logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح منظومة أصول الفقه وقواعده/(47) كتاب البيع- من قوله: “وينعقد -لا هزلًا- بالقول ..”

(47) كتاب البيع- من قوله: “وينعقد -لا هزلًا- بالقول ..”

مشاهدة من الموقع

النبي يقول: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1]، إذا وجدتَ من نفسك حرصًا على التَّفقه في الدين، وحرصًا على طلب العلم، ومحبةً لذلك؛ فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير، ومفهوم هذا الحديث: أن مَن لم يُرَد به الخير لا يُوفَّق للفقه في الدين.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حيَّاكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي في هذا اليوم الاثنين السابع عشر من شهر ربيع الآخر من عام 1443 للهجرة، وهو الدرس الثالث عشر من هذا العام.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.

ننتقل بعد ذلك لـ”السلسبيل في شرح الدليل”، وكنا قد انتهينا من الأربعة الأجزاء الأولى: قسم العبادات، وننتقل في هذا الدرس إلى قسم المعاملات، ننتقل للجزء الخامس فنقول:

بسم الله، وعلى بركة الله.

أهمية التَّفقه في أحكام المعاملات

الجزء الخامس: كتاب البيع.

وافتتح المُصنف رحمه الله المعاملات بكتاب “البيع”، وأبواب المعاملات عمومًا هي من أهم أبواب الفقه، خاصةً في وقتنا الحاضر؛ لعموم الحاجة إليها، وتبرز الحاجة إليها في الوقت الحاضر، يعني: الحاجة إلى معرفة أحكام هذا الباب في الوقت الحاضر؛ لأجل ما استجدَّ من مُعاملاتٍ كثيرةٍ لم تكن معلومةً من قبل، فالإنسان يحتاج إلى هذه التَّعاملات، يعني مثلًا: أقلّ ما فيها بطاقة الصراف، فعامة الناس يحملون بطاقة الصراف، وهذه من المعاملات المُستجدة.

كذلك أيضًا أصبح مَن يريد أن يتملك عقارًا لا يستطيع أن يتملك بنفسه، لا بد من مساعدة المصارف له، وهذه المساعدة تكون بصيغةٍ من صيغ التَّمويل: إما بطريق المُرابحة، أو بطريق التَّورق، أو بطريق التَّأجير مع الوعد بالتَّمليك، أو بطريق المُشاركة، فلا بد أن يتبصَّر في أحكامها، ويتبين له حكمها الشرعي.

يعني: أصبح معظم مَن يريد أن يتملك لا بد أن يكون عن طريق المصارف، وهذه المصارف عندها صيغٌ تمويليةٌ جائزةٌ شرعًا، لكن ينبغي الاهتمام بالتَّحقق من انضباط الضوابط الشرعية، ومن هنا تبرز أهمية دراسة هذا الباب لمعرفة هذه الضوابط، ومعرفة أبرز الأحكام التي يحتاج إليها المسلم في حياته العملية فيما يتعلق بأبواب المعاملات؛ ولذلك كان عمر يقول: “لا يَبِعْ في سوقنا إلا مَن تفقه في الدين”.

الأصل في المعاملات الحِلّ

ما الأصل في المعاملات؟

الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة إلا ما ورد الدليل بمنعه، وهذا بخلاف العبادات، فإن الأصل فيها الحظر والمنع إلا ما ورد الدليل بمشروعيته.

ولهذا لو اختلف اثنان في معاملةٍ من المعاملات، أحدهما يقول: تجوز، والآخر يقول: لا تجوز، فالذي يُطالب بالدليل الذي يقول: لا تجوز؛ لأن الذي يقول: تجوز، معه الأصل، وهو الحِلُّ.

ولو اختلف اثنان في عبادةٍ من العبادات، أحدهما يقول: مشروعةٌ، والآخر يقول: إنها غير مشروعةٍ، فالذي يُطالب بالدليل الذي يقول: إنها مشروعةٌ؛ لأن الذي يقول: إنها غير مشروعةٍ، معه الأصل، وهو: أن الأصل في العبادات الحظر والمنع إلا ما ورد الدليل بمشروعيته.

من ثمرات التَّفقه في أبواب المعاملات

من ثمرات التَّفقه في أبواب المعاملات: أن المسلم يستطيع أن يصل إلى غرضه من غير أن يقع في الحرام، ويدل لذلك القصة الواردة في حديث أبي هريرة : أن النبي استعمل رجلًا على خيبر، فجاءه بتمرٍ جَنِيبٍ -يعني: جيدًا- فقال رسول الله : أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله، يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تفعل، بِعِ الجَمْعَ يعني: التمر الرديء بالدراهم، ثم ابْتَعْ بالدراهم جَنِيبًا [2].

طيب، النتيجة واحدةٌ في الحالتين، يعني: لو بعتَ صاعًا بصاعين هي نفسها لو بعتَ صاعين بدراهم، ثم اشتريتَ بالدراهم صاعًا، النتيجة واحدةٌ، ومع ذلك بيع الصاع بالصاعين جعله النبي عليه الصلاة والسلام عين الربا: أوه! عين الربا [3]، والمخرج الذي أرشد إليه جعله مخرجًا عليه الصلاة والسلام: بِعِ الجَمْعَ بالدراهم، ثم ابْتَعْ بالدراهم جَنِيبًا.

فبعض الناس قد يقول: هذه حيلةٌ.

هذه ليست حيلةً، هذا مخرجٌ أرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الرجل إن باع صاعًا بصاعين وقع في عين الربا، وإن باع الصاعين بدراهم، واشترى بالدراهم صاعًا؛ حصل على ما يريد بطريقٍ مشروعٍ، وهذا من ثمرة التَّفقه في الدين.

ولهذا أقول: يستطيع الإنسان أن يحصل على ما أراد من سيولةٍ نقديةٍ عن طريق البنوك بطريقٍ مشروعٍ، من غير أن يقع في الربا، وهكذا أيضًا المؤسسات والشركات تستطيع أن تحصل على ما أرادتْ من سيولةٍ ومن تمويلاتٍ بطريقةٍ مشروعةٍ، فلماذا يُقحم الإنسان نفسه في الربا، وهو يستطيع أن يصل إلى غرضه بطريقٍ مشروعٍ؟

والفرق بين الحلال والحرام في مسائل المعاملات دقيقٌ جدًّا، كما يُقال: كالشعرة؛ ولهذا يشتبه الحلال بالحرام على بعض الناس، ويرون أنه لا فرق بينهما، وهذا قد ذكره الله عن الكفار حينما قيل لهم: إنَّ الربا حرامٌ، والبيع حلالٌ. قالوا: إنما البيع مثل الربا، ما الفرق؟ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فردَّ الله عليهم فقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فبين الله ​​​​​​​ الفرق بينهما في الحكم؛ لاختلاف حقيقة البيع عن حقيقة الربا.

ونظير ذلك قول بعض الناس: إنه لا فرق بين المصارف الإسلامية والمصارف التقليدية. وهذا يُشبه مقولة هؤلاء المشركين: لا فرق بين البيع والربا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا مع أن بينهما فرقًا كبيرًا، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.

وكذلك نقول في المصارف: هذه مصارف إسلاميةٌ رفعتْ لواء الشرعية، وأنها لا تتعامل بالمعاملات المُحرمة، ووضعتْ هيئةً شرعيةً، ووضعتْ رقابةً شرعيةً، ولم تتعامل بالربا الصريح، بينما هذه بنوكٌ تقليديةٌ لا تُمانع في أن تتعامل بالربا الصريح، ولا بالمعاملات المُحرمة، فبينهما فرقٌ كبيرٌ، ولكن كثيرًا ممن يقول ذلك إنما يقول هذا بسبب ضعف التصور، فليس عنده تصورٌ لعمل المصارف الإسلامية، وأيضًا حتى لو كان عنده تصورٌ فليس عنده تصورٌ للفرق الدقيق بين الحلال والحرام، فالفرق بين الحلال والحرام في مسائل المعاملات فرقٌ دقيقٌ، قد لا يُدركه بعض الناس؛ ولذلك ذكر الله تعالى عن المشركين أنهم قالوا: لا فرق بين البيع والربا، ما الفرق بينهما؟ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وردَّ الله عليهم، وأبطل مقولتهم، وقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.

هكذا أيضًا نقول لمَن قال: لا فرق بين المصارف الإسلامية والمصارف التقليدية.

نقول: بينهما فرقٌ كبيرٌ؛ فالمصارف الإسلامية الأصل أنها تتعامل بالمعاملات المُباحة، والمُفْتَى بجوازها شرعًا، والبنوك التقليدية تتعامل بالحلال والحرام، ولا تتورع عن ممارسة الربا الصريح.

ينبغي للمسلم مع التَّفقه في الدين أن يتحرى الصدق والبيان، فذلك من أسباب حلول البركة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: البَيِّعَان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدقا وبَيَّنا بُورِك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقَتْ بركة بيعهما [4].

البركة شيءٌ يجد الإنسان آثاره، وهو ليس شيئًا ماديًّا محسوسًا، لكن يجد الإنسان آثاره المحسوسة، فالبركة تكون في جميع مجالات الحياة، والبركة هنا تكون في الأموال، فيجد الإنسان بركةً في ماله.

وبعض الناس لا يجد البركة في ماله، فسرعان ما ينقضي مرتبه، ولا يدري كيف ذهب؟!

البركة تكون أيضًا في الأولاد، فَرُبَّ ابنٍ واحدٍ يجعل الله فيه البركة يكون خيرًا من عشرات الأولاد، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام رُزِقَ ابنين على الكبر: إسماعيل وإسحاق، وجميع الأنبياء من بعده من نسلهما، فأي بركةٍ أعظم من هذا؟!

وجعلهما الله تعالى نبيين ورسولين، مع أنه لم يُرزق إلا بابنين فقط، لكن انظر للبركة العظيمة في هذين الابنين.

وبعض الناس على العكس: يكون عنده أولادٌ كثيرون، ومع ذلك لا يجد فيهم البركة.

البركة تكون في الزوجة؛ فبعض النساء من الصالحات القانتات تكون مُباركةً، ويجد المسلم أثرها عليه في صلاح دينه ودنياه، وبعض النساء على العكس من ذلك: شُؤمٌ، ليست فيها بركةٌ، ويرى فيها النَّقص في أمور دينه ودنياه.

كذلك البركة تكون في الصحة، وعندما يجعل الله تعالى البركة في الصحة تقلّ الأمراض عنده، ويتحسن مستواه الصحي، لكن بعض الناس تُنزع البركة من صحته، فهو من مرضٍ إلى مرضٍ، ومن أدويةٍ وعلاجاتٍ إلى أخرى.

والبركة أيضًا في العلم، فبعض الناس يجعل الله في علمه البركة؛ فينفع الله تعالى به، ويجعل له القبول، وبعض الناس ينزع الله تعالى من علمه البركة؛ فلا يُنتفع به، وربما يكون الأول أقلّ علمًا من الثاني، يعني: بعض الناس علمه قليلٌ، لكن الله تعالى يُبارك له في علمه؛ فينتشر علمه ويتَّسع بسبب البركة التي جعلها الله تعالى في علمه، وربما يكون بعض الناس أغزر منه علمًا، لكن الله تعالى لم يجعل في علمهم البركة.

فمن أسباب البركة في البيع والشراء: الصدق والبيان؛ أن يكون الإنسان صادقًا، ويبتعد عن الكذب، ويبتعد عن الغشِّ.

هذه مُقدمةٌ قبل أن نبدأ في أحكام البيع.

كتاب البيع

ثم قال المُصنف رحمه الله:

كتاب البيع.

تعريف البيع لغةً واصطلاحًا

البيع في اللغة: مُطلق المُبادلة، مُشتقٌّ من الباع؛ لأن كل واحدٍ من المُتبايعين يمدُّ يده للأخذ والإعطاء، فهو في اللغة مأخوذٌ من الباع.

هذا هو الباع؛ ولأن كل واحدٍ من المُتبايعين يمدُّ يده للأخذ والإعطاء.

اصطلاحًا: عُرِّف بعدة تعريفاتٍ، من أحسنها تعريف ابن قدامة في “المغني”: مُبادلة المال بالمال تَمَلُّكًا وتمليكًا.

تعريفٌ مُختصرٌ، جامعٌ، مانعٌ، والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع.

الكتاب: قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].

والسنة أحاديث كثيرةٌ، منها: البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، وحديث: رحم الله رجلًا سَمْحًا إذا باع، وإذا اشترى [5]، وأحاديث كثيرةٌ في البيوع.

وأجمع المسلمون على جواز البيع.

والحكمة من ذلك: أن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه لن يبذله له بغير عِوَضٍ، فكان في إباحة البيع تيسيرٌ على الناس، ودفعٌ لحاجاتهم.

صيغ البيع القولية والفعلية

ثم انتقل المؤلف لصيغة البيع، قال:

وينعقد -لا هَزْلًا- بالقول الدال على البيع والشراء، وبالمُعاطاة: كأعطني بهذا خبزًا. فيُعطيه ما يُرضيه.

فأفاد المؤلف أن البيع ينعقد بصيغتين: صيغةٍ قوليةٍ، وصيغةٍ فعليةٍ.

لكن قبل أن نُشير لصيغتي البيع، قول المؤلف: “لا هَزْلًا” يُفهم من هذا: أن بيع الهازل لا ينعقد، فلو أن أحدًا قال لصديقه -مثلًا-: بِعْتُ عليك سيارتي. ثم قال: كنتُ أمزح. هل ينعقد البيع؟

لا ينعقد.

قال: بِعْتُ عليك سيارتي. قال صديقه: قبلتُ. ثم قال: والله أنا كنتُ أمزح، أنا ما كنتُ جادًّا. لا ينعقد البيع؛ وذلك لانتفاء شرطٍ من شروط صحته، وهو الرضا؛ لأن الهازل غير راضٍ بالبيع.

واستدلَّ بعض العلماء لذلك بحديث: ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النكاح، والطلاق، والرجعة [6]، ووجه الدلالة: أن النبي عليه الصلاة والسلام حصر هذه الثلاث بأن جِدَّها جِدٌّ، وهزلها جِدٌّ، وهذا يدل على أن غيرها جِدَّهُنَّ جِدٌّ، وهَزْلَهُنَّ هَزْلٌ، ولكن لا بد من قرينةٍ تدل على الهزل، وإلا فالأصل أنه يكون جادًّا، وإلا لو فتحنا هذا الباب فكل إنسانٍ أراد أن يُبطل بيعًا يقول: والله أنا كنتُ أمزح، أنا ما كنتُ جادًّا.

إذن لا بد من قرينةٍ تدل على أنه كان هازلًا في البيع، كأن يقول لي -مثلًا- مَن معه في المجلس: أنا سأمزح على فلانٍ وأقول له كذا. ويقول الآخر: قبلتُ. فيشهد مَن في المجلس بأنه إنما كان مازحًا وهازلًا، ولم يكن جادًّا.

فهذه قرينةٌ تدل على أنه كان هازلًا، لكن إذا لم توجد قرينةٌ، ولم يوجد دليلٌ على أنه هازلٌ، فالأصل أنه غير هازلٍ، والأصل هو انعقاد البيع.

طيب، ننتقل لصيغة البيع: الصيغة القولية.

قال:

بالقول الدال على البيع والشراء، وهي تتكون من إيجابٍ وقبولٍ.

الإيجاب هو اللفظ الصادر من البائع، مثل: بِعْتُك، أو ما كان في معناه: بِعْتُك، نصيبك، ونحو ذلك.

والقبول: هو اللفظ الصادر من المُشتري، كاشتريتُ، قبلتُ، ونحو ذلك؛ ولذلك الصيغة القولية لا تنحصر في لفظٍ معينٍ، وإنما تكون بكل ما دلَّ على المقصود.

الصيغة الفعلية: المُعاطاة، قال:

وبالمُعاطاة: كأعطني بهذا خبزًا. فيُعطيه ما يُرضيه.

فهي أخذٌ وإعطاء حتى لو لم يتكلما، فإنسانٌ -مثلًا- أتى للمخبز ودفع ريالًا، وأعطاه الخباز خبزًا، ولم يتكلم بشيءٍ، هنا انعقد البيع بالأخذ والإعطاء، وهذا هو قول جمهور الفقهاء، خلافًا للشافعية الذين قالوا: إن البيع لا ينعقد بالمُعاطاة إلا في المُحَقَّرات فقط.

والصواب هو قول جماهير الفقهاء، ولا يسع الناس أصلًا إلا هذا القول، لا يسع الناس إلا هذا القول، يعني: حتى الشافعية أنفسهم في تعاملاتهم يتعاملون بالمُعاطاة.

لزوم عقد البيع

هل البيع عقدٌ لازمٌ أم جائزٌ؟

أولًا: ما معنى: لازم؟

لازم معناه: ليس لأحدٍ من الطرفين فسخه إلا برضا الآخر.

وجائز: يجوز لكلٍّ من الطرفين الفسخ ولو بغير رضا الطرف الآخر.

البيع من العقود اللازمة، لكن بعد التَّفرق بالأبدان من مكان التَّبايع، فعندما تقول: بِعْتُك، ويقول صاحبك: اشتريتُ، انعقد البيع، لكن لا يكون لازمًا إلا إذا تفرقتما من مكان التَّبايع، أما ما دُمْتُما في مكان التَّبايع فلكما خيار المجلس، لكل واحدٍ منكما ألا يستمر في البيع: البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا.

طيب، العبارة المكتوبة على بعض السلع: “البضاعة لا تُردّ ولا تُستبدل” من حيث الأثر الفقهي ليس لها فائدةٌ؛ لأن البضاعة لا تُردّ ولا تُستبدل بمُقتضى عقد البيع اللازم أصلًا إلا عند وجود عيبٍ فيها، فهذه العبارة ليس لها فائدةٌ: “البضاعة لا تُرد ولا تُستبدل” بمجرد خروج المُشتري من مكان التَّبايع؛ لأن البيع عقدٌ لازمٌ، فلا معنى لهذه العبارة إلا أن تُجعل من باب التَّذكير بمُقتضى عقد البيع، يعني: بعض أصحاب المحلات يجعلها من باب التَّذكير، يقول: أُذكر هذا المُشتري بلزوم عقد البيع بمجرد التَّفرق بالأبدان.

فإذا جُعلتْ من باب التَّذكير فهنا الأمر واسعٌ، لكن من حيث الأثر الفقهي ليس لهذه العبارة فائدةٌ؛ لأن البضاعة لا تُردّ ولا تُستبدل بمُقتضى عقد البيع، فإن عقد البيع عقدٌ لازمٌ بمجرد التَّفرق من مكان التَّبايع بالأبدان.

أقسام العقود

العقود من حيث كونها عقدًا لازمًا أو جائزًا تنقسم إلى ثلاثة أقسامٍ:

  • القسم الأول: عقودٌ لازمةٌ، مثل: عقد البيع، وعقد الإجارة.
  • القسم الثاني: عقودٌ جائزةٌ، يعني: يجوز لكلٍّ من الطرفين الفسخ ولو بغير رضا الطرف الآخر، مثل: عقد الوكالة.
  • القسم الثالث: عقودٌ لازمةٌ من وجهٍ، جائزةٌ من وجهٍ آخر، مثل: الرهن، فإنه لازمٌ في حقِّ الراهن، يعني: مَن عليه الحق، وجائزٌ في حقِّ المُرْتَهِن الذي له الحقُّ.

شروط صحة البيع

ثم انتقل المؤلف للكلام عن شروط صحة البيع، وهي شروطٌ سبعةٌ عُرفتْ بالاستقراء.

الشرط الأول: الرضا

الشرط الأول في قوله:

أحدها: الرضا.

فلا يصح بيع المُكْرَه بغير حقٍّ.

فالرضا هو شرطٌ من شروط صحة البيع بإجماع العلماء، ويدل لهذا الشرط قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ [النساء:29] يعني: تجارةً صادرةً عن تَرَاضٍ منكم.

ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: إنما البيع عن تَرَاضٍ [7].

وعلى ذلك فالبيع مع الإكراه بغير حقٍّ لا يصح، أما إذا كان الإكراه بحقٍّ -كما لو أَكْرَه القاضي المُفْلِسَ على بيع ماله لسداد الدَّين الذي عليه- فإن البيع صحيحٌ؛ لأن هذا الإكراه إكراهٌ بحقٍّ، أو أُكْرِهَ الراهن على بيع العين المرهونة لسداد الدَّين للمُرْتَهِن، فهذا إكراهٌ بحقٍّ.

الشرط الثاني: الرشد

الشرط الثاني من شروط صحة البيع، قال:

الثاني: الرشد، فلا يصح بيع المُمَيِّز والسَّفيه ما لم يأذن وليُّهما.

الرشد معناه: أن يكون عاقلًا، بالغًا، رشيدًا.

وكلمة “الرشد” ما معناها؟

الرشد معناه: السَّداد، وإصابة الحقِّ، والسير في الاتجاه الصحيح، وحُسن التَّصرف.

فمعنى “الرشد” قريبٌ من معنى الحكمة؛ ولذلك ذكر الله تعالى عن أهل الكهف: أنهم دعوا الله تعالى فقالوا: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].

وموسى لما كان يبحث عن الخضر حتى وجده: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، فلم يطلب منه إلا تعليمه الرشد.

والجنّ لما استمعوا للقرآن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا۝ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن:1- 2].

فالرشد معناه: إصابة الحق، وحُسن التَّصرف، وهو قريبٌ من معنى الحكمة؛ ولهذا من الأدعية العظيمة التي كان يدعو بها النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: اللهم إني أسألك العزيمة على الرُّشد، في حديث شداد بن أوسٍ ، وهو حديثٌ عظيمٌ، صنَّف فيه الحافظ ابن رجب رسالةً، قال فيه النبي : إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرُّشد، وأسألك شُكر نعمتك، وحُسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شرِّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علَّام الغيوب [8].

هذا الدعاء دعاءٌ عظيمٌ، قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات.

فينبغي لك -أخي المسلم- أن تحفظه، وأن تدعو الله تعالى به كل يومٍ.

أُعيده مرةً أخرى: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرُّشد، وأسألك شُكر نعمتك، وحُسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شرِّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علَّام الغيوب.

هنا ذكر عليه الصلاة والسلام العزيمة على الرشد.

كثيرٌ من الناس يعرف الرشد، لكن ليست عنده عزيمةٌ، وربما إذا تُوفي أحدٌ، وأتى عند عزاء المُصابين يعظ الناس موعظةً ولا أبلغ منها، لكن ينام عن صلاة الفجر! يعظ الناس اليوم، وفي الليل ينام عن صلاة الفجر! فهو يعرف الرشد، لكن ليست عنده عزيمةٌ، ينام عن صلاة الفجر! عنده تقصيرٌ في الواجبات، لماذا؟

بسبب ضعف العزيمة على الرشد؛ ولهذا كان من أنفع الأدعية وأعظمها: أن تسأل الله العزيمة على الرشد؛ ولهذا سمَّى الله تعالى أفضل الرسل الخمسة -سمَّاهم-: أُولي العزم من الرسل، فعندهم قوة عزيمةٍ، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، هؤلاء أُولو العزم من الرسل، فعندهم عزيمةٌ قويةٌ على العبادة، وعلى الرشد.

فمن أعظم الأدعية: أن تسأل الله تعالى العزيمة على الرشد.

طيب، نعود: هنا الرشد من شروط صحة البيع، فلا يصح بيع الصبي إلا أن يكون مُمَيِّزًا، فيصح بإذن وليه، ويدل لذلك قول الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6].

فقول الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى يعني: اختبروهم؛ لكي تعلموا رُشدهم، وهذا الاختبار إنما يكون بتفويض البيع والشراء إليهم؛ ليعلم رُشدهم، فَدَلَّ ذلك على صحة تصرف الصبي بإذن وليه، وهكذا السَّفيه.

السَّفيه هو: مَن لا يُحسن التَّصرف في المال، فهذا لا يصح بيعه إلا بإذن وليه.

وليست هناك علاقةٌ بين السَّفه في المال والصلاح في الدِّين، فقد يكون الإنسان مُستقيمًا في دينه، لكن عنده سَفَهٌ في تصرفاته المالية.

فالمقصود بالسَّفيه هنا: السَّفيه المحجور عليه، فإذا أذن وليُّه بالبيع صحَّ بيعه؛ قياسًا على الصبي، لكن يُستثنى من ذلك الشيء اليسير، فيصحّ تصرف الصبي والسَّفيه بغير إذن وليِّهما؛ لما رُوي أن أبا الدرداء كان يشتري العصافير من الصبيان ويُرسلهن؛ ولأنه يُتسامح في الشيء اليسير، يُتسامح فيه، فيجوز التقاطه وتملكه من غير تعريفٍ.

فمثلًا: لو أن هذا الصبي اشترى من البقالة شيئًا بريالٍ أو ريالين أو خمسة ريالاتٍ، لا نقول: إنه لا يصح البيع؛ لأن هذا شيءٌ يسيرٌ يُتسامح فيه.

الشرط الثالث: كون المَبِيع مالًا

الشرط الثالث من شروط صحة البيع، قال:

الثالث: كون المَبِيع مالًا، فلا يصحّ بيع الخمر والكلب والميتة.

وعبَّر الحجاوي في “زاد المُستقنع” عن هذا الشرط بقوله: “أن تكون العين مُباحة النفع من غير حاجةٍ”.

المؤلف الشيخ مرعي أخذ هذه العبارة من المُوفَّق في “المقنع”: “أن يكون المبيع مالًا”، والمال هو: ما فيه منفعةٌ مباحةٌ لغير ضرورةٍ.

هذا أحسن تعريفات المال.

فقولنا: “ما فيه منفعةٌ” خرج ما لا نفع فيه: كالحشرات غير النافعة، و”ما فيه منفعةٌ مُباحةٌ” خرج بهما ما فيه منفعةٌ مُحرمةٌ، ومثَّل المؤلف لذلك بالكلب والخمر.

“لغير ضرورةٍ” خرج ما يُباح للضرورة، فإنه لا يصح بيعه: كالميتة.

قال:

فلا يصح بيع الخمر.

هذا مثالٌ للمنفعة المُحرمة، ومثل ذلك: الخنزير، وآلات اللهو، ونحوها، لا يصحّ بيعها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى حرَّم الخمر، فمَن أدركته هذه الآية وعنده منها شيءٌ فلا يشرب، ولا يَبِع [9].

قال:

والكلب والميتة.

فلا يصحّ بيعهما، والميتة سبق ذكرها في الحديث السابق، وأما الكلب فلا يصحّ بيعه مطلقًا.

حكم بيع الكلب

اختلف العلماء في صحة بيعه إذا كان كلب صيدٍ أو حرثٍ أو ماشيةٍ، فالجمهور على أنه لا يصحّ بيعه، خلافًا للحنفية الذين أجازوا بيعه إذا كان كلب صيدٍ أو حرثٍ أو ماشيةٍ.

واستدلَّ الحنفية بأنه قد وردتْ في الحديث رواية: إلا كلب صيدٍ [10]، لكن هذه الرواية ضعيفةٌ، لا تثبت من جهة الصناعة الحديثية، والراجح هو قول الجمهور، وهو: أنه لا يصح بيع الكلب، حتى وإن كان كلب صيدٍ؛ ولهذا قال ابن القيم: إن قول النبي عليه الصلاة والسلام: شَرُّ الكسب مهر البغي وثمن الكلب [11]، قال: إنه “يتناول كل كلبٍ، صغيرًا كان أو كبيرًا، للصيد أو للماشية أو للحرث، وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث قاطبةً .. ولا يصحّ عن النبي استثناء كلب الصيد بوجهٍ”.

فالقول الراجح إذن أنه لا يصحّ بيع الكلب مطلقًا، أما من حيث الاقتناء فكلب الصيد والحرث والماشية يجوز اقتناؤه، وما عداه لا يجوز؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: مَن اقتنى كلبًا ليس بكلب صيدٍ ولا ماشيةٍ ولا أرضٍ، فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يومٍ [12]، ويُقاس على كلب الصيد والحرث والماشية: الكلاب البوليسية، ففيها منفعةٌ ظاهرةٌ، فيجوز اقتناؤها، أما ما عدا ذلك فلا يجوز.

وبعض الناس يتساهلون في تربية الكلاب في بيوتهم، فنقول: إنه يحرم تربية الكلب في البيت إلا إذا كان كلب صيدٍ أو حرثٍ أو ماشيةٍ، أو كان من الكلاب البوليسية، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز، ومعظم مَن يفعل ذلك -مَن يُربي كلبًا في البيت- إنما يفعل ذلك تقليدًا للنصارى، وعندما تسألهم: ما الهدف؟ ما الغرض؟

مجرد التقليد فقط.

وتأمل الحديث، وكيف أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: مَن اقتنى كلبًا ليس بكلب صيدٍ ولا ماشيةٍ ولا أرضٍ، فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يومٍ يعني: هذه الحسنات التي عملتَها لله تعالى من صلاةٍ وصيامٍ كل يومٍ ينقص من هذا الأجر ومن هذا العمل بسبب المُخالفة الشرعية بتربية الكلاب في البيت.

ثم إن وجود الكلب في البيت إذا لم يكن كلب صيدٍ أو حرثٍ أو ماشيةٍ يمنع دخول الملائكة، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورةٌ ولا كلبٌ [13]، وبيتٌ لا تدخله الملائكة تدخله الشياطين، والشياطين أعداء بني آدم، تُسبب للإنسان المشاكل والكوابيس والإزعاج، وتُسهل أيضًا من عمل السحر؛ لأن السحرة -في الغالب- إنما يسحرون عن طريق الشياطين، فإذا كان هذا البيت لا تدخله الملائكة وتدخله الشياطين فهذا أيضًا مما يُسهل للشياطين عمل السحر.

فعلى المسلم أن يقول: سمعنا وأطعنا، ما دام أن النبي عليه الصلاة والسلام منع من تربية الكلاب في البيوت إلا كلب صيدٍ أو حرثٍ أو ماشيةٍ، فعلى المسلم أن يلتزم بهذا التَّوجيه النبوي.

حكم بيع السِّنَّور

طيب، السِّنَّور أو القط أو الهِرّ، هل يجوز بيعه؟

هذا محل خلافٍ على قولين:

القول الأول: إنه لا يجوز، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، أفتى به أبو هريرة وبعض التابعين.

والقول الثاني: يجوز، وهو قول الجمهور.

القائلون بعدم الجواز استدلوا بحديث جابرٍ ، قال أبو الزبير: سألتُ جابرًا عن ثمن الكلب والسِّنَّور، فقال: زجر النبي عن ذلك [14]، رواه مسلمٌ.

أما الجمهور فقالوا: إن الأصل هو الإباحة، وأما حديث جابرٍ  فأجابوا عنه بأن الحديث مُتكلمٌ في سنده، وأن في سنده اضطرابًا، ولو صحَّ قالوا: فيُحْمَل النَّهي فيه على التَّنزيه، أو يُحْمَل على السِّنَّور غير المملوك، أو ما لا نفع فيه: كالسِّنَّور المُتوحش.

وأُجيب عن ذلك: بأن حديث جابرٍ  حديثٌ صحيحٌ؛ أخرجه أبو داود في السنن [15]، وهو حديثٌ صحيحٌ لا مَطْعَن في إسناده.

ولهذا قال النَّووي رحمه الله: “ما ذكره الخطابي وأبو عمر بن عبدالبر من أن الحديث في النَّهي عنه ضعيفٌ، فليس كما قالا، بل الحديث صحيحٌ؛ رواه مسلمٌ وغيره، وقول ابن عبدالبر أنه لم يَرْوِه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة غلطٌ منه أيضًا؛ لأن مسلمًا قد رواه في “صحيحه” -كما ترى- من رواية معقل بن عبيدالله عن أبي الزبير، فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير، وهو ثقةٌ أيضًا”.

فالحديث من جهة الصناعة الحديثية حديثٌ صحيحٌ، وأما ما أُورد من احتمالاتٍ:

أولًا: مِن حَمْل النَّهي على التَّنزيه، فهذا لا يستقيم؛ لأن قول جابرٍ : “زجر”، الزجر لا يكون في المكروه، وإنما يكون في المُحرم، وحَمْلُه على الهِرِّ المُتوحش أو الذي لا نفع فيه، هذا مُتكلَّفٌ، كما قال البيهقي، قال: “وقد حمله بعض أهل العلم على الهِرِّ إذا توحش فلم يُقْدَر على تسليمه، ومنهم مَن زعم أن ذلك كان في ابتداء الإسلام حين كان محكومًا بنجاسته، ثم صار محكومًا بطهارة سُؤْره”، قال: “وليس على واحدٍ من هذين القولين دلالةٌ بينةٌ”.

وبهذا يتبين القول الراجح في المسألة، وهو القول الأول، وهو: تحريم بيع السِّنَّور؛ لصحة الحديث في ذلك؛ ولهذا قال ابن القيم: “تحريم بيع السِّنَّور كما دلَّ عليه الحديث الصحيح الصريح الذي رواه جابرٌ، وأفتى بموجبه، ولا يُعْرَف له مُخالفٌ من الصحابة، فوجب القول به”، يعني: القول بتحريم بيع السِّنَّور، يُؤيد الحديثَ أيضًا أنه قول الصحابة؛ فأفتى به جابرٌ ، ولم يُعْرَف له مُخالفٌ، فكان كالإجماع.

الشرط الرابع: أن يكون المَبِيع مِلْكًا للبائع

ننتقل بعد ذلك للشرط الرابع، قال:

الرابع: أن يكون المَبِيع مِلْكًا للبائع، أو مَأْذُونًا له وقت العقد.

انتبه لهذا الشرط، فأكثر المُخالفات التي تقع في البيوعات بسبب عدم تطبيق هذا الشرط، فانتبه.

“أن يكون المَبِيع مِلْكًا للبائع، أو مَأْذُونًا له” فيه؛ لقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، ولقصة حكيم بن حزامٍ قال: يا رسول الله، يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق، ثم أبيعه. فقال له النبي : لا تَبِعْ ما ليس عندك [16].

وقوله: “أو مَأْذُونًا له وقت العقد: كالوكيل، والولي، ونحو ذلك”، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يبيع ما لا يملك.

من صور بيع ما لا يملك في الوقت الحاضر: ما يكون في عقود التَّوريد، فبعض الناس يبيع المُورِّد على المُستورد البضاعة، وهو لم يملكها بعد، وهذا لا يجوز، بل لا بد أن يملك المُورِّد البضاعة، ثم يبيعها على المُستورد.

ومن المخارج في هذا: أن هذا المُستورد -صاحب المحل- يُوكل المُورِّد، فيكون المُورِّد وكيلًا عنه.

ومن المخارج أيضًا: أن تكون العلاقة بينهما على سبيل الوعد، فَيَعِد المُورِّد المُستورد بتجهيز وإحضار هذه البضاعة، فإذا ملكها باعها عليه بعد ذلك، فيكون الاتفاق المبدئي بينهما على سبيل الوعد، ثم بعد ذلك إذا ملك المُورد البضاعة باعها عليه، أما أن يبيع المُورد على صاحب المحل البضاعة وهو لا يملكها فهذا لا يجوز.

ومثل ذلك أيضًا: البيع عبر التطبيقات، فبعض الناس عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي يبيع السلعة وهو لا يملكها، وهذا لا يجوز، والمخرج في هذا: إما أن يتوكل عن الراغب في الشراء -يكون وكيلًا عنه- وإما أن تكون العلاقة بينهما على سبيل الوعد، فيقول: حدد رغبتك أنت أيها الزبون، ماذا تريد؟ يقول: أريد السلعة بمواصفات كذا وكذا. يقول: أنا أُحضرها لك، ثم أعرضها عليك. ثم يعقد عقد البيع بعدما يتملك السلعة، بحيث لا يبيع السلعة إلا وقد ملكها، أما أن يبيع السلعة وهو لا يملكها فهذا لا يجوز، وقد قال النبي : لا تَبِعْ ما ليس عندك.

قال:

فلا يصح بيع الفُضُولي ولو أُجِيز بعد.

حكم بيع الفضولي

بيع الفضولي معناه: أن يبيع الإنسان مال غيره بغير إذنه، وكذلك أيضًا شراء الإنسان مال غيره بغير إذنه.

والمذهب عند الحنابلة أنه لا يصح حتى لو أجازه المالك فيما بعد، وهو أيضًا مذهب الشافعية.

واستدلوا بعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا تَبِعْ ما ليس عندك.

القول الثاني: أنه يصح بيع الفضولي وشراؤه إذا أجازه المالك، وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

واستدلوا بما جاء في “صحيح البخاري” عن عروة بن الجعد البارقي : أن النبي أعطاه دينارًا ليشتري له به شاةً، فاشترى له به شاتين، ثم باع إحدى الشاتين بدينارٍ، وأتى النبي بشاةٍ ودينارٍ، فدعا له بالبركة، فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه [17].

ووجه الدلالة: أن عروة اشترى بهذا الدينار شاتين، فصارتا ملكًا للنبي عليه الصلاة والسلام، وباع إحدى الشاتين بدينارٍ، مع أنها ليست ملكًا له، لكن أقرَّه النبي على هذا، فدلَّ ذلك على صحة بيع الفضولي إذا أقرَّه المالك.

والقول الراجح هو القول الثاني، وقد اختاره جمعٌ من المُحققين من أهل العلم، وأنه يصح بيع الفضولي وشراؤه إذا أجازه المالك.

الشرط الخامس: القُدرة على التَّسليم

قال المصنف:

الخامس: القُدرة على تسليمه، فلا يصح بيع الآبق والشارد ولو لقادرٍ على تحصيلهما.

يعني: أن يكون المَبِيع مقدورًا على تسليمه من قِبَل البائع، والدليل لهذا الشرط: أن النبي نهى عن بيع الغَرَر [18]، وغير المقدور على تسليمه الغَرَر فيه ظاهرٌ.

مثَّل المؤلف لتوضيح هذا الشرط فقال: “فلا يصح بيع الآبق”، يعني: لا يصح بيع العبد الآبق، الهارب من سيده؛ لأنه غير مقدورٍ على تسليمه، “والشارد” لا يصح بيع الشارد من الحيوان: كالجمل الشارد؛ لعدم القُدرة على تسليمه، “ولو لقادرٍ على تحصيلهما”، يعني: حتى لو كان البيع لقادرٍ على تحصيل العبد الآبق والحيوان الشارد.

وفي هذه المسألة قولان لأهل العلم:

القول الأول: أنه لا يصحُّ ولو لقادرٍ، كما قال المصنف، وهو مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة.

القول الثاني: أنه يصحُّ بيع ذلك لمَن يقدر على التَّحصيل، فإن وجده وقدر على تسليمه جاز البيع، فإن لم يقدر عليه، أو تغير، أو تلف كان من ضمان البائع، ورُدَّ الثمن إلى المُبتاع، وهذا هو مذهب المالكية، وهذا هو القول الراجح: أن بيع غير المقدور على تسليمه لمَن يقدر على تحصيله وتسليمه؛ أنه يصح، ما دام أنه قادرٌ فيصحّ.

يعني: هذا إنسانٌ شرد صقرٌ له، ليس موجودًا، فأتى إنسانٌ وقال: بِعْنِيه وأنا عندي طريقةٌ لردِّه، أنا عندي قُدرةٌ. يعني: هذا الرجل -مثلًا- عنده حِذْقٌ ومهارةٌ وخبرةٌ كبيرةٌ في التعامل مع الصقور.

فعلى القول الأول: لا يجوز، وعلى القول الثاني: يجوز، لكن إذا قدر على تحصيله وعلى ردِّه تمَّ البيع، وإذا لم يقدر فإنه يرجع إلى البائع بالثمن.

طيب، لماذا نهى الشارع عن بيع ما لم يُقْدَر على تسليمه؟

الجواب: لأن فيه غَرَرًا.

طيب، لماذا نهى الشارع عن بيع الغَرَر؟

الجواب: لأن الغَرَر مظنةٌ لوقوع الخصومة والنزاع بين المسلمين، والتنازع والخصومة تُفضي إلى الشَّحناء والبغضاء، والشريعة الإسلامية تمنع كل ما يُفضي إلى الشَّحناء والبغضاء بين المسلمين.

الشرط السادس: معرفة الثمن والمُثْمَن

الشرط السادس من شروط صحة البيع، قال:

السادس: معرفة الثَّمن والمُثْمَن، إما بالوصف، أو المشاهدة حال العقد أو قبله بيسيرٍ.

يعني: معرفة المَبِيع برؤيةٍ أو صفةٍ، فالرؤية أمرها واضحٌ؛ يرى المَبِيع ويشتريه، لكن بالصفة؛ يُوصف وصفًا مُنضبطًا، فإذا وُصِفَ وصفًا مُنضبطًا جاز بيعه، وحينئذٍ المُشتري إن وجد المَبِيع بالمواصفات التي وصفها له البائع لزم البيع، وإن لم يجدها كان له الخيار في عدم إتمام البيع، وهو ما يُسمى بخيار الخُلْف في الصفة.

وبعض الناس يعتقد أنه لا بد من رؤية المبيع وإلا لم يصحّ البيع، وهذا غير صحيحٍ، فيصح البيع بالوصف المُنضبط.

وهنا المؤلف قال: “الثَّمن والمُثْمَن”، المُثْمَن تكلمنا عنه، أما بالنسبة للثمن على كلام المؤلف يُشترط أن يكون الثمن معلومًا عند المُتعاقِدَين، وهذا هو قول الجمهور، قالوا: لأن الثمن هو أحد العِوَضَين، والجهل به غَرَرٌ، كالجهل بالمبيع.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يصحُّ البيع وإن لم يكن الثمن معلومًا، ويكون له في الحال ثمن المِثْل.

وهذا قولٌ عند الحنابلة، واختاره الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو القول الراجح قياسًا على النكاح، كما لو تزوج امرأةً لم يُسَمِّ مهرها، فيكون لها مهر المِثْل، كما قال الله تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]؛ ولهذا قال ابن تيمية: “ولو باع ولم يُسَمِّ الثمن صحَّ بثمن المِثْل كالنكاح”.

فلو أنك وجدتَ رجلًا يبيع سلعةً فاشتريتها منه، ولم تُسَمِّ ثمنًا؛ صحَّ البيع، ويكون للبائع ثمن المِثْل.

وهذا يحصل أحيانًا عندما يأتي الإنسان لمحل تسوقٍ كبيرٍ، وتكون معه سلةٌ، فيضع سلعًا في هذه السلة، وهو لا يعرف أثمانها، ثم يُعطيها البائع، فالبائع يحسب عليه الثمن بسعر السوق، فهنا المُشتري جهل الثمن، هل نقول: إن البيع لا يصح؟

الجواب: لا، على القول الراجح يصح؛ لأن البائع سيبيعه بثمن المِثْل.

ومثل ذلك أيضًا: الإجارة، إذا لم تكن الأجرة معلومةً فتكون له أجرة المِثْل، وهذا يحصل كثيرًا.

ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: “عمل الناس قديمًا وحديثًا عليه في كثيرٍ من عقود الإجارة”، فمثلًا: عندما تأتي بعاملٍ كهربائيٍّ أو سبَّاكٍ، ولم تتفق معه على مقدار الأجرة، ثم لما فرغ قال: أريد منك كذا. واختلفتَ أنت وإياه في تقدير الأجرة.

أولًا: هل هذه الإجارة صحيحةٌ؟

نقول: نعم، هي صحيحةٌ.

طيب، كيف يكون مقدار الأجرة؟

تكون أجرة المِثْل، فلو اختلفتَ أنت وإياه في مقدار الأجرة تكون له أجرة المِثْل.

مثالٌ آخر: ركبتَ سيارة أجرةٍ، وقلتَ له -مثلًا-: أوصلني للمطار. ولم تتفق معه على مقدار الأجرة، فعلى القول الراجح أن هذا يصح ويجوز، وتكون له أجرة المِثْل، فلو اختلفتَ أنت وإياه في مقدار الأجرة نقول: تكون له أجرة المِثْل، يعني: ما أجرة مثله؟ مَن يذهب -مثلًا- من حي كذا إلى المطار، ما أجرة مثله عادةً؟ تكون له أجرة المِثْل.

حكم البيع بما ينقطع به السعر

من المسائل التي يذكرها العلماء تحت هذا الشرط: البيع بما ينقطع به السعر، وصورتها أن يقول: أبيعك بما يقف عليه السَّوم. أو يقول: اذهب وحرِّج على هذه السلعة، وما يقف عليه السَّوم أبيعك به. فهل هذا يجوز؟

قولان لأهل العلم:

القول الأول: أنه لا يجوز، وهو المذهب عند الحنابلة؛ للجهالة بما يقف عليه السعر، فقد يقف على ثمنٍ كثيرٍ أو قليلٍ.

القول الثاني: أنه يجوز، وهو روايةٌ عند الحنابلة اختارها ابن تيمية رحمه الله، وابن القيم رحمة الله على الجميع؛ لكون الجهالة بالثمن في هذه الحال تَؤُول إلى العلم، ففيه جهالةٌ، لكن هذه الجهالة تَؤُول للعلم؛ فتجوز.

وقال ابن القيم عن هذا القول -وهو القول بالجواز-: “هو الصواب المقطوع به، وهو عمل الناس في كل عصرٍ ومصرٍ، وهو منصوص الإمام أحمد، واختاره شيخنا -يقصد ابن تيمية- وليس في كتاب الله، ولا سُنة رسوله ، ولا إجماع الأُمة، ولا قول صاحبٍ، ولا قياسٍ صحيحٍ ما يُحرمه”.

ثم أيضًا هذه الصورة -البيع بما ينقطع به السعر- قد تكون أحيانًا أطيب لخاطر الإنسان؛ حيث إن البيع بما ينقطع به السعر أو بسعر السوق يأمن فيه الإنسان من الغَبْن.

بعض الناس لا يُحْسِن البيع والشراء، ليس من أهل البيع والشراء أو التجارة، ويريد أن يبيع سيارةً له، ويخشى أن يُغْلَب أو يُغْبَن، فيقول: اذهب وحرِّج عليها، والسعر الذي تقف عليه أبيعك به.

فعلى القول الراجح: هذا لا بأس به، فالجهالة الموجودة فيه تَؤُول للعلم، الغَرَر يؤول للعلم، والأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة.

الشرط السابع: أن يكون مُنَجَّزًا

الشرط السابع والأخير، قال:

السابع: أن يكون مُنَجَّزًا.

طبعًا هنا وضع سبعة شروطٍ، خلاف طريقة صاحب “الزاد”؛ صاحب “الزاد” فرَّق بين معرفة الثمن والمُثْمَن، وهنا جعل معرفة الثمن والمُثْمَن شرطًا واحدًا، وأضاف شرطًا آخر، وهو: أن يكون مُنَجَّزًا، لا مُعَلَّقًا: كَبِعْتُكَ إذا جاء الشهر، أو إن رضي زيدٌ.

وهذا قول الجمهور، وعللوا فقالوا: لأن البيع عقد مُعاوضةٍ يقتضي نقل الملك إلى المُشتري حال العقد، وتعليقه على شرطه في المستقبل يمنع من ذلك، ففيه غَرَرٌ، وقد نهى النبي عن بيع الغَرَر.

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين:

  • القول الأول: أنه لا يصح تعليق العقود، ومنها عقد البيع، وعللوا لذلك بالجهالة والغَرَر.
  • القول الثاني: أنه يصح تعليق العقود، ومنها عقد البيع، اختاره جمعٌ من المُحققين من أهل العلم: كابن تيمية، وابن القيم، وابن سعدي، وابن عثيمين رحمة الله على الجميع، قالوا: لأن الأصل هو الصحة، وعدم الدليل الدال على منع تعليق العقود.

وهذا هو القول الراجح، ومما يدل لذلك: أن الجمهور يُجيزون تعليق الفسوخ: كالطلاق المُعلق، فعندهم الطلاق المُعلق يقع إذا حصل ما عُلِّقَ عليه، وعندهم يصح تعليق الولايات، فما الفرق بينها وبين بقية العقود؟

ولهذا قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: “إن تعليق العقود جائزٌ، كتعليق الفسوخ والولايات، وهذا هو الصواب، فإن القول بأن تعليق العقود غير جائزٍ لا دليل عليه من كتابٍ ولا سُنةٍ ولا قياسٍ، ولا بد للتعليقات من أمورٍ مقصودةٍ تُعلق لأجلها، وتلك أمورٌ لا محذور فيها، والأصل الجواز والحِلّ في كل العقود”.

إذن القول الراجح أنه يصح تعليق العقود، فيصح أن تقول: بِعْتُكَ إن رضي أبي، أو بِعْتُكَ -مثلًا- مع بداية شهر رمضان، ونحو ذلك.

ويصح بِعْتُ وقَبِلْتُ إن شاء الله.

يعني: “إن شاء الله” هنا تُقال للتَّبرك، وليس للاستثناء، فيصح.

تفريق الصفقة

ومَن باع معلومًا ومجهولًا لم يتعذر علمه صحَّ في المعلوم بقسطه.

هذه المسألة تُسمى: مسألة تفريق الصفقة، فيقولون: إذا كان هذا المجهول لم يتعذر علمه، فيصح في المعلوم بقسطه من الثمن، كأن يقول: بِعْتُكَ هذا الكتاب وقلمًا بكذا. فبالإمكان معرفة الثمن بتقسيط الثمن على كلٍّ منهما، فيصح في المعلوم وهو الكتاب بقسطه.

وإن تعذر معرفة المجهول، ولم يُبَيَّن ثمن المعلوم فباطلٌ.

كأن يقول: بِعْتُك هذه الفرس، وما في بطن الفرس الأخرى. ولا يُبَيَّن الثمن، فيكون البيع باطلًا؛ لأن المجهول لا يصح بيعه، ولا سبيل إلى معرفة الثمن، فهو مجهولٌ.

بهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن شروط صحة البيع.

بيع المُرابحة للآمر بالشِّراء

هنا ذكر في “السلسبيل” بعض المسائل المعاصرة، منها: مسألة بيع المُرابحة للآمر بالشِّراء، وهذا انتشر مُؤخرًا، يعني: لم يكن معروفًا قديمًا هذا النوع من البيع بهذه الصورة، وإن كان قد ذكره بعض العلماء وأشاروا إلى فكرته -إلى فكرة بيع المُرابحة للآمر بالشِّراء- لكن أقصد أن هذا اللفظ “المُرابحة للآمر بالشِّراء” لم يكن معلومًا لدى العلماء السابقين، فعندهم بيع المُرابحة، وهو البيع برأس المال وربحٍ معلومٍ، وليس هذا هو المقصود، لكن المُرابحة للآمر بالشِّراء لم يكن بهذه الصيغة، وإن كان بعض العلماء السابقين أشاروا إليه، ومنهم الإمام الشافعي في “الأم” أشار إلى بيع المُرابحة للآمر بالشِّراء، وأجازه، فقد نصَّ الإمام الشافعي على صحته.

صورة هذا البيع: أن يأتي شخصٌ يريد سلعةً، وليس عنده نقدٌ، يأتي إما لفردٍ أو بنكٍ أو مؤسسةٍ أو شركةٍ، ويطلب أن تُشترى له تلك السلعة، ويَعِد بأن يشتريها ممن اشتراها بالتقسيط.

فمثلًا: إنسانٌ يريد سيارةً، فأتى هذا الذي يريد السيارة إلى البنك، فقال لهم: اشتروا لي سيارةً بمواصفات كذا وكذا وكذا، وإذا اشتريتُموها سوف أشتريها منكم.

هذا يُسمى: بيع المُرابحة للآمر بالشِّراء.

أو مثلًا يقول: اشتروا لي العقار الفلاني، أنا عندي عقارٌ، وهذا العقار أعجبني، اشتروه، وإذا اشتريتُموه سوف أشتريه منكم بالتقسيط.

فهذا المُرابح الآمر بالشراء تجوز بشرطين:

الأول: أن يكون الاتفاق المبدئي بينه وبين المؤسسة على سبيل الوعد، وليس على سبيل العقد.

فهو يقول: اشتروا لي هذه السلعة، وسوف أشتريها منكم. يعني: يعدهم بالشراء، ولا يوجد عقدٌ، ولا يوجد بيعٌ وشراء، لكن يقول: اشتروها، وسوف أشتريها، أنا أعدكم بأنني سوف أشتريها منكم. فيكون الاتفاق المبدئي بينهما على سبيل الوعد، وليس على سبيل العقد.

الشرط الثاني: أن يتملك الموعود بالشراء منه السلعة، ويقبضها، ثم يبيعها.

يعني: هذه السيارة يقوم البنك ويشتريها ويتملكها ويقبضها، ثم بعد ذلك يبيعها عليك.

فإذا تحقق هذان الشرطان فلا بأس بذلك، وهذا قول أكثر العلماء المعاصرين، صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وهو أيضًا اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، واختيار أكثر العلماء المعاصرين، ولا أعلم أحدًا من العلماء المعاصرين قال بتحريمه إلا الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، والشيخ مأخذه في تحريمه يقول: إن هذا حيلةٌ على الربا. ولكن الحيلة ليست ظاهرةً، هو يقول: اشتروا لي هذه السلعة، وسوف أشتريها منكم. فليست هنا حيلةٌ، يعني: الحيلة ليست بظاهرةٍ.

ونصَّ الإمام الشافعي على جوازه، والأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة، وحاجة الناس إليه قائمةٌ، خاصةً في العقار، يعني: لا يستطيع الإنسان الآن مع ظروف كثيرٍ من الناس في الوقت الحاضر أن يشتري عقارًا، فالعقارات الآن تُباع بمبالغ باهظةٍ، فيحتاج إلى مُساعدةٍ من البنوك، فمن صيغ التَّمويل المباح: المُرابحة للآمر بالشِّراء، حيث يذهب إلى عقارٍ ويقول: اشتروا لي هذا العقار، وسوف أشتريه منكم. فيقوم البنك ويشتري هذا العقار، ثم يبيعه عليه، فما المانع من هذا؟ وأين الحيلة في ذلك؟

ولذلك لا أعلم أحدًا منع المُرابحة للآمر بالشِّراء من العلماء الكبار إلا الشيخ محمد رحمه الله تعالى، وله في هذا اجتهاده ودليله، وهو إمامٌ من الأئمة رحمه الله تعالى، ولكن أكثر العلماء المعاصرين على جواز المُرابحة للآمر بالشِّراء بهذين الشرطين.

طيب، بِمَ يحصل التَّملك والقبض؟

التَّملك -كما هو معلومٌ- بالإيجاب والقبول، أما القبض فالمرجع فيه إلى العُرْف، وقبض كل شيءٍ بحسبه، فمثلًا: السيارات عند أصحاب السيارات استقرَّ العُرْف بأن القبض يكون بحيازة البطاقة الجمركية الأصلية، وحيازة قبض العقار تكون بالتَّخلية وتسليم المفاتيح للمُشتري.

إذن المرجع في القبض للعُرْف، وقبض كل شيءٍ بحسبه.

هل يصح اشتراط إرجاع السلعة إذا لم يرغب فيها بعد تجربتها؟

هذا الشرط شرطٌ يُنافي مُقتضى العقد، ولا يصح، ولكن إذا قَبِلَ بذلك البائع ورضي فلا بأس، لكن لو كان هناك تنازعٌ، ووصلت إلى المحكمة، فالقاضي يحكم بعدم صحة هذا الشرط، لكن بعض الشركات على وجه الخصوص والمؤسسات وبعض أصحاب المحلات يريدون ترغيب الزبائن في الشراء، فيقولون: إذا لم تُعجبك السلعة فأرجعها لنا. فلا بأس بذلك، أو أن المُشتري يشترط عليه: أن السلعة إذا لم تُعجبه يُرجعها عليه، ورضي بذلك، فإذا رضي بذلك البائع فلا حرج، لكن عند النزاع نقول: إن هذا الشرط شرطٌ غير صحيحٍ؛ لأنه مُنافٍ لمُقتضى العقد.

البيوع المَنْهِي عنها

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن البيوع المَنْهِي عنها.

طيب، نأخذ بعض البيوع المَنْهِي عنها، ثم نقف.

البيع والشراء في المسجد

قال:

ويحرم ولا يصح بيعٌ ولا شراءٌ في المسجد.

لقول النبي : إذا رأيتم مَن يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم مَن يَنْشُد فيه ضَالَّةً فقولوا: لا ردَّ الله عليك [19]، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا [20].

وأيضًا في حديث بُريدة لما قام رجلٌ وقال: مَن دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي : لا وجدتَ، إنما بُنيت المساجد لما بُنيتْ له [21].

فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على تحريم البيع والشراء في المساجد، وهكذا أيضًا نشدان الضَّالة، ويلحق بذلك الإعلانات التجارية والدعايات، ونحو ذلك، فينبغي أن تُصان المساجد عنها، فالمساجد دور عبادةٍ، وقد بُنيت للعبادة وإقامة الصلوات وتلاوة القرآن وحِلَق العلم ومجالس الذكر، ولم تُبْنَ للبيع والشراء وإبرام الصفقات التجارية والدعايات، ونشدان الضَّالة، ونحو ذلك.

وأيضًا مما يدخل في هذا: توزيع المنشورات التي فيها دعايات لمؤسسات تجارية، فهذا لا يجوز، حتى لو كانت هذه المنشورات لحملة حجٍّ أو عمرةٍ؛ لأن المقصود بها التجارة.

ومن ذلك أيضًا: الإعلان عن المحاضرات، حتى وإن كانت محاضرات دينية، أو دورات علمية دينية، لكن يُكتب عليها: الراعي الرسمي شركة كذا، أو مؤسسة كذا، أو فلان. هذا لا يجوز، لماذا؟

لأن الدعاية مقصودةٌ هنا؛ ولذلك لولا كتابة هذه الكلمة “الراعي شركة كذا” لما تبرعت الشركة أو المؤسسة.

طيب، إذا حصل هذا فلا نُتلفها، وإنما يُطمس اسم الشركة أو المؤسسة، أو أنه يُوضع الإعلان خارج المسجد، لكن لو كانت الدعاية غير مقصودةٍ، كأن يُكتب -مثلًا- على الباب، أو يُكتب على اللاقط: “صُنع في كذا”، فهذا لا بأس به؛ لأن الدعاية غير مقصودةٍ.

وكذا أيضًا لو كانت مؤسسةً خيريةً غير ربحيةٍ -كمكاتب الدعوة مثلًا- فلا بأس به؛ لأنه لا يُقصد من ذلك التجارة، فالممنوع هو أن يُقصد بذلك التجارة: بيعًا، أو شراءً، أو دعايةً، فهذا لا يكون في المساجد.

طيب، أحيانًا يجد إمام المسجد محفظةً، فيريد أن يُعلن عنها في مُكبر الصوت لجماعة المسجد، فهل هذا يدخل في المنع؟

الجواب: نعم، يدخل في المنع، فالمساجد ليست محلًّا للإعلان عن المفقودات، المساجد دور عبادةٍ.

طيب، إذن ما الحَلُّ؟

الحل: تُكتب ورقةٌ على الجهة الخارجية لباب المسجد بأنه عُثر على كذا بإجمالٍ، فمَن كان له -مثلًا- هذا الشيء المعثور عليه فليتصل بإمام المسجد، أو مُؤذن المسجد، ونحو ذلك.

طيب، هنا مسألةٌ معاصرةٌ أيضًا: حكم جعل ملاحق مُحاطة بسور المسجد محلًّا للعب، لطلاب حلقات التحفيظ مثلًا.

هذا لا يجوز؛ لأن المساجد يجب أن تُصان عن الأمور المتعلقة بالدنيا، ومن ذلك اللعب، فالمساجد دور عبادةٍ، وليست دورًا للعب، ولا للبيع، ولا للشراء، ولا للدعاية.

وأما حديث لعب الحبشة بالحراب في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام [22]، فهذا وقع مرةً واحدةً، وبصفةٍ عارضةٍ، وفرقٌ بين الشيء العارض والشيء الدائم، فلو أن هذا حصل بصفةٍ عارضةٍ لا بأس، يعني: كأن يكون -مثلًا- يوم عيدٍ، ونحو ذلك، لكن تخصيص غرفةٍ، أو تخصيص مكانٍ داخل المسجد للعب بصفةٍ دائمةٍ هذا يتنافى مع قول النبي عليه الصلاة والسلام: إنما بُنيت المساجد لما بُنيتْ له، فالمساجد بُنيت للعبادة، وليس للعب، لكن ما المخرج في هذا؟

المخرج في هذا: أن تُجعل غُرف الألعاب هذه خارج المسجد، تُجعل خارج المسجد، أو أن تُرتب الألعاب خارج المسجد بطريقةٍ معينةٍ، لكن المساجد دور عبادةٍ، فينبغي أن تُصان عن جعل غُرفٍ فيها للعب ونحو ذلك.

ولا ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الذي عند المنبر.

وهو ما يُسمى بالأذان الثاني.

فيحرم ولا يصح البيع والشراء ممن تلزمه الجمعة بعد النِّداء الثاني.

يعني: بعد دخول الخطيب للجمعة، فإذا دخل الخطيب وأذَّن المُؤذن الأذان الثاني فيحرم البيع والشراء؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، والنَّهي يقتضي التَّحريم والفساد.

وكذا لو تضايق وقت المكتوبة فلا يصح البيع ولا الشراء.

مثلًا: لو بقي على دخول وقت العصر خمس دقائق، وأراد اثنان أن يتبايعا، وهما لم يُصليا صلاة الظهر، فهنا يحرم البيع والشراء.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند قول المصنف:

ولا بيع العنب أو العصير.

والآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وأُذكِّر بأن الأسبوع القادم -إن شاء الله- سيكون فيه درسٌ، وهو الدرس الأخير في هذا الفصل الدراسي -بإذن الله – فالأسبوع القادم سنُكمل الدرس، سيكون فيه درسٌ، إن شاء الله.

الأسئلة

السؤال: ما حكم البيع عن طريق (الإنترنت) في وقت صلاة الجمعة؟

الجواب: إذا كان هذا البيع والشراء ممن تلزمه صلاة الجمعة فلا يجوز ولا يصح هذا البيع؛ لأن البيع والشراء بعد النِّداء الثاني من صلاة الجمعة مُحرَّمٌ وفاسدٌ، لكن إذا كان ممن لا تلزمه الجمعة: كامرأةٍ -مثلًا- لا تجب عليها صلاة الجمعة، واشترتْ عن طريق (الإنترنت) وقت صلاة الجمعة؛ فلا بأس بذلك، والفقهاء يُقيدون تحريم البيع والشراء بعد صلاة الجمعة يقولون: ممن تلزمه الجمعة.

السؤال: هل يجوز لمَن يخرجون في نزهةٍ بريةٍ أن يُقيموا صلاة الجمعة في البرِّ إذا كان عددهم كبيرًا؟

الجواب: لا يجوز ذلك، بل إن هذا يُعتبر بدعةً؛ لأن من شروط صحة إقامة الجمعة: الاستيطان في مكانٍ يُقيم فيه صيفًا وشتاءً، والاستيطان في مثل هذا غير مُتحققٍ، فلا تصح إقامة الجمعة، ولو أقاموا الجمعة لم تصح، ولزمهم أن يُعيدوها ظهرًا.

السؤال: ما حكم إيقاظ النائم بالحركة دون الكلام أثناء خطبة الجمعة؟

الجواب: لا بأس بذلك، لو كان مَن عندك -مَن كان بجوارك- أحسستَ أنه قد نام فَنَبَّهْتَه بيدك؛ لا بأس بهذا، إنما الممنوع الكلام: إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أَنْصِتْ، والإمام يخطب؛ فقد لَغَوتَ [23]، لكن هذه حركةٌ من غير كلامٍ لمصلحةٍ، فالذي يظهر أن هذا لا بأس به.

السؤال: هل المؤمن في يوم الحشر يشعر بطوله مثل الكافر: خمسين ألف سنة؟

الجواب: أولًا: يوم القيامة هو خمسون ألف سنة، كما ذكر الله تعالى ذلك في القرآن، وأيضًا دلَّت السُّنة على هذا، وخمسون ألف سنة يومٌ طويلٌ وثقيلٌ.

كم نسبة عمرك إلى خمسين ألف سنة؟

كم تعيش؟

ستين، سبعين، ثمانين، مئة سنة، كم نسبتها إلى خمسين ألف سنة؟

هذا وقوف الناس فقط، وقوف الناس على عرصات القيامة، لكن دلَّت الأدلة على أن الحساب يكون بعد خمسٍ وعشرين ألف سنة؛ لقول الله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]، والقيلولة تكون عند منتصف النهار، فعند منتصف النهار تُنْصَب الموازين، وتُنْشَر الدواوين، كما رُوي ذلك عن بعض الصحابة: كابن مسعودٍ وابن عباسٍ ، وبعض التابعين أيضًا، فلا ينتصف النهار إلا وقد أخذ أهل الجنة منازلهم.

فاليوم مقداره خمسون ألف سنة، لكن يبدأ الحساب بعد خمسٍ وعشرين ألف سنة، وخمسٌ وعشرون ألف سنة مدةٌ طويلةٌ.

كم نسبة عمرك إلى خمسٍ وعشرين ألف سنة؟

هو يومٌ طويلٌ وثقيلٌ جدًّا، سمَّاه الله تعالى بيوم الحسرة، ويوم التَّغابن، ويوم الفزع الأكبر، وسمَّاه: القارعة، وسمَّاه: الحاقة، وحذَّر وأنذر وأعذر جلَّ وعلا، فينبغي الاستعداد لهذا اليوم العظيم، اليوم الثَّقيل.

ويَمَلُّ الناس من بقائهم على عرصات يوم القيامة، حتى أهل النار كما جاء في بعض الآثار؛ ولذلك يذهبون يطلبون الشفاعة من آدم، ثم من نوح، ثم من إبراهيم، ثم من موسى، ثم من عيسى، ثم من محمدٍ عليهم الصلاة والسلام؛ الشفاعة إلى الربِّ في أن يفصل ويقضي بين عباده.

وهو يومٌ ثقيلٌ، ويومٌ عسيرٌ، ويومٌ شديدٌ، لكن الله تعالى يُهونه على المؤمنين، ويُظِلُّ الله تعالى مَن شاء تحت ظلِّ عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظله.

وأما قول الأخ السائل: هل يشعر المؤمن بطوله؟

نعم، المؤمن يشعر بطوله كالكافر، لكن الله تعالى يُهونه على المؤمن، يعني: يكون بالنسبة للمؤمن أخفَّ بكثيرٍ من الكافر، لكنه يبقى يومًا طويلًا على المؤمن والكافر، لكن المؤمن يكون مسرورًا؛ لأنه ينتظر نعيم الجنة، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ۝ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ۝ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ۝ وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ۝ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ۝ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ۝ وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق:6- 12].

نقول: إن يوم القيامة يومٌ طويلٌ على المؤمن والكافر، لكن يُهونه الله تعالى على المؤمنين، ويكون أخفَّ منه على الكافر، لكنه يبقى يومًا طويلًا، ثقيلًا، شديدًا.

السؤال: أنا من أهل مكة، وأهلي وعملي خارج مكة، وإذا أردتُ القدوم كل شهرٍ لمنزلي في مكة أتحرج، هل لا بد من الإحرام من الميقات؟ أو متى تيسر لي ذلك أحرمتُ من الحِلِّ؛ لأني لا أعلم متى أستطيع نزول الحرم؟

الجواب: ما دُمْتَ من أهل مكة، ولك بيتٌ في مكة، فلا يلزمك الإحرام من الميقات، وإذا أردتَ الحجَّ تُحرم من بيتك، وإذا أردتَ العُمرة فتُحرم من الحِلِّ، لا بد من الإحرام من الحِلِّ، ليس لك أن تُحرم من بيتك في مكة، وإنما تُحرم من الحِلِّ، من التَّنعيم -مثلًا- أو من الشرائع الذي خارج حدود الحرم، أو من عرفة، من الحِلِّ.

السؤال: هذا يسأل عن حكم الزكاة في البطاقات الائتمانية.

الجواب: هذه أجبتُ عنها في قناة “المجد” أمس، وفصَّلتُ الكلام فيها، فلعل أخي السائل يرجع للحلقة الموجودة على (اليوتيوب).

السؤال: ما حكم الدعاء بالزواج من شخصٍ معينٍ، أو وظيفةٍ معينةٍ، أو إنجاب ذكورٍ أو إناثٍ؟

الجواب: الذي ينبغي أن تردّ ذلك إلى مشيئة الله ، وأن الله يختار لك ما فيه الخير، فالرجل يدعو بالمرأة الصالحة، والمرأة تدعو بالزوج الصالح، لكن لا تُسمي شخصًا معينًا، لا تدري، ربما لا يكون الخير في هذا الشخص، والله تعالى يختار لك، فاجعل الاختيار إلى ربك.

وهكذا أيضًا بالنسبة للوظيفة: أن الله يختار لك الوظيفة المناسبة، ولا تُسمي وظيفةً معينةً، ولا تُسمي أيضًا شخصًا معينًا بالنسبة للزواج، وإنما تسأل الله تعالى أن يختار لك الخير، لكن عند الاستخارة تُسمي.

مثلًا: هذه فتاةٌ تقدم لها رجلٌ، فيُشرع لها أن تستخير في زواجها من هذا الرجل.

أو مثلًا: هذا يريد أن يتوظف في وظيفةٍ، فيستخير الله تعالى في هذه الوظيفة، لكن عند الدعاء تُعلق ذلك على أن الله يختار لك ما فيه الخير من غير تسميةٍ.

السؤال: سائلةٌ تقول: أكلتُ الربا ستّ سنوات أو سبع مُتعمدةً، لكن لم أكن أعلم شدة خطورة ذلك، وأريد أن أتوب؟

الجواب: مَن تاب تاب الله عليه، فيلزمك أن تُخرج الربا وتتصدق به بنية التَّخلص من الفوائد الربوية التي أخذتها، يلزمك أن تتصدق بمثلها بنية التَّخلص، مع التوبة إلى الله ، ومَن تاب تاب الله عليه.

السؤال: ما القول الراجح في سجود التلاوة في سورة ص؟

الجواب: القول الراجح أنه يُشرع السجود: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، المقصود بقوله: وَخَرَّ رَاكِعًا يعني: ساجدًا، كما قال ابن كثيرٍ وغيره؛ ولذلك قال: وَخَرَّ رَاكِعًا، ولو كان المقصود به الركوع، وليس السجود، لم يقل: خَرَّ، فالخرور إنما يكون للسجود؛ لذلك قد يُعبر عن السجود بالركوع، فمعنى: وَخَرَّ رَاكِعًا يعني: ساجدًا، وقد جاء في “صحيح البخاري” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي سجد عند سجدة “ص” [24].

فالقول الراجح: أنه يُشرع السجود عند سجدة “ص”، وحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما حديثٌ صحيحٌ صريحٌ، وإن كان ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “”ص” ليس من عزائم السجود، وقد رأيتُ النبيَّ يسجد فيها” [25].

يكفينا قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “وقد رأيتُ النبيَّ يسجد فيها”.

وأما قوله: “ليس من عزائم السجود” فهذا اجتهادٌ من ابن عباسٍ رضي الله عنهما، ويكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام سجد فيها، وهو أُسوتنا وقُدوتنا عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أنه يُشرع السجود عند سجدة “ص” على القول الراجح.

السؤال: متى يبدأ وقت صلاة الضحى؟

الجواب: يبدأ وقت صلاة الضحى من بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمحٍ، يعني: من بعد الشروق بنحو عشر دقائق إلى ربع ساعة، فيبدأ وقت صلاة الضحى، ويمتد إلى قبيل الزوال بنحو عشر دقائق، يعني: قُبيل أذان الظهر بنحو عشر دقائق، فهذا الوقت كله وقتٌ لصلاة الضحى، وأفضله آخره؛ لقول النبي : صلاة الأوَّابين حين تَرْمَض الفِصَال [26]، يعني: حين تشتد الرَّمضاء، وهذا إنما يكون عند آخر وقت صلاة الضحى، يعني: قبل أذان الظهر بنحو نصف ساعةٍ تقريبًا، هذا هو أفضل وقتٍ تُصلَّى فيه صلاة الضحى.

السؤال: بعض الشباب يدعو لفريقه الذي يُشجعه في صلاة الفريضة، فهل ذلك يُؤثر على صحة الصلاة؟

الجواب: أولًا: صلاة الفريضة ينبغي ألا يُدْعَى فيها بأمرٍ من أمور الدنيا، وإنما تُخَصّ بالدعاء بأمور الآخرة، فإن بعض المذاهب الفقهية يرون أن الصلاة لا تصحّ إذا دعا في الصلاة بأمرٍ من أمور الدنيا، ومنها مذهب الحنابلة، فهم يرون أن مَن دعا في صلاة الفريضة بأمرٍ من أمور الدنيا لم تصحّ صلاته.

وعلى ذلك نقول: لا تدعُ في صلاة الفريضة بأمرٍ من أمور الدنيا، وإنما إذا أردتَ الدعاء في الفريضة فَادْعُ فيها بأمور الآخرة فقط.

السؤال: ما حكم قول: “ربِّ اشرح لي صدري، ويَسِّر لي أمري، واحلل عُقدةً من لساني يَفْقَهُوا قولي” بنية الشفاء من التَّأتأة؟

الجواب: لا بأس بذلك، هذا دعاءٌ عظيمٌ، ذكره الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام، فهو من أدعية الأنبياء، فالدعاء بذلك دعاءٌ حسنٌ، حتى وإن لم يُرد الشفاء من التَّأتأة، يعني: كون الإنسان يدعو الله تعالى يقول: ربِّ اشرح لي صدري، ويَسِّر لي أمري، هذا من أعظم الأدعية؛ لأنك إذا قلتَ: ربِّ اشرح لي صدري، سألتَ الله تعالى أن يُزيل عنك العوائق الداخلية، وإذا قلتَ: ويَسِّر لي أمري، سألتَ الله تعالى أن يُزيل عنك العوائق الخارجية، فانظر إلى هذا الدعاء، دعاءٌ عظيمٌ جامعٌ، فينبغي أن يدعو به المسلم.

السؤال: هذه سائلةٌ تقول: هل يُحاسَب الإنسان على ما في قلبه من وسواسٍ وتفكيرٍ في العقيدة؟ علمًا بأنها تُلازمني كثيرًا، ومُتضايقةٌ منها، ولا أستطيع دفعها؛ لكثرتها، فهل عليَّ شيءٌ؟

الجواب: ليس عليكِ شيءٌ؛ لقول النبي : إن الله تجاوز عن أُمتي ما حدَّثتْ به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم [27]، هذه بشارةٌ من النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمة؛ لأن جميع الوساوس وحديث النفس لا يُؤاخذ عليها الإنسان إلا إذا عمل أو تحدث.

فنقول للأخت الكريمة: لا تُؤاخذين بهذه الوساوس إطلاقًا -الحمد لله- ما لم تتكلمي أو تعملي؛ ولذلك لا داعي لهذا التَّضايق، ما دُمْتِ غير مُؤاخذةٍ فلا وجه لهذا التَّضايق، وإذا أَتَتْكِي هذه الوساوس قولي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأعرضي عنها، لا تُفكري فيها، فَكِّري في أمرٍ آخر.

السؤال: لماذا يُسمي بعض السلف الشتاء: الغنيمة الباردة؟

الجواب: يُسمونه: الغنيمة الباردة؛ نظرًا لقصر نهاره، فيكون أسهل في الصيام؛ ولطول ليله، فيكون أسهل في القيام؛ لأنه مع طول الليل تأخذ النفس حظَّها من النوم، فيقوم الإنسان نشيطًا ويُصلي من الليل ما شاء الله.

وكذلك أيضًا قصر النهار مع بُرودة الجو يُسهل الصيام؛ فلذلك يُسمونه: الغنيمة الباردة، يعني: أنك تنال أجر الصيام وأجر القيام مع قِلة المشقة، فتستطيع أن تصوم في أيام الشتاء بسهولةٍ ومن غير مشقةٍ؛ نظرًا لقصر النهار، ولبرودة الجو، وتستطيع أن تقوم الليل أيضًا بسهولةٍ ومن غير مشقةٍ؛ لأجل طول الليل، فتأخذ النفس حظَّها من النوم، وتقوم وتُصلي من الليل بسهولةٍ؛ فلذلك كان بعض السلف يُسمون الشتاء: الغنيمة الباردة.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه البخاري: 2201، ومسلم: 1593.
^3 رواه البخاري: 2312، ومسلم: 1594.
^4 رواه البخاري: 2079، ومسلم: 1532.
^5 رواه البخاري: 2076.
^6 رواه أبو داود: 2194، والترمذي: 1184 وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 2039.
^7 رواه ابن ماجه: 2185.
^8 رواه النسائي: 1304، وأحمد: 17114.
^9 رواه مسلم: 1578.
^10 رواه النسائي: 4295.
^11 رواه مسلم: 1568.
^12 رواه مسلم: 1575.
^13 رواه البخاري: 3322، ومسلم: 2106.
^14 رواه مسلم: 1569.
^15 رواه أبو داود: 3479.
^16 رواه أبو داود: 3503، والترمذي: 1232.
^17 رواه البخاري: 3642.
^18 رواه مسلم: 1513.
^19 رواه الترمذي: 1321 وقال: حسنٌ.
^20 رواه مسلمٌ: 568.
^21 رواه مسلم: 569.
^22 رواه البخاري: 454، ومسلم: 892.
^23 رواه البخاري: 934، ومسلم: 851.
^24, ^25 رواه البخاري: 1069.
^26 رواه مسلم: 748.
^27 رواه البخاري: 5269، ومسلم: 127.
zh