشأن الدَّين -الذي كما يقال: الدَّين يأكل معه ويشرب- تجد أن الدين لا يبقى عنده مدةً طويلةً، سرعان ما يسوق الله تعالى له رزقًا، يسدد به هذا الدين وهذه الديون التي عليه، أما الإنسان غير المهتم، أو أنه يماطل في سداد الدين، تجد أن الديون تتراكم عليه، وهذا مصداقٌ لقول النبي : من أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدى الله عنه، ومن أخذها أموال الناس يريد إتلافها؛ أتلفه الله.

ما صح بيعه؛ صح قرضه، إلا العبيد والإماء

قال المصنف رحمه الله:

يصح بكل عينٍ يصح بيعها، إلا بني آدم.

هذا يصح أن يكون ضابطًا في باب القرض، والفرق بين الضابط والقاعدة: الضابط يكون داخل الباب الفقهي، والقاعدة تكون في عددٍ من الأبواب؛ مثلًا قاعدة: “اليقين لا يزول بالشك”، هذه تدخل في عددٍ من الأبواب، لكن الضابط يكون في بابٍ فقهيٍّ واحدٍ.

فقوله: “القرض بكل عينٍ يصح بيعها، إلا بني آدم”، هذا يصح أن يكون ضابطًا في باب القرض، ويمكن أن نعبر عنه بعبارةٍ أخرى: ما صح بيعه؛ صح قرضه، إلا العبيد والإماء، فإنه لا يصح إقراضهم؛ لأن ذلك لم يُنقل، كما أن إقراض الأمة قد يترتب عليه مفاسد.

شروط صحة القرض

ثم ذكر المصنف شروط صحة القرض:

الشرط الأول:

قال:

ويشترط عِلم قَدْرِه ووَصْفِه.

يعني: قدر المال المدفوع وصفته؛ حتى يتمكن من رد بدله إلى صاحبه عند حلول الأجل؛ كأن يقول مثلًا: أقرضني عشرة آلاف ريالٍ سعوديٍّ، أو دولاراتٍ، أو جنيهاتٍ، أو لِيراتٍ، أو يُورُوَاتٍ، ونحو ذلك.

الشرط الثاني:

قال:

وكون مقرضٍ يصح تبرعه.

يعني: أن يكون المقرض ممن يصح تبرعه، فإذا كان ممن لا يصح تبرعه؛ فإنه لا يصح إقراضه، ومن ذلك: ولي اليتيم، فولي اليتيم ليس له أن يقرض مال اليتيم؛ لا لنفسه، ولا لغيره؛ لأن ولي اليتيم مطلوبٌ منه ألا يقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن؛ كما قال الله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]، وليس من التصرف بالتي هي أحسن إقراض مال اليتيم؛ لأنه إذا أقرضه قد يرجع وقد لا يرجع، فليس هذا من التصرف بالتي هي أحسن، وهكذا أيضًا بالنسبة لأموال الأوقاف والأمانات، ليس للإنسان أن يقرضها لغيره، وهكذا كل من يلي مالًا لغيره، ليس له أن يقرضه أو يقرض جزءًا منه، فإن فعل ذلك؛ فإنه مفرِّطٌ، وعليه أن يتوب إلى الله ، ويضمن أيضًا هذا المال الذي أقرضه.

أموالك الخاصة بك أنت حرٌّ، تريد أن تقرضها، الأمر يرجع إليك، لكن الأموال التي لغيرك، ليس لك أن تقرضها أحدًا أبدًا، حتى لو كان من تقرضه ثقةً ثبتًا، ليس لك ذلك؛ لأنه وإن كان ثقةً ثبتًا؛ إلا أنه يبقى بشرًا، ويَرِد عليه ما يرد على البشر، وربما تتغير الظروف، وربما يحصل له وفاةٌ، وربما يحصل ما يحصل، ففيه مخاطرةٌ، فإقراض هذه الأموال ليس من التصرف بالتي هي أحسن، وليس بمقتضى الأمانة، فكل من ولي مالًا لغيره، ليس له أن يقرضه ولا ريالًا واحدًا، وإنما الواجب أن يحافظ على هذه الأموال، ويكون كولي اليتيم.

وعلى ذلك: أموال الأوقاف، وأموال الوصايا، كل من ولي مالًا لغيره، يكون كولي اليتيم تمامًا، لا يقرب هذه الأموال إلا بالتي هي أحسن، ليس له أن يقرض منها شيئًا، ولا أن يتصرف فيها إلا بالتي هي أحسن.

قال:

ويتم العقد بالقبول.

يعني: عقد القرض يتم بالصيغة القولية، وهي الإيجاب والقبول كالبيع، قال: أقرضني، قال: أقرضتك، سلفني، سلفتك؛ انعقد عقد القرض.

ويملك ويلزم بالقبض.

يعني: يصبح هذا القرض لازمًا ومملوكًا للمقترض بالقبض، إذا قبضه فقد ملكه؛ وذلك لأنه عقدٌ يتوقف التصرف فيه على القبض، فتوقف عليه الملك؛ كالهبة، كما أن الهبة تلزم بالقبض؛ فالقرض أيضًا يلزم بالقبض.

يترتب على هذا -على قولنا: إنه يلزم بالقبض- أنه:

لا يملك المقرض استرجاعه.

يعني: إذا تم قبض المقترض للقرض؛ لا يملك المقرض أن يسترجعه، لو أقرض عشرة آلاف ريالٍ، ثم بعد ساعةٍ قال: رد عليَّ القرض، لا يملك ذلك، لكن:

ويثبت له البدل حالًّا.

يعني: يثبت للمقرض بدل القرض حالًّا.

وهل القرض يتأجل بالتأجيل، أو لا يتأجل بالتأجيل؟ هذه مسألة خلافيةٌ.

ما معنى يتأجل بالتأجيل؟

لو أن شخصًا أتى إليك، قال: يا فلان أقرضني، أو سلفني عشرة آلاف ريالٍ، لكن لن أردها عليك إلا بعد ستة أشهرٍ، فقلت: أسلفك، ولا تردها عليَّ إلا بعد ستة أشهرٍ، يعني اشترط عليك أنه لا يردها إلا بعد ستة أشهرٍ، فهل لهذا المقرض أن يطالبه بهذا القرض قبل ستة أشهرٍ؟

لو أنه أتى إليه بعد شهرٍ، وقال: رد عليَّ القرض، أنا والله محتاجٌ، رد عليَّ القرض، هل يملك؟

هذه هي المسألة -هل القرض يتأجل بالتأجيل، أو لا يتأجل بالتأجيل؟- إن قلنا: إن القرض لا يتأجل بالتأجيل؛ فالمقرض له أن يطالب بقرضه في أي وقتٍ، حتى لو كان شَرَط عليه ألا يرده إلا بعد ستة أشهرٍ.

وإذا قلنا: إن القرض يتأجل بالتأجيل، فليس للمقرض أن يطالب المقترض بسداد القرض إلا عند حلول الأجل؛ وعلى ذلك اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

  • القول الأول: أن القرض لا يتأجل بالتأجيل؛ فيلزم المقترض أن يرد بدله متى ما طالب به المقرض، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء؛ قالوا: لأن القرض موضوعه الحلول، فإذا أجل فقد خرج عن موضوعه، فخالف مقتضى العقد.
  • القول الثاني في المسألة: أن القرض يتأجل بالتأجيل، وأنه ليس للمقرض أن يطالب المقترض بالقرض قبل حلول الأجل، وهذا هو مذهب المالكية، وروايةٌ عند الحنابلة، واختاره ابن تيمية رحمه الله.

واستدل أصحاب هذا القول بعموم الأدلة الدالة على الوفاء بالعقود والشروط؛ ومنها: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقول النبي : المسلمون على شروطهم [16].

وقد عقد البخاري في “صحيحه” بابًا، قال: باب إذا أقرضه إلى أجلٍ مسمًّى، وأجَّله في البيع، قال ابن عمر في القرض إلى أجلٍ: لا بأس به، وإن أُعطِيَ أفضل من دراهمه، ما لم يشترط، وقال عطاءٌ وعمرو بن دينارٍ: هو إلى أجله في القرض.

فظاهر صنيع البخاري: أنه يرى أن القرض يتأجل بالتأجيل؛ ولهذا أورد هذه الآثار عن ابن عمر، وعن عطاءٍ، وعمرو بن دينارٍ، فهؤلاء كلهم يرون أن القرض يتأجل بالتأجيل.

ويقولون: لأن المطالبة بالوفاء في القرض المؤجل حالًّا هو إخلافٌ للوعد، وإخلاف الوعد مذمومٌ شرعًا، ولأنه قد يترتب على المطالبة بالقرض قبل حلول الأجل ضررٌ، والنبي يقول: لا ضرر ولا ضرار [17].

هذا القول له قوته ووجاهته، لكن من حيث التقعيد قول الجمهور أرجح؛ لأن هذا المقرض محسنٌ، وما على المحسنين من سبيلٍ، هو أقرضك لوجه الله تعالى، وقلت له: لن أردها إلا بعد ستة أشهرٍ، لكن هذا الرجل المقرض احتاج، قال: يا فلان أنا كنت أقرضتك، واشترطت عليَّ أنك لا تردها إلا بعد ستة أشهرٍ، لكن أنا محتاجٌ الآن لهذا القرض، فالأصول والقواعد تقتضي أنه يلزمك أن ترد عليه هذا القرض، مَا ‌عَلَى ‌ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٍ [التوبة:91]، أما أن نقول: إن المقرض لا يملك المطالبة قبل حلول الأجل، هذا صحيحٌ في البيع إلى أجلٍ، وفي عقود المعاوضات إلى أجلٍ، أما القرض، فالقرض تبرعٌ، والمقرض محسنٌ، فله أن يطالب بسداد قرضه في أي وقتٍ، هذا هو مقتضى الأصول والقواعد الشرعية؛ فقول الجمهور -والله أعلم- هو الأقرب في هذه المسألة، وإن كان القول الثاني له وجاهته.

رد القرض المتقوَّم والمثلي

قال:

فإن كان متقوَّمًا؛ فقيمته وقت القرض، وإن كان مثليًّا؛ فمثله.

يعني: إن كان المقرض متقوَّمًا فالمقترض يرد قيمته وقت القرض؛ لأن المتقوَّم تختلف قيمته بالزمن، أما إذا كان المقرَض مثليًّا؛ فالمقترض يرد مثله، وهذه المصطلحات -المثلي والقِيمِي- فيها خلافٌ بين العلماء:

  • عند الحنابلة: المراد بالمثلي يُعرِّفونه -موجودٌ عندكم في “السلسبيل”- هذا هو تعريفه عند الحنابلة، إذا قالوا: المثلي: كل مكيلٍ أو موزونٍ يصح السَّلَم فيه، وليس فيه صناعةٌ مباحةٌ، وما عداه فهو قِيمِيٌّ، هذا هو التعريف عند الحنابلة.
  • والقول الثاني في المسألة في تعريف المثلي: أن المثلي ما كان له مثيلٌ مقارِبٌ، ولا تلزم المطابقة، وهذا هو القول الراجح الذي تدل له النصوص، واختاره ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم.

ومن ذلك قصة عائشة رضي الله عنها -القصة المشهورة- لما كان النبي عندها في يومها وليلتها، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين طعامًا للنبي ، وهو عند عائشة، فعائشة أخذتها الغيرة، كيف ترسلين له طعامًا وهو عندي؟! فأخذت هذا الإناء من الغلام، وضربت به الأرض، وانكسر الإناء، وتناثر الطعام؛ من شدة غيرة عائشة، والغيرة بين الضرائر معروفةٌ، فالنبي تبسم، وقال: طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ [18]، انظر إلى حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، ما غضب، ما عاتبها، قال: إناءٌ بإناءٍ، وطعامٌ بطعامٍ.

ووجه الدلالة: أن النبي أمر أن يُرَد إناء ٌمثل ذلك الإناء، وهذا يدل على أن المثلي: ما كان له مثيلٌ أو شبيهٌ وقريبٌ منه، ولا تلزم المطابقة، لكن -على ضابط الحنابلة- الإناء قِيمِيٌّ، وليس مثليًّا، والنبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث قال: إناءٌ بإناءٍ؛ فدل ذلك على أن المثلي لا يختص بما ذكره الحنابلة من المكيل والموزون.

أيضًا في قصة أبي رافعٍ  لما استسلف النبيُّ من رجلٍ بَكْرًا، فأتاه يتقاضى بَكْرَه، فقالوا: يا رسول الله، لم نجد إلا خيارًا رباعيًا، قال: أعطوه؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاءً [19]، فهنا النبي عليه الصلاة والسلام أمر أن يُرَد مثله، قال: أعطوه مثله، فقالوا: لم نجد إلا خيارًا رباعيًا؛ وهذا يدل على أن المثلي: ما كان مقاربًا له، ومثيلًا له، ولا تلزم المطابقة من كل وجهٍ.

وعلى هذا فالقول الراجح: هو القول الثاني، وهو أن المثلي: ما كان له مثيلٌ مقاربٌ، ولا تلزم المطابقة.

خذ هذه الفائدة، هذه الفائدة تستفيد منها في جميع أبواب الفقه: إذا عبَّر الفقهاء بمثليٍّ وقِيميٍّ؛ فهذا هو معنى المثلي، وهذا هو معنى القيمي، وهذا هو معناه عند الحنابلة، ومعناه على القول الراجح.

قال:

ما لم يكن معيبًا، أو فلوسًا ونحوها.

يعني: لو كان المثلي -القرض- معيبًا؛ فيلزم المقترض أن يرد بالقيمة، وقوله: فلوسًا، الفلوس: هو كل نقدٍ من غير الذهب والفضة، وهذه المسائل قد لا نحتاجها في وقتنا الحاضر، الناس الآن أصبحوا يتعاملون بالأوراق النقدية، المؤلف يتكلم عما هو موجودٌ في زمنه.

قال

فيحرمها السلطان، فله القيمة.

يعني: وقت القرض، ولو أن السلطان منع من التداول بعملةٍ معينةٍ، فيكون للمقرض قيمة هذه العملة وقت القرض، فلو أقرض شيئًا قيمته ألفٌ، وبعد منع السلطان لها، نزلت قيمتها وهبطت، فأصبحت قيمتها خمسين؛ فالمقترض يرد -على كلام المؤلف- ألفًا، وهو قيمتها وقت القرض، وليس خمسين.

والقول الثاني في المسألة: أنها تُرَد بقيمتها ليس وقت القرض، وإنما وقت المنع؛ لأن المبلغ ثابتٌ في ذمته إلى وقت المنع، فيرد قيمتها وقت المنع؛ لأنها أصبحت معيبةً بالمنع، وهذا هو القول الراجح.

نظير هذه المسألة: ما إذا هبطت قيمة العملة، يعني الآن بعض العملات هبطت قيمتها بسبب الحروب، فلو أن رجلًا أقرض آخر عشرة آلافٍ، ثم الآن أصبحت لا تساوي إلا ألفًا فما الحكم؟

على كلام المؤلف والمذهب عند الحنابلة: أنه يَرُد بقيمتها -قيمة العشرة الآلاف- وقت القرض، وعلى القول الراجح: أنه يَرد قيمتها وقت هبوط العملة، ننظر إلى تاريخ هذه العملة متى هبطت؟ وقت الهبوط الحاد كم قيمة العشرة الآلاف، فيردها بقيمتها وقت هبوط العملة، هذا هو القول الراجح في المسألة.

لكن إذا كان التغير يسيرًا؛ فلا يلتفت إليه، إذا كان تغير قيمة النقد ليست كبيرةً، لا يلتفت إليه، الأصل أن القرض يُرَد بمثله، والدَّين يرد بمثله، إلا إذا كان الهبوط فاحشًا، وقدره بعضهم بالثلث فأكثر، هذا على سبيل التقريب، أما إذا كان الهبوط أقل من الثلث، فالأصل أن القرض والدين يُرد بمثله، وليس بقيمته.

طيب، لو اقترض قرضًا، أو استدان بعملةٍ معينةٍ، هل يجوز أن يردها بعملةٍ أخرى؟ يعني مثلًا: اقترض عشرة آلاف ريالٍ، فأراد أن يردها بجنيهاتٍ مصريةٍ، هل يجوز؟

طيب، الأصل أنه يسدد بالعملة نفسها، عشرة آلاف ريالٍ، يردها عشرة آلاف ريالٍ، لكن يجوز أن يسدد بعملةٍ أخرى بشرط: أن يكون ذلك بالسعر وقت السداد، لا وقت القرض.

ففي مثالنا السابق: اقترض عشرة آلاف ريالٍ سعوديٍّ، وأراد أن يردها جنيهاتٍ مصريةً، فنقول: عند سداد القرض كم تعادل عشرة آلاف ريالٍ سعوديٍّ جنيهاتٍ مصريةً؟ فإذا قال تعادل مثلًا: خمسة عشر ألف جنيهٍ؛ إذنْ رُدها خمسة عشر ألف جنيهٍ، ولا تنظر لقيمتها وقت القرض، وإنما وقت السداد، وتردها أيضًا بسعر يومها، يعني بسعر الريال بالجنيه في ذلك الوقت، وأيضًا لا بد من التقابض؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت أبيع الأبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فأتيت النبي ، فسألته، فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيءٌ [20]، هذا الحديث في سنده مقالٌ، لكن العمل عليه عند كثيرٍ من أهل العلم، فلا بأس أن تأخذها بسعر يومها، يعني دراهم بدنانير، ودنانير بدراهم، لكن بسعر اليوم، وأيضًا يكون فيه التقابض، فعندما تريد أن تستبدل ريالاتٍ سعوديةً بجنيهاتٍ مصريةٍ، هنا عشرة آلاف ريالٍ سعوديٍّ، وعند سداد القرض قلت: أريدها جنيهاتٍ، نقول: لا بأس، لكن بسعر العشرة الآلاف وقت السداد، بسعر اليوم نفسه، بسعر يومها، وأيضًا لا بد من التقابض، لا تكون دينًا، لا بد أن يسلم لك قيمتها من الجنيهات وقت السداد.

فلا بد من شرطين:

  • الشرط الأول: أن تأخذها بسعر يومها.
  • والشرط الثاني: أن تفترقا وليس بينكما شيءٌ، يكون هناك تقابضٌ، وبنفس سعر الصرف وقت سداد القرض.

هناك علةٌ أخرى للتحريم، وهي أنه إذا أخذه بأكثر من سعر يومه؛ فقد ربح فيما لم يضمن، يعني لو كان مثلًا: اقترض عشرة آلاف ريالٍ سعوديٍّ، ولما أراد أن يسدد؛ قال: سددها لي بالجنيهات المصرية، هنا يسددها بسعر الريال بالجنيه في وقت السداد، لكن لا يجوز أن يزيد؛ لأنه لو زاد.. كان مثلًا سعرُ عشرة آلاف ريالٍ خمسةَ عشر ألف جنيهٍ، لو جعلها عشرين ألفًا، هنا يكون قد ربح فيما لم يضمن، والنبي قد نهى عن ربح ما لم يضمن [21].

يجوز شرط رهنٍ وضمينٍ فيه

قال:

ويجوز شرط رهنٍ وضمينٍ فيه.

يعني: يجوز للمقرض أن يشترط على المقترض أن يأتي برهنٍ، يقول: لا أقرضك إلا بشرط أن ترهنني سلعةً من السلع، هذا لا بأس به، بشرط: ألا ينتفع المقرض بالرهن، لماذا؟ لأنه إذا انتفع بالرهن يكون القرض قد جر نفعًا، وكذلك يجوز للمقرض أن يشترط على المقترض أن يأتي بضامنٍ، يعني بكفيلٍ؛ حمايةً لحقه.

قرض الماء كيلًا

ويجوز قرض الماء كيلًا.

يجوز أن يقرض الماء كيلًا أو وزنًا، وفي الوقت الحاضر: قوارير الصحة، يجوز أن تُقرض، لا بأس؛ كسائر المكيلات والموزونات.

قرض الخبز والخمير عددًا

والخبزِ والخميرِ عددًا.

يجوز إقراض الخبز وإقراض الخمير -جمع خميرةٍ- ولا يلزم أن يرد مثله وزنًا، وإنما يرد مثله عددًا، وعلى القول الراجح في ضابط المثل: لا إشكال في هذا، لكن يَرِد الإشكال على مذهب الحنابلة؛ ولهذا قال المؤلف:

ورده عددًا بلا قصد زيادةٍ.

يعني: أن المقترض يرجع إلى المقرض مثل ما أخذه في القرض، فإن كان مكيلًا؛ فمثله بالكيل، وإن كان موزونًا؛ فمثله بالوزن، وهكذا، دون القصد إلى الزيادة أو النقصان عند رد القرض، فإن قَصَد الزيادة، أو قصد الجودة، أو اشترطها؛ حرم ذلك؛ لأنه يكون قرضًا جر نفعًا.

كل قرضٍ جر نفعًا؛ فهو حرامٌ

قال:

وكل قرضٍ جر نفعًا؛ فهو حرامٌ.

هذا يصح أن يكون ضابطًا في باب القرض، وقد رُوي هذا مرفوعًا إلى النبي [22]، ولا يصح، لكنها مقولةٌ مشهورةٌ عند العلماء: أن كل قرضٍ جر نفعًا؛ فهو ربًا، وقد رُوي ذلك عن ابن مسعودٍ وعن ابن عباسٍ بهذا المعنى.

طيب، لماذا اعتبر الفقهاء كل قرضٍ جر نفعًا ربًا؟

قالوا: لأن صورة القرض في الأصل هي صورةٌ ربويةٌ، كونه يقرضك عشرة آلاف ريالٍ، تردها له بعد مدة عشرة آلاف ريالٍ، ليس هناك تقابضٌ، فالأصل أنه فيها ربا نسيئةٍ، لكن الشريعة الإسلامية استثنت هذه الصورة من باب التشجيع على الإرفاق والإحسان والتكافل بين أفراد المجتمع، لكن استثنت..، فتجويز القرض من باب التشجيع على الإرفاق والإحسان والتكافل، فإذا أصبح القرض لا يراد به الإحسان ولا التكافل، وإنما أصبح يراد به المعاوضة والربحية؛ رجع القرض لصورته في الأصل، وهي الصورة الربوية، وهذا هو معنى “كل قرضٍ جر نفعًا؛ فهو ربًا”.

لكن هذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ لأنه ما من قرض إلا ويتضمن نفعًا؛ كما قال ابن حزم، ليس في العالم سلفٌ إلا وهو يجر منفعةً، ولذلك لا بد من أن نعرف ما هو ضابط المنفعة المحرمة في القرض، وهذه قد اختُلف فيها، والقول الراجح في ضابطها: أنها المنفعة التي يختص بها المقرض دون المقترض، المنفعة المحرمة في القرض: هي المنفعة التي يختص بها المقرض دون المقترض؛ كأن يشترط المقرض على المقترض سكنى داره، أو ركوب سيارته، ونحو ذلك، أو يقول: لا أقرضك إلا بشرط: أن أسكن بيتك لمدة شهرٍ، أو أن تهدي لي هديةً، ونحو ذلك.

أما إذا كان هناك منفعةٌ مشتركةٌ بين المقرض والمقترض؛ فلا بأس، وهذا يقودنا إلى حكم السُّفْتَجة، والسفتجة: هي كلمةٌ فارسيةٌ، معناها: معاملةٌ ماليةٌ يقرض فيها الإنسان قرضًا لآخر؛ ليوفيه المقترض أو نائبه أو مدينه في بلدٍ آخر، والغرض منها وفائدتها: أمن خطر الطريق، وأيضًا التخلص من مؤونة الحمل.

وبعض العلماء المعاصرين يقول: إن من صورها التحويلات البنكية، إذا حولت مبلغًا من المال إلى شخصٍ في بلدٍ آخر عن طريق المصرف؛ فيعتبر هذا من صور السفتجة.

والسفتجة فيها خلافٌ بين الفقهاء:

فالمذاهب الأربعة على المنع؛ لأنهم يرون أن فيها منفعةً، وكل قرضٍ جر نفعًا؛ فهو ربًا.

والقول الثاني: هو الجواز، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، واختاره ابن تيمية وابن القيم، وعليه عامة المعاصرين، عامة العلماء المعاصرين في الوقت الحاضر؛ وذلك لأن المنفعة في السفتجة لا يختص بها المقرض دون المقترض، بل تشمل المقرض والمقترض؛ فالمقرض ينتفع بأمن خطر الطريق بنقل دراهمه إلى ذلك البلد، والمنتفع ينتفع بالقرض، فليس هناك منفعةٌ خاصةٌ بالمقرض دون المقترض، والمنفعة التي لا يختص بها المقرض، وإنما يشترك فيها المقرض والمقترض، تكون جائزةً، والعمولة التي يأخذها البنك مقابل رسومٍ إداريةٍ وخدماتٍ فعليةٍ حقيقيةٍ، هذا لا بأس به؛ لأن البنوك ليست جمعياتٍ خيريةً، البنوك مؤسساتٌ ربحيةٌ، ولا نستطيع أن نلزم البنوك؛ كي تخدم الناس مجانًا، بل تأخذ مقابل الخدمة، وتأخذ مقابل المصاريف الفعلية التي تكبدتها.

ولكن من العلماء المعاصرين من يكيف التحويلات البنكية بتكييفٍ آخر، وهي الأجرة على نقل النقود، وهذا له وجاهته، خاصةً عندما نرجح أن النقود لا تتعين بالتعيين؛ فمثلًا: تعطي البنك عشرة آلاف ريالٍ، وتقول: انقلها لي إلى بلدٍ آخر، ولك أجرةٌ قدرها كذا، فهذا التكييف يخرجنا من مسألة السفتجة والخلاف الفقهي فيها، خاصةً أن المذاهب الأربعة تمنع منها، فهذا تكييفٌ له وجاهته، أن تكيف التحويلات البنكية على الأجرة على نقل النقود؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين، فتقول: انقلوا لي هذه العشرة الآلاف ريالٍ إلى بلد كذا، ولكم كذا، فهذا تكييفٌ جيدٌ وله وجاهته.

جميعة الموظفين

أولًا: معنى “جميعة الموظفين”: أن يكون هناك عددٌ من الموظفين يتفقون على أن يَدفع كلٌّ منهم مبلغًا من المال، ويُجمع هذا المبلغ، ويُعطَى أحدَهم في الشهر الأول، ثم الثاني في الشهر الثاني، ثم الثالث في الشهر الثالث، وهكذا، حتى يدور على جميع الموظفين.

حكمها: هذه المسألة عُرضت على هيئة كبار العلماء، ورأت الهيئة بالأكثرية جوازها، هناك من منع وقال: إنها من قبيل القرض الذي جر نفعًا، ولكن الأقرب -والله أعلم- ما عليه أكثر العلماء من جوازها؛ وذلك لأن الموظف لا يحصل على أكثر من المال الذي دفعه، فحقيقتها: أنه يقرض غيره قرضًا، ويعود له القرض مرةً أخرى.

فلو كانت هذه الجمعية مكونةً مثلًا من عشرة موظفين، فكل واحدٍ يدفع ألف ريالٍ، العشرة الآلاف ريالٍ الأولى تكون عند الموظف الأول، العشرة الآلاف الثانية تكون عند الموظف الثاني، العشرة الآلاف الثالثة تكون عند الموظف الثالث،.. وهكذا، لم يأخذ أحدٌ من هؤلاء الموظفين العشرة أكثر من حقه، فهم متساوون في الحصص، ولكن الفائدة منها تجميع هذا المبلغ عند الموظف الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، فلا بأس بها، فجميعة الموظفين جائزةٌ، ولا بأس بها.

أمثلةٌ للمنفعة المحرمة في القرض

قال:

كأن يُسكنه داره، أو يعيره دابته، أو يقضيه خيرًا منه.

هذه أمثلةٌ للمنفعة المحرمة في القرض، التي يختص بها المقرض دون المقترض، فإذا كان المقرض أقرضه، لكي يسكنه داره، أو يعيره دابته، أو يقضيه خيرًا منه، فهذا قرضٌ جر نفعًا، ولا يجوز.

المنفعة في القرض بدون شرطٍ من المقرض

وإن فعل ذلك بلا شرطٍ، أو قضى خيرًا منه بلا مواطأةٍ؛ جاز.

يعني: لو كانت المنفعة في القرض بدون شرطٍ من المقرض، ولم يجر بها العرف؛ فلا بأس بذلك؛ وعلى هذا: تكون الزيادة في القرض لها صورتان:

الصورة الأولى: أن تكون الزيادة مشترطةً في القرض، هذه محرمةٌ بالإجماع.

الصورة الثانية: أن تكون الزيادة من غير شرطٍ ولا عرفٍ، وبعد الوفاء، فهذه لا بأس بها، بل إنها من حسن القضاء، والنبي لما استسلف من رجلٍ بكرًا، أتى الرجل يتقاضى بكره، وقال: أعطوه، قالوا: لم نجد -يا رسول الله- إلا خيارًا رباعيًا، قال: أعطوه؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاءً [23].

إذنْ الزيادة في القرض على صورتين:

  • الصورة الأولى: أن تكون الزيادة مشترطةً في القرض، هذه محرمةٌ بالإجماع، ومن ذلك: القروض البنكية الربوية، التي تكون نقدًا بنقدٍ مع الزيادة، هذه محرمةٌ بالإجماع.
  • الصورة الثانية: أن تكون الزيادة من غير شرطٍ، ومن غير عُرفٍ، فلا بأس بها؛ مثال ذلك: اقترضت من رجل خمسين ألف ريالٍ، ثم أردت أن تسدد هذا القرض، لما سددت هذا القرض؛ أتيت معك بهديةٍ له، لا بأس بذلك.

أو أنك عندما أردت أن تسدد، سددت له ستين ألفًا بدل خمسين، فلا بأس بذلك، إذا لم يكن هذا بشرطٍ ولا عرفٍ، فلا بأس بذلك، بل إن هذا من حسن القضاء.

إذا كان الرجل معروفًا بحسن القضاء، وعرف أنه يرد أكثر مما أقرض، هل يكره إقراضه؟

بعض أهل العلم كره إقراضه، والصحيح: أنه لا بأس بإقراضه، ما دام أنه ليس هناك شرطٌ ولا عرفٌ؛ لأن النبي كان معروفًا بحسن القضاء، ولا يَسوغ لأحدٍ أن يقول: إن إقراضه مكروهٌ؛ ولأن المعروف بحسن القضاء ينبغي أن تُسد حاجته، وهو أولى الناس بقضاء حاجته.

والزيادة الجائزة التي تكون غير مشترَطةٍ، وأيضًا لم يدل لها العرف، هذه إنما تجوز إذا كانت بعد الوفاء، يعني بعد سداد القرض، أما قبل الوفاء؛ لا تجوز مطلقًا، ولو من غير مواطأةٍ، ولو على سبيل الهدية، إلا أن تكون بينهما عادةٌ جاريةٌ قبل القرض، ويدل لذلك: حديث سعيد بن أبي بردة عن أبيه، قال: أتيت المدينة، فلقيت عبدالله بن سَلَامٍ -وهذا في “صحيح البخاري”- فقال: “ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا وتدخل في البيت، ثم قال: إنك بأرضٍ -يقصد العراق- الربا بها فاشٍ، إذا كان لك على رجلٍ حقٌّ فأهدى إليك حمل تبنٍ، أو حمل شعيرٍ، أو حمل قتٍّ؛ فلا تأخذه؛ فإنه ربًا” [24]، وهذا الأثر موقوفٌ على عبدالله بن سلامٍ، لكن له حكم الرفع.

وأيضًا جاء في حديث أنسٍ : إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى له، أو حَمَله على الدابة؛ فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون قد جرى بينه وبينه ذلك، وفي سنده مقالٌ، لكن معناه صحيحٌ.

وأيضًا جاء عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: في رجلٍ كان له على رجلٍ عشرون درهمًا، فجعل يُهدي إليه، وجعل كلما أهدى إليه هديةً باعها، حتى بلغ ثمنها ثلاثة عشر درهمًا، فاستفتى ابن عباسٍ، فقال: لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم، يعني ابن عباسٍ حَسَب الهدية للمقرض من المنفعة المحرمة التي لا يجوز أخذها.

وعلى ذلك: فمن أقرض غيره قرضًا؛ فلا يجوز له أن يأخذ هديةً من المقترض لم تجر العادة بها بينهما قبل الوفاء.

هذا رجل أقرضك مئة ألف ريالٍ، ليس لك أن تهديه هديةً لم تجر العادة بها بينكما، أما إذا أهديته لأنه أقرضك؛ فهذا لا يجوز.

متى تجوز الهدية؟

تجوز بعد سداد القرض، لمَّا سددت القرض وأرجعت له المئة الألف، أعطيته هدية، أعطيته زيادةً، لا بأس، لكن قبل الوفاء لا يجوز مطلقًا، إلا أن يكون بينك وبينه عادةٌ في التهادي، أما أن تُهدي له بعد أن أقرضك، فهذا لا يجوز.

ومن ذلك: هدايا البنوك للعملاء، فإنها محرمةٌ؛ وذلك لأن الحساب الجاري في البنوك يكيف على أنه قرضٌ، المقرض هو العميل، والمقترض البنك، فهدية البنك هديةٌ من المقترض إلى المقرض قبل الوفاء، فلا تجوز.

لكن هناك الهدايا التي لا تختص بالعملاء، التي تمنح للعملاء وغيرهم؛ كالتقاويم ونحوها، هذه لا بأس بها، لو أن العميل أقفل حسابه الجاري، فأهدى له البنك هديةً، فهذا يجوز، لماذا؟ لأنها هديةٌ من المقترض للمقرض بعد الوفاء من غير شرطٍ، لكن هذه المسألة بعيدٌ وقوعها، البنوك إذا أقفل الإنسان الحساب؛ لا ترحب بذلك، ولا تعطيه هدايا، وربما أيضًا بعض البنوك لا تُحسن معاملته أصلًا، لكن هذه مسألةٌ مفترضةٌ.

فلو أن البنك بعد إقفال الحساب أهدى له هديةً، ربما أنه يرجو أن يرجع، أو يرجو أن يفتح حسابًا مرةً أخرى، أو نحو ذلك، فأهدى له هديةً بعد إقفال الحساب من غير شرطٍ، فلا بأس بذلك.

الهدايا التي تكون على عمليات الشراء

طيب هنا مسألةٌ معاصرةٌ متعلقةٌ بهذا لم تذكر في “السلسبيل”: الهدايا التي تكون على عمليات الشراء، هديةٌ من البنك للعميل، لكن ليس لأجل الحساب الجاري، وإنما تكون لأجل عمليات الشراء.

هذه لا بأس بها، لكن بشرط أن تكون مرتبطةً بعمليات الشراء، وليس لها ارتباطٌ بالحساب الجاري، فسواءٌ زاد الحساب الجاري أو نقص، لا يرتبط دفع الهدايا بقيمةٍ أو بالرصيد، لا يرتبط دفع الهدايا بالرصيد، وإنما يرتبط دفع الهدايا بعمليات الشراء، فهذه لا بأس بها.

فيقولون مثلًا: عند كل عملية شراءٍ لك هديةٌ، كلما اشتريت مثلًا بهذه البطاقة؛ لك هديةٌ، فهذا لا بأس به؛ لأن الهدية مقابل الشراء، وليس لها علاقةٌ بالحساب الجاري، أما إذا كانت الهدية مرتبطةً بالحساب الجاري، وكلما كان الرصيد عاليًا؛ كانت الهدية قيمتها أعلى؛ فهذا لا يجوز، لكن إذا كانت الهدية ليست مرتبطةً بالحساب الجاري، لا يُنظر للرصيد، وإنما هي مرتبطةٌ بعمليات الشراء، كلما اشتريت بهذه البطاقة؛ أعطيناك هديةً، فهذا لا بأس به، وهذا تمارسه بعض المصارف الإسلامية اليوم، بناءً على فتاوى من الهيئات الشرعية؛ لأن هذه الهدايا مرتبطةٌ بعمليات الشراء، وليست مرتبطةً بالحساب الجاري، الممنوع هو أن تكون الهدية مرتبطةً بالحساب الجاري، أما إذا كانت الهدية ليست مرتبطةً بالحساب الجاري، وإنما بعمليات الشراء؛ فلا بأس بها.

حكم استضافة المقترض للمقرض قبل الوفاء

يعني أن يُضيَّفه، يصنع له وليمةً، إذا كان بينهما عادةٌ قبل القرض؛ فلا بأس، أما إذا لم يكن بينهما عادةٌ، واستضافه وأقام له وليمةً بسبب القرض؛ فهذا لا يجوز، إلا أن تخصم قيمة الوليمة من القرض؛ ولهذا قال المَرْدَاوي: ينبغي أن يُنظر؛ فإن كان له عادةٌ بإطعام مَن أضافه ولم يُحسب له، وإلا حُسب.

صور معاصرةٌ للقروض المحرمة

طيب هنا صورٌ معاصرةٌ للقروض المحرمة:

من الصور المعاصرة: ما تفعله بعض البنوك من تعجيل راتب الموظف قبل حلوله نظيرَ عمولةٍ، فبعض البنوك يقولون: نعجل لك الراتب أول الشهر، بشرط: أن تعطينا عمولةً، تعطينا جزءًا من الراتب، فهذا لا يجوز؛ كأن يكون مثلًا: الراتب عشرة آلاف ريالٍ، والبنك يقول: نعطيك تسعة آلاف ريالٍ وتسعمئةٍ، ومئةُ ريالٍ عمولةٌ مقابل تعجيل الراتب لك، هذا لا يجوز؛ وذلك لأن هذه المعاملة حقيقتها أنها قرضٌ بفائدةٍ، كأن البنك أقرض هذا الرجل قيمة الراتب إلى حين موعد نزوله بفائدةٍ.

من الصورة المعاصرة للقروض المحرمة: ما يسمى بخصم أو حسم الأوراق التجارية؛ كأن يأتي حامل الكمبيالة -التي لا تحل إلا بعد أجلٍ- إلى البنك ويطلب منه تعجيل صرفها مخصومًا منها مبلغٌ معينٌ؛ الكمبيالة مثلًا فيها مليون ريالٍ، تحل بعد ستة أشهرٍ، يأتي للبنك فيقول: اصرفوها لي الآن، وأعطوني مثلًا تسعمئةٍ وخمسين ألفًا، هذا لا يجوز؛ لأن هذا حقيقته أنه قرضٌ بفائدةٍ.

من صور الربا في القروض أيضًا: الشرط الجزائي على الديون، فالشرط الجزائي على الديون محرمٌ؛ كأن يبيع شخصٌ سلعةً بأجلٍ أو بأقساطٍ، ويشترط البائع على المشتري أنه إذا تأخر في سداد قسطٍ من الأقساط؛ يُحسب عليه غرامة تأخيرٍ، فهذا محرمٌ، وهذا هو نظير ربا الجاهلية، فكانوا في الجاهلية إذا حل الدين؛ يأتي الدائن للمدين ويقول له: إما أن تَقضي، وإما أن تُربي، يعني إما أن تسدد الدين، وإما أن نؤخرك ونزيد عليك، نضع عليك غرامة تأخيرٍ، فهذا هو نظير ربا الجاهلية، ولا يجوز، لكن الشرط الجزائي في غير الديون لا بأس به؛ مثلًا: مقاولٌ يبني لك عمارةً، اشترطتَ عليه أن يبنيها لك خلال سنةٍ، وقلت: بعد السنة أحسب عليك شرطًا جزائيًّا، أخصم عليك مثلًا مبلغًا قدره كذا عن كل يومٍ، أو مثلًا مكتب استقدام عمالةٍ، واشترطتَ عليه أن يستقدم لك العمالة في مدةٍ معينةٍ، وعند التأخر يحسب عليك شرطًا جزائيًّا، فهذا لا بأس به.

فالشرط الجزائي في غير الديون جائزٌ، أما الشرط الجزائي في الديون فمحرمٌ، بعض البنوك والمؤسسات المالية تضع شرطًا جزائيًّا في الديون، وتقول: إننا لا نأخذ الغرامة، وإنما نصرفها في وجوه البر، هذه المسألة أجازها بعض العلماء المعاصرين، ومن أشهَر من أجازها: (أيوفي)، هيئة المراجعة والمحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية، وأكثر العلماء المعاصرين على عدم الجواز، وصدر به قرارٌ من “المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامية”.

وهذه المسألة لا يُعلم عن أحد من متقدمي العلماء أنه أجازها، أثارها بعض العلماء المعاصرين، وقلده من قلده من العلماء المعاصرين، والأقرب -والله أعلم- أنها غير جائزةٍ، فكيف يقال: إن البنك أو المؤسسة تأخذ الربا ثم تقول: سأضعها في وجوه البر؟! فهذا غير جائزٍ، خاصةً أن النصوص قد شددت في شأن الربا تشديدًا عظيمًا، وسدت جميع الذرائع الموصلة إليه ولو من وجهٍ بعيدٍ.

بذل المقترض ما عليه بغير بلد المقرض

طيب، نعود لعبارة المصنف رحمه الله:

قال:

ومتى بذل المقترض ما عليه بغير بلد المقرض، ولا مؤونة لحمله؛ لزم ربَّه قبولُه مع أمن البلد والطريق.

يعني: لو بذل المقترض القرض، لكن ليس ببلد المقرض، وإنما ببلدٍ آخر، فيلزم المقرض أن يقبض هذا القرض، لكن هذا بشرط: ألا يكون لحمله مؤونةٌ، وأن يكون الطريق آمنًا؛ وذلك لأنه عين ماله؛ فمثلًا: اقترض إنسانٌ من آخر عشرة آلاف ريالٍ في الرياض، ثم وجد المقرض في مكة فأعطاه، سدد له عشرة آلاف ريالٍ، فيلزم القبول، بشرط ألا يكون هناك مؤونةٌ للحمل، وأن يكون مثلًا المبلغ ليس كبيرًا، وأن يكون الطريق آمنًا أو البلد آمنًا، لكن لو مثلًا اقترض منه مليونًا، ولقيه في مكة، وأعطاه مليونًا نقدًا؛ فهنا قد يلحقه الضرر، يقول: كيف تعطيني مليونًا؟! أعطني إياها في البلد الذي أقرضتك إياها، أو مثلًا ضعها في حسابي، أو أعطني شيكًا مصدَّقًا، المقصود: أنه يشترط لذلك عدم الضرر على المقرض.

طيب، وأصل المسألة: هل يلزم المقرض قبول القرض، أو لا يلزمه؟

هذا محل خلافٍ:

  • المذهب عند الحنابلة: أنه يلزمه.
  • والقول الثاني: أنه لا يلزمه؛ لأن الحق له، فإن أبى؛ لم يُلزم بقبوله، وهذا هو الأقرب.

حكم أخذ المصرف عمولةً إذا قل رصيد الحساب الجاري عن مبلغٍ معينٍ

طيب هنا مسألةٌ معاصرةٌ: حكم أخذ المصرف عمولةً إذا قل رصيد الحساب الجاري عن مبلغٍ معينٍ، بعض البنوك تقول: إذا قل الرصيد عن ألف ريالٍ؛ نحسب عليك عمولةً، فما الحكم؟

نقول: لا بأس بهذا؛ لأن المصرف يقوم بخدماتٍ للعميل، وله مصلحةٌ في فتح الحساب الجاري له، فما يأخذه البنك هو مقابل هذه الخدمات، فالبنك يقوم بخدماتٍ، إذا فتح حسابًا لهذا العميل؛ يستفيد العميل من هذا الحساب في سداد الفواتير، وفي التحويلات، وفي منافع، فما يأخذه البنك هو مقابل هذه المنافع، ومقابل هذه الخدمة، فلا بأس بذلك، لا بأس أن يأخذ البنك عمولةً على العميل إذا قل رصيده عن مبلغٍ معينٍ.

هذا لا إشكال فيه من حيث النظر الفقهي، وإنما الإشكال في العكس -أي أن المصرف لا يأخذ شيئًا على فتح الحساب- هل هذا من قبيل القرض الذي جر نفعًا؟

الأقرب -والله أعلم- أن هذا لا بأس به، ولا يعتبر من قبيل القرض الذي جر نفعًا.

من اقترض لغيره قرضًا باسمه

طيب هنا مسألةٌ أيضًا معاصرةٌ: من اقترض لغيره قرضًا باسمه من مصرفٍ أو غيره بطلبٍ ممن اقترض له القرض، أو أخذ تمويلًا لغيره باسمه.

فهنا يَلزم من اقترض له هذا القرض أن يسدد القرض؛ لأن مَن باسمه هذا القرض يعتبر كالوكيل لهذا الذي اقترض له، أو أخذ له تمويلًا، فهذا مجرد وكيلٍ، يعني هذا شخصٌ لا تنطبق عليه الشروط، أتى لصديقٍ له أو لأخٍ له أو لقريبٍ، وقال: خذ لي تمويلًا من البنك، فأخذ تمويلًا، فهذا الذي أخذ تمويلًا من البنك هو كالوكيل، والذي يطالَب بالسداد هو هذا الشخص الطالب لهذا القرض أو لهذا التمويل، والدليل لذلك: قصة عروة بن الجعد البارقي ، لما أعطاه النبي دينارًا ليشتري به شاةً، فاشترى له به شاتين، ثم باع إحدى الشاتين بدينارٍ، وأتى النبي بشاةٍ ودينارٍ [25]، فهنا تصرفات عروة كانت باسمه الشخصي، لكن كان وكيلًا عن النبي ؛ هكذا الذي قال: اقترض لي من البنك، أو خذ لي تمويلًا من البنك، هو بمثابة الوكيل، لكن هذا الوكيل ضامنٌ لسداد هذا المال؛ لأن تسجيله باسمه التزامٌ منه بسداده، فالتكييف الفقهي لهذا الذي قال: اقترض لي، أو خذ لي تمويلًا من البنك، فأخذ قرضًا أو تمويلًا من البنك باسمه، التكييف الفقهي له أنه كالوكيل الضامن، يعني وكالة مع ضمانٍ، فهو وكيلٌ، لكنه في الوقت نفسه ضامنٌ أمام الجهة التي أخذ منها هذا القرض أو هذا التمويل، ولا يعتبر قرضًا، لا يعتبر مقرضًا؛ لأنه لم يقترض لنفسه، إنما اقترض لغيره، أو أخذ تمويلًا لغيره، فهو يعتبر كالوكيل الضامن، هذا أحسن ما قيل في التكييف الفقهي لهذه المسألة.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند باب الرهن.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:

الأسئلة

السؤال: هل تشغيل الأذان في المنزل وتكراره له أصلٌ في علاج الحسد والعين والأنفس؟

الجواب: الذي ورد في السنة أن الشيطان إذا سمع صوت المؤذن؛ فإنه يفر منه؛ حتى لا يسمع صوت التأذين [26]، فصوت الأذان طارد للشياطين، فالذي يظهر أن الأمر في هذا واسعٌ، لكن خيرٌ من ذلك: أن يجعل القرآن، إما شخصٌ يقرأ، أو عبر المسجل ونحو ذلك، يقرأ في البيت، والنبي يقول: البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة لا يقربه شيطانٌ [27]، جاء في بعض الروايات: لا يقربه ثلاث ليالٍ [28]، فكونه يجعل قرآنًا أفضل من تكرار الأذان.

السؤال: لو أخذت تمويل أسهمٍ من “مصرف الراجحي” عن طريق الهاتف، وتمت الموافقة على العقد عن طريق الاتصال بالهاتف، ومن ثم تحويلها إلى محفظتي عن طريق هاتف الراجحي، ثم أتولَّى أنا شخصيًّا بيعها عن طريق هاتف الراجحي لبيع الأسهم، ما حكم ذلك؟

الجواب: لا بأس به، بشرط أن تقتصر على أسهم الشركات النقية، وهذا بيعٌ وشراءٌ، والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، هذا التمويل لا بأس به، وهو منضبطٌ بالضوابط الشرعية، لكن ينبغي أن تقتصر على أسهم الشركات النقية.

السؤال: طالبٌ جامعيٌّ له سكنٌ، مستأجرٌ في الرياض، يأتي للرياض من كل أسبوعٍ ثلاثة أيامٍ ويعود لبلده، هل يعتبر مسافرًا، أو يعتبر صاحب إقامتين؟

الجواب: هذه المسألة الحكم الشرعي فيها واضحٌ، وهو أن المرجع في ذلك إلى العُرف، لكن يأتي النظر في تحقيق المناط، وهذا هو الذي تختلف فيه أنظار العلماء المعاصرين.

هذا الطالب الآن له إقامةٌ في بلده، وله إقامةٌ في البلد الذي يدرس فيه، فهو في حقيقة الأمر صاحب إقامتين؛ له إقامةٌ هنا، وإقامةٌ هناك؛ كمن له زوجتان: زوجةٌ هنا، وزوجةٌ هناك، زوجةٌ في بلدٍ، وزوجةٌ في بلدٍ آخر، ولا أحد يقول: إنه مسافرٌ في هذا البلد، ومقيمٌ في البلد الآخر، وإنما يقال: إنه مقيمٌ في هذا البلد، ومقيمٌ إقامةً أخرى في بلدٍ آخر.

فالأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة: أنه يعتبر صاحب إقامتين، ليس له أن يترخص برخص السفر، لا في بلده الأصلي، ولا في البلد الذي يدرس فيه، وإنما في مسافة الطريق إذا كانت المسافة أكثر من (80 كيلومترًا)، فيترخص برخص السفر في الطريق فقط، وأما في بلده الأصلي، وفي البلد الذي يدرس فيه، فلا يعتبر مسافرًا.

ثم إن الأصل في الإنسان الإقامة وليس السفر، فلا يوصف بوصف السفر إلا بأمرٍ واضحٍ، والسفر عند العرب في الأصل يطلق على الإسفار، يعني البروز للصحراء، لكن خولف هذا الأصل، واعتُبر المسافر -إذا أقام- مسافرًا فيما ورد فيه النص أو ما كان في معناه؛ ولهذا ينبغي عدم التوسع في هذه المسائل؛ لأن الأصل في السفر عند العرب أنه البروز للصحراء، وينبغي عدم التوسع في اعتبار المسافر -إذا أقام- مسافرًا، إلا في حدود ما ورد به النص أو ما كان في معناه.

ثم أيضًا كون هذا الطالب يتم، فصلاته صحيحةٌ عند جميع العلماء، لكن كونه يقصر ويجمع، صلاته غير صحيحةٍ عند كثيرٍ من أهل العلم، فالأحوط والأبرأ لذمته أنه لا يترخص برخص السفر إلا في الطريق إذا كانت المسافة أكثر من (80 كيلومترًا).

السؤال: ورد في فضل سيد الاستغفار أن من قاله من النهار موقنًا به فمات من يومه قبل أن يمسي؛ دخل الجنة، ما معنى: “موقنًا”؟

الجواب: أولًا: هذا الحديث حديثٌ صحيحٌ، أخرجه البخاري في “صحيحه”: أن النبي قال: من قال حين يصبح: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قاله حين يصبح موقنًا به فمات من يومه؛ دخل الجنة، ومن قاله حين يمسي فمات من ليلته؛ دخل الجنة [29].

معنى موقنًا به، يعني: موقنًا بالمعاني التي تضمنها سيد الاستغفار، هذه المعاني العظيمة التي دل لها هذا الدعاء: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، هذه المعاني إذا تيقنها الإنسان؛ فإنه يحصل على الفضل الوارد في هذا الحديث.

والمقصود: دخل الجنة إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع، وليس المعنى: أنه من أتى بهذا الذكر؛ دخل الجنة حتى وإن كان مقصرًا في أداء الواجبات، متجرئًا على الحرمات، بل هذا من أحاديث الوعد التي تُحمل على أنه من أتى بهذا الذكر وقد حقق الشروط وانتفت الموانع، فمات من يومه؛ دخل الجنة.

السؤال: كم نقول في السجود: سبحان ربي الأعلى؟

الجواب: الواجب مرةً واحدةً، وأدنى الكمال ثلاث مراتٍ كما يقول الفقهاء، والأفضل أن تقولها عشر مراتٍ، كما جاء في حديث أنسٍ [30].

الأفضل أن تقول: سبحان ربي الأعلى، تكررها عشر مراتٍ، ثم تختم بقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي [31].

السؤال: يقول: شخصٌ معتادٌ على صيام أيام البيض، وحصل منه أن حلف على أمرٍ، ويريد أن يكفر عن حلفه، هل يجزئ أن يكفر عن الحلف بالصيام في أيام البيض؟

الجواب: ليس له ذلك؛ لأن كفارة اليمين هي إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ ‌أَوۡ ‌كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89].

الصيام لا يصار إليه إلا عند العجز عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.

تحرير الرقاب هنا متعذرٌ في وقتنا الحاضر، لكن يبقى إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.

فالأصل في الكفارة: أن تطعم عشرة مساكين أو تكسوهم، ولا تلجأ للصيام إلا عند العجز عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.

لكن لو افترضنا أنك غير قادرٍ على إطعام عشرة مساكين، وغير قادرٍ على كسوتهم، فتصوم ثلاثة أيامٍ، ولا بأس أن تجعل الصيام في أيام البيض، ولو كنت قد اعتدت صيام أيام البيض؛ فتنويها صيامًا لأيام البيض، وأيضًا لكفارة اليمين.

السؤال: إذا قام الإمام للركعة الخامسة من الصلوات الرباعية، وتم تنبيهه من المصلين ولم يرجع، هل أتابعه أم أبقى جالسًا حتى يرجع؟ وما حكم صلاتي إذا أتمها خمسًا ثم سجد للسهو؟

الجواب: إذا قام الإمام للركعة الخامسة لا يجوز لمن علم بذلك من المأمومين أن يتابعه في الزيادة، فإن تابعه في الزيادة؛ بطلت صلاته، وإنما الواجب عليك أن تنبهه، وتقول: سبحان الله، فإن لم يرجع، فإنك تجلس حتى تدركه في التشهد وتسلم معه، لكن أن تتابعه، وأنت تعلم بأن هذه الركعة زائدةٌ، هذا لا يجوز، بل إن هذا مبطلٌ للصلاة.

والواجب على الإمام إذا سبح به ثقتان فأكثر، أن يرجع لقولهما، ما لم يجزم بصواب نفسه.

السؤال: أبنائي طيبون وبارُّون، لكنهم يستهينون بالصلاة، فيصلونها أحيانًا، ويتركونها أحيانًا، وفي الغالب يؤدونها في البيت، ما التوجيه؟

الجواب: عليك أن تنصحهم، وأن تستمر في نصيحتهم، وأن تغرس فيهم الاهتمام بالصلاة، فكونهم يتجاوبون معك -ووصفتهم بالبر- هذا أمرٌ إيجابيٌّ، وهذا يستدعي منك أن تنصحهم، وأن تستمر في نصيحتهم، وأن تأمرهم بالصلاة عند وقت كل صلاةٍ، وأن تدعو الله تعالى لهم بالهداية.

السؤال: ما الحكمة من أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجًا غيره؟

الجواب: الحكمة من ذلك والله أعلم: أن زواجها برجلٍ آخر فيه نوعٌ من التأديب لها وله؛ لأن كون الطلاق تكرر ثلاث مراتٍ؛ معنى ذلك: أن المشكلة ستستمر، فلا بد من شيءٍ رادعٍ، فإذا رأى هذا الزوج أن هذه المرأة ذهبت لزوجٍ آخر، وتزوجها ووطئها، هذا درسٌ قاسٍ له، كذلك أيضًا هذه الزوجة رأت أنها طُلقت ثلاثًا، حرمت على زوجها الأول، تزوجت بزوجٍ آخر، فلو طلقها الزوج هذا؛ فإنها ترجع لزوجها الأول وقد تلقنت أيضًا درسًا، ففي هذا نوعٌ من التأديب للزوج وللزوجة، لعل هذا -والله تعالى أعلم- هو الحكمة.

السؤال: هل قول: سبحان الله وبحمده، من أذكار الصباح والمساء؟

الجواب: نعم، قول: سبحان الله وبحمده مئة مرةٍ من أذكار الصباح والمساء؛ لقول النبي : من قال: سبحان الله وبحمده حين يصبح مئة مرةٍ، حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر [32]، فقول: سبحان الله وبحمده مئة مرةٍ هو من أذكار الصباح والمساء.

السؤال: قال النبي : من كان له فَرَطان من أمتي؛ دخل الجنة، قالت عائشة: فمن كان له فَرَطٌ، قال: ومن كان له فرطٌ يا موفَّقة، قالت: فمن لم يكن له فرطٌ من أمتك، قال: فأنا فرط أمتي، لم يصابوا بمثلي [33]، هل يؤخذ من الحديث أن العقيم، أو الذي مات ولم يتزوج، النبي فرطه، أي شفيعٌ له؟

الجواب: نعم، أولًا: هذا الحديث حديثٌ صحيحٌ، رواه الترمذي بسندٍ صحيحٍ، وهذا يدل على أن العقيم، أو الذي مات ولم يتزوج، فإن النبي فرطه من أمته؛ لأنه قال: فأنا فرط أمتي، لم يصابوا بمثلي، وهذا يدل على عظيم رحمة الله بعباده، وسعة عفوه وكرمه وإحسانه جل وعلا.

السؤال: إذا أفطر مريض السكر في نهار رمضان بسبب ظرفٍ صحيٍّ، هل عليه القضاء؟

الجواب: نعم، يجب عليه القضاء، هو معذورٌ بهذا الإفطار، لكن يجب عليه القضاء؛ كما قال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

السؤال: أعاني من وسواس في العقيدة، وأشعر بداخلي من يتكلم بكلامٍ غير مناسبٍ، ما توجيهكم؟

الجواب: هذه الوساوس اشتكى منها بعض الصحابة للنبي ، فقالوا: «يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به»، يعني من شدة قبحها لا يستطيع أن يتكلم بها، وساوس في العقيدة، في الذات الإلهية، في أمورٍ لا يستطيع أن يتكلم بها، لكنها تأتيه، فقال النبي : أوجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان [34]، رواه مسلمٌ.

يعني مدافعة هذه الوساوس دليلٌ على قوة الإيمان؛ لأن الشيطان عندما يرى الإنسان مستقيمًا على طاعة الله ؛ يحرص على أن يأتي له بهذه الوساوس؛ حتى يحزنه، وحتى يقلقه، فهو لا يأتي إلا لمن كان قوي الإيمان، أما من كان ضعيف الإيمان؛ لا يأتي إليه الشيطان؛ ولهذا لما علم بذلك اليهود؛ قالوا لابن عباسٍ: إنا لا نجد هذه الوساوس، فنحن خيرٌ منكم، قال ابن عباسٍ لهم: وماذا يفعل الشيطان بالبيت الخرب؟ فهذه الوساوس التي يجدها الإنسان ويدافعها، هذا دليلٌ على قوة إيمانه؛ ولذلك نقول: إذا وجدتَ هذه الوساوس؛ هذه لا تضرك، وأرشد النبي عند هذه الوساوس إلى أمور:

  • الأمر الأول قال: فلينته [35]، يعني: أعرض عنها، لا تفكر فيها، فكر في شيءٍ آخر.
  • الأمر الثاني: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ ‌مِنۡ ‌هَمَزَٰتِ ٱلشَّيَٰطِينِ ۝ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحۡضُرُونِ [المؤمنون:97-98].

جاء في بعض الروايات قراءة سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وأيضًا قول: آمنت بالله ورسله [36]، وإذا استحضرت أن هذه الوساوس لا تضرك؛ يزول عنك القلق، فهذه قد وجدها بعض الصحابة ، وجدوا هذا والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ذاك صريح الإيمان، فلا تقلق، هذا دليلٌ على قوة إيمانك وعلى استقامتك، وعلى أن الشيطان لم يجد شيئًا إلا هذه الوساوس لكي يقلقك، ولكي يكدر عليك، فلا تلتفت لوساوس الشيطان، إنما إذا أتتك هذه الوساوس؛ استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وانته، وأعرض عنها، ولا تفكر فيها، وفكر في أمرٍ آخر، ولا تضرك.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 3504، والترمذي: 1234، والنسائي: 4611، وقال الترمذي: حسن صحيح.
^2 رواه البخاري: 2240.
^3 رواه ابن ماجه: 2430.
^4 رواه البيهقي في السنن الكبرى: 10952، وشعب الإيمان: 3282.
^5 رواه الترمذي: 1957، وأحمد: 18616.
^6 رواه ابن ماجه: 2431، والطبراني في المعجم الأوسط: 6719، والبيهقي في شعب الإيمان: 3288.
^7 رواه البخاري: 2442، ومسلم: 2580.
^8 رواه مسلم: 1563.
^9 رواه مسلم: 1886.
^10 رواه البخاري: 2893، بلفظ: وضلع الدين وغلبة الرجال، وأصل الحديث في مسلم: 1365، دون هذا الدعاء، ورواه أبو داود: 1555، بلفظ: غلبة الدين وقهر الرجال.
^11 رواه الترمذي: 3484، وقال حسن غريب.
^12 رواه البخاري: 5030، ومسلم: 1425.
^13 رواه البخاري: 2295.
^14 رواه البخاري: 1742، ومسلم: 66.
^15 رواه البخاري: 2387.
^16 رواه أبو داود: 3594، والترمذي: 1352.
^17 رواه ابن ماجه: 2341.
^18 رواه الترمذي: 1359، وقال: حسن صحيح.
^19 رواه مسلم: 1600.
^20 رواه أبو داود: 3354، والنسائي: 4582.
^21 رواه أبو داود: 3504، والترمذي: 1234، والنسائي: 4629، وابن ماجه: 2188، وقال الترمذي: حسن صحيح.
^22 رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده: 437.
^23 سبق تخريجه.
^24 رواه البخاري: 3814.
^25 رواه البخاري: 3642.
^26 رواه البخاري: 608، ومسلم: 389.
^27 رواه مسلم: 780، بنحوه.
^28 رواه ابن حبان: 780.
^29 رواه البخاري: 6323.
^30 رواه أبو داود: 888، والنسائي: 1135.
^31 رواه البخاري: 794، ومسلم: 484.
^32 رواه البخاري: 6405، ومسلم: 597.
^33 رواه الترمذي: 1062.
^34 رواه مسلم: 132.
^35 رواه البخاري: 3276، ومسلم: 134.
^36 رواه أبو داود: 4721-4722.
zh