عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي في هذا اليوم الاثنين، العاشر من شهر ربيع الآخر من عام (1443 هـ).
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
ننتقل بعد ذلك لـ”السلسبيل في شرح الدليل”، وإن شاء الله في هذا الدرس سننتهي من الجزء الرابع، والدرس القادم -إن شاء الله- نَدخل في أبواب المعاملات بإذن الله تعالى.
تبقَّى معنا في هذا الجزء بقية أحكام الجهاد، بدأنا فيه الدرس السابق وإن شاء الله هذا الدرس ننتهي من أحكام الجهاد.
أقسام الأُسارى من الكفار
وصلنا عند قول المصنف رحمه الله تعالى:
والأُسارى من الكفار على قسمين:
- قسمٌ يكون رقيقًا بمجرد السبي: وهم النساء والصبيان.
- وقسمٌ لا: وهم الرجال البالغون.
إلى آخره.
نعم، إذا أَسَر المسلمون أسرى من الكفار؛ فهم على قسمين:
النساء والصبيان
- القسم الأول: يكون رقيقًا بمجرد السبي: وهم النساء والصبيان، وقد سبى النبي عليه الصلاة والسلام نساء هوازن وصبيانهم، فأتاه وَفْدُ هوازن وخيَّرهم النبي عليه الصلاة والسلام بين السبي وبين المال، فاختاروا السبي، فرد السبي عليهم، رد النساء والصبيان عليهم، وأخذ منهم المال [1]، وأيضا سبى نساء بني المصطلق [2]، فكان هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وهدي أصحابه من بعده .
الرجال البالغون
- القسم الثاني: لا يكون رقيقًا بمجرد السبي: وهم الرجال البالغون المقاتلون، فالإمام مخيرٌ فيهم بين أربعة أمورٍ: بين القتل، والرق، والمنِّ مجانًا، وإما الفداء بمالٍ أو بأسيرٍ مسلمٍ، وهذا التخيير تخيير مصلحةٍ، وليس تخيير تشهٍّ.
قاعدةٌ: في التخيير الذي يكون لغير الإنسان يكون تخيير مصلحةٍ، أما التخيير الذي للإنسان فهو تخييرٍ تَشَهٍّ؛ يعني مثلًا: خصال الكفارة: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبةٍ، هذا تخيير تشهٍّ، تختار منه ما تريد، مثلًا: في فدية الأذى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، فهذا تخيير تشهٍّ؛ لأن التخيير لك، التخيير إذا كان للإنسان؛ فهو تخيير تشهٍ، أما إذا كان التخيير لغيرك؛ فهو تخيير مصلحةٍ، فالإمام عندما يُخيَّر؛ فهو تخيير مصلحةٍ، ولي اليتيم مثلًا عندما يُخيَّر؛ تخيير مصلحةٍ، فالتخيير للغير تخيير مصلحةٍ، والتخيير للنفس تخيير تشهٍ، فهذا التخيير هنا تخيير مصلحةٍ، يلزم الإمام أن يختار ما هو الأصلح للمسلمين.
الأول: القتل؛ لقول الله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5]، والنبي عليه الصلاة والسلام قَتل رجال بني قريظة؛ لما نقضوا العهد، وكانوا ما بين ستمئةٍ إلى سبعمئةٍ، وقد حكم فيهم سعد بن معاذٍ؛ لأنهم طلبوا حُكمه، وكان حليفًا لهم، وكان سعد بن معاذٍ مريضًا، فطلبوا أن ينزلوا على حكمه، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يؤتى به، فأُتي به على حمارٍ وجرحه يثعب دمًا، فلما قدم قال النبي عليه الصلاة والسلام لقومه: قوموا إلى سيدكم، فقاموا وأنزلوه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن هؤلاء طلبوا النزول على حكمك، قال: حكمي فيهم نافذٌ؟ قال: نعم، قال: وحُكمي على هذا -يقصد النبي عليه الصلاة والسلام نافذ؟ التفت إليه إجلالًا له، قال: نعم، قال: فإني حكمت بأن تُقتل مقاتِلتهم، وتسبى ذراريُّهم، فقال له النبي : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماواتٍ [3].
ونفَّذ النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحكم، وقد كان بإمكانهم لو أسلموا لما قُتلوا، لكنهم أصروا على ما هم عليه من الكفر، شفع أحد الصحابة في أحدهم، كان له يدٌ عليه، فقبل النبي عليه الصلاة والسلام شفاعته، لكن هذا الرجل أصرَّ -سبحان الله!- وقال: لا، بل أكون مع قومي، أريد أن ألقى الأحبة، فقال أبو بكرٍ الصديق: يلقاهم والله في نار جهنم، فانظروا -نسأل الله العافية- كيف أنه يشفع له في ألا يُقتل ويُسلِم، ويأبى إلا أن يُقتل.
وأيضًا قَتل النبي عليه الصلاة والسلام النضر بن حارث، وعقبة بن أبي مُعَيْطٍ يوم بدرٍ، وقتل أبا عزة الجُمَحي، وكان أبو عزة قد أُسِر يوم بدرٍ، فذكر للنبي فقرًا وحاجةً فتركه، وتركه بشرط ألا يقاتل مرةً أخرى مع المشركين، لكنه لم يف بهذا العهد، فقاتل معهم، فأرسل للمرة الثانية يوم أُحُدٍ، فجعل يستعطف، ويذكر للنبي عليه الصلاة والسلام مرةً أخرى فقرًا وحاجةً، فقال النبي : لا؛ لا تمسح على عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدًا مرتين [4]، فأمر بقتله، ثم قال عليه الصلاة والسلام: لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين [5]، وأصبح هذا مثلًا، فهذه قصصٌ -كما قال الموفق- اشتهرت؛ فهذا يدل على أن الإمام إذا رأى القتل هو الأصلح للمسلمين؛ فله ذلك.
الأمر الثاني: الرق؛ لأنه يجوز إقرارهم على الجزية؛ فبالرق من باب أولى؛ لأنه أبلغ في الصغار.
الثالث: المن، يعني الإطلاق مجانًا، إذا رأى الإمام -ولي الأمر- أن يطلق بعض هؤلاء الكفار مجانًا لمصلحةٍ اقتضت ذلك؛ فلا بأس بهذا؛ كما قال الله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]، وقد فعل ذلك النبي ، فقد منَّ على ثُمَامة بن أُثَالٍ [6]، وأيضا منَّ على أبي عزة الجمحي في المرة الأولى [7]، ومنَّ على زوج ابنته أبي العاص بن الربيع [8].
الرابع: الفداء بمالٍ، أو بأسيرٍ مسلمٍ، الفداء بمالٍ هذا فعله أيضًا النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدرٍ [9]، وجعل فداء الشخص الواحد أربعمئةٍ [10]، والفداء بأسيرٍ مسلمٍ أيضًا، فدى النبي رجلين من المسلمين برجلٍ من المشركين من بني عُقيلٍ [11].
قال:
ويجب عليه فعل الأصلح.
يعني: كما ذكرنا؛ لأن التخيير تخييرٌ لغيره، فيجب فعل الأصلح.
لا يصح بيع المستَرَقِّ للكافر
ولا يصح بيع مُستَرَقٍّ منهم لكافرٍ.
وذلك لأن بقاءه رقيقًا للمسلمين فيه تعريضٌ له بالإسلام، وأما إذا بيع للكفار؛ فسيستمر على كفره، وقد رُوي أن عمر كتب إلى أمراء الأمصار ينهاهم عن ذلك.
هل يسترقُّ الأسير إذا أسلم؟
طيب هل يسترق الأسير إذا أسلم؟
قيل: إنه إذا أسلم الأسير؛ صار رقيقًا في الحال، لكن هذا قولٌ ضعيفٌ.
وقيل: إنه إذا أسلم؛ حرم قتله، ويخيَّر فيه الإمام بين المن والفداء والاسترقاق، دون القتل، وهذه الرواية قال صاحب “الإنصاف”: إنها هي المذهب، واختارها الموفق بن قدامة، وهو الأقرب.
أما إن أسلم قبل أسره؛ حرم قتله واسترقاقه والمفاداة به؛ لأن الاسترقاق إنما يكون للكافر إذا استُرِقَّ، أما إذا أسلم؛ فالإسلام يمنع استرقاقه.
قال:
متى يحكم بإسلام من لم يبلغ من أولاد الكفار؟
ويحكم بإسلام من لم يبلغ من أولاد الكفار عند وجود ثلاثة أسبابٍ:
من لم يبلغ، أما من بلغ فحكمه كما سبق، لكن من لم يبلغ -يعني من الصغار- يحكم بإسلام من لم يبلغ منهم عند وجود ثلاثة أسبابٍ:
الأول: أن يسلم أحد أبويه خاصةً.
فإذا أسلم أحد أبويه؛ حكم بإسلامه، فيتبع الوالدَ المسلمَ، سواءٌ كان أباه أو أمه؛ لقول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21].
الثاني: أن يُعدَم أحدُهما بدارِنا.
يعني: بدار الإسلام، فيحكم له بالإسلام.
الثالث: أن يسبيه مسلمٌ منفردًا عن أحد أبويه.
فيحكم أيضًا له بالإسلام، وقد انقطع تبعيته لأبويه بانقطاعه عن أحدهما، وإخراجه من دارهما إلى دار الإسلام.
أما إذا سُبي أطفالٌ منفردين؛ فيحكم لهم بالإسلام بالإجماع.
فإن سباه ذميٌ؛ فعلى دينه.
يعني: يكون على دين الذمي، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: كل مولودٍ يولد على الفطرة [12].
أو سُبي مع أبويه؛ فعلى دينهما.
للحديث السابق.
طيب، ثم بعد ذلك قال المصنف رحمه الله:
من قَتل قتيلًا فله سَلَبُه
فصلٌ
ومن قتل قتيلًا في حالة الحرب فله سَلَبُه.
لقول النبي : من قَتل قتيلًا له عليه بينةٌ؛ فله سَلَبُه [13]، وهذا قد ورد أيضًا في معناه عدة أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا السَّلَب من باب التحفيز والتشجيع للمقاتلين؛ ليكون حافزًا لهم على قتل الكفار.
وهذه المسألة استدل بها بعض أهل العلم على جواز التشريك في النية، التشريك في النية ليس معناه الرياء، الرياء يُحبط العمل، هو يعمل العمل لوجه الله تعالى، لكن يُشرِّك بين عمله الذي يبتغي به وجه الله تعالى، يُشرِّك معه إرادة أمرٍ دنيويٍّ؛ فمثال ذلك: هذا المثال الذي بين أيدينا: قَتْل القتيل جهادًا في سبيل الله، وأيضًا طمعًا في السلب، أيضًا مثال ذلك: حَجَّ يبتغي الأجر من الله بالحج، وأيضًا لكي يتاجر، كذلك أيضًا: طلب العلم الشرعي ابتغاء الأجر من الله، وطلبًا للشهادة ونحو ذلك، هذه المسألة تسمى مسألة التشريك في النية، وهي محل خلافٍ بين أهل العلم، والقول الراجح: أنه لا بأس بها، ومن أدلة ذلك: قول الله تعالى في الحج: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، نزلت هذه الآية في نفرٍ من الصحابة كانوا يتعاملون بالتجارة في الحج، فلما أسلموا تحرجوا من أن يجمعوا بين الحج والتجارة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأيضًا قول الله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ -والاستغفار عبادةٌ- إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح: 10]، ثم ذكر منافع دنيويةً: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:11-12]؛ فعلى هذا نقول: القول الراجح: أنه لا بأس بالتشريك في النية.
قال:
معنى السَّلَب
وهو.
يعني: السلب.
ما عليه.
يعني: ما على القتيل.
من ثيابٍ وحليٍّ وسلاحٍ، وكذا دابته التي قاتل عليها، وما عليها.
هو خاصٌّ بما على القتيل حال قتله.
وأما نفقته ورحله وخيمته وجنيبه فغنيمةٌ.
هذه كلها لا تدخل في السَّلَب.
ومعنى “وجنيبه”، الجنيب معناه: أن يُجْنِب فرسًا إلى فرسه؛ لأن بعضهم -خاصةً من أهل من كان عنده ثراءٌ ومالٌ- يكون عنده فَرَسَان، فيجعل فرسًا قريبًا من فرسه، فإذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب.
قسمة الغنيمة
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك إلى كيفية قسمة الغنيمة:
قال:
وتقسم.
معنى الغنيمة والفيء
أولًا: ما هي الغنيمة؟
الغنيمة: هي كل مالٍ أُخذ من الكفار قهرًا بالقتال.
وأما الفيء: فهو كل مالٍ أخذ من الكفار بدون قتالٍ، فالفرق بينهما: أن الغنيمة تكون بالقتال، والفيء يكون بدون قتالٍ.
وحِلُّ هذه الغنيمة من خصائص هذه الأمة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: أُعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي..، وذكر منها: أُحِلَّت لي الغنائم، ولم تحل لأحدٍ من قبلي [14]، قد كانت الغنائم من قبل النبي عليه الصلاة والسلام تُجمع ثم تنزل عليها نارٌ من السماء فتُحرقها.
الغنيمة بين الغانمين، فيعطى لهم أربعة أخماسها.
طيب الغنيمة تقسم بين الغانمين، فيعطى لهم أربعة أخماسها، يعني تقسم خمسة أقسامٍ؛ أربعة أخماسٍ للغانمين، وهذا بالإجماع؛ لقول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ.. إلى آخر الآية [الأنفال:41]، يعني: والباقي للغانمين.
كيفية قسمة الغنيمة
أما كيفية القسمة:
للراجل سهمٌ.
“الراجل” معناه: غير الفارس، الذي يقاتل بغير خيلٍ، فيكون له سهمٌ واحدٌ.
إن كان الفارس على فرسٍ هجينٍ، والهجين: هو ما كان أبوه عربيًّا، فقط يكون له سهمان.
الفرس -العربي: الذي أبوه عربيٌّ وأمه عربيةٌ- يكون له ثلاثة أسهمٍ: للفرس سهمان، وله سهمٌ واحدٌ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهمًا [15]، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: “قسم رسول الله يوم خيبر للفرس سهمين، وللراجل سهمًا” [16]، ولأن نفع الفارس أعظم من نفع الراجل، ولكن تفريق المؤلف ما بين الفرس العربي والفرس الهجين محل نظرٍ، ولا دليل عليه، والصواب: أنه لا فرق بينهما، وأنه يسهم للفارس مطلقًا ثلاثة أسهمٍ، سواءٌ أكان فرسه عربيًّا أم كان هجينًا.
طيب، نحن نتكلم الآن عن مسائل قديمةٍ، ما الذي يقاس على الفرس في الوقت الحاضر؟
الذي يقاس عليه: الطائرة، فالطيار يسهم له ثلاثة أسهمٍ سهمٌ له، وسهمان للطائرة؛ كما أن من على الفرس يسهم له ثلاثة أسهمٍ: سهمٌ له، وسهمان للفرس، فأقرب ما يقاس على ذلك: الطائرة، فيسهم على ذلك للطيار ثلاثة أسهمٍ، بينما غير الطيار سهمٌ واحدٌ، وأقرب ما يقاس: الإبل، الإبل أقرب ما يقاس عليها الدبابة، والخيل أقرب ما يقاس عليها: الطائرة، هذا هو الذي يظهر -والله أعلم- في هذه المسألة.
قال:
ولا يسهم لغير الخيل.
لأنه لم يُنقل عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومعلومٌ أنه كان في بعض غزواته إبلٌ، ولم ينقل أنه أسهَم لمن كان على الإبل، إنما ورد فقط للخيل تشجيعًا للمقاتلين بأن يقاتلوا على الخيول؛ لأن الخيول نفعها عظيمٌ، وأثرها كبيرٌ، وهي أنفع بكثيرٍ من غيرها من الحيوانات؛ ولهذا قال الله تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا [العاديات:1-5]، كل هذا قَسَمٌ بالخيل على أوصافٍ عدةٍ لها؛ وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة [17].
قوله:
ولا يُسهَم إلا لما فيه أربعة شروطٍ.
يعني: لا يسهم لمن كان على فرسٍ إلا إذا توفرت فيه أربعة شروطٍ: وهي البلوغ والعقل والحرية والذكورة، فلا بد من هذه الشروط الأربعة.
ومراد المؤلف من الإسهام هنا: ليس فقط الإسهام الذي يكون للفارس، وإنما حتى أيضًا الإسهام في الغنيمة، فإذا اختل واحدٌ من هذه الشروط الأربعة؛ بأن لم يكن مثلًا بالغًا، كان صبيًّا مع الجيش، أو غير عاقلٍ، أو نحو ذلك؛ فلا يسهم لهم من الغنيمة.
طيب، إذا لم يسهم لهم من الغنيمة فما الحكم؟
قال:
فإن اختلَّ شرطٌ؛ رُضِخَ له ولم يسهم.
ومعنى الرَّضْخ: أنه يُعطَى من غير تقديرٍ، فلو كان مثلًا صبيٌّ مع الجيش، أو كانت مثلًا امرأةٌ مع الجيش، أو كان مثلًا إنسانٌ مجنونٌ، أو به جنونٌ مع الجيش؛ فيرضخ له، لا يعطى من الغنيمة، ولكن يرضخ له، يعطى بحسب ما يراه الإمام مُحَقِّقًا للمصلحة، وتطييبًا لخواطرهم، وأيضًا كما لو حضر قسمة الميراث وهو غير وارثٍ، فإن من حضر قسمة الميراث وهو غير وارثٍ؛ ينبغي أن يُعطَى ما تجود به أنفس الوارثين؛ تطييبًا لخاطره؛ لقول لله تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8].
يقسم الخُمُس خمسة أسهمٍ
قال:
ويقسم الخُمُس الباقي خمسة أسهمٍ.
نحن قلنا: إن الغنيمة تقسم خمسة أقسامٍ: أربعة أقسامٍ للمقاتلين، طيب يبقى خُمُسٌ؟ الخمس المتبقي يقسم أيضًا خمسة أسهمٍ، يعني هذا الخمس يقسم مرةً أخرى خمسة أسهمٍ؛ لقول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41].
طيب، إذنْ هذا الخمس يقسم خمسة أقسامٍ:
القسم الأول:
فهذا.
لقول الله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ، فيدخل في بيت مال المسلمين، ويصرف في مصالح المسلمين.
الثاني:
يعني قرابة النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هم؟
قال:
وهم بنو هاشمٍ وبنو المطلب حيث كانوا.
هاشمٌ هو جد النبي عليه الصلاة والسلام، والمُطَّلِب هو أخوه، وهناك أيضًا لهما أخوان: نوفلٌ، وعبد شمسٍ، فهؤلاء أربعة إخوةٍ، نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام: هو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشمٍ، فهاشمٌ له ثلاثة إخوةٍ: له المطلب، ونوفلٌ، وعبد شمسٍ، بنو نوفلٍ وبنو عبد شمسٍ فارقوا النبي عليه الصلاة والسلام، بينما بنو المطلب لم يفارقوا بني هاشمٍ، لا في جاهليةٍ ولا في إسلامٍ؛ ولهذا أشركهم النبي عليه الصلاة والسلام في الخُمُس، والصحيح: أن هذا خاصٌّ بخمس الغنيمة، ولا يشمل ذلك الزكاة، كما بينا ذلك في كتاب الزكاة، ورجحنا أنها لا تدفع لبني هاشمٍ خاصةً، ويجوز دفعها لبني المطلب.
قال:
للذكر مثل حظ الأنثيين؛ كقسمة الميراث.
يعني: هذا بالنسبة إذا أعطي أهل البيت وقرابة النبي عليه الصلاة والسلام.
وسهم لفقراء اليتامى، وهم من لا أب له ولم يبلغ.
الله تعالى قال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [الأنفال:41]، المؤلف قصر قول الله تعالى: وَالْيَتَامَى، على فقراء اليتامى.
طيب ما معنى اليتامى؟
اليتامى: جمع يتيمٍ، وهو الذي مات أبوه قبل البلوغ؛ وعلى هذا: من ماتت أمه؛ ليس يتيمًا، لا يعتبر يتيمًا، فَقْد الأب أشد من فقد الأم؛ لأن الأم يمكن أن يؤتى بمرضعةٍ أو حاضنةٍ تقوم على رعاية هذا الطفل، لكن الأب هو الذي ينفق عليه، وهو الذي يرعاه ويقوم على شؤونه، ففقد الأب أشد.
ولهذا فاليتيم لغةً وشرعًا: هو من فقد أباه قبل البلوغ، أما من فقد أمه فلا يعتبر يتيمًا، وهكذا لو فقد أباه بعد البلوغ، لا يعتبر يتيمًا، فلاحِظ الضابط، ضابط اليتيم: هو من فقد أباه قبل البلوغ.
المؤلف خص هذا بفقراء اليتامى، وهذا أحد الأقوال في المسألة.
القول الثاني: أنه لا يشترط في اليتامى في هذا الموضع أن يكونوا فقراء؛ لأننا لو جعلنا هذا السهم خاصًّا بفقراء اليتامى؛ لم يكن لعطف المساكين عليهم فائدةٌ، الله تعالى قال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [الأنفال:41]، لو كان المقصود فقراء اليتامى؛ ما كان هناك داعٍ أن يقول: وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، ولقال: وَالْمَسَاكِينِ، ودخل فيهم هؤلاء، وهذا القول هو القول الراجح: أنه لا يختص بفقراء اليتامى، وإنما يعطى اليتامى عمومًا من هذا الخمس ولو كانوا أغنياء؛ جبرًا للنقص الذي حصل لهذا اليتيم من فقد أبيه؛ فإن اليتيم مهما كان -حتى لو كان غنيًّا- يتألم بفقد والده، ويرى غيره ممن هو في سنه أو دونه ومعهم آباؤهم وهو قد فقد أباه، لا بد أن يتأثر نفسيًّا بذلك، حتى وإن كان غنيًّا، حتى وإن أعطي الرعاية والحنان من أمه، لا بد أن يتأثر بفقد أبيه، ويجد لوعةً بفقد أبيه، فجبرًا لخاطره؛ جُعل له حقٌّ في الخمس.
السهم الخامس من أسهم الخُمُس:
وسبق أن قلنا: إذا أُطلق “المساكين”؛ شمل الفقراء، يعني المساكين، كل مسكينٍ فقيرٌ، وكل فقيرٍ مسكينٌ، هذا عند الإطلاق، لكن إذا اجتمعا؛ افترقا، وإذا افترقا؛ اجتمعا، فإذا اجتمعا، سبق أن بينا هذا في كتاب الزكاة، وقلنا: الفقير المُعدِم، الذي ليس عنده شيءٌ، أو عنده دون نصف الكفاية، والمسكين ما عنده نصف الكفاية وأكثرها، لكن المقصود هنا: الفقراء والمساكين.
قال:
وسهمٌ لأبناء السبيل.
ابن السبيل: هو المسافر الذي انقطع به السفر؛ كأن ضاعت نفقته أو سرقت، فهذا يعطى من الخمس ولو كان غنيًّا في بلده، يعطى بقدر ما يوصله إلى بلده.
الفرق بين الفيء والغنيمة
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لأحكام الفيء فقال:
والفيء: هو ما أُخذ من مال الكفار بحقٍّ من غير قتالٍ.
هذا يسمى الفيء.
الفرق بينه وبين الغنيمة: الغنيمة: ما أخذ من مال الكفار بالقتال، وأما بغير قتالٍ فهذا هو الفيء، مثلما حصل من أخذ المسلمين لأموال بني النضير، فإن بني النضير ألقى الله في قلوبهم الرعب، سبحان الله! يعني لما أتاهم المسلمون؛ أصابهم رعبٌ شديدٌ، وخرجوا من ديارهم بدون قتالٍ، فأخذ المسلمون أموالهم وديارهم، هذا هو الفيء؛ ولذلك ذكر الله تعالى هذا الفيء في سورة الحشر: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:2]، سبحان الله! كانت حصونهم عظيمةً وشديدةً، ولا خطر ببالهم أنهم سيخرجون منها، وأنتم أيضًا مع حسن ظن الصحابة بالله إلا أن الأمر كان فوق ذلك، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا؛ لأنه وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، هذا جندٌ من جند الله، ألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم فخرجوا، سبحان الله! فلما خرجوا؛ أخذ المسلمون أموالهم وديارهم، فكانت هذه الأموال فيئًا، وقد ذكر الله تعالى الفيء في القرآن في أكثر من موضعٍ.
الفيء في أحكامه كالجزية والخراج
قال:
كالجزية والخراج.
يعني: الفيء هو في أحكامه كالجزية والخراج؛ لأن الجزية أيضًا تؤخذ بغير قتالٍ، والخراج هو المال المضروب على أرض الخراجية التي غنمها المسلمون، ثم أوقفت على المسلمين، مثل الأراضي التي وقفها عمر على المسلمين، فإن المسلمين لما فتحوا أرض الشام ومصر والعراق؛ أوقفها عمر على المسلمين، فأصبحت وقفًا للمسلمين، وضرب عليها خراجًا، لكن مع الأحداث العظيمة التي مرت بالأمة الإسلامية؛ ضاعت تلك الأوقاف، ولم تعد تلك الأراضي أوقافًا، وإلا كان عمر أوقفها على عموم المسلمين.
قال:
وعُشر التجارة من الحربي.
العُشر: ما يؤخذ من كل كافرٍ اتجر في بلاد المسلمين، وهو ما يسمى في الوقت الحاضر بالضرائب، فإذا فُتح للكفار مجالٌ للاستثمار في بلاد المسلمين؛ لا بأس أن يؤخذ منهم ضرائب مقابل اتجارهم في أرض المسلمين، وكان العلماء السابقون سموه العُشر، يسمونه العُشر، كان موجودًا في عهد عمر ، وكان يؤخذ (10%)، العشر يعني: (10%).
ونصف العُشر من الذمي.
يعني (5%) من الذمي، أيضًا لآثارٍ وردت عن الصحابة في هذا.
وما تركوه فَزَعًا.
يعني: يكون فيئًا.
أو عن ميتٍ ولا وارث له.
يعني: من مات وليس له وارثٌ من الكفار؛ يكون ما تركه فيئًا يصرف لبيت مال المسلمين، أما من مات من المسلمين وليس له وارثٌ؛ فإنه أيضًا ماله يصرف لبيت مال المسلمين، هذا إنسانٌ ماله يعطى لورثته، طيب ليس له ورثةٌ؟
أولًا: إذا كان له ورثةٌ لكنهم ليس لهم عاصبٌ؛ يعني له مثلًا: أمٌّ فقط، أو أختٌ، أو بنتٌ، فيرد الباقي عليها، يرد الباقي على أصحاب الفروض.
طيب، إذا لم يكن له ورثةٌ ما له أقارب، لكن له ذوو أرحامٍ، له خالٌ، له عمةٌ، له ابن خالٍ، فالقول الراجح أيضًا: أن هذا المال يعطى لذوي أرحامه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: الخال وارث من لا وارث له [18]، وهذا -إن شاء الله- مذكورٌ في كتب الفرائض بالتفصيل.
طيب، فإذا لم يكن له أحدٌ، ما له أي أقارب، ولا ذوو أرحامٍ، فيصرف هذا المال لبيت مال المسلمين، هذا أكثر ما يكون مثلًا في إنسانٍ لقيطٍ، وحصل عنده ثروةٌ، وعنده مالٌ، مات وليس له أبٌ ولا أمٌّ ولا أخٌ، ما له أقارب معلومون، فتَرِكَته تُصرَف لبيت مال المسلمين كالفيء.
مصارف الفيء
ولهذا قال المصنف:
ومصرفه.
يعني: مصرف الفيء.
في مصالح المسلمين، ويبدأ بالأهم فالأهم.
طيب، يصرف في مصارف المسلمين في ماذا؟ قال: “يبدأ بالأهم فألاهم”.
من سد ثغرٍ.
الثغر: هو الذي يسمى في الوقت الحاضر الحدود، الثغر هو الحد، والثغور الحدود، فالفقهاء السابقون يقولون: يبدأ بحماية حدود بلاد المسلمين، سد الثغور؛ لأهميتها.
وكفاية أهله، وحاجة من يدفع عن المسلمين.
وهم المرابطون على الحدود، يبدأ بهم.
وعمارة القناطر.
يعني: في وقتنا الحاضر إنشاء الطرق، وكل ما يحتاج إليه المسلمون؛ كالمستشفيات والمدارس، ونحو ذلك.
ورزق القضاة والفقهاء، وغير ذلك.
الرزق: هو ما يؤخذ من بيت المال، ويعطى للقائمين بالوظائف الدينية التي هي من فروض الكفاية؛ مثلًا: القضاة والفقهاء والمفتون والمعلمون العلوم الشرعية، هؤلاء يجوز أن يأخذوا رزقًا من بيت المال، وكذلك أيضًا أئمة المساجد والمؤذنون يأخذون من بيت المال، ولا بأس بذلك، ولا شبهة فيه، وهذا بالإجماع؛ لأن بيت المال يُصرف في مصالح المسلمين، وإعطاء مثلًا الإمام أو المؤذن رزقًا؛ لكي ينتظم أمر المسجد لا شك أن فيه مصلحةً عظيمةً.
قال:
فإن فَضَل شيءٌ؛ قُسم بين أحرار المسلمين؛ غنيهم وفقيرهم.
يعني: إن صُرف المال في المصالح العامة وفاض شيءٌ؛ فإنه يُصرف على المسلمين.
قال:
وبيت المال ملكٌ للمسلمين.
يعني: كما يقال: شخصيةٌ اعتباريةٌ، وهو ملكٌ للمسلمين، لا يملكه شخصٌ معينٌ.
ويضمنه مُتلِفه.
من أتلف بيت المال أو شيئًا منه؛ ضمنه كغيره من المتلَفات؛ ومن ذلك: ما يسمى الآن بالفساد، واختلاس الأموال، يجب أن ترد هذه الأموال، ويعاقب هؤلاء المختلسون، هذا ما يسمى بالفساد، الفساد: أن يتعدى إنسانٌ على بيت مال المسلمين، ويأخذ منه بغير حقٍّ، فهنا يجب أن يرجع هذا المال، ويعاقب، وعندنا الآن في المملكة أصبح هناك دوائر لمحاسبة هؤلاء الفاسدين، الذين تعدوا على بيت المال واختلسوا منه بغير حقٍّ.
قال:
ويحرم الأخذ منه بلا إذن الإمام.
لأنه افتياتٌ عليه، وكما ذكرنا يعتبر بلغة العصر فسادًا.
باب عقد الذمة
طيب، ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:
باب عقد الذمة
الذمة في اللغة: العهد، ومن ذلك قول الله تعالى: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً [التوبة:10]، يعني قَرَابةً ولا عهدًا، فالإلُّ: هو القرابة والذمة والعهد؛ لأن الإنسان يحتمي بأحد أمرين: إما بقرابةٍ، أو بعهدٍ.
وعقد الذمة المقصود به عند الفقهاء: إقرار بعض الكفار على كفرهم، بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة.
وهنا قلنا: أحكام، ولم نقل: بشرط التزام الملة؛ لأنه لا يشترط أن يكونوا مسلمين، لكن يلتزمون بأحكام الشريعة؛ بألا يجاهروا بما يخالف أحكامها.
والأصل هو عدم إقرار الكافر على كفره، لكن إذا خالفوا ذلك؛ فيقَرُّون على دينهم بالذمة والعهد، ولا يُجبَرون على اعتناق دين الإسلام، لكن نظيرَ بذلهم الجزية للمسلمين، والله تعالى يقول: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، لكن المهم أن يبذلوا الجزية للمسلمين، ولا يقفوا عقبةً في نشر الإسلام والدعوة الإسلامية.
أقسام الكفار
والكفار ينقسمون إلى أربعة أقسامٍ:
- الأول: الكافر الحربي: الذي بين المسلمين وبينه حربٌ معلنةٌ، وليس بينه وبينهم عهدٌ ولا ذمةٌ ولا أمانٌ، فهذا دمه هدرٌ، وماله هدرٌ.
- القسم الثاني: الذمي: الذي يُعقد له عقد الذمة ويُقَر على دينه بشرط بذله الجزية.
- والقسم الثالث: المعاهد: الذي بينه وبين المسلمين عهدٌ، وهذا حال أكثر الكفار وغير المسلمين الذين يدخلون بلاد المسلمين؛ لأن العهد يكون بأية صورةٍ، حتى مجرد تأشيرةٍ، صورة من صور العهد.
- الرابع: الكافر المستأمن: وهو الحربي إذا أعطي الأمان.
القسم الثاني والثالث والرابع دماؤهم معصومةٌ وأموالهم معصومة، إنما فقط الحربي، هذا هو الذي أصلًا مطلوب قتله في المعركة وفي أي مكان.
أما غير الحربي: الذمي والمعاهد والمستأمن، فهؤلاء لا يجوز التعرض لهم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام من قتل معاهدًا بغير حقٍّ؛ لم يَرَح رائحته الجنة [19]، رواه البخاري، وليس المقصود بالمعاهد في الحديث المعنى الاصطلاحي، المقصود به: غير المسلم الذي دمه معصومٌ، فيشمل ذلك الذمي بالاصطلاح الفقهي، ويشمل ذلك كذلك المعاهد، ويشمل كذلك المستأمن، وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58].
فدين الإسلام دينٌ عظيمٌ، عظَّم شأن العهود والمواثيق، فهذا حتى وإن كان غير مسلمٍ لا يجوز لك أن تخدعه وأن تقتله، أعطيته العهد، وأعطيته الأمان؛ يجب أن تحافظ على هذا العهد والأمان، ولا يجوز أن تغدر به وأن تخونه وأن تخدعه؛ ولهذا قال الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]، حتى لو كنت تخاف من أن يخونك؛ لا تبدأه بالقتال، وإنما أولًا انبذ عهده، وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، يعني: انبذ عهدهم؛ حتى تكون أنت وهم سواءً في عدم وجود عهودٍ ومواثيق، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58].
بل إن الله يقول: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [الأنفال:72]، يعني: لو استنصر مسلمٌ بمسلمين؛ ينصرونه، إلا إذا كان بينهم وبين هؤلاء عهودٌ ومواثيق يحترمونها، انظر إلى عظمة الإسلام! فليس هناك دينٌ يحترم العهود والمواثيق مثل هذا الدين العظيم.
وجاء في قصة حذيفة: قال: ما منعني أن أَشهَد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حُسيلٌ [20]، قال: فأَخَذَنا كفار قريشٍ، وقالوا: إنكم تريدون محمدًا، قلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصَرِفنَّ إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم [21]، رواه مسلمٌ.
فانظر، إلى هذه الدرجة؟! هذا الرجل، أبو حذيفة وأبوه حُسَيلٌ، لما أَمسَك بهما كفار قريشٍ؛ أخذوا عليهما العهد أنهما لا يقاتلان مع النبي عليه الصلاة والسلام؛ لمَّا ذهبوا للنبي عليه الصلاة والسلام قال: لا تقاتلا معنا، نفي بعهدهم، ونستعين الله عليهم.
قال:
مَن تُعقد لهم الذمة
لا تعقد إلا لأهل الكتاب.
يعني: لا تعقد الذمة إلا لأهل الكتاب، وإذا أطلق هذا المصطلح أهل الكتاب؛ فالمقصود بهم: اليهود والنصارى، فهؤلاء لهم خصائص تخالف غيرهم، من حِل ذبائحهم، وحل نسائهم.
أو من له شبهة كتابٍ؛ كالمجوس.
المجوس: هم عبدة النار، ويقولون بالظلمة والنور، فعندهم أن الخير خَلَقَه النور، والشر من الظُّلمة، ويقال: إن لهم شبهة كتابٍ، وهذا غير صحيحٍ، أين هذا الكتاب؟ وما هو؟ ومن الذي أرسل إليهم؟ هذا كلامٌ غير صحيحٍ، وليس عليه دليلٌ؛ وهذا يقودنا لمسألة: هل الجزية تختص باليهود والنصارى، أو تؤخذ من جميع الكفار؟
قولان للفقهاء:
فمنهم من قال: إنها تختص بأهل الكتاب، والمجوس؛ لأن لهم شبهة كتابٍ، وهذا قول الجمهور؛ لأن الله قال: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة:29].
والقول الثاني: أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار، واستدلوا بحديث بريدة : كان رسول الله إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سريةٍ؛ أوصاه، وجاء في ذكر بعض هذه الوصايا: وإذا لقيت عدوك من المشركين ولم يقل: من أهل الكتاب، فادعهم إلى ثلاث خصالٍ.. وذكر منها: فإن هم أبَوْا؛ فسلهم الجزية [22]، وهذا رواه مسلمٌ.
وأيضًا جاء في “صحيح البخاري” من حديث عبدالرحمن بن عوفٍ أن رسول الله أخذ الجزية من مجوس هَجَر [23]، مع أنهم مجوسٌ، وليسوا يهودًا ولا نصارى.
فالقول الراجح: أن الجزية تؤخذ من عموم الكفار، ولا تختص باليهود والنصارى، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم وجمعٍ من المحققين من أهل العلم.
شروط عقد الذمة
قال:
ويجب على الإمام عقدها حيث أَمِن مكرهم.
يعني: يجب على الإمام ومن له السلطة الأعلى في الدولة أن يعقد الذمة مع هؤلاء الكفار إذا أمن مكرهم، فعقد الذمة لا يكون إلا من الإمام أو نائبه.
وعقد الذمة عقدٌ مؤبدٌ، وليس مؤقتًا، فلا بد أن يكون من الإمام.
قال:
والتزَموا لنا بأربعة أحكامٍ:
يعني: لا يصلح عقد الذمة إلا إذا التزم هؤلاء بأربعة أحكامٍ:
أحدها: أن يُعطُوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
كما قال الله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، عَنْ يَدٍ يعني: مباشرةً، فلا يَبعثون أحدًا وسيطًا؛ لأنه أبلغ في ذلهم وصغارهم، وصاحب “زاد المستقنع” قال: “ويمتهنون عند أخذها، ويطال وقوفهم، وتُجَرُّ أيديهم”، ولكن هذا محل نظرٍ؛ لأنه لا دليل عليه، والأقرب -والله أعلم- أنه لا يفعل هذا، وإنما لا يكرمون؛ كما قال الله تعالى: وَهُمْ صَاغِرُونَ يعني: لا نظهر إكرامهم، يعني: يأتوا بها مباشرةً من غير واسطةٍ، ولا يُظهر المسلمون إكرامهم بأية صورةٍ من صور الإكرام، هذا معنى قوله تعالى: عَنْ يَدٍ، يعني: مباشرةً من غير واسطةٍ، وَهُمْ صَاغِرُونَ، فلا نظهر إكرامهم.
أما هذا الذي ذكره صاحب “الزاد” فهذا محل نظرٍ، ويُنفِّر من الإسلام، يعني بهذا: “يمتهنون عند أخذها، ويطال وقوفهم، وتجر أيديهم”، هذا لا دليل عليه.
الثاني:
من الشروط:
ألا يَذكُروا.
يعني: هؤلاء.
دينَ الإسلام إلا بخيرٍ.
فإن طعنوا في الإسلام، وطعنوا في الله، أو في رسوله ؛ فلا تعقد لهم الذمة؛ ولهذا جاء في حديث عليٍّ : أن يهوديةً كانت تشتم النبي ، فخنقها رجلٌ حتى ماتت، فأبطل النبي دمها [24].
والثالث: ألا يفعلوا ما فيه ضررٌ على المسلمين.
فإن فعلوا ما فيه ضررٌ؛ لم تُعقد لهم الذمة.
الرابع: أن تجري عليهم أحكام الإسلام في نفسٍ ومالٍ وعرضٍ وإقامة حدٍّ فيما يحرمونه؛ كالزنا.
يعني: ما يحرمونه يلزمهم اجتنابه، وتجري عليهم أحكام الإسلام فيه، بخلاف ما لا يحرمونه، وسيأتي الكلام عنه.
فمثلا: الزنا، الزنا محرمٌ عند الجميع، محرمٌ في جميع الشرائع السماوية، ومحرمٌ عند أهل الكتاب؛ ولهذا لما جاء اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام، وذكروا أن رجلًا منهم وامرأةً زنيا بعد إحصانهما؛ قال: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟، قالوا: نفضحهم ويُجلدون، قال عبدالله بن سَلَامٍ : كذبوا، ائتوا بالتوراة، فأتوا بالتوراة وجعلوا يقرءونها، ووضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، قال عبدالله بن سلامٍ: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، آية الرجم في التوراة، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله فرجما [25].
وكذلك أيضًا فيها قتل القاتل: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45].
ولما رَضَّ يهوديٌّ رأس جاريةٍ بين حجرين؛ أمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يُرَضَّ رأسه بين حجرين [26]، فما كان موجودًا في شريعتهم وفي كتابهم؛ فإنهم يُلزمون بحكمه.
وأما ما يعتقدون حله، قال المؤلف:
لا فيما يُحِلُّونه؛ كالخمر.
فالخمر: النصارى تستبيح الخمر؛ لأنهم إذا كانوا يُقَرُّون على الكفر وهو أعظم؛ فكيف لا يقرون على ما يعتقدون حِله، وهو الخمر، لكنهم يمنعون من إظهاره؛ لتأذي المسلمين به، فالمعروف عن النصارى أنهم يعتقدون حل الخمر، أما اليهود فهل يعتقدون حل الخمر أم لا؟ لا أدري، لكن النصارى معروفٌ عندهم أنهم يعتقدون حل الخمر.
مَن لا تؤخذ منهم الجزية
ثم انتقل المؤلف لبيان من لا تؤخذ الجزية منهم، قال:
ولا تؤخذ الجزية من امرأةٍ وخُنْثَى وصبيٍّ ومجنونٍ.
لأنهم ليسوا من أهل القتال، فلا تؤخذ منهم الجزية؛ ولهذا لما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام معاذًا إلى اليمن؛ أمره أن يأخذ من كل حالمٍ [27]، يعني: محتلمٍ بالغٍ، ولأن عمر كَتب ألا تؤخذ الجزية على النساء ولا على الصبيان.
قال:
وقنٍ وهو الرقيق.
وهذا بالإجماع لا تؤخذ منه الجزية.
وزَمِنٍ.
وهو المعاق والمصاب بعاهةٍ؛ لأنه ليس من أهل القتال.
وأعمى، وشيخٍ فانٍ، وراهبٍ في صومعةٍ.
لأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال؛ فأشبهوا النساء والصبيان.
المؤلف أيضًا لم يذكر وصفًا مهمًّا، وهو الفقر، الفقير لا تؤخذ منه الجزية؛ لأنه لا مال له.
قال:
ومن أسلم منهم بعد الحول؛ سقطت عنه الجزية.
لقول النبي : ليس على المسلم جزيةٌ [28]، وهذا الحديث ضعيفٌ، لكن -كما قال الترمذي- العمل عليه عند عامة أهل العلم، وقد رُوي أن رجلًا من الأعاجم أسلم، فكانت تؤخذ منه الجزية، فأتى عمر وقال: يا أمير المؤمنين، إني أسلمت، قال: لعلك أسلمت متعوذًا؟ قال: أما في الإسلام ما يُعيذني؟ قال: بلى، فكتب عمر : ألا تؤخذ منه الجزية؛ ولأن في هذا تشجيعًا لهم على الإسلام.
طيب هنا ختم في “السلسبيل” بهذه المسألة: كيف يُقَرُّ هؤلاء على الكفر نظيرَ بذل الجزية؟
نقول: إنهم يُقَرون على ذلك؛ لأنهم إذا التزموا بأحكام الإسلام، وأصبحوا يبذلون الجزية للمسلمين؛ فهذا فيه تشجيعٌ لهم على أن يتعرفوا على الإسلام وعلى أحوال المسلمين وعلى أخلاق المسلمين، ويخالطوا المسلمين، والغالب أن كثيرًا منهم يُسلم، وهذا من حكمة الله ، هذا التشريع من حكمة الله سبحانه، والواقع يصدقه؛ فإن البلاد التي فتحها المسلمون؛ كبلاد العراق والشام وكثيرٍ من الأمصار، كان فيها كفارٌ كثيرون، وكانت تؤخذ منهم الجزية فأسلموا، لما فتح المسلمون مثلًا العراق، أين أهل العراق القدامى، الذين كانوا كفارًا قبل أن يَفتح المسلمون العراق؟ طيب لما فتح المسلمون الشام، أين أهل الشام القدامى قبل أن يفتحها المسلمون؟ سبحان الله! كل هؤلاء ذابوا، وأصبح الجميع مسلمين، فأصبحت هذه البلاد كلها بلادًا إسلاميةً، وهذا من عظمة هذا الدين، فهذا التشريع -أنهم يُقَرُّون مقابل بذل الجزية- حتى يتعرفوا على الإسلام، فإذا تعرفوا على الإسلام أحبوه؛ لأن هذا الدين دينٌ عظيمٌ، من عرفه على حقيقته؛ فإنه في الغالب يعتنقه.
من أحكام أهل الذمة
قال المصنف رحمه الله:
ويَحرم قتل أهل الذمة.
وقد ورد في ذلك الوعيد الشديد؛ كما في قول النبي : من قتل معاهدًا بغير حقٍّ؛ لم يَرَح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عامًا [29]، وهذا قلنا: أصله في البخاري، فالذمي والمعاهد والمستأمن قتلهم من كبائر الذنوب.
وأخذُ مالهم.
لأنهم إنما بذلوا الجزية؛ لحفظ أموالهم وحفظهم.
ويجب على الإمام حفظهم، ومنع ما يؤذيهم.
هذه مسؤولية الإمام، ألا يتعرض أحدٌ لهم بالأذية؛ ولذلك لما ضعفت الدولة الإسلامية في بعض العصور، وأصبح المسلمون غير قادرين على حمايتهم؛ أصبحوا لا يأخذون منهم الجزية؛ لأنهم يقولون: نحن نأخذ الجزية مقابل الحماية، والآن نحن غير قادرين على حمايتكم؛ فلا نأخذ منكم الجزية.
ثم ذكر المؤلف ما يُمنع منه أهل الذمة حتى يتميزوا عن المسلمين، قال:
ويُمنعون من ركوب الخيل، وحمل السلاح، وإحداث الكنائس، ومن بناء ما انهدم منها، ومن إظهار المنكر والعيد والصليب، وضرب الناقوس.
هذا كله ورد في كتاب عمر الذي شرحه ابن القيم شرحًا مستفيضًا في كتابه العظيم “أحكام أهل الذمة”، وقال: إن شهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، وقد تلقتها الأئمة بالقبول في كتبهم.
وقوله:
من الجهر بكتابهم.
يعني: التوراة والإنجيل.
ومن الأكل والشرب في نهار رمضان، ومن شرب الخمر، وأكل الخنزير.
المقصود بذلك: يعني منع مجاهرتهم بها لا منعهم منها؛ لأنهم يعتقدون حلها.
ويُمنعون من قراءة القرآن، وشراء المصحف، وكتب الفقه والحديث.
لأنهم قد يَمتهنون المصحف، وقد يهينونه ويبتذلونه، لكن لو علمنا رغبتهم في الإسلام؛ فيعطون ترجمة معاني القرآن؛ لكي يتعرفوا عليه وعلى الإسلام.
ومن تعلية البناء على المسلمين.
لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فلا تكون أبنيتهم أعلى من المسلمين.
ويلزمهم التمييز عنا بلبسهم.
يعني: يلزم أن يكونوا متميزين عن المسلمين في الملبس والمظهر، حتى قال بعض الفقهاء: يُحلق مقدَّم رءوسهم، وقالوا: إنهم يَشدون أوساطهم بالزنار، حتى يعرف أنهم أهل ذمةٍ، طبعًا هذا لما كان في وقت قوة المسلمين، قال:
ويكره لنا التشبه بهم.
المؤلف قال: “يكره”، والصواب أنه يحرم؛ لأن الوعيد شديد، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: من تشبه بقومٍ فهو منهم [30]، قال ابن تيمية: هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم؛ كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
طيب ما هو ضابط التشبه؟
ضابط التشبه: أن يكون التشبه بهم فيما هو من خصائصهم، وأما ما لم يكن من خصائصهم فلا يعتبر تشبهًا، فالشيء المشترك بينهم وبين المسلمين لا يعتبر تشبهًا، فمثلًا لبس البنطال إذا كان واسعًا لا يعتبر تشبهًا؛ لأن البنطال يلبسه المسلمون وغير المسلمين، لكن الشيء الخاص بهم؛ مثل لبس الصليب، أو مثلًا لبس الزنار، أو لبس اللباس الذي يوضع على الرأس، يلبسه اليهود، هذا خاصٌّ بهم، لا يجوز للمسلمين أن يلبسوه؛ لما فيه من التشبه بهم.
ويحرم القيام لهم.
لأن فيه احترامًا وتعظيمًا لهم، وقد نُهي المسلمون عن ذلك.
وتصديرهم في المجالس.
لا يصَّدر هؤلاء في المجالس؛ لأن في هذا إكرامًا لهم، المسلم أولى بالتصدير.
وبداءتهم بالسلام.
لقول النبي : لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام [31].
وبـكيف أصبحت، أو أمسيت، وكيف أنت أو حالك؟
ولهذا قيل للإمام أحمد: تكره أن يقول الرجل للذمي: كيف أصبحت؟ وكيف حالك؟ وكيف أنت، أو نحو هذا؟ قال: نعم، هذه عندي أكثر من السلام.
وقال بعض أهل العلم: إنما الممنوع هو السلام فقط، أما إذا قال: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ وكيف حالك؟ فلا بأس بهذا، وهذا هو القول الراجح، اختاره ابن تيمية رحمه الله؛ لأن السلام فيه خصيصةٌ؛ لأنه يتضمن الإكرام والدعاء، أما صباح الخير، أو مساء الخير، أو كيف أصبحت؟ فهذا مجرد ترحيب وتحيةٍ.
وفصَّل بعض أهل العلم فقال: إنه إذا كان في (صباح الخير، ومساء الخير، وكيف أصبحت؟) مصلحةٌ من دعوته للإسلام، وتأليف قلبه أو كف شره، فلا بأس، وهذا هو الأقرب -والله أعلم- واختاره الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله، ولكن لا يؤتى بلفظ السلام، يعني قابلتَ إنسانًا غير مسلمٍ، لا بأس أن تقول: صباح الخير، مساء الخير، إذا كنت ترجو تأليف قلبه ودعوته للإسلام، لكن لا تقول: السلام عليكم؛ لأن هذا ورد النهي عنه.
قال:
وتحرم تهنئتهم.
يعني: بالشعائر الخاصة بهم؛ كالأعياد؛ ولهذا ابن القيم رحمه الله يقول: وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة بهم فحرامٌ بالاتفاق.
وأما تهنئتهم بأمورٍ دنيويةٍ؛ كأن يولد لهذا الكافر مولودٌ، أو حصلت له وظيفةٌ أو ترقيةٌ؛ فلا بأس بذلك، خاصةً إذا كان فيه مصلحةٌ شرعيةٌ.
وتعزيتهم.
يعني: فتحرم، هذا هو المذهب؛ قالوا: لأن فيه تسليةً للمصاب، وجبرًا لمصيبته، والله تعالى يقول: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52]، وقد توقف الإمام أحمد في هذه المسألة.
وقال بعض أهل العلم: إذا كان في التعزية مصلحةٌ؛ من تأليف قلبه، ونحو ذلك؛ فلا بأس، وهذا هو الأقرب والله أعلم؛ لأن التعزية من جنس عيادة المريض.
قال المؤلف:
وعيادتهم.
المؤلف يرى حتى أنه يحرم عيادة أهل الذمة والكفار عمومًا، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، والصواب جواز ذلك، خاصةً إذا كان فيه مصلحةٌ؛ فإن النبي عاد عمه أبا طالبٍ وكان كافرًا، وعرض عليه الإسلام، وأيضًا عاد غلامًا يهوديًّا في مرض موته، وعرض عليه الإسلام، فنظر هذا الغلام إلى أبيه، فقال: أطع أبا القاسم، فخرج من عنده النبي وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار [32].
ومن سلَّم على ذميٍّ ثم عَلِمه سُنَّ قوله: رُدَّ عليَّ سلامي.
يعني: سلمت على ذميٍّ وأنت لا تعرفه، عرفت أنه ذميٌّ، تقول له: رد علي سلامي، وهذا هو المذهب، واستدلوا بأثرٍ رُوي عن ابن عمر في ذلك، وهذا الأثر يعني فيه ضعفٌ، في سنده مقالٌ؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أنه إذا سلم على الذمي خطأً؛ لا يستحب أن يقول له: رد علي سلامي؛ لأن أيضًا في هذا تنفيرًا له عن الإسلام.
وإن سلم الذمي؛ لزم رده.
يعني: إذا سلم الذمي على مسلمٍ؛ لزم أن يرد عليه السلام، فيقال: وعليكم، لكن “وعليكم” إذا كانت العبارة ملتبسةً، أما إذا كانت واضحةً؛ بأن قال الذمي أو قال غير المسلم عمومًا: السلام عليكم، فيجب أن تقول: وعليكم السلام؛ لأن الله قال: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86].
وإن شمَّت كافرٌ مسلمًا؛ أجابه.
يعني: يجيب بقوله: يهديكم الله ويصلح بالكم، وقد كان اليهود يتعاطسون عند النبي يرجون أن يقول: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم [33].
إذا عطس الكافر عندك فقل: يهديكم الله ويصلح بالكم، ولا تقل: يرحمك الله.
وتكره مصافحته.
لأن المصافحة شعار المسلمين، لكن لو كان فيها مصلحةٌ فلا بأس.
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى، وهذا آخر الفصل:
ومن أبى من أهل الذمة بَذْل الجزية.
يعني: ينتقض عهده بذلك.
بأن قال: سأرسل الجزية مع واسطةٍ، أو مع رسولٍ، فقلنا: لا، لا بد أن تأتي بها، فرفض؛ انتقض عهده.
أو أبى التزام حكمنا.
مثلًا في تحريم الزنا ونحو ذلك، فينتقض عهده.
أو زنى بمسلمةٍ، أو أصابها بنكاحٍ.
فينتقض عهده؛ لأن الكافر لا يجوز له أصلًا أن يتزوج مسلمةً، حتى لو كان كتابيًّا.
أو قطع الطريق، أو ذكر الله تعالى أو رسوله بسوءٍ، أو تعدى على مسلمٍ بقتلٍ أو فتنةٍ عن دينه؛ انتقض عهده.
هذه الأمور كلها يحصل بها انتقاض العهد.
طيب، ما الذي يترتب على انتقاض العهد؟
قال:
ويخير الإمام فيه كالأسير.
يعني: بين أربعةٍ، من الأمور السابقة: القتل، والرق، والمن بالمجان، والمن بالفداء.
وماله فيءٌ.
يصبح ماله فيئًا يُصرف لبيت المال في مصالح المسلمين.
ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده.
لأنهم لا ذنب لهم، النقض وجد منه فقط.
فإن أسلم حرم قتله، ولو كان سبَّ النبي .
إن أسلم هذا الذمي حرم قتله، ولو كان هذا في الظاهر، ولكن حتى وإن سب النبي عليه الصلاة والسلام على القول الراجح، القول الراجح أنه تُقبل توبة من سب النبي ، وهذا سيأتينا أيضًا مفصلًا في كتاب الردة، هل تقبل توبة من سب الله ومن سب رسوله؟
من سب الله تعالى تقبل توبته، وكذلك أيضًا من سب رسوله تقبل توبته على القول الراجح.
بعض أهل العلم يقول: إنها لا تقبل التوبة، ولكن القول الراجح أن من تاب؛ تاب الله عليه؛ ولذلك لما قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة:73]؛ قال بعد ذلك: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74]، وأي سبٍّ أعظم من أن يقولوا: الله ثالث ثلاثةٍ، ومع ذلك قال الله تعالى: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74]، هذا دليلٌ على أن من سب الله ثم تاب؛ تاب الله عليه، ومن باب أولى من سب النبي عليه الصلاة والسلام ثم تاب؛ تاب الله عليه.
أما قول من قال من أهل العلم: إنها تقبل توبة من سب الله، ولا تقبل توبة من سب رسوله ؛ فمحل نظرٍ؛ لأنه إذا كانت تقبل توبة من سب الله، وهو أعظم من سب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فتقبل توبة من سب الرسول عليه الصلاة والسلام من باب أولى.
ونكتفي بهذا القدر.
بهذا نكون قد انتهينا من كتاب الجهاد، وانتهينا من الجزء الرابع من السلسبيل، وإن شاء الله الدرس القادم نبدأ في الجزء الخامس في أبواب المعاملات.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:
الأسئلة
السؤال: هذا السائل يقول: لم يتضح لي الفرق بين الذمي والمعاهد؟
الجواب: نوضحه بلغةٍ بسيطةٍ: الذمي يعني: المواطن غير المسلم، هذا هو الذمي، والمعاهد غير المسلم إذا دخل بلاد المسلمين بعهدٍ، بأية صورةٍ من صور العهد، حتى ولو كان ذلك بتأشيرةٍ أو نحو ذلك، الآن غير المسلمين الذين يدخلون بلاد المسلمين من المعاهدين، فدماؤهم معصومةٌ، وأموالهم معصومةٌ.
السؤال: من ملك مزرعةً في بلدٍ يبعد مسافة قصرٍ، ولكن ليس فيها بناءٌ للمبيت فيه، فهل يجوز له الجمع والقصر؟
الجواب: هذه المسألة من المسائل التي يكثر فيها الخلاف؛ وذلك لأن الحكم والمرجع في ذلك للعرف، فإذا كان هذا الإنسان في عرف الناس يعتبر مسافرًا؛ جاز له الترخص، وإذا كان في عرفهم مقيمًا؛ لم يجز له الترخص.
طيب لا بد أن نعرف محددات العرف؛ حتى نعرف هل هذا رجلٌ يعتبر مقيمًا أو مسافرًا؟ هذا رجلٌ يملك مزرعةً في بلدٍ آخر، هذه المزرعة ملكٌ له، يقيم فيها، يدعو فيها الضيوف، يعني يقيم فيها إقامةً كاملةً، يتصرف فيها تصرفًا تامًّا؛ ولذلك فالأقرب أنه يعتبر مقيمًا، ولا يعتبر مسافرًا؛ ولذلك تجد أنه يدعو الناس لزيارته في مزرعته، فهو كمن له زوجتان: زوجةٌ في بلدٍ، وزوجةٌ في بلدٍ آخر، يعتبر هذا الرجل صاحب إقامتين فله إقامة في بلده، وإقامة أخرى في مزرعته التي يملكها، وعلى هذا لا يترخص برخص السفر، ومما يؤيد ذلك: أن الأصل في الإنسان، هل الأصل الإقامة أم السفر؟ الجواب: الأصل الإقامة، فلا نخرج عن هذا الأصل إلا بشيءٍ واضحٍ ولم يتضح أن يكون هذا الرجل الذي يملك مزرعةً أن يكون مسافرًا وهو في مِلكه، أيضًا لو أن هذا الرجل لم يترخص برخص السفر؛ فصلاته صحيحةٌ عند جميع العلماء، ولو أنه ترخص برخص السفر؛ فالصلاة لا تصح عند جمهور العلماء، فهذه أمور..، ثم أيضًا السفر عند العرب هو الخروج من البلد والبروز في الصحراء، هذا هو أصل السفر، من الإسفار، وما كانت العرب تسمي الإنسان إذا أقام في بلدٍ مسافرًا، لكن خولف هذا المعنى في المدة القصيرة، وكذلك أيضًا في الإقامة لمدةٍ قصيرةٍ؛ بحيث لا يكون له فيها مِلكٌ ولا يتبسط فيها تبسط المقيم.
وعلى هذا: فالذي يملك بيتًا أو مزرعةً في بلدٍ آخر، لا ينطبق عليه وصف السفر؛ لأنه يتبسط في بيته، ويتبسط في مزرعته، ويدعو الناس إليه، وإنما المسافر الذي يكون سائرًا في الطريق.
وأما الذي يقيم في بلدٍ: الأصل أنه غير مسافرٍ، هذا هو الأصل، لكن خولف هذا الأصل فيما إذا أقام الإنسان إقامةً قصيرةً في محلٍ ليس مِلكًا له.
السؤال: هل تشرع أذكار النوم في النهار ولو كان نومًا يسيرًا كالقيلولة؟
الجواب: نعم، الأدلة عامةٌ؛ لأن الإنسان إذا نام؛ فهذا النوم سماه الله تعالى وفاةً: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42]، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60]، فيستحب له أن يأتي بأذكار النوم.
السؤال: من دخل عليه وقت صلاة الظهر وهو في بيته، ولكنه ينوي السفر بعد صلاة الظهر مباشرةً، ويريد أن يصليها بعد مفارقة البنيان من أجل أن يجمع معها العصر، فهل يعذر بترك صلاة الظهر جماعةً في هذه الصورة؟
الجواب: نعم، يعذر بذلك، إذا كان مسافرًا، أو يريد السفر، ودخل عليه وقت صلاة الظهر، وأراد أن يسير ويصلي الظهر والعصر في الطريق؛ لا بأس بذلك، وهذا عذرٌ له في ترك الصلاة مع الجماعة، لا نلزمه بأن يبقى ويصلي مع الجماعة في المسجد؛ لأن هذا قد يسبب له الحرج، فما دام أنه على جَناح السفر؛ فلا بأس أن يسير، ويصلي الظهر والعصر في الطريق، حتى لو كان دخل عليه وقت الظهر في الإقامة، وأراد أن يصليها وهو في السفر، فالقول الراجح أنه يجوز له الترخص، يعني يقصرها، يصلي الظهر قصرًا، خلافًا للمذهب عند الحنابلة، المذهب عند الحنابلة أنه إذا دخل عليه وقت الصلاة وهو في الحضر، ثم أراد أن يصليها وهو في السفر يجب عليه الإتمام.
ولكن القول الراجح هو قول الجمهور، وهو أنه ما دام -عندما أراد أن يصليها- مسافرًا، ويصدق عليه وصف السفر؛ فيقصرها ولو كان دخل وقتها عليه وهو في الحضر.
السؤال: نريد كلمةً لمن يُبَدِّع بعض العلماء والدعاة الذين نحسبهم من أهل العلم والتقوى؛ لأن هذا كثر في زماننا، ولو أخطأ العالم والداعية؛ كيف نتعامل مع هذا الخطأ؟
الجواب: أولًا: هناك دعاةٌ مبتدعةٌ، يعني عندهم انحرافٌ شديدٌ، على غير منهج أهل السنة والجماعة، هؤلاء يجب التحذير منهم؛ حتى لا ينخدع المسلمون بهم.
لكن من كان منتسبًا لأهل السنة والجماعة، وعلى عقيدة السلف وطريقة السلف، لكن يختلف معنا في بعض مسائل فقهيةٍ أو غيرها فهنا لا يجوز تبديعه، لا يجوز التبديع إلا بدليلٍ، فالتبديع والبدعة أعلى مرتبةً من الكبيرة، هي تلي الشرك، فوصفه بالبدعة إذا لم يكن هو مبتدعًا، فالوصف وصف شديدٌ، ويدخل هذا في قول الله : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، الوصف بالبدعة أشد من الوصف بالزنا، يعني كونك تقذف إنسانًا بالزنا؛ فقد قذفته بكبيرةٍ، لكن إذا قذفته بالبدعة؛ فهذا القذف أشد من قذفه بالزنا، فالذي يقذف إنسانًا بالبدعة، وهذا المقذوف ليس مبتدعًا، ما أعظم مصيبته عند الله ! متوعَّدٌ باللعنة في الدنيا والآخرة، لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يطرد من رحمة الله في الدنيا والآخرة؛ ولذلك هذا الإنسان لا يجد التوفيق في حياته، يكون تعيسًا لا يجد السعادة، ولا يجد التوفيق، قد نزعت البركة من علمه ومن حياته ومن عمره، ومن كل شيءٍ؛ بسبب تعديه على الآخرين، فحقوق العباد أمرها عند الله عظيمٌ جدًّا، وقد عظم النبي شأنها في أعظم مَجمعٍ، فقال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [34]، فلا يجوز للإنسان أن يقذف مسلمًا بما هو منه براءٌ، لا يجوز أن تصفه بوصفٍ يكرهه، فإذا وصفته بذلك، وصنفته بناءً على ذلك، والواقع أنه ليس كذلك؛ فقد ارتكبت جُرمًا عظيمًا، وذنبًا كبيرًا، وأيضًا هذا يدخل في البغي، والنبي يقول: ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة؛ من البغي وقطيعة الرحم [35].
فعقوبة البغي معجلةٌ غالبًا في الدنيا قبل الآخرة، فالذي يبغي على الناس، يتعدى عليهم، يقذفهم بما هم منه براءٌ، هذا من أعظم صور البغي، هذا عقوبته في الغالب أنها معجلةٌ في الدنيا قبل الآخرة، فمن وقع في ذلك؛ فعليه أن يتوب إلى الله ، وأن يتحلل من هؤلاء الذين وقع في أعراضهم، وإلا فإن عذاب الله شديدٌ.
السؤال: يقول: أنا عندي تقرحاتٌ في الأمعاء من ست سنواتٍ، تُسبب لي إسهالًا ونزيفًا، أدخل الحمام أكثر من ثلاثين مرةً، ولا أستطيع البقاء على طهارةٍ، فما الحكم؟
الجواب: يكون حكمك حكم صاحب الحدث الدائم، حكمك حكم صاحب الحدث الدائم؛ يعني توضأ ولا يضرك خروج هذه الأشياء بعد الطهارة؛ كما لو كان معك سلس بولٍ، والحمد لله هذه حكمها واضحٌ في الشريعة، صاحب الحدث الدائم، سواءٌ كان مثل حالة الأخ السائل، أو كان معه سلس بولٍ، أو كان معه ريحٌ تخرج بصفةٍ مستمرةٍ، أو غير ذلك من أنواع الحدث الدائم، يتطهر الإنسان ولا يضره خروج هذا الحدث بعد ذلك، والله تعالى يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وقال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].
السؤال: ما حكم تحديد المنهج للطلاب من باب التسهيل عليهم؟
الجواب: هذا فيه تفصيلٌ:
إذا كان هذا التحديد من باب تقريب المادة العلمية؛ فهذا لا بأس به إذا كان تقريبًا للمادة، وإيصالًا لها بصيغة أخصر، فهذا لا بأس.
وأما إذا كان هذا التحديد من باب التقليل من المادة العلمية، والتقليل من المنهج؛ فهذا خلاف مقتضى الأمانة، حُدد لك منهجٌ يجب عليك أن تشرحه، وأن توصله للطلاب، وأن تختبر الطلاب في جميعه، وليس لك الصلاحية في أن تحذف جزءًا من المنهج، فهذا التحديد الذي يقتضي حذف جزءٍ من المنهج، هذا خلاف مقتضى الأمانة؛ ولهذا لو علم المسؤول عن هذا المعلم بذلك؛ لعد هذا مخالفةً عليه، اعتبرها مخالفةً قام بها وارتكبها هذا المعلم.
فعلى المعلم أن يقوم بعمله على الأمانة والصدق والنصح، فهذا المنهج يجب عليك أن تشرحه كاملًا للطلاب، وأن توصل المادة العلمية في هذا المنهج للطلاب، وأن تختبر الطلاب في جميع المنهج، ولا يجوز لك أن تحذف شيئًا من هذا المنهج؛ لأنك لا تملك أن تحذف جزءًا من هذا المنهج، وهذا يعتبر خلاف ما تقتضيه الأمانة.
السؤال: ما ضابط لباس المرأة أمام محارمها؟
الجواب: تلبس المرأة أمام محارمها كما تلبس أمام النساء؛ ولهذا قال الله تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ.. [الأحزاب:55]، ذكر محارم، ثم قال: وَلَا نِسَائِهِنَّ، فيجوز لها أن تظهر ما جرت العادة بظهوره وكشفه؛ مثل شعر الرأس، والذراعين، وأطراف أيضًا العضد، ومنتصف العضد، وأطراف الساقين، ونحو ذلك، فما جرت العادة بكشفه لا بأس بإظهاره للمحارم وللنساء، هذا هو الضابط في هذه المسألة.
السؤال: هذا يسأل عن مسؤولية الرجل عن حجاب أهله؟
الجواب: نعم عليه مسؤوليةٌ أمام الله تعالى، يقول النبي : كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته؛ الرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤولٌ عن رعيته.. [36]، فلا يجوز للرجل أن يرى امرأته تخرج متبرجةً أمام الرجال الأجانب ويقرها على ذلك، فهذا يعتبر تقصيرًا منه في القيام بالمسؤولية المناطة به شرعًا، يعتبر بهذا مقصرًا، ولم يقم بالأمانة، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، لم يقل: قوا أنفسكم فقط، بل وَأَهْلِيكُمْ نَارًا، ووقاية الأهل تكون بأمرهم بطاعة الله ، ونهيهم عن معصية الله تعالى.
فعلى الرجل أن يستشعر عظم شأن المسؤولية عمن ولاه الله تعالى عليهم من زوجةٍ وبنتٍ وأختٍ ونحو ذلك.
السؤال: ما توجيهكم لمن يتأخر عن حضور صلاة الجمعة دائمًا؟
الجواب: أولًا إذا كان لا يدرك الجمعة تفوته الجمعة؛ بحيث لا يدرك الركوع من الركعة الثانية من صلاة الجمعة؛ فهذا آثمٌ؛ لأنه يكون قد ترك الجمعة بغير عذرٍ، وقد قال النبي من ترك ثلاث جمعٍ تهاونًا؛ طبع الله على قلبه [37].
أما إذا كان يدرك ركعةً من صلاة الجمعة فأكثر، لكنه يتأخر في الحضور في المسجد الجامع فلا يأتي إلا بعد دخول الخطيب، فأقول: هذا إنسانٌ قد حرم نفسه خيرًا كثيرًا، وإن كان لا يأثم، لكنه حرم نفسه خيرًا كثيرًا؛ لأنه يوم الجمعة تكون هناك ملائكةٌ عند أبواب كل مسجدٍ جامعٍ، تكتب الناس الأول فالأول، فإذا دخل الخطيب؛ طويت الصحف التي بأيدي الملائكة، وأقبلت الملائكة تستمع الخطبة، معنى ذلك: الذي يدخل المسجد الجامع بعد دخول الخطيب لا يكتب له من أجر التبكير شيءٌ، إذا كان هذا بصفةٍ عارضةٍ؛ قد يعذر هذا الإنسان، لكن أن يكون بصفةٍ دائمةٍ ومستمرةٍ؛ فهذا والله من الحرمان ومن قلة التوفيق.
فعلى المسلم أن يستشعر عظيم شأن هذا اليوم -يوم الجمعة- وأن يستعد لها، وأن يستعد لصلاة الجمعة؛ وذلك بأن يغتسل ويتطيب ويلبس أحسن ملابسه، ويخرج إلى المسجد الجامع مبكرًا، ويأتي للمسجد الجامع، ويصلي ما كتب الله له أن يصلي، ثم يستمع الخطبة وينصت للخطيب، ويستفيد من خطبة الجمعة، ويستفيد الأجر العظيم والثواب الجزيل بحضوره لصلاة الجمعة، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن من فعل ذلك فإنه يغفر له ما تقدم من ذنبه، يعني من الصغائر: من اغتسل في بيته وتطيب من طيب بيته، وقال: ولو من طيب المرأة، ثم خرج ولم يفرق بين اثنين، ثم صلى ما كُتب له، ثم أنصت للخطيب وصلى معه؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى [38].
فعلى المسلم أن يستشعر عظيم شأن هذا اليوم، وعظيم شأن صلاة الجمعة، وأن يهتم بها، وأن يحرص على تطبيق سننها، ومن ذلك سنة الاغتسال التي هي سنةٌ مؤكدةٌ جدًّا، حتى قال النبي : غُسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلمٍ [39]، وأن يتطيب ويلبس أحسن ملابسه، ويخرج للمسجد الجامع مبكرًا وقبل دخول الخطيب؛ حتى تكتبه الملائكة مع من يأتي للمسجد الجامع الأول فالأول، تكتبه من المبكرين، وينصت إذا تكلم الخطيب، ويصلي معه الجمعة، إذا فعل ذلك؛ فإنه موعودٌ بمغفرة ما تقدم من ذنبه من صغائر الذنوب.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى وسلم على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 2307 – 2308. |
---|---|
^2 | رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى: 10/ 113. |
^3 | رواه البخاري: 3043، ومسلم: 1768. |
^4 | رواه البيهقي في السنن الكبرى: 18028. |
^5 | رواه البخاري: 6133، ومسلم: 2998. |
^6 | رواه البخاري: 4372، ومسلم: 1764. |
^7, ^29 | سبق تخريجه. |
^8 | رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى: 5/ 6. |
^9 | رواه أحمد: 13555. |
^10 | رواه الحاكم: 2650. |
^11 | رواه مسلم: 1641. |
^12 | رواه البخاري: 1358، ومسلم 2658. |
^13 | رواه البخاري: 3142، ومسلم: 1751. |
^14 | رواه البخاري: 438، ومسلم: 521، مختصرا. |
^15 | رواه البخاري: 2863. |
^16 | رواه البخاري: 4228، ومسلم: 1762. |
^17 | رواه مسلم: 1872. |
^18 | رواه أبو داود: 2899، والترمذي: 2103، وابن ماجه: 2634. |
^19 | رواه البخاري: 3166، بنحوه. |
^20 | حُسَيلٌ: هو اليَمان أبو حذيفة، واسم اليَمَان: حُسَيل -ويقال: حِسْل- بن جابرٍ، ينظر: الكمال في أسماء الرجال لعبدالغني المقدسي: 1/ 224، وأسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير: 2/ 706، وسير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 361. |
^21 | رواه مسلم: 1787. |
^22 | رواه مسلم: 1731. |
^23 | رواه البخاري: 3157. |
^24 | رواه أبو داود: 4362. |
^25 | رواه البخاري: 3635، ومسلم: 1699. |
^26 | رواه البخاري: 2413. |
^27 | رواه أبو داود: 3038، والنسائي: 2450. |
^28 | رواه أبو داود: 3053. |
^30 | رواه أبو داود: 4031. |
^31 | رواه الترمذي: 1602، وقال: صحيح. |
^32 | رواه أبو داود: 3095. |
^33 | رواه الترمذي: 2739. |
^34 | رواه مسلم: 1679. |
^35 | رواه أبو داود: 4902، والترمذي: 2511، وابن ماجه: 4211، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. |
^36 | رواه البخاري: 893، ومسلم: 1829. |
^37 | رواه أبو داود: 1052، والنسائي: 1369. |
^38 | رواه البخاري: 883. |
^39 | رواه البخاري: 858، ومسلم: 846. |