logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(48) كتاب البيع- من قوله “ولا بيع العنب أو العصير لمتخذه خمرًا..”

(48) كتاب البيع- من قوله “ولا بيع العنب أو العصير لمتخذه خمرًا..”

مشاهدة من الموقع

النبي يقول: من يُرِد اللهُ به خيرًا يفقهه في الدين[1]، فإذا وجدت من نفسك حرصًا على التفقه في الدين، وحرصًا على طلب العلم، ومحبة لذلك، فهذه أمارة إن شاء الله على أنه أريد بك الخير، ومفهوم هذا الحديث: أنَّ مَن لم يُرَدْ به الخيرُ لا يُوفَّق للفقه في الدين.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي، في هذا اليوم الإثنين، الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر من عام 1443 للهجرة، مع الدرس الرابع عشر في هذا العام.

هذا هو الأسبوع الرابع عشر من هذا الفصل الدراسي، وسيكون هذا الأسبوع هو آخر أسبوع في هذا الفصل، ثم نتوقف فترة الاختبارات والإجازة، فعندنا إجازة الطلاب الجامعيين واختبارات الطلاب الجامعيين، ستبدأ بعد -يمكن- أسبوعين أو ثلاثة، وهم -يعني- الفئة الأكبر المتابعون لهذا الدرس.

ففي هذه الفترة -فترة الاختبارات والإجازة- سيتوقف، ويستأنف الدرس بداية الفصل الدراسي الثاني إن شاء الله تعالى، في يوم الإثنين أظن في شهر ستة من بداية الفصل الدراسي الثاني، كالمعتاد بإذن الله .

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

أيضًا استئناف الدرس سيكون حضوريًّا إن شاء الله، ما لم يطرأ طارئ، يعني: الآن كما ترون كورونا المتحول وتداعياته، يعني لا ندري، لكن إذا سارت الأمور على ما هي عليه، فإن شاء الله سيكون الدرس حضوريًّا كالمعتاد في جامع الأمير مشعل بإذن الله تعالى.

نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.

ننتقل بعد ذلك إلى التعليق على “السلسبيل”، وإن شاء الله في هذا الدرس، سنواصل الحديث عن أبواب المعاملات، وكنا قد وصلنا إلى مسألة (بيع العنب والعصير لِمُتَّخِذِه خمرًا)، والقدر المقرر إن شاء الله إلى (باب: الخيار) بإذن الله .

في البيوع المحرمة

قال المصنف رحمه الله تعالى:

ولا بيع العنب أو العصير لمتخذه خمرًا، ولا بيع البيض والجوز ونحوهما للقمار، ولا بيع السلاح في الفتنة، أو لأهل الحرب، أو قُطَّاع الطريق.

هذه البيوع التي ذكرها المصنف رحمه الله كلها محرمة، ولا تصح؛ لأن فيها إعانة على المعصية، والله تعالى يقول: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، والنبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر أن الله لعن الخمر، قال: لعن اللهُ الخمرَ، وشاربها وساقِيَها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه[2].

فلا يجوز بيع شيء لمن يستعمل هذا الشيء في معصية الله، هذه القاعدة: أنه لا يجوز بيع شيء لمن يستعمل هذا الشيء في معصية الله تعالى.

ومثَّل المؤلف لهذه القاعدة بهذه الأمثلة:

بيع العنب أو العصير لمتخذه خمرًا

(بيع العنب أو العصير لمتخذه خمرًا)، فهذا بيع شيء لمن يستعمله في معصية الله، يعرف أن هذا الإنسان إنسان خَمَّار، فيبيعه العنب أو العصير لكي يستخدمه في صنع الخمر، هذا لا يجوز.

بيع البيض والجوز للقمار

أو (بيع البيض والجوز ونحوهما للقِمَار)، يعرف أن هذا الإنسان المشتري لهذا البيض أو الجوز سوف يستعمله في القمار، فهذا لا يجوز؛ لأن فيه إعانته على المعصية.

بيع السلاح في الفتنة

أو (بيع السلاح في الفتنة)، عندما تحصل فتنة، فيبيع السلاح، فهذا لا يجوز؛ لأنه ربما يقتل به مسلمًا. أو بيعه (لأهل الحرب، أو قُطَّاع الطريق).

فهذه أمثلة لبيع الشيء الذي يُستخدم في معصية الله تعالى.

قلنا: لا يجوز بيع الشيء لمن يستخدمه في معصية الله.

فإذا كان هذا الشيء يُستخدم في الخير وفي الشر، وفي الحلال وفي الحرام، فما حكم بيعه؟ يعني مثلًا كأجهزة التلفاز، أجهزة الجوال المسجل، الكاميرا، آلات الحلاقة، ونحو ذلك؟

نقول: الأصل هو جواز بيعها، إلا إذا علمت بأن المشتري لها سيستخدمها في الحرام، فلا تَبِعها، أما إذا كنت لا تعلم فالأصل الجواز.

إذن، الأصل فيما يُستخدم في الخير والشر جواز بيعه؛ ولهذا فهنا المؤلف قال: (ولا بيع العنب والعصير لمتخذه خمرًا)، لكن بيع العنب والعصير لغير متخذه خمرًا لا بأس به.

فإذا كان العنب يستخدم في الحلال وفي الحرام، يستخدم في الاستفادة من العنب وفي شرب عصيره، ونحو ذلك، ويستخدم في اتخاذه للخمر؛ إذن فالأصل جواز بيعه.

وكذلك بيع البيض والجوز، قد يستخدم في الحلال وقد يستخدم في الحرام؛ قد يستخدم في الحلال لأن الإنسان يأكل هذا البيض أو الجوز، وقد يستخدم في الحرام لمن يتخذه في القمار.

وهكذا أيضًا بيع السلاح حال الفتنة، الأصل بيع السلاح على أنه حلال، لكن إذا علم بأن هذا المشتري سيستخدمه في قتلٍ محرم، فإنه لا يجوز.

بيع الرقيق المسلم للكافر

قال:

ولا بيعُ قِنٍّ مسلمٍ لكافر لا يُعتَق عليه.

لا يجوز بيع الرقيق المسلم للكافر؛ لأنه لا يجوز استدامة ملك الكافر على المسلم، والإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه، والله تعالى يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].

لكن استثنى المؤلف من هذا مسألة، وهي قوله: (لا يعتق عليه)؛ لأنه إذا كان يعتق عليه فإنه سوف يتحرر مباشرة بمجرد بيعه له، كأن يكون العبد أبًا للمشتري الكافر، أو ابنه أو أخاه، فيصح ذلك البيع؛ لأنه وسيلة إلى حريته؛ لأنه: مَن مَلَك ذا رحم محرم عتق عليه[3]؛ يعني: الإنسان اشترى أباه، وأبوه رقيق، مباشرة يعتق الأب، فهذه المسألة مستثناة.

البيع على بيع المسلم

قال:

ولا بيعٌ على بيع المسلم، كقوله لمن اشترى شيئًا بعشرة: “أعطيك مثله بتسعة”.

لا يجوز البيع على بيع أخيه، ولا الشراء على شراء أخيه، ولا السَّوْمُ على سَوْمِ أخيه، ولا الخِطبة على خطبة أخيه.

فالبيع على بيع أخيه مثاله: أن يشتري رجلٌ من آخر سلعة بعشرة، فيأتي بائع آخر ويقول للمشتري: أنا أبيعك مثلها بتسعة أو أبيعك أحسن منها بعشرة. فهذا من صورة البيع على بيع أخيه، ولا يجوز؛ لأنه سبب لإيقاع الشحناء والبغضاء بين المسلمين.

ولا شراء عليه، كقوله لمن باع شيئًا بتسعة: “عندي فيه عَشَرة”.

يعني: يحرم شراء المسلم على شراء أخيه، كأن يقول المشتري للبائع الذي باع سلعةً بتسعة: أنا أشتريها منك بعشرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا يَبِعْ بعضكم على بيع بعض[4].

وحكمة النهي ظاهرة؛ لأن البيع على بيع أخيه والشراء على شراء أخيه، يُسبِّب الشحناء والبغضاء بين المسلمين.

سوم المسلم على سوم أخيه

قال:

وأما السَّوْم على سَوْمِ المسلم مع الرضا الصريح.

فحرام، ولكن يصح العقد؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: لا يَسِمِ المسلمُ على سوم أخيه[5]. وقد قسَّم ابن قُدَامة في “المغني” السَّوْمَ على سَوْمِ أخيه، إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: أن يُوجَد من البائع تصريحٌ بالرِّضا بالبيع.

فيحرم السوم عليه، مثل أن يُحرَّج على سلعة، ثم يسوم أحد الحاضرين فيقول له البائع: نصيبك. فيأتي آخر ويسومها بثمن أكثر؛ فهذا لا يجوز.

القسم الثاني: أن يظهر من البائع ما يدل على عدم رضاه.

وهذا يجوز فيه السوم، كما في الحَرَجات والمزادات، هذا يسومها مثلًا بمائة، وهذا بمائة وعشرة، وهذا بمائة وعشرين، هذا كله لا بأس به بالاتفاق.

القسم الثالث: ألا يوجد من البائع ما يدل على الرضا ولا على عدمه.

فلا يحرم السوم، كأن يُحرَّج على سلعة، فيقول أحد الحاضرين: أشتريها بمائة، ويسكت البائع، ولا يوجد منه ما يدل على الرضا، وإنما يسكت؛ فلا يحرم السوم.

ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين في حديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلقها ثلاثًا، فجاءت للنبي عليه الصلاة والسلام تشتكي له أن زوجها طلقها، ولم يجعل لها نفقة ولا سكنًا، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: لا سكنى لكِ ولا نفقة. لأنها مطلقة ثلاثًا، ثم قال: إذا حللت فآذنيني يعني: إذا انقضت عِدَّتُك فأخبريني، فلما انقضت عدتها ذكرت له أن معاوية وأبا الجهم خطباها، فقال النبي : أما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، ولكن انكحي أسامة بن زيد. فكرهته؛ لأنه كانت بشرته سوداء وهي بيضاء، فكرهت أن تتزوج رجلًا أسود وهي بيضاء ومن أشراف قريش، وأسامة مولى، ولكن رأت أن الذي أشار بذلك هو رسول الله ، فتحاملت على نفسها وقبلت بهذا النكاح، فجعل الله فيه خيرًا عظيمًا، واغتبطت به[6].

وقول النبي عليه الصلاة والسلام عن معاوية: أما معاوية فصعلوك لا مال له يعني: فقير، والفقر يعتبر عيبًا في الخاطب، والمال يعتبر ميزة في الخاطب، وإن كان معيار التفاضل عند الله هو التقوى، لكن يبقى أن هذه أيضًا معايير بالنسبة للخُطَّاب؛ لأن المرأة الآن تريد أن تختار أفضل الخطاب، فالفقر يعتبر عيبًا، فإذا وُجد -يعني- خاطب فقير وخاطب غير فقير، وهما متقاربان في الصلاح، فغير الفقير يكون مُرجَّحًا.

وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ما معنى هذا؟ قيل: إنه كثير الضرب للنساء، وهذا عيب في الرجل، وقيل: إنه كثير الأسفار، وهذا أيضًا عيب آخر؛ فعلى كلا التقديرين يعني يُعتبر عيبًا.

وهذا يدل على أن ذكر العيوب في الخاطب ليست من الغِيبة المحرمة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ذَكَر في كل رجل عيبًا في غَيْبتهما، لكن على سبيل النصح لهذه المرأة، فذِكر عيوب الخاطب لا يُعتبر من الغِيبة المحرمة.

طيب، ما وجه دلالة هذا الحديث؟

وجه الدلالة أن فاطمة بنت قيس لم يوجد منها الرضا، لم يوجد منها ما يدل على الرضا بمعاوية ولا أبي الجهم؛ ولذلك ذهبت للنبي عليه الصلاة والسلام واستشارته، فأشار عليها بأن تتزوج بأسامة بن زيد، والسوم على السوم مثل الخطبة على الخطبة.

القسم الرابع: أن يظهر من البائع ما يدل على الرضا من غير تصريح.

مثال ذلك: أن يُحرَّج على السلعة، فيقول أحد الحاضرين: أشتري هذه السلعة منك بمائة، فيبتسم البائع ولا يقول: نصيبك، ولا يتكلم -يعني- بشيء صريح. فهنا -يعني- ظهر من البائع ما يدل على الرضا، لكن من غير تصريح.

اختلف العلماء في هذه الصورة؛ فقال بعضهم: إنه يجوز السوم في هذه الحال، كما قال القاضي أبو يعلى، وقال آخرون: إنه يحرم، وهذا مال إليه الموفق، وقال: لو قيل بالتحريم هاهنا لكان وجهًا حسنًا، فإن النهي عامٌّ وخرجت منه الصور المخصوصة بأدلتها، فتبقى هذه الصورة على مقتضى العموم.

والأقرب أنه في هذه الصورة يحرم السوم على سوم أخيه، ما دام أنه قد وجد من البائع ما يدل على الرضا، فيحرم السوم على سوم أخيه، ولا يلزم من ذلك التصريح.

بيع المصحف

قال:

وبيع المصحف.

يعني: يحرم بيع المصحف مع صحة العقد، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وعُدَّ من المفردات.

وعلَّلوا للمنع بأن في بيعه ابتذالًا له وتركًا لتعظيمه، وبآثار رويت عن بعض الصحابة، كابن عباس وجابر وغيرهما، وأيضًا عن بعض التابعين كعبدالله بن يزيد ومسروق وشريح. وقال الإمام أحمد: لا أعلم فيه رخصة عن أحدٍ من أصحاب النبي ، والشراء أهون.

ولكن عندما نحقق المذهب عند الحنابلة، فالمؤلف ذكر أنه يحرم بيع المصحف، وقال: إنه يحرم بيع المصحف، لكنه يصح.

ولكن القول المعتمد عند الحنابلة هو عدم صحة بيع المصحف؛ ولهذا فالمَرْدَاويُّ في “الإنصاف” قال: في جواز بيع المصحف روايتان: إحداهما لا يجوز، ولا يصح، وهو المذهب. القول الثاني في المسألة: أنه يجوز بيع المصحف إذا لم يكن في بيعه ابتذال ولا امتهان له.

وهذا هو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عند الحنابلة، قالوا: لأن الحاجة داعية لذلك؛ ولأنه لم يوجد دليل يدل على المنع، والأصل هو الحِل؛ ولأن البيع إنما يقع على الجِلْد والوَرَق، ولا يقع على القرآن، وإنما على الجلد والورق.

والقول الراجح هو القول الثاني، وهو جواز بيع المصحف وشراؤه، وعليه عمل الأمة من قديم الزمان، يشبه أن يكون ذلك إجماعًا عمليًّا؛ يعني هل تعلمون أحدًا الآن في الوقت الحاضر يقول بعدم جواز بيع المصحف؟ لا أعلم أحدًا الآن يقول بذلك من كبار أهل العلم، فيشبه أن يكون هذا إجماعًا عمليًّا على جواز بيع المصحف.

ثم إن القول بعدم جواز بيع المصحف فيه مشقة على الأمة، فإذا قلنا بعدم جواز بيع المصحف، يعني كثير من الناس لا يستطيع الحصول على المصحف بطريق الإهداء، فكيف يحصل الناس على المصاحف في بعض البلدان، لا يمكن أن يصل الناس للمصاحف إلا بالشراء، ولا يتأتى للمسلمين في كل مِصْرٍ وعصرٍ الحصولُ على المصحف بغير طريق الشراء. فالقول بعدم الجواز فيه مشقة كبيرة على الأمة.

ولهذا؛ فالأقرب -والله أعلم- أنه يجوز بيع المصحف وشراؤه.

وأما تعليل من قال بالمنع بأن في بيعه ابتذالًا له، فهذا لا يُسلَّم، لا يسلم بأن في بيعه ابتذالًا له؛ لأن البيع إنما هو للورق وللجلد، وليس للقرآن نفسه؛ ولهذا قال الشعبي: إنهم ليسوا يبيعون كتاب الله، إنما يبيعون الورق وعمل أيديهم.

ويعني القول الآن بأنه لا يجوز بيع المصحف ولا يصح؛ قول شبه مهجور في وقتنا الحاضر، والذي عليه عمل المسلمين في كافة أقطار بلدان المسلمين هو جواز بيع المصحف وشراؤه.

بيع الأمة قبل استبرائها

قال:

والأَمَة التي يطؤها قبل استبرائها، فحرام، ويصح العقد.

يعني: الأمة مملوكة للإنسان، وعندما يبيعها لغيره لا بد من استبراء رَحِمِها بحيضة؛ حتى لا تختلط الأنساب، فإن باعها قبل الاستبراء فيجب على المشتري أن يستبرئها.

ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة[7].

فإذا باعها الإنسان قبل الاستبراء فإن البيع صحيح، لكنه يأثم، ويجب على المشتري الاستبراء.

المقبوض بعقد فاسد

قال:

ولا يصح التصرف في المقبوض بعقد فاسد، ويُضمَن هو وزيادتُه كمعصوم.

انتقل المؤلف للكلام عن المقبوض بعقد فاسد، يعني: يقول ما قُبض بعقد فاسد لا يصح التصرف فيه؛ لأن قبضه على وجه الضمان، فإن تصرف فيه فإنه يَضْمن، ويضمن أيضًا هذا المبيع مع زيادته ونَمَائه، كالمغصوب؛ لأن الواجب أن يَرُد هذا المقبوض إلى البائع.

هنا، ذكر في “السلسبيل” بُيُوعات أخرى لم يذكرها المؤلف:

بيع العينة

أولًا: بيع العِينة:

وبيع العِينة معناه: أن يبيع السلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها بأقل منه نقدًا، وسُميت بذلك أخذًا من العَين، وهو النقد الحاضر؛ لأن أحد المتبايعين إنما يقصد بهذا البيعِ النقدَ، ولا يقصد بذلك السلعة.

وجمهور الفقهاء على تحريم بيع العِينة، ذهب إلى ذلك الحنفية والمالكية والحنابلة، خلافًا للشافعية، فالشافعية أجازوا بيع العِينة.

وقول الشافعية في هذه المسألة قول ضعيف؛ لأن النصوص ظاهرة في تحريم بيع العينة؛ ومنها قول النبي : إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورَضِيتم الزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم. وهذا الحديث صحيح؛ أخرجه أبو داود وغيره[8]، وأيضًا أحاديث أخرى وردت في هذا المعنى.

ولأن بيع العِينة ذريعة للربا، كما قال ابن عباس: “دراهم بدراهم، دخلت بينهما حريرة”[9]؛ يعني: مثلًا يبيع هذه السلعة بخمسين ألفًا مؤجلة، ثم يشتريها بأربعين ألفًا نقدًا، كأنه باع خمسين ألفًا بأربعين، فالسيارة ذهبت ثم رجعت، فالحيلة ظاهرة فيها على الربا.

فإذن، الحِكمة من تحريم بيع العِينة أنه ذريعة إلى الربا، وحيلة على الربا، والشريعة الإسلامية قد شدَّدت في شأن الربا، مع أن الأصل في المعاملات الحِل والإباحة، إلا أنها في جانب الربا شدَّدت فيه تشديدًا كبيرًا.

طيب، هناك مسألة يذكرها الفقهاء، وهي عكس مسألة العِينة، يعني العينة قلنا: إنه يبيع السلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها بأقل منه نقدًا، وعكسها أن يبيع السلعة نقدًا ويشتريها بثمن مؤجل، فما حكم ذلك؟ إذن، صورتها: أن يبيع السلعة نقدًا ثم يشتريها بأكثر منه مؤجلًا.

يعني مثلًا: بِعْتَ سيارتك بخمسين ألفًا نقدًا، ثم اشتريتها بستين ألفًا مؤجلة، هذه يسميها الفقهاء عكس العِينة.

اختلف الفقهاء في حكمها، والمشهور من مذهب الحنابلة أنها محرمة كالعينة، وقال بعض الفقهاء: إنها تجوز إذا وقعت اتفاقًا من غير قصد ولا مواطأة ولا اتفاق. وهذا هو القول الراجح، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره الموفق ابن قدامة.

قال الموفق: ويحتمل أن يجوز له شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه، إلا أن يكون ذلك عن مواطأة أو حيلة فلا يجوز، وإن وقع ذلك اتفاقًا من غير قصد جاز؛ لأن الأصل حِل البيع، وإنما حَرُم في مسألة العِينة بالأثر الوارد فيه، وليس هذا في معناه؛ ولأن التوسل بذلك أكثر فلا يلتحق به ما دونه.

إذن، عكس العِينة القول الراجح فيها: أنها تجوز إذا كانت من غير مواطأة ولا اتفاق، ولا تجوز إذا كانت بمواطأة واتفاق.

طيب، بمواطأة واتفاق تقول: “أنا أبيعك هذه السلعة نقدًا، وسوف أشتريها منك مؤجلة”، هذا باتفاقٍ واضحٍ، فهذه لا تجوز.

لكن، بغير مواطأة، كأن بعت سيارتك بالسوق على أمل أنك تشتري سيارة أخرى، بعتها مثلًا بخمسين ألفًا نقدًا، ثم إنك بحثت وبحثت وبحثت فلم تجد، فندمت على قرارك ببيع سيارتك، والمبالغ التي معك يعني أنفقتها وأنفقت بعضها، فذهبت للمشتري وقلت له: “يا فلان، أنا بِعتُكَ سيارتي بخمسين ألفًا نقدًا، وأريد أن أشتريها منك الآن بستين ألفًا مقسطة أو مؤجلة”؛ فلا بأس بذلك؛ لأن هذا وقع بغير اتفاق وبغير مواطأة.

فإذا وقع ذلك بغير اتفاق وبغير مواطأة وبغير قصد فلا بأس به، أما إذا كان عن مواطأة واتفاق فلا يجوز.

طيب، إذن، ما الفرق بينها وبين العِينة؟

العينة لا تجوز، سواء وقعت باتفاق أو بغير اتفاق؛ لأنه قد ورد فيها النص؛ ولأن الذريعة فيها إلى الربا أظهر، أما عكس العينة فإذا وقعت باتفاق فلا تجوز، وإذا وقعت بغير اتفاق تجوز.

وبذلك نعلم بأن النظر الفقهي لمسألة العِينة يختلف عن النظر الفقهي لمسألة عكس العينة، فعكس العينة الأمر فيها أخف من العينة؛ ولذلك فالموفق ابن قدامة أجاز عكس العينة إذا لم تكن عن مواطأة، وحرَّم العينة. إذن، النظر الفقهي لمسألة عكس العينة يختلف عن النظر الفقهي لمسألة العينة.

هذه مسائل ينبغي أن يدركها طالب العلم، وأن يضع كل مسألة في ميزانها الدقيق.

وهذا، يعني عندما -مثلًا- يُحتاج إلى هذا في الترجيح، أو يحتاج إلى هذا في الفتوى، فإذا كانت المسألة من عِينة يُشدَّد فيها، أما عكس العِينة فهنا يعني المسألة لا يُشدَّد فيها، ينظر للمواطأة والاتفاق: هل فيها مواطأة واتفاق؟ إن كان ليس فيها مواطأة ولا اتفاق فتجوز، وإن كانت بمواطأة واتفاق فإنها لا تجوز.

بيع التَّوَرُّق

طيب، عندنا مسألة التورق، وهي من المسائل المشتهرة عند كثير من العامة، وصورتها: أن يشتري الإنسان سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها على طرف ثالث بأقل منه نقدًا؟

مثال ذلك: هذا رجل احتاج لسيولة نقدية، إما مثلًا لبناء مسكن أو لزواج أو لغير ذلك، فذهب واشترى سلعة بثمن مؤجل، اشترى مثلًا سيارة بمائة ألف ريال مؤجلة، ثم ذهب للسوق وباعها بستين ألف ريال نقدًا، فحصل على سيولة نقدية في الحال، والثَّمَنُ المؤجل يُقسِّطه عليه في مدة يتفق فيها مع البائع. هذه تسمى مسألة التورق.

ومن ذلك التمويلات البنكية: تذهب للبنك وتطلب منهم تَوَرُّقًا في حديد أو معادن ونحو ذلك، فيبيعون عليك السلعة بثمن مؤجل، ثم تبيعها أنت على طرف ثالث نقدًا.

مسألة التورق اختلف العلماء في حكمها:

  • فأكثر العلماء على الجواز.
  • وهناك من قال بالمنع، وممن اشتُهر بذلك ابنُ تيمية رحمه الله، وذَكَر ابنُ القيم أنَّ ابنَ تيمية رُوجع مرارًا في هذه المسألة فلم يُرخِّص فيها. وهذا عجيب؛ يعني ابن تيمية على إمامته ورسوخه في العلم إلا أنه ذهب لتحريم التورق، مع أن الحكم فيها ظاهر؛ لأن العقدين منفصلان.

فأنا اشتريت سيارة بثمن مؤجل، وانتهى هذا العقد: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، وهذه السيارة أنا حر فيها، فذهبت بها للسوق وبعتها نقدًا على طرف -شخص- ثالث ليس له علاقة بالأول، فما الذي يمنع من الجواز والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]؟ فالقول بتحريمها ليس بظاهر.

لكن اشتُهر هذا القول بابن تيمية، فابن تيمية لمَّا تبنَّى هذا القول قوَّى منه؛ لأن ابن تيمية عالم كبير وراسخ في العلم. ولذلك؛ فبعض تلامذة ابن تيمية استغربوا منه: كيف يرجح هذا القول؟! وراجعوه كما قال ابن القيم، راجعوه مرارًا، إلا أنه تمسك برأيه. رحمه الله، يبقى بشرًا، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله .

فإذن، القول بالجواز هو قول أكثر العلماء، ولا بأس. وهذا هو القول الراجح، وحاجة الناس إلى التورق ظاهرة، يعني لو منعنا الناس من التورق والناس تحتاج لسيولة؟! فكيف تحصل الناس على السيولة، خاصة في وقتنا الحاضر.

الشاب الآن إذا أراد أن يشتري بيتًا فلا يستطيع أن يشتريه بمفرده في الغالب، ولا بد من مساعدةِ تمويلات بنكية، ونحو ذلك، فهو يحتاج إلى تمويل بطريق التورق.

بل حتى -ربما- لو احتاج لأقل من هذا، يعني ربما بعض الشباب حتى لو احتاج لسيارة، ربما لا يستطيع أن يشتريها نقدًا، فيحتاج إلى تمويلٍ بطريق التورق، فإذا منعنا الناس من التورق فيعني يكون في هذا نوع من الحرج عليهم، خاصة مع عدم وجود الدليل الظاهر الدال على التحريم أو المنع، فهما عقدان منفصلان، والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].

فالقول الراجح هو جواز التورق مطلقًا.

وإنما قلتُ: مطلقًا؛ لأن بعض العلماء لا يُجيزه أيضًا إلا للحاجة، ولكن ليس هناك دليل على هذا القيد، يعني: حتى لو أراد الإنسان أن يأخذ تورُّقًا لأجلِ استثمار، فلا يظهر أن في هذا بأسًا.

يعني مثلًا الآن في الوقت الحاضر، في هذه الأيام لدى البنوك سيولة، ونسبة الأرباح عندهم قليلة جدًّا، وبعض الناس يريد أن يأخذ تمويلًا بطريقة التورق، ويستثمر هذه الأموال في أمور تجارية؛ فلا بأس بذلك، فلا يشترط في التورقِ الحاجةُ على القول الراجح.

المانعون، ما حجتهم؟ يعني: حجتهم أثرٌ عن ابن عباس، مع أنه ليس بصريح، ولو كان صريحًا أيضًا وصحيحًا، فيبقى اجتهادَ صحابيٍّ خالفه بقية الصحابة، فلا يكون حجة.

وقالوا: إنها قريبة من العِينة. لكن هذا غير مُسلَّم؛ لأن العينة بين طرفين، يبيع عليه السلعة بثمن مؤجل، ثم تعود له السلعة مرة ثانية بأقل منه نقدًا، بينما هذه بين ثلاثة أطراف، يبيع السلعة بثمن مؤجل، وتنتهي علاقته، ثم يذهب ويبيعها على طرف ثالث نقدًا، فهما عقدان منفصلان، والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ[البقرة:275].

التورق المنظم

طيب، هنا مصطلح التورق المنظم، التورق المنظم هذا عند البنوك.

البنوك أخذوا مسألة التورق وتوسعوا فيها، وأوجدوا ما يسمى بالتورق المنظم.

ومعناه: أن يذهب المشتري للمصرف، أو مريد الشراء للمصرف، ويُبدي رغبته في سيولة نقدية، فيعرض عليه المصرف سلعة من السلع المملوكة له، ويقول: عندنا سلع، عندنا مثلًا حديد، عندنا أرز، عندنا مكيفات، ويبيع عليه هذه السلعة بثمن مؤجل، ثم المشتري يوكل البنك في بيع هذه السلع على طرف ثالث في الحال، فيقوم البنك ويبيع هذه السلعة على طرف ثالث، ويأخذ المبلغ ويودعه في حساب العميل، وفي خلال دقائق يحصل على ما أراد من سيولة نقدية.

يقول مثلًا: عندنا حديد نبيعه عليك بمائة ألف مقسطة. فيوقع على عقد الشراء، ثم يقول: تريد أن توكلنا في بيعها على طرف ثالث؟ يقول: نعم. يُوكِّله؛ وعلى الوكالةِ، موظفُ البنك يأخذ هذه السلعةَ بعدما يبيع عليه ويعرضها في السوق ويبيعها على طرف ثالث مباشرة، ويقول: بِعْناها لك بكذا، ويودع المبلغ في حساب العميل خلال دقائق، فيحصل على ما أراد من سيولة نقدية. فهذا الترتيب وهذا التنظيم هل له أثر في الحكم؟

بعض العلماء المعاصرين قالوا: نعم، له أثر في الحكم، وذكروا أن التورق المنظم يختلف عن التورق الجائز من عدة وجوه، قالوا: التورق الفردي تتم فيه المعاملة بصورة تلقائية بسيطة، وأما التورق المنظم فيكون بترتيب وتنظيم وإجراءات معينة وعقود مقننة.

وأيضًا قالوا: إن المبلغ الناتج عن البيع في التورق الفردي يقبضه المستورق من الطرف الثالث مباشرة، ولا علاقة للبائع بالأمر الأول، وأما في التورق المنظم فالمصرف هو الذي يسلم النقود لهذا المستورق، والمستورق يسدد المبلغ الزائد إلى أجل.

وأيضًا قالوا: في التورق الفردي لا علاقة للبائع الأول بالمشتري، أما في التورق المصرفي المنظم فهناك تفاهم مسبق بين المصرف والعميل على أن الشراء بأجل.

وأيضًا قالوا: إن التورق الفردي فيه ثلاثة أطراف: البائع الأول، المستورق، والمشتري الآخذ السلعة. أما التورق المنظم ففيه أربعة أطراف، يعني هؤلاء الأطراف الثلاثة، زائد البنك؛ وبناء على ذلك قالوا بتحريم التورق المنظم، وصدرت في هذا قرارات المجامع الفقهية.

بعض العلماء المعاصرين قالوا: إن هذه الإشكالات التي ذُكرت في التورق المنظم يمكن معالجتها بوضع ضوابط شرعية تزول معها هذه الإشكالات. وممن ذهب إلى هذا الهيئة الشرعية لمصرف الراجحي. وهذه الضوابط:

الأول: أن تكون تلك السلع مملوكة للبنك أو للمؤسسة المالية، ومُتعيِّنة بموجب الوثائق.

الثاني: ألا يكون العميل الذي تبيع عليه الشركة السلعة آجلًا هو الذي باع السلعة بصفته مالكًا، يعني حتى لا تكون من مسائل العينة.

الثالث: ألا تكون السلعة المبيعة آجلًا ذهبًا أو فضة.

الرابع: ألا يكون هناك مواطأة أو حيلة على التمويل بالفائدة الربوية.

فهذه الضوابط إذا طُبقت تنتفي المحاذير التي لأجلها حرم التورق المنظم.

وأهم هذه الضوابط هو التملك والتعيين، أن البنك يملك السلعة، وتكون السلعة متعينة.

لأن الإخلال الذي يقع في التورق المنظم أكثر ما يقع في التعيين على وجه الخصوص، فيكون البنك عنده سلع وهو صادق، يقول: عندنا سلع في المستودع الفلاني.

لكن هذه السلع تكون غير متعينة، عندما تباع على العملاء فتباع عليه سلعة من هذه السلعة، لو أراد كل عميل الحصول على السلعة التي اشتراها، فإن هذه السلع لا تكفي.

لكن يعالج هذا بالتعيين، بأن يقال مثلًا: إن السلعة إذا بيعت على عميل تكون برقم، ولا تباع على غيره، فبذلك لو أراد كلُّ عميلٍ الحصولَ على سلعته لأمكن أن يحصل عليها.

فهذا الضابط هو أهم الضوابط: أن تكون السلعة متعينة، فإذا تعينت السلعة زالت إشكالية التورق المنظم؛ لأن بقية الضوابط عامة، والبنوك تطبقها.

فلا يبيعون إلا سلعًا مملوكة لئلا تكون من مسائل العِينة، ولا تكون ذهبًا ولا فضة، وليس فيها مواطأة.

لكن، الإشكالية الأكبر لدى بعض البنوك التي تتعامل بالتورق المنظم في عدم وجود التعيين. طيب، فكيف يحصل التعيين؟

يحصل التعيين بترقيم السلعة، تُعطى برقمٍ بحيث إن هذه السلعة تكون لفلان وفلان، ولا تباع على غيره، ولو أراد أن يبقيها عنده سنة أو عشر سنين تبقى.

أما إذا لم يوجد تعيين، فلو طلب كلُّ عميل سلعتَه فإن هذه السلع لا تكفي لجميع العملاء، وهذا لا يجوز؛ لأنه يُفضي إلى بيع ما لا يملك.

ولذلك؛ فالمصارف الإسلامية تطبق التورق المنظم بالصورة الجائزة؛ لأنهم يشترطون التعيين بعد التملك، فالتورق المنظم المحرم عند البنوك التقليدية؛ لأنهم لا يضعون شرط التعيين، لكن لو طبَّقوا هذه الضوابط الأربعة لزالت إشكالية التورق المنظم.

فمثلًا؛ في مسألة بيع الحديد والمعادن التي تباع في الأسواق العالمية، يأتي العميل للمصرف، فيقولون: نبيع عليك حديدًا موجودًا في السوق العالمية في بلدة كذا. فيَقبل، فالبنك يتملك هذا الحديد ويقبضه ويبيعه على العميل مُعيَّنًا، بحيث يكون له رقم: بِعْنا عليك الحديد المملوك لنا في بلد كذا، وهذا رقمه. يعطونه رقمًا تسلسليًّا، ثم يقولون: أنت حر في هذا الحديد، أو هذه المعادن، إن شئتَ أبقيتَه عندك، وإن شئت ذهبت أنت بنفسك وبعتها، وإن شئت خدمناك ووكَّلتنا في بيعها عنك، وبعناها لك.

والغالب أن العميل يختار الخيار الثالث؛ لأن البنك سيخدمه ويبيعها له، فهذا لا بأس به؛ لأنه بيع وشراء، والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ[البقرة:275].

طيب، هنا فائدة من أفضل الطرق للحصول على سيولة نقدية عن طريق المصارف، من غير وقوع في المحاذير الشرعية: بالتورق في الأسهم المباحة؛ لماذا؟ لأن التملك فيها واضح، والقبض فيها واضح، ومتعينة، فتقول للبنك مثلًا: “اشتروا لي ألف سهم في شركة كذا”، من الشركات المباحة النقية، فيشتريها البنك، ثم يبيعها البنك عليك، وتدخل محفظتك، ثم تبيعها أنت في سوقٍ تداولًا مثلًا على طرف ثالث، فتحصل على ما أردت من سيولة نقدية، أو حتى تطلب من البنك أن يبيعها لك وتحصل على ما أردت من سيولة نقدية.

فهذه، لماذا قلنا: إنها من أفضل الطرق؟ لأن البيع فيها حقيقي ليس صوريًّا، والتملك حقيقي، والقبض والتعيين؛ ولذلك فأحد المستفتين لمَّا قال لي: أنا أريد أن أحصل على السيولة عن طريق المصارف، فما أفضل طريقة للحصول على السيولة النقدية عن طريق البنوك؟ قلت: أفضل طريقة هي التورق عن طريق أسهم الشركات المباحة. فقال: لكن عندي إشكال؛ أخشى أن البنك إذا باع عليَّ أسهم الشركات المباحة ودخلتْ في محفظتي، أن قيمة هذه الأسهم تنخفض قبل أن أبيعها على طرف ثالث؟ قلت: وهذا يؤكد حِلَّها.

لماذا؟ لأنه أصبح عندك قدر من المخاطرة، ولم تكن المسألة صورية، وإنما بيع حقيقي، وشراء حقيقي، ومتعينة، فكونه يوجد عندك قدر مخاطرة، تقول: والله إذا دخلت محفظتي أخشى أن قيمة هذه الأسهم تنخفض، وربما ترتفع فتكسب قبل أن تبيعها على طرف ثالث. فهذا يؤكد حِلَّها، وأنها ليست صورية.

فإذن، أفضل طريقة للحصول على السيولة النقدية عن طريق المصارف هو التورق عن طريق أسهم الشركات المباحة.

بيعُ الحاضِرِ للبادي

طيب، هنا أيضًا مسألة لم تُذكَر في “الدليل” وذُكرت في “السلسبيل”: بيع الحاضر للباد، نهى عنه النبي فقال: لا يبع حاضر لباد[10].

الحاضر: المقيم في البلد. والبادي ساكن البادية، أو حتى القادم من خارج البلد.

فمعنى الحديث: لا يكون له سمسارًا، يعني: إذا أتى هذا القادمُ مِن خارج البلد، سواء من البادية أو من غير البادية، لا يجوز لهذا المقيم في السوق أن يأتي له ويقول: “يا فلان، أنت لا تعرف الأسعار، أنا أريد أن آخذ السلعة وأبيعها بسعر السوق”؛ هذا لا يجوز.

طيب؛ لماذا لا يجوز؟ أليس فيه مصلحة لهذا القادم من خارج البلد؟ هذا القادم من خارج البلد لا يعرف الأسعار، وهذا الذي من داخل البلد يقول: “أنت لا تعرف الأسعار، وربما الناس يخدعونك، وتبيع السلعة بأقل من ثمنها، أنا أبيعها لك بسعر السوق”، نقول: لا يجوز.

طيب، لماذا؟ أليس فيه مصلحة لهذا القادم من خارج البلد، وفيه مصلحة أيضًا لهذا المقيم في السوق الذي يبيع لهم، فيه مصلحة للطرفين، فلماذا قلنا: إنه لا يجوز؟

الجواب: أنه وإن كان فيه مصلحة للطرفين إلا أن فيه إضرارًا بأهل السوق؛ لأن القادم من خارج البلد إذا تُرك يبيع بنفسه، ففي الغالب أنه سيبيع برُخْصٍ، وإذا باع برُخْصٍ انخفضت الأسعار، فكان في هذا مصلحة لأهل السوق وللناس كلهم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: دعوا الناس يرزق الله بعضَهم من بعض[11].

دع هذا الإنسان الذي لا يعرف الأسعار، هو حر، يبيع بنفسه، يرزق الله الناس منه؛ لكونه يبيع برُخْص، فأنت لا تتدخل وتقول: “لا تبِعها، أنا أبيعها لك”، فهذا لا يجوز.

فإذن، بيع الحاضر للبادي معناه: لا يكون له سمسارًا، الحِكمةُ من النَّهْيِ الإضرارُ بأهل السوق؛ لأنه إذا كان سمسارًا له فسيبيعه بسعر السوق، وترتفع الأسعار على الناس، لكن إذا تُرك البادي يبيع بنفسه ففي الغالب أنه سيبيع برُخْصٍ ويستفيد الناس من هذا الرخص، وقد قال عليه الصلاة والسلام: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض.

طيب، لو كان هذا البادي أو القادم من خارج البلد إنسانًا ذكيًّا، هو بنفسه ذهب للحاضر وقال: “بع لي، أنا ما أعرف الأسعار، بع لي أنت”. نقول: لا بأس، إذا قال: “بع لي”، بع له، لكن أنت لا تذهب له وتقول: “أبيع لك”، هذا هو المنهي عنه.

طيب، لو استنصحه فلا بأس أن ينصح له، يقول مثلًا: “كم سعر السوق؟ بكم تباع هذه السلعة؟”؛ فلا بأس؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض[12]، وإذا استنصح الرجل الرجل فلينصح له[13].

الشروط في البيع

ثم قال المصنف رحمه الله:

باب: الشروط في البيع.

الفرق بين شروط البيع والشروط في البيع

الشروط في البيع معناها إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة مباحة، مثاله: أن يبيع رجل بيته، ويشترط على المشتري سُكْنى البيت لمدة سنة، والفرق بين شروط البيع والشروط في البيع من أربعة وجوه:

  • الأول: أن شروط البيع مِن وَضْع الشارع، بينما الشروط في البيع مِن وَضْع المتعاقدين أو أحدهما، يعني مثلًا مِن شروط البيع الرضا، الشروط السبعة التي سبقت، أما الشروط في البيع كأن يبيع بيته ويشترط أن يسكن مدة سنة، فهي من وضع العاقد.
  • ثانيًا: شروط البيع تتوقف عليها صحة البيع، ولو اختل شرط منها لم يصح، فلو اختل مثلًا شرط الرضا أو شرطُ أن تكون السلعة مملوكةً للبائع أو نحو ذلك؛ لم يصح البيع، بينما الشروط في البيع لا تتوقف عليها صحة البيع، وإنما يتوقف عليها لزوم البيع في حقِّ مَن شرطه، بل لو -حتى- لم توجد الشروط في البيع لكان البيع صحيحًا.
  • ثالثًا: شروط البيع كلها صحيحة معتبرة؛ لأنها من وضع الشارع، بينما الشروط في البيع منها ما هو صحيح ومنها ما هو فاسد، كما سيأتي.
  • رابعًا: شروط البيع، لا يمكن إسقاطها مطلقًا، بينما الشروط في البيع يمكن إسقاطها ممن له الشرط، يعني لو أن أحدًا شَرَط مثلًا شرطًا ثم أسقط هذا الشرط؛ فلا بأس، بينما هذا لا يتأتى في شروط البيع، ومثل ذلك يقال في شروط النكاح والشروط في النكاح، وشروط الوقف والشروط في الوقف.

الشروط الصحيحة في البيع

قال:

وهي قسمان: صحيح لازم، وفاسد مبطل للبيع.

قسَّمها المؤلف إلى هذين القِسْمين، ثم ذَكَر أمثلةً لهما، وضابط الشروط الصحيحة ما وافق مقتضى العقد ولم يُبطله الشارع أو ينهى عنه. ومثَّل له المؤلف قال:

فالصحيح كشرط تأجيل الثمن أو بعضه.

لو اشترط المشتري تأجيل الثمن كله، قال: أشتري منك هذه السلعة بشرط تأجيل الثمن، أو تأجيل بعض الثمن، أو أن تكون على أقساط؛ فلا بأس.

ولذلك؛ في قصة شراء النبي عليه الصلاة والسلام الجمل من جابر، باعه عليه مقسطًا أو مؤجلًا؟ باعه مؤجلًا، قال: بِعْنِيه، فباعه واستثنى حُمْلانه إلى أهله، فلما وصل المدينة نقده النبي عليه الصلاة والسلام الثمن، ثم قال: هو لك[14] وهذا من كريم خُلُق النبي عليه الصلاة والسلام.

قوله:

أو رهنٍ أو ضَمِينٍ معينٍ.

يعني: هذه أمثلة الشروط الصحيحة، أن يشترط البائعُ على المشتري أن يأتي له برهنٍ عندما يبيع بثمن مؤجل، أو يشترط ضمينًا، يعني كفيلًا: أبيعك هذه السلعة بشرط أن تأتي لي بكفيل، أو تأتي برهن.

أو شرطِ صفةٍ في المبيع.

يعني: يشترط المشتري على البائع صفةً في المبيع. ومثَّل المؤلف لهذا بأمثلة، فقال:

كالعبد، كاتبًا أو صانعًا أو مسلمًا.

لأن هذه أمور مرغوبة عند الناس قديمًا لمَّا كان بيعُ الرِّقِّ قائمًا، ومِثْلُ ذلك:

والأَمَةِ بِكْرًا أو تحيض.

هذه أيضًا البكر عندهم أفضل من الثَّيِّب، والتي تحيض، يعني في الغالب أنها لم تتقدَّم بها السن.

والدَّابَّةِ هِمْلَاجَةً.

“هملاجة”؛ يعني: أنها تمشي بسرعة مع سهولةٍ في المشي، وهذه الصفة مرغوبٌ فيها في الدابة.

أو لَبُونًا.

يعني: ذات لبن، وهذه أيضًا صفةٌ مرغوبٌ فيها.

أو حاملًا.

يعني: يشترط أن تكون الدابة حاملًا، هذه كلها شروط صحيحة.

و..

هكذا أيضًا لو اشترط أن يكون:

الفهد أو البَازِي صَيُودًا.

أو مُعلَّمًا. هذه أمثلة الشروط الصحيحة.

ومن أمثلة ذلك بالنسبة للسيارات: أن يشترط أن تكون السيارة مثلًا موديل كذا، ولون كذا، ونحو ذلك.

قال:

فإن وُجد المشروطُ لَزِمَ البيع.

إن وُجد هذا الشرط الذي اشترطه البائع والمشتري لزم البيع؛ لأن البيع من العقود اللازمة، ومعنى كونه من العقود اللازمة أنه ليس لأحدٍ من الطرفين الفسخُ إلا برضا الطرف الآخر.

وإلا..

يعني: إن لم يجد الشرط.

فللمشتري الفسخُ أو أَرْشُ فَقْدِ الصِّفَة.

يعني: اشترط مثلًا أن تكون السيارة موديل 2021، واشتراها بالصفة، ثم لما أحضرت السيارة إذا هي موديل 2020، طيب ما الحكم؟ نقول للمشتري: لك الفسخ أو أرش فقد الصفة، إما أن تفسخ العقد وتقول: “أعطوني الثمن، وخذوا سيارتكم”. أو لك أرش فقد الصفة، يعني للمشتري الفسخ إذا كان قد اشترط الشرط، وكذا للبائع.

ولو أتى المؤلف بعبارة: “وإلا فلِمَن له الشرطُ الفسخُ أو أَرْشُ فَقْد الصِّفة”؛ لكان هذا أوضح.

طيب، ما معنى أَرْش فَقْد الصِّفَة؟

“الأرش”: هو قِسْطُ ما بين القيمتين من الثَّمَن، القِسْطُ وليس الفرق. بينهما فرقٌ.

القسط: وذلك بأن تُقوَّم السِّلْعة مع وجود الصفة، وتُقوِّمَها مع فَقْد الصفة، ويكون لمن له الشرطُ نسبةُ الفرق مقارنةً بالثمن، كأن يُقوِّمها الخبير مع وجود الصفة بأربعين، ومع عدم وجودها بثلاثين، فكيف يكون الأرش؟ ليس الأرشُ عشرةً، وإنما ننظر للفرق بين ثلاثين وأربعين، عشرة نسبتها إلى أربعين، أصبحت الربع، فيرجع المشترط منهما على الآخر بربع الثمن.

القول الثاني في المسألة: ليس لمن له الشرط إلا القبول مع فقد الصفة، أو الفسخ، وليس له الأرش، إما أن يقبل وإما أن يفسخ، نقول: هذه السيارة الآن موديل 2020، تقبلها وإلا افْسَخ العقد. لكن، أننا نُلزم البائعَ بالأرش؟ نقول: لا يلزم.

وهذا القول جزم به الموفق ابن قدامة، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة، واختاره ابن تيمية رحمه الله، وهذا هو القول الراجح؛ لأن الأصل في البيع الصحة واللزوم، فيقال: للمشتري أنت بالخيار: إن شئتَ أمضيت البيع مع فَقْد الصفة، وإن شئت فسخته.

أمَّا أننا نُلزم البائعَ بأن يقبل البيعَ ويعطي المشتري الأرش، فهذا يحتاج إلى دليل.

لكن يُستثنى من ذلك: ما إذا تعذَّر الرد، كأن تتلف السيارة مثلًا، هو اشترط أن تكون السيارة موديل 2021، وأحضر له البائع موديل 2020، فأخذها المشتري ثم صُدم بها وتلفت، فليس هناك خيار إلا الأرش، فنقول للبائع: أنت تعوض المشتري بالأرش.

الجمع بين بيع وشرط

قال:

ويصح أن يشترط البائع على المشتري منفعةَ ما باعه مدةً معلومة.

يعني: هذه من أمثلة اشتراط البائع على المشتري المنفعة.

كسُكْنى الدار شهرًا، أو حُمْلانِ الدابة إلى محلٍّ معينٍ، وأن يشترط المشتري على البائع حَمْلَ ما باعه، أو تكسيرَه، أو خياطتَه، أو تفصيلَه.

يعني: أن للبائع أو للمشتري أن يشترط على الطرف الآخر منفعةً مباحة، ومثَّل المؤلفُ للمنفعة المباحة التي يشترطها البائع: (سكنى الدار شهرًا)، و(حملان الدابة إلى محل معين)، ومثَّل للشرط الذي يشترطه المشتري على البائع بـ(حمل ما باعه، أو تكسيره، أو خياطته، أو تفصيله).

فإذن، يجوز الجمع بين بيعٍ وشرطٍ؛ ويعني: هذا ذَكَره المُؤلِّفُ للرد على بعض الفقهاء الذين قالوا: إنه لا يجوز، واستدلوا بحديث النهي عن بيع وشرط، لكنه حديث ضعيف. فالصواب: أنه يجوز الجمع بين بيع وشرط.

ولذلك؛ في قصة جابر، لمَّا باع جَمَله على النبي عليه الصلاة والسلام، اشترط عليه حُمْلانه إلى المدينة، وأقره النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الشرط[15].

لكن -يعني- اشتراط شرطٍ واحد، هذا ظاهِرٌ أنه يجوز، لكن ماذا لو شَرَط شرطين أو أكثر من شرط، شرطين أو أكثر، كأن يشترط حمل الحطب، وتكسيره، أو يشترط خياطة الثوب وتفصيله؟

  • المذهب عند الحنابلة: أنه لا يصح، بل يبطل البيع؛ ولهذا قال في “زاد المستقنع”: “وإن جمع بين شرطين بطل البيع”. والإمام أحمد قال: الشرط الواحد لا بأس به، إنما نهى رسول الله عن شرطين في البيع.

واستدلوا بحديث: ولا شرطان في بيع[16]، وأخذوا بظاهر لفظ الحديث، قالوا: النبي عليه الصلاة والسلام قال: ولا شرطان في بيع؛ فلا يجوز الجمع بين شرطين أو أكثر في بيع واحد.

  • القول الثاني: وهو قول جمهور الفقهاء، أنه لا بأس بالجمع بين شرطين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر؛ لعموم الأدلة الدالة على جواز الشروط في البيع، كحديث: المسلمون على شروطهم[17]. وهذا هو القول الراجح: لك أن تشترط ما شئت، سواء أكنت بائعًا أو مشتريًا.

أما حديث: ولا شرطان في البيع فلا بد من أن نفهم مقصود النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: ولا شرطان، ليس المقصود بالشرط هنا الشرط الذي يذكره الفقهاء، وإنما المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام: ولا شرطان في بيع: لا عقدان في بيع.

لأن الشارع قد يعبر عن العقد بالشرط، فيكون المعنى: لا شرطان في بيع المعنى النهيُ عن بيع العِينة؛ كما حقَّق ذلك ابنُ القيم رحمه الله في “تهذيب السنن”، وعبارة ابن القيم نُقلت في “السلسبيل”، قال: “وقد أشكل على كثير من الفقهاء معناه من حيث إن الشرطين إن كانا فاسدين فالواحد حرام، فأي فائدة لذكر الشرطين؟ وإن كانا صحيحين لم يَحرُما؟”.

وذَكَر أقوال العلماء وناقشها، ثم قال: “فالأولى تفسير كلام النبي بعضه من بعض، فنفسر كلامه بكلامه فنقول: نظير هذا نهيه عن صَفْقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة”.

وفسَّر: بأن يقول: خذ هذه السلعة بعشرة نقدًا، وآخذها منك بعشرين نسيئة. وهي مسألة العِينة بعينها، ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى، وهذا هو بعينه الشرطان في بيع، فإن الشرط يطلق على العقد نفسه؛ لأنهما تشارطا على الوفاء به، فهو مشروط، والشرط يطلق على المشروط كثيرًا.

وعلى هذا؛ فمعنى الحديث: ولا شرطان في بيع هو بنفس معنى حديث: نهى عن بيعتين في بيعة[18]، أو صفقتين في صفقة[19]. والمقصود بذلك كله في هذه الأحاديث النهي عن بيع العِينة.

وهذا يبين لنا -أيها الإخوة- أهمية فهم مصطلحات الشارع، ولغة الشارع، هذا مهم جدًّا لطالب العلم.

لاحِظ هنا: الخلاف في فهم مصطلح الشارع أدَّى للخلاف في الحكم في هذه المسألة، في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ولا شرطان في بيع؛ بعض الفقهاء حمل هذا على ظاهره، فقال: لا يجوز الجمع بين شرطين في البيع.

لكن هناك طائفة من المحققين من أهل العلم قالوا: ماذا يريد الشارع عندما يقول: لا شرط ولا شرطان؟ وجمعوا بين الروايات الواردة، فقالوا: إن قوله: ولا شرطان في بيع هو كقوله كنهيه عن بيعتين في بيعة، وعن صفقتين في صفقة، وفي لغة العرب: العرب تطلق الشرط على العقد.

فمعنى قوله: لا شرطان في بيع؛ يعني: لا عقدان في بيع، والمراد بذلك بيع العِينة.

وعلى هذا؛ فيجوز الجمع بين الشرطين أو ثلاثة أو أكثر في عقد واحد، هذا هو القول الراجح.

نظير ذلك مثلًا: قول النبي عليه الصلاة والسلام: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم[20].

بعض العلماء أخذوا بظاهر الحديث؛ قال: النبي عليه الصلاة والسلام يقول: واجب، فنقول: إن غسل الجمعة واجب.

لكن، هل من عادة النبي عليه الصلاة والسلام أنه يعبر عن الشيء الواجب بقوله: واجب؟ الجواب: إن هذا لم يُعهَد.

فإذن، لا بد من أن نعرف معنى كلمة الواجب في لغة العرب، فالواجب في لغة العرب معناه الشيء المتأكد، أو الحق المتأكد، يقولون: حقك عليَّ واجب.

ولهذا؛ فيعني هذا الحديث لا يدل على وجوب غُسْل الجمعة بمعنى الوجوب الاصطلاحي عند الفقهاء، وإنما غُسْل يوم الجمعة مستحب في قول جماهير أهل العلم، وحُكي إجماعًا.

فإذن، لا بد من فهم لغة الشارع، وأن يفهم المراد بكلام الله وكلام رسوله .

الشروط الفاسدة في البيع

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى:

فصل.

يعني: في الكلام عن الشروط الفاسدة. قال:

والفاسد المبطل: كشرطِ بيعٍ آخَرَ.

وضابط الشروط الفاسدة: ما خالف مقتضى العقد، أو أبطله الشارع أو نهى عنه. هذا ضابط الشرط الفاسد.

هنا، المؤلف قال: (كشرط بيع آخر)، يعني كأن يقول البائع: “لا أبيعك بيتي إلا بشرط أن تبيعني بيتك، لا أبيعك سيارتي إلا بشرط أن تبيعني سيارتك” مثلًا، فيقولون: إن هذا -يعني- شرط فاسد.

وفي قصة عائشة لما ساعدت بَرِيرة في العتق، واشترط أهلُها -أهل بريرة- بأن يكون الولاء لهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما بالُ رجالٍ يشترطون شروطًا ليست بكتاب الله، ما كان من شرطٍ ليس بكتاب الله فهو باطلٌ، وإن كان مائةَ شرط[21]، فدل هذا على أن كلَّ شرط يخالف الشرع فإنه باطل. قال:

أو سلفٍ أو قرضٍ أو إجارةٍ أو شركةٍ.

يعني: يجمع بين بيع وسلف، أو بيع وقرض، أو بيع وإجارة، أو بيع وشركة.

ومراد المؤلف بالسلف هنا: هل المقصود به القرض؟ لا، المقصود به ليس القرض، وإنما المقصود به السَّلَم؛ لأن المؤلف قال: (أو سلف أو قرض) معنى ذلك أن السلف غير القرض؛ لأن السلف قد يطلق ويراد به القرض، كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا يحل سلف وبيع[22]، وقد يطلق ويراد به السَّلَم؛ قدم النبي المدينة وهم يُسْلِفون في الثِّمَار السنةَ والسنتين، قال: من أسلف في شيء[23]؛ يعني: أسلم.

فإذن، السلف قد يطلق على السلم، وقد يطلق على القرض، ما الذي يحدد المعنى؟ يحدده السياق والقرائن، فقول المؤلف: (أو سلف) يعني: أو سَلَم (أو قرض أو إجارة أو شركة)، فالمؤلف يقول: إنه لا يجوز الجمع بين البيع وبين هذه العقود.

أو صرفٍ للثمن، وهو بيعتان في بيعة.

المنهي عنه؛ يعني لا يجوز الجمع بين البيع والصرف؛ لأنه بيعتان في بيعة، وسبق أن قلنا: إن الصحيح في معنى البيعتين في بيعة أنه بيع العِينة.

فإذن، المذهب عند الحنابلة: أن كل هذه الشروط فاسدة، إذا قال: “لا أبيعك إلا بشرط أن تبيعني”، أو “إلا بشرط أن تسلمني”، أو “إلا بشرط أن تصرف لي الثمن”، أو “إلا بشرط أن تقرضني”، أو “إلا بشرط أن تؤجرني”، أو “إلا بشرط أن تكون شريكًا معي”، فيقولون: هذه كلها شروط فاسدة مبطلة للبيع.

القول الثاني في المسألة: أنه إذا شرط في البيع عقدًا آخر، فإنَّ البيع صحيح، والشرط صحيح إلا في مسألتين فقط: ما هما؟

الأولى: أن يجمع بين قرض وبيع، فهذا لا يجوز؛ لقول النبي عليه الصلاة لا يحل سلف وبيع[24].

والمسألة الثانية: أن يكون ذلك حيلة على الربا.

فالمسألة الأولى: أنه لا يجمع بين قرض وبيع؛ لأن الحديث الصريح: لا يحل سلف وبيع؛ لأن السلف أو القرض من عقود الإرفاق، فإذا جمع بينه وبين البيع تحوَّل من كونه من عقود الإرفاق إلى كونه من عقود المعاوضة، فإذا قال: “أُقرِضُكَ بشرط أن تبيعني سيارتك” فهذا لا يجوز، أو قال: “لا أبيعك سيارتي إلا بشرط أن تقرضني”، فهذا لا يجوز، وليس فقط البيع، بل لا يجوز الجمع بين القرض وبين أي عقدٍ من عقود المعاوضة، فلا يجوز أن يقول: “لا أقرضك إلا بشرط أن تؤجرني بيتك”، ونحو ذلك.

المسألة الثانية التي لا تجوز (المستثناة): أن يكون ذلك حيلة على الربا، بأن يشترط بيعًا آخر بقصد التحايل على الربا، كأن يكون مثلًا عنده حُلِيٌّ قديم، ويذهب لصاحب محل الذهب، ويريد أن يشتري منه به حليًّا جديدًا، فيقول: “اشترِ مني الحُلِيَّ القديم” فيوافق على ذلك صاحب المحل، لكن يشترط عليه أن يشتري منه حليًّا جديدًا، فهذا الشرط لا يجوز؛ لأنه حيلة على بيع الذهب القديم بالذهب الجديد مع التفاضل.

طيب، ما المخرج؟

المخرج أن يبيع الحُلِيَّ القديم بدراهم، ويشتري به حليًّا جديدًا من غير شرط، يعني لا يشترط عليه صاحبُ المحل فيقول: “لا أشتري منك الحلي القديم إلا بشرط أن تشتري مني حليًّا جديدًا”، لا يجوز؛ لأن هذا حيلة على الربا، لكن هو يذهب بالحلي القديم ويبيعه، فإذا قبض الثمن: إن أراد أن يشتري منه حليًّا جديدًا، أو من غيره. قال:

وكذا كل ما كان في معنى ذلك، مثل: “أن تُزوِّجَني ابنتك”، أو “أزوجك ابنتي”.

يعني: يقول: “بِعْتُكَ على أن تزوجني ابنتك”، أو “بِعْنِي على أن أزوجك ابنتي”، فهذا شرط غير صحيح؛ لدخوله في الشِّغَار الذي ورد النهي عنه[25]، وهذا إن شاء الله سيأتينا في (كتاب: النكاح) بالحديث المفصل بإذن الله.

أو “تنفق على عبدي أو دابتي”.

يعني: “لا أبيعك إلا بشرط أن تنفق على عبدي، أو تنفق على دابتي”، فيقولون: هذا شرط غير صحيح، لكن بعض العلماء قالوا: إنه شرط صحيح؛ لأن الأصل الحل والإباحة، والأصل في العقود والشروط الصحة، ما المانع من أن يقول: لا أبيعك إلا بشرط أن تنفق على دابتي؟

فيقول مثلًا: “بِعْني سيارتك”، قال: “أبيعك سيارتي، لكن أنا عندي أغنام أشترط عليك أنك تعلفها لمدة أسبوع”، ما المانع من هذا؟ الأصل في العقود والشروط الصحة.

فالقول الراجح: أن هذا لا بأس به.

قال:

… ولكلٍّ الفسخُ.

هكذا أطلق المؤلف العبارة، وهذا محلُّ نظر؛ ولذلك فعبارة صاحب “الزاد” أدقُّ، قال: “ولِمَن جَهِلَه وفات غَرَضُه: الخيارُ”، وهذا هو المذهب، وهو الراجح.

أما من لم يفت غرضه فلا خيار له؛ لأن الأصل في عقد البيع الصحة واللزوم، والزيادة تُرَدُّ للبائع، وعليه النقص.

طبعًا، هذا قاله في العبارة مثلما وضحَّناها. قال:

ومن باع ما يُذْرَع على أنه عَشَرةٌ فبان أكثرَ أو أقلَّ؛ صح البيع، ولكلٍّ الفسخ.

(باع) شيئًا مـ(ما يُذرَع)؛ كأرض مثلًا (على أنه عشرة، فبان) أنه (أكثر) كأحد عشر، (أو أقل) كتسعةٍ، يقول المؤلف: العقد الصحيح، لكن الزيادة للبائع والنقص عليه.

وقوله: (ولكلٍّ الفسخ)، قلنا: إن هذا يعني ليس بدقيق، وعبارة صاحب “الزاد” أدق: “ولمن جَهِلَه وفات غرضه: الخيار”. أما من لم يفت غرضه فلا خيار له؛ لأن الأصل في البيع الصحة واللزوم، والزيادة تُرَدُّ للبائع، ويكون عليه النقص.

يعني مثلًا: اشترى رجل أرضًا من آخر على أنها أربعمائة متر؛ ليبني عليها مسكنًا، ثم تبين أن مساحتها ثلاثمائة وتسعة وتسعون، فيعني في هذه الحال من فات غرضه فله الخيار، لكن هنا نقص متر واحد لا يفوت به الغرض، وإنما يُطالب هذا البائع بأن يعوض المشتري عن هذا المتر، كم قيمة هذا المتر؟ ويعوضه.

لكن لو باع أرضًا على أنها أربعمائة؛ لكي يبني عليها مسكنًا، ثم تبين أنها ثلاثمائة، وليست أربعمائة، وأن هذه المساحة لا تصلح لبناء مسكن يوافق غرض المشتري، فهنا للمشتري خيار الفسخ، ولا يقال بأن البائع يعوضه عما نقص من الأمتار، إلا إذا رضي المشتري بذلك.

ومن أمثلة الشروط الفاسدة: إذا شرط البائع أن لا خسارة عليه، فهذا شرط غير صحيح، كأن يقول: خذها بمائة ألف واتَّجِر فيها بشرط أن لا خسارة عليَّ، أو أن رأس مالي يُرَدُّ عليَّ كاملًا، فهذا العقد صحيح والشرط باطل؛ لأنه ينافي مقتضى العقد.

طيب، هناك بعض الشركات تأتي ببضاعة لأصحاب البقالات والتموينات، ويشترون منهم بضاعة بشرط أن لا خسارة عليهم، فيقول: “نحن نبيعها، لكن لو بقي فائض فهذا الفائض نعتبره خسارة نردها عليكم”.

طبعًا، هذا الشرط شرط غير صحيح، لكن لو رضي البائع بذلك فلا بأس، والغالب أن البائع يرضى، والشركات ترضى بذلك؛ لأنها تريد تسويق منتجاتها.

فعلى ذلك؛ هذا الموجود الآن عند أصحاب المحلات نقول: لا بأس به؛ لأن الشركات ترضى بذلك، يأتون مثلًا بألبان بكمية كبيرة من ألبان وعصائر، فإذا انتهى التاريخ ولم تُشْتَرَ ترجع على الشركة باعتبار أنها خسارة على صاحب المحل، فإذا كانت الشركة رضيت بذلك فلا بأس، أما إذا لم ترضَ فهذا الشرط شرط غير صحيح.

بيع العربون

طيب، مسألة بيع العربون.

العربون معناه: دفع جزء من الثمن إلى البائع، على أنه إن تم البيع فهو من الثمن، وإلا فهو للبائع.

مثلًا: باع عليه سيارة بخمسين ألفًا، قال: “أعطني عربونًا” فأعطاه خمسمائة ريال، فإن تم البيع اعتُبرت جزءًا من الثمن، وإن لم يتم البيع فتذهب للبائع، تذهب هذه الخمسمائة ريال للبائع.

ما حكم بيع العربون؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه لا يصح، وبهذا قال الجمهور، ورُوي ذلك عن ابن عباس؛ واستدلوا بحديث: نهى رسول الله عن بيع العُرْبان[26]. وهذا الحديث لو صح لكان صريحًا في النهي، لكنه حديث ضعيف.

القول الثاني: أنه يصح بيع العربون، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات، إذا قلنا: من المفردات، مع ذلك فإن القول الآخر قال به المذاهب الأخرى، القول بعدم صحة بيع العربون هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، والقول بصحته قول الحنابلة وهو من المفردات.

واستدل الحنابلة لذلك بما جاء في “صحيح البخاري”: أن نافع بن عبدالحارث اشترى لعمر دارًا للسجن بمكة من صفوان بن أمية، على أنه إن رضي عمر فالبيع بيعه، وإن لم يرضَ عمر فلصفوان أربعمائة دينار[27].

قوله: “فلصفوان أربعمائة دينار”، هذا عربون، وقد رضي عمر بذلك البيع، وأقر ذلك الصحابة، فكان كالإجماع.

ولهذا؛ لما سُئل الإمام أحمد عن بيع العربون؟ قال: أيُّ شيء أقول، هذا عمر فعله.

فهذا هو القول الراجح: أنه يجوز بيع العربون.

فإن تم البيع اعتبر هذا العربون جزءًا من الثمن، وإن لم يتم البيع فيكون هذا العربون من نصيب البائع، ولا يلزم البائع أن يرد هذا العربون إلى المشتري، لا يلزمه.

طيب، يعني هنا تنبيه:

العربون من نصيب البائع، وليس من نصيب صاحب المكتب العقاري؛ لأن بعض أصحاب المكاتب العقارية يأخذون العربون، وهذا لا يجوز، وإنما يكون العربون للبائع، أما صاحب المكتب العقاري، فيأخذ مقابل أتعابه، والعربون كعقد البيع، فلمن أراد الشراء الحق في استرجاع ما قدمه عربونًا ما دام في مكان التبايع، أما إذا خرج من مكان التبايع فقد لزم البيع.

هنا أنبه على مسألة، وهي أكثر ما تقع عند شراء العقار عن طريق البنك:

فبعض الناس يبحث له عن بيت، ثم يجد بيتًا مناسبًا، ويذهب للبنك، ويقول: “اشتروا لي هذا البيت، وسوف أشتريه منكم بثمن مؤجل، أو بأقساط”، ثم يذهب هو لصاحب البيت ويعطيه العربون.

هذا لا يجوز؛ لأنه أصبح هو المشتري الآن للبيت، والبنك فقط ممول، هذا لا يجوز، وإنما نقول: علاقتك أنت بالبنك، البنك يشتري البيت من مالكه، ثم يبيعه عليك، إذا كان هناك عربون فالذي يدفعه البنك، وليس أنت، أما أنك تدفع العربون ثم البنك هو الذي يشتري فهذا لا يجوز.

هذه من الصور الشائعة الموجودة عند بعض الناس.

طيب، بعض الناس يقول: إن صاحب البيت يقول: “أنا لن أحجز لك هذا البيت حتى تنتهي إجراءات البنك، إلا أن تعطيني عربونًا حتى أعرف جديتك في الشراء”.

فنقول: لا يجوز أن يكون ذلك بطريق العربون، لكن هناك بديل، وهو أن يعطيه هامش جدية، وليس عربونًا، يعطيه هذا المبلغ، ويقول: “هذا هامش جدية، يعني بمثابة التأمين”، يقول: “ضعه عندك هذا المبلغ حتى تعرف أني جاد، ثم إذا البنك اشترى البيت منك ثم باعه عليَّ تُرجِع لي هذا المبلغ، هو ليس عربونًا، وإنما هامش جدية”، وهامش الجدية لا بأس به، وأما العربون فلا يجوز في هذه الصورة.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى وسلم على نبينا محمد.

نقف عند (باب: الخيار).

وكما ذكرنا أن الدرس سيتوقف خلال هذه الفترة، ويُستأنف إن شاء الله تعالى في الرابع عشر من شهر جمادى الآخرة من عام 1443 للهجرة، سيستأنف حضوريًّا إن شاء الله في جامع الأمير مشعل بإذن الله تعالى.

وأيضًا سنكمل ما تبقى من “السلسبيل” في الدرس نفسه إن شاء الله تعالى، وسيكون فيه إعلان يعني قبيل الدرس، سينشر في حسابات وسائل التواصل الاجتماعي.

والدرس سيكون حضوريًّا، وسيُبث أيضًا لمن يتابعنا عن بُعد، يعني كالمعتاد سيُبث بالصوت والصورة بهذه الطريقة، ولمن رغب في الحضور فسيكون الأمر متاحًا إن شاء الله في المسجد، فسينقل للبعيدين خارج مدينة الرياض أو في أماكن بعيدة، ينقل لهم عن بعد مثل هذا النقل، وستتاح الفرصة لمن رغب في الحضور إن شاء الله تعالى.

فنقف عند (باب: الخيار)، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الأسئلة

طيب، الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:

السؤال: مؤسسة أو شركة تُعطي موظفًا يعمل لجهة أخرى عَرْضَ عمل؛ ليعمل لديهم براتب أفضل، فهل يَدْخل ذلك في بيع الرجل على بيع أخيه؟

الجواب: نعم، هذا نوع من التخبيب على تلك الجهة أو تلك الشركة إذا كان هذا موظفًا ناجحًا ومجتهدًا ومتميزًا، فتأتي تلك الجهة وتغريه بمرتب أفضل لكي ينتقل إليها، هذا نوع من التخبيب. فهذا، الذي يظهر أنه لا يجوز.

لكن، لو أن الموظف نفسه هو الذي بحث ووجد فرصة أفضل في جهة أخرى، فلا بأس؛ لأنه هو صاحب القرار، وهو حر في قراراته وفيما يتخذه.

لكن، أن تأتي الجهة وتأخذه وتغريه بمبلغ أكثر، فهذا نوع من التخبيب على الجهة التي يعمل عندها، وهذا لا يجوز.

السؤال: لا يجوز بيع الحاضر للبادي، هل يجوز عكس المسألة، بمعنى لو أراد البادي أن يشتري سلعة وهو لا يعرف سعر السوق، فيقوم أحدهم بالشراء له؟

الجواب: نعم، هذا لا بأس به، إذا أراد أحدهم الشراء له، فلا بأس بذلك، ولا يدخل في بيع الحاضر للبادي؛ لأن المعنى الذي لأجله مُنع لا يدخل هنا.

السؤال: عند جَمْع التقديم أو جمع التأخير، هل يجوز أن يكون الجمع في وسط الوقت وليس في أول الوقت؟

الجواب: نعم، عند جمع التأخير أو جمع التقديم الأمر واسع، عندك من أول وقت الأولى إلى آخر وقت الثانية، لك أن تجمع في أي جزء من أجزاء الوقت، إن شئت جمعت في أول وقت الأولى، أو فيما بعدها، أو في وسطه، أو في آخره، أو في أول وقت الثاني، أو في آخر وقت الثانية، كله للجمع.

مثال ذلك: أردت أن تجمع بين الظهر والعصر، فلك أن تجمع في أول وقت الظهر، أو تجمع مثلًا في الساعة الثانية أو الثالثة، أو تجمع في أول العصر أو في آخر وقت العصر، كل هذا وقت للجمع.

السؤال: ما حكم السواك أثناء خطبة الجمعة؟

الجواب: لا يجوز السواك أثناء خطبة الجمعة؛ لأنه في معنى مَسِّ الحصى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَن مس الحصى فقد لغا[28].

بل إن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إنكار المنكر أثناء الاستماع للخطبة، قال: إذا قلت لصاحبِكَ والإمامُ يخطب: أنصت؛ فقد لغوت[29] مع أن قولك: “أنصت” إنكار منكر، ومع ذلك نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام.

فكيف بالأمور المباحة، كالتسوك؟ فالاستياك أثناء خطبة الجمعة نقول: إنه لا يجوز، وفيه تشاغل عن الخطبة.

ولذلك؛ لو كنت تتحدث مع إنسان في أمر مهم، ثم قمت تتسوك أمامه، فيعتبرك تستهتر به.

ولهذا؛ فالمعلم مثلًا إذا كان أمام الطلاب، فقام أحدهم يتسوك فإنه ينهاه عن ذلك، ويعتبر هذا سوء أدب من هذا الطالب.

فالتسوك يكون في موضعه، ولا يكون في خطبة الجمعة، ولا يكون مثلًا في قاعة التعلم، وإنما يكون في موضعه.

السؤال: يكثر في بعض البلدان طلب التنازل من الأخوات عن الميراث، فيوافقن حياء؛ اتباعًا للعادات والتقاليد، فما التوجيه؟

الجواب: أولًا: طلب التنازل عن الميراث ينبغي ألا يكون، وإنما يُعطى كل وارثٍ حقَّه من الميراث، ثم هذا الوارث إذا تَسَلَّم حقه فهو حرٌّ: إن شاء تنازل أو وهبه أو تصدَّق به، هو حر فيه. وأما أنه يطلب منه التنازل قبل أن يتسلَّم نصيبه، فهذا لا يجوز؛ لأن في هذا إحراجًا له.

وكما ذكر أخي السائل، قد يكون هناك -يعني- عادات عندهم وتقاليد تستحي هذه المرأة منها أن تطالب بحقها. هذه من أمور الجاهلية؛ النساء كالرجال لهن حقٌّ في الميراث.

ولهذا؛ قال الله تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]؛ يعني: هذه الآية فيها رَدٌّ على أولئك الذين يحرمون النساء من الميراث، فإن الله تعالى خص النساء بالذكر، فقال: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء:7].

حتى وإن كانت التركة مبلغًا يسيرًا: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ، ثم أكَّد اللهُ هذا المعنى، فقال: نَصِيبًا مَفْرُوضًا.

فلا يجوز حرمان المرأة من الميراث، هذه من أمور الجاهلية، لا يجوز ذلك، ومَن فعل ذلك فإنه آثِمٌ بهذا، حتى وإن تنازلت المرأة حياءً بغير طيبة نفس، فإن هذا التنازل لا يبيح له أن يأخذ نصيبه، بل الواجب أن يُعطَى كلُّ وارث حقه من الميراث.

السؤال: يتعلق بالمرابحة للآمر بالشراء، ماذا لو اشترط البنك على مالك العقار: أنه في حالة لم يَقُم الموعودُ بالشراءِ له بشراءِ العقار: أنه يُرْجِعه له، هل هذا شرط صحيح؟

الجواب: نعم، هذا شرط صحيح، وهذا الذي يسميه الفقهاء “خيار الشرط”، وهو يعتبر مخرجًا شرعيًّا، فهذا الذي أتى للبنك وقال: “أريد أن تشتروا لي عقارًا، إذا اشتريتموه سوف أشتريه منكم”، وهذا على سبيل الوعد، والبنك لا يدري: ربما أن هذا العميل ينسحب.

فيذهب ويشتري هذا العقار من مالك العقار، ويشترط البنك على المالك خيار الشرط، مثلًا لمدة شهر، ثم ينظر البنك لهذا الذي قد وعده بالشراء: إن نفَّذ الوعد فيُتم البيع، وإن تراجع هذا العميل وانسحب فالبنك يُرْجع البيتَ على مالكه بمقتضى خيار الشرط. فهذا لا بأس به، ويدخل في خيار الشرط، ويعتبر مخرجًا شرعيًّا.

السؤال: شخصٌ وهب أباه أرضًا، والأب أموره المادية ممتازة، وعزم على إعطاء ابنه القيمة، وبعد سنين أعطاه، هل في المبلغ زكاة؟

الجواب: يعني الأب هنا ذِكْره ليس مُؤثِّرًا، لكن كونه عزم على إعطاء ابنه القيمة وبعد سنين أعطاه هذا المبلغ، فإذا كان عنده ومضى عليه سنة وقد بلغ النصاب ففيه الزكاة، بغض النظر عن نيته، النية هنا غير مؤثرة، كونه نوى أنه سيعطيه ابنه هذا غير مؤثر.

أما إذا كان هذا المبلغ ليس عنده، فليس فيه زكاة.

السؤال يعني مجمل وغير واضح، فلعل أخي السائل يوضح مقصوده.

السؤال: هل هناك أماكن أحرى أن تستجاب فيها الدعوات أكثر من غيرها؟

الجواب: نعم، يعني المُلتزَم، وهو ما بين باب الكعبة والحَجَر الأسود، هذا يُسمَّى “الملتزم”، وهذا: الدعاءُ فيه حَرِيٌّ بالإجابة.

وقد أُثر ذلك عن ابن عباس، وعن بعض التابعين، وأُثر أيضًا عن بعض أئمة الدعوة، ومنهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأيضًا عن الشيخ محمد بن إبراهيم، قال: دعوت فيه بدعوة فتبينت إجابتها.

وأُثِر عن عددٍ كبير من الناس أنهم دَعَوُا اللهَ عند الملتزم بدعوات تبينوا إجابتها.

فهذا الموطن -أعني الملتزم- وهو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود، من مواطن إجابة الدعوات.

وكذلك الدعوة عمومًا في الحرمين: في الحرم المكي، والحرم المدني أيضًا، هي من مواطن إجابة الدعوات.

وكذلك أيضًا دعاء الإنسان وهو ساجد، هذا أيضًا مَظِنة إجابة الدعوة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء[30]، خاصة إذا وافق ذلك الثلث الأخير من الليل، فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله وعظمته، ويقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وذلك كلَّ ليلة[31].

فإذا وافق الدعاء السجود، أن يكون الدعاء في السجود، وفي الثلث الأخير من الليل، فهذا أحرى ما يكون لإجابة الدعاء.

وكذلك أيضًا الدعاء في يوم الجمعة، وعلى وجه الخصوص في آخر ساعة بعد العصر من يوم الجمعة، فهو مَظِنة إجابة الدعاء.

وكذلك أيضًا للصائم عند فطره، يعني قبيل اللحظات التي تسبق الإفطار، هذا أيضًا من أوقات إجابة الدعاء.

وكذلك أيضًا بين الأذان والإقامة، ورد فيه الحديث الصحيح: الدعاء لا يُرَد بين الأذان والإقامة[32].

السؤال: هل يجب العدل بين الأولاد في النفقة؟ مثلًا: دفعت لابنتي تكاليف الزواج، فهل يجب أن أدفع لأختها مثل هذه التكاليف؟

الجواب: عطية الوالد لولده على قسمين، إذا قلنا: لولده يشمل الذكر والأنثى؛ لأن الولد يطلق شرعًا ولغة على الذكر والأنثى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11]، فعطية الوالد لولده على قسمين:

القسم الأول: عطية محضة، يعني بدون سبب، فهذه يجب فيها التسوية بين الذكور، وأن تكون الأنثى على النصف من الذكر، اقتداء بقسمة الله في الميراث، مثلًا أعطى هذا الابن عشرة آلاف، فيلزمه أن يعطي إخوانه مثله عشرة آلاف، ويعطي البنات خمسة آلاف.

القسم الثاني: عطية حاجة، وهذه العدل فيها أن يعطي كل واحد بقدر حاجته، فحاجة الذكر غير حاجة الأنثى، وحاجة الكبير غير حاجة الصغير، وحاجة المريض غير حاجة الصحيح، فكل واحد بحسب حاجته.

فإذا كان قد ساعد إحدى بناته في تكاليف الزواج، فيساعد بنته الأخرى في تكاليف الزواج بحسب مقتضى الحال، وليس بالضرورة التسوية في المبلغ نفسه؛ لأنه أحيانًا الأسعار تتفاوت، مثلًا الأسعار قبل عشرين عامًا ليست كالأسعار الآن. فالمهم أنه يساعدها في التجهيز وفي دفع التكاليف التي تلبي حاجتها.

وكذلك أيضًا حاجة الصغير، مثلًا عنده ابنٌ أو بنت في مرحلة ابتدائية، غير حاجة الكبير الذي مثلًا في المرحلة الجامعية، أو في المرحلة الثانوية، فيعطي كل واحد بحسب حاجته.

وربما أن عطية الحاجة تكون عطية الأنثى أكثر من الذكر؛ لأن الأنثى تحتاج لمصروفات أكثر من الذكر، فهنا لا بأس أن يعطي الأنثى أكثر من الذكر، أو الذكر أكثر من الأنثى، أو الكبير أكثر من الصغير.

فعطية الحاجة: العدل فيها أن يُعطِيَ كلَّ واحد من أولاده بقدر حاجته.

السؤال: تركتُ الاغتسالَ في أمر يجب الاغتسال فيه، هل يجب إعادة الصلوات؛ لأني كنتُ أعتقد صحة ما قمت به؟

الجواب: نعم، يجب عليك أن تُعيد تلك الصلوات التي صليتها وعليك غُسل ولم تغتسل، ولا تُعذَر بهذا الاعتقاد أو النسيان أو الجهل أو طول المدة، هذه صلوات بقيت في ذمتك.

والقاعدة الشرعية في هذا: أن ما كان مِن باب تَرْك الأمر فلا يُعذَر فيه الإنسان بالنسيان ولا بالجهل، وما كان من باب ارتكاب المحظور فهذا يُعذَر فيه بالجهل والنسيان.

فهذا من القسم الأول، من باب ترك المأمور، فيجب عليك أن تقضي هذه الصلوات التي صليتها وعليك غُسل واجب لم تأتِ به.

السؤال: قول النبي عليه الصلاة والسلام: مَن قام بعشر آيات لم يُكتَب من الغافلين، إلى آخر الحديث، هل تكون في الصلاة أو بقراءة القرآن، وما صحته؟

الجواب: أولًا: الحديث صحيح، سنده صحيح، يقول النبي : من قام بعشر آيات لم يُكتَب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين، ومن قام بألف أية كُتب من المقنطرين. وهذا الحديث سنده صحيح، عند بعض أصحاب السنن بسند صحيح[33].

السؤال: هل تكون في الصلاة؟

الجواب: نعم، القراءة تكون في الصلاة؛ لأنه قال: قام، والقيام إنما يكون في الصلاة، معنى ذلك أنه قرأ في صلاة الليل، إذا قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين، وإذا قرأ مائة آية كتب من القانتين.

فلو صلى إحدى عشرة ركعة وقرأ بقصار السور، فهنا يكون قد قرأ بمائة آية أو تزيد؛ لأن سورة (الفاتحة) سبع آيات، إذا ضربت السبعة في إحدى عشرة: سبعة وسبعون آية الآن، فما بقي إلا ثلاث وعشرون آية، فإذا أتيت مع (الفاتحة) بثلاث وعشرين آية مثلًا من قصار السور ونحوها تكون قد قرأت مائة آية فتُكتب من القانتين، وإذا أردت أن تكتب من المقنطرين فتوصلها إلى ألف آية.

السؤال: امرأةٌ أحرمت بالعمرة ولم تجد غير النقاب لِتُغطِّيَ وجهها، فلبسته ومضت في عمرتها، فهل عليها شيء؟

الجواب: نعم، يجب عليها أن تدفع فدية؛ لأن من احتاج إلى ارتكاب محظور من محظورات الإحرام يلزمه أن يدفع الفدية، فهذه المرأة يلزمها أن تدفع فدية، وهي إطعام ستة مساكين من مساكين الحرم، أو ذبح الشاة في الحرم، أو صيام ثلاثة أيام في أي مكان.

ونكتفى بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه أحمد: 5716، وأبو داود: 3674، والترمذي: 1295.
^3 رواه أحمد: 20227، وأبو داود: 3949، والترمذي: 1365، وابن ماجه: 2524.
^4 رواه البخاري: 2150، ومسلم: 1515.
^5 رواه البخاري: 2727، ومسلم: 1408.
^6 رواه مسلم: 1480.
^7 رواه أحمد: 11228، وأبو داود: 2157.
^8 رواه أحمد: 5007، وأبو داود: 3462.
^9 رواه البخاري: 2132.
^10 رواه البخاري: 2150، ومسلم: 1413.
^11 رواه مسلم: 1522.
^12, ^15, ^24 سبق تخريجه.
^13 رواه مسلم: 2162.
^14 رواه البخاري: 2718، ومسلم: 715.
^16, ^22 رواه أحمد: 6671، وأبو داود: 3504، والترمذي: 1234، والنسائي: 4611.
^17 رواه أبو داود: 3594، والترمذي: 1352.
^18 رواه مالك: 72، وأحمد: 9584، والترمذي: 1231، والنسائي: 4632.
^19 رواه أحمد: 3783.
^20 رواه البخاري: 858، ومسلم: 846.
^21 رواه البخاري: 2168، ومسلم: 1504.
^23 رواه البخاري: 2240، ومسلم: 1604.
^25 رواه البخاري: 5112، ومسلم: 1415.
^26 رواه مالك: 1، وأحمد: 6723، وأبو داود: 3502.
^27 رواه البخاري معلقًا.
^28 رواه مسلم: 857.
^29 رواه البخاري: 934، ومسلم: 851.
^30 رواه مسلم: 482.
^31 رواه البخاري: 1145، ومسلم: 758.
^32 رواه أحمد: 12200، وأبو داود: 521، والترمذي: 212.
^33 رواه أبو داود: 1398.
zh