عناصر المادة
- باب الربا
- الربا شرٌّ عظيمٌ
- يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا
- الحكمة من تحريم الربا
- تعريف الربا
- أقسام الربا
- الأصناف التي يجري فيها الربا
- المكيل كسائر الحبوب والأبازير والمائعات
- الماء ليس بربويٍّ
- أمثلةٌ للمكيلات التي يجري فيها الربا
- أمثلةٌ للموزونات التي يجري فيها الربا
- العِلة في الذهب والفضة
- لا يجري الربا في المعدود، ولا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن
- قواعد مهمة في باب الربا
- المُماثلة في القَدْر، والتَّقابض قبل التَّفرق
- ما معنى: الجنس والنوع؟
- اتِّحاد العِلة واختلاف الجنس
- لا يصح بيع المَكِيل بجنسه وزنًا، ولا الموزون بجنسه كَيْلًا
- هل يجري الربا في اللحم؟
- بيع الدقيق بالدقيق
- لا يصح بيع فرعٍ بأصله
- لا بَيْعَ الحَبِّ المُشْتَدِّ في سُنبله بجنسه
- مسألة مُدِّ عجوةٍ ودرهم
- يصح بيع نوعين من جنسٍ واحدٍ بنوعٍ واحدٍ
- يصح صرف الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مُتماثلًا وزنًا، لا عدًّا
- تعويض أحد النَّقدين عن الآخر بسعر يومه
- ربا الديون
- إعادة التمويل
- بيع الأصول والثِّمار
- الأسئلة
النبي يقول: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1]، إذا وجدتَ من نفسك حرصًا على التَّفقه في الدين، وحرصًا على طلب العلم، ومحبةً لذلك؛ فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير، ومفهوم هذا الحديث: أن مَن لم يُرَد به الخير لا يُوفَّق للفقه في الدين.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حيَّاكم الله جميعًا في هذا الدرس العلمي، وهو الدرس السادس عشر من هذا العام الهجري في يوم الاثنين الحادي والعشرين من شهر جماد الآخرة من عام 1443 للهجرة.
باب الربا
ننتقل بعد ذلك إلى “السلسبيل في شرح الدليل”، ووصلنا إلى باب الربا، وهذا الباب من أهم الأبواب؛ لأن الربا أمره عظيمٌ جدًّا؛ ولهذا اتَّفقتْ جميع الشرائع السماوية على تحريمه، وذكره الله تعالى أنه مُحرمٌ على اليهود: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء:160- 161].
كذلك أيضًا هو مُحرمٌ على النصارى، ومُحرمٌ في جميع الأديان؛ وذلك لعظيم ضرره على الفرد والمجتمع.
الربا شرٌّ عظيمٌ
الربا من الكبائر، وهو من السبع المُوبقات، وقد ذكره النبي في الحديث: اجتنبوا السبع المُوبقات [2]، ولعن النبي آكل الربا، ومُوكله، وكاتبه، وشاهديه [3]، واللعن معناه: الطَّرد والإبعاد عن رحمة الله، ولا يكون اللعن إلا على كبيرةٍ.
وكذلك أيضًا ليس فقط آكل الربا، بل حتى مَن يُعين على الربا فهو مُستوجبٌ للعنة؛ لأن النبي لم يكتفِ بلعن آكل الربا ومُوكله، بل حتى كاتب الربا تشمله اللعنة، والشاهد على الربا تشمله اللعنة.
وقد ذكر القرطبي في “تفسيره” قصةً عجيبةً، وذُكِرَتْ هنا في “السلسبيل”: أن رجلًا جاء إلى الإمام مالك، فقال: يا أبا عبدالله، إني رأيتُ رجلًا سكرانًا يتعاقر يريد أن يصطاد القمر. يعني: يقفز من شدة سُكْره، ذهب عقله فأصبح يقفز يريد أن يصطاد القمر، فرآه أحد الناس فتأثر، قال: قلتُ: امرأتي طالقٌ إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرّ من الخمر. يعني: من شدة تأثره قال ذلك السائل.
فقال الإمام مالك: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد، يعني: ثلاثة أيامٍ وهو يتردد عليه، ثم في اليوم الثالث قال: امرأتك طالقٌ، إني تَصَفَّحْتُ كتاب الله وسُنة نبيه فلم أَرَ شيئًا أشرَّ من الربا؛ لأن الله قد أذن فيه بالحرب.
يعني: أفتاه الإمام مالك بوقوع طلاق امرأته؛ لأن هذا الرجل حلف بالطلاق أنه ليس شيءٌ يدخل جوف ابن آدم أخبث ولا أشرّ من الخمر، فقال الإمام مالك: لا، هناك شيءٌ أعظم وأشرّ وأخبث من الخمر، وهو الربا.
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “يُقال لآكل الربا يوم القيامة: خُذْ سلاحك للحرب”، وهذا من باب التَّبكيت له، وإلا فلا أحد يُحارب الله ورسوله ، لكن يُقال له ذلك تبكيتًا له.
وقال ابن دقيق العيد: “آكل الربا مُجَرَّبٌ له سُوء الخاتمة”، نسأل الله السلامة والعافية.
وعندما نجد الآيات القرآنية في التحذير من الربا، نجد أن التحذير شديدٌ، ففي سورة البقرة يقول ربنا سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278- 279]، يعني: الذي يُصِرُّ على الربا فتح جبهة حربٍ مع الله، معنى ذلك: أنه يتوقع أن تأتيه المصائب من أي جهةٍ، وبأية طريقةٍ.
إنسانٌ فتح جبهة حربٍ مع ربِّ العالمين، ومَن فتح جبهة حربٍ مع ربِّ العالمين يتوقع أن تأتيه مصائب في أي شيءٍ: مصائب في صحته، مصائب في ولده، مصائب في زوجته، مصائب في حريته، مصائب في أي شيءٍ بسبب الربا؛ لأن الربا حربٌ لله ورسوله : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، ويقول سبحانه: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276]، يعني: عندما يقول رب العالمين في كتابه الذي تقرؤه الأجيال جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ، كتاب ربِّ العالمين، خالق الكون يقول: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا، لا بد أن يتحقق المَحْقُ، كما نرى أن الشمس تطلع من الشرق وتغرب من الغرب.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا
طيب، كيف يكون المَحْق؟
مَحْقُ المال له صورٌ.
أولًا: المَحْق من المَحَاق، وهذه المادة: الميم، والحاء، والقاف، تعني: ذهاب الشيء شيئًا فشيئًا؛ ولهذا يُقال عن الهلال في آخر الشهر: إنه في المَحَاق، وهذا يعني: أن المَحْق يأتي شيئًا فشيئًا للإنسان.
وهذا المَحْق له صورٌ:
- إما أن يكون مَحْقًا حسيًّا بإتلاف المال.
- وإما أن يكون مَحْقًا معنويًّا بأن تُسلط عليه الآفات، تُسلط على هذا المُرابي الآفات: إما في ماله، وإما في بدنه، وإما في أهله، وإما في ولده، وإما في غير ذلك.
بعض الناس -مثلًا- يُصاب بأمراضٍ لا يدري ما سببها، ويذهب إلى المستشفيات ولا يجد العلاج، وربما يكون السبب هو تعاطيه الربا.
ومن صور المَحْق أيضًا -وهي صورةٌ موجودةٌ في المجتمعات عمومًا-: أن الإنسان تكون عنده الثروة والأموال الكثيرة، لكنه محرومٌ من الانتفاع بها، يجمعها ويُكدِّسها للورثة من بعده -وهذه صورةٌ من صور المَحْق- يتركها غنيمةً باردةً للورثة، لهم غُنْمها، وعليه غُرْمها.
فما الفائدة إذن من هذه الثروة؟ ما الفائدة من هذه الأموال التي تجمعها لغيرك؟!
هذه من صور المَحْق، بسبب تعاطيه للربا مُحِقَتْ بركة ماله، فلا ينتفع به في حياته، ولا بعد مماته.
هنا فائدةٌ في قول الله : فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، يعني: تعاطي الربا، أكل الربا، أخذه أو دفعه هو من الكبائر، لكن هنا توعد الله مَن عاد إلى الربا بالنار، وأيضًا الخلود فيها، قال: وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
ومُعتقد أهل السنة والجماعة: أن مُرتكب الكبيرة لا يخلد في النار، فكيف نُجيب عن ذلك؟
الجواب: أولًا: مُعتقد أهل السنة والجماعة في مُرتكب الكبيرة أنه في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وأنه في الآخرة تحت المشيئة، لكنه إذا دخل النار لا يخلد فيها.
وبناءً على هذا فيُحمل الخلود الوارد في الآية على الخلود المُؤقت.
ومثل ذلك أيضًا: الخلود الذي ذكره الله تعالى في شأن قاتل النفس مُتعمدًا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، يُحمل على الخلود المُؤقت؛ لأن الخلود في لغة العرب خلودان: خلودٌ مُؤبدٌ، وخلودٌ مُؤقتٌ.
ولذلك تقول العرب: فلانٌ أخلد في المكان، إذا طال مكثه فيه، وهذا يدل على أنهم يُطلقون على طول المُكْث: خلودًا، يُسمونه: خلودًا في لغتهم.
وعلى هذا نقول: المراد بالخلود في هذه الآية، وكذلك في آية قتل المؤمن: طول المُكْث، وليس المقصود به: الخلود المُؤبد.
الحكمة من تحريم الربا
تحريم الربا له حِكَمٌ كثيرةٌ جدًّا، لكن نذكر أبرزها:
- أولًا: الظلم، وهذا المعنى أشار إليه ربنا في قوله: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]؛ وذلك لأن أخذ مالٍ من الفقير بغير عوضٍ فيه ظلمٌ للفقير، فيزداد الغني غنًى، وهذا الفقير يزداد فقرًا، وهذا المُرابي يكون قد شارك الجميع: شارك المُزارع، وشارك الصانع، وشارك العامل، وشارك التاجر من غير أن يقوم بعملٍ، فتأتيه الأموال وهو في بيته من غير كَدْحٍ ولا خسارةٍ، فيكون قد ظلم الجميع بذلك أيضًا: ظلم الفقير، وظلم أفراد المجتمع؛ لكونه يأخذ مالًا بدون مقابلٍ.
- ثم أيضًا فُشُو الربا في المجتمع يُؤدي إلى تلاشي الطبقة المتوسطة، وأن ينقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة غنية تزداد غنًى، وطبقة فقيرة تزداد فقرًا.
ولذلك المجتمعات التي يفشو فيها الربا ينقسم المجتمع إلى هاتين الطبقتين، بخلاف المجتمعات التي لا يفشو فيها الربا، تجد أن فيها عدة طبقاتٍ: فيها الفقيرة، والأشدّ فقرًا، والمتوسطة، والغنية، والأكثر غنًى، تجد فيها جميع الطبقات، لكن المجتمعات التي يفشو فيها الربا ينقسم المجتمع إلى طبقتين: غنية تزداد غنًى، وفقيرة تزداد فقرًا. - أيضًا الربا من أسباب البطالة والخمول والفشل، والابتعاد عن الاشتغال بالمكاسب النافعة؛ لأن المُرابي تأتيه الأموال من غير حاجةٍ لأن يشتغل بالزراعة، ولا الصناعة، ولا التجارة، يأخذ عليها فوائد ربويةً، وليس بحاجةٍ لأن يشتغل في أي مجالٍ من المجالات التي تنفع المجتمع.
- أيضًا الربا يُؤدي إلى أن تكون حياة الناس فيما بينهم ماديةً بحتةً، وينقطع المعروف بين الناس والإحسان، وهذا خلاف منهج الإسلام الذي يدعو إلى التَّكافل والتَّراحم والمحبة والمودة بين المسلمين.
ولهذا شُرعت الصلاة مع الجماعة في المسجد خمس مراتٍ في اليوم والليلة، مع أنه بإمكان الإنسان أن يُصلي في البيت صلاةً أكثر خشوعًا من صلاته في المسجد، لكن شُرعت لأجل تحقيق معنى التكافل الاجتماعي بين المسلمين.
فالربا يقطع هذا التَّكافل، وتُصبح العلاقة بين الناس علاقةً ماديةً محضةً؛ ولهذا لا تكاد تجد آيةً من آيات القرآن فيها تحريم الربا إلا وتجد قبلها أو بعدها حَثًّا على الصدقة، وهذا فيه إشارةٌ إلى أنه ينبغي أن تسود الصدقة والإحسان إلى الفقير، ونحو ذلك. - أيضًا الربا من أسباب غلاء الأسعار في المجتمعات؛ لماذا؟
لأن صاحب المال إذا أراد أن يستثمر ماله في زراعةٍ، أو في صناعةٍ، أو في تجارةٍ، أو نحو ذلك، فلن يرضى ببيع سلعته إلا بربحٍ أكثر من سعر الفائدة، وإلا يقول: ما في داعٍ أني أشتغل بالتجارة، آخذ فوائد ربويةً ويكفي، وما في داعٍ أني أُتعب نفسي وأشتغل بالزراعة.
إذن هذا المُزارع الذي أنتج لنا مُنتجاتٍ زراعيةً، وهذا التاجر الذي أنتج لنا صناعاتٍ، جميع هؤلاء المُنتجين لا بد أن يرفعوا الأرباح حتى تكون أكثر من الفوائد الربوية، فيُؤدي هذا إلى غلاء الأسعار.
ولهذا فإن المجتمعات التي يفشو فيها الربا تجد أن تكاليف المعيشة فيها باهظةٌ جدًّا.
انظر -مثلًا- إلى تكاليف المعيشة في بلاد الغرب الآن، مُرتفعةً جدًّا وباهظةً، ومن أبرز أسباب غلاء الأسعار: فُشُو الربا. - الربا أيضًا يُؤدي إلى عدم انتفاع الأُمة بالأموال العظيمة التي يُعطلها المُرابون، فلا يستعملونها فيما ينفع الناس من زراعةٍ، أو صناعةٍ، أو غيرها.
- أيضًا الربا من أسباب نُشُوء الأزمات الاقتصادية التي تحلُّ بالدول والمؤسسات والشركات؛ لأن مَن اقترض بفوائد ربويةٍ فإنه تتراكم عليه الديون مع مرور الزمن، ويعجز عن سدادها، فأبرز أسباب نُشُوء الأزمات الاقتصادية: فُشُو الربا.
إلى غير ذلك من الحِكَم الكثيرة.
فالله تعالى أحكم الحاكمين، لا يُحرم شيئًا إلا لحكمةٍ، خاصةً أن هذا التحريم في جميع الشرائع، وهذا يدل على عظيم ضرر الربا.
تعريف الربا
ننتقل بعد ذلك إلى تعريف الربا.
الربا معناه في اللغة: الزيادة، ومنه قول الله : فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5]، يعني: زادتْ وعَلَتْ.
واصطلاحًا يُعرفونه: بأنه الزيادة في أشياء مخصوصةٍ.
أقسام الربا
المُشتهر عند الفقهاء أن الربا ينقسم إلى قسمين:
- ربا الفضل.
- وربا النَّسيئة.
لكن بعض المعاصرين يُضيف: ربا الديون، وسنتكلم عنه -إن شاء الله تعالى- مع أنه داخلٌ في ربا النَّسيئة عند كثيرٍ من الفقهاء.
الأصناف التي يجري فيها الربا
طيب، المؤلف ابتدأ بعد ذلك الحديث عن ضابط ما يجري فيه الربا، وهذا المبحث من أهم المباحث: ضابط ما يجري فيه الربا، ما هذا الضابط؟ ويُعبر عنه بعضهم بالعلة الربوية.
انتبه، يعني: مَن يُتابع معنا هذا الدرس سيحصل على خلاصةٍ مُفيدةٍ -إن شاء الله- في هذه المسألة، فهذه المسألة ربما لو قرأتَ في بعض كتب الفقه تجد أن الكلام فيها مُتشعِّبٌ وكثيرٌ.
طيب، أولًا: نبدأ بتحرير المذهب عند الحنابلة، ثم نذكر الأقوال الأخرى، ثم نذكر القول الراجح.
قال:
يجري الربا في كل مكيلٍ وموزونٍ ولو لم يُؤكل.
فعلى هذا الضابط فيما يجري فيه الربا: أن يكون مكيلًا، أو موزونًا، فالعلة الربوية -علة الربا- عند الحنابلة هي: الكيل أو الوزن، فما ليس بمكيلٍ ولا موزونٍ لا يجري فيه الربا.
طيب، نأتي لأقوال العلماء في هذه المسألة: في عِلة الربا، وإن شئتَ قلتَ: في ضابط ما يجري فيه الربا.
اختلف العلماء على أقوالٍ كثيرةٍ: فمن أهل العلم مَن ذهب إلى أن الربا لا يجري إلا في الأصناف المنصوص عليها؛ لقول النبي : الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعير بالشَّعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يدًا بيدٍ، فمَن زاد أو استزاد فقد أَرْبَى، الآخذ والمُعطي فيه سواء [4].
وهذا القول -وهو أن الربا لا يجري إلا في هذه الأصناف الستة- رُوي عن قتادة وطاوس، وهو مذهب الظاهرية، وهذا القول أضعف الأقوال.
والصواب ما ذهب إليه جماهير أهل العلم قديمًا وحديثًا من أن الربا كما يجري في هذه الأشياء الستة، فيجري فيما وافقها في العِلة؛ لأن الشريعة لا يمكن أن تُفرق بين المُتماثلات.
ثم إنه قد جاء أيضًا في بعض الأحاديث ما يدل على جريان الربا في غير هذه الأشياء الستة، كما في حديث أبي سعيدٍ : أن النبي نهى عن المُزابنة والمُحاقلة [5].
والمُزابنة معناها: “أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلًا بتمرٍ كيلًا، وإن كان كَرْمًا: أن يبيعه بزبيبٍ كيلًا”.
وهذا الشاهد: “وإن كان كَرْمًا” يعني: عنبًا، “أن يبيعه بزبيبٍ كيلًا، وإن كان طعامًا يبيعه بكيل طعامٍ” [6].
ففي هذا الحديث أُضيف نوعٌ جديدٌ من غير الأنواع الستة، وهو ماذا؟
وهو العنب والزبيب، فقال: “وإن كان كَرْمًا: أن يبيعه بزبيبٍ كيلًا”، فالعنب لم يُذكر في هذه الأصناف الستة، وذُكر في هذا الحديث، فهذا يدل على أن الربا يجري في غير هذه الأصناف الستة.
المكيل كسائر الحبوب والأبازير والمائعات
طيب، قال المصنف:
فالمكيل كسائر الحبوب والأبازير والمائعات.
أولًا: معنى “الأبازير” يعني: البذور، فالمكيل كسائر الحبوب.
معنى كلام المؤلف: أن بيع الشيء من المكيل بآخر من المكيل ربًا، كبيع الحبوب بالحبوب، مثل: البُرّ بالبُر، والشعير بالشعير، والأرز بالأرز، والذُّرة بالذُّرة، وغيرها، وكذلك بذورها.
وقوله: “والمائعات” يعني مثل: الزيت، واللبن، ونحو ذلك مما يُباع بالكيل.
لكن أُورد عليهم إيرادٌ؛ قيل: إذا كانت المائعات يجري فيها الربا، فهل يجري الربا في الماء؟
قالوا: لا.
فكيف لا يجري الربا في الماء وأنتم تقولون: إنه يجري في المكيلات كلها؟
قالوا: نستثني الماء.
ولهذا قال:
الماء ليس بربويٍّ
لكن الماء ليس بربويٍّ.
يعني: يُستثنى الماء من المائعات التي يجري فيها الربا.
قالوا: لأنه لا يتمول عادةً؛ ولأنه مُباحٌ في الأصل، والناس شُركاء في ثلاثٍ، وذكر منها الماء.
وهذا الاستثناء مما يُضعف هذا القول، وهو: أن عِلة الربا الكيل أو الوزن، فالماء مكيلٌ، يعني: يُفترض على قاعدتهم أنه يجري فيه الربا، لكنهم استثنوه.
أمثلةٌ للمكيلات التي يجري فيها الربا
قوله:
ومن الثمار: كالتمر، والزبيب، والفستق، والبندق، واللوز، والزُّعْرُور، والبُطْم، والعُنَّاب، والمشمش، والزيتون، والملح.
هذه كلها أمثلةٌ للمكيلات التي يجري فيها الربا؛ لأنها مكيلةٌ، مطعومةٌ.
هذا الذي ذكره المُصنف أمثلةٌ للمكيلات التي يجري فيها الربا.
أمثلةٌ للموزونات التي يجري فيها الربا
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للتَّمثيل للموزونات التي يجري فيها الربا.
قال:
والموزون: كالذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، والحديد، وغزل الكتان، والقطن، والحرير، والشعر، والقُنَّب، والشَّمع، والزعفران، والخبز، والجبن.
هذه أمثلةٌ للموزونات التي يجري فيها الربا عنده.
طيب، إذن عرفنا القول الأول في عِلة الربا: أنه الكيل أو الوزن.
العِلة في الذهب والفضة
القول الثاني: أن العِلة في الذهب والفضة هي غلبة الثَّمنية، وفيما عداهما الطُّعْم.
وهذا هو المشهور عند الشافعية، وروايةٌ عن الإمام أحمد.
القول الثالث: أن عِلة الربا في النَّقدين الثَّمنية، ويُقاس عليها ما جُعل أثمانًا: كالأوراق النقدية، والعِلة فيما عداها الطُّعْم مع الكيل أو الوزن.
وبهذا قال الإمام الشافعي في القديم، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد اختارها المُوفق ابن قُدامة وأبو العباس ابن تيمية.
وكنتُ فيما سبق أُرجح هذا القول، بل في الطبعة الأولى من “السلسبيل” ذُكِرَ ترجيح هذا القول، لكن تباحثتُ مع بعض طلبة العلم في هذه المسألة كثيرًا، ورأيتُ أن القول الأخير الذي سأذكره الآن هو أقرب من هذا القول، وهو: قال بعض أهل العلم: إن عِلة الربا في النَّقدين الثَّمنية، وفيما عداهما كونه مطعومًا وقُوتًا مُدَّخَرًا للناس.
والمراد بالقُوت: الطعام الذي تقوم به بنية الآدمي وصيانتها بحيث يمكنها الاقتصار عليه.
والمراد بالادِّخار: عدم فساده بالتَّأخير.
وفي معنى القُوت: ما لا يُؤكل وحده، لكن يُؤكل مع غيره من الأطعمة الأخرى: كالملح، والزيت، ونحوهما.
وهو قول بعض المالكية، واختاره ابن القيم، وهذا هو القول الراجح.
طيب، لماذا رجحتُ هذا القول؟
لأنه قد جاء في حديث معمرٍ.
طيب، نذكر أولًا وجه هذا القول.
وجه هذا القول بالنسبة للذهب والفضة: الذهب والفضة وما يقوم مقامهما -كالأوراق النقدية- هذه قوام الأموال، ومعيارٌ يُتوصل به إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يُقصد الانتفاع بعينها، فكان التَّعليل بالثَّمنية وصفًا مُناسبًا للحكم.
وأما الدليل على أن عِلة الربا فيما عدا النَّقدين كونه مطعومًا وقُوتًا للناس: فحديث معمر بن عبدالله: أن النبي قال: الطعام بالطعام مِثْلًا بِمِثْلٍ [7].
قوله: الطعام بالطعام يشمل جميع أنواع الطعام، ولم يُقيده بالمكيل والموزون.
وفي حديث عُبادة لم يُذكر فيه من الأطعمة إلا ما كان قوتًا للناس، فَذُكِرَتْ هذه الأربعة: التمر، والبُرّ، والشَّعير، والملح، وهذه أقوات الناس، التمر والبُرّ والشعير هذه أقوات الناس في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، والملح يُصْلَح به الطعام، فهذه أقوات الناس التي يمكن ادِّخارها، وحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم لغيرها؛ فَمُنِعُوا من بيع بعضها ببعضٍ لأَجَلٍ، سواء اتَّحد الجنس أو اختلف، ومُنِعُوا من بيع بعضها لبعضٍ حالًّا مُتفاضلًا، وإن اختلفتْ صفاتها، وجُوِّز لهم التَّفاضل مع اختلاف أجناسها؛ لأنه لو جُوِّز بيع بعضها ببعضٍ مطلقًا -يعني: حالًّا ونَسِيئةً- لم يفعل ذلك أحدٌ نَسَأً إلا إذا ربح، وهذا يُؤدي إلى ارتفاع أسعارها؛ فيشتدّ الضَّرر على الناس.
عندما نتأمل هذه الأصناف الستة: الذهب والفضة واضحٌ أن العِلة هي الثَّمنية؛ لأن الذهب والفضة كانت الدنانير من الذهب، والدراهم من الفضة، وهي معيار الأموال، فلو أُذِنَ للناس في بيع بعضها ببعضٍ لأصبح الناس يتربحون فيها، وانتقلتْ من كونها معيارًا للأموال إلى كونها سلعةً يتربح الناس فيها؛ فيشتدّ الضَّرر على الناس.
الأصناف الأربعة الأخرى التي هي: البُرّ والشعير والتمر والملح، ما الوصف الجامع بينها؟
الوصف الجامع هو: أنها قُوتٌ للناس، ومُدَّخَرةٌ، تُدَّخَر، وقُوتٌ للناس، هذا هو الوصف الجامع بينها، وهذه هي أقوات الناس في عهد النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما قول الشافعية الذي كنتُ قد رجَّحتُه: الطُّعْم مع الكيل أو الوزن، الطُّعْم طبعًا قريبٌ من القول الذي رجَّحتُه، وهو القُوت، لكن ذُكِرَ معه الكيل، الطُّعْم مع الكيل أو الوزن، فَيَرِد عليه: أن ذكر الكيل في حديث معمر إنما هو لأجل تحقيق المساواة، فلا مدخل له في العِلة: الطعام بالطعام مِثْلًا بِمِثْلٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ هذا لأجل تحقيق المساواة، وليس له علاقةٌ بالعِلة، فالعِلة هي قوله: الطعام يعني: القُوت المُدَّخر.
فهذا هو الذي يظهر -والله أعلم-: أن هذه الأربع بينها وصفٌ جامعٌ، وهو: أنها قُوتٌ وتُدَّخر، والذهب والفضة معيار الأموال، فبهذا أصبحت العِلة ظاهرةً ومعقولة المعنى.
هذا هو الأقرب -والله أعلم- في العِلة الربوية: أنها في الذهب والفضة الثَّمنية؛ ولذلك يجري الربا في الأوراق النَّقدية.
وبالنسبة لغير الذهب والفضة: أنها القُوت والادِّخار، كونه مطعومًا وقُوتًا مُدَّخرًا للناس.
بناءً على ذلك يجري الربا في الذهب والفضة والأوراق النقدية، ويجري في كل ما اجتمع فيه الكيل أو الوزن مع الطُّعْم: كالأرز، والبُرّ، والتمر، واللحم، واللَّبَن، وما سوى ذلك مما لا يُؤكل ولا يُطْعَم لا يجري فيه الربا ما عدا الذهب والفضة والأوراق النقدية.
أي شيءٍ لا يُؤكل لا يجري فيه الربا إلا إذا كان ذهبًا أو فضةً أو أوراقًا نقديةً، مثل: السيارات، والجوالات، والأقلام، هذه كلها لا يجري فيها الربا، فيجوز أن تبيع سيارةً بسيارتين، وقلمًا بقلمين، وجوالًا بجوالين.
وكذلك أيضًا ما وُجِدَ فيه الطَّعْم -وليس الطُّعْم- لكنه ليس قُوتًا لا يجري فيه الربا، مثل الفواكه: البرتقال والتفاح والخوخ والموز؛ لأن هذه ليست قُوتًا تُدَّخر.
لا يجري الربا في المعدود، ولا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن
وما عدا ذلك فمعدودٌ لا يجري فيه الربا: كالبطيخ، والقِثَّاء، والخيار، والجوز، والبيض، والرمان.
يعني: لا يجري الربا في المعدود حتى لو كان هذا المعدود مطعومًا؛ لأنها ليست مكيلةً، ولا موزونةً.
وكذلك لا يجري الربا في أي شيءٍ لا يُكال ولا يُوزن، وهذا بناء على أن العِلة هي الكيل أو الوزن، وعلى القول الراجح: القوت والادِّخار، لا يجري الربا في الأشياء المذكورة؛ لأنها ليست من القُوت الذي يدَّخره الناس عادةً.
قوله:
ولا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن: كالثياب، والسلاح، والفلوس، والأواني غير الذهب والفضة.
وهذا -كما ذكرنا- بناء على المذهب من أن العِلة هي الكيل أو الوزن.
ما أخرجته الصناعة عن حقيقته -كالثياب- لا يجري فيه الربا، فيجوز بيع ثوبٍ بثوبين، وسيفٍ بسيفين، والأواني أيضًا من غير الذهب والفضة.
كذلك لا يجري الربا في الإسمنت، ولا في الحديد، ولا في مشتقات البترول؛ لأنها ليست قُوتًا مُدَّخرًا، ولا يجري الربا في الأدوات الكهربائية، وفي أثاث المنزل، ونحو ذلك.
هذا حاصل كلام أهل العلم في عِلة الربا.
قواعد مهمة في باب الربا
ننتقل إلى الفصل الثاني في باب الربا، في قواعد مهمةٍ في هذا الباب.
قال المصنف رحمه الله:
فإذا بِيعَ المَكِيل بجنسه: كتمرٍ بتمرٍ، أو الموزون بجنسه: كذهبٍ بذهبٍ، صحَّ بشرطين: المُماثلة في القَدْر، والتَّقابض قبل التَّفرق.
طيب، حتى نُوضح للإخوة الذين يُتابعون الدرس، هناك خلاصةٌ نريد أن نذكر فيها ثلاث قواعد، ثم نعود لعبارة المؤلف نُفَرِّعها على هذه القواعد الثلاث، وهي بعدها بصفحتين -صفحة 132- ويمكن أن نضبط بيع ما يجري فيه الربا بثلاث قواعد.
انتبه لهذه القواعد الثلاث، فإذا ضبطتها وفهمتها فهمتَ هذا الباب.
- القاعدة الأولى: إذا اختلفت العِلة في الشيء الربوي فلا يُشترط التَّقابض ولا التَّماثل.
مثال ذلك: بيع بُرٍّ بأوراقٍ نقديةٍ، العِلة في الأوراق النَّقدية: الثَّمنية، والعِلة في البُرِّ: القوت والادِّخار، إذن العِلة مُختلفةٌ، وما دامت العِلة مُختلفةً لا يُشترط تقابضٌ ولا تماثلٌ.
لو اشتريتَ بُرًّا، وقلتَ: آتي لك بالمبلغ -إن شاء الله- بعد يومين، أو بعد ثلاثة أيامٍ، أو بعد شهرٍ، يجوز.
ومثل ذلك: بيع التمر بأوراقٍ نقديةٍ، لا يُشترط تقابضٌ ولا تماثلٌ؛ لاختلاف العِلة.
- القاعدة الثانية: إذا اتَّحدت العِلة في الشيء الربوي مع اتِّحاد الجنس: كتمرٍ بتمرٍ، أو شعيرٍ بشعيرٍ، أو ذهبٍ بذهبٍ، فيُشترط في جواز بيع بعضه ببعضٍ شرطان: التَّماثل والتَّقابض في المجلس.
اتَّحدت العِلة، واتَّحد الجنس؛ يُشترط التَّماثل والتَّقابض. - القاعدة الثالثة: إذا اتَّحدت العِلة، واختلف الجنس -كتمرٍ بِبُرٍّ، وذهبٍ بفضةٍ- فيُشترط شرطٌ واحدٌ وهو التَّقابض، ولا يُشترط التَّماثل.
إذن القاعدة الأولى: إذا اختلفت العِلة لا يُشترط تقابضٌ ولا تماثلٌ.
اتَّحدت العِلة واتَّحد الجنس يُشترط شرطان: التَّماثل والتَّقابض.
اتَّحدت العِلة، واختلف الجنس، يُشترط شرطٌ واحدٌ وهو التَّقابض.
فإذا ضبطتَ هذه القواعد الثلاث ضبطتَ هذا الباب.
المُماثلة في القَدْر، والتَّقابض قبل التَّفرق
طيب، نعود لكلام المؤلف، نُفَرِّع على هذه القواعد.
قال:
فإذا بِيعَ المَكِيل بجنسه.
هنا اتَّحدت العِلة والجنس.
كتمرٍ بتمرٍ، أو الموزون بجنسه: كذهبٍ بذهبٍ.
فهنا كم يُشترط إذا اتَّحدت العِلة، واتَّحد الجنس؟
قلنا: يُشترط شرطان: التَّقابض والتَّماثل.
قال المصنف:
صحَّ بشرطين: المُماثلة في القَدْر، والتَّقابض قبل التَّفرق.
لقول النبي عليه الصلاة والسلام: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعير بالشَّعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سواءً بسواءٍ، يدًا بيدٍ، فإذا اختلفتْ هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ [8].
ما معنى: الجنس والنوع؟
الجنس: ما يشمل أشياء مختلفةً بأنواعها، مثل: التمر، فالتمر جنسٌ له أنواعٌ: التمر السّكري، والتمر الخلاص، والتمر الصفري، والتمر الخضري، والبُرُّ جنسٌ، والأرز جنسٌ، وهكذا.
المراد بالنوع: ما يشمل أشياء مختلفةً بأشخاصها، فالتمر جنسٌ، لكن له أنواعٌ: التمر السّكري نوعٌ، والتمر الخلاص نوعٌ، والتمر الصفري نوعٌ، والذي يُؤثر في الحكم هو اختلاف الجنس، وليس اختلاف النوع.
انتبه: الذي يُؤثر في الحكم اختلاف الجنس، وليس اختلاف النوع.
إذا اختلفت الأجناس يجوز بيع ما اختلفت أجناسها مُتفاضلًا إذا كان يدًا بيدٍ، أما إذا اختلف النوع مع اتِّحاد الجنس، فهذا الاختلاف غير مُؤثرٍ، فلا بد من اشتراط الشرطين السابقين: التَّماثل والتَّقابض.
يعني: لو أردتَ أن تبيع كيلو خلاص بكيلوين تمر -مثلًا- خضري أو صفري، هنا لا يجوز، ولو مع التَّقابض؛ لأنه يُعتبر تمرًا بتمرٍ، ولا يُنظر للنوع: هذا خلاص، وهذا سكري، وهذا صفري، لا يُنظر للنوع.
فالنوع لا يُنظر له، وإنما يُنظر للجنس، والنوع لا أثر له.
اتِّحاد العِلة واختلاف الجنس
قال المصنف رحمه الله:
وإذا بِيعَ بغير جنسه.
هذه هي القاعدة الثانية: اتَّحدت العِلة، واختلف الجنس.
وإذا بِيعَ بغير جنسه -كذهبٍ بفضةٍ، وبُرٍّ بشعيرٍ- صحَّ بشرط القبض قبل التَّفرق، وجاز التَّفاضل.
فكأن يُباع ذهبٌ -مثلًا- بورقٍ نقديٍّ، فضةٌ بذهبٍ، بُرٌّ بشعيرٍ، شعيرٌ بملحٍ، يُشترط فقط التَّقابض.
قال:
وإن بِيعَ المكيل بالموزون -كَبُرٍّ بذهبٍ مثلًا- جاز التَّفاضل والتَّفرق قبل القبض.
هذه هي القاعدة الأولى التي ذكرنا: أنه إذا اختلفت العِلة لم يُشترط تقابضٌ ولا تماثلٌ.
ومثَّل المؤلف قال: “كَبُرٍّ بذهبٍ”، هنا العِلة مختلفةٌ؛ عِلة البُرِّ: القُوت والادِّخار، والذهب: الثَّمنية، فالعِلة مختلفةٌ، فلا يُشترط التَّقابض ولا التَّماثل.
طيب، ما الدليل على أن اختلاف العِلة لا يُشترط فيه التَّقابض ولا التَّماثل؟
الدليل هو: قول النبي عليه الصلاة والسلام: فإذا اختلفتْ هذه الأصناف فَبِيعوا كيف شِئتُم إذا كان يدًا بيدٍ، لكن هذا ليس بصريحٍ في اختلاف العِلة.
الأصرح منه: أن النبي لما قدم المدينة وجد أهلها يُسْلِفُون في الثِّمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: مَن أَسْلَفَ في شيءٍ فَلْيُسْلِف في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ [9].
والسَّلَم فيه تعجيل الثمن للبائع، ثم يستلم المُشتري المُسْلَم فيه بعد مدةٍ، فمعنى ذلك: أنه يوجد الآن تأجيل ما بين الثمن وما بين المُثْمَن، فكانوا يُسْلِفُون في الثِّمار، يُسْلِفُون في البُرِّ -مثلًا- فلم يُشترط هنا التَّقابض بين البُرِّ والدنانير، فدلَّ ذلك على أنه لا يُشترط التَّقابض فيما اختلفتْ فيه عِلة جريان الربا، وهذا بالإجماع.
لا يصح بيع المَكِيل بجنسه وزنًا، ولا الموزون بجنسه كَيْلًا
طيب، نعود لعبارة المؤلف، قال:
ولا يصح بيع المَكِيل بجنسه وزنًا، ولا الموزون بجنسه كَيْلًا.
هذا تفريعٌ عن العِلة التي قررها المصنف، وهي: أن العِلة الكيل أو الوزن.
يقول: لا يجوز بيع المَكِيل بجنسه وزنًا، ولا الموزون بجنسه كَيْلًا؛ لأن المكيل يُفترض أن يكون بالكيل، والموزون بالوزن، والشارع قد اشترط المُساواة في بيع الربوي بجنسه، ولا تتحقق هذه المساواة إلا ببيع المكيل مَكِيلًا، والموزون موزونًا.
وهذا الكلام محل نظرٍ؛ ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا بأس ببيع المكيل وزنًا، أو بيع الموزون كيلًا إذا تحقق التَّساوي والتَّماثل؛ لأن النبي إنما اشترط فقط التَّماثل: مِثْلًا بِمِثْلٍ، والمثلية تتحقق فيما إذا تساويا في القدر.
وهذا هو القول الراجح، واختاره ابن تيمية وجمعٌ من المُحققين من أهل العلم.
وهذا الذي عليه عمل الناس من قديم الزمان، بل يُشبه الآن أن يكون إجماعًا عمليًّا على الجواز، فإن الناس تبيع المكيل موزونًا الآن، والآن يبيعون التمر بالوزن، ويبيعون البُرَّ بالوزن، مع أن هذه كلها مكيلات، فهذا يكاد يكون إجماعًا عمليًّا.
لا يوجد عالِمٌ كبيرٌ مُعتبرٌ الآن يقول: إنه لا يجوز بيع المكيل موزونًا.
أعطني عالِمًا كبيرًا في العالم الإسلامي يقول: إنه لا يجوز بيع المكيل موزونًا.
هذه المسألة تكاد تكون إجماعًا عمليًّا على جواز بيع المكيل بجنسه وزنًا، أو الموزون كيلًا.
هل يجري الربا في اللحم؟
يقول المصنف:
ويصح بيع اللحم بمثله إذا نُزِعَ عظمه.
كأن يبيع لحم غنمٍ بلحم غنمٍ، ولحم بقرٍ بلحم بقرٍ، إذا كان مُتماثلًا في الوزن مع التَّقابض.
يعني: يُشترط له التَّماثل والتَّقابض، وأيضًا أن تُنزع العظام.
وبحيوانٍ من غير جنسه.
يعني: لو بِيعَ اللحم بحيوانٍ من غير جنسه: كلحم ضأنٍ -مثلًا- ببقرةٍ جاز، أما إذا بِيعَ لحم الحيوان بجنسه: كلحم ضأنٍ بضأنٍ؛ لا يجوز، كلحم ضأنٍ بضأنٍ حيٍّ، يعني: لحم ضأنٍ بضأنٍ حيٍّ لا يجوز، أو لحم جملٍ بلحم جملٍ حيٍّ، أو لحم جملٍ بجملٍ حيٍّ، أو لحم بقرٍ ببقرٍ حيٍّ، لا يجوز؛ لما جاء عن سعيد بن المسيب: أن النبي نهى عن بيع اللحم بالحيوان [10]، وهذا مُرسلٌ، لكن مراسيل سعيدٍ لها قُوتها، وقد رُوي مرفوعًا من حديث سهلٍ وابن عمر.
القول الثاني: أنه يجوز بيع اللحم بالحيوان إذا حصل التَّقابض في المجلس، وهذا مذهب الحنفية.
القول الثالث: التَّفصيل؛ وذلك بأن يُنظر إلى قصد المُشتري للحيوان، فإن كان قصده بالشراء اللحم فلا يجوز بيع اللحم بالحيوان، أما إذا كان قصد المُشتري بشراء الحيوان الانتفاع بذلك الحيوان بغير الأكل -كالانتفاع به في الحَرْث أو الركوب ونحوهما- فيجوز بيع اللحم بالحيوان.
وهذا هو القول الراجح، واختاره ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المُحققين من أهل العلم.
بيع الدقيق بالدقيق
قال:
ويصح بيع دقيقٍ ربويٍّ بدقيقه إذا استويا نعومةً أو خشونةً، ورَطْبه بِرَطْبِه، ويابسه بيابسه، وعصيره بعصيره، ومطبوخه بمطبوخه إذا استويا نشافةً أو رطوبةً.
يعني: يجوز بيع دقيق الشيء الربوي بمثله: كبيع دقيق البُرِّ بدقيق البُرِّ، بشرط الاستواء في النُّعومة والخُشونة، بالإضافة لشرطي: التَّماثل والتَّقابض.
“ورَطْبه بِرَطْبِه” يعني: بيع رَطْبٍ بِرَطْبٍ مثله: كبيع رُطَبٍ بِرُطَبٍ، وعنبٍ بعنبٍ، مع التَّماثل والتَّقابض.
“ويابسه بيابسه” كبيع كيلو تمر بكيلو تمر مع التَّقابض والتَّماثل يجوز.
أما لو أراد أن يبيع الرُّطَب بالتمر فهذا لا يجوز، ومثل ذلك: بيع الرَّطْب باليابس عمومًا؛ لحديث سعد بن أبي وقاصٍ : أن النبي سُئل عن بيع الرُّطَب بالتمر، فقال: أينقص الرُّطَب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك [11]، وهذا حديثٌ صحيحٌ، أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما.
وذلك لأنه يتعذر تحقيق التَّماثل، يعني: لو أردتَ أن تبيع كيلو رُطَبٍ بكيلو تمرٍ مع التَّقابض، هل يجوز؟ كيلو رُطَبٍ بكيلو تمرٍ مع التَّقابض.
الجواب: لا يجوز.
طيب، كيلو بكيلو، هنا تماثلٌ مع التَّقابض، تحقق الشرطان: التَّقابض والتَّماثل، نقول مع ذلك: لا يجوز؛ لماذا؟
لأنه لا يمكن تحقيق التَّماثل تمامًا؛ ولهذا النبي لما سُئل عن بيع الرُّطَب بالتمر، قال: أينقص الرُّطَب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك.
وهذا يدل على تشديد الشريعة في شأن الربا، وعلى منع الذرائع المُوصلة للربا ولو من وجهٍ بعيدٍ؛ إذ إن النَّقص بين الرَّطْب واليابس ليس كبيرًا، ومع ذلك منع منه النبي عليه الصلاة والسلام: أينقص الرُّطَب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك، هذا يدل على تشديد الشَّارع في هذه المسائل.
ولهذا أبواب المعاملات وإن كان الأصل فيها الحِلّ والإباحة إلا أن مسائل الربا قد شدد فيها الشارع، وسَدَّ الذَّرائع المُوصلة للربا.
وقوله: “عصيره بعصيره” يعني: يجوز بيع عصير الشيء الربوي بعصير مثله، مثل: عصير عنبٍ بعصير عنبٍ، عصير تمرٍ بعصير تمرٍ، بشرط التَّقابض والتَّماثل.
“ومطبوخه بمطبوخه” يعني: مطبوخ الشيء الربوي بمطبوخه مع التَّقابض والتَّماثل.
“إذا استويا نشافةً أو رطوبةً” كخبزٍ بخبزٍ -مثلًا- وتساويا في الوزن والقدر والنَّشافة فلا بأس.
لا يصح بيع فرعٍ بأصله
قال:
ولا يصح بيع فرعٍ بأصله: كزيتٍ بزيتونٍ، وشَيْرَج بسمسم، وجبنٍ بِلَبَنٍ، وخبزٍ بعجينٍ، وزلابيةٍ بقمحٍ.
يعني: لا يجوز بيع ربويٍّ بأصله أو ما صُنِعَ منه، مثال ذلك: بيع الزيتون بزيت الزيتون لا يجوز؛ لاتِّحادهما في الجنس، وعدم تحقق التَّماثل بين الزيتون وزيت الزيتون.
وقوله: “وشَيْرَج” الشَّيْرَج هو زيت السمسم، فلا يجوز بيع زيت السمسم بالسمسم، ولا الجبن باللَّبَن، ولا الخبز بالعجين؛ لتعذر تحقق التَّماثل.
وقوله: “وزلابية”، الزلابية نوعٌ من الحلويات، وأظن أنها ما زالت تُسمى بهذا الاسم في بعض المجتمعات.
تُسمى عندكم يا شيخ حسن؟
المصور: …..
الشيخ: نعم، الأخ المصور يقول: إنها ما زالت تُسمى عندنا بهذا الاسم “زلابية” في مصر، وفي غيرها.
يعني: قوله هنا في “السلسبيل”: “يبدو أنها غير موجودةٍ الآن” يعني: في المملكة، لكنها موجودةٌ في مصر وبعض دول العالم العربي.
لا يجوز بيعها بقمحٍ؛ لتعذر تحقق التَّماثل.
طيب، هنا مسألة: أعيرة الحُلي بعضها مع بعضٍ.
الحُلي له أعيرةٌ مختلفةٌ في الجودة بحسب خلوص الذهب، أعلاها عيار 24، يكون الذهب فيه خالصًا 100%، أو مُقاربًا لذلك، يليه عيار 22، ثم عيار 18، ثم أيضًا 16، ثم 14 .. إلخ.
فعند بيع الحُلي مع اختلاف الأعيرة لا يجوز، يعني: لو أردتَ أن تبيع -مثلًا- عيار 24 بعيار 22 لا يجوز؛ لماذا؟
لعدم تحقق التَّماثل، حتى لو اتَّفقا في الوزن.
لو كان -مثلًا- جرام عيار 24 قديم، وجرام عيار 22 جديد، وأردتَ أن تبيع حُليًّا -مثلًا- 5 جرام عيار 24 بـ5 جرام عيار 22 لا يجوز؛ لماذا؟
لعدم تحقق التَّماثل في الذهب هنا؛ لأن عيار 22 ليس ذهبًا خالصًا، وإنما مخلوطٌ بغيره من نحاسٍ وغيره؛ ولهذا لا يجوز بيع خالصٍ ربويٍّ بمشوبه.
الفقهاء يقولون: لا يجوز بيع خالصٍ ربويٍّ بمشوبه.
المَخْرَج هنا سهلٌ، وهو: بِعِ الجَمْع بالدراهم، ثم ابْتَعْ بالدراهم جَنِيبًا [12]، هذا هو المخرج الذي أرشد إليه النبي .
فنقول: بِعِ الحُلِي من عيار 24 بدراهم، وَاشْتَرِ بالدراهم حُليًّا من عيار 22.
وهذا يدل على عظيم ثمرة الفقه في الدين، فالذي عنده الفقه في الدين يستطيع أن يُحَصِّل غرضه بطريقٍ مُباحٍ.
يعني: هذه المرأة باعتْ حُليًّا 24 بحُليٍّ 22.
نقول: وقعتِ في الربا، لكن باعتْ حُليًّا 24 بدراهم، واشترتْ بالدراهم حُليًّا 22.
نقول: هذا مخرجٌ صحيحٌ، مع أن النتيجة واحدةٌ، لكن هذا عين الربا، وهذا مخرجٌ أرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام.
لما أُتِيَ النبي بتمرٍ بَرْنِيٍّ، يعني: من النوع الجيد، قال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تفعل المخرج ما هو؟ بِعِ الجَمْع بالدراهم، ثم ابْتَعْ بالدراهم جَنِيبًا [13] يعني: تمرًا جيدًا.
طيب، النتيجة واحدةٌ.
بيع صاعين بصاعٍ عين الربا، وبيع صاعين بدراهم، ويشتري بالدراهم صاعًا من التمر الجيد، هذا مخرجٌ.
فلاحظ هنا: الفرق بين الحلال والحرام فرقٌ دقيقٌ جدًّا، وأحيانًا الصورية مُؤثرةٌ؛ ولذلك المشركون قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، ما الفرق: بيعٌ وربا كلها واحدٌ؟
قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فَرَدَّ الله عليهم: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].
نظير ذلك ما يقوله بعض الناس: لا فرق بين المصارف الإسلامية والمصارف الربوية.
وهذا غير صحيحٍ، بل بينها فرقٌ كبيرٌ، لكن الذي يقول ذلك لا يُدرك الفرق بين الحلال والحرام، وهو فرقٌ دقيقٌ، فالذي يقول ذلك يُشبه المقولة التي ذكرها الله تعالى عن المشركين: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.
لا بَيْعَ الحَبِّ المُشْتَدِّ في سُنبله بجنسه
نعود لعبارة المصنف.
قال:
ولا بَيعَ الحَبِّ المُشْتَدِّ في سُنبله بجنسه.
لا يجوز بَيع حَبِّ الزرع المُشتد وهو ما زال في سُنبله بجنسه، يعني: بِحَبٍّ مُصَفًّى من جنسه، وهذا يُسمى: مُحاقَلَة، وقد نهى النبي عنها [14].
ويصح بغير جنسه.
يعني: يصحّ بَيعُ الحَبِّ المُشتد من الزرع بغير جنسه؛ لعدم اشتراط التَّماثل، فلو باع الحبَّ المُشتد في سُنبله بتمرٍ -مثلًا- يجوز بشرط التَّقابض.
مسألة مُدِّ عجوةٍ ودرهم
ولا يصح بيع ربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما: كَمُدِّ عجوةٍ ودرهم بمثلهما، أو دينار ودرهم بدينار.
هذه المسألة يُسميها الفقهاء: مسألة مُدِّ عجوةٍ ودرهم.
مَثَّلَ لها المؤلف بِمُدِّ عجوةٍ ودرهم، وكأن يبيع مُدَّ تمرٍ ودرهم بِمُدِّ تمرٍ ودرهمين، لا تجوز؛ لماذا؟
لعدم تحقق التَّماثل.
العجوة هي نوعٌ من التمر كان موجودًا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، وجاءت تسميته في الأحاديث، منها: قوله عليه الصلاة والسلام: مَن تَصَبَّحَ بسبع تمرات عجوة لم يضرَّه في ذلك اليوم سُمٌّ ولا سحرٌ [15].
هل هذا يختص بتمر عجوة؟
الصحيح أنه لا يختص بتمر عجوة، وإنما يشمل جميع أنواع التمر؛ ولهذا جاء في بعض الروايات: مَن أكل سبع تمراتٍ مما بين لَابَتَيها [16]، فالصحيح عند المُحققين أنه لا يختص بتمر عجوة، ولا بتمر المدينة، وإنما يشمل جميع أنواع التمر، مَن تَصَبَّحَ بسبع تمراتٍ فإن هذا -بإذن الله – من أسباب الوقاية من السم والسحر.
اختلف الفقهاء في مسألة مُدِّ عجوةٍ ودرهم على قولين:
- القول الأول قول الجماهير: إنها لا تجوز؛ لحديث فَضَالَة، قال: اشتريتُ يوم خيبر قلادةً باثني عشر دينارًا فيها ذهبٌ وخرزٌ، فَفَصَّلْتُها فوجدتُ فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرتُ ذلك للنبي ، فقال: لا تُباع حتى تُفَصَّل [17]، وفي روايةٍ: لا، حتى تُميز بينهما [18].
هنا نهى النبي عن بيع القلادة بالدنانير؛ لأن القلادة فيها ذهبٌ، وفيها خرزٌ، فكأنه باع ذهبًا وخرزًا بذهبٍ، فلا يجوز.
- القول الثاني: أنها تجوز -مسألة مُدِّ عجوةٍ ودرهم- بشرط: أن يكون المُفرد أكثر من الذي معه غيره، وكانت هذه الزيادة تُقابل الشيء الآخر.
هذا مذهب الحنفية، وروايةٌ عند الحنابلة اختارها ابن تيمية، رحمة الله على الجميع.
مثال ذلك: أن يبيع صاعين من تمرٍ بصاع تمرٍ ودرهم.
فهنا صاعان مقابل صاعٍ ودرهم.
طيب، ما المفرد هنا؟
نحن قلنا: بشرط أن يكون المفرد أكثر، فما المفرد هنا؟
المفرد: الصاعان، فالصاعان أكثر من الذي معه غيره؛ لأن الذي معه غيره: صاع ودرهم، فيكون هذا جائزًا، لكن لو كان صاعان بصاعين ودرهم لا يجوز.
إذن قول ابن تيمية ومَن وافقه: أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، يعني: يكون صاعان بصاعٍ ودرهم يجوز، لكن صاعان بصاعين ودرهم لا يجوز.
قول الجمهور أحوط، وقول ابن تيمية له قُوته، القول الثاني له قوته.
يصح بيع نوعين من جنسٍ واحدٍ بنوعٍ واحدٍ
قال:
ويصح: أعطني بنصف هذا الدرهم فضةً، أو بالآخر فلوسًا.
يعني: يصح بيع نوعين من جنسٍ واحدٍ بنوعٍ واحدٍ، كأن يقول: أعطني نصف هذا الدرهم فضةً، ونصفه الآخر فلوسًا، أو أعطني نصف هذا الدرهم فضةً، ونصفه الآخر صاعًا من بُرٍّ -مثلًا- بشرط: وجود التَّساوي في الفضة، والتَّقابض في المجلس.
يصح صرف الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مُتماثلًا وزنًا، لا عدًّا
قال:
ويصح صرف الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مُتماثلًا وزنًا، لا عَدًّا، بشرط: القبض قبل التَّفرق.
وذلك لأجل أن يتحقق التَّماثل، بشرط: التَّقابض قبل التَّفرق.
فعند صرف الدنانير بالدنانير والدراهم بالدراهم لا بد من التَّماثل في الوزن دون العَدِّ.
وهذا بناء على ما هو موجودٌ في زمن المؤلف.
المؤلف قال: “وزنًا، لا عَدًّا” بناء على ما هو موجودٌ في زمنهم.
أما في وقتنا الحاضر فلا نحتاج لهذه المسألة؛ لأن تعامل الناس أصبح بالأوراق النَّقدية.
طيب، الأوراق النَّقدية أول ما برزتْ اختلف العلماء في حكمها، ثم استقرَّ رأي المجامع الفقهية والهيئات العلمية وعامة العلماء المعاصرين على أن الأوراق النَّقدية نقدٌ قائمٌ بذاته، عِلته الثَّمنية، كقيام الثَّمنية في الذهب والفضة، وأن كل جهةٍ تُعتبر جنسًا: فالريال السعودي جنسٌ، والجنيه المصري جنسٌ، والدولار جنسٌ، واليورو جنسٌ، وهكذا.
تعويض أحد النَّقدين عن الآخر بسعر يومه
قال:
وأن يُعوض أحد النَّقدين عن الآخر بسعر يومه.
يعني: لو اشترى شيئًا، وثبت في ذِمَّة المُشتري دنانير، فأراد أن يُعوض عنها بدراهم، أو العكس، يجوز الصرف، لكن بشرط: أن يكون بسعر يومه، بسعر اليوم الذي حصل فيه البيع.
يعني مثلًا: اشترى سيارةً بمئة ألف ريالٍ، قال: أنا أريد بدل الريالات دولارات. يجوز بشرط: أن يكون ذلك بسعر الدولار بالريال في نفس اليوم؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أتيتُ رسول الله فقلتُ: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير. فقال النبي : لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيءٌ [19]، أخرجه أصحاب السنن، لكن الصحيح وقفه، ولا يصح مرفوعًا إلى النبي .
ونظير هذه المسألة -كما ذكرنا- لو اشتريتَ من إنسانٍ سلعةً بريالاتٍ، وأردتَ أن تُسدد له بعملةٍ أخرى: كدولارات، أو يورو، أو جنيهات، فيجوز بشرط: أن يكون ذلك بسعر يومها، وتتفرقا وليس بينكما شيءٌ.
ربا الديون
طيب، ربا الديون بعض العلماء يُفرده بقسمٍ مُستقلٍّ، وبعضهم يجعله تابعًا لربا النَّسيئة، وهذا الأقرب.
وأبرز صوره: صورة ربا الجاهلية، إذا حلَّ الدَّين على المدين أتى الدائن للمدين وقال له: إما أن تقضي، وإما أن تُرْبِي. يعني: إما أن تُسدد الدَّين، ولا آخذ عليك شيئًا، وإما ألا تُسدد، وأحسب عليك فائدةً ربويةً.
نظير هذا الشرط الجزائي في الديون، فالشرط الجزائي في الديون مُحرمٌ.
الشرط الجزائي ينقسم إلى قسمين:
- شرطٌ جزائيٌّ في الديون.
- وشرطٌ جزائيٌّ في غير الديون.
الشرط الجزائي في الديون مُحرمٌ، والشرط الجزائي في غير الديون جائزٌ.
طيب، نُوضح هذا بمثالٍ: الشرط الجزائي في الديون كرجلٍ اشترى سلعةً بثمنٍ مُؤجلٍ، واشترط البائع على المُشتري: أن المشتري إذا تأخر في السداد فإنه يحسب عليه غرامة تأخيرٍ، فهذا مُحرمٌ، وهو نظير ربا الجاهلية الذين كانوا إذا حلَّ الدَّين على المدين يقول الدائن للمدين: إما أن تقضي، وإما أن تُرْبِي.
مثال الشرط الجزائي في غير الديون: أن يتعاقد شخصٌ مع آخر على بناء عمارةٍ -مثلًا- ويُنجزها خلال سنةٍ، يُنجز البناء خلال سنةٍ، لكن إذا تأخر المقاول ولم يُنجز البناء، فيحسب عليه مبلغًا مُعينًا كشرطٍ جزائيٍّ عن كل يوم تأخير، وهذا لا بأس به، وقد أجازته هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، ورُويتْ فيه آثارٌ عن بعض السلف.
فالشرط الجزائي في غير الديون جائزٌ، والشرط الجزائي في الديون لا يجوز.
طيب، من صور ربا الديون في وقتنا الحاضر: الربا الموجود في بعض البطاقات الائتمانية، مثل: بطاقة (الفيزا) و(ماستر كارد) ونحوها، فيشترطون فيها شرطًا جزائيًّا، يقولون: نُتيح لك فرصة السداد خلال فترة السماح المجانية، فإذا سددتَ خلال فترة السماح المجانية لا يُحسب عليك شيءٌ، لكن إذا تأخرتَ يُحسب عليك غرامة تأخيرٍ عن كل يومٍ. فهذا نظير ربا الجاهلية؛ إذا حلَّ الدَّين على المدين يقول الدائن للمدين: إما أن تقضي، وإما أن تُرْبِي.
كذلك البطاقة الائتمانية إذا حلَّ الدَّين على صاحب البطاقة، هذا البنك يقول لصاحب البطاقة: إما أن تقضي، وإما أن تُرْبِي، إما أن تُسدد هذا الدَّين -دين البطاقة- وإما أن أُؤخر لك سداد الدَّين مقابل غرامة تأخيرٍ، يُسمونها: غرامة تأخيرٍ، فهذا نظير ربا الجاهلية، ولا يجوز.
لكن المصارف الإسلامية في بطاقات الائتمان لا تحسب غرامة تأخيرٍ عند التَّأخر عن السداد؛ لأن هذا مُحرمٌ، وعلى ذلك البطاقات الائتمانية المُستخرجة من البنوك الإسلامية لا بأس بها، يعني: بطاقة (فيزا) من مصرفٍ إسلاميٍّ لا بأس بها، أو بطاقة (ماستر كارد) أو أي بطاقةٍ ائتمانيةٍ من مصرفٍ إسلاميٍّ لا بأس بها؛ لأن المصارف الإسلامية لا تحتسب غرامة تأخيرٍ عند التَّأخر عن السَّداد، أما المصارف التقليدية فإنها تحتسب غرامة تأخيرٍ عند التَّأخر عن السَّداد، وغرامة التَّأخير هنا لا تجوز.
طيب، هناك رأيٌ لبعض العلماء المعاصرين، وهو: أنه يجوز احتساب شرط غرامة التأخير بشرط: أن الجهة التي احتسبتها لا تأخذ الغرامة لنفسها، وإنما تصرفها في وجوه البِرِّ.
وأول مَن قال بهذا: مصطفى الزرقا رحمه الله، وتبعه على ذلك بعض العلماء المعاصرين.
وعلى ذلك تجد بعض التطبيقات في وقتنا الحاضر، مثلما يحصل في شركة تمارا وغيرها، وبناءً على هذا الرأي الفقهي.
والأقرب -والله أعلم- أن هذا لا يجوز، وصدر به قرارٌ من المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي؛ لأن هذا يُحتسب ربًا، فهو يقول: إذا تأخرتَ عن سداد الدَّين سأحسب عليك غرامةً.
هذا شرطٌ ربويٌّ، نظير ربا الجاهلية: إما أن تقضي، وإما أن تُرْبِي.
كونه بعد ذلك يأخذ هذه الغرامة ويجعلها في وجوه البِرِّ، أو يأخذها لنفسه، هذا غير مُؤثرٍ، فالأقرب -والله أعلم- أن هذا لا يجوز؛ لأن المعنى الذي لأجله مُنِعَ الربا -يعني المعنى الرئيس- هو: ما فيه من الظلم لهذا الفقير، وهذا المدين، وهذا مُتحققٌ هنا، فهم يقولون له: إن تأخرتَ عن السداد سنأخذ منك غرامةً، لكن لن نأخذها نحن، سنُعطيها للفقراء والمساكين.
هذا لا يُغير من الحكم شيئًا، فالأقرب أن غرامة التأخير لا تجوز مطلقًا، سواء أخذتها الجهة التي احتسبتها، أو لم تأخذها وصرفتها في وجوه البِرِّ، لكن بعض المؤسسات والبنوك والشركات تقول: طيب، كيف نجعل هذا المدين يُسدد؟ إذا لم نحسب عليه غرامة تأخيرٍ سيُماطل.
نقول: هناك طرقٌ أخرى:
أولًا: ينبغي دراسة حالة هذا الذي يريد أن يستدين، فلا يُعطي البنك الدَّين لأي شخصٍ، وإنما ينظر إلى ملاءته، وإلى تاريخ سجله، ونحو ذلك.
أيضًا هنا عندنا في المملكة العربية السعودية الذي لا يُسدد -يتعثر في السَّداد- يُوضع اسمه في سمةٍ، فلا تتعامل معه البنوك الأخرى، ولا الجهات الأخرى.
يعني: هناك عدة طرقٍ لتحفيز هذا المُستدين لسداد الدَّين، أما أن يُحسب عليه غرامة تأخيرٍ فهذا نظير ربا الجاهلية.
أيضًا من صور ربا الديون في وقتنا الحاضر -وهي مسألةٌ قديمةٌ-: قلب الدَّين، لكن تُمارسها بعض البنوك بطريقةٍ أخرى؛ بإعادة جدولة الديون بطريقةٍ يزيد فيها مقدار المُتبقي من الدَّين القديم، فهذه من صور قلب الدَّين المُحرم، فتكون هناك مديونيةٌ على أحد العملاء، فيقول البنك: نحن نعمل لك إعادة جدولة. ويزيدون في الدَّين القديم بسبب هذه الجدولة، فهذا لا يجوز، هذا من صور قلب الدَّين المُحرم.
إعادة التمويل
ما حكم طلب إعادة التمويل من البنك؟
إعادة التمويل من البنك: إذا كان التمويل الجديد بزيادةٍ فهذا من قلب الدَّين المُحرم، لكن إذا كان التمويل الجديد بالربح المعتاد، ولم ينصّ فيه على أنه لغرض سداد الدَّين القائم؛ فلا بأس به.
وبعض المصارف مثل: مصرف الراجحي يشترط: أن يُمَكَّن العميل من مبلغ التمويل الجديد تمكينًا حقيقيًّا بسحبه والتَّصرف فيه، وبقاؤه مدةً لا تقلّ عن يومي عمل.
إذن إعادة التمويل إذا كان مُنضبطًا بالضوابط الشرعية -كإعادة التمويل الموجود لدى المصارف الإسلامية- فلا بأس به، أما إذا لم يكن مُنضبطًا بالضوابط الشرعية فيدخل في صورة قلب الدَّين المُحرم.
بهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن مسائل الربا، ونأخذ ما تيسر في باب “بيع الأصول والثمار”.
بيع الأصول والثِّمار
باب: بيع الأصول والثمار.
الأصول جمع أصلٍ، وهو ما يُبنى عليه غيره، ويُطلق على ما يتفرع عنه غيره.
والمقصود بالأصول عند الفقهاء في هذا الباب: الدور والأراضي والأشجار.
إذا قالوا: الأصول، يقصدون بها: الدور والأراضي والأشجار، فإذا بِيعَتْ هذه، ما الذي يكون للبائع؟ وما الذي يكون للمُشتري؟
إذا كان هناك شرطٌ فيُعمل بهذا الشرط؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: المسلمون على شروطهم [20]، وهكذا لو كان هناك عُرْفٌ؛ لأن المعروف عُرْفًا كالمشروط شرطًا.
إذا لم يكن هناك شرطٌ ولا عُرْفٌ، فالبيع يشمل الأشياء المتصلة بتلك الأصول، ولا يشمل الأشياء المُنفصلة، هذه هي القاعدة في هذا الباب: أن البيع يشمل الأشياء المتصلة، ولا يشمل الأشياء المنفصلة، وعلى ذلك كلام المصنف رحمه الله، فكل كلام المؤلف يدور حول هذه القاعدة.
قال:
مَن باع، أو وهب، أو رهن، أو وقف دارًا، أو أقرَّ أو أوصى بها، تناول.
يعني: تناول البيع.
أرضها، وبناءها، وفناءها إن كان.
يعني: تناول الأشياء المتصلة.
ومثَّل المؤلف للأشياء المتصلة بالأرض، وكذلك البناء، وأيضًا الفناء إن كان موجودًا.
والفناء: هو ما اتَّسع أمام الدار أو الأرض، يُسميه بعض الناس بالمقدمة، مقدمة البيت، فهذه تدخل في مُسمى العقد.
فهذه كلها أمثلةٌ للأشياء المتصلة التي يشملها البيع، فالأشياء المتصلة يتناولها العقد، وتتبع الدار؛ فتكون للمشتري، والأشياء المنفصلة تكون للبائع، هذه هي القاعدة: أن البيع يشمل الأشياء المتصلة بتلك الأصول فتكون للمشتري، ولا يشمل الأشياء المنفصلة، بل تبقى للبائع.
وقوله: “إن كان” يعني: إن وُجِدَ فناء؛ لأن الغالب على الدور أنها ليست لها أفنيةٌ، وفي وقتنا الحاضر أصبحت لها أفنيةٌ تُحاط بسورٍ، لكن قديمًا كان فناء الدار أمامها، تابعًا لها.
يعني: أصبح الآن كود بعض الأبنية بناءً على هذا: أن الفناء يكون بدون سورٍ، يكون أمامها، فيكون من الأشياء المتصلة بالدار؛ فيتبع البيع، يعني: يكون من حصة المشتري، من نصيب المشتري.
ومُتَّصلًا بها لمصلحتها كالسلاليم.
ما كان مُتَّصلًا بها كالسلم والدَّرَج -ويُسمى: المِرْقَاة- فهذه تابعةٌ لأصلها، فتدخل في البيع، يعني: تكون من نصيب المشتري.
والرُّفوف المُسَمَّرة.
يعني: المُلصقة تأخذ حكم المتصل إذا كانت مُسَمَّرةً، أما إذا لم تكن مُسَمَّرةً ويسهل فكُّها؛ فلا تأخذ حكم المتصل.
والأبواب المنصوبة.
يعني: تأخذ حكم المتصل فيشملها البيع، يعني: تكون للمشتري، بخلاف الأبواب المخلوعة لا تدخل.
والخَوَابي المدفونة.
الخَوَابي جمع خابيةٍ، وهو الوعاء الذي يُحفظ فيه الماء، كانوا في السابق يضعون هذه الخَوَابي في باطن الأرض، أو يدفنونها، فهذه يشملها البيع، فتكون للمشتري؛ لأنها كالمتصل.
وما فيها من شجرٍ وعُرُشٍ.
يعني: الشجر المغروس في الدار يدخل في البيع.
والعُرُش هو: ما يُسمى في الوقت الحاضر بالمظلة، فهذا أيضًا يدخل في البيع فيكون للمشتري.
وبعدما مثَّل المؤلف للأشياء المتصلة انتقل للتَّمثيل للأشياء المنفصلة فقال:
لا كنز وحجر مدفونين.
الكنز: المال المدفون في الدار، فالكنز والحجر المدفونان في الدار هما مُودعان فيها، ليسا جزءًا من أجزائها، فيُعتبران مُنفصلين.
ولا مُنفصلًا: كحبلٍ، ودَلْوٍ، وبكرةٍ.
يعني: هذه أمثلةٌ لما هو موجودٌ في زمن المؤلف، فهذه أمثلةٌ للأشياء المنفصلة التي لا يشملها البيع، يعني: تبقى للبائع.
وفرشٍ ومفتاحٍ.
يعني: هذه أيضًا أمثلةٌ للأشياء المنفصلة التي لا يشملها البيع، لكن ذهب بعض الفقهاء إلى استثناء المفاتيح، وقالوا: هي وإن كانت مُنفصلةً إلا أنها في مصلحة المبيع، فتكون كالمتصلة، فيشملها البيع، خاصةً في وقتنا الحاضر، فإن للمفاتيح أهميةً كبيرةً.
وعلى هذا فالقول الراجح: أن المفاتيح حكمها حكم المتصل، ويشملها البيع.
وعلى هذا يمكن أن نضع ضابطًا في هذا الباب: أن الأشياء المتصلة يشملها البيع، فتكون للمشتري، والأشياء المنفصلة لا يشملها البيع، فتكون للبائع، ويُستثنى من ذلك على القول الراجح المفاتيح، فإنها وإن كانت مُنفصلةً إلا أنها يشملها البيع.
طيب، لو أخذنا أمثلةً في وقتنا، يعني: لو أخذنا أمثلةً من الواقع المعاصر: المغاسل المتصلة هذه يشملها البيع، والمُكيفات -إذا كان التَّكييف مركزيًّا- يشملها البيع وتُعتبر من الأشياء المتصلة، فتكون للمشتري، أما إذا كانت مُكيفات شباك فهذه لا يشملها البيع؛ تكون للبائع، إن أراد أن يفكها ويحملها معه فلا بأس.
المُكيفات التي تُسمى: مُكيفات (اسبلت) هل يشملها؟ هل تُعتبر في حكم المتَّصل أو في حكم المنفصل؟
هي أقرب للمنفصل منها للمتصل، يعني: المركزية هذه متصلةٌ، واضحٌ، هي متصلةٌ بالبناء، لكن مُكيفات الشبابيك ومُكيفات (اسبلت) هذه أقرب للمنفصلة؛ فلا يشملها البيع.
الغاز إذا كان مركزيًّا فهو في حكم المتصل، يشمله البيع، أما إذا كان أنبوبة غازٍ تُحْمَل فهذه مُنفصلةٌ، فلا يشملها البيع.
طيب، ما الذي يضبط ذلك؟ يضبط المتصل من المنفصل.
هو العُرف، المرجع في ذلك للعُرف.
قال:
وإن كان المُباع ونحوه أرضًا دخل فيها ما فيها من غراسٍ وبناءٍ.
لأن الغراس والبناء من الأشياء المتصلة، فيشملها البيع.
لا ما فيها من زرعٍ لا يُحْصَد إلا مرةً: كَبُرٍّ، وشعيرٍ، وبصلٍ، ونحوه، ويبقى للبائع إلى أول وقت أخذه بلا أجرةٍ ما لم يشترطه المُشتري لنفسه.
إذا كان في الأرض زرعٌ أو ثمرٌ لا يُحْصَد إلا مرةً واحدةً: كالبُرِّ والشعير والبصل، ونحوه، فهذه لها حكم المنفصل، لا يشملها البيع، تكون للبائع، وتبقى في الأرض المبيعة إلى وقت صلاح أخذها بلا أجرةٍ على البائع إلا إذا اشترط المشتري الزرع الذي في الأرض أو الثمر لنفسه، فالمسلمون على شروطهم.
قال:
وإن كان يُجَزُّ مرةً بعد أخرى: كَرَطْبَةٍ.
الرَّطبة المقصود بها: نبات البرسيم.
وبُقُولٍ، أو تكررتْ ثمرته: كقِثَّاء وباذنجان، فالأصول للمُشتري، والجَزَّة الظاهرة واللقطة الأولى للبائع.
يعني: إذا كان الزرع أو الثمر مما يُجَزُّ مرارًا، مثلما مثَّل المؤلف بالبرسيم والقِثَّاء والباذنجان، فهذه الأشياء لها حكم الأشياء المتصلة، تكون للمشتري، يعني: يشملها البيع، تكون للمشتري، وما ظهر منها من الجَزَّة واللقطة الظاهرتين عند العقد فهي للبائع؛ لأنها تُحْصَد مع بقاء أصلها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: مَن باع نخلًا قد أُبِّرَتْ فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المُبتاع [21]؛ وذلك لأن الثمرة التي قد أُبِّرَتْ -وهكذا الجَزَّة واللقطة الظاهرتين- قد تعلَّقتْ بها نفس البائع، فكانت الحكمة تقتضي أن تكون له، وما بعد ذلك يكون للمشتري.
قال:
وعليه قطعهما في الحال.
يعني: على البائع قطع ما كان له من الجَزَّة الظاهرة على الفور إذا صارتْ إلى حال الانتفاع بها.
طيب، نأخذ هذا الفصل.
قال:
فصلٌ:
وإذا بِيعَ شجر النَّخل بعد تشقق طلعه، فالثمر للبائع متروكًا إلى أول وقت أخذه.
إذا بِيعَ شجر النخل وفيه ثمرٌ، فهذا الثمر يكون للبائع، لكن المؤلف ضبط ذلك فقال: بعد تشقق الطلع، يعني: قبل تشقق الطلع لا يكون للبائع، يكون للمشتري.
والمذهب عند الحنابلة: أن مناط الحكم هو تشقق الطلع.
والقول الثاني: أن مناط الحكم هو ما ورد في الحديث، وهو التَّأبير، يعني: التَّلقيح، فإن النبي قال: مَن ابتاع نخلًا بعد أن تُؤَبَّر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المُبتاع [22].
فالقول الراجح أن مناط الحكم هو التَّأبير، وليس تشقق الطلع.
فإذا بِيعَ شجر النخل بعد تشقق طلعه فإن الثمرة تكون للبائع إلا أن يشترطها المشتري، فالذي ورد في الحديث هو التَّأبير، لكن الحنابلة قالوا: إن التَّأبير لا يكون حتى يتشقق الطلع، وإنما عبَّر به عن ظهور الثمر؛ لمُلازمته للتَّشقق غالبًا.
ولكن هذا محل نظرٍ، والقول الراجح هو ما ذهب إليه جماهير الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة في روايةٍ، واختاره ابن تيمية وجمعٌ من المُحققين من أهل العلم: أن مناط الحكم هو التَّأبير، يعني: التَّلقيح، وليس تشقق الطلع، فإن الحديث نصٌّ في هذا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: مَن ابتاع نخلًا بعد أن تُؤَبَّر، ولم يقل: بعد أن يتشقق الطلع فيه.
ومن جهة المعنى: البائع إنما تتعلق نفسه بثمرة النخل إذا أَبَّرَه، إذا لَقَّحَه وتعب عليه، أما إذا لم يُلقحه لا تتعلق نفسه به، حتى لو تشقق الطلع.
طيب، هل لهذا الخلاف ثمرةٌ؟
الجواب: نعم، لو باع نخلًا بعد تشقق الطلع، وقبل التَّأبير، فعلى مذهب الحنابلة: أنه يكون للبائع، وعلى القول الراجح يكون للمشتري.
قال:
وكذا إن بِيعَ شجر ما ظهر من عنبٍ، وتينٍ، وتوتٍ، ورمان، وجوزٍ.
إذا بِيعَ شجر غير النَّخل: كالعنب والتين والتوت والرمان والجوز، فإنها تُقاس على تأبير النَّخل؛ ما ظهر من الثمرة يكون للبائع إلا أن يشترط ذلك المشتري.
أو ظهر من نَوْرِه.
النَّور هو الزَّهر، يعني: ظهر من زهره.
كمشمشٍ وتفاحٍ وسَفَرْجَل ولوزٍ.
يعني: إذا انعقد الزهر حتى أصبح ثمرًا فإنه في الحكم كالطلع إذا تشقق، فما ظهر من ثمرته عند العقد يكون للبائع إلا أن يشترط ذلك المشتري.
أو خرج من أَكْمَامِه.
الأكمام يعني: الغلاف، كما قال الله تعالى: فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ [الرحمن:11]، الأكمام: أوعية الطلع، أو التي تكون على شكل أوعيةٍ: كالورد يخرج من أغلفته.
أو خرج من أَكْمَامِه كوردٍ.
يعني: خرج من غلافه كالورد، فهنا يكون للبائع إلا أن يشترطه المشتري.
وما بِيعَ قبل ذلك فللمشتري.
أي: ما بِيعَ من الثمار قبل تشقق الطلع، أو قبل تأبير النخل، أو قبل ظهور النَّور -يعني: الزهر- أو قبل أن يخرج من غلافه، فإنه يكون للمشتري؛ لمفهوم الحديث السابق: مَن ابتاع نخلًا بعد أن تُؤَبَّر فثمرتها للبائع، فإن مفهومه: أن مَن باع نخلًا بعد أن تُؤَبَّر فهي للمشتري.
ولا تدخل الأرض تبعًا للشجر، فإذا باد لم يملك غرس مكانه.
يعني: صورة هذه المسألة: إذا باع شجرًا مُثمرًا، فإن المشتري يملك الشجر وما عليه من الثمر فقط، ولا يملك الأرض، لا يملك الأرض التي عليها هذا الشجر.
فإذا باد الشجر، يعني: تلف الشجر، لا يستحق أن يغرس مكانه غيره.
يعني: هذه صورة بيع الشجر فقط، يعني: يبيع الشجر المُثمر بغير أرضه، فإذا تلفتْ هذه الشجرة ليس له الحق في أن يغرس مكانها شجرةً أخرى.
طيب، إذن نكتفي بهذا القدر، ونقف عند باب “بيع الأصول والثمار”.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
السؤال: هل يجوز أن أشتري السلعة وأبيعها على شخصٍ قد عرفتُ، بل تيقنتُ، أنه سوف يشتريها مني؟ مع العلم بأنه لم يكن هناك وعدٌ أو اتِّفاقٌ مُسبقٌ؟
الجواب: لا بأس بذلك، حتى لو كان هناك وعدٌ أو اتِّفاقٌ مُسبقٌ لا بأس، ما المانع من هذا؟
أقول لفلانٍ: اذهب واشترِ سيارةً، فإذا اشتريتَها سوف أشتريها منك. يعني: هذا لا بأس به، هذا يُسمى: المُرابحة للآمر بالشراء، لا بأس به، لكن لا تشتريها منه حتى يملكها، تقول: اذهب واشترِ هذه السيارة بهذه المواصفات، فإذا اشتريتها سوف أشتريها منك. يعني: هذا على سبيل الوعد أو التفاهم، يذهب هو ويشتري السيارة، يملكها ويقبضها، ثم يبيعها عليك بثمنٍ مُقسَّطٍ، فهذا لا بأس به.
السؤال: هل الأم إذا راعتْ في تربية أبنائها اليتامى والإنفاق عليهم لها أجر كفالة اليتيم؟
الجواب: نعم، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة [23]، فالأم إذا كفلت الأيتام تدخل في كفالة اليتيم.
لو كانت تقوم على أيتامٍ، أبوهم مُتوفًّى، فاليتيم لا يُقال عنه: يتيمٌ إلا إذا مات أبوه، أما إذا ماتت أمه لا يُقال عنه: يتيمٌ.
فالأم التي تقوم على الأيتام وتقوم بشؤونهم ورعايتهم لها أجر كفالة اليتيم.
فهذه بُشرى للأمهات اللاتي يَقُمْنَ على أولادهن اليتامى بأن لهن أجر كفالة اليتيم، بل من أعظم ما يكون من الأجر إذا قامتْ على هؤلاء الأيتام، ورَعَتْهم، وأنفقتْ عليهم، وأحسنتْ تربيتهم، فهذا من أعظم ما يكون من كفالة اليتيم، وتدخل هذه المرأة في هذا الحديث العظيم: كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة وأشار بالسبابة والوسطى [24].
وكفالة اليتيم في الأصل تُطلق على أن الإنسان يأتي باليتيم عنده في البيت، ويقوم برعايته، والإنفاق عليه، وتربيته، وتعليمه، والإحسان إليه، هذه هي كفالة اليتيم.
أما مجرد إعطاء مؤسساتٍ تقوم على رعاية الأيتام مبلغًا ماليًّا، فهذه صدقةٌ على اليتيم.
يعني: بعض جمعيات رعاية الأيتام تُعطي إعاناتٍ للأيتام، فهذه صدقةٌ على اليتيم، وهي عملٌ صالحٌ، لكن الأكمل في كفالة اليتيم أن يأتي باليتيم عنده في البيت، ويقوم برعايته، وتعليمه، وتربيته، والإنفاق عليه، والإحسان إليه.
فالأم التي تقوم بذلك: إذا تُوفي زوجها قامت على رعاية أولادها تدخل في كفالة اليتيم.
السؤال: ما صحة حديث قراءة سورتي: السجدة والمُلْك كل ليلةٍ؟
الجواب: الحديث ضعيفٌ لا يصح عن النبي ، ولا تُشرع قراءة هذه السور على وجه التَّخصيص لها كل ليلةٍ.
السؤال: أنا رجلٌ كبيرٌ، ويحصل لي خروج قطراتٍ من البول تقع على الملابس الداخلية، فهل أُغير الملابس، وهذا شاقٌّ جدًّا عليَّ؟
الجواب: القاعدة في هذا: اتَّقوا الله ما استطعتم، إن تيسر أن تُغير الملابس فهذا هو المطلوب، وإن كانت عليك مشقةٌ فلا يجب عليك ذلك، فصاحب الحدث الدائم إذا شقَّ عليه تغيير اللباس لا يجب عليه ذلك، فالله تعالى يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وقال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].
السؤال: ما حكم مَن يعمل في شركةٍ، ويكون عمله متابعة الفوائد الربوية، وعمل تقارير متابعة لها؟ هل يدخل في الوعيد؟
الجواب: إذا كانت فوائد ربوية -يعني: نقدًا بنقدٍ مع الزيادة- فلا شكَّ أنه يدخل في الوعيد؛ لأن النبي لعن آكل الربا، ومُوكله، وكاتبه، وشاهديه [25].
فهذا لا يخلو إما أن يكون كاتبًا للربا، أو شاهدًا للربا، فتشمله اللعنة، لكن أريد من الأخ السائل التأكد؛ لأن بعض الناس يُسمي ربح التمويل: فوائد ربوية، وهذا غير صحيحٍ.
فإذا كانت الشركة تأخذ تمويلًا بطريق التَّورق أو المُرابحة أو المُشاركة فهذه ليست فوائد ربوية، يعني: هذه الأرباح لا تُعتبر فوائد ربوية؛ لأن بعض الناس تلتبس عليه المسألة، لا يُفرق بين الفوائد الربوية وأرباح التمويل، فالفوائد الربوية تعني: أن يأخذ مئة ألفٍ بمئةٍ وعشرين، نقدًا بنقدٍ، ما بينهما سلعة، هذه هي الفوائد الربوية، لكن لو أخذ تمويلًا واشترى من أحد البنوك -مثلًا- سلعةً بثمنٍ مُؤجلٍ، وباعها على طرفٍ ثالثٍ نقدًا، فهذا لا بأس به، ولا بأس بالأرباح، فهذه تُسمى: أرباحًا، وليست فوائد ربوية.
فعلى الأخ السائل الكريم، إذا كانت من قبيل الفوائد الربوية لا تجوز، أما إذا كانت من قبيل أرباح التمويل فجائزٌ.
السؤال: توجد بنوكٌ تُعطي على الودائع بها فوائد مقابل الاحتفاظ بهذه الودائع عدة سنوات، وهذه العوائد ثابتةٌ، هل تُعتبر من الربا؟
الجواب: إذا كانت هذه البنوك تأخذ هذه الأموال وتُعطي فوائد على النقد نفسه فهذه فوائد ربويةٌ مُحرمةٌ، أما إذا كانت هذه البنوك تُضارب في هذا المال، تُتاجر به في مجالاتٍ استثماريةٍ، والربح غير مُحددٍ، والخسارة غير مضمونةٍ، فهذه مُضاربةٌ، وهذه جائزةٌ.
فلا بد أن تعرف ماذا تفعل البنوك بهذا المال الذي تأخذه منك؟
إذا كانت تعمل به في مجالاتٍ استثماريةٍ: في تجارةٍ، في صناعةٍ، تُتاجر به وتُعطيك نسبةً من الربح، ولا تضمن لك عدم الخسارة، فيمكن أن تربح، ويمكن أن تخسر، فهذه مُضاربةٌ مشروعةٌ.
أما إذا كانت تأخذ منك نقدًا، وتُعيده نقدًا بأكثر منه، فهذه فوائد ربويةٌ، ولا تجوز.
السؤال: ماذا لو أفصح المسؤولون بأن هذه العوائد نظير تشغيل أموال المُودعين في مشاريع استثماريةٍ، علمًا بأنها ثابتة الفائدة؟
الجواب: هذا يرجع لمستوى الثقة بهم، هل تثق بهم؟
إذا كنتَ تثق بهم لا بأس، يعني إذا قالوا: نحن نُتاجر بها ونُضارب بها في مشاريع. فهذا بحسب مستوى الثقة بهؤلاء، فإذا كنت تثق بهم، وأنهم صادقون؛ فلا بأس، أما إذا كنت يغلب على ظنِّك أنهم كاذبون فلا تضع أموالك عندهم.
السؤال: كيف تبرأ الذمة في إزالة النَّجاسة التي لا أثر لها؟
الجواب: إذا كانت النَّجاسة لا أثر لها فهي معفوٌّ عنها.
إذا كانت النَّجاسة ليس لها أثرٌ من لونٍ أو طعمٍ أو رائحةٍ، فهذه معفوٌّ عنها، مثل: لو وقعتْ نجاسةٌ في مَسْبَحٍ كبيرٍ، ولم يُصبح لهذه النَّجاسة أثرٌ: لا من لونٍ، ولا طعمٍ، ولا رائحةٍ، فهذه لا أثر لها.
لو بال إنسانٌ في البحر، هل يُعتبر البحر نجسًا؟
هذه النَّجاسة تتلاشى، لا أثر لها.
فإذا لم يكن للنَّجاسة أثرٌ من لونٍ، أو طعمٍ، أو رائحةٍ، فهذه النَّجاسة معفوٌّ عنها.
السؤال: متى يبدأ وقت النَّهي قبل صلاة الظهر؟ وهل في الجمعة وقت نهيٍ؟
الجواب: وقت النَّهي قبل صلاة الظهر يبدأ حين يقوم قائم الظهيرة، وتكون الشمس في كبد السماء؛ وذلك قُبيل الزوال بنحو عشر دقائق تقريبًا، يعني: قبل أذان الظهر بنحو عشر دقائق، هذا هو وقت النهي، وهو وقت نهيٍ مُغلَّظ، حتى إن النبي نهى عن دفن الأموات في هذا الوقت [26]، فضلًا عن الصلاة فيه.
وأما يوم الجمعة: هل فيه وقت نهيٍ؟
هذا محل خلافٍ، فجماهير الفقهاء على أن يوم الجمعة كغيره فيه وقت نهيٍ قُبيل الزوال، خلافًا للشافعية الذين قالوا: إن يوم الجمعة ليس فيه وقت نهيٍ.
والراجح هو قول الجمهور؛ لعموم الدليل.
إذن الأدلة قد أتتْ عامةً، كما جاء في حديث عمرو بن عَبَسَة [27]، وفي حديث عقبة بن عامرٍ أيضًا: “ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله ينهانا أن نُصلي فيهن، أو أن نَقْبُر فيهنَّ موتانا”، وذكر منها: “حين يقوم قائم الظَّهيرة” [28]، وهذه النصوص وما جاء في معناها لم تَسْتَثْنِ يوم الجمعة.
وأما قول مَن قال من العلماء: إن الجمعة مُستثنًى؛ لأن الصحابة لم يكونوا يخرجون لينظروا: هل كانت الشمس في كبد السماء أو لا؟ فهذا محل نظرٍ.
أولًا: مسجد النبي عليه الصلاة والسلام كان مَسْقُوفًا بجذوع النخل، فهم يرون الشمس وهم داخل المسجد، ويعرفونه وهم ليست عندهم ساعاتٌ، يعني: يعتمدون على حركة الشمس والظل في تحديد الأوقات، فهم يعرفون متى يكون الزوال، يعرفون متى يقوم قائم الظهيرة.
فهذا لا يقوى على استثناء الأحاديث الصحيحة الصريحة التي عَمَّمَت الوقت.
يعني: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ثم صَلِّ، فإن الصلاة مشهودةٌ، محضورةٌ حتى يَسْتَقِلَّ الظلُّ بالرُّمح، ثم أَقْصِرْ عن الصلاة [29] كما في حديث عمرو بن عَبَسَة ، أو في حديث عقبة بن عامر : “حين يقوم قائم الظهيرة”، لم يرد استثناء يوم الجمعة منها.
فالأقرب -والله أعلم- هو قول جمهور العلماء، وهو: أن يوم الجمعة كغيره في وقت النهي قبيل الزوال.
وعلى ذلك مَن يأتي للمسجد الجامع، ويتنفَّل مثنى مثنى، ينبغي له قُبيل الزوال بنحو عشر دقائق أن يتوقف عن صلاة النافلة؛ لأن هذا الوقت وقت نهيٍ.
السؤال: زوجٌ اشترط على زوجته قبل العقد عدم الإنجاب، ووافقتْ طمعًا في الزواج، والآن ترغب أن تُنْجِبَ، فما الحكم؟
الجواب: هذا الشرط شرطٌ غير صحيحٍ؛ لأنه شرطٌ مُنافٍ لمُقتضى العقد، فإن عقد النكاح من مُقتضاه: أن المرأة تحمل وتُنْجِب، وعلى هذا فلا يلزم المرأة الوفاء بهذا الشرط.
السؤال: ما حكم إطلاق عبارة “المرحوم” أو “المغفور له” على الميت؟
الجواب: لا بأس بها؛ لأن “المرحوم” المقصود به الدعاء للميت بالرحمة، فهو كقولهم: “رحمه الله”، فلا فرق بين “رحمه الله” و”المرحوم”، فـ”رحمه الله” يعني أنت تقول: أسأل الله له الرحمة، و”غفر الله له” أسأل الله له المغفرة.
“المرحوم” كذلك تُؤدي نفس المعنى، “المرحوم” يعني: نسأل الله تعالى له الرحمة.
“المغفور له” نسأل الله تعالى له المغفرة.
ولا أحد يُطلق هذا اللفظ يقصد: أنه مرحومٌ فعلًا، أو أنه قد غُفِرَ له، إنما يقصدون بذلك الرجاء والدعاء.
وعلى هذا فلا بأس بإطلاق لفظ “المرحوم” أو “المغفور له”، وإن كان بعض العلماء يمنع من ذلك، لكن الصواب أنه لا فرق بين “المرحوم” و”رحمه الله”، وبين “المغفور له” و”غفر الله له”.
السؤال: ماذا يفعل مَن دخل الجامع لصلاة الفريضة، ووجدهم يُصلون صلاة الجنازة؟ هل يُصلي معهم الجنازة، أم ماذا يفعل؟
الجواب: نعم، يُصلي معهم الجنازة، ثم إذا انتهى يُصلي صلاة الفريضة؛ لأنه بذلك يُحَصِّل فضل الصلاة على الجنازة، وفضل صلاة الفريضة، لكنه إذا صلَّى صلاة الفريضة، وترك الصلاة على الجنازة، فاته فضل الصلاة على الجنازة.
فالفقه هنا أن يدخل معهم، ويُصلي معهم الصلاة على الجنازة، ثم بعد ذلك يُصلي صلاة الفريضة.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2766، ومسلم: 89. |
^3, ^25 | رواه مسلم: 1598. |
^4 | رواه مسلم: 1584. |
^5 | رواه البخاري: 2186، ومسلم: 1546. |
^6 | رواه البخاري: 2205، ومسلم: 1542. |
^7 | رواه مسلم: 1592. |
^8 | رواه مسلم: 1587. |
^9 | رواه البخاري: 2240، ومسلم: 1604. |
^10 | رواه أبو داود في “المراسيل”: 178، والحاكم في “المستدرك”: 2252. |
^11 | رواه أبو داود: 3359، والترمذي: 1225 وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 4545، وابن ماجه: 2264. |
^12, ^13 | رواه البخاري: 2201، ومسلم: 1593. |
^14 | رواه البخاري: 2381، ومسلم: 1536. |
^15 | رواه البخاري: 5445، ومسلم: 2047. |
^16 | رواه مسلم: 2047. |
^17 | رواه مسلم: 1591. |
^18 | رواه أبو داود: 3351. |
^19 | رواه أبو داود: 3354، والنسائي: 4582، وأحمد: 6239. |
^20 | رواه أبو داود: 3594. |
^21 | رواه البخاري: 2716، ومسلم: 1543. |
^22 | رواه البخاري: 2379، ومسلم: 1543. |
^23, ^24 | رواه مسلم: 2983. |
^26, ^28 | رواه مسلم: 831. |
^27, ^29 | رواه مسلم: 832. |