عناصر المادة
- باب الخيار
- أقسام الخيار
- خيار المجلس
- الحكمة من خيار المجلس
- خلاف العلماء في ثبوت خيار المجلس
- ضابط التفرق بالأبدان
- مسقطات خيار المجلس
- موت صاحب الخيار
- لا يبطل خيار المجلس بجنون البائع أو المشتري
- خيار الشرط
- حكم التصرف في المبيع وفي الثمن خلال مدة الخيار
- النماء خلال مدة خيار الشرط
- مسقطات خيار الشرط
- خيار الغبن
- لا أرش مع إمساك السلعة
- خيار التدليس
- أمثلةٌ للتدليس
- خيار العيب
- خيار العيب على التراخي
- اختلاف المتبايعين في العيب
- خيار الخُلف في الصفة
- خيار الخُلف في قدر الثمن
- الخيار بتخبير الثَّمن
- خيار مماطلة المشتري
- يملك المشتري المبيع مطلقًا بمجرد العقد
- التصرف في المبيع قبل قبضه
- تلف المبيع أو الثمن
- الإقالة وأحكامها
- تسن الإقالة للنادم من بائعٍ ومشترٍ
- الأسئلة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله تعالى في هذا الدرس الخامس عشر لهذا العام، بعد استئناف الدرس بعد أن توقفنا خلال فترة الاختبارات والإجازة، إجازة منتصف الفصل، في هذا اليوم الاثنين، الرابع عشر من شهر جمادى الآخرة من عام (1443 هـ).
ننتقل بعد ذلك لـ”السلسبيل في شرح الدليل”:
باب الخيار
وعندنا في هذا الدرس، باب الخيار، فسنشرح -إن شاء الله- الباب كاملًا؛ ولذلك من يتابع معنا ويركز؛ يَحصُل على خلاصةٍ لمسائل وأحكام الخيار، يضبط هذا الباب ضبطًا تامًّا بإذن الله تعالى، ويحصل على خلاصة كلام الفقهاء في هذا الباب.
قال:
الخيار.
اسم مصدرٍ من اختار، أي: طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الفسخ، وعندما نقول: اسم مصدرٍ، فما الفرق بين اسم المصدر والمصدر؟
الفرق أن المصدر: هو ما تضمن معنى الفعل بحروفه، وأما اسم المصدر: فهو ما تضمن معنى الفعل دون حروفه؛ فمثلًا: اختار، المصدر: اختيارًا، واسم المصدر: خيارًا، اغتسل، المصدر: اغتسالًا، واسم المصدر: غسلًا، توضأ، المصدر: توضؤًا، واسم المصدر: وضوءًا، تسحر، المصدر: تسحُّرًا، واسم المصدر: سحورًا، وهكذا.
أقسام الخيار
وأقسامه سبعةٌ:
يعني: أقسام الخيار بحسب الاستقراء والتتبع: سبعةٌ، هكذا قال المصنف، وبعض فقهاء الحنابلة؛ كصاحب “زاد المستقنع” جعلها ثمانيةً، وأضاف الخيار بتخبير الثمن، فجعله القسم الثامن.
والخيار بتخبير الثمن، هل هو من أقسام الخيار، أو ليس من أقسامه؟
إن شاء الله -بعدما ننتهي من الكلام عن هذه الأقسام السبعة- سنتكلم عن هذا القسم، وسنبين خلاف العلماء في ذلك، والقول الراجح هل هو من أقسام الخيار، أو ليس من أقسامه، إن شاء الله تعالى.
خيار المجلس
قوله:
أحدها: خيار المجلس، ويثبت للمتعاقِدَين من حين العقد إلى أن يتفرقا.
خيار المجلس يثبت للمتعاقِدَين -يعني البائع والمشتري- من حين عقد البيع إلى أن يتفرقا بالأبدان، والأصل فيه حديث حكيم بن حزامٍ أن النبي قال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا؛ بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما؛ محقت بركة بيعهما [1]، وهذا يدل على أن الصدق والبيان من أسباب حلول البركة في البيع والشراء، وأن الكذب والكتمان من أسباب محق البركة.
البركة شيءٌ يجد الإنسان أثره، شيءٌ غير ماديٍّ محسوسٍ، لكن يجد الإنسان أثره في الشيء الذي يبارك فيه، فأحيانًا يكون في بيعٍ، يبارك الله تعالى في هذا البيع، يبارك للبائع ويبارك للمشتري؛ ينتفع البائع بالثمن انتفاعًا عظيمًا، والمشتري ينتفع بهذه السلعة، وأحيانًا تنزع البركة؛ البائع يذهب منه هذا المال بسرعةٍ، والمشتري أيضًا السلعة هذه لا يبارك له فيها.
والبركة أيضًا قد تكون في الصحة، قد تكون في الأولاد، قد تكون في الزوجة، قد تكون في الوقت، في العمر، في العلم، في العمل؛ ولذلك من الأدعية العظيمة أن المسلم يسأل الله تعالى البركة، يقول: اللهم بارك لي في وقتي، اللهم بارك لي في عمري، اللهم بارك في مالي، اللهم بارك في لي ولدي، اللهم بارك لي في أهلي، يسأل الله تعالى البركة.
والشاهد: هو أول الحديث: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، وفي حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: إذا تبايع الرجلان، فكل واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا، أو يخيِّر أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك؛ فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحدٌ منهما البيع؛ فقد وجب البيع [2].
وخيار المجلس عندما نقول: خيار المجلس، المقصود بالمجلس: موضع الجلوس، والمراد به هنا: مكان التبايع، سواءٌ كان مكان التبايع البيت، أو كان السوق، أو كان السيارة، أو الطائرة، أو السفينة، أو أي مكانٍ، مكان التبايع هذا هو المقصود بالمجلس.
فعندما تبيع سلعةً، نفترض مثلًا أنك بعت هاتفًا جوالًا لصديقٍ لك في المجلس، قال: تشتري مني، قلت: نعم، قال: تبيعه بكم؟ قلت: أبيعه لك بألف ريالٍ، فقال: اشتريت، قلت له: نصيبك، قال: اشتريت؛ لأنه حصل الإيجاب والقبول، هنا تم العقد، لكن لك أنت -أيها البائع- ولهذا المشتري الخيار، ما دمتما في مكان التبايع، حتى تتفرقا من هذا المكان بالأبدان، هذا يسميه الفقهاء: خيار المجلس.
الحكمة من خيار المجلس
والحكمة منه، كما قال ابن القيم رحمه الله: ليحصل تمام الرضا الذي شَرَطَه الله فيه -يعني في البيع- فإن العقد قد يقع بغتةً من غير تروٍّ ولا نظرٍ في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يُجعل للعقد حريمٌ يتروى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحدٍ منهما عيبًا كان خفيًّا.
يعني: لأجل أن يحصل تمام الرضا بالبيع، فعندما يقول: بعتك، تقول: اشتريت، فربما أنك تتأمل، وترى أن المصلحة في عدم الشراء، أو يرى هو أن المصلحة في عدم البيع، فجعل لك فرصةً، لك فرصة الخيار ما دمت في مكان التبايع.
وأيضًا هناك ملحظٌ آخر من وجوه الحكمة: وهو أمرٌ نفسيٌّ، الشيء الذي ليس في يد الإنسان، تتعلق نفسه به، فإذا ملكه؛ قلت رغبته فيه، هذا شيءٌ معروفٌ، الشيء الذي ليس في يدك، تجد نفسك ترغبه وتتعلق به، لكن إذا ملكته؛ تقل الرغبة فيه، فجُعل للنفس الفرصة، فرصة التأمل؛ كأنه يقال: أنت الآن اشتريت، قال: بعتك، قلت: اشتريت، فربما أنك بعد هذا تقل الرغبة، وتعيد النظر، ولا تستمر في هذا العقد، فجعل للإنسان فرصةٌ -فرصة الخيار- ما دام في مكان التبايع، فمشروعية هذا الخيار من محاسن هذه الشريعة العظيمة.
خلاف العلماء في ثبوت خيار المجلس
وقد اختلف الفقهاء في ثبوت هذا الخيار على قولين:
القول الأول: القول بثبوته، وهو مذهب الحنابلة والشافعية، وأدلتهم ظاهرةٌ، استدلوا بالحديثين السابقين: حديث حكيمٍ، وحديث ابن عمر .
خالفهم في هذا الحنفية والمالكية، فقالوا بعدم ثبوت خيار المجلس، وعللوا لذلك بتعليلات؛ قالوا: لأن البيع عقد معاوضةٍ، فلزم بمجرده؛ كالنكاح والخلع، قالوا: أليس النكاح عقدًا، وليس فيه خيار؟ إذا قال: زوَّجتك، قال: قبلت، فقد انعقد النكاح، وليس فيه خيارٌ، فكذلك البيع.
وأورد عليهم الأحاديث السابقة، قالوا: إن المقصود بالتفرق، حتى يتفرقا: التفرق في الأقوال، وليس بالأبدان؛ كما قال الله تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:4]، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقةً [3].
العجيب: أن حديث: البيعان بالخيار [4]، الذي رواه الإمام مالكٌ نفسه، الإمام مالكٌ نفسه هو الذي روى هذا الحديث، ومع ذلك لم يقل بثبوته؛ ولهذا قال الموفق بن قدامة: عاب كثيرٌ من أهل العلم على مالكٍ مخالفته للحديث مع روايته له وثبوته عنده، حتى إن الإمام الشافعي قال: لا أدري هل اتهم مالكٌ نفسَه، أو اتهم نافعًا؟! لأن هذا الحديث مرويٌّ، رواه مالكٌ عن نافعٍ عن ابن عمر، يقول: هل اتهم مالكٌ نفسَه، أو اتهم نافعًا؟ وأُعظِم أن أقول: اتهم ابن عمر، يعني: لماذا لم يقل به الإمام مالكٌ؟ بل قسا بعض العلماء على الإمام مالكٍ في هذا، وهو ابن أبي ذئبٍ -كما نقل ذلك الموفق في “المغني”- وقال: يستتاب مالكٌ في تركه لهذا الحديث، ولكن هذه المقولة من كلام الأقران بعضهم في بعضٍ، فكلام الأقران يُطوى ولا يُروى، كيف يستتاب؟! هذه مسألةٌ اجتهاديةٌ، هو لم يتعمد المخالفة، الإمام مالكٌ إمامٌ عظيمٌ، وهو مجتهدٌ ويريد الحق، لم يتعمد المخالفة، فكيف يستتاب؟! الذي يستتاب هو الذي يتعمد مخالفة السنة، أما الإمام مالكٌ فهو إمامٌ عظيمٌ مجتهدٌ، لكن هذا من كلام الأقران بعضهم في بعضٍ، والعلماء يقولون: إن كلام الأقران بعضهم في بعضٍ يُطوى، ولا يُروى، ولا يعول عليه.
وكون الإمام مالكٍ يروي هذا الحديث ولا يقول به، فيه فائدةٌ لطيفةٌ: وهي أن الإنسان مهما كان عليه من القوة في العلم، حتى وإن كان راوي الحديث؛ قد تخفى عليه أبسط المسائل، قد تخفى عليه مسائل يدركها أصغر طالب علمٍ؛ لأن الإنسان بشرٌ، والإمام مالكٌ نفسُه يقول: كلٌّ يؤخذ من قوله ويرد، إلا رسول الله ؛ فلذلك العبرة بالدليل، ينبغي لطالب العلم أن يكون معظمًا للدليل من الكتاب والسنة، والله تعالى يقول: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]، ولا يقول: ماذا أجبتم أبا حنيفة، أو مالكًا، أو الشافعي، أو أحمد، أو غيرهم من أهل العلم، العبرة بالدليل من الكتاب والسنة.
الإمام مالكٌ -كما ذكرنا- هو مجتهدٌ، اجتهد في فهم هذا الحديث، مع أنه راويه، والراجح هو القول الأول، وهو القول بثبوت خيار المجلس، أما القول الثاني فقولٌ ضعيفٌ؛ لأن غايته تجريد هذه الأحاديث عن معناها.
وإذا قلنا: إن التفرُّق هو التفرق بالأقوال؛ فمعلومٌ أنه قبل العقد لكلٍّ منهما الخيار في إنشائه وإتمامه وتركه، كلٌّ منهما له الخيار، فما الفائدة من الحديث إذنْ؟ ما الفائدة من قول النبي عليه الصلاة والسلام: المتبايعان بالخيار..؟ ما هو الخيار الآن الذي يثبت للمتبايعين إذا لم نقل بخيار المجلس؟! فهذا القول قولٌ ضعيفٌ، وما عللوا به من أن البيع عقد معاوضةٍ فلزم بمجرده كالنكاح، هذا تعليلٌ في مقابلة النص، فلا يُلتفت إليه، وأما حملهم التفرق على أن المراد به التفرق بالأقوال، فناقشه الموفق بن قدامة في “المغني” من أربعة وجوهٍ مذكورةٍ هنا في “السلسبيل”:
- الوجه الأول: أن اللفظ لا يَحتمل ما قالوه؛ إذ ليس بين المتبايعين تفرقٌ بلفظٍ ولا اعتقادٍ، إنما بينهما اتفاق على الثمن والمبيع، فهو تكلفٌ، كيف نقول: التفرق بالأقوال؟! اللفظ أصلًا لا يحتمله.
- الوجه الثاني: أن هذا يُبطل فائدة الحديث، وهذا أشرنا إليه، قد عُلم أنهما بالخيار قبل العقد في إنشائه وإتمامه أو تركه.
فالقول بعدم ثبوت خيار المجلس يُبطل العمل بالحديث؛ إذنْ ما هو الخيار المراد في الحديث: المتبايعان بالخيار [5]، ما هو الخيار؟
هما أصلًا لهما الخيار قبل العقد، ما هو الخيار الذي لهما بعد العقد؟ إذا قلنا: التفرق بالأقوال؛ لم يصبح هناك فرقٌ بين الخيار قبل العقد وبعده، هذا معنى كلام الموفق.
- الوجه الثالث: أن النبي قال: إذا تبايع الرجلان؛ فكل واحدٍ منهما بالخيار [6]، فجعل لهما الخيار بعد تبايعهما.
- الوجه الرابع: أن هذا يرد تفسير ابن عمر نفسه للحديث، فقد كان إذا بايع رجلًا؛ مشى خطواتٍ [7]، وهذا يدل على أنه فهم التفرق بأنه تفرقٌ بالأبدان، أيضًا تفسير أبي برزة للحديث بقوله بإثبات خيار المجلس [8]، وهما راويا الحديث، وأعلم بمعناه.
فإذنْ: القول الثاني بأن المقصود بالتفرق التفرق بالأقوال قولٌ ضعيفٌ، والصواب ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة من القول بثبوت خيار المجلس.
ضابط التفرق بالأبدان
قول المصنف رحمه الله:
من حين العقد إلى أن يتفرقا.
أي: إلى أن يتفرقا بالأبدان، فيثبت الخيار من حين العقد، يعني: من حين الإيجاب والقبول إلى حين التفرق من مكان التبايع بالأبدان.
طيب، ما ضابط التفرق بالأبدان؟
عندنا قاعدةٌ: وهي أن كل ما ورد في الشرع وليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع؛ فالمرجع فيه إلى العرف، فهنا وردت السنة بالتفرق: ما لم يتفرقا، وليس لهذا التفرق ضابطٌ في الشرع ولا في اللغة، فالمرجع في ذلك إلى العرف، ما أعده الناس في عرفهم تفرقًا بالأبدان؛ كان تفرقًا، وما لا؛ فلا.
ومما ذكره الفقهاء من صور التفرق بالأبدان: أن المتبايعَين إذا كانا في دارٍ كبيرةٍ ذات غُرفٍ؛ فالتفرق يحصل بالمفارقة من غرفةٍ إلى غرفةٍ، وإذا كانا في مكانٍ واسعٍ؛ كصحراء أو سوقٍ؛ فالتفرق بأن يمشي أحدهما مستدبرًا الآخر خطواتٍ.
طيب، كيف يكون التفرق في البيع بوسائل التقنية الحديثة؟
يكون بحسب العرف؛ مثلًا: إذا كان عن طريق الهاتف أو الجوال؛ فبإنهاء المكالمة، بإنهاء المكالمة ينتهي خيار المجلس، إذا كان التبايع عن طريق شبكة الإنترنت؛ يكون بانقطاع الاتصال بينهما، أو بالخروج من الصفحة إلى صفحةٍ أخرى.
قوله:
من غير إكراهٍ.
يعني: يمتد زمن خيار المجلس إلى تفرق المتبايعَين عن مكان التبايع دون إكراهٍ لهما أو لأحدهما على التفرق، وهذا أمرٌ ظاهرٌ.
مسقطات خيار المجلس
قال:
ما لم يتبايعا على ألا خيار، أو يسقطاه بعد العقد.
انتقل المصنف للكلام عن مسقطات خيار المجلس:
المسقط الأول: إذا أسقطاه قبل العقد؛ كأن يقول شخصٌ يَعرف من صاحبه كثرة التردد، فيقول: أنا أبيعك لكن بشرط: ألا خيار، بشرط: ألا يكون بيننا خيار المجلس، فيوافق صاحبه على ذلك، فخيار المجلس يسقط؛ لأن الحق لهما، وقد أسقطاه.
الثاني: أن يسقطاه بعد العقد؛ كأن يكونا في طائرةٍ أو سفينةٍ مثلًا، ومدة الرحلة طويلةٌ، ويَخشى أحدهما من تراجع الآخر، فيتفقان على إسقاط خيار المجلس بعد عقد البيع مباشرةً، فلا بأس.
قال:
وإن أسقطه أحدهما؛ بقي خيار الآخر.
لأن الذي أسقط، أسقط حقه، فيبقى خيار الآخر الذي لم يُسقط حقه فيه.
موت صاحب الخيار
وينقطع الخيار بموت أحدهما.
لأن الموت أعظم فرقةٍ، هو أعظم من التفرق بالأبدان، فلو أنهما تبايعا، ثم مات أحدهما؛ سقط خيار المجلس، ولا يقوم ورثته مقامه، خلاف خيار الشرط الذي سيتكلم عنه، فإن الورثة يقومون مقام البائع أو المشتري، أما خيار المجلس فالموت أعظم فرقةٍ، فإذا مات البائع أو المشتري؛ سقط خيار المجلس في حقه.
لا يبطل خيار المجلس بجنون البائع أو المشتري
لا بجنونه، وهو على خياره إذا أفاق.
يعني: لا يبطل خيار المجلس بجنون البائع أو المشتري؛ لأن الجنون لا يُخرج ملك المال عن مالكه حتى يفيق؛ كأن يكون مثلًا البائع أو المشتري عنده صرعٌ، بعد البيع أصيب بصرعٍ مثلًا مدة خمس دقائق ثم أفاق، فحقه في خيار المجلس باقٍ، أو المشتري حصل له ذلك، حقه باقٍ لا يسقط.
قال:
وتحرم الفرقة من المجلس خشية الاستقالة.
وقد ورد في هذا حديثٌ صحيحٌ عن النبي : ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله [9]، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وسنده لا بأس به.
فإذا قصد بالتفرق من مكان التبايع خشية الاستقالة؛ حتى يُلزم صاحبه بذلك؛ فهذا لا يجوز، لكن هل يبقى له حق الخيار؟ محل خلافٍ، والأقرب: أنه يسقط الخيار، ولكنه يأثم بهذا.
كيف نجيب عما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا باع شيئًا أو اشترى؛ مشى خطواتٍ؛ حتى يُلزم صاحبه بالبيع؟
الجواب: أن هذا اجتهادٌ من ابن عمر، لم يبلغه حديث عمرو بن شعيبٍ: ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله، وإلا فابن عمر معروفٌ بشدة تحريه للسنة، فلم يبلغه النهي، والعبرة بالدليل.
خيار الشرط
القسم الثاني من أقسام الخيار:
خيار الشرط.
وعرفه المصنف فقال:
وهو أن يشترطا.
يعني: البائع أو المشتري.
أو أحدُهما الخيار إلى مدةٍ معلومةٍ، فيصح وإن طالت.
والأصل فيه قول النبي : المسلمون على شروطهم [10].
وقوله: “إلى مدةٍ معلومةٍ”، قيدٌ يُخرج المدة المجهولة، فلو اشترطا مدةً مجهولةً؛ لم يصح الخيار، وصح البيع.
لكن ماذا لو أطلقا المدة من غير تحديدٍ لها؛ كأن يقول البائع: أبيعك هذه السلعة بشرط أن لي الخيار، أو يقول المشتري: اشتريت منك هذه السلعة بشرط: أن لي الخيار، وبعض العامة يعبر عن هذا بتعبيرٍ آخر، يقول: (بعتك بشرط الشور)، أو (اشتريت بشرط الشور)، يعني: أشاور، بشرط أن أشاور أحدًا من أقاربي، أو أصدقائي، أو نحو ذلك.
فإذا أطلقا المدة من غير تحديدٍ، اختلف الفقهاء في صحة هذا الخيار على قولين:
- القول الأول: أنه لا يصح، وهذا قول الجمهور؛ لأنه لم تحدد فيه مدةٌ، فيكون في هذا جهالةٌ وغررٌ.
- القول الثاني: أنه يصح، ويتحدد بثلاثة أيامٍ، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله، واستدل لذلك بخبر حَبَّان بن مُنقذٍ، أو منقذ بن عمرٍو، اختُلف في الصحابي الذي وقعت له هذه القصة، قيل: إنه حبان بن منقذٍ، وقيل: إنه أبوه منقذ بن عمرٍو، كان رجلًا قد أصابته آمَّةٌ [11] في رأسه، فكسرت لسانه، وكان لا يدع التجارة، ولا يزال يُغبَن، فأتى النبي ، فذكر له ذلك، فقال: إذا بايعت فقل: لا خِلَابة [12]، ثم أنت في كل سلعةٍ ابتعتها بالخيار ثلاث ليالٍ؛ فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها [13]، وأصله في “الصحيحين”، جاء في رواية مسلمٍ: أن رسول الله قال له: مَن بايعتَ فقل: لا خِلَابة، فكان إذا بايع يقول: لا خيابة -لا يقول: لا خلابة، لا خيابة- وكان ألثغ اللسان، وهذا القول هو القول الراجح، دليله ظاهرٌ، فإن هذا الحديث أخرجه ابن ماجه، وأصله في “الصحيحين”، وهو ظاهر الدلالة في التحديد بثلاثة أيامٍ.
فإذا أطلق البائع والمشتري خيار الشرط ولم يحدداه بمدةٍ؛ فإنه يتحدد بثلاثة أيامٍ على القول الراجح.
حكم التصرف في المبيع وفي الثمن خلال مدة الخيار
ماذا عن التصرف في المبيع وفي الثمن خلال مدة الخيار؟ وماذا عن الملكية، ملك من؟ هذه السلعة ملك من؟ والنماء ملك من؟ النماء الحاصل لمن؟
الإجابة عن هذه الأسئلة ذكرها المصنف في قوله:
ولكن يحرم تصرفهما في الثمن والمُثْمَن في مدة الخيار، وينتقل المِلك من حين العقد.
المِلك ينتقل من حين العقد، بمجرد الإيجاب والقبول؛ ينتقل الملك، لكن يحرم التصرف في الثمن، يعني: تصرف البائع في الثمن، وأيضًا تصرف المشتري في السلعة مدةَ خيار الشرط، لا ببيعٍ ولا هبةٍ ولا غير ذلك، إلا بإذن الطرف الآخر، هذا إذا كان الخيار لهما جميعًا.
أما إذا كان الخيار للمشتري وحده فتَصرَّف في المبيع؛ فهذا تصرفٌ صحيحٌ، ويبطل خياره، خيار الشرط بالنسبة له.
قال: “وينتقل المِلك من حين العقد”، يعني: ينتقل مِلك المبيع إلى المشتري من حين تمام العقد.
النماء خلال مدة خيار الشرط
أما بالنسبة للنماء، قال:
ما حصل في تلك المدة من النماء المنفصل، فللمنتقَل له.
والمنتقَل له: هو المشتري، يعني: أن النماء خلال مدة خيار الشرط يكون للمشتري، سواءٌ أَمضَى العقد أو فسخه، وهذا يشمل نماء الثمن والمُثْمَن.
طبعًا الثمن في الزمن السابق، كان الثمن يكون دنانير ودراهم، وفي وقتنا الحاضر أصبحت أوراقًا نقديةً، فلا تَرِد مسألة نماء الثمن هنا، لكن نماء المبيع هذا واردٌ، نماء المبيع لمن يكون؟ نفترض مثلًا: أن السلعة المباعة أغنامٌ، ثم نَتَجَت هذه الأغنام، فهذا النتاج لمن؟ هل هو للبائع أو للمشتري؟
الجواب: للمشتري؛ لقول النبي : الخراج بالضمان [14]، يعني: لو أن الآن هذه الأغنام عند المشتري زمن خيار الشرط، لو حصل لها عطبٌ؛ ماتت، أو حصل لها تلفٌ أو عطب بأي سببٍ، ضمان من؟ ضمان المشتري؛ كذلك إذا حصل لها نماءٌ فللمشتري؛ لأن الخراج بالضمان، الخراج مقابل الضمان.
قال المصنف: “النماء المنفصل..”، يخرج به النماء المتصل، عند الحنابلة أن النماء المتصل يكون تابعًا للمبيع، فلا يكون للمشتري، وهم يفرقون بين النماء المتصل والمنفصل؛ النماء المتصل، مثل: السِّمَن، والحمل الموجود عند العقد، وقالوا: إن هذا يتبع العين مع الفسخ، فإن مضى العقد؛ كان من نصيب المشتري، وإن فُسخ كان من نصيب البائع.
والأظهر والله أعلم: أنه لا فرق بين النماء المتصل والمنفصل، وأنهما جميعًا يكونان للمشتري، هذا هو القول الراجح، واختاره ابن تيمية رحمه الله وجمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ لعموم قول النبي : الخراج بالضمان، فلا فرق بين النماء المتصل والمنفصل.
فإذنْ: نماء المبيع مدة خيار الشرط للمشتري، سواءٌ تم العقد أو لم يتم؛ لأن الخراج بالضمان؛ لأنه لو تلف هذا المبيع؛ فمِن ضمان المشتري، ففي المقابل لو نما؛ فالنماء له؛ لأن هذا مقتضى العدل، ليس من العدالة أن نقول: إذا تلف؛ من ضمانك، لكن إذا نما؛ ليس لك، هذا ليس من العدالة؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: الخراج بالضمان.
وقوله:
ولو أن الشرط للآخر فقط.
يعني: حتى لو كان الشرط للبائع وحده، أو للمشتري وحده؛ فالنماء في المبيع للمشتري.
ولا يفتقر فسخ من يملكه إلى حضور صاحبه ولا رضاه.
يعني: لو أراد أن يفسخ العقد بمقتضى خيار الشرط، لا يشترط لذلك حضور الطرف الآخر، ولا رضا الطرف الآخر.
فإن مضى زمن الخيار ولم يُفسخ؛ صار لازمًا.
حدد مثلًا مدة خيار الشرط بثلاثة أيامٍ، ومضت ثلاثة أيامٍ، فيصبح البيع لازمًا، وينتهي خيار الشرط.
مسقطات خيار الشرط
ثم انتقل المؤلف للكلام عن مسقطات خيار الشرط، قال:
ويسقط الخيار بالقول وبالفعل؛ كتصرف المشتري في المبيع بوقفٍ أو هبةٍ أو سَوْمٍ، أو لمسٍ بشهوةٍ، وينفذ تصرفه إن كان الخيار له فقط.
ذكر المؤلف حالتين من حالات سقوط خيار المجلس:
- الحال الأولى: بالقول، يعني: يقول أحد المتبايعين: أسقطت خياري، فهنا يسقط خيار الشرط، ويلزم البيع.
- الحال الثانية: أن يتصرف المشتري في المبيع بما يدل على رضاه به؛ كأن يبيعه، أو يعرضه للبيع بالسوم، أو يوقفه، أو يهبه، أو يكون المبيع أَمَةً فيلمسها، ففي هذه الحال يسقط الخيار، ويلزم البيع لحصول الرضا.
خيار الغبن
القسم الثالث من أقسام الخيار:
خيار الغبن.
وعرفه المصنف بقوله:
وهو أن يبيع ما يساوي عشرةً بثمانيةٍ، أو يشتري ما يساوي ثمانيةً بعشرةٍ، فيثبت الخيار.
الغبن في البيع والشراء، معناه: أن يبيع سلعةً بأقل من ثمنها الحقيقي بكثيرٍ، أو يشتري سلعةً بأكثر من ثمنها الحقيقي بكثيرٍ.
فإذا غُبن البائع أو المشتري غبنًا يَخرج عن العادة؛ فيثبت له الخيار في إمضاء البيع أو فسخه، وما ذكره المؤلف من قوله: “ما يساوي عشرة بثمانية”، هذا على سبيل التمثيل، وإلا فعند الحنابلة أو عند جمهور الفقهاء: أن الغبن يُرجَع فيه للعرف، خلافًا للمالكية الذين حددوه بالثلث؛ استدلالًا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: الثلث، والثلث كثيرٌ [15]، قالوا: جعل النبي الثلث، هو الحد بين القليل والكثير.
لكن هذا محل نظرٍ، وجاء في “صحيح البخاري” في قصة عروة بن جعدٍ البارقي أن النبي أعطاه دينارًا يشتري به شاةً، فاشترى به شاتين، ثم باع إحدى الشاتين بدينارٍ، وأتى النبي بشاةٍ ودينارٍ، فأقره النبي عليه الصلاة والسلام، ودعا له بالبركة، حتى لو اشترى ترابًا لربح فيه [16].
طيب، نسبة الربح هنا كم؟ نسبة الربح في البيع وفي الشراء (100%)، ليس الثلث (100%)، وهذا ينقض قول المالكية في تحديد الغبن بالثلث، هنا نسبة الربح (100%)، لم يعتبره النبي عليه الصلاة والسلام غبنًا، لا في البيع ولا في الشراء.
فالصواب في هذه المسألة: أن المرجع في الغبن إلى العرف، فالشيء اليسير لا يعتبره الناس غبنًا، يعني مثلًا اشتريت سلعةً، بدل أن تشتريها بمئةٍ اشتريتها مثلًا بسبعةٍ وتسعين، لا يعتبره الناس غبنًا، لكن لو كان سعرها مئةً، واشتريتها بمئةٍ وخمسين أو بمئتين؛ هذا يعتبره الناس غبنًا، أو كان سعرها مئةً، وبعتها بعشرين أو بعشرةٍ؛ هذا غبنٌ، فلك الحق في طلب الفسخ بمقتضى خيار الغبن.
هذا هو الغبن الظاهري، لكن ماذا عن الغبن الحقيقي؟
الغبن الحقيقي ليس في الدنيا، الغبن الحقيقي يوم القيامة، عندما يأتي الإنسان في عرصات يوم القيامة، ويرى أن عمره قد ذهب في لهوٍ وفي غفلةٍ، ويرى أناسًا معهم حسناتٌ أمثال الجبال، اغتنموا أعمارهم في طاعة الله عز وجل، فيصاب بالغبن، هذا هو الغبن الحقيقي؛ كما قال ربنا سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9].
هذا هو الغبن الحقيقي، عندما يُبعث الإنسان يوم القيامة حافيًا عاريًا، ويرى أن عمره قد ذهب في لهوٍ وفي غفلةٍ، ولم يغتنم عمره فيما ينفعه في الدار الآخرة، ويرى أناسًا قد انتفعوا من أعمارهم، عَمَروها بطاعة الله عز وجل، وأتوا بالحسنات العظيمة أمثال الجبال، أما هو فقد ذهب عمره في لهوٍ، فهنا يصاب بالغبن، يصاب بالغبن الحقيقي، هذا هو الغبن والله، ولهذا سمى ربنا عز وجل يوم القيامة بيوم التغابن، وفي ذلك إحدى سور القرآن، سورة التغابن: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ.
فليستعد المسلم لذلك اليوم، وليغتنم حياته؛ فإنه في دار يتمناها الأموات، ما دام الإنسان حيًّا، لا زال باب العمل مفتوحًا، ولا زال باب التوبة مفتوحًا، ولا زال التدارك ممكنًا، لكن عندما تبلغ الروح الحلقوم؛ يغلق في وجهه باب العمل، ويغلق في وجهه باب التوبة، ويندم الندم العظيم، وإذا كان يوم القيامة غُبن غبنًا عظيمًا، هذا هو الغبن الحقيقي.
فينبغي أن يحرص المسلم كل يومٍ على أن يعمر وقته بطاعة الله عز وجل، وأن يتزود بزاد التقوى.
لا أرش مع إمساك السلعة
قال:
ولا أرش مع الإمساك.
يعني: لو أن هذا المغبون -سواءٌ أكان بائعًا أو مشتريًا- قال: أنا أريد أن أستمر في البيع، لكن أريد الأرش، يعني وهو الفرق بين قيمته في السوق، وبين الثمن الذي اشتريته به، فهنا يقول المؤلف: ليس لك الأرش، إما أن تقبل هذا البيع، وإما أن تفسخه بمقتضى خيار الغبن؛ لأن الشارع لم يجعل له الأرش في هذه الحال، ولم يفت عليه جزءٌ من المبيع ليأخذ الأرش في مقابلته، وهذا هو الأظهر والله أعلم، لكن الحنابلة يجعلون له الأرش في خيار العيب، ولا يجعلون له الأرش في خيار الغبن، وسيأتينا بعد قليلٍ أنه في خيار العيب يجعلون له الأرش، لكن هنا يقول: ليس له الأرش.
فالصواب: أنه لا أرش له في الجميع، سواءٌ في خيار الغبن أو في خيار العيب؛ لأن الأصل في البيع أنه عقدٌ لازمٌ، إن تراضيا على الأرش؛ فلا بأس به، لكن إن لم يتراضيا على الأرش؛ فلا أرش، إلا في حالةٍ واحدةٍ، وهي ما إذا تعذر الرد عند حدوث العيب، فيصار للأرش؛ يعني مثلًا: اشترى سيارةً ووجد فيها عيبًا وأراد أن يردها، احترقت السيارة، فهنا فقط له الأرش، هذه الحالة التي يكون له فيها الأرش، ما عدا ذلك لا أرش، إما أن تقبل السلعة، وإما أن تردها بمقتضى الخيار، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عن هذا عند الكلام عن خيار العيب.
خيار التدليس
الرابع من أقسام الخيار:
خيار التدليس.
وعرفه المصنف، قال:
وهو أن يدلس البائع على المشتري ما يزيد به الثمن.
التدليس مأخوذ من الدُّلْسة، وهي الظلمة، كأن البائع بتدليسه صيَّر المشتري في ظلمةٍ معنويةٍ بالنسبة لحقيقة الأمر.
وضابط التدليس: أن يُحَسِّن البائع السلعة؛ ليزيد بذلك ثمنها، فيغتر المشتري بمظهرها ويشتريها بأكثر من ثمنها الحقيقي.
وقد جاء في “صحيح مسلمٍ” عن أبي هريرة أن النبي مر على صُبْرةٍ من طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، قال: ما هذا يا صاحب الطعام؟، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس، من غش فليس منا [17]، فالنبي عليه الصلاة والسلام اعتبر وضع الطعام السليم فوق الطعام الذي أصابته السماء نوعًا من الغش.
وظاهر هذا الحديث: أن الغش من كبائر الذنوب؛ لأن الوعيد شديدٌ، قال: من غش فليس مني، وهذا لا يكون إلا على كبيرةٍ، لا يكون على صغيرةٍ.
ضابط الكبيرة: هي كل معصيةٍ فيها حدٌّ في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرة، من لعنةٍ أو غضبٍ أو نارٍ، أو نفي دخول الجنة، أو نفي إيمانٍ، ومن ذلك أيضًا: أن يقول: ليس مني، أو ليس منا، إذا وردت في أي معصيةٍ: ليس منا، أو ليس مني؛ فهذا يدل على أن هذه المعصية من كبائر الذنوب.
أمثلةٌ للتدليس
ذكر المصنف أمثلةً للتدليس لما هو موجودٌ في زمنه، نذكر هذه الأمثلة، ثم نذكر أمثلةً معاصرةً:
المثال الأول:
قال:
كتصرية اللبن في الضرع.
يعني: تصرية اللبن -لبن الإبل أو البقر أو الغنم- يحبس لبنها في الضرع مدةً، حتى يكثر، فيظن المشتري أن لبنها كثيرٌ، والواقع بخلافه، هذا قد ورد فيه قول النبي : لا تُصَرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد؛ فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها؛ إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعًا من تمرٍ [18].
فيخير المشتري للشاة المصراة بعدما علم بين الإمساك وبين الرد، لكن إن شرب الحليب وانتفع به، أو مضى عليه مدةٌ طويلةٌ، فيرد بدل الحليب صاعًا من تمرٍ، أما لو اكتشف التصرية مباشرةً، وأرد أن يردها مع لبنها فله ذلك، لكن الغالب أن الإنسان لا يكتشف التصرية إلا بعد مدةٍ؛ ولهذا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقطع النزاع، فقدر مقابل اللبن صاعًا من تمرٍ، لكن لو تراضيا على غير الصاع من التمر، على مبلغٍ ماليٍ معينٍ؛ فلا بأس.
المثال الثاني:
قال:
وتحمير الوجه، وتسويد الشعر، فيحرم.
المقصود: تحمير وجه الجارية الرقيقة، وتسويد شعرها، والرق الآن انقرض في وقتنا الحاضر، وأصبح ليس له وجودٌ.
نذكر أمثلةً معاصرةً من التدليس:
مثلًا: أن تكون السيارة مصدومةً، فيصلحها ويبيعها ولا يخبر المشتري بأنها مصدومةٌ، هذا نوعٌ من التدليس، لو اكتشف المشتري أنها مصدومةٌ، فله الخيار.
من ذلك: وضع الفاكهة الرديئة في الأسفل والسليمة في الأعلى؛ كما في القصة التي حصلت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام [19].
من ذلك: تغيير عداد السيارة، يقلل المسافة التي مشت بها السيارة، فإذا اكتشف المشتري ذلك؛ فله الخيار.
من ذلك: تغيير صلاحية المنتج، وأية صورةٍ من صور التدليس، يثبت لمن دلس عليه الخيار، مع الإثم في حق من دلس.
قال:
ويثبت للمشتري الخيار، حتى ولو حصل التدليس من البائع بلا قصدٍ.
يعني: البائع لو افترضنا أن التدليس حصل منه من غير قصدٍ، فيثبت للمشتري الخيار؛ كأن يشتري إنسانٌ سيارةً، ثم يبيعها مباشرةً، فيكتشف المشتري بأنها مصدومةٌ، البائع يقول: أنا ما كنت أعلم أنها مصدومةٌ، أنا اشتريتها وما كنت أعلم، نقول: يثبت للمشتري الخيار، حتى لو كان البائع لا يعلم، إلا إذا شرط البراءة من كل عيبٍ مجهولٍ؛ فإنه يبرأ بذلك، أما إذا لم يشترط البراءة من كل عيبٍ مجهولٍ؛ فللمشتري أن يرد هذه السلعة على البائع، البائع نفسه له أن يردها على من اشتراها منه.
خيار العيب
الخامس من أقسام الخيار:
خيار العيب.
يعني: الذي يثبت بسبب العيب في السلعة، وضابطه: نقصان قيمة المبيع بالعيب في العرف، بحيث لو علم به المشتري؛ لم يشتر السلعة بالثمن الذي قد اشتراها به، فيثبت الخيار للمشتري.
اشتريت سيارةً ووجدت بها عيبًا، لك الخيار، اشتريت سلعةً من السلع ووجدت بها عيبًا، لك الخيار، لكن بشرط أن يكون هذا العيب مؤثرًا في نقصان قيمة السلعة، أما إذا كان عيبًا يسيرًا لا يؤثر في قيمة السلعة فلا يعتبر، والمشتري إنما دفع الثمن في مقابل جميع المبيع، وهذا يقتضي سلامة المبيع من العيب، فكون جزءٍ منه ناقصًا بالعيب، يقتضي عدم رضاه به، فيثبت له الخيار.
قال:
فإن وجد المشتري بما اشتراه عيبًا يجهله؛ خُيِّر بين رد المبيع بنمائه المتصل وعليه أجرة الرد، وبين إمساكه ويأخذ الأَرْش.
يخير المشتري -إذا اكتشف العيب- بين أن يرد المبيع، فإذا رده يرده مع نمائه، والمؤلف هنا يقول: “المتصل”، سبق أن قلنا: إن الحنابلة يفرقون بين النماء المتصل والمنفصل، والقول الراجح: أنه لا فرق بينهما، والنماء يكون للمشتري، الغُنم بالغُرم، والخَرَاج بالضمان [20].
وقوله: “عيبًا يجهله”، يدل على أن المشتري لو كان عالمًا بالعيب؛ فليس له الخيار.
“وبين إمساكه وأخذ الأرش”، يعني: المشتري، نقول: إما أن ترد هذا المبيع بالعيب، وإما أن تُبقي هذا المبيع بعيبه لكن تأخذ الأرش.
ما معنى الأَرْش؟
انتبه، معنى الأرش ليس هو الفرق بين قيمة السلعة معيبًا وسليمًا، لا، ليس هو الفرق، وإنما هو قسط ما بين قيمة المبيع سليمًا وقيمته معيبًا من الثمن الذي اشتراه به، فالأرش: هو القسط وليس الفرق، انتبه لهذه المسألة الدقيقة.
مثال ذلك: اشترى رجلٌ سيارةً بتسعين ألفًا، ووجد بها عيبًا، قُدِّرت قيمة السيارة وهي سليمةٌ بمئة ألفٍ، وقيمتها وهي معيبةٌ بثمانين ألفًا، الأرش هنا: الخُمس؛ لأن الفرق عشرون، عشرون نسبتها إلى مئة: الخُمس، يعني (20%)؛ وعلى ذلك: يكون الخمس من الثَّمَن الذي بيعت به السيارة، من تسعين ألفًا، فخُمُس التسعين ألفًا: ثمانية عشر ألفًا، فيقال: الأرش هو ثمانية عشر ألفًا، فلاحظ هنا أن السيارة اشتراها بتسعين، وقدرت وهي سليمةٌ بمئةٍ، وقيمتها وهي معيبةٌ بثمانين.
بعض الناس يقول: الفرق عشرون، لا، ليس الفرق عشرين، الفرق ثمانية عشر، كيف جعلناها ثمانية عشر؟ بهذه المعادلة، كم الفرق ما بين ثمانين إلى مئةٍ؟ عشرون ألفًا، نسبتها إلى المائة الخُمس؛ معنى ذلك: أن الأرش هو خُمس الثَّمَن، الثمن كم؟ تسعون ألفًا، نقسم تسعين على خمسةٍ، الناتج ثمانية عشر، فيكون الأرش هو ثمانية عشر ألفًا، فهذه المسألة دقيقةٌ في كيفية تقدير الأرش.
بعض الإخوة، بعض طلبة العلم، يجعل الأرش هو الفرق ما بين قيمة السلعة السليمة والمعيبة، هذا غير صحيحٍ، وإنما هو القسط وليس الفرق بهذه المعادلة التي ذكرت.
وأشرنا قبل قليلٍ إلى أن بعض المحققين من أهل العلم؛ كابن تيمية، قالوا: إنه لا أرش في هذه الحال، وأن المشتري مخيرٌ؛ إما أن يقبل المبيع بعيبه، أو أن يرده بمقتضى خيار العيب؛ لأنه لم يرد دليلٌ يدل على الأرش، والأصل في البيع أنه عقدٌ لازمٌ، إلا إذا تعذر الرد فيصار للأرش كما مثلنا.
قلنا: رجلٌ اشترى سيارةً، ووجد بها عيبًا، أراد أن يردها، احترقت السيارة أو سرقت، فهنا يكون له الأرش.
ولهذا قال المصنف:
ويتعين الأرش مع تلف المبيع عند المشتري.
يعني هذا بإجماع العلماء؛ لأنه ليس هناك حلٌّ آخر، المبيع تلف عند المشتري، ما هو الحل؟ ما عندنا حلٌّ آخر، إلا أن يُعطَى المشتري الأرش.
قال:
ما لم يكن البائع علم بالعيب وكتمه؛ تدليسًا على المشتري، فيحرم، ويذهب على البائع، ويرجع المشتري بجميع ما دفعه له.
يعني: لو أن البائع علم بالعيب في السلعة، لكن كتم هذا العيب فتلف المبيع عند المشتري بآفةٍ سماويةٍ؛ مثلًا بحريقٍ ونحوه؛ فإنه يأثم بذلك، ويرجع على البائع؛ لأنه قد غرر بالمشتري، والمشتري يرجع على البائع بجميع الثمن.
خيار العيب على التراخي
طيب هنا قال المصنف:
وخيار العيب على التراخي لا يسقط، إلا إن وجد من المشتري ما يدل على رضاه؛ كتصرفه، واستعماله لغير تجربةٍ.
خيار العيب على التراخي، يعني: حتى لو لم تكتشف العيب إلا بعد سنتين أو ثلاثٍ، لك الحق في الخيار، ليس على الفور؛ لأن الخيار إنما شرع لدفع الضرر عن المشتري، إلا إذا وُجدت قرائن تدل على رضا المشتري بالسلعة مع العيب؛ فيسقط الخيار في حقه.
وإذا مضت مدةٌ تكفي لكشف العيب في السلعة، لكن المشتري لم يرد المبيع، ولم يُمض البيع؛ فإنه يجبر إما على الرد أو الإمضاء؛ دفعًا للضرر عن البائع.
قال:
ولا يفتقر الفسخ إلى حضور البائع، ولا لحكم الحاكم.
كالطلاق.
والمبيع بعد الفسخ أمانةٌ بيد المشتري.
يعني المشتري الآن اكتشف عيبًا، اشترى سلعةً واكتشف فيها عيبًا، فأشهد اثنين من الحاضرين، قال: أشهدكم أني قد فسخت العقد، فيفسخ العقد بهذا، ولا يحتاج إلى حضور البائع، ولا إلى أن يكون ذلك عند القاضي، المهم أنه يثبت ذلك بشهادة شاهدين.
طيب، إذا فسخ المشتري البيع، المبيع يبقى أمانةً عنده لو تلف بغير تعدٍّ ولا تفريطٍ، فإنه لا يضمن.
اختلاف المتبايعين في العيب
وإن اختلفا: عند من حدث العيب مع الاحتمال ولا بينة؟ فقول المشتري بيمينه.
هذه مسألةٌ يكثر وقوعها، اختلف البائع والمشتري فيمن حدث عنده العيب، البائع يقول للمشتري: العيب حدث عندك، المشتري يقول: لا، بل اشتريت هذه السلعة معيبةً، إن كان هناك بينةٌ، فالقول قول صاحب البينة، وإن لم يكن هناك بينةٌ -وهو الغالب- فهنا المصنف يقول: إن القول “قول المشتري بيمينه”؛ لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت، فكان القول قول من ينفيه، لكن بيمينه.
والقول الثاني في المسألة: أن القول قول البائع بيمينه، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، وروايةٌ عند الحنابلة، واستظهره ابن القيم رحمه الله، وهذا هو القول الراجح؛ لحديث ابن مسعودٍ : إذا اختلف البيعان؛ فالقول قول البائع [21]، والحديث حديثٌ سنده حسنٌ أو صحيحٌ، وله شواهد وطرقٌ متعددةٌ، أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والنسائي.
فهذا نصٌّ في المسألة: أن القول قول البائع عند الاختلاف، والأصل السلامة وعدم وجود العيب، وادعاء المشتري بأن العيب سابقٌ على العقد هذا خلاف الأصل، فالصواب: أنه إذا اختلف المشتري والبائع فيمن حدث عنده العيب، ولم يكن هناك بينةٌ؛ أن القول قول البائع بيمينه.
قال:
وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما؛ قُبل بلا يمينٍ.
يعني: إن لم يحتمل حدوث العيب إلا صدق المشتري مثلًا، أو صدق البائع؛ فالقول قول البائع أو المشتري، ومثلوا له، قالوا: كأن يشتري عبدًا ثم يجد به أصبعًا زائدًا، هذا يعتبر عيبًا، ومعروفٌ أنه لا يمكن أن ينبت الأصبع لدى المشتري، فيقبل قول المشتري هنا بلا يمينٍ.
خيار الخُلف في الصفة
القسم السادس من أقسام الخيار:
خيار الخُلْف في الصفة: فإذا وَجد المشتري ما وُصف أو تقدمت رؤيته قبل العقد بزمنٍ يسيرٍ متغيرًا؛ فله الفسخ.
ذكرنا في مقدمة كتاب البيع: أنه يجوز البيع بالصفة، يجوز أن تبيع لإنسانٍ آخر سلعةً بالصفة، والمشتري يشتريها بالصفة، تقول: عندي سيارةٌ، نوعها كذا، (موديلها) كذا، لونها كذا، تذكر المواصفات التي يختلف بها الثمن، والمشتري يقول: اشتريت، تقول: بعتك، أو تقول: نصيبك؛ فهنا ينعقد البيع.
لكن لو أن المشتري لما جلبت له هذه السلعة؛ وجد الصفة مختلفةً، أنت قلت له مثلًا: لونها أبيض، وجد أن لونها أسود، هنا له الخيار، وهذا يسميه الفقهاء خيار الخُلف في الصفة.
فيثبت لمن اختلفت الصفة الخيار؛ ولهذا قال المصنف: “فإذا وجد المشتري ما وُصف أو تقدمت رؤيته قبل العقد بزمنٍ يسيرٍ متغيرًا، فله الفسخ”، يعني: عند اختلاف الصفة، وأيضًا لو أنه رأى السلعة، ثم عند استلامها وجدها متغيرةً؛ فله الخيار، طبعًا التغير الذي يختلف به الثمن، أما التغير الذي لا يختلف به الثمن فليس له الخيار.
ويحلف إن اختلفا.
يعني: يحلف المشتري بأنه إنما اشتراها بهذه الصفة، ويكون له الخيار.
خيار الخُلف في قدر الثمن
السابع من أقسام الخيار:
خيار الخُلف في قدر الثمن: فإذا اختلفا في قدره؛ حلف البائع: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا، ويتفاسخان.
البائع يقول: بعت لك هذه السلعة بعشرةٍ، المشتري يقول: أبدًا، بعتها لي بتسعةٍ، وإن وُجدت بينةٌ؛ فالقول قول صاحب البينة، إن لم توجد بينة؛ هنا المؤلف يقول: يتحالفان ويتفاسخان، وإن نَكَل أحدُهما؛ يكون القول قول صاحبه، وسبق ترجيح القول بأن القول قول البائع بيمينه؛ لحديث ابن مسعودٍ السابق أن النبي قال: إذا اختلفا البيعان، فالقول ما قال البائع، وهذا نصٌّ في المسألة، قلنا: هذا الحديث حديثٌ صحيحٌ بشواهده؛ فالصواب إذنْ خلاف ما ذكره المؤلف، الصواب: أن القول قول البائع، لكن بعض العلماء يقول: إن مؤدَّى القول بالتحالف والتفاسخ: أنه في الحقيقة يرجع للقول الثاني، وهو أن القول قول البائع، لماذا؟ لأنهما إذا تحالفا وتفاسخا؛ فالبائع سيرد الثمن للمشتري، والمشتري سيرد السلعة للبائع، فرجعت المسألة إلى أن القول قول البائع، فيكون الخلاف في هذه المسألة لفظيًّا.
ولهذا قال الموفق بن قدامة: ويحتمل أن يكون معنى القولين واحدًا، وأن القول قول البائع مع يمينه، فإذا حلف فرضي المشتري بذلك؛ أخذ به، وإن أبى؛ حلف أيضًا وفسخ البيع بينهما.
فإذنْ عند الاختلاف في الثمن، البائع يقول: هذه السلعة تريدها بعشرةٍ خذها، ما تريدها اتركها، وليس للمشتري أن يلزمه، ويقول: لا، أنا اشتريتها منك بتسعةٍ، نقول: أعطنا بينةً، قال: ما عندي بينةٌ، نقول: إذن الأصل أن هذه السلعة للبائع، تبقى للبائع، وعلى ذلك يدل حديث ابن مسعودٍ .
الخيار بتخبير الثَّمن
هذه أقسام الخيار السبعة، أضاف بعض الفقهاء -كصاحب “زاد المستقنع”- قسمًا ثامنًا، وهو الخيار بتخبير الثَّمن، يعني: الخيار الذي يثبت فيما إذا أخبره البائع بثمنٍ، وتبين خلافه، وذكروا له أربع صورٍ: ذكروا له التولية والشركة والمرابحة والمواضعة.
التولية: أن يقول: أبيعك هذه السلعة برأس مالي، ورأس مالي مثلًا عشرة آلافٍ، ثم يتبين أنه كاذبٌ، وأن رأس ماله تسعة آلافٍ، فيثبت للمشتري الخيار.
الشركة: أن يقول: أشركك معي برأس مالي، ورأس مالي مئة ألفٍ، تبين أن رأس ماله بخلاف ذلك، فيثبت الخيار.
المرابحة: أن يقول: أبيعك هذه السلعة برأس مالي والربح كذا، ثم يتبين أنه كاذبٌ، فيثبت للمشتري الخيار.
المواضعة: أن يقول: أبيعك هذه السلعة بخسارة كذا، أو بنقصٍ عن رأس مالي بكذا، ثم يتبين أنه كاذبٌ.
فهذه أربع صور: التولية، والشركة، والمرابحة، والمواضعة، فللمشتري الخيار بين الإمساك وبين الرد.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا خيار للمشتري، وإنما يجري الحكم على الثمن الحقيقي، ويُحَط القدر الزائد فقط، فإذا قال: أبيعك هذه السلعة برأس مالي، ورأس مالي عشرة آلافٍ، ثم تبين أن رأس ماله تسعة آلافٍ، فالمشتري نقول له: ليس لك الخيار، وإنما يعطيك البائع ألف ريالٍ، هذا هو القول الراجح في المسألة؛ لأن الأصل لزوم البيع، وعدم ثبوت الخيار للمشتري بعد التفرق بالأبدان، لا نخرج عن هذا الأصل إلا بدليلٍ، هذا البائع كذب على المشتري، نقول: أعطه هذا القدر الذي كذبت به عليه، أما أن نجعل للمشتري الخيار، فيحتاج إلى دليلٍ، وربما أحيانًا السلع تتغير أسعارها، نحن نرى الآن تقلبات الأسعار في الأسواق، فربما المشتري يريد أن يفسخ البيع، الأصل لزوم البيع بعد التفرق بالأبدان.
طيب قال: البائع كذب عليَّ، طيب كذب عليك في كم؟ كذب عليك في ألف ريالٍ، نقول: نجبر البائع أن يعطيك ألف ريالٍ، كذب عليَّ مثلًا في خمسمئة ريالٍ، يعطيك خمسمئة ريالٍ، يعطيك الذي المبلغ الذي كذب عليك فيه، لكن لا نجعل للمشتري الخيار في فسخ البيع؛ لأن الأصل في البيع اللزوم بعد التفرق بالأبدان، هذا هو القول الراجح والمختار عند كثيرٍ من المحققين من أهل العلم؛ وعلى ذلك: فما صنعه المصنف رحمه الله صاحب “دليل الطالب” هو الصواب، وهو أن أقسام الخيار سبعةٌ، وليست ثمانيةً، وأن القول بأن هناك قسمًا ثامنًا وهو الخيار بتخبير الثمن قولٌ مرجوحٌ.
خيار مماطلة المشتري
أضاف بعضهم خيارًا آخر، هنا لم يذكر في “السلسبيل”، لكنه مهمٌّ، وهو خيار مماطلة المشتري، خيار مماطلة المشتري، أي إذا باع شخصٌ سلعةً، وتبين أن المشتري مماطلٌ لم يسدِّد له الثمن، باع له مثلًا سيارةً، قال: إن شاء الله أنا أعطيك الثمن غدًا إن شاء الله، أتى الغد وما أعطاه، كل يومٍ له عذرٌ، فأصبح هذا المشتري مماطلًا، هل نقول: إن البيع عقدٌ لازمٌ، وأنت -أيها البائع- اذهب وطالب بحقك في المحكمة، ويجبر هذا المشتري على التسديد، أو نقول: للبائع الخيار في إمضاء البيع أو فسخه؛ لأن مماطلة المشتري تعتبر عيبًا؟
قولان للفقهاء، المذهب عند الحنابلة: أنه لا يثبت الخيار في هذه الصورة، واختار جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كابن تيمية رحمه الله، أن للبائع الخيار في فسخ العقد؛ حفاظًا على ماله، ودفعًا للضرر عنه، ولأن مماطلة المشتري تعتبر عيبًا فيه، وإذا كان يثبت الخيار بوجود العيب في السلعة؛ فكذلك يثبت الخيار للبائع لوجود العيب في المشتري؛ فإن المماطلة عيبٌ كبيرٌ في الإنسان، وهذا هو الذي تدل له أصول وقواعد الشريعة، ولكن ينبغي أن يكون هذا الفسخ عند القاضي في المحكمة، حتى تضبط الأمور؛ لأنه ربما يستعجل البائع في الفسخ، لو قلنا: له الفسخ مباشرةً، ربما يستعجل البائع في الفسخ، خاصةً إذا ندم على البيع، ونحو ذلك؛ ولذلك نقول: ينبغي أن يكون الفسخ عند القاضي، فيقول البائع للمشتري: أن بعت لفلانٍ هذه السلعة، ولم يسدد لي الثمن، فإما أن يسدد لي الآن، أو أريد فسخ العقد، فهذا يسميه بعضهم: “خيار مماطلة المشتري”.
بهذا نكون قد انتهينا عند الكلام عن أقسام الخيار وأحكامه، وما ذكرناه يعطيك خلاصةً لكلام الفقهاء عن الخيار وأحكامه ومسائله.
يملك المشتري المبيع مطلقًا بمجرد العقد
قال المصنف رحمه الله:
فصلٌ
ويملك المشتري المبيع مطلقًا بمجرد العقد.
“يملك المشتري المبيع”، يعني: السلعة، “بمجرد العقد”، يعني: بمجرد الإيجاب والقبول، مِلك السلعة يعني: انتقلت ملكية هذه السلعة من البائع للمشتري، فلا يشترط نقد الثمن، لو قال: بعتك هذه السيارة، قال المشتري: قبلت، هنا انتقلت ملكية السيارة من البائع إلى المشتري، فإذا تفرقا بالأبدان؛ لزم العقد، فليس من شروط صحة العقد نقد الثمن.
التصرف في المبيع قبل قبضه
ويصح تصرفه فيه قبل قبضه.
يعني: يصح تصرف المشتري في المبيع قبل قبضه لتمام ملكه له، وإن تلف؛ فمن ضمانه.
قال:
إلا المبيع بكيلٍ أو وزنٍ أو عدٍّ أو ذرعٍ، فمِن ضمان بائعه حتى يقبضه مشتريه، ولا يصح تصرفه فيه ببيعٍ أو هبةٍ أو رهنٍ قبل قبضه..
تصرف المشتري في المبيع قبل قبضه، أو تصرف البائع فيه قبل قبضه، إذا كانت السلعة مما يكال أو يوزن، أو يعد أو يذرع؛ فإن المشتري يملكها بالعقد، ولا يجوز له أن يتصرف فيها إلا بعد قبضها، فإن تلفت قبل قبض المشتري؛ فإنها من ضمان البائع.
المؤلف هنا يرى أن السلعة إذا كانت طعامًا أو ما في معناه؛ فلا يجوز للمشتري التصرف إلا بعد القبض، وإذا كانت السلعة ما عدا ذلك فيجوز، هذا هو المذهب عند الحنابلة؛ وقالوا: لأن النصوص ورد فيها التنصيص على الطعام؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: من ابتاع طعامًا؛ فلا يبيعه حتى يستوفيه [22].
والقول الثاني: أنه لا يجوز للمشتري التصرف في المبيع مطلقًا، سواءٌ أكان المبيع طعامًا أو غير طعامٍ، يعني في جميع السلع، وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، وهو مذهب الشافعية، واختاره ابن تيمية وابن القيم، وأيضًا من مشايخنا: شيخنا ابن بازٍ وابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع، وهو القول الراجح.
ولذلك ابن عباسٍ رضي الله عنهما -الراوي لحديث: من ابتاع طعامًا؛ فلا يبيعه حتى يستوفيه– قال: “ولا أحسب كل شيءٍ إلا مثله”.
وأيضًا جاء في حديث حكيم بن حزامٍ : أن النبي قال: من ابتاع شيئًا؛ فلا يبيعه حتى يقبضه [23]، وشيئًا نكرةٌ، وأيضًا في حديث زيد بن ثابتٍ : “نهى رسول الله أن تباع السلع حيث تُبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم” [24]، فقال: “نهى أن تباع السلع”، ولم يخص ذلك بالطعام.
فالصواب إذنْ أنه لا يجوز التصرف في المبيع قبل قبضه في جميع السلع، ولا يختص ذلك بالطعام، هذا هو القول المُرجَّح عند كثيرٍ من المحققين من أهل العلم.
تلف المبيع أو الثمن
قال:
وإن تلف بآفةٍ سماويةٍ قبل قبضه؛ انفسخ العقد.
يعني: قبل أن يَقبض المشتري السلعة، تلف بآفةٍ سماويةٍ، فينفسخ العقد، هذه المسألة يسميها الفقهاء بمسألة: وضع الجوائح، وقد أمر النبي بوضع الجوائح، وقال: لو بعتَ من أخيك ثَمَرًا، فأصابته جائحةٌ؛ فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حقٍّ؟! [25].
مثلًا: رجلٌ باع ثمر مزرعته، الثمر يعني: التمر، باعه لآخر بمئة ألفٍ، ثم بعد البيع وقبل أن يَصرِم المشتري ثمر النخل، تلف هذا النخل بصاعقةٍ، أو ببردٍ، أو بغبارٍ، أو نحو ذلك، فهنا المشتري يرجع على البائع بالثمن، يقول: أرجع عليَّ مئة ألفٍ، هذا معنى وضع الجوائح، فالذي يتحمل الخسارة هو البائع، وليس المشتري؛ لأن المشتري لم يقبض المبيع بعد، فهذه هي مسألة وضع الجوائح، الذي يتحمل الخسارة هو البائع، وليس المشتري.
قال:
وبفعل بائعٍ، أو أجنبيٍّ، خُيِّر المشتري بين الفسخ ويرجع بالثمن، أو الإمضاء ويطالب من أتلفه ببدله.
يعني: إذا كان التلف بآفةٍ سماويةٍ؛ مثل صاعقةٍ، مثل جرادٍ، مثل بردٍ، مثل غبارٍ، فهنا المشتري يرجع على البائع، لكن لو كان التلف بفعل إنسانٍ، بفعل آدميٍّ، ليس بآفةٍ سماويةٍ؛ فالمشتري يقال: لك الخيار؛ إن شئت فسخت العقد وطالبت البائع بالثمن، وإن شئت أمضيت العقد وطالبت المتلِف بالبدل.
قال:
والثمن كالمُثْمَن في جميع ما تقدم.
يعني: إذا تلف ثمن السلعة بعد العقد، وقبل أن يقبضه البائع، وكان معينًا، فإن العقد ينفسخ، ويأخذ البائع سلعته، لكن لو كان في الذمة أخذ بدله.
طبعًا الكلام عن الثمن، كما ذكرنا سابقًا، لما كان الثمن بالدنانير والدراهم، وقد تكون مغشوشة، أما تعامل الناس اليوم بالأوراق النقدية، لا نحتاج لمثل هذا الكلام، قال:
ما يحصل به القبض في المبيع
ويحصل قبض المكيل بالكيل، والموزون بالوزن، والمعدود بالعد، والمذروع بالذَّرْع.
والفرق بين المكيل والموزون: أن الكيل تقدير الشيء بالحجم، والوزن تقدير الشيء بالثِّقَل، والمرجع في قبض ما يباع هو العرف، فقبض الذهب يختلف عن قبض الغنم، يختلف عن قبض العقار، يختلف عن قبض السيارة، المرجع في ذلك للعرف، قبض كل شيءٍ بحَسَبه؛ لو أخذنا مثلًا السيارة، ما هو العرف في قبض السيارة؟ كان بعض العلماء يقول: إن القبض لا بد فيه من إخراج السيارة من معرض السيارات، وبعضهم قال: يحركها، يقدمها ويؤخرها يمينًا ويسارًا، وقال بعضهم: إن القبض بحيازة البطاقة الجمركية الأصلية، والأوراق الثبوتية، نرجع في ذلك لأهل السيارات، هم الذين يحددون، ما هو القبض عندهم؟ لمَّا رجعنا لأهل السيارات؛ قالوا: إن القبض عندنا بحيازة البطاقة الجمركية الأصلية والأوراق الثبوتية.
فعلى ذلك: المرجع في تحديد العرف لأهل الصنعة؛ فعلى هذا: قبض السيارة، بمجرد حيازة البطاقة الجمركية الأصلية؛ يحصل قبض السيارة، ولو لم يخرجها من المعرض.
أما القول بأنه يحركها، يقدمها ويؤخرها، هذا أشبه بالعبث، لكن حيازة البطاقة الجمركية الأصلية عند أهل السيارات تعتبر قبضًا.
قبض العقار بالتخلية، قبض الأغنام يكون بوضعها في الحوش مثلًا، قبض الذهب والفضة بتناولها باليد، وهكذا، إذنْ قبض كل شيءٍ بحَسَبه.
قال:
بشرط حضور المستحق أو نائبه.
يعني: لا يصح القبض فيما سبق إلا بحضور المستحق للثمن، وهو البائع، أو المستحق للسلعة، وهو المشتري، أو من ينوب منابهما، إذا اشتريت فاكتل، وإذا بعت فكِل.
أجرة الكيَّال والوزَّان والعدَّاد
وأجرة الكيَّال والوزَّان والعدَّاد والذَّرَّاع والنقَّاد على الباذل.
يعني: على البائع، فلو قال المؤلف: على البائع؛ لكان أوضح في العبارة؛ لأن البائع عليه إقباض المبيع للمشتري، فكانت الأجرة عليه.
وقوله: “النَّقَّاد”، النقاد يعني: الإنسان الذي يكتشف زيف النقد، وهذا -كما ذكرت- كان عندهم في الزمن السابق، يتعاملون بالدراهم والدنانير، وبعضها يكون مغشوشًا أو مزيفًا، فيأتون بالنقاد الذي ينظر في النقود، هل هي مغشوشةٌ أم لا، وهذا يحتاج لأجرةٍ، أجرته على البائع.
أجرة النقل على القابض
وأجرة النقل على القابض.
يعني على المشتري، إذا احتاج للنقل، اشتريتَ لك مثلًا سلعةً، تريد نقلها لبيتك، أجرة النقل عليك أنت -أيها المشتري- وليست على البائع، البائع باعك وأقبضك السلعة، أما أجرة النقل فعلى المشتري، وهذا ظاهرٌ.
قال:
ولا يضمن ناقدٌ حاذقٌ أمينٌ خطأً.
الناقد الذي يميز زائف الدراهم من صحيحها لو أخطأ؛ لا يضمن، لا يضمن ما دام حاذقًا أمينًا.
الإقالة وأحكامها
ثم انتقل المؤلف للكلام عن الإقالة وأحكامها.
الإقالة: هي فسخ أحد المتعاقدين العقد عند ندم الآخر، ذكرنا أن البيع عقدٌ لازمٌ، إذا تفرق المتبايعان من مكان التبايع بالأبدان؛ لزم البيع.
طيب لزم البيع، أحيانًا يندم البائع أو يندم المشتري، فإذا ندم البائع، أراد أن يفسخ البيع، نقول: لا، ليس لك ذلك، أو المشتري، نقول: ليس لك ذلك، إلا أن يُقِيلك صاحبك.
تسن الإقالة للنادم من بائعٍ ومشترٍ
طيب، هذه الإقالة ما حكمها؟ مستحبةٌ، ليست واجبةً، إن تجاوب معك المشتري فأقالك؛ فهو مأجورٌ، إن تجاوب البائع مع المشتري فأقاله؛ فهو مأجور.
ولهذا قال المصنف:
وتسن الإقالة للنادم من بائعٍ ومشترٍ.
فهي سنةٌ، وليست واجبةً، الإقالة؛ لأن البيع عقدٌ لازمٌ؛ لقول النبي : من أقال مسلمًا بيعته؛ أقال الله عَثْرَته [26] وفي لفظٍ: من أقال نادمًا بيعته؛ أقال الله عثرته يوم القيامة [27].
لكن هل الإقالة فسخٌ أم بيعٌ؟
قولان للفقهاء:
- منهم من قال: إنها فسخٌ، وهذا هو قول الجمهور؛ مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
- والمالكية قالوا: إنها بيعٌ.
أما الجمهور فقالوا: إن الإقالة هي عبارةٌ عن رفعٍ وإزالةٍ؛ ولهذا يقال: أقال الله عثرتك، فهي أقرب للفسخ منها للبيع، وابن المنذر استدل بإجماع الفقهاء على النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، مع إجماعهم على أنه له أن يقيل المسلم ويفاسخه جميع السلم، فلو كانت الإقالة بيعًا؛ لما صح هذا، والإجماع منعقدٌ على الصحة، وهذا استدلال دقيقٌ من ابن المنذر رحمه الله.
وقول المالكية ليس له دليلٌ سوى فقط التعليل بأنها نقلٌ للملك بعوضٍ على وجه التراخي إذا كانت بيعًا.
والراجح هو قول الجمهور، مع أن أقوال المالكية في البيوع جيدةٌ، وكما قال ابن تيمية رحمه الله: أجود المذاهب الأربعة في المعاملات مذهب المالكية؛ لأن الإمام مالكًا أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب، الذي يقال: إنه أفقه الناس في البيوع، لكن هذا ليس بلازمٍ في جميع المسائل، أن يكون قول المالكية في المعاملات هو الراجح، لاحِظ، في هذه المسألة رجحنا قول الجمهور، وقلنا: إن قول المالكية مرجوحٌ، بل ضعيفٌ، والظاهر أن الإقالة فسخٌ، وليست بيعًا.
طيب، هل تجوز الإقالة بأكثر من الثمن الذي وقع عليه العقد؟
هذه مسألةٌ يكثر السؤال عنها، هذا رجلٌ باع بيته، نفترض أنه باع بيته مثلًا بمليوني ريالٍ، على أنه سيجد بيتًا، بحث، وبحث، لم يجد، طلب من المشتري فسخ العقد، رفض المشتري، قال: أنا أريد منك أن تقيلني، وأعطيك خمسين ألف ريالٍ، مقابل الإقالة، هل تجوز الإقالة بعوضٍ، أو لا تجوز؟
هذه هي المسألة، في ذلك قولان للفقهاء:
- القول الأول: أنه لا تجوز الإقالة بأكثر من الثمن الذي وقع عليه عقد البيع، هذا هو قول الجمهور، وهو المشهور من مذهب الحنابلة؛ قالوا: لأن العقد إذا ارتفع؛ رجع كل من المتبايعين بما كان لهما؛ المشتري بالثمن، والبائع بالسلعة، فلم تجز الزيادة.
- القول الثاني: أنه تجوز الإقالة بأكثر من الثمن الذي وقع عليه العقد، ففي مثالنا السابق: يجوز أن يعطي البائع المشتري خمسين ألف ريالٍ مقابل أن يقيله في هذه البيعة، وترجع له (فيلَّته) أو عمارته، ووجه هذا القول: أن هذه الزيادة هي بمثابة الصلح بينهما، والإقالة فسخٌ وليست بيعًا، وقياسًا على العربون؛ فإن البائع يأخذ عربونًا من المشتري مقابل عدم استمرار المشتري في العقد؛ فكذلك الإقالة، يأخذ أحد المتعاقدين عوضًا من الآخر نظير عدم استمراره في العقد، ثم إن الأصل في المعاملات الحل والإباحة، وأخذ عوضٍ على الإقالة ليس فيه ربًا ولا جهالةٌ ولا غررٌ، وفيه مصلحةٌ كبيرةٌ للناس.
فالقول الراجح: أن أخذ العوض على الإقالة لا بأس به.
وبهذا نكون قد انتهينا مما أردنا شرحه في هذا الدرس، ونقف عند باب الربا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:
الأسئلة
السؤال: هل يثبت الخيار للمشتري إذا سلَّم الثمن وماطل البائع في تسليم المبيع؟
الجواب: نعم، يثبت الخيار، إذا سلَّم المشتري الثمن وماطل البائع في تسليم المبيع، فيثبت الخيار؛ كما لو كانت المسألة بالعكس، لو أن البائع سلَّم السلعة وماطل المشتري في تسليم الثمن، ثبت للبائع الخيار، فكذلك أيضًا لو أن المشتري سلَّم الثمن وماطل البائع في تسليم السلعة، فيثبت للمشتري الخيار.
السؤال: ما حكم من يعرض سلعته للبيع وهي غير متوفرةٍ لديه؟
الجواب: هذا السؤال سأله حكيم بن حزامٍ النبي ، وقال: يا رسول الله، إن الرجل يأتيني ويشتري مني، وليس عندي ما أبيعه، فأشتريه له ثم أبيعه له، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تبع ما ليس عندك [28]، قال: إن الرجل يأتيني وليس عندي شيءٌ، فأبيعه ثم آتي بالسلعة، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تبع ما ليس عندك، فلا يجوز أن يبيع الإنسان شيئًا لا يملكه.
والحلول كثيرةٌ؛ فإما أن يتوكل عن مالك السلعة -يكون وكيلًا عنه- وإما أن يجعل التفاوض مع من يريد الشراء على سبيل الوعد وليس على سبيل العقد، فيقول: ماذا تريد؟ قال: أريد سلعةً مواصفاتها كذا وكذا، قال: أنا أوفرها لك، ثم أبيعها لك، فيذهب ويشتري له هذه السلعة، ويملكها ويقبضها، ثم يبيعها له، أما أن يبيع ما لا يملك، فهذا لا يجوز؛ ولذلك بعض الإخوة في البيع عبر التطبيقات، يبيعون ما لا يملكون، وهذا لا يجوز، فإما أن يكون وكيلًا لمالك السلعة، وإما أن يكون ذلك على سبيل الوعد وليس على سبيل العقد، حتى إذا ملك السلعة؛ باعها له، أما أن يبيع السلعة وهو لا يملكها، فهذا لا يجوز؛ لقول النبي : لا تبع ما ليس عندك.
السؤال: هل الجلوس مع بعض الأشخاص؛ لأجل معرفة أخطائهم، ثم نصيحتهم يعتبر من تتبع العورات؟
الجواب: نعم، هذا التصرف لا يجوز؛ لماذا تجلس معه لتعرف أخطاءه؟! إن عرفت خطأه؛ فناصحه، أما أن تذهب وتجلس معه لكي يخطئ، ثم تنصحه، فهذا ربما يدخل في تتبع العورات، وأنت لا ترضى أن أحدًا يفعل معك هذا، يأتي ويجلس معك حتى يقع منك الخطأ ثم ينصحك، فعامِل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به.
السؤال: ما حكم الدم الخارج من البواسير، هل ينقض الوضوء؟
الجواب: هذا الدم الخارج من البواسير لا ينقض الوضوء، الدم الخارج عمومًا إن كان من غير السبيلين لا ينقض الوضوء؛ لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على أن خروج الدم ينقض الوضوء، ولاحِظ الفرق بين هذه المسألة، ومسألة نجاسة الدم، الدم نجسٌ، ويُعفى عن يسيره، لكن خروجه من غير السبيلين لا ينقض الوضوء.
وعلى ذلك: فمن كان معه بواسير، فخرج منه دمٌ أو قيحٌ، فلا ينتقض وضوؤه، لكن يبقى النظر هل هذا الدم أو القيح يعتبر نجسًا؟ إن كان يسيرًا؛ فلا يعتبر نجسًا، ويعفى عنه، أما إن كان كثيرًا فينبغي قبل الصلاة أن يزيله، فيكون هذا من باب إزالة النجاسة.
السؤال: ورد في الحديث أن من قرأ آخر آيتين من سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه، لو قرأهما بعد المغرب، هل يدخل في الحديث؟
الجواب: نعم، بل إنه الأفضل، الأفضل أن يقرأهما بعد غروب الشمس؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: من قرأهما في ليلةٍ.. [29]، والليل يبدأ بغروب الشمس، فالأفضل أن يقرأهما في أول الليل، حتى يحصل على الوعد المذكور في الحديث، أول الليل إما قبل صلاة المغرب، أو بعد صلاة المغرب، هذا هو الأفضل في وقت قراءتهما.
السؤال: أيهما أعظم أجرًا: الإمام أو المؤذن؟
الجواب: المؤذن أفضل من الإمام، الأذان أفضل من الإمامة؛ لأنه ورد في فضل الأذان ما لم يرد في فضل الإمامة، ومن ذلك: قول النبي : المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة [30]، وقوله: إذا أذنت فارفع صوتك؛ فإنه لا يسمع صوت المؤذن شجرٌ ولا حجرٌ ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة [31]، ولذلك عمر يقول: “لولا الخلافة لأذنت”، إلا الإمام الأعظم، ومن كان عنده نفعٌ متعدٍّ للمسلمين، فالإمامة في حقه أفضل؛ لأن النبي وخلفاءه الراشدين اختاروا الإمامة؛ كما قال عمر : “لولا الخلافة لأذنت”.
فمن كان عنده نفعٌ متعدٍّ للمسلمين؛ كعالمٍ كبيرٍ مثلًا، ونحو ذلك؛ فالإمامة في حقه أفضل، لكن من كان من عامة الناس؛ فالأذان أفضل من الإمامة؛ لأنه ورد في فضله ما لم يرد في الإمامة.
السؤال: ما حكم تركيب عدسات الأسنان بقصد التجمل؟
الجواب: الذي يظهر أنه لا بأس بذلك، الأصل في هذا الحل والإباحة، حتى لو كان ذلك بقصد التجمل، ليس هناك ما يمنع، وليس هذا من التفليج المنهي عنه؛ لأن التفليج هو التفريق بين الأسنان، هذه مجرد عدساتٍ وتلميعٍ للأسنان، والأصل في هذا الإباحة.
السؤال: هل تشرع الصلاة الإبراهيمية بعد الأذان؟
الجواب: الصلاة الإبراهيمية وردت السنة بأنها تقال في الصلاة بعد التشهد، فيؤتى بأية صيغةٍ من صيغ الصلاة الإبراهيمية، ومن أشهرها: اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمدٍ؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ.
أما خارج الصلاة فيقال: اللهم صل وسلم على رسولك محمدٍ، وإن شئت قلت: وعلى آله وصحبه، لكن لا يؤتى بالصلاة الإبراهيمية، الصلاة الإبراهيمية إنما وردت داخل الصلاة، أما خارج الصلاة، فيقال: اللهم صل وسلم على رسولك محمدٍ وآله وصحبه، من غير حاجةٍ لذكر الصلاة الإبراهيمية.
السؤال: سلفت أبي مبلغًا من المال، ومكث حوالي ثلاث سنواتٍ عنده، ثم قام أبي بتسديده، هل تجب الزكاة؟ وهل تكون على سنةٍ واحدةٍ، أو على السنوات كلها؟
الجواب: تزكيها عن سنةٍ واحدةٍ فقط؛ لأن وجود المبلغ عند أبيك مشكوكٌ في رجوعه إليك، ولا تملك أنت مطالبة أبيك بهذا الدين؛ ولذلك فتحتسب فقط السنة التي أرجع لك فيها هذا المبلغ؛ فعلى ذلك: تزكي هذا المبلغ عن سنةٍ واحدةٍ فقط.
السؤال: هل رسم جزءٍ من جسد الإنسان؛ كاليد والوجه، ونحو ذلك، يدخل في التصوير المحرم؟
الجواب: لا يدخل في التصوير المحرم، ذكر هذا الفقهاء، وذكروا أن الجزء من البدن الذي لا يقوم به حياةٌ، لا يعتبر من الصور المحرمة؛ كرأسٍ مثلًا أو يدٍ أو رجلٍ، هذا لا يدخل في الصور المحرمة، ومن ذلك ما يسمى بـ(الفيسات) الموجودة في وسائل التواصل الاجتماعي، يكون أحيانًا وجهٌ ضاحكٌ، أو وجهٌ عبوسٌ، أو نحو ذلك، هذا لا يدخل في الصور المحرمة، ولا بأس باستخدامه.
السؤال: ما حكم المسح على (البوت) الطويل، مثل (البسطار) العسكري [32]؟
الجواب: إذا كنت تلبسه على طهارةٍ ولا تخلعه؛ فلا بأس بالمسح عليه؛ لأنه يكون هو والجورب كالخف الواحد، أو كالجورب الواحد، سواءٌ كان ذلك البسطار العسكري، أو كان ذلك (بوتًا) طويلًا، لكن بهذين الشرطين: أن تلبسه على طهارةٍ، ولا تخلعه، أما إذا لم تلبسه على طهارةٍ، أو أنك خلعته؛ فليس لك المسح عليه، حتى لو خلعته وبقي الجورب، لا تمسح عليه، إنما تمسح على الجورب.
وعلى ذلك: بسطار الإخوة العسكريين، نقول: إذا لبستم هذا البسطار على طهارةٍ، ولم تخلعوه؛ فيجوز المسح عليه، لكن إذا كنت عندما تريد أن تدخل المسجد خلعت البسطار؛ فهنا ليس لك المسح على البسطار، وإنما تمسح على الجورب فقط.
فإذن المسح على البسطار، والمسح على البوت الطويل يصح بشرط: أن تلبسه على طهارةٍ، وألا تخلعه.
السؤال: قول الله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، ما معناه؟
الجواب: نَسُوا اللَّهَ على ظاهره: غفلوا عن الله عز وجل، وعن أوامره، وعن طاعته، وتجرءوا على حرمات الله سبحانه، فغفلوا ولهوا، وأما “نسيهم”: يعني تركهم الله عز وجل، والله تعالى لا يوصف بالنسيان، وإنما المقصود: أن الله تعالى تركهم جل وعلا.
فلفظ النسيان في اللغة العربية قد يطلق على معنى الترك، وهذا هو المقصود في هذه الآية، وليس المقصود به النسيان كنسيان المخلوقين؛ لأن هذا ينزه الله عز وجل عنه.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 2079، ومسلم: 1532. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2112، ومسلم: 1531. |
^3 | رواه أبو داود: 4596، وابن ماجه: 3991. |
^4, ^5, ^6, ^19 | سبق تخريجه. |
^7 | رواه البخاري: 2107، ومسلم: 1531. |
^8 | رواه أبو داود: 3457، وابن ماجه: 2182. |
^9 | رواه أبو داود: 3456، والترمذي: 1247، والنسائي: 4483، وأحمد: 6721. |
^10 | رواه أبو داود: 3594، من حديث أبي هريرة ، والترمذي: 1352، من حديث عمرو بن عوف المزني ، وقال: حسن صحيح. |
^11 | الآمَّة: الشجة التي بلغت أم الرأس، وهي الجلدة التي تجمع الدماغ. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 1/ 68 (أمم). |
^12 | لا خلابة: أي لا خداع. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 2/ 58 (خلب). |
^13 | رواه ابن ماجه: 2355، وأصله في البخاري: 2117، ومسلم: 1533، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. |
^14 | رواه أبو داود: 3508، والترمذي: 1286، والنسائي: 4490، وابن ماجه: 2243، وقال الترمذي: حسن غريب. |
^15 | رواه البخاري: 2742، ومسلم: 1628. |
^16 | رواه البخاري: 3642. |
^17 | رواه مسلم: 102. |
^18 | رواه البخاري: 2148، ومسلم: 1515. |
^20 | رواه أ بو داود: 3508، والترمذي: 1285، والنسائي: 4490، وابن ماجه: 2243، وقال الترمذي: حسن صحيح. |
^21 | رواه أبو داود: 3511، والترمذي: 1270، والنسائي: 4648، وابن ماجه: 2186، وأحمد: 4447. |
^22 | رواه البخاري: 2126، ومسلم: 1526. |
^23 | رواه النسائي في السنن الكبرى: 6163، بنحوه. |
^24 | رواه أبو داود: 3499. |
^25 | رواه مسلم: 1554. |
^26 | رواه أبو داود: 3460، وابن ماجه: 2199، وأحمد: 7431. |
^27 | رواه ابن ماجه: 2199، والبزار: 8967، ابن حبان: 5029. |
^28 | رواه أبو داود: 3503، والترمذي: 1232-1233، والنسائي: 4613، وابن ماجه: 2187، وقال الترمذي: حسن. |
^29 | رواه البخاري: 4008، ومسلم: 807. |
^30 | رواه مسلم: 387. |
^31 | رواه البخاري: 609. |
^32 | حذاء طويل العنق. |