logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(51) باب بيع الأصول والثمار- من قوله: “ولا يصح بيع الثمرة قبل بُدُو ..”

(51) باب بيع الأصول والثمار- من قوله: “ولا يصح بيع الثمرة قبل بُدُو ..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

النبي يقول: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1]، إذا وجدتَ من نفسك حرصًا على التَّفقه في الدين، وحرصًا على طلب العلم، ومحبةً لذلك؛ فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير، ومفهوم هذا الحديث: أن مَن لم يُرَد به الخير لا يُوفَّق للفقه في الدين.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

حيَّاكم الله جميعًا في هذا الدرس العلمي، وهو الدرس السابع عشر من هذا العام الهجري في يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر جمادى الآخرة من عام 1443 للهجرة.

بيع الثمرة قبل بُدُو صلاحها

ننتقل لـ”السلسبيل”، وكنا قد وصلنا إلى بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها.

قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ:

ولا يصح بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها لغير مالك الأصل، ولا بيع الزرع قبل اشتداد حبِّه لغير مالك الأرض.

وذلك لحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها [2].

وفي الحديث الآخر: حتى يبدو صلاحه، وتذهب عنه الآفة [3]، أو العاهة [4].

وبُدُو صلاحه يختلف باختلاف الثمار، فبالنسبة للنَّخيل يكون بأن تَحْمَرَّ أو تَصْفَرَّ، والعنب بأن يشتدَّ، وبقية الثمار، بعض أنواع العنب يسود، وبعضها تذهب حموضته ويحلو، والثمار أن تطيب للأكل، وهكذا.

الحكمة من النهي عن بيع الثمار قبل بُدُو صلاحها

طيب، لماذا نهى الشارع عن بيع الثمار قبل بُدُو صلاحها؟

جاءت الإشارة لذلك في الحديث السابق: حتى تذهب الآفة، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله نهى عن بيع النَّخل حتى يَزْهُو، وعن السُّنْبُل حتى يَبْيَضَّ ويَأْمَن العاهة [5]؛ وذلك لأنه قبل بُدُو الصلاح يكثر احتمال حدوث العاهة والآفة له، أما بعد بُدُو الصلاح فيقلّ احتمال إصابة العاهة له.

فجعل مناط الحكم على الغالب، وإلا فقبل بُدُو الصلاح قد لا تُصيبه العاهة، وقد تُصيبه العاهة بعد بُدُو الصلاح، لكن جعل الحكم على الأغلب، وهذا يدل على أن الأغلب أو الأكثر له اعتباره في الشرع، فتُبنى عليه أحكامٌ شرعيةٌ، بل حتى يُبنى عليه مصير الإنسان يوم القيامة، فإن حسناته تُجمع في كفةٍ، وسيئاته في كفةٍ، فإن كانت الحسنات هي الأغلب، هي الأكثر ولو بحسنةٍ واحدةٍ، كان مصيره للجنة، وإن كانت السيئات هي الأغلب -يعني: أكثر- ولو بسيئةٍ واحدةٍ، كان مصيره إلى النار إلا أن يعفو الله عنه، وهذا يدل على اعتبار الأغلب، وأن للأكثر حكم الكل.

حالاتٌ يجوز فيها بيع الثمرة قبل بُدُو صلاحها

قال:

ولا يصح بيع الثمرة قبل بُدُو صلاحها لغير مالك الأصل.

يعني: هناك حالاتٌ يجوز فيها بيع الثمرة قبل بُدُو صلاحها:

  • الحالة الأولى: أن تُباع لمالك الأصل فيصحّ.
    فلو أراد أن يبيع ثمر النخل بُسْرًا لمالك الأصل، لمالك النخل، فهو استأجر نخلًا، وأراد أن يبيع ..
    يعني: المثال مذكورٌ هنا، رجلٌ عنده مزرعةٌ، فباعها وفيها نخلٌ، وهذا النخل فيه ثمرٌ لم يَبْدُ صلاحه، أو أشجار فيها ثمار لم يَبْدُ صلاحها، فيجوز أن يبيع المزرعة بما فيها، ولا يُقال: إنه لا يجوز هذا البيع؛ لأن الثمر لم يَبْدُ صلاحه؛ وذلك لأن بيع الثمرة يحصل تبعًا.
    إنسانٌ استأجر نخلًا في مزرعةٍ، ثم أراد أن يبيع هذا النخل، والمزرعة للمالك، فيصح البيع.
    إذن بيع الثمرة قبل بُدُو صلاحها لمالك الأصل يصح.
  • الصورة الثانية أو الحالة الثانية: إذا باع الثمرة قبل بُدُو صلاحها بشرط القطع في الحال فيجوز، إذا كان يمكن الانتفاع بذلك، وقد حُكي الإجماع على هذا.
    وهذا يحصل، كما لو أن صاحب المزرعة رأى أن ثمرة البستان لو باعها تكون زهيدةً، وأراد أن يبيع البُسْر الذي في النخل لمَن يشتريه عَلَفًا لدوابه، فاشتراها بشرط القطع في الحال؛ جاز ذلك.
  • كذلك هناك الحالة الثالثة: أن يبيعها مع الأصل.

فعندنا ثلاث حالاتٍ:

  • أن يبيعها لمالك الأصل.
  • وأن يبيعها بشرط القطع في الحال.
  • وأن يبيعها مع الأصل.

فهذه تجوز، ولكن بيعها لمالك الأصل يعني: استأجر رجلٌ بستانًا من آخر، فباع المُستأجر ثمر البستان قبل بُدُو صلاحه على المُؤجر الذي هو المالك، على كلام المؤلف أنه يصح.

والقول الثاني: أنه لا يصح؛ لعموم الأدلة، ولأن العِلة التي نهى النبي عن بيع الثمر فيه قبل بُدُو صلاحه مُتحققةٌ في هذه الصورة.

وهذا القول هو الأقرب -والله أعلم-: أنه لا يجوز بيعها لمالك الأصل حتى يبدو صلاحها.

فعندنا ثلاث صورٍ:

  • بيع الثمرة قبل بُدُو صلاحها مع الأصل -مع الأرض- جائزةٌ.
  • بيع الثمرة قبل بُدُو صلاحها بشرط القطع في الحال جائزةٌ.
  • بيع الثمرة قبل بُدُو صلاحها لمالك الأصل، المذهب: الجواز، والأقرب عدم الجواز.

قال:

وصلاح بعض ثمرة شجرةٍ صلاحٌ لجميع نوعها الذي بالبستان.

إذا ظهر صلاح ثمر بعض الشجرة أو بعض النخل، فذلك يُعتبر صلاحًا لجميع ذلك النوع؛ لأنه مُتقاربٌ، فيُباح بيع الجميع.

فلو كانت عنده -مثلًا- أشجار برتقالٍ، فَبَدَا الصلاح في ثمرة شجرةٍ -برتقالة واحدة- يجوز أن يبيع ثمرة تلك الأشجار كلها؛ وذلك لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشقُّ ويُؤدي للاشتراك واختلاف الأيدي على الثمرة، وقياسًا على الشجرة الواحدة، كما أن بُدُو صلاح بعض ثمرة الشجرة يُعتبر صلاحًا لها بالإجماع، فكذلك أيضًا صلاح ثمرة شجرةٍ واحدةٍ يُعتبر صلاحًا لثمار ذلك النوع الذي في البستان.

كيفية بُدُو الصلاح

أُشير إليه من قبل، لكن أُعيده هنا للتأكيد.

المرجع في ذلك للعُرف عند المُزارعين.

علامة بُدُو الصلاح المرجع في ذلك للعُرْف، ومن ذلك مثلًا: البلح أن يَحْمَرَّ أو يَصْفَرَّ، الذي هو ثمر النخل، يعني: يبدأ في التلوين.

العنب: أن يَسْوَدَّ أو يَتَمَوَّه حلوًا بأن تذهب حموضته، وبعض العنب -يعني- يسود، وبعضه لا يسود، يعني: العنب الأسود نقول: أن يسودَّ، لكن هناك عنبٌ غير أسود، فعلامة بُدُو الصلاح فيه أن يَتَمَوَّه حلوًا.

بقية الفواكه قال:

وبقية الفواكه: طِيب أكلها، وظهور نُضْجها.

مثل: البرتقال والتفاح والخوخ، ونحو ذلك، فعلامة صلاحها: أن تطيب للأكل.

وما يظهر فمًا بعد فمٍ: كالقِثَّاء والباذنجان والخيار: أن يُؤكل عادةً.

يعني: ما يُلتقط مرارًا، فعلامة بُدُو الصلاح: أن يُستطاب للأكل، ويُؤكل عادةً.

الحَبُّ علامة بُدُو الصلاح فيه: أن يشتدَّ، فإذا اشتدَّ بحيث إذا غُمِزَ أصبح قد اشتدَّ جاز بيعه.

هنا فائدةٌ ذُكرتْ في “السلسبيل” في قول النبي عليه الصلاة والسلام: إذا طلع النجم ذا صباحٍ رُفِعَت العاهة [6]، والمقصود بالنجم هنا: الثُّريا، وطلوعها يكون في أول فصل الصيف عند اشتداد الحرِّ، لكن هذا في المدينة؛ في مدينة النبي عليه الصلاة والسلام في ابتداء نُضْج الثِّمار.

ولهذا لما سُئل ابن عمر رضي الله عنهما عن بيع الثمار قال: “نهى رسول الله عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة”، قلتُ: ومتى ذاك؟ قال: “حتى تطلع الثُّريا” [7]، لكن طلوع الثُّريا في غير المدينة يتأخر أو يختلف عن طلوع الثُّريا في المدينة.

ولذلك ما جاء في بعض الأحاديث من تأقيته بطلوع الثُّريا يُحمل على مدينة النبي ، حيث كان طلوع الثُّريا هو موعد نُضْج الثمار، لكن لا يرتبط ذلك في جميع بلدان العالم، وإنما الضابط في ذلك: أنه متى بَدَا الصلاح في الثمر أو اشتدَّ الحَبُّ جاز بيعه.

وضع الجوائح

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن مسألة: وضع الجوائح.

قال:

وما تلف من الثمرة قبل أخذها فمن ضمان البائع ما لم تُبَع مع أصلها، أو يُؤخِّر المُشتري أخذها عن عادته.

معنى الجوائح

ما معنى الجوائح؟

الجوائح جمع جائحةٍ، وهي ما لا صُنع للآدمي فيها، مثل: أن تنزل أمطارٌ غزيرةٌ تُتلف الثمرة، أو بردٌ يُتلف الثمرة، أو غبارٌ يُتلف الثمرة، أو جرادٌ يأكل الثمرة، ونحو ذلك، هذه تُسمى: جوائح.

حكم وضع الجوائح

طيب، ما حكم وضع الجوائح؟

يجب وضع الجوائح، وقد أمر النبي بوضع الجوائح، وقال: لو بِعْتَ من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحةٌ، فلا يحلّ لك أن تأخذ منه شيئًا، بِمَ تأخذ مال أخيك بغير حقٍّ؟ [8]، وعلى هذا فالذي يتحمل الخسارة هو البائع، وليس المشتري.

مثال ذلك: رجلٌ عنده نخيلٌ، باع ثمرتها بعد بُدُو صلاحها على زيدٍ من الناس، ثم إنه بعد البيع بأسبوعٍ نزلتْ أمطارٌ غزيرةٌ مصحوبةٌ ببردٍ، فتلفتْ ثمرة النَّخيل، فهنا يرجع المشتري على البائع، ويقول: أعطني الثمن.

طيب، البائع قد باعه الثمرة، نقول: نعم، لكن أصابت النَّخيل جائحةٌ سماويةٌ، فالذي يتحمل الخسارة هنا هو البائع، وليس المشتري.

وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
والجمهور يقولون: الذي يتحمل الخسارة هو المشتري؛ لأن مُقتضى البيع أن ثمرة النَّخيل انتقلتْ ملكيتها من البائع للمشتري.
والصواب هو ما عليه الحنابلة من أن الذي يتحمل الخسارة هو البائع، وليس المشتري؛ وذلك لأن النبي :

أولًا: أمر بوضع الجوائح، والأمر يقتضي الوجوب.

ثانيًا: قال: بِمَ تَسْتَحلّ مال أخيك؟ [9]، ولو كان وضع الجوائح مُستحبًّا لما قال: بِمَ تَسْتَحِلّ ..؟ وفي الرواية الأخرى: لا يحلُّ لك أن تأخذ منه شيئًا [10]، هذه كلها ظاهرةٌ في وجوب وضع الجوائح.

ثم أيضًا من جهة النظر: تخلية الثمرة لا يُعتبر قبضًا تامًّا، فيجب على البائع ردّ الثمن إلى المشتري؛ لأن المشتري لم يقبض الثمرة قبضًا تامًّا، فكان تلفها من ضمان البائع.

لكن المؤلف استثنى من هذا مسألتين:

المسألة الأولى: قال: “ما لم تُبَع مع أصلها”، فإذا بِيعَت الثمرة مع أصلها، وأصابتها الآفة، فمن ضمان المشتري.

والحالة الثانية: “أو يُؤخِّر المُشتري أخذها عن عادته”، فالمُشتري قَصَّر في جَذِّها، البائع يقول: يا فلان، جُذَّ الثمرة، يا فلان، جُذَّ الثمرة، كل يومٍ، غدًا، غدًا، إلى أن نزل مطرٌ غزيرٌ مصحوبٌ ببردٍ، فتلفت الثمرة، فهنا الذي يتحمل الخسارة هو المشتري؛ لأن المشتري قد قَصَّر في أخذها.

إذن نقول: الراجح هو وجوب وضع الجوائح، وعند حصول جائحةٍ سماويةٍ -كمطرٍ غزيرٍ مصحوبٍ ببردٍ أتلف الثمرة- الذي يتحمل الخسارة هو البائع، وليس المشتري، ويُستثنى من ذلك مسألتان:

المسألة الأولى: أن يكون البيع مع الأصل، أن يكون بيع الثمرة مع الأصل، فيتحمل الخسارة المشتري.

والمسألة الثانية: أن يكون هناك تفريطٌ من المشتري في الجِذَاذ، فَيُؤخِّر جَذَّها تأخيرًا عن العادة -عن عادة الناس في جَذِّ الثمرة- فتكون الخسارة على المشتري في هذه الصورة.

هناك تفاصيل: إذا كان التَّلف في بعض الثمرة، هل المشتري يرجع على البائع فيما يُقابل الشيء المُتلف من المُثمن، ويُقدره أهل الخبرة؟

يعني: التَّلف -مثلًا- نصف الثمرة يرجع عليه بنصف الثمن، وهكذا.

أما إذا كان التَّلف يسيرًا، لا ينضبط، فيفوت على المشتري، ولا يضمنه البائع.

طيب، إذا كانت الجائحة ليست جائحةً سماويةً، وإنما بفعل آدميٍّ: كحريقٍ، أو رَشّ مُبيدات كيماوية، ونحو ذلك، فهذه يكون الضمان فيها على المشتري، ولا يكون على البائع.

نعم، فهذه يكون الضمان فيها على المُتْلِف، ولا يكون الضمان على البائع بالنسبة للمشتري، فيكون الضمان على هذا الذي تسبب في الحريق، أو يكون الضمان على هذا الذي قام بِرَشِّ مُبيدات كيماوية.

فيُقال للمشتري: أنت بالخيار بين فسخ البيع ومُطالبة البائع بما دفعه إليه من الثمن، والبائع يرجع على المُتْلِف، أو إمضاء البيع والرجوع على المُتْلِف مباشرةً.

إذن المشتري يرجع على المُتْلِف مباشرةً، أو أن المشتري يرجع على البائع، والبائع يرجع على المُتْلِف، فالمشتري إذن مُخَيَّرٌ.

أحيانًا يكون المُتْلِف -مثلًا- صعب الوصول له، وقد يكون جهةً -مثلًا- إجراءاتها صعبة، فالمشتري يقول للبائع: أنا أريد فسخ العقد، فيرجع على البائع، والبائع هو الذي يرجع على المُتْلِف، ولو أن المشتري قال: أنا أرجع على المُتْلِف مباشرةً، فلا بأس.

طيب، إذا كانت الجائحة بفعل آدميٍّ، لكن لم يُعرف المُتْلِف.

الجمهور أصلًا على أن الخسارة يتحملها المشتري مطلقًا، حتى لو كانت بآفةٍ سماويةٍ.

أما على قول الحنابلة: فالأصل أن البائع يتحمل الخسارة إذا كانت الجائحة بفعل آفةٍ سماويةٍ، أو بفعل آدميٍّ معلومٍ.

أما إذا كانت الجائحة بفعل آدميٍّ مجهولٍ، فهذه تُقاس على الآفة السماوية؛ باعتبار أن الآفة السماوية ما لا صُنع للآدمي فيها، وإذا كانت بفعل آدميٍّ مجهولٍ فهي شبيهةٌ بها، فتأخذ حكمها، فيكون الضمان على البائع، أو أن المشتري هو الذي يتحمل الخسارة، ولا يتحملها البائع.

يعني: المسألة مُحتملةٌ مع جهالة المُتْلِف، هل تُلحق بالآفة السماوية، أو تُلحق بما للآدمي صُنْعٌ فيه؟

يعني: هذه مسألةٌ مُحتملةٌ، وأنا مُتوقفٌ فيها، لم يتحرر فيها رأيٌ.

باب السَّلَم

ننتقل بعد ذلك إلى:

باب: السَّلم.

والسَّلم: هو نوعٌ من البيع، لكنه بيعٌ معدومٌ وموصوفٌ في الذمة، كما سنُوضح في صورته.

وبعضهم يُسميه: بيع المحاويج؛ لأنه لا يلجأ إليه إلا الفقراء والمساكين.

إذن السَّلم هو نوعٌ من أنواع البيع.

تعريف السَّلم

طيب، السَّلم معناه في اللغة: من التَّسليم والإسلام، ويُقال: السَّلف، سَلَم وسَلَف.

وقال بعض العلماء: إن السَّلف بالفاء لغةٌ عراقيةٌ، والسَّلم بالميم لغةٌ حجازيةٌ. لكن هذا غير صحيحٍ؛ لأن النبي وهو يتكلم بلغة الحجازيين قال: مَن أَسْلَفَ بالفاء في شيءٍ، فَلْيُسْلِفْ في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ [11]، وعلى هذا فالأقرب أن السَّلم والسَّلف بمعنًى واحدٍ، وأنهما جميعًا بلغة أهل الحجاز.

وسُمي: سَلَمًا؛ لتسليم رأس المال في مجلس العقد، وسَلَفًا؛ لتقديم رأس المال الذي هو الثمن.

والسلف بالفاء يُطلق على السَّلم، ويُطلق أيضًا على القرض، وما زال العامة إلى الآن إذا أراد أحدٌ أن يقترض من آخر يقول: سلفني، أو يقول: عندك سلف، فالسلف يُطلق على القرض، ويُطلق على السَّلم.

وفي حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي قال: لا يحلّ سلفٌ وبيعٌ [12].

ما المقصود بالسلف؟ هل المقصود به السَّلم، أو المقصود به القرض؟

الجواب: المقصود به القرض.

إذن سلف -بالسين واللام والفاء- تُطلق على معنيين: على السلم، وعلى القرض.

السَّلم اصطلاحًا يُعرفه الفقهاء بأنه: عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مُؤجَّلٍ بثمنٍ مقبوضٍ في مجلس العقد.

“عقدٌ على موصوفٍ” يعني: يكون على غير معينٍ، “موصوف” غير معينٍ، “في الذمة” احترازًا من الموصوف المعين، “مُؤجَّل” احترازًا من السَّلم حالًّا، “بثمنٍ مقبوضٍ في مجلس العقد” يعني: لا بد أن يكون رأس المال في مجلس العقد، حتى لا يكون من قبيل بيع الدَّين بالدَّين؛ لأنه لو تأجل المُسْلَف فيه ورأس المال أصبح بيع دَينٍ بدَينٍ.

طيب، نريد أن نُوضح فكرة السَّلم بمثالٍ بسيطٍ: أتى إليك رجلٌ -مثلًا- في شهر محرم، وأعطاك عشرة آلاف ريال، قال: على أن تُسلمني -مثلًا- مئة كيلو تمر من النوع كذا، تُسلمها لي في 1 شوال من هذا العام.

فهذا يُسمى: سَلَمًا، نقد لك الآن عشرة آلاف، قال: على أن تُسلمها لي في شهر كذا.

طيب، ماذا يستفيد؟

يستفيد الذي يفعل ذلك الرُّخْص؛ لأنه غالبًا يشتري هذا بثمنٍ أقلّ من الثمن الذي يكون في وقته، فهذا الذي يفعل ذلك يستفيد الرُّخْص.

الطرف الثاني ماذا يستفيد؟

يستفيد السيولة، يُعطيه عشرة آلاف ريال يستفيد منها.

فهذا يستفيد السيولة، وهذا يستفيد الرُّخْص؛ ففيه مصلحةٌ كبيرةٌ؛ ولهذا هو جائزٌ في الكتاب والسنة والإجماع.

وابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “أشهد أن السَّلف” يعني: السَّلم “المضمون إلى أجلٍ قد أحلَّه الله تعالى في كتابه”، وقرأ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282].

وجاء أيضًا في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: قدم النبي إلى المدينة، فوجد أهلها يُسْلِفُون في الثِّمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: مَن أسلف في شيءٍ، فَلْيُسْلِفْ في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ.

ونقل الإجماع غير واحدٍ من أهل العلم، وقد كان شائعًا في المدينة، وأقرهم النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك.

طيب، السَّلم أليس فيه غَرَرٌ؟

فيه غَرَرٌ، كونه يُعطيه عشرة آلاف ريالٍ -مثلًا- على أن يأتي له بتمرٍ في شهر كذا، قد يجد، وقد لا يجد، قد يجد التمر، وقد لا يجده، وقد يكون في وقتٍ تأتي له ظروفٌ ما يستطيع توفير التمر، يعني: فيه غَرَرٌ، وفيه جهالةٌ، لكنها جهالةٌ وغَرَرٌ ليس كبيرًا.

ثم أيضًا الحاجة إليه قائمةٌ، وليس كل غَرَرٍ ممنوعًا شرعًا، فبعض أنواع الغَرَر يُغتفر فيها للحاجة، مثل: الغرر الذي في السَّلم، والغرر الذي في الجَعَالَة.

وأيضًا إذا دعت الحاجة إلى ذلك العقد، فهذا مُؤثرٌ أيضًا في حِلِّه، إنما الغَرَر الممنوع: الغرر الكثير، والذي يكون مظنة حصول النزاع بين الناس.

قال:

ينعقد بكل ما يدل عليه، وبلفظ البيع.

“بكل ما يدل عليه” كأن يقول: أسلمتُ لك في كذا، أسلفتُ إليك في كذا، وأيضًا بألفاظ البيع، وبكل ما دلَّ عليه.

شروط السَّلم

وشروطه سبعةٌ:

أحدها: انضباط صفات المُسْلَم فيه: كالمكيل والموزون والمَذْرُوع والمعدود من الحيوان، ولو آدميًّا.

أحدها: انضباط صفات المُسْلَم فيه

يعني: أن يكون المُسْلَم فيه مما يمكن انضباطه بالصفة، أما ما لا يمكن انضباطه بالصفة لا يصح السَّلم فيه.

وهنا في “السلسبيل” نقل عن المُوفق، ونريد أن نُناقشه، قال: “ولا يصح السَّلم فيما لا ينضبط بالصفة: كالجوهر من اللؤلؤ والياقوت ونحو ذلك؛ وذلك لأن ما لا يمكن ضبط صفاته مظنةٌ لحصول المُنازعة بين الطرفين”.

طبعًا المُوفق ابن قُدامة يتكلم عما هو موجودٌ في زمنه، فقد كان الناس يستخرجون الجوهر من اللؤلؤ والياقوت من البحر، ثم مباشرةً يبيعونه، والآن أصبح عن طريق المصانع، فيمكن ضبط صفاته؛ ولهذا ما ذكره ابن قُدامة من الأمثلة لا تنطبق على زماننا، فيصح، يعني: هذه الأمثلة التي ذكرها يمكن انضباط صفاتها في وقتنا الحاضر؛ ولذلك سنذكر بعد قليلٍ كذلك الأواني وغيرها.

قال: “والموزون والمَذْرُوع” الموزون ما يمكن ضبط صفاته بالوزن، والمَذْرُوع بالذرع أو بالمقاييس المعاصرة: كالأمتار.

“والمعدود من الحيوان” يعني: يمكن ضبط صفاته بالعدِّ.

“ولو آدميًّا” يعني: يقصد العبيد والإماء، أما ما لا يمكن ضبط صفاته لا يصح السَّلم فيه.

في وقتنا الحاضر مع تقدم الصناعة معظم الأشياء يمكن ضبط صفاتها، وكثيرٌ من الأمثلة التي ذكرها فقهاؤنا السابقون ومنعوا السَّلم فيها؛ لكونها مما لا يمكن ضبط صفاته، أصبحت الآن مما يمكن انضباط صفاتها.

ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون نبيهًا، فلا يأخذ هذه الأمثلة ويُطبقها على واقعنا، فالفقهاء السابقون يتكلمون عن واقعهم، فَخُذْ أنت الضابط، المهم هو الضابط، بِغَضِّ النظر الآن عن الأمثلة التي ذكرها المؤلف.

طيب؛ لماذا ما لا يمكن ضبط صفاته لا يصح السَّلم فيه؟

لأنه مظنةٌ للمُنازعة بين الطرفين، والشريعة تمنع كل ما أدَّى للمُنازعة، أو ما كان مظنةً للمُنازعة؛ لأن المُنازعة تُؤدي إلى الشَّحناء، والشريعة تمنع من كل ما أدَّى إلى الشَّحناء بين المسلمين، وتحثّ على كل ما أدَّى إلى تقوية المحبة والمودة بين المسلمين.

حكم السَّلم في الحيوان

طيب، السَّلم في الحيوان اختلف الفقهاء فيه على قولين:

القول الأول: يصح السَّلم في الحيوان، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو قول الجمهور.

والقول الثاني: أنه لا يصح، وهو قول الحنفية.

الجمهور استدلوا بقصة أبي رافعٍ: أن رسول الله استَسْلَفَ من رجلٍ بَكْرًا، فقدمتْ عليه إبلٌ من إبل الصدقة، فأمر أبا رافعٍ أن يقضي الرجل بَكْرَه، فرجع إليه أبو رافعٍ فقال: لم أجد فيها إلا خِيَارًا رباعيًّا. فقال: أَعْطِهِ إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاءً [13].

كذلك أيضًا في تجهيز النبي للجيش كما في قصة عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، ونفدت الإبل، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة [14].

وقالوا: القول بجواز السَّلم في الحيوان هو المأثور عن الصحابة.

الحنفية قالوا: لا يصح السَّلم في الحيوان.

واستدلوا بحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي نهى عن السَّلف في الحيوان [15]، لكنه حديثٌ ضعيفٌ.

وقالوا: إن الحيوان لا يمكن ضبط صفاته بدقةٍ.

والراجح هو قول الجمهور.

وأما ما استدلَّ به الحنفية من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما فهو ضعيفٌ.

وأما قولهم: إن الحيوان لا يمكن ضبط صفاته بدقةٍ.

فنقول: المُعتبر ضبطها في الجملة، وليس بدقةٍ، هذا هو المُعتبر، وهذا مُتحققٌ في الحيوان.

وعلى هذا فالقول الراجح: أنه يصح السَّلم في الحيوان، فيصح -مثلًا- أن تُعطي فلانًا عشرة آلاف ريالٍ على أن يأتي لك في الوقت الفلاني بناقةٍ صفاتها كذا وكذا وكذا، يعني: تكون صفاتها مُقاربةً، وليس أن تكون مئةً بالمئة، وإنما تكون مُقاربةً.

أو مثلًا: يمكن أن يُستفاد من مسألة السَّلم في الحيوان، فيأتي رجلٌ إلى آخر ويقول: أنا أحتاج إلى أَضَاحٍ وقت عيد الأضحى، أحتاج -مثلًا- إلى خمسٍ من الغنم، فَخُذْ هذه عشرة آلاف ريالٍ على أن تُوفر لي في عيد الأضحى خمس أضاحٍ. ويذكر صفاتها من جهة السنِّ، وجميع الأوصاف التي يختلف بها الثمن، فيتَّفقان على ذلك، فهذا يُعتبر سَلَمًا في الحيوان، ولا بأس به.

حكم السَّلم في الفواكه

قال:

فلا يصح في المعدود من الفواكه.

يعني: لا يصح السَّلم في المعدود من الفواكه: كالبرتقال والتفاح ونحو ذلك، قالوا: لأنها تختلف بالصغر والكبر ونحو هذا.

وقال بعض العلماء: إنه يصح -وهو قول الجمهور والله أعلم-؛ لأن المقصود المُقاربة، وليس الدقة، وكثيرٌ من الفواكه مما يمكن ضبطه في الجملة.

وهذا هو الراجح: أنه يصح السَّلم في الفواكه.

إذا جاز السَّلم في الحيوان ففي الفواكه من باب أولى؛ لأنها أقرب إلى الانضباط من الحيوان.

ولا فيما لا ينضبط: كالبقول والجلود والرؤوس والأكارع والبيض.

البقول جمع بَقْلٍ، وهو الذي ليس له ساقٌ من الزرع: كالبصل.

والجلود والرؤوس والأكارع، يقولون: هذه أيضًا تختلف كثيرًا، فلا يمكن ضبط صفاتها، لكن البيض إذا كانت البيضة لحيوانٍ واحدٍ فهو مُتقاربٌ: كبيض الدجاج، فيصح السَّلم فيه على الراجح.

أما قوله:

والأواني المختلفة رؤوسًا وأوساطًا: كالقماقم ونحوها.

القماقم جمع قمقم، وهو نوعٌ من الأواني يُسخن فيه الماء.

وهنا المثال الذي ذكره المؤلف إنما ينطبق على ما هو موجودٌ في زمنه، لما كانت هذه الأواني تُصنع يدويًّا، فلا يمكن ضبط صفاتها: الأواني المختلفة رؤوسًا وأوساطًا.

أما في وقتنا الحاضر فقد أصبحتْ تُصنع آليًّا عن طريق المصانع، وعلى هذا فلا يصح هذا المثال في وقتنا الحاضر.

فنقول: إن السَّلم يصح في الأواني في وقتنا الحاضر مطلقًا بجميع أنواعها ما دامتْ تُصنع آليًّا؛ لأنها مما يمكن ضبط صفاته بالرقم والشركة واللون وكذا، فيمكن ضبط صفاتها بدقةٍ عاليةٍ.

وعلى هذا فينبغي أن يكون طالب العلم مُتَنَبِّهًا لهذه المسائل؛ لأن بعض الأمثلة التي ذكرها الفقهاء السابقون صحيحةٌ في زمنهم، لكنها لا تصح في زماننا هذا.

حكم السَّلم في السيارات

طيب، نريد إذن أمثلةً من واقعنا المعاصر: السيارات يصح السَّلم فيها؟

الجواب: نعم؛ لأنها مما يمكن ضبط صفاتها، تقول -مثلًا-: خُذْ هذا المبلغ على أن تُحضر لي سيارةً، تُحضر لي -مثلًا- بعد شهرٍ أو شهرين أو ستة أشهرٍ سيارةً صفاتها كذا وكذا وكذا وكذا. هذا يُعتبر سَلَمًا، فلا بأس بذلك إلا إذا كانت السيارة مما تُستصنع، يعني: السيارة سوف يُؤتى بها من المصنع، ما صُنعتْ بعد، فهذا يُسمى: عقد استصناع.

الشرط الثاني: ذِكْر جنسه ونوعه في الصفات التي يختلف بها الثمن

قال:

ذِكْر جنسه ونوعه في الصفات التي يختلف بها الثمن.

والجنس -كما مرَّ معنا في درس سابق– ما له أنواع متعددة، مثل: التمر، فالتمر له أنواع: الصفري، الخضري، الخلاص، السّكري، فيُذكر الجنس، ويُذكر أيضًا النوع، يعني: تمرًا سُكريًّا -مثلًا- تمر خلاصٍ، فالتمر جنسٌ، والسّكري نوعٌ.

في الصفات التي يختلف بها الثمن.

لا بد أن تُذكر الصفات المُؤثرة، مثل: الحداثة والقدم، والجودة والرداءة، وكذلك أيضًا بلد الصناعة.

ويجوز أن يأخذ دون ما وُصِفَ له.

يعني: لو أن المُستحقَّ للسَّلم تنازل، وأخذ أقلّ مما وُصِفَ له، فلا بأس؛ لأنه تنازل عن بعض حقِّه.

ومن غير نوعه من جنسه.

يجوز إذا كان السَّلم -مثلًا- في مئة كيلو تمر سُكري، فأتى البائع للمشتري بمئة كيلو تمر من نوعٍ آخر، فَرَضِيَ المشتري بذلك لا بأس، لكن إذا كان من جنسٍ آخر: كَبُرٍّ بشعيرٍ، أو -مثلًا- بُرٍّ بتمرٍ، فعلى المذهب لا يجوز؛ لحديث: مَن أسلف في شيءٍ فلا يصرفه إلى غيره [16].

والراجح أنه يجوز بشرط: التَّقابض قبل التَّفرق، وألا يربح بأن يبيع بسعر يومه أو أقلّ، وهذا هو القول الراجح، واختيار ابن تيمية رحمه الله.

أما حديث: مَن أسلف في شيءٍ فلا يصرفه إلى غيره فحديثٌ ضعيفٌ.

هذا رجلٌ أسلف في تمرٍ يُسلم له بعد ستة أشهرٍ، ثم أتى إليه ذلك الرجل وقال: أنا لا أريد تمرًا، أريد بدل التمر بُرًّا، أريد بقيمته الآن، أنا أعطيتك عشرة آلاف ريال على أن تُسلم لي تمرًا، أريد أن تُغير وتجعلها بُرًّا.

على كلام المؤلف لا يصح، وعلى الراجح يصح بشرط: التَّقابض قبل التَّفرق، وأن يكون ذلك بسعر يومه، يعني: لا يربح في ذلك، يكون البُرُّ بنفس سعر التمر أو أقلّ، لكن لا يتربح فيه، حتى لا يربح فيما لم يضمن، وقد نهى النبي عن ربح ما لم يضمن [17].

فعندما يأتي إليه يقول: هذا بُرٌّ، أريد أن أُعطيك بدله تمرًا. يُعطيه مباشرةً، ويكون بشرط: ألا يربح فيما لم يضمن، يبيعه بسعر يومه، يبيعه بدون أن يربح فيه، يعني: لا يأخذ زيادةً.

هل يجوز بيع المُسْلَم فيه قبل قبضه؟

الجمهور يرون أنه لا يجوز.

في مثالنا السابق: أسلف بمئة كيلو تمر، وأعطاه عشرة آلاف ريال، وقبل أن يحلَّ الموعد أراد المُسْلَم فيه المُستحق لمئة كيلو تمر، أراد أن يبيعها على شخصٍ آخر قبل أن يقبضها، فالجمهور يمنعون من ذلك؛ لحديث: مَن ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه [18].

والقول الثاني: أنه يصح بيع المُسْلَم فيه قبل قبضه، بشرط: التَّقابض قبل التَّفرق، وألا يربح فيه، لكن إذا باعه بنقدٍ اشتُرط شرطٌ واحدٌ وهو: ألا يربح فيه، وهذا هو الأقرب، والله أعلم.

الشرط الثالث: معرفة قدره بمعيارٍ شرعيٍّ

معرفة قدره بمعيارٍ شرعيٍّ.

كالكيل والوزن أو بالمقاييس المعاصرة في وقتنا الحاضر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: مَن أسلف في شيءٍ، فَلْيُسْلِفْ في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ [19]، أما إذا كان -مثلًا- بِمِلْءِ هذا الإناء عشر مرات، فهذا لا يصح؛ لأن هذا الإناء قد يضيع، قد يُفقد.

قال:

فلا يصح في مكيلٍ وزنًا، ولا موزونٍ كيلًا.

والقول الثاني: أنه يصح، وقد مرَّتْ معنا هذه المسألة في درس سابق، ورجحنا أن هذا لا بأس به.

الرابع: أن يكون في الذمة إلى أجلٍ معلومٍ له وقعٌ في العادة

الرابع: أن يكون في الذمة إلى أجلٍ معلومٍ له وقعٌ في العادة كشهرٍ.

يعني: لا بد أن يكون المُسْلَم فيه مُؤجلًا في ذمة البائع إلى أجلٍ معلومٍ، لكن قول المؤلف: “أن يكون في الذمة” بعض الشُّراح كصاحب “نيل المآرب” قال: ولم يذكر بعضهم قوله: “أن يكون في الذمة”، استغناءً عنه بذكر الأجل؛ لأن المُؤجل لا يكون إلا في الذمة، لكن الواقع أن كون المُسْلَم فيه في الذمة أحد شروط السَّلَم هو الصحيح؛ ولهذا جعله صاحب “الزاد” شرطًا مُستقلًّا، وجعل: “وأن يكون المُسْلَم فيه إلى أجلٍ له وقعٌ في الثمن” شرطًا آخر.

إذن في قول المؤلف هنا شرطان من شروط صحة السَّلم:

الأول: أن يكون موصوفًا في الذمة، فلا يصح أن يكون السَّلم في شيءٍ معينٍ: كهذه الشجرة -مثلًا- أو هذا البستان، فلو قال: أعطني عشرة آلاف ريالٍ على أن أُسلم لك مئة كيلو تمر سُكري من مزرعتي التي في بلد كذا. فهذا لا يصح؛ لماذا؟

لأن هذه المزرعة قد تتلف، قد لا تظهر الثمرة، وإنما يكون ذلك بشيءٍ موصوفٍ في الذمة، فتأتي لي بمئة كيلو تمر من أي مكانٍ: من مزرعتك، من مزرعة جارك، من السوق، يكون موصوفًا في الذمة، ولا يكون مُعينًا؛ ولهذا جاء في الحديث: أما من حائط بني فلان فلا [20]، وإن كان ضعيفًا إلا أن العمل عليه عند أهل العلم.

الثاني: أن يذكر أجلًا معلومًا له وقعٌ في الثمن.

يعني: لا يكون يومًا أو يومين، يكون -مثلًا- شهرًا أو أكثر.

واشترط هذا جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: إلى أجلٍ معلومٍ.

والشافعية ذهبوا إلى أنه لا يُشترط هذا الشرط، فيصح السَّلم عندهم حالًّا، قالوا: لأن الأصل هو الحِلُّ، والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]؛ ولأنه إذا جاز السَّلم مُؤجلًا، ففي الحالِّ أولى.

هناك قولٌ ثالثٌ في المسألة ذهب إليه ابن تيمية وجمعٌ من أهل العلم، وهو: أنه يصح السَّلم حالًّا إذا كان المُسْلَم فيه موجودًا في مِلْكِه وإلا فلا.

وهذا هو الأقرب، ففي مثالنا السابق قال المُشتري: هذه عشرة آلاف ريالٍ أسلمتُها لك على أن تُعطيني مئة كيلو تمر من نوع كذا الآن.

عند الجمهور يقولون: هذا لا يصح أن يكون سَلَمًا، هذا بيعٌ.

والشافعية يقولون: يصح أن يكون سَلَمًا.

والراجح أنه إذا أسلمه عشرة آلاف ريالٍ في مئة كيلو تمر الآن ننظر: هل البائع يملكها أو ما يملكها؟

إن كان لا يملكها لا يجوز؛ لأنه يكون قد باع ما لا يملك؛ ولذلك يُطرح هذا السؤال على الشافعية: كيف تُجيزون ذلك والبائع لا يملكه؟!

وأيضًا هذا بعينه هو الذي ورد في حديث حكيم بن حزام ، قال: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق ثم أبيعه، قال: لا تَبِعْ ما ليس عندك [21].

ولهذا قيَّده ابن تيمية: إذا كان المُسْلَم فيه موجودًا في ملكه، كأن تكون شركةً أو مؤسسةً لها فروعٌ، فلا يوجد في هذا الفرع، أو يوجد في فرعٍ آخر، هنا لا بأس.

الخامس: أن يكون المُسْلَم فيه مما يوجد غالبًا عند حلول الأجل

الخامس: أن يكون المُسْلَم فيه مما يوجد غالبًا عند حلول الأجل.

ويُمثلون لذلك يقولون: إذا أسلم في الرُّطَب فلا بد أن يكون في الصيف، ما يكون في الشتاء، والعنب يكون في الصيف أيضًا، لا يكون في الشتاء إلا أن يكون ذلك في الرُّطَب المُبرد في وقتنا الحاضر، فهنا لا بأس.

السادس: معرفة قدر رأس مال السَّلم وانضباطه

السادس: معرفة قدر رأس مال السَّلم وانضباطه، فلا تكفي مُشاهدته، ولا يصح بما لا ينضبط.

لا بد أن يكون قدر رأس مال السَّلم معلومًا ومُحددًا تحديدًا مُنضبطًا.

وهذا الشرط لم يعتبره بعض الفقهاء شرطًا في السَّلم كصاحب “الزاد”، ولكن اعتباره شرطًا له وجهٌ؛ لأن رأس مال السَّلم في الزمن السابق -يعني- ربما يكون دراهم أو دنانير، أما في وقتنا الحاضر فقد أصبح بالأوراق النَّقدية، فتحديد نوع النقود ومعرفة قدرها هذا أمرٌ مهمٌّ؛ وذلك لأنه لا يُؤْمَن فسخ السَّلم، فتجب معرفة قدر رأس المال، فالأقرب -والله أعلم- هو اعتبار هذا الشرط.

السابع: أن يقبضه قبل التَّفرق من مجلس العقد

السابع والأخير: أن يقبضه قبل التَّفرق من مجلس العقد.

وهذا من أهم شروط السَّلم، يعني: أن يقبض البائع أو نائبه رأس مال السَّلم من المشتري قبل التَّفرق في مجلس العقد.

قال -مثلًا-: هذه عشرة آلاف ريالٍ على أن تُسلمني مئة كيلو تمر سُكري في شهر شوال.

لا بد أن يُسلم عشرة آلاف ريالٍ الآن في مجلس العقد.

لماذا اشترط الفقهاء هذا الشرط؟

قالوا: حتى لا يكون من قبيل بيع الدَّين بالدَّين؛ لأنه إذا ما سلم له عشرة آلاف ريالٍ أصبح هذا دَيْنًا، والمُسْلَم فيه التمر دَينًا، فأصبحت المسألة بيع دَينٍ بِدَيْنٍ، وهذا لا يجوز بالإجماع.

وهذا الشرط هو الذي جعل بعض الناس لا يختار هذا العقد.

مثلًا: في عقود توريد السلع، المُورد: السلعة ليست عنده، فبعض الناس يعقد عقدًا مع المُورد، والمُورد لا يملك السلعة، فهذا لا يجوز.

طيب، ما الحل؟

هناك حلولٌ، ومن ضمن الحلول: أن يكون بصيغة السَّلم، فصاحب المحل ينقد للمُورد الثمن كاملًا، يقول: خُذْ هذه مئة ألفٍ على أن تُورد لي سلعًا بصفات كذا وكذا وكذا وكذا في وقت كذا.

هذا يُعتبر سَلَمًا، لكن كثيرًا من الناس لا يُحبذون هذه الصيغة؛ لأنه يجب أن ينقد رأس الثمن كاملًا في مجلس العقد، وهم لا يريدون هذا، يريد أن يُعطيه جزءًا من الثمن، وهذا لا يجوز بالنسبة للسَّلم، لكن المالكية أجازوا التَّأخير يومًا أو يومين أو ثلاثةً، يعني: لو قال: أُعطيك عشرة آلاف ريالٍ. قال: غدًا، أو بعد غدٍ، أو الذي بعده. عند المالكية يصح، يعني: قالوا: إن هذا مما يُتسامح فيه.

و(الأيوفي) هيئة المراجعة والمحاسبة لمؤسسة المال الإسلامية أخذتْ بهذا، وكذلك المجمع الفقهي، يعني قالوا: إن كثيرًا من الأشياء -خاصةً السَّلم عن طريق البنوك- قد لا يتهيأ أن تكون في نفس اللحظة، فيُغتفر في اليوم واليومين والثلاثة.

ولا يُشترط ذِكْر مكان الوفاء؛ لأنه يجب مكان العقد.

مكان الوفاء لا يُشترط ذكره؛ لأن الأصل أن الوفاء يكون في مكان العقد إلا إذا حُدد في مكانٍ آخر.

ما لم يُعقد ببريةٍ ونحوها فيُشترط.

يعني: إذا عُقد في مكانٍ ليس صالحًا للوفاء عادةً -كَبَرِّيَّةٍ أو سفينةٍ- فيُشترط ذِكْر مكان الوفاء.

وقال بعض الفقهاء: إن المرجع في ذلك للعُرف، إذا لم يُذكر مكان السَّلم فالمرجع في ذلك للعُرف. وهذا هو الأقرب.

فلو عُقد السَّلم في بريةٍ -مثلًا- فننظر إلى عُرف الناس في الوفاء فيُعمل به.

حكم أخذ الرهن أو الكفيل في المُسْلَم فيه

ولا يصح أخذ رهنٍ أو كفيلٌ بمُسْلَمٍ فيه.

قالوا: لأن الرهن يجوز بشيءٍ يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن، والمشتري عند تعذر الوفاء في السَّلم يرجع إلى هذا الراهن، فيكون قد صرف السَّلم إلى غيره، ولا يجوز صرف السَّلم إلى غيره.

والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز أخذ الرهن أو الكفيل في المُسْلَم فيه، وهو قول الجمهور، وهذا هو الراجح؛ لأن الأصل في عقد السَّلم الحِلُّ، والرهن هو عقد توثقةٍ، والسَّلم نوعٌ من البيوع؛ ولأن المانعين إنما اعتمدوا على حديثٍ ضعيفٍ، وهو: مَن أسلف في شيءٍ فلا يصرفه إلى غيره [22]، فالقول بأنه لا يجوز أخذ الرهن قولٌ ضعيفٌ، والصواب أنه لا بأس به.

حكم تعذر حصول المُسْلَم فيه

وإن تعذر حصوله خُيِّر ربُّ السَّلم بين صبرٍ أو فسخٍ.

هذه مسألةٌ مهمةٌ: إذا تعذر حصول المُسْلَم فيه، أو تعذر حصول بعضه عند حلول الأجل، ففي مثالنا السابق: أعطاه عشرة آلاف ريالٍ على أن يُسلم له مئة كيلو تمر سُكري 1 شوال، فلما أتى 1 شوال قال: ما عندي الآن مئة كيلو، أو عندي خمسون، ما الحكم؟

قال:

خُيِّر ربُّ السَّلم بين صبرٍ أو فسخٍ.

يُقال له: إما أن تصبر إلى أن يُوجد المُسْلَم فيه، إلى أن يحصل مئة كيلو تمر سُكري.

والخيار الثاني: أنك تفسخ عقد رأس مال السَّلم، وتقول: رُدَّ إليَّ المبلغ الذي أعطيتُك، أعطني عشرة آلاف ريالٍ.

قال:

ويرجع برأس ماله أو بدله إن تعذر.

يرجع برأس المال.

يعني: المؤلف يتكلم عما هو موجودٌ في زمنه، فأحيانًا يكون رأس المال دراهم أو دنانير، وأحيانًا يتعذر، وفي وقتنا الحاضر بالأوراق النَّقدية، والأوراق النَّقدية لا تتعين بالتَّعيين، أعطاه عشرة آلافٍ، يُرجع له عشرة آلافٍ.

طيب، هنا مسألةٌ ختم بها المؤلف باب السَّلم، وهي مسألةٌ مهمةٌ.

حكم قبول السَّداد من غير المدين

قال:

ومَن أراد قضاء دَينٍ عن غيره، فأبى ربُّه، لم يلزمه قبوله.

إنسانٌ أراد أن يقضي دَينًا عن غيره، ولكن المدين أبى وقال: لا أريد أن يُسدد عني فلانٌ. فإنه لا يلزمه قبوله.

وكذلك أيضًا لو أبى صاحب المال قبول السَّداد من غير المدين لا يلزمه قبوله؛ لماذا؟

لأن بعض المُتبرعين كثير المِنَّة، حتى لو كان المدين سجينًا لا يلزمه أن يقبل التَّبرع بسداد الدَّين عنه، يجوز له ذلك، لكن لا يجب.

مثال ذلك: رجلٌ سُجِنَ -مثلًا- في مليون ريال دَينًا عليه، وأتى أحد الناس وقال: أنا أريد أن أُسدد عنك هذا المليون تبرعًا من عندي. قال المدين -وهو سجينٌ-: لا أقبل. لا يلزمه قبوله؛ لأن قوله: “لا أقبل” ربما يكون لسببٍ وجيهٍ؛ ربما يعرف أن هذا المُتبرع سيُؤذيه بالمِنَّة، سَيَمْتَنُّ عليه، فيقول: هذا سَيَمْتَنُّ عليَّ طيلة عمري، سأبقى إلى أن يُفرجها الله تعالى عني.

بعض الناس عنده عزة نفسٍ، وبعض المُتبرعين أيضًا عنده المِنَّة بالتَّبرع، والمِنَّة تُبطل الأجر، المِنَّة بالصدقة، والمِنَّة بالمعروف عمومًا تُبطل الأجر وتُذهبه، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:264].

انظر إلى المثل العجيب الذي ذكره الله تعالى لهذا الذي يَمْتَنُّ بصدقته: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ يعني: حجرًا أَمْلَس عليه تراب، فَأَصَابَهُ وَابِلٌ نزل مطرٌ غزيرٌ، فما ظنك بحجرٍ أَمْلَس عليه ترابٌ، ونزل عليه مطرٌ غزيرٌ؟ هل سيبقى شيءٌ من هذا التراب؟

قال: فَتَرَكَهُ صَلْدًا [البقرة:264] يعني: حجرًا أَمْلَس ما عليه ترابٌ.

هكذا المِنَّة تذهب بأجر المُتصدق تمامًا وتُبطله؛ ولهذا الذي سيتبرع أو يتصدق أو يعمل معروفًا ويَمْتَنُّ به، الأحسن ألا يفعل، وإنما يتكلم بكلامٍ حسنٍ، هذا أفضل خيرٍ له، كما قال ربنا سبحانه: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى، إذا كنت ستتصدق وتَمْتَنُّ، أو تعمل معروفًا وتَمْتَنُّ؛ لا تعمله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:263].

نحن قلنا: لا يلزم المدين قبول التَّبرع، لكن الأولى أن يُراعي المصلحة، فإذا كان سيتضرر وسيبقى سجينًا، وسينقطع عن أسرته؛ فالأولى أن يقبل السَّداد، لكنه لا يجب عليه ذلك.

تطبيقاتٌ مُعاصرةٌ عن السَّلم

يمكن أن يُستفاد من السَّلم في بعض التطبيقات المعاصرة، ومنها: عقود التَّوريد -كما أشرنا- في توريد سلعٍ -مثلًا-، في توريد سياراتٍ، في توريد البضائع، يأتي صاحب المحل ويُعطي المُورد المبلغ مُقدمًا -لا بد أن يكون مُقدمًا وكاملًا- ويقول: على أن تُورد لي السلعة بمواصفاتٍ معينةٍ في وقتٍ معينٍ. فلا بأس بذلك، وهذا أحد الحلول لإشكالية التَّوريد؛ لأن الكثير من المُوردين الآن يبيعون ما لا يملكون، فيبيع على صاحب المحل البضاعة وهو لا يملكها، فيعقد معه عقدًا، ثم بعد ذلك إذا أخذ منه عربونًا ذهب واشترى السلعة، فيكون قد باع ما لا يملك.

الحلّ؟

الحلُّ هو: أن يجعل ذلك بصيغة السَّلم، كأن يُقدم له صاحب المحل مبلغًا مُقدمًا، ويكون بصفاتٍ معينةٍ في وقتٍ معينٍ.

يمكن أيضًا تطبيق عقد السَّلم في بعض صور التجارة الإلكترونية، فبعض الناس الذين يشترون سلعًا عن طريق المتاجر الإلكترونية يُقدمون المبلغ مُقدمًا لصاحب المتجر، ويقولون: على أن تُوفر لنا سلعةً بمواصفاتٍ معينةٍ -ويذكرون هذه المواصفات- في وقت كذا. وصاحب المتجر يُوفر لهم هذه السلعة، ثم يُرسلها لهم، فهذه تُعتبر سَلَمًا، ولا بأس بها.

وهذا يكون حلًّا لأصحاب التطبيقات الذين يقولون: لا نريد أن تكون السلعة عندنا، ونخشى ألا نجد لها زبائن، أو ربما لا تكون عندنا مُستودعات.

فنقول: أجروها بصيغة السَّلم، تقول لهذا الذي يريد الشراء: تُعطيني الثمن مُقدمًا، وتذكر مواصفات السلعة التي تريد، والوقت الذي تريد، وأنا أُوفرها لك، وأُرسلها لك.

فيُعطيه -مثلًا- عشرة آلاف ريال مُقدمًا، ويقول: على أن تُحضر لي السلعة بمواصفات كذا وكذا وكذا وكذا في وقت كذا.

فصاحب التطبيق يُحضر له هذه السلعة في هذا الوقت، ويُرسلها له، فهذا يُعتبر سَلَمًا.

ولا يلزم صاحب السلعة هنا أن تكون السلعة موجودةً لديه، بل لا يصح أن يكون سَلَمًا، وإنما يصفها هذا الذي يريد السلعة بالصفات، يقول: خُذْ عشرة آلاف ريالٍ على أن تُوفر لي سلعةً بمواصفات كذا وكذا وكذا. وهي ليست موجودةً عند صاحب التطبيق، فهذا يُسمى: سَلَمًا، ولا بأس به.

علاقة الاستصناع بالسَّلم

طيب، هنا نُشير إلى الاستصناع.

عقد الاستصناع عند الجمهور يعتبرونه نوعًا من السَّلم، وعند الحنفية يُعتبر نوعًا مُستقلًّا.

معناه: أن يطلب إنسانٌ من آخر أن يصنع له شيئًا لم يُصنَّع بعد بمواصفاتٍ معينةٍ، أما إذا كانت المواد من المُسْتَصْنِع فهذا يُسمى: إجارةً، وليس استصناعًا.

مثال ذلك: ذهبتَ للخياط، واخترتَ قماشًا من عند الخياط، وقلتَ له: أريد أن تخيط لي هذا الثوب عليَّ. يعني: طبقًا لمواصفات جسمي، فهذا يُسمى: استصناعًا، لكن لو أنك أتيتَ له بالقماش، وقلتَ للخياط: خِطْ لي هذا الثوب، خِطْ لي ثوبًا من هذا القماش. فهذا ليس استصناعًا، وإنما إجارةٌ.

والاستصناع عند الجمهور يشترطون له ما يشترطون للسَّلم، يعتبرونه نوعًا من السَّلم، ومن ضمن هذه الشروط: تسليم رأس المال في مجلس العقد.

وعلى هذا ففي مثالنا السابق على قول الجمهور: إذا ذهبتَ للخياط، وأردتَ أن تخيط عنده ثوبًا، يلزمك أن تنقد له كامل الثمن وإلا لم يَجُزْ.

لكن على قول الحنفية: أن عقد الاستصناع عقدٌ مُستقلٌّ، ولا يلزم معه تسليم رأس المال في مجلس العقد، فيمكن أن تُعطي الخياط مُقدمًا -شيئًا- أو لا تُعطيه شيئًا، تُعطيه الثمن كاملًا أو بعضه أو تُؤجله، الأمر في هذا واسعٌ.

والذي عليه عمل المسلمين قديمًا وحديثًا في هذه المسألة هو مذهب الحنفية، بل يكاد يكون إجماعًا عمليًّا من عصر السلف إلى وقتنا الحاضر على جواز الاستصناع، وأنه عقدٌ مُستقلٌّ، وليس نوعًا من السَّلم.

طيب، مثالٌ آخر للاستصناع: اتَّفق رجلٌ مع مقاولٍ على أن يبني له بيتًا أو عمارةً، كما يقولون: على المفتاح، يعني: المواد وكل شيءٍ على المقاول بمواصفاتٍ معينةٍ ومبلغٍ معينٍ، فهذا يُسمى: استصناعًا، لكن لو كانت المواد من طالب البناء فهذا ليس استصناعًا، وإنما إجارةٌ.

يمكن تطبيق عقد الاستصناع في وقتنا الحاضر في عقود التَّوريد -مثلًا- إذا كانت السلعة بما يُستصنع، ولا يلزم تسليم رأس المال كاملًا، يعني: لا يلزم تسليم الثمن مُقدمًا.

يمكن أن يُطبق أيضًا في البنوك والمصارف الإسلامية.

وهنا لفتةٌ لعقود التَّوريد: عقود التَّوريد بصورتها الشائعة الآن فيها إشكالٌ؛ لأن المُورد يبيع ما لا يملك.

طيب، من الحلول أو البدائل: أن يكون ذلك بصيغة السَّلم، لكن لا بد أن المُستورد ينقد الثمن كاملًا للمُورد، وإذا كانت السلعة مما يُستصنع يكون عقد استصناعٍ، ولا يلزم أن يُقدم الثمن كاملًا للمُورد، وإذا كانت السلعة ليست مما يُستصنع، ولا يريد أن يُقدم الثمن كاملًا، فيمكن أن يكون ذلك بصيغة الوعد، يقول: أنت أيها المُورد وَرِّدْ لي هذه السلعة، وأعدك أن أشتريها منك.

ويصح أن يكون الوعد مُلزمًا من أحد الطرفين، لكن لا يكون مُلزمًا للطرفين؛ لأن الوعد المُلزم للطرفين بمعنى العقد، فيكون المُورد قد باع ما لا يملك، لكن لو كان الوعد مُلزمًا لأحد الطرفين، يعني: يكون مُلزمًا لصاحب المحل، على أن يشتري من المُورد هذه السلعة إذا أحضرها، فهذا لا بأس به؛ لأن العقد المُلزم من أحد الطرفين لا يُعتبر عقدًا، ولا تترتب عليه آثار العقد، ولو حصلتْ وفاةٌ ما اعتُبر عقدًا، وإنما هو إبداء رغبةٍ.

طيب، ما فائدة الإلزام هنا؟

فائدة الإلزام: لو أنه لم يَفِ بهذا الوعد يتحمل، أو يقوم بتعويض مَن وعده عن الضَّرر فقط، يُعوض مَن وعده عن الضَّرر الذي لحقه بسبب إخلافه للوعد.

فالوعد المُلزم من الطرفين بمعنى العقد، وأما الوعد المُلزم من طرفٍ واحدٍ فليس بمعنى العقد، ولا بأس به، فيمكن في عقود التَّوريد أن يكون الوعد مُلزمًا من طرفٍ واحدٍ، يعني: هذا المُورد الآن يخشى أن صاحب المحل لا يشتري السلعة إذا ورَّدها، فيعقد معه أو يتَّفق معه على وعدٍ مُلزمٍ من جهة المُستورد صاحب المحل، وليس من جهة المُورد، فلا بأس بذلك، وهذا أحد البدائل، وأحد الحلول.

ونكتفي بهذا القدر في التعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وبقية الوقت نُجيب عما تيسر من الأسئلة، إن شاء الله تعالى.

الأسئلة

السؤال: حكم التُّحَف إذا كانت رأس حيوانٍ فقط؟

الجواب: لا بأس بها؛ لأن الصورة المُحرمة هي الصورة للحيوان الذي يكون معها حيًّا، أما إذا كانت جزءًا لا يكون معها حيًّا؛ فلا تُعتبر من الصور المُحرمة، فالرأس فقط لا يمكن أن يعيش الإنسان برأسٍ فقط، لا بد أن يكون الرأس مُلتصقًا بالجسد، فإذا كان رأسًا مُلتصقًا بجسدٍ فهنا يمكن أن يعيش، وهذه الصورة المُحرمة، لكن لو كان رأسًا فقط فليس هذا من الصور المُحرمة.

ومثل ذلك ما يُسمى بـ(الفيسات) الموجودة في برامج التواصل الاجتماعي، لا بأس بها، يكون وجهًا ضاحكًا، وجهًا مُبتسمًا، وجهًا حزينًا، هذا لا يُعتبر من الصور المُحرمة.

هذا الضابط ذكره المُوفق ابن قُدامة وغيره، يقول: إذا كان -يعني: هذا الجزء من الإنسان- بحيث لو بقي هذا الجزء لبقي حيًّا فهذا هو القدر المُحرم، أما إذا كان هذا الجزء لو بقي لم يكن حيًّا، لم يَبْقَ حيًّا، فلا يدخل هذا في الصورة الممنوعة، يعني: الرأس فقط، ما يمكن للإنسان أن يعيش برأسٍ فقط، فلا يكون هذا من الصور المُحرمة.

السؤال: هل يقع الطلاق أثناء الحيض؟

الجواب: هذه المسألة خلافيةٌ؛ المذاهب الأربعة: مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة يرون وقوع الطلاق أثناء الحيض.

وهناك قولٌ عند الحنابلة -واختاره ابن تيمية وابن القيم- أنه لا يقع.

وفي “صحيح البخاري” عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “حُسِبَتْ عليَّ بتطليقةٍ” [23]، هذا نصٌّ في المسألة، وهو في البخاري أيضًا، فأكثر العلماء على وقوعه.

وأما من جهة الفتوى: فمَن حصل له ذلك يذهب إلى دار الإفتاء ويستفتي، لكن من الناحية النظرية قول الجمهور أقرب، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة.

السؤال: إذا سافر الإنسان خارج دولته، ونوى أن يُقيم سبعة أيامٍ، هل له القصر والجمع؟

الجواب: نعم، له القصر والجمع.

والقول الراجح في المدة التي إذا أقامها المسافر فإنه يترخص بِرُخَص السفر: أنها تسعة عشر يومًا فما دون، فإذا أقام المسافر تسعة عشر يومًا فما دون فإنه يترخص بِرُخَص السفر، أما إذا أقام أكثر من تسعة عشر يومًا لا يترخص بِرُخَص السفر، هذا قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما، واختيار البخاري.

وفي “صحيح البخاري” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “أقام النبي بمكة تسعة عشر يومًا يقصر، فنحن” يقصد نفسه ومَن معه من الصحابة “إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، فإذا زِدْنَا أَتْمَمْنَا” [24].

السؤال: هل يعيب الرجل أن يكون مظهره الخارجي كمظهر طلاب العلم الشرعي، وهو من عوام الناس؟

الجواب: لا بأس بذلك.

وتَشَبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التَّشبه بالكرام فلاحُ

كون الإنسان يتشبه بالكرام وبالصالحين وبأهل العلم هذا شيءٌ حسنٌ.

السؤال: كفيفٌ أخطأ في صلاته؛ فلما قام الإمام من السجود لم يقم الكفيف، فلما سجد الإمام الثانية قام هو من سجوده، فَنَبَّهَه الذي عن يمينه بِجَرِّه إلى السجود، فلم يفهم، فقال له: اسجد، اسجد. هل تبطل صلاة مَن تكلم؟

الجواب: لا تبطل؛ لأن الكلام هنا لمصلحةٍ، فإذا لم توجد وسيلةٌ أخرى غير التَّنبيه بالكلام لا بأس بها، كما في الصورة التي ذكرها الأخ السائل.

سمعتُ شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله يُسأل عن مسألةٍ قريبةٍ من هذه، فقال: لا بأس أن يتكلم في هذه الصورة؛ لأنه ليس هناك حلٌّ آخر، ماذا يفعل معه؟

هذا الرجل لم يفهم الخطأ الذي عنده في صلاته، يعني: لا بد من حلٍّ، فالحل هو أن يتكلم لأجل مصلحة الصلاة بقدر الحاجة، فهذا لا بأس به، لكن لو أتى بآيةٍ قرآنيةٍ فهذا أولى؛ خروجًا من الخلاف، لو قال: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19] فهذا أحسن من أن يقول له: اسجد، فقط، يعني: يأتي بآيةٍ قرآنيةٍ إن تيسر، لكن بعض الناس ربما لا تحضره وقتها آيةٌ قرآنيةٌ، لكن إذا أتى بآيةٍ قرآنيةٍ فهو الأولى، وفيه خروجٌ من الخلاف.

السؤال: إذا دخلتُ مع الإمام وهو في التَّشهد الأخير، هل أقرأ صفة التَّشهد الأول أم الثاني؟

الجواب: تقرأ صفة التَّشهد الثاني كاملةً؛ لأنك تفعل كما يفعل الإمام.

السؤال: أيّهما أفضل: التَّمويل من الراجحي (البلاديوم) أم الأسهم؟

الجواب: إذا كانت الأسهم أسهم شركاتٍ نقيةٍ فالأولى الأسهم؛ لأن التَّملك والقبض والتَّعيين فيها أظهر، أما إذا كنت لا تضمن أن تكون الأسهم من شركاتٍ نقيةٍ فيكون بـ(البلاديوم) الذي هو موجودٌ عند الراجحي أيضًا ومُنضبطٌ بالضوابط الشرعية؛ التَّملك والتَّعيين والقبض فيه أيضًا ظاهرٌ.

السؤال: ما حكم القيام حال رؤية الجنازة؟

الجواب: القيام عند رؤية الجنازة سنةٌ، وقد أمر به النبي ، ولما مُرَّ بجنازةٍ قام عليه الصلاة والسلام، فقيل: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي. قال: أليستْ نَفْسًا؟ [25]، إن للموت فزعًا [26].

وهذا فيه إشارةٌ للحكمة من القيام عند رؤية الجنازة، وهي: أن الإنسان ينبغي أن يعتبر ويتَّعظ، كيف يرى الجنازة أمامه، ويرى الميت أمامه، ولا يقوم، ولا ينتبه؟

ولهذا قال: إن للموت فزعًا، ولما قيل: إنها جنازة يهودي. قال: أليستْ نفسًا؟

وهذه السنة يغفل عنها في وقتنا الحاضر كثيرٌ من الناس، ففي المساجد التي يُصلى فيها على الجنائز يُزال الحاجز الذي كان يُغطي الجنائز، والناس في الصفوف الأولى يرون الجنائز ولا يقومون، هذا خلاف السنة، فالسنة إذا رأيت الجنازة أن تقوم؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا رأى الجنازة قام، حتى لو كانت جنازة غير مسلمٍ، وقال: إن للموت فزعًا يعني: إذا رأى الإنسان جنازة إنسانٍ ميتٍ ينبغي أن يفزع، وأن يعتبر، وأن يتَّعظ، ولا يكون مُتبلد الإحساس.

السؤال: سآخذ تمويلًا من بنك الراجحي، هل يلزمني التَّأكد من مُوافقة الإجراءات للشريعة وقت التَّعاقد، أم أنها مُجازةٌ ولا تحتاج مني للتَّدقيق؟

الجواب: ما كان من مصرف الراجحي الأصل في تعاملاته الجواز؛ لأن تعاملاته كلها تمر على الهيئة الشرعية، وأيضًا هناك جهاز رقابةٍ، يعني: مستوى الضبط الشرعي عندهم عالٍ، فلا يلزمك التأكد ما دُمْتَ تثق في الجهة المُشرفة على النواحي الشرعية لهذا البنك.

أما البنوك الأخرى فيكون بحسب مستوى الثقة بالهيئة الشرعية في ذلك البنك، فإذا كان الضبط الشرعي عندها عاليًا، والرقابة كذلك، فلا يلزمك التأكد، أما إذا كان الضبط الشرعي عندها ليس عاليًا فيلزمك التأكد.

فما سأل عنه الأخ الكريم من بنك الراجحي: الضبط الشرعي عندهم عالٍ، فلا يلزمك التأكد، لا بأس أن تأخذ تمويلًا من هذا البنك.

السؤال: هل تجوز الصلاة على الميت بعد الدفن؟

الجواب: لا بأس في حقِّ مَن لم يُصلِّ على الميت، مَن فاتته الصلاة على الميت لا بأس أن يذهب إلى القبر ويُصلي على صاحب القبر، كما فعل النبي في قصة المرأة السوداء التي تَقُمُّ المسجد، ففقدها النبي ، فقالوا: إنها ماتت. قال: أفلا كنتم آذنتُموني؟ دُلُّوني على قبرها، ثم ذهب عليه الصلاة والسلام إلى قبرها وصلَّى عليها [27].

فدلَّ ذلك على مشروعية الصلاة على القبر في حقِّ مَن لم يُصلِّ على ذلك الميت، وذلك في حدود شهرٍ من وفاته؛ لأن هذا هو أكثر ما ورد، أما إذا كان ذلك بعد أكثر من شهرٍ فهذا غير مشروعٍ، لكن في حدود شهرٍ من وفاته تُشرع الصلاة على مَن في القبر في حقِّ مَن لم يُصلِّ عليه.

السؤال: ما حكم الاشتراك في التأمين الصحي لشركة تكافل الراجحي؟

الجواب: لا بأس بذلك؛ لأن هذه الشركة تُمارس التأمين التعاوني بصيغته الجائزة.

السؤال: أختي عندها شللٌ رباعيٌّ وضمورٌ في المخ، ولا تستطيع الصلاة بمفردها؛ لأنها تُخطئ، وأنا أجلس إلى جنبها وأُصلي بها، وهي على فراشها، وأنا حائض، هل يجوز؟

الجواب: يجوز بشرط: ألا تنوي أنت الصلاة، وإنما فقط حتى تُقلدك، لكن لا تتعبدي الله بالصلاة؛ لأن المرأة الحائض لا يجوز لها أن تُصلي وتتقرب إلى الله بالصلاة، لكن إذا لم تَنْوِ الصلاة، وإنما فقط لأجل تعليم أختك، فلا بأس بذلك.

السؤال: ما حكم مَن يريد أن يكون مُؤذنًا لمسجدٍ بسبب الراتب؟

الجواب: إذا كان يريد بذلك التَّقرب إلى الله ، ويريد بذلك الراتب، فلا بأس، وهذه المسألة يُسميها العلماء: مسألة التَّشريك في النية، ولا بأس بها، فينوي التَّقرب إلى الله، وينوي الحصول على المُكافأة.

ومثل ذلك: مَن يريد الحجَّ والتجارة، وقد تحرج نفرٌ من الصحابة من ذلك، فأنزل الله قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، وهذه الآية نصٌّ في المسألة، فبعض الصحابة تحرَّجوا: كيف يحجون ويُتاجرون؟ فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.

هكذا أيضًا مَن أراد أن يكون إمامًا أو مُؤذنًا، ويريد بذلك التَّقرب إلى الله، والاستفادة من المُكافأة، ومن -مثلًا- بيت الإمام، أو بيت المُؤذن، لا بأس بذلك -إن شاء الله- لكن لا تكن نيتك كلها لأجل الدنيا، إنما يريد التَّقرب إلى الله ، ويريد بذلك الأمر الدنيوي، فيُشرك في النية، فهذا لا بأس به.

وخيرٌ من ذلك: أن يجعل نيته كلها لله ​​، لكن لو أراد التَّشريك في النية فلا بأس بذلك على القول الراجح.

السؤال: والدي كبيرٌ في السنِّ، عمره في السبعين، وأجرى عملية قلبٍ مفتوحٍ، مع وجود قسطرةٍ للبول، ويشقُّ عليه الوضوء لكل فرضٍ، هل له الجمع بوضوءٍ واحدٍ مثل: الظهر والعصر؟

الجواب: نعم، في هذه الحال يجوز له الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إما جمع تقديمٍ، أو جمع تأخيرٍ.

السؤال: ما حكم “صباح الخير” المُنتشرة بين الناس؟

الجواب: لا بأس بها، لكن لا يُستغنى بها عن لفظ السلام، يقول: السلام عليكم، صباح الخير، أو: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، صباح الخير.

أما أن يقول: صباح الخير، ويترك السلام، فهذا خلاف السنة، فتحية المسلمين بلفظ السلام: السلام عليكم، ولا بأس أن يقول بعد “السلام عليكم” أي عبارةٍ ترحيبيةٍ، أو أي عبارةٍ مناسبةٍ للزمان، أو مناسبةٍ للمكان، مثل: صباح الخير، ومساء الخير، وحيَّاكم الله، ونحو ذلك.

السؤال: ما حكم السلام على شخصٍ مشغولٍ بالأذكار؟

الجواب: لا بأس بذلك، واعتقاد بعض الناس أن الشخص المشغول بالأذكار أو المشغول بالتلاوة لا يُسلم عليه، هذا غير صحيحٍ؛ لأنه إذا كان يُشرع السلام على المُصلي، فكيف بهذا الذي يتلو القرآن، أو الذي ينشغل بالذكر؟

المُصلي يُشرع السلام عليه، ويردّ بالإشارة، فقد كان الصحابة إذا كان النبي يُصلي يُسلمون عليه، ويردّ بالإشارة بظهر كفِّه هكذا [28]، فإذا كان يُشرع السلام على المُصلي، فيُشرع كذلك من باب أولى السلام على مَن يقرأ القرآن، ومَن كان مُنشغلًا بالذكر، ويتوقف هذا الذي يقرأ القرآن ويردّ السلام، ثم يُكمل التلاوة، أو هذا المُنشغل بالذكر يتوقف ويردّ السلام، ويُكمل الذكر.

ولأن المصلحة المُترتبة على بذل السلام أرجح، فهذا المشغول بالتلاوة، ما الذي يترتب عليه إذا توقف؟

ما يترتب عليه شيءٌ كبيرٌ، لكن إذا سلَّم عليه إنسانٌ، وردَّ السلام، هنا مصلحةٌ كبيرةٌ في إشاعة المحبة والمودة بين المسلمين، والنبي يقول: أَوَلَا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم [29].

ولاحظ قوله: أفشوا يدل على أنه ينبغي أن يكون السلام فاشيًا، كثيرًا، ليس مجرد إلقاءٍ، وإنما أن يَفْشُو في المجتمع.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه البخاري: 1486، ومسلم: 1534.
^3 رواه مسلم: 1534.
^4 رواه أحمد: 5012.
^5 رواه مسلم: 1535.
^6 رواه أحمد: 8495.
^7 رواه أحمد: 5105.
^8, ^10 رواه مسلم: 1554.
^9 رواه البخاري: 2208، ومسلم: 1555.
^11 رواه البخاري: 2240، ومسلم: 1604.
^12, ^17 رواه أبو داود: 3504، والترمذي: 1234 وقال: حسنٌ صحيحٌ.
^13 رواه مسلم: 1600.
^14 رواه أبو داود: 3357.
^15 رواه الحاكم في “المستدرك”: 2372، والدارقطني في “سننه”: 3059.
^16, ^22 رواه أبو داود: 3468، وابن ماجه: 2283.
^18 رواه البخاري: 2126، ومسلم: 1526.
^19 رواه البخاري: 2240، ومسلم: 1604.
^20 رواه ابن ماجه: 2281، وأبو يعلى الموصلي في “مسنده”: 7496.
^21 رواه أبو داود: 3503، والترمذي: 1232.
^23 رواه البخاري: 5253.
^24 رواه البخاري: 1080، 4298، 4299.
^25 رواه البخاري: 1312، ومسلم: 961.
^26 رواه النسائي: 1922، وأحمد: 8527.
^27 رواه البخاري: 458، ومسلم: 956.
^28 رواه أبو داود: 927، والترمذي: 368 وقال: حسنٌ صحيحٌ.
^29 رواه مسلم: 54.
zh