عناصر المادة
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حيَّاكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي، في هذا اليوم؛ الإثنين، التاسع عشر من شهر ربيع الأول، من عام ألف وأربعمئة وثلاثة وأربعين للهجرة.
اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيِّئ لنا من أمرنا رَشَدًا.
ننتقل بعد ذلك للتعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وما زلنا في: كتاب الحج.
تتمة أركان الحج
كنا قد بدأنا في الكلام عن أركان الحج ولم نكملها؛ وقفنا عند الركن الرابع: السعي بين الصفا والمروة.
السعي بين الصفا والمروة
قال المصنف رحمه الله:
الرابع: السعي بين الصفا والمروة.
يعني أن الرابع من أركان الحج: السعي بين الصفا والمروة.
حُكم السعي بين الصفا والمروة
وقد اختلف العلماء في هذا الركن على ثلاثة أقوال؛ ما بين قائل بأنه ركن، أو قائل بأنه واجب، أو قائل بأنه سنة:
- القائلون بأنه ركن: هم الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
- والقائلون بأنه واجب ويُجبَر بالدم: هم الحنفية.
- والقائلون بأنه سنة: هذا رُوي عن ابن مسعود وأُبَيّ بن كعب وابن عباس وابن سيرين.
وهذا القول الثالث -أنه سنة وليس واجبًا ولا ركنًا- هو أضعف الأقوال؛ ووِجهة مَن ذهب إليه استدلوا بظاهر الآية: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]؛ قالوا: إنه قد جاء في مصحف ابن مسعود وأُبَيّ بن كعب رضي الله عنهما: “فلا جُنَاح عليه ألَّا يَطَّوَّف بهما”؛ قالوا: وهذا إن لم يكن قرآنًا فقد سَمِعَاه من النبي ، فيكون حُجة.
ابن مسعود كان عنده مصحف، ولمَّا أمر عثمانُ بتجميع المصاحف، ثم حرَّقَها كلها ما عدا مصحف عثمان الذي كُتب على حرف قريش؛ ابن مسعود أخفى المصحف الذي عنده وقال: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]؛ فأخفى المصحف الذي عنده اجتهادًا منه . وإلا ما ذهب إليه عثمان كان رأيًا مُوفَّقًا؛ وفَّق اللهُ تعالى له عثمانَ ، ووفَّق له جمهورَ الصحابة ، وحفظ اللهُ تعالى به هذه الأمةَ من الاختلاف في كتاب الله ، وإلا فلو كان الناس عندهم مصاحف مختلفة؛ يعني: هذا مصحف كذا وهذا مصحف كذا، وهذا على هذا الحرف، وهذا على هذا الحرف؛ لَحَصَل اختلافٌ كثير.
ومن رحمة الله أنه سبحانه وفَّق عثمانَ أن جَمَع هذه المصاحف كلَّها وحرَّقها كلَّها، ما بقي إلا مصحفٌ واحدٌ وهو مصحفُ عثمان ، وهو المصحف الذي بين أيدينا اليوم؛ فهذا من رحمة الله ومن توفيقه لصحابة نبيه .
أما القراءات السبع فهذه ليست هي الحروف السبعة؛ القراءات السبع هي القراءات السبع في مصحف عثمان ، في الحرف الذي جمع عثمانُ والصحابةُ الناسَ عليه.
فالشاهد أنه كان في مصحف ابن مسعود وكذلك أيضًا في مصحف أُبَيٍّ : “فلا جُنَاح عليه ألَّا يَطَّوَّف بهما”.
وهذه المسألة ترجع لمسألةٍ أصولية؛ وهي حُكم الاحتجاج بالقراءة الشاذة، والراجحُ أنه لا يُحتَج بها. ولاحِظ هنا أننا نربط الآن الفقه بالأصول، وهذه أفضل طريقة للتفقه؛ أن تربط الفقه بالأصول وأيضًا بالحديث، فتجمع بين هذه العلوم الثلاثة (الفقه – أصول الفقه – الحديث)؛ هذه أفضل طريقة للتفقه. أما أن تأخذ الأصولَ -أصولَ الفقه- علمًا نظريًّا مجردًا بعيدًا عن رَبْطِه بالفروع؛ فهذا تكون فائدتُه أقل.
طيب، أقول: هذه المسألة ترجع لمسألةٍ أصولية؛ وهي حُكم الاحتجاج بالقراءة الشاذة، والقولُ الراجح أنه لا يُحتَج بها؛ وعلى ذلك فلا يستقيم هذا الاستدلال.
طيب، إذَن ما معنى الآية الكريمة: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا؟ نقول إن المقصودَ بالآية رَفْعُ ما تَوهَّمَه بعضُ الناس حين نزول الآية؛ لأن وقت نزول الآية كان على الصفا والمروة صنمان يُعبَدان من دون الله ، فتحرَّج بعضُ الناس -وبخاصةٍ الأنصار- من الطواف بهما وعليهما هذان الصنمان، فنفى الله الجُناح والحرج من الطواف بهما؛ فقال: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا
فإذا قلنا إن القولَ بأن السعي مستحب -أو أنه سنة- أضعفُ الأقوال؛ تبقى المُوازَنة بين القول الأول والثاني -يعني: بين القول بأن السعيَ ركنٌ أو أن السعيَ واجبٌ-.
القائلون بأنه واجب قالوا: لا دليل على رُكْنيَّته، وغاية ما فيه أنه ورد الأمر به، والأمر يقتضي الوجوب -كما هو مُقرَّر عند الأصوليين-.
أما القائلون بأنه ركنٌ -وهم الجمهور-؛ فاستدلوا أولًا بالآية الكريمة: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ قالوا: وما دام أنهما من شعائر الله فالطواف بهما مُتأكِّد، ويكون ركنًا من أركان الحج؛ لأن الله تعالى نصَّ عليه وذكره في الآية الكريمة.
وأيضًا استدلوا بقول النبي : اسْعَوْا؛ فإن الله كتب عليكم السعي[1] أخرجه أحمد وغيره، وهو حديثٌ صحيحٌ بمجموع طُرُقه؛ فقوله: إن الله كتب يعني: أوجَبَ.
ثم إن النبي لم يترك السعي قط لا في حجٍّ ولا في عمرةٍ؛ وقد قال: خُذُوا عني مناسككم[2]، ثم أيضًا الآثار عن الصحابة تؤيد هذا القول؛ كما قالت عائشة رضي الله عنها: “واللهِ، ما أتمَّ اللهُ حجَّ امرئٍ ولا عمرتَه وهو لم يَطُفْ بين الصفا والمروة”[3].
ثم أيضًا عندما نتأمل في النصوص؛ نجد أنها دائمًا تَقرِن السعي بالطواف، فلا يُذكر الطواف إلا ومعه السعي، فهو لازمٌ له ومُقارِنٌ له كما أن الزكاةَ قرينةُ الصلاة.
فالأقرب -والله أعلم- هو القول الأول -وهو قول الجمهور-؛ وهو أن السعيَ ركنٌ من أركان الحج، كما أن الطوافَ ركنٌ من أركان الحج.
فما دمنا قلنا إن الطوافَ ركنٌ، فكذلك السعي، ولا وجه للتفريق بينهما، فالسعي مثل الطواف؛ بل إن السعي ورد النصُّ بأنه من شعائر الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا، فالأقرب -والله أعلم- أن السعيَ ركنٌ من أركان الحج، وأنه أيضًا ركنٌ من أركان العمرة.
وبعض العلماء زاد ركنًا خامسًا، وهو: المَبيت بمزدلفة؛ قالوا لأن الله تعالى قال: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]؛ أي: عند مزدلفة، ولأنه جاء في حديث عروة بن مُضَرِّس: …ووقَفَ معنا حتى نَدْفَع؛ يعني: وقف معنا بمزدلفة حتى ندفع، فقد تَمَّ حَجُّه[4]، وهذا هو المذهب عند الحنفية.
وجمهور العلماء على أنه ليس ركنًا؛ وقالوا إنه لو كان ركنًا لَمَا رخَّص النبي للضَّعَفَة في أن يدفعوا آخر الليل[5]؛ لأن الركن لا يُرخَّص فيه لبعض الناس دون بعض.
ومن العلماء مَن قال بأنه واجب، ومنهم مَن قال بأنه سنة. أما مَن قال بأنه واجب فاستدلوا بالآية الكريمة وأيضًا بحديث عروة ؛ وقالوا إنها تُحمَل على الوجوب ولا تُحمَل على الرُّكْنِيَّة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام رخَّص لبعض الحجيج في الدفع، ولو كان المَبيت بمزدلفة ركنًا لَمَا رخَّص لهم، ولقول عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: “إنما جَمْعٌ [يعني: مزدلفة] منزلٌ ترتحل منه إذا شئتَ”[6]، وما كان كذلك فلا يكون ركنًا، وهذا هو الأقرب -والله أعلم-؛ أن المَبيت بمزدلفة واجب وليس ركنًا ولا مستحبًّا، وإنما هو واجب من واجبات الحج.
وأما استدلال الحنفية بالآية الكريمة، فنقول إنها تدل على الوجوب ولا تدل على الرُّكْنِيَّة؛ لأن الله تعالى قال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فلا وَجْه لحمل الآية على أنها تدل على الرُّكْنِيَّة. وأما حديث عروة وقوله عليه الصلاة والسلام: فقد تَمَّ حَجُّه[7]؛ فالإتمام تارةً يكون للشيء الذي لا يصح إلا به، وتارةً يكون للشيء الذي يصح بدونه مع التحريم، وتارةً يكون بالشيء الذي يصح بدونه مع نفي التحريم؛ فيكون ذلك بحسب السياق. والمرادُ بالإتمام هنا في حديث عروة : إتمامُ الواجب الذي تصح العبادة بدونه.
وعلى هذا نقول: إن القول الراجح في المَبيت بمزدلفة أنه واجب من واجبات الحج؛ فلا يقال بأنه مستحب، ولا يُقال بأنه ركن.
بعدما انتهينا من الكلام عن أركان الحج، ننتقل بعد ذلك للكلام عن واجبات الحج؛ قال المصنف:
واجبات الحج
وواجباتُه سبعةٌ.
وعُرِفَت هذه بالاستقراء.
طيب، هل نقول: إن واجبات الحج مثل واجبات الصلاة؟
الجواب: بينهما اختلاف؛ واجبات الصلاة تُجبَر بسجود السهو، وواجبات الحج تُجبَر بالدم؛ لكن إذا تعمَّد تَرْكَ واجبٍ من واجبات الصلاة بطلت صلاته، أما إذا تعمد تَرْكَ واجبٍ من واجبات الحج لم يبطل حجه وإنما يُجبَر بدم؛ فهذا هو وجه الفرق بين واجبات الصلاة وبين واجبات الحج.
الإحرام من الميقات
الواجب الأول من واجبات الحج؛ قال:
الإحرام من الميقات.
ولو أن المؤلِّف رحمه الله قال: “أن يكون الإحرام من الميقات” لكان هذا أوضحَ وأدقَّ في العبارة؛ لماذا؟ لأن قوله: “الإحرام من الميقات” قد يتوهَّم بعضُ الناس أن المقصودَ به الإحرامُ نفسه، وهذا غير صحيح، فالإحرام نفسه من أركان الحج -كما سبق-، لكن المقصود أن يكون الإحرام من الميقات، هذا هو مقصود المؤلف؛ ولهذا لو كانت عبارة المؤلف: “أن يكون الإحرام من الميقات” لكان هذا أدقَّ في العبارة.
الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس
الثاني من واجبات الحج:
الوقوف إلى الغروب لمَن وقف نهارًا.
يعني: الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس بحقِّ مَن وقف نهارًا؛ لقول النبي : خذوا عني مناسككم[8]، ولأن أهل الجاهلية كانوا إذا وقفوا بعرفة دفعوا قبل غروب الشمس، فخالفهم النبي ، ومخالفة المشركين واجبة.
وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال، وانتبِه لهذه الأقوال فهي أقوال متقابلة:
- القول الأول: أن الوقوفَ بعرفة إلى غروب الشمس لمَن وقف نهارًا واجبٌ، وهو مذهب الحنفية والحنابلة.
- القول الثاني: أنه مستحب، وهو مذهب الشافعية.
- القول الثالث: أنه لا يصح الحج إلا به، وهو مذهب المالكية.
فانظر الفرق بين “مستحب” وبين “لا يصح الحج إلا به”، انظر إلى التقابل في الأقوال!
وأعدَلُ الأقوال هو القول الأول، وهو القول بالوجوب، هذا هو الأقرب -والله أعلم-؛ فهو قولٌ وَسَطٌ بين قول الشافعية الذين قالوا بالاستحباب وبين قول المالكية الذين قالوا بالرُّكْنِيَّة. وتَقابُل هذه الأقوال يدل على الإشكالات الكبيرة في الحج؛ فالحج -يعني: كتاب الحج- من أبواب الفقه التي فيه إشكالات كثيرة، ولذلك ينبغي أن يُنظَر للروايات وللآثار، وأيضًا يُسلَك مَسلكَ الاحتياط -ما أمكن-.
المَبيت ليلة النحر بمزدلفة
الواجب الثالث من واجبات الحج:
المَبيتُ ليلةَ النَّحْر بمزدلفة.
وهذه تكلَّمنا عنها قبل قليلٍ، وذكرنا فيها ثلاثةَ أقوال، ورجَّحنا القولَ بأن المَبيتَ واجبٌ، ليس ركنًا وليس مستحبًّا.
قال:
إلى بعد نصف الليل.
يعني: إنه يجب المَبيت إلى ما بعد منتصف الليل.
وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:
- القول الأول: القول الذي قرَّره المصنف؛ وهو أنه يجب المَبيتُ ليلةَ مزدلفة إلى منتصف الليل، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
- القول الثاني: أنه يجب المَبيت بمزدلفة إلى طلوع الفجر، وهو مذهب الحنفية.
- القول الثالث: أنه يجب الوقوف بمزدلفة بمقدار حَطِّ الرِّحَال، وهو مذهب المالكية.
أيضًا لاحِظ هنا التقابل بين الأقوال؛ استدل أصحاب القول الأول -القائلون بأنه يجب إلى ما بعد منتصف الليل- بأنه عليه الصلاة والسلام بات بمزدلفة ورخَّص للضَّعَفَة أن يدفعوا بعد منتصف الليل[9]، والرخصة لا تكون إلا من أمرٍ واجب؛ لأن الرخصة تقابلها العزيمة.
وأما القائلون بأنه يجب المَبيت بمزدلفة إلى طلوع الفجر؛ فاستدلوا بفعل النبي عليه الصلاة والسلام، وقالوا إنه بقي وأكثرُ الصحابة إلى طلوع الفجر حتى أَسْفَرَ جدًّا، ولم يُرخِّص لأحدٍ في الدَّفع قبل الفجر إلا الضَّعَفَة[10].
وأما أصحاب القول الثالث -المالكية- القائلون بأن الواجب في المَبيت بمزدلفة بمقدار حَطِّ الرِّحَال؛ فاستدلوا بحديث عروة بن مُضَرِّس ، فإن النبي قال في هذا الحديث: مَن شَهِدَ صلاتنا هذه؛ يعني: فجرًا، ووقَفَ معنا حتى نَدْفَع، وقد وقَفَ بعرفة قبل ذلك ليلًا ونهارًا؛ فقد تَمَّ حَجُّه وقضى تَفَثَه[11]؛ قالوا: فالنبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأن مَن فعل هذا فقد تَمَّ حَجُّه: مَن شَهِدَ صلاتنا هذه، وهذا دليلٌ على أن الوقوفَ يكفي بمقدار حَطِّ الرِّحَال؛ قالوا: ولأن هذا هو ظاهر الآية، فإن الله قال: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ؛ والمقصود بـ”ذِكْر الله عند المَشعر الحرام”: صلاة المغرب والعشاء، فإذا صلَّاهما حَصَل المقصود. قالوا: ويُؤيِّد ذلك قولُ عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: “إنما جَمْعٌ [يعني: مزدلفة] منزلٌ ترتحل منه حيث شِئْتَ”[12]؛ وهذا القول -القول الثالث: قول المالكية- قولٌ له وَجَاهَتُه.
والخلاف في هذه المسألة قويٌّ؛ فالحنفية أخذوا بظاهر الحديث: ووَقَفَ معنا حتى نَدْفَع، والمالكية نظروا إلى أن المقصود هو فقط: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ صلاة المغرب والعشاء، وقول عبدالله بن عمرو: “إنما جَمْعٌ منزلٌ ترتحل منه حيث شِئْتَ”.
أما الجمهور من الشافعية والحنابلة فسلكوا مسلكًا وسطًا؛ فقالوا إنه يجب المَبيت بمزدلفة إلى منتصف الليل، هذا هو الأقرب -والله أعلم-. الأقرب هو القول الأول، وهو أنه يجب المَبيت بمزدلفة إلى منتصف الليل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام وجميع مَن معه من الحُجَّاج باتوا بمزدلفة إلى منتصف الليل، ثم بعد منتصف الليل بدأت الرخصة[13]؛ ولأن الأكثر يأخذ حُكم الكلِّ -في كثيرٍ من الأحكام الشرعية-، الأكثر يُعطَى حُكم الكلِّ. فإذا بات بمزدلفة أكثرَ من منتصفِ الليل يكون كأنه بات الليل كاملًا، ولذلك في المَبيت بمِنًى ليالِيَ التشريق؛ يكفي أن يبيت بمِنًى أكثرَ من منتصف الليل، أكثر من نصف الليل يكفي.
بل حتى أعظم شيء وهو مصير الإنسان يوم القيامة؛ الله تعالى يقول: فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ [القارعة:6-7]، كيف تَثْقُل الموازين؟ إذا رجَحت كِفَّةُ الحسنات على السيئات -ولو بحسنةٍ واحدة- يكون مصيرُه أنه من أهل الجنة، وإذا رجَحت السيئاتُ على الحسنات -ولو بسيئةٍ واحدة- يكون من أهل النار إلا أن يعفو الله عنه، وإذا تساوت يكون من أهل الأعراف؛ يُوقَفون في مكانٍ بين الجنة والنار، ثم تكون نهاية أمرهم إلى الجنة. لاحِظ هنا؛ الاعتبار بالأكثر، فما دام أن الأكثرَ الحسناتُ -رجَحت كِفَّةُ الحسنات- كان مصيره الجنة، فإن رجَحت كِفَّةُ السيئات كان مصيره النار.
فهذا الاعتبار اعتبارٌ شرعي؛ أن يُؤخَذ وأن يكون للأكثر حُكم الكلِّ، وتجد هذا الاعتبار في أمور كثيرة في الشريعة الإسلامية؛ فخُذْ هذه الفائدة الدقيقة: الأكثر له حُكم الكلِّ في كثيرٍ من الأحكام الشرعية.
ويتفرع عن هذا مسألةٌ؛ وهي: مَن الذين يجوز لهم الدفع بعد منتصف الليل؛ هل هذا خاص بالضَّعَفَة ومرافقيهم، أو أنه يشمل الجميع؟
بعض الفقهاء خصَّ ذلك بالضَّعَفَة؛ وقالوا إن الرخصة إنما وردت للضَّعَفَة، فيبقى مَن عَدَاهم على الأصل، فيبقون في مزدلفة إلى طلوع الفجر. والقول الثاني -وهو قول الجمهور-؛ أنه يجوز الدفع ما بعد منتصف الليل لجميع الحُجَّاج -للضَّعَفَة ولغير الضَّعَفَة-، لكنَّ الأفضلَ لغير الضَّعَفَة البقاءُ إلى طلوع الفجر.
هذه المسألة أيضًا من المسائل المشكلة، وإذا تأمَّلنا في الأدلة فليس هناك دليلٌ ظاهر يدل على وجوب بقاء الحاجِّ إلى طلوع الفجر، وإذا بقي إلى منتصف الليل فقد ذهب أكثر الليل، والأكثر له حُكم الكلِّ.
وأما ترخيص النبي عليه الصلاة والسلام للضَّعَفَة؛ فعندما تأمَّلنا الروايات الواردة وتتبَّعناها لم نجد كلمة “رخَّص”، وإنما وجدنا “أَذِن للضَّعَفَة”؛ كل الروايات الواردة بلفظ الإذن وليس بلفظ الترخيص. والإذن باعتبار أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الإمام، وهو أمير الحج في ذلك العام، وليس لأحدٍ أن يتقدَّم بين يديه، فإذا أراد أحدٌ أن يدفع من مزدلفة إلى مِنًى فلا بُدَّ من أن يستأذن النبيَّ عليه الصلاة والسلام؛ فيظهر أن الإذن لأجل هذا الاعتبار، وهذا مما يُرجِّح قول الجمهور؛ وهو أنه يجوز الدفع بعد منتصف الليل للضَّعَفَة ولغير الضَّعَفَة.
وكنتُ فيما سبق أُشدِّد في هذه المسألة، كنت أيضًا لا أدفع إلا بعد طلوع الفجر، حتى تأمَّلتُ هذه المسألة، وراجعتُها مع عددٍ من طلبة العلم، وبحثتُها بحثًا مُستفيضًا، إلى أن خلصتُ إلى ترجيح هذا القول؛ وهو أنه بعد منتصف الليل يجوز الدفع من مزدلفة لجميع الحُجَّاج -الضَّعَفَة وكذلك أيضًا يجوز لغير الضَّعَفَة-، لكن الأفضل لغير الضَّعَفَة أن يبقوا حتى يطلع الفجر وحتى يحصل الإسفار، ويدفعوا بعد حصول الإسفار من مزدلفة إلى مِنًى.
وهذا القول -وهو أنه يجوز الدفع لجميع الحُجَّاج بعد منتصف الليل-؛ هو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز وكذلك شيخنا محمد بن عثيمين رحمة الله تعالى على الجميع. فهذا هو الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة، لو كان لا يجوز الدفع لغير الضَّعَفَة لَبَيَّن هذا النبيُّ لأمته بيانًا واضحًا؛ لأن هذه المسألة مما تحتاج الأمة إلى بيانها.
المَبيت بمِنًى في ليالي التشريق
الواجب الرابع من واجبات الحج:
المَبيت بمِنًى في ليالي التشريق.
دليلُ ذلك فِعلُ النبي عليه الصلاة والسلام؛ وقد قال: خذوا عني مناسككم[14]، وأيضًا يؤيد ذلك أنه عليه الصلاة والسلام رخَّص لعَمِّه العباس في تَرْك المَبيت ليالِيَ مِنًى لأجل انشغاله بسِقَايَةِ الحُجَّاج[15]، والرخصة لا تكون إلا من عزيمة، فلو كان المَبيت بمِنًى ليس واجبًا لم يكن هناك حاجةٌ للترخيص للعباس؛ إذ إن المستحب لا يُرخَّص فيه.
فمَن لم يجد مكانًا في مِنًى؛ هل يسقط عنه المَبيت بمِنًى؟
هذه المسألة من النوازل في الوقت الحاضر؛ لأنه قديمًا كانت مِنًى تتَّسِعُ للحُجَّاج، ولم يخطر ببال أحدٍ من الفقهاء السابقين أن مِنًى ستمتلئ بالحُجَّاج ولا يجد بعضُ الحُجَّاج مكانًا في مِنًى؛ ولذلك لم يتناول الفقهاءُ هذه المسألةَ، لم يتناول الفقهاءُ السابقون هذه المسألة، فهي من النوازل؛ وذلك لأن البشر تضاعفت أعدادُهم في السنوات الأخيرة، يعني فإلى ما قبل مئة وخمسين عامًا وعدد سكان الأرض يَصِل لمليار، وخلال المئة والخمسين عامًا الماضية تضاعف سكان الأرض سبع مرات، والآن عدد سكان الأرض سبعة مليارات وثمانمئة مليون إنسان، ولمَّا تضاعف عدد سكان الأرض تضاعف معهم أعداد المسلمين، وهذا أيضًا مما يُضاعِف أعداد الحُجَّاج، فأصبحت مِنًى لا تكفي للحُجَّاج ولا تتسع لهم؛ فما الحُكم في حاجٍّ لم يجد له مكانًا في مِنًى يبيت فيه؟
اختلفت أنظار الفقهاء المعاصرين في هذه المسألة؛ فمنهم مَن قال إنه يسقط عنه هذا الواجب، قالوا لأن الله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وهذا لم يستطع أن يبيت في مِنًى؛ فيسقط عنه هذا الواجب. والقول الثاني في المسألة أن الواجب على هذا الحاج أن يبيت في أقرب مكان يلي مِنًى؛ لأنه يكون بهذا قد اتقى الله ما استطاع، أشبه ما لو أتى للمسجد الجامع يوم الجمعة وقد امتلأ المسجد الجامع، فيصلي في أقرب مكان إلى المسجد الجامع، ولا يقال بسقوط صلاة الجمعة عنه؛ وهذا هو القول الراجح. ومما يدل له أيضًا أن الحكمة من مَبيت الحُجَّاج بمِنًى هي أن يكون الحُجَّاج أمَّةً واحدةً مُجتمعين في مكانٍ واحد، ويُحقِّق هذا المقصودَ كونُ الحاجِّ يبيت في أقرب مكانٍ يلي مِنًى؛ يعني مثلًا الآن بعض الحُجَّاج يبيتون في المخيمات التي تلي مِنًى من جهة المزدلفة -مخيم هاء-؛ فلا بأس للحاج -ما دام أنه لم يجد مكانًا في مِنًى- أن يبيت في هذه المخيمات وإن كانت واقعةً في مزدلفة؛ لكونهم لم يجدوا أماكن في مِنًى.
رمي الجِمار مُرَتَّبًا
الواجب الخامس من واجبات الحج؛ قال:
ورَمْيُ الجِمار مُرَتَّبًا.
لقول النبي : بأمثال هؤلاء فَارْموا[16]، وقال : إنما جُعل الطوافُ بالبيت وبين الصفا والمروة، ورَمْيُ الجِمار؛ لإقامة ذِكْر الله[17]، ولأنه عليه الصلاة والسلام رَمَى الجِمار مُرَتَّبًا[18].
طيب، هنا مسألة يكثر السؤال عنها: وهي حُكم الرمي قبل الزوال؛ جمهور الفقهاء على أنه لا يجزئ، قالوا: لأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما رمى بعد الزوال[19]، وكان الصحابة يتحيَّنون الرمي بعد الزوال[20].
وهناك قول عند الحنفية والحنابلة: أنه في اليوم الثاني عشر يجوز الرمي قبل الزوال وبعد طلوع الفجر؛ لأن الله تعالى قال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]؛ قالوا: واليومُ يبدأ من طلوع الفجر، ومَن رمى بعد طلوع الفجر وقبل الزوال يَصدُق عليه أنه تعجَّل؛ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ. وقالوا: يدل لذلك أيضًا أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام رخَّص للرُّعاة أن يجمعوا رَمْي يومٍ إلى اليوم الذي بعده[21]؛ فرخَّص لهم الانتقال من وقتٍ إلى وقتٍ. وأيضًا جاء في بعض الروايات: أنه رخَّص لهم أن يرموا ليلًا[22]؛ مما يدل على أن الوقتَ كلَّه محلٌّ للرَّمْي، فكما أن الوقتَ كلَّه -يعني: أيام التشريق وليالي التشريق- وقتٌ للذبح -لذبح الهدي ولذبح الأضحية-، كما أن الوقتَ كله أيضًا وقتٌ للتكبير -للتكبير المُقيَّد-؛ فأيُّ فرقٍ بين أن يكون الوقت كله وقتًا للذبح ووقتًا للتكبير ووقتًا أيضًا للرَّمْي؟!
وأما فِعل النبيِّ عليه الصلاة والسلام فيدل على الاستحباب، فالنبي عليه الصلاة والسلام طاف ضُحَى يوم العيد؛ فهل معنى ذلك أنه يجب طواف الإفاضة ضُحَى يوم العيد؟ لا، وقت طواف الإفاضة واسعٌ، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يختار الأفضل. وكذلك أيضًا تحيُّن الصحابة ؛ إنما تحيَّنوا ذلك لأجل موافقة فِعل النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم أيضًا كان الناس متفرقين في مِنًى، فلم يكونوا يجتمعون إلا وقت الصلاة، وهو عليه الصلاة والسلام يحب أن الناس يرونه وهو يرمي ويتأسَّوْن به، فكان ينتظر حتى يجتمع الناسُ لصلاة الظهر ثم ينطلق بهم إلى الجمرات ويرمي، ثم يرجع ويصلي بهم صلاة الظهر. ولذلك؛ فالقولُ بجواز الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني عشر قولٌ قويٌّ، وإن كان الأحوط هو قول الجمهور -أن يكون الرمي بعد الزوال-.
الحَلْق أو التقصير
السادس من واجبات الحج:
والحَلْقُ أو التقصير.
لأن الله تعالى جعل الحَلْق والتقصير وصفًا للحج والعمرة؛ فقال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]، وجاء هذا في سياق الامتنان. وأيضًا النبي عليه الصلاة والسلام دعا للمُحلِّقين ثلاثًا وللمُقصِّرين مرةً واحدةً[23]، وقال : وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ كما في بعض الروايات[24].
وأما النساء فالمشروع لهنَّ التقصير دون الحلق، كما نُقل الإجماع على ذلك. وتقصير المرأة يكون من أطراف ضفائرها؛ يعني: تَجمع شعرها على شكل ضفائر، وتأخذ من طرف كلِّ ضفيرةٍ بقدر رأس الإصبع -بقدر أُنْمُلة-.
ولكن أُنبِّه هنا إلى أن الحَلْق أفضل من التقصير؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام دعا للمُحلِّقين ثلاثًا وللمُقصِّرين مرةً واحدةً[25].
مَن أراد أن يختار التقصير فلا بُدَّ أن يكون التقصير شاملًا لجميع الشعر، أما ما يفعله بعض الناس فيأخذ من هنا شعرتين ومن هنا شعرتين ومن هنا شعرتين؛ فهذا غير مجزئ، فلا بُدَّ من أن يكون التقصير شاملًا لجميع الشعر؛ ولذلك فأحسن ما يكون التقصير بالماكينة، إذا أردتَّ أن تُقصِّر فاجعله بالماكينة، اختر مثلًا رقم اثنين أو ثلاثة أو أربعة؛ لأن الماكينة ستكون شاملة لجميع الشعر.
وأنا أَعْجَبُ الحقيقة خاصةً من بعض طلبة العلم الذين يذهبون للعمرة أو للحج، ثم يختارون التقصير ولا يختارون الحَلْق؛ يعني ينبغي للمسلم أن يكون عنده مسارعة للخيرات؛ فأنت ما أتيتَ لهذا المكان إلا لتبتغي الفضل من الله ورضوانه، وأنت طالب علم تعرف بأن الحَلْقَ أفضلُ من التقصير، وأن النبي عليه الصلاة والسلام دعا للمُحلِّقين ثلاثًا: اللهم ارحم المُحلِّقين، اللهم ارحم المُحلِّقين وفي كلِّ مرةٍ يقولون: والمُقصِّرين؟ يقول: اللهم ارحم المُحلِّقين، ثم في الرابعة قال: والمُقصِّرين[26].
فلماذا تختار التقصير على الحَلْق وأنت تعرف بأن الحَلْق أفضل؟! يعني تتعجَّب -خاصةً من بعض طلبة العلم-! قد يكون العامي ليس عنده علم كافٍ بهذا، لكن بعض طلبة العلم يذهب ومع ذلك تجده يختار التقصير ولا يختار الحَلْق؛ لماذا تختار الدرجة الأدنى؟! لماذا لا تختار الدرجة الأعلى وهي الحَلْق؟! وهي أعظم أجرًا وثوابًا، وأفضل، وفيها التأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام، والاقتداء به، وتطبيقٌ للسنة!
طواف الوداع
السابع -الأخير- من واجبات الحج:
طواف الوداع.
لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يَنْفِرَنَّ أحدُكم حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت[27]، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما: “أُمِر الناسُ أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفِّف عن الحائض”[28]. لكن القول بأن طواف الوداع واجبٌ بإطلاق يُشكِل عليه أنه لا يجب على أهل مكة ولا على مَن أقام بمكة -باتفاق العلماء-؛ ولذلك فالأحسن أن تُقيَّد هذه العبارة فيقال: “طواف الوداع إلا على أهل مكة ومَن أقام بها”؛ فهؤلاء ليس واجبًا عليهم. فالأدق في العبارة ألَّا نقول: “من واجبات الحج طواف الوداع” هكذا بإطلاق، وإنما نستثني ونقول: “طواف الوداع إلا على أهل مكة ومَن أقام بها”.
أركان العمرة
ننتقل بعد ذلك لأركان العمرة.
قال المصنف رحمه الله:
وأركان العمرة ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي.
الإحرامُ في العمرة نقول فيه كما قلنا في الإحرام في الحج، وشَرَحْنا هذا بالتفصيل في درسٍ سابق، وكذلك أيضًا طوافُ العمرة وسَعْيُها نقول كما قلنا بالنسبة لطواف الحج وسعي الحج؛ فهي ثلاثة أركان.
الخلاف في السعي في العمرة هو كالخلاف في السعي في الحج، وسبق ترجيح القول بأن السعيَ ركنٌ من أركان الحج، وهكذا أيضًا نقول: إن السعيَ ركنٌ من أركان العمرة.
واجبات العمرة
وواجباتها شيئان: الإحرام بها مِن الحِلِّ.
الإحرام من الحِلِّ
يعني واجبات العمرة شيئان: “الإحرام بها من الحِلِّ”، ولو أن المصنف قال: “في حق أهل مكة ومَن كان مقيمًا بها” لَكَان هذا أدقَّ في العبارة؛ لأن غير أهل مكة وغير المقيمين بها يُحرِمون من الميقات، فهذه العبارة “الإحرام بها من الحِلِّ” ليست دقيقة. أو لو أن المصنف قال: “الإحرام بها من الميقات إلا لأهل مكة ومَن كان مقيمًا بها؛ فمن الحِلِّ” لَكَان هذا أيضًا أحسنَ في العبارة.
طيب، الإحرام بها من الحِلِّ بالنسبة لأهل مكة ومَن كان مقيمًا في مكة؛ ما المقصود بالحِلِّ؟
“الحِلُّ” معناه: خارج حدود الحرم، وأدناه وأقربه “التنعيم” الذي فيه الآن مسجد عائشة، وهو الموضع الذي أَحْرَمَتْ منه رضي الله عنها؛ فإنها كانت قد اختارت نُسُكَ التمتع، لكن قبل وصولها لمكة في “سَرِفَ” أتاها الحيضُ، فدخل عليها النبيُّ وهي تبكي، وعرف مقصودها؛ فقال: لعلكِ نَفِسْتِ؟ يعني: حِضْتِ؟ قالت: نعم. قال مُوَاسِيًا لها: إنَّ هذا شيءٌ كتبه اللهُ على بنات آدم. والشيءُ إذا اشترك الناسُ فيه تَهُون مصيبتُه، ثم قال : افعلي ما يفعل الحاجُّ غير ألَّا تطوفي بالبيت[29].
بَكَتْ عائشةُ رضي الله عنها لأنها تريد أن تكون متمتعة، وخشيَت أن الحيضَ يستمر معها إلى عرفة فلا تكون متمتعة، وبالفعل ما خشيَت منه وقع، واستمر معها الحيضُ، وأتى يوم عرفة ولم تَطهُر، فأمرها النبيُّ عليه الصلاة والسلام أن تقلب التمتع إلى قرانٍ في آخر الحج[30].
عائشة رضي الله عنها من كبار الصحابة، وعندها حرصٌ على الخير، وأيضًا تبقى امرأةً لها تنافُسٌ مع جاراتها -زوجات النبي عليه الصلاة والسلام-؛ قالت: ترجع صُوَيْحِبَاتي بعمرةٍ وحجٍّ وأرجع أنا بحجٍّ؟! فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: طوافُكِ بالبيت وبين الصفا والمروة يَسَعُكِ لِحَجِّكِ وعُمرَتِكِ[31]؛ يعني: أنتِ إذَن سترجعين بعمرةٍ وحجٍّ.
لكن ما طابت نفسُها، ورأت أن التمتعَ أفضلُ وأعلى درجةً من القِرَان، فاستأذنَت النبيَّ عليه الصلاة والسلام أن تأتي بعمرةٍ بعد الحجِّ؛ فأذِنَ لها، وأمَرَ أن يذهب معها أخوها عبدالرحمن إلى “التنعيم”، فذهبت إلى “التنعيم” إلى المكان الذي فيه الآن مسجد عائشة، وأَحْرَمَتْ منه بالعمرة. فدلَّ هذا على أن أهل مكة ومَن كان مقيمًا في مكة؛ إذا أراد العمرة فلا بُدَّ من أن يخرج خارج حدود الحرم، ولو كان هذا غيرَ واجبٍ لَمَا أمَرَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام عائشةَ رضي الله عنها أن تذهب إلى “التنعيم”، وكان الوقتُ ليلًا وفيه مشقةٌ، فلو لم يكن هذا واجبًا لأَمَرَها النبيُّ عليه الصلاة والسلام أن تُحرِم من الحرم، من مكانها الذي هي فيه.
فهذا يدل على أن أهل مكة ومَن كان مقيمًا في مكة؛ إذا أرادوا أن يُحرِموا بالعمرة فلا بُدَّ أن يخرجوا خارج حدود الحرم، وليس بالضرورة من “التنعيم”، فيمكن حتى من “عرفة” مثلًا، أو من “الشرائع” من خارج الحرم؛ لأن “الشرائع” جزءٌ منها في الحرم وجزءٌ منها خارج الحرم، ممكن يعني لمَن يأتي إلى اللوحة المكتوب عليها مثلًا “حَدّ الحرم”، ويُحرِم بعدها من جهة “الشرائع”، أو من جهة مثلًا “عرفة”، أو من جهة “التنعيم”؛ المهم أن يخرج خارجَ حدود الحرم ويُحرِم منه.
طيب، ما هي الحكمة في هذا؟
الحكمة -والله أعلم-؛ أولًا العمرة: فحقيقةُ العمرة في اللغة “الزيارة”، ولا يقال إنه زار البيت إلا إذا أتاه من الحِلِّ إلى الحرم؛ وكونه داخل الحرم ثم أتى فطاف وسعى فلا يقال إنه زاره واعتمر؛ فلا بُدَّ من أن يخرج خارجَ حدود الحرم. وأيضًا من وجوه الحكمة: حتى يجمع بين الحِلِّ والحرم، وهذا حاصلٌ في الحجِّ؛ ففي الحج هو يجمع بين الحِلِّ والحرم، لأن عرفة من الحِلِّ، ومزدلفة ومِنًى من الحرم؛ فهو يجمع بين الحِلِّ والحرم، ففي العمرة حتى يجمع بين الحلِّ والحرم فلا بُدَّ من أن يُحرِم خارجَ الحرم.
الحَلْق أو التقصير
قال:
والحَلْقُ أو التقصير.
ونقول فيه كما قلنا في الحَلْق والتقصير في الحج.
سنن الحج
والمسنون.
يعني: المسنونات؛ مسنونات الحج ومستحبات الحج كثيرة؛ مثَّل لها مصنف فقال:
المَبيت بمنًى ليلةَ عرفة
كالمَبيت بمِنًى ليلةَ عَرَفةَ.
فهو مستحب في قول عامة الفقهاء، لكن قال بعضهم بأنه واجب، وممَّن رجَّح هذا الشيخُ الألبانيُّ رحمه الله. والأقرب -والله أعلم- أنه مستحب وليس واجبًا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام وَافَاه في عرفة أناسٌ كُثُر، لم يَبِيتُوا بمِنًى ليلةَ عرفة؛ ومنهم عروة بن مُضرِّس الطائيّ، ولم يأمرهم النبي بدمٍ[32]؛ فهذا يدل على أن المَبيت بمِنًى ليلةَ عرفة ليس واجبًا، وإنما هو مستحب.
طواف القدوم
وطواف القدوم.
يعني: في حقِّ القارن والمُفرِد، فهو مُستحب وليس واجبًا؛ أما المتمتع فإنه أصلًا سيأتي بطواف العمرة.
والرَّمَلُ في الثلاثة الأشواط الأُوَلِ منه.
“الرَّمَل” معناه: الإسراع في المشي مع مُقارَبة الخُطَى، فهو مستحب في الأشواط الثلاثة فقط من طواف العمرة ومن طواف القدوم؛ لأن النبي في عمرة القضية في السنة السابعة قَدِمَ هو وأصحابه ، فقال المشركون: إنه يَقْدُم عليكم وقد وَهَنَهم حُمَّى يَثْرِب[33]؛ فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يَرْمُلُوا الأشواطَ الثلاثةَ، وأن يمشوا ما بين الرُّكْنَيْن، ثم بعد ذلك في حجة الوداع أمرهم أن يَرْمُلُوا في جميع الأشواط الثلاثة[34]؛ يعني استقرت السُّنة على هذا.
الاضطباع فيه
والاضطباع فيه.
“الاضطباع” معناه: أن يجعل وَسَطَ ردائه تحت إبطه الأيمن، وطرفَيْه على عاتقه الأيسر؛ يعني يكشف كتفه اليمنى. وهذا وإن كان أمرَ به النبيُّ عليه الصلاة والسلام في السنة السابعة[35]؛ إلا أنه أيضًا فَعَله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وأمرَ به أصحابَه ، فاستقرَّت السُّنة عليه[36]؛ يعني على الرَّمَل وعلى الاضطباع، وإن كان مناسبتُه وسببُه معروفًا، لكن السُّنة استقرَّت على هذا.
تجرُّد الرجل من المخيط عند الإحرام
وتَجرُّدُ الرجلِ من المَخِيط عند الإحرام.
يعني: عندما يريد أن يلبس ملابس الإحرام؛ ينبغي أن يتجرَّد ويخلع جميع ملابسه، ثم يلبس الإزار والرداء؛ يعني على هذا: لو كان عليه إزارٌ ورداءٌ ثم نوى يصح هذا، لكن الأفضل أن يتجرَّد ويغتسل ثم يلبس الإزار والرداء.
لبس إزار ورداء أبيضَيْن نظيفَيْن
ولُبْسُ إزار ورداء.
لأن النبي فعل ذلك، وقال: لِيُحرِمْ أحدُكم في إزارٍ ورداءٍ ونعلَيْن[37] كما عند الإمام أحمد.
أبيضَيْن.
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: إنَّ مِن خير ثيابكم البياضَ؛ فَالْبَسُوها وكَفِّنُوا فيها موتاكم[38] وهذا الحديثُ حديثٌ صحيحٌ، أخرجه أصحاب السنن وأحمد بسندٍ صحيحٍ. وهذا يدل على أن لُبْسَ البياض مستحب، وأنه أفضل من غيره، حتى في غير الإحرام؛ فحتى في غير الإحرامِ الأفضلُ أن تلبس الأبيض -ما أَمْكَنَك-؛ ولهذا فأيُّهما أفضلُ: لُبْسُ مثلًا الغُتْرة البيضاء أو الشِّمَاغ الأحمر؟
الغُتْرةُ البيضاء أفضلُ لعموم الحديث، وأيضًا الثوب الأبيض أفضل، لكن الأمر واسع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أحيانًا يلبس حُلَّةً حمراء[39]، يعني كان يلبس غير الأبيض عليه الصلاة والسلام أحيانًا.
لكن الأفضل هو البياض؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: إنَّ مِن خير ثيابكم البياضَ؛ فَالْبَسُوها…[40]؛ هذا أمرٌ، وأقلُّ ما يُفيده الأمر الاستحباب؛ ولهذا فكَفَنُ الميتِ يُستحب أن يكون أبيض اللون.
نظيفَيْن.
يعني: جديدَيْن أو نظيفَيْن، ولِمَا يُعلَم من نصوص الشريعة من الحرص على النظافة؛ ولهذا أُمِر المسلم بالوضوء وبالاغتسال.
التلبية من حين الإحرام إلى أول الرَّمْي
والتلبية من حين الإحرام إلى أول الرَّمْي.
التلبية هي الشِّعار للحاجِّ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يُلبِّي مِن حين يُحرِم[41]، وقد أَهَلَّ عليه الصلاة والسلام عند ذي الحُلَيْفة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك[42]. ويُسَنُّ الجهر بها للرجال، وقد جاء في حديثٍ صحيحٍ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما مِن مسلمٍ يُلبِّي إلا لَبَّى مَن عن يمينه وعن شماله مِن حجرٍ أو شجرٍ أو مَدَرٍ، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا[43] أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسنادٍ صحيح.
وكان الصحابة يرفعون أصواتهم بالتلبية، حتى إنهم لا يبلغون الرَّوْحَاءَ إلا وقد بُحَّتْ حُلُوقُهم[44].
والمرأة تُلبِّي بقدر ما تُسمِع رفيقتها، لكن إذا كانت بحَضْرة رجالٍ أَجَانب فلا ترفع صوتها.
التلبية المشروعة هي تلبية النبي عليه الصلاة والسلام: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك[45]. وكان بعض الصحابة يزيد، والنبي يسمعهم ويُقِرُّهم على ذلك؛ فكان بعضهم يقول: “لبيك وسَعْدَيْكَ، والخير في يديك، والشر ليس إليك”[46]، وبعضهم يقول: “لبيك حقًّا حقًّا، تعبُّدًا ورِقًّا”[47]، وبعضهم يقول: “لبيك والرَّغْباءُ إليك والعمل”[48].
فهذه كلها وردت عن بعض الصحابة ، فمَن أتى بها فلا بأس، لكن الأفضل الاقتصار على تلبية النبي .
حُكم مَن ترك ركنًا من أركان الحج
ثم انتقل المؤلف للكلام عمَّا يترتب على تَرْك الركن أو الواجب؛ قال:
فمَن ترك ركنًا لم يتم حَجُّه إلا به.
أركان الحج هي كأركان الصلاة، فكما أن الصلاة لا تصح إذا تَرَك ركنًا من أركانها، فكذلك الحجُّ؛ فلو أن حاجًّا مثلًا لم يقف بعرفة لم يصح حجُّه، أو أنه لم يَطُف طوافَ الإفاضة لم يصح حجُّه، أو أنه لم يَسْعَ سَعْيَ الحجِّ لم يصح حجُّه، أو أنه لم يُحرِم لم يصح حجُّه؛ لم يُحرِم يعني: بالنية، وليس المقصود باللباس؛ فقد يلبس الإنسان لباس الإحرام ولا يكون مُحرِمًا.
حُكم مَن ترك واجبًا من واجبات الحج
ومَن ترك واجبًا فعليه دمٌ، وحجُّه صحيح.
يعني مثلًا: لو أنه ترك المَبيت بمِنًى أو المَبيت بمزدلفة؛ فيَجبُر ذلك بدمٍ، وحجُّه صحيح.
والدليل على وجوب الدم في تَرْك الواجبات؛ أثرُ ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “مَن نَسِيَ مِن نُسُكه شيئًا أو تَرَكَه؛ فَلْيُهرق دمًا”[49] أخرجه مالك والبيهقي بسندٍ صحيحٍ. واعتمد العلماءُ على هذا الأثر، وعليه عَمَلُ الأمة، وهذا يدل على أن بعض الأحكام الشرعية قد لا تجد فيها دليلًا مرفوعًا إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ فهنا يُنظَر للآثار عن الصحابة ، وكيف فَهِمَ الصحابةُ هذه المسائل وهذه الأحكام.
ولذلك؛ فالذي يقول: أنا لا آخذ إلا بما ورد في القرآن أو السنة فقط، ويُهمل الآثار المروية عن الصحابة ؛ ستَرِدُ عليه إشكالات كثيرة، وربما خالَف إجماعات لأهل العلم. فإذَن؛ لا بُدَّ من أن نفهم هذه الشريعة كما فهمها الصحابة ؛ ولهذا لمَّا ذكر النبيُّ عليه الصلاة والسلام افتراق الأمة قال: وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: مَن هي يا رسول الله؟ قال: مَن كانت على ما أنا عليه وأصحابي[50]؛ فهذه الشريعة نفهمها كما فهمها الصحابة .
فالصحابة بالنسبة لتَرْك الواجب يَرَوْن وجوبَ الدم -كما قال ابن عباس-، وتَرْكُ الواجب يستوي فيه العمد والسهو، لكن الفرق في الإثم؛ فلو كان متعمدًا فإنه يأثم، وإن لم يكن متعمدًا فليس عليه إثم، لكن يكون عليه دمٌ.
حُكم مَن تَرَك مسنونًا
ومَن تَرَك مَسْنُونًا فلا شيء عليه.
وهذا ظاهر.
شروط صحة الطواف
ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن شروط صحة الطواف؛ وقال:
وشروط صحة الطواف أحد عشر.
الشرط الأول والثاني والثالث؛ قال:
النية والإسلام والعقل.
هذه شروطٌ لجميع العبادات.
الرابع؛ قال:
ودخولُ وَقْتِه.
يعني: وقت الطواف.
وسبق القول بأن طواف الإفاضة يبتدئ وقته من بعد منتصف ليلة النحر -عند جمهور أهل العلم-.
وستر العورة.
لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يطوف بالبيت عُرْيان[51].
واجتناب النجاسة، والطهارة من الأحداث.
لحديث: “الطوافُ بالبيت صلاةٌ، إلا أنكم تتكلمون فيه”[52] أخرجه الترمذي، والراجح وقفُه على ابن عباس رضي الله عنهما، ولا يصح مرفوعًا.
وقد اختلف الفقهاء في اشتراط الطهارة للطواف؛ فجمهور الفقهاء يَرَوْن اشتراط الطهارة للطواف، وقال بعض أهل العلم إن الطهارة لا تُشترط، واشتُهر هذا عن الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
جمهورُ أهل العلم القائلون باشتراط الطهارة؛ استدلوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما: “الطوافُ بالبيت صلاةٌ، إلا أنكم تتكلمون فيه”، وقلنا إن هذا موقوف على ابن عباس -على القول الراجح-، ولكنهم استدلوا به وقالوا إن الصلاة تُشترط لها الطهارة. واستدلوا أيضًا بقول النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها: افعلي ما يفعل الحاج غير ألَّا تطوفي بالبيت[53].
وأما أصحابُ القول الثاني القائلون بعدم اشتراط الطهارة؛ فقالوا: ليس هناك دليلٌ أصلًا على اشتراط الطهارة، أما حديث: “الطوافُ بالبيت صلاةٌ…” فقالوا إن هذا من كلام ابن عباس رضي الله عنهما، وليس حديثًا مرفوعًا إلى النبي ، ثم أيضًا قياس الطواف على الصلاة قياسٌ مع الفارق؛ إذ إن الطواف يخالف الصلاة في أكثر الأحكام، فكيف يقاس الطواف على الصلاة؟!
وأما قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها: افعلي ما يفعل الحاج غير ألَّا تطوفي بالبيت[54]؛ فإنما نهاها عن الطواف بالبيت لأنها ممنوعة من المُكْث في المسجد؛ لكونها حائضًا، وليس لأجل أن الطهارةَ شرطٌ لصحة الطواف. وهذا القول -بأن الطهارة ليست شرطًا لصحة الطواف- قولٌ قويٌّ، وهو الأقرب في هذه المسألة -والله أعلم-؛ لأننا إذا تأمَّلنا حَجَّة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد حَجَّ معه قرابة مئة ألف، ولا بُدَّ من أن يكون من هؤلاء الحُجَّاج مَن هو ليس على طهارة ويطوف بالبيت، فكون النبي عليه الصلاة والسلام لم يُبيِّن ذلك ولم يقل: لا يَطُفْ أحدٌ بالبيت إلا وهو على طهارة؛ دليلٌ على عدم اشتراط الطهارة، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فلو كانت الطهارة في الطواف شرطًا لَبيَّن ذلك النبيُّ عليه الصلاة والسلام للأمة واشتُهر ذلك واستفاض كما اشتُهر اشتراط الطهارة في صحة الصلاة؛ لأن هذا مما تحتاج الأمة إلى بيانه.
يعني حجَّ معه قرابة مئة ألف، فلا بُدَّ من أن يكون هناك مَن هو غير متطهر، ولم يَرِدْ عن النبي عليه الصلاة والسلام -لا في حديثٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ- أنه قال: لا يَطُفْ أحدٌ بالبيت إلا وهو على طهارة؛ إنما فقط نهى الحائضَ أن تطوف بالبيت، لأن الحائض أصلًا ممنوعة من المُكْث في المسجد، هي كالجنب: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، وحتى لا تُلوِّثَ المسجد أيضًا؛ فهي ممنوعة لأجل هذا. فهذا الحُكم خاصٌّ بالحائض، لكن ما الدليل على أن غيرَ الحائض ممنوعٌ من الطواف إلا على طهارة؟ فهذه وِجهة أصحاب هذا القول كما تَرَوْن؛ فالقول الثاني -قول ابن تيمية رحمه الله- قولٌ قويٌّ في أنه لا تُشترط الطهارة لصحة الطواف. لكن مع ذلك؛ ننصح ابتداءً بأن يُرشَد الناس والعامة، ويقال: لا يَطُفْ أحدٌ بالبيت إلا وهو على طهارة.
لكن لو أن أحدًا أتى إلينا واستفتى وقال: إني طُفْتُ وأنا على غير طهارة، أو مثلًا: خرجَت مني رِيحٌ أو نحو ذلك؛ فنقول: طوافك صحيح، ولا نكلِّفه بأن يرجع إلى مكة ويعيد الطواف وما بعده، وربما يترتب على ذلك ما يترتب؛ لأننا لا نفعل ذلك إلا بشيء واضح، وما عندنا دليلٌ ظاهرٌ يدل على اشتراط الطهارة لصحة الطواف.
فنُفرِّق إذَن ما بين توجيه الناس قبل وبعد؛ قبل الطواف نقول: لا يَطُفْ أحدٌ بالبيت إلا وهو على طهارة؛ خروجًا -على الأقل- من الخلاف واحتياطًا وبراءةً للذمة، لكن لو قُدِّر أن أحدًا طاف على غير طهارة؛ فالأقرب -والله أعلم- أنه ليس عليه شيء وأن طوافه صحيح. وهذا من الفقه في الفتوى، والعلماء يفرِّقون في الفتوى بين قبل وقوع الشيء وبعد وقوعه.
هل يجوز للحائض الطواف عند الضرورة؟
طيب، يتفرع عن هذه المسألةِ مسألةٌ أخرى؛ وهي: هل يجوز للحائض الطواف عند الضرورة؟
أما عند غير الضرورة فلا يجوز، وأما عند الضرورة فقد حصلَت هذه النازلة في عهد أبي العباس ابن تيمية، المتوفى سنة (728هـ)؛ وهي: أن امرأةً حاضت وهي مع رُفقة، والرُّفقة لن تنتظرها؛ فهي بين أمرين: إما أن تطوف وهي حائض، وإما أن ترجع إلى بلادها ولم تَطُفْ طوافَ الإفاضة -وهو ركن من أركان الحج-؛ فابن تيمية رحمه الله أولًا استشكل هذه المسألة، ثم قال: “الذي توجَّه عندي في هذه المسألة -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-؛ هو جواز أن تطوف هذه المرأة وهي حائض، ولولا ضرورة الناس واحتياجهم إليه -عِلمًا وعملًا- لَمَا تجَشَّمْتُ الكلام”.
فإذَن؛ هو أفتاها بأنها بين أمرين: إما أن تطوف وهي حائض، وإما أن ترجع إلى بلادها وقد أخلَّت بركنٍ من أركان الحج. فينبغي أن تُطبَّق فتوى ابن تيمية على نطاقٍ ضيٍّقٍ جدًّا؛ مثل: امرأة أتت من بلاد بعيدة وهي بين أمرين؛ إما أن تطوف وهي حائض، وإما أن ترجع إلى بلادها ولم تَطُفْْ طوافَ الإفاضة، فكونها تطوف وهي حائضٌ خيرٌ من كونها ترجع إلى بلادها ولم تأتِ بطواف الإفاضة.
ولذلك ينبغي أن تُطبَّق هذه الفتوى التطبيقَ الصحيح؛ لأن بعض الناس يتوسَّع في الأخذ بفتوى ابن تيمية، فأرى أن مَن كان موجودًا في المملكة، بل حتى في دول الخليج العربي والبلدان القريبة؛ لا تُطبَّق عليهم هذه الفتوى، لأن بإمكانهم إما أن تنتظر المرأة وإما أن تذهب لبلدها ثم بعد الطُّهر ترجع وتطوف.
فلذلك؛ هذه فتوى ينبغي أن تُطبَّق في نطاقها الصحيح، وهو نطاقٌ ضيِّقٌ جدًّا؛ لأن الأصلَ أن المرأةَ الحائضَ تَحبِس مَحْرَمها؛ ولهذا لما قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: إن صفية حاضت؟ قال: أحابستنا هي؟[55]. والأصل أن المَحْرم ينتظر مع المرأة، لكن نحن الآن أمام أمرٍ واقعٍ؛ فالرُّفقة لن تنتظر هذه المرأة، امرأة مسكينة؛ هي بين أمرين: إما أن تطوف وهي حائض، وإما أن ترجع لبلادها بدون طواف.
فهنا ابن تيمية قال: “تَجَشَّمْتُ الكلامَ فيها”؛ يعني أفتى فيها للضرورة. فإذَن؛ تطبيق فتوى ابن تيمية يكون على نطاقٍ ضيِّقٍ، وينبغي عدم التوسع؛ يعني: مَن كان داخل المملكة من دول الخليج العربي والبلدان القريبة، بل حتى الدول العربية؛ نقول: لا تُطبَّق عليهم فتوى ابن تيمية، بل يقال إن المرأة تنتظر حتى تَطهُر، أو ترجع لبلادها ثم إذا طَهُرَتْ تطوف.
هناك أمر آخر ذَكَرَه لي بعضُ الأطباء؛ وهو أنه بإمكان المرأة الحائض أن تأخذ إبرة لرفع الحيض، فإذا ارتفع الحيض اغتسلت وطافت؛ يقولون إن هذا إذا فعلته المرأةُ مرةً واحدةً لا يضر، إنما يضر إذا فعلته مرارًا.
أقول: هذا ممكن أن يُلجَأ إليه، وأذكر مرةً من المرات أتاني رجل مع زوجته في مِنًى، وقال: إن امرأته حائضٌ. فقلتُ: تنتظر معها. قال: لا أستطيع أن أنتظر، أنا مرتبط بكذا. فقلتُ له: طيب، تذهبون لبلادكم ثم ترجعون. قال: لا نستطيع. فأرشدتُّهم إلى أن يذهبوا أولًا ليستشيروا الطبيب في أخذ الإبرة: هل فيها ضرر أم لا؟ فإذا قال بعدم ضرر؛ فممكن أن تأخذ زوجتُك هذه الإبرة. وبالفعل ذهبوا للطبيب وأخبرهم بأنه ليس فيها ضررٌ ما دام مرةً واحدةً، وارتفع الحيض، واغتسلت المرأة وطافت طوافَ الإفاضة، وأَتَيَا إليَّ في اليوم الثاني يَشكُرَاني، يقول: جزاك الله خيرًا على هذه الفتوى.
لكن -كما ذكرتُ- أؤكد على ضرورة الاستشارة الطبية بألَّا يكون على المرأة ضررٌ، فإن كان على المرأة ضررٌ فليس لها أن تفعل ذلك.
تكميل السبع من شروط صحة الطواف
قال:
وتكميل السبع.
يعني: تكميل السبع من شروط صحة الطواف. فلو طافها ستة أشواط، بل حتى ستة أشواط ونصف؛ لم يصح طوافه.
جَعْل الكعبة عن يساره
وجَعْل البيت عن يساره.
يعني: جَعْل الكعبة عن يساره، فلو أنه عَكَسَ وجَعَلَ الكعبة عن اليمين لم يصح طوافه.
يُشترط لصحة الطواف أن يكون ماشيًا مع القدرة
وكونه ماشيًا مع القدرة.
يعني: يُشترط لصحة الطواف أن يكون ماشيًا مع القدرة، أما إذا كان معذورًا فلا بأس أن يُطاف به محمولًا أو يكون على عربة.
وهذه المسألة محلُّ خلاف؛ طبعًا إذا كان معذورًا فيُطاف به محمولًا أو على عربة بلا خلاف، لكن إذا أراد الإنسانُ أن يطوف محمولًا أو على عربة وهو قادرٌ على أن يطوف ماشيًا؛ فهل يصح طوافه أو لا؟
النبي عليه الصلاة والسلام طاف ماشيًا[56]، لكن لما غَشَاهُ الناسُ أمرَ بأن يؤتى ببعيره فركب بعيرَه وأكمل الطواف على بعيره[57]؛ لأن الناس قد غَشَوْه، لأنه عليه الصلاة والسلام كان معه قرابة مئة ألف، كلٌّ يريد أن ينظر للنبي عليه الصلاة والسلام ويقتدي به، تصوَّرْ! فازدحم الناس عليه وما استطاع أن يُكمِل الطواف، كلُّ الناس أحاطوا به وما استطاع أن يُكمِل، فأَمَرَ بأن يؤتى ببعيره، فأكمل بقية أشواط الطواف على البعير.
إذَن؛ فالقادر على أن يطوف ماشيًا، هل له أن يطوف محمولًا أو على عربة؟
هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم؛ وفيها ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أنه لا يصح طوافه مع القدرة على الطواف ماشيًا، هذا هو المذهب عند الحنابلة؛ واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: “الطواف بالبيت صلاة”[58].
- القول الثاني: أنه يجزئه الطواف محمولًا أو راكبًا، لكن يَجبُر ذلك بدمٍ؛ وهذا هو مذهب الحنفية.
- القول الثالث: أن له أن يطوف محمولًا أو على عربة ولو كان قادرًا على المشي، وليس عليه شيء، وهذا هو مذهب الشافعية؛ واختاره ابن المنذر وقال: “لا قولَ لأحدٍ مع فِعْل النبي ؛ قالوا: لأن الله أَمَر بالطواف مطلقًا، فكيفما أتى به أجزأه، ولا يجوز تقييد المطلق بغير دليل”.
والراجح -والله أعلم- هو القول الثالث؛ وهو أنه يصح الطواف محمولًا أو راكبًا حتى ولو كان الإنسان قادرًا على أن يطوف ماشيًا، حتى لو كان ذلك بغير عذرٍ -وإن كان هذا خلاف الأفضل- لأنه يَصدُق عليه أنه طاف.
إنسانٌ طاف بالعربة يَصدُق عليه أنه طاف، أو طِيفَ به محمولًا فيَصدُق عليه أنه طاف؛ ما الذي يمنع من صحة الطواف؟ ليس هناك دليلٌ يدل على أن الطواف لا يصح.
فالأقرب -والله أعلم- أن مَن طاف على عربة أو محمولًا مع قدرته على المشي؛ طوافه صحيح، وما قلناه في الطواف أيضًا يقال في السعي.
الموالاة بين أشواط الطواف
قال:
والموالاة.
يعني: بين أشواط الطواف، فالموالاة شرطٌ لصحة الطواف؛ لأن النبي إنما وَالَى بين أشواط الطواف في جميع عُمَرِه وفي حَجَّته، ولأن الطواف عبادة متعلقة بالبيت فاشتُرط لها الموالاة كالصلاة.
ثم فرَّع المؤلف على هذه المسألة؛ قال:
فيستأنفه لحدثٍ.
يعني: لو أحدث أثناء الطواف ثم توضأ؛ فيُعيد الطواف من جديد.
وكذا لقطعٍ طويلٍ.
لو طاف ثم قطع الطواف وكانت مدةُ الفاصل طويلةً عُرفًا؛ فيُعيد الطواف من جديد.
أما إذا كان الفاصل يسيرًا؛ قال:
وإن كان يسيرًا.
كما لو ذهب يشرب ماء زمزم مثلًا، أو وقف لأجل أن يستريح؛ فلا يقطع طوافه.
أو أُقيمَت الصلاة.
يعني: صلاة الفريضة، فصلى؛ فلا يقطعُ طوافَه هذا الفاصلُ.
أو حضرت الجنازة.
فصلى، فلا يضر؛ لأن وقتَ الصلاة على الجنازة يسيرٌ، ولأن الجنازة أيضًا يفوت فضل الصلاة عليها برَفْعها؛ يعني لا يمكن التدارك. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الطائف إذا صلى صلاة الجنازة فإنه يعيد الطواف من جديد؛ قالوا: لأن الصلاة المكتوبة واجبةٌ عليه، بينما صلاة الجنازة ليست واجبة. فالأقرب -والله أعلم- أن الفاصل لأجل صلاة الجنازة لا يقطعُ الموالاةَ.
طيب، التراويح هي فاصلٌ طويلٌ، فلو أنه بعدما طاف مثلًا شوطين أو ثلاثةً توقَّف وأراد أن يصلي صلاة التراويح، فهذا الفاصل طويلٌ، فلا يصح معه الطواف، ويلزمه أن يعيد الطواف من جديد؛ ولذلك فإما أن يجعل الطواف بعد صلاة التراويح أو يجعله قبل صلاة التراويح؛ لكن أن يطوف بعض الأشواط، ثم يصلي صلاة التراويح، ثم يريد أن يُكمِل؛ ليس له ذلك، لأنه فاصلٌ طويلٌ.
قال:
صلى وبَنَى من الحجر الأسود.
يعني: يعيد الشوط ويستأنفه من جديد من الحجر الأسود.
وقال بعض أهل العلم إنه يُكمِله من المكان الذي وقف عنده، ولا يلزمه أن يعيد الطواف من جديد؛ وهذا هو الأقرب -والله أعلم-، يعني مثلًا: أُقيمت الصلاةُ وأنت في منتصف الشوط الثالث، صليتَ صلاةَ الفريضة، وبعدما صليتَ صلاة الفريضة هل يلزمك أن ترجع للحجر الأسود وتعيد الشوط الثالث من جديد، أو تكمل من حيث وقفتَ؟ هذا محل خلاف؛ والقول الراجح أنك تكمل من حيث وقفتَ.
سنن الطواف
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن سنن الطواف؛ فقال:
استلام الركن اليماني بيده اليمنى
وسننه: استلام الركن اليماني بيده اليمنى.
سبق أن تكلمنا عن هذه المسألة وقلنا: إن الركن اليماني ليس فيه إلا سنة واحدة؛ وهي الاستلام من غير تقبيل.
استلام الحجر الأسود وتقبيله
وكذا الحجر الأسود وتقبيله.
الحجر الأسود فيه ثلاث سنن:
- السنة الأولى: استلامه وتقبيله والسجود عليه؛ وذلك بأن يضع جبهته وأنفه عليه.
- السنة الثانية: الإشارة إليه بعصا ونحوها، ويُقبِّل ما أشار به عليه.
- السنة الثالثة: أن يشير إليه بيده ويُكبِّر، وهذه هي التي يستطيعها أكثر الناس؛ لأن استلامه وتقبيله في الوقت الحاضر لا يستطيعه أكثر الناس، ويعني في هذه الظروف -ظروف جائحة كورونا- لا يتمكن الآن الطائف من أن يُقبِّل الحجر الأسود؛ لأجل ظروف هذه الجائحة -التي نسأل الله تعالى أن يرفعها-.
ففي الظروف المعتادة ينبغي للمسلم -على الأقل ولو مرة واحدة في عمره- أن يقبل الحجر الأسود؛ لأنه ورد في ذلك بعض الأحاديث، ومنها حديث: واللهِ، ليبعثنَّه اللهُ يوم القيامة له عينان يُبصِر بهما ولسان ينطق به، ويشهد على مَن استلمه بحق[59]، يشهد له يوم القيامة.
أما تقبيل الحجر الأسود في غير الطواف فلا يُشرَع؛ يعني: إنسان أتى للمسجد الحرام، وذهب مباشرةً يريد أن يُقبِّل الحجر الأسود من غير طوافٍ؛ فلا يُشرَع، فهو مرتبط بالطواف.
الدعاء والذكر
قال:
والدعاء والذكر.
يعني: الدعاء والذكر أثناء الطواف من سنن الطواف، ولو طاف وهو صامتٌ صحَّ طوافه.
الدُّنُوُّ من البيت
والدُّنُوُّ من البيت.
كلما دنا من البيت كان أفضل.
وأيضًا من سنن الطواف: الاضطباعُ والرَّمَلُ، وسبق أن تكلمنا عنهما، لكن هنا مسألة: إذا لم يتيسَّر الجمع بين الرَّمَل والدُّنُوّ من البيت؛ فأيُّهما أفضل؟
نرجع للقاعدة؛ القاعدة: “أن المحافظة على الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أَوْلى من المحافظة على الفضيلة المتعلقة بمكانها”؛ وعلى ذلك، فالرَّمَل متعلق بذات الطواف، وهو أفضل من الدُّنُوّ من البيت؛ يعني من الدُّنُوّ من الكعبة.
الركعتان بعده
والركعتان بعده.
يعني: بعد الطواف والسنن؛ يقرأ فيهما بسورتي “الكافرون” و”الإخلاص”. والحكمة من تخفيف هاتين الركعتين: حتى يترك المجال لغيره -إن تيسر- أن يصلي خلف المقام، وإلا ففي أيِّ مكان من الحرم. وبعدما يصلي الركعتين؛ فإن تيسَّر أن يرجع ويستلم الحجر الأسود ويُقبِّله فهذا هو الأفضل. وكما ذكرنا: مع ظروف جائحة كورونا؛ فهذا غير ممكن في الوقت الحاضر.
شروط صحة السعي
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن:
شروط صحة السعي.
قال:
ثمانية.
وهذا عُلِم بالاستقراء.
الأول والثاني والثالث:
النية، والإسلام، والعقل.
وهذه شروط لصحة جميع العبادات.
والموالاة.
والكلام عنه كالكلام عن الموالاة في الطواف تمامًا.
والمَشْيُ مع القدرة.
وأيضًا الكلام عن هذا الشرط كالكلام عن المشي مع القدرة في الطواف، وتكلَّمنا عنه وذكرنا الخلاف في ذلك.
وكونه بعد طوافٍ -ولو مسنونًا- كطواف القدوم.
انتبِه لهذا الشرط؛ يعني يُشترط لصحة السعي أن يسبقه طوافٌ مشروعٌ -ولو كان هذا الطواف طوافًا مسنونًا كطواف القدوم-؛ فلو أنه سعى ولم يسبق هذا السعيَ طوافٌ لم يصح سَعْيُه.
وعلى هذا؛ فمَن يَقْدُم قارنًا أو مُفرِدًا، ثم يذهب إلى مِنًى مباشرةً، ويسأل: هل يجوز أن يُقدِّم السعي على الطواف؟ نقول: لا يجوز؛ لأنه يُشترط لصحة السعي أن يسبقه طوافٌ مشروعٌ.
وتكميل السبع.
أي: لا بُدَّ من أن يُكمِل سبعة أشواط بين الصفا والمروة، فلو أنه سعى ستة أشواط لم يصح سَعْيُه.
واستيعاب ما بين الصفا والمروة.
وهذا شرطٌ من شروط صحة السعي؛ لا بُدَّ من أن يستوعب ما بين الصفا والمروة، أما صعود الصفا والمروة فمستحب وليس واجبًا.
وإذا بدأ بالمروة لم يُعْتَدَّ بذلك الشوط.
وهذا يحصل من بعض الناس ممَّن يأتي للحرم، خاصةً مَن يأتي للحرم أول مرة، فربما أنه لا يضبط الصفا من المروة، فيبدأ بالمروة قبل الصفا؛ فالشوط الأول يُعتبر لاغيًا ولا يُعْتَدّ به، الشوط الأول إذا بدأ به من المروة فيُعتبر لاغيًا، ولا بُدَّ من أن يبدأ الشوط الأول من الصفا، فإن بدأ به من المروة فالشوط هذا يُعتبر لاغيًا.
طيب، المَسعى؛ هل يُعتبر من المسجد الحرام أو يُعتبر خارجًا عن المسجد الحرام؟
كان المَسعى مفصولًا عن المسجد الحرام، وبينه وبين المسجد الحرام بيوت ودكاكين، وكان مَن يخرج له يخرج من المسجد الحرام ويأتي للمَسعى؛ ولهذا تجد في كتب الفقه: “أتى للصفا من بابه”.
لكن في الآونة الأخيرة -قبل تقريبًا ستين عامًا أو تزيد- أُزيلت هذه المباني التي ما بين المَسعى والمسجد الحرام؛ فأصبح المَسعى متصلًا بالمسجد الحرام.
فهل المَسعى يُعتبر الآن جزءًا من المسجد الحرام أو خارجًا عنه؟
بُحِثَت هذه المسألة في المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي، وقرَّر المجمع -بالأكثرية- أن المَسعى خارج المسجد الحرام، وأنه مَشْعَرٌ مستقل؛ وهذا هو الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة.
طيب، هنا مسألة كَثُر الكلام عنها في السنوات الأخيرة مع توسعة المَسعى: هل المَسعى الجديد يجوز السعي فيه؟
نقول: لا بأس، هو يُعتبر جزءًا من المَسعى؛ لأن الذي يظهر من سياق الأحاديث ومن كلام العرب أن الصفا والمروة جبلان كبيران؛ ولهذا جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لما نزل قولُ الله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] نادى النبيُّ عليه الصلاة والسلام الناسَ فاجتمعوا؛ فقال: أرأيتكم إن أخبرتكم أن خيلًا تخرج من سَفْح هذا الجبل؛ أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟، قالوا: ما جرَّبنا عليك كذبًا، قال: فإني نذيرٌ لكم بين يَدَيْ عذاب شديد، قال أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا جَمَعْتَنا؟! فأنزل اللهُ قوله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1][60].
الشاهدُ من هذه القصة قولُ النبي عليه الصلاة والسلام: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلًا تخرج من سَفْح هذا الجبل…؛ فهذا دليلٌ على اتساعه وأنه كبير، لأن فيه خيلًا وجيشًا كاملًا لا يمكن أن يكون على هذا الجزء الصغير الذي نراه الآن في حدود المَسعى القديم.
ثم أيضًا أشعار العرب تدل لهذا، وأيضا الشيخ عبدالله بن جبرين رحمه الله شاهَد -عَيَانًا- وَصْفَ جبلِ الصفا لمَّا حجَّ سنة (1369هـ)؛ وقال: إنه وجده مُتَّسِعًا.
فهذا كله يدل على اتساع جبل الصفا والمروة؛ فالأقرب -والله أعلم- اتساع جبلَي الصفا والمروة، وعلى هذا فلا حرج من السعي في المَسعى الجديد.
سنن السعي
طيب، ثم انتقل المؤلف للكلام عن سنن السعي؛ فقال:
وسُنَنه: الطهارة.
يعني: الطهارة للسعي مستحبة وليست واجبة، بخلاف الطواف؛ ولذلك لو أن رجلًا طاف على طهارة ثم لمَّا أتى المَسعى أحدَثَ وسعى على غير طهارةٍ؛ فسَعْيُه صحيح. ولو أن امرأةً طافت وهي طاهرة، ثم بعد الطواف أتاها الحيض فَسَعَت وهي حائض؛ فسَعْيُها صحيح.
فإذَن؛ الطهارة للسعي ليست شرطًا ولا واجبةً وإنما هي مستحبة.
وستر العورة.
نقول بأن ستر العورة في السعي مستحب وليس واجبًا.
مُشكِلٌ لو سعى إنسانٌ وقد انكشفت عورته، فهذا فيه إشكال، وإن كان ظاهرُ كلام أهل العلم أنه ليس شرطًا، لكن يجب على المسلم إذا سعى أن يستر عورته؛ لأنه عادةً يكون حوله ناس.
والموالاة بينه وبين الطواف.
يعني: الموالاة ما بين السعي والطواف؛ هذا مستحب، ولو طاف أول النهار وسعى آخر النهار صحَّ، بل لو طاف اليوم وسعى غدًا صحَّ.
طيب، قال المؤلف:
وسُنَّ أن يشرب من ماء زمزم لِمَا أحبَّ.
ماء زمزم ماءٌ مبارك، وآيةٌ من آيات الله ، وقصةُ نبع ماء زمزم معروفة؛ فمن وقت إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام -يعني: لأكثر من خمسة آلاف سنة- وهذا الماء المبارك بقاؤه إلى الآن، وهو يُسحَب منه بالمكائن العظيمة ومع ذلك لم ينفد؛ هذا أيضًا آيةٌ من آيات الله .
ومَن قال بأنه مُلوَّث فهذا غير صحيح، هذا من كلام أعداء الإسلام لتشويه هذا الماء، وقد أُجريت عليه تجاربُ فتبيَّن أنه لم يتلوث قط.
وقد وَرَد في ذلك الحديثُ: ماءُ زمزمَ لِمَا شُرِب له[61]، وصنَّف فيه الحافظ ابن حجر رسالةً. يعني إذا شربتَ ماءَ زمزم لأيِّ أمرٍ تُريده؛ يتحقق لك -بإذن الله-، بشرط أنك عندما تشرب ماء زمزم تشربه بيقينٍ ولستَ مُجَرِّبًا؛ فبعض الناس يقول: أجرب. لا، إن تجرب فلا ينفع، لا بُدَّ من أن تشربه بيقين.
ولهذا ذُكِرَت في هذا قصصٌ عن بعض السلف:
فذُكِر عن الإمام الشافعي أنه شربه لإصابةِ الرمي؛ فكان لا يكاد يخطئ الرمي.
وشربه أبو عبدالله الحاكم لحُسن التصنيف؛ فكان من أحسن أهل زمانه تصنيفًا.
قال الحافظ ابن حجر: وأنا شربتُه مرةً وسألتُ اللهَ -وأنا حينئذٍ في بداية طلب العلم- أن يرزقني حالةَ الذهبي في حفظ الحديث، ثم حَجَجْتُ بعد مدة -تقرب من عشرين عامًا- وأنا أجد من نفسي المزيد على تلك المرتبة، فسألتُه رتبةً أعلى منها؛ فأرجو أن أنال ذلك.
وقال ابن القيم: وقد جرَّبتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبة، واستشفيتُ به من عدة أمراض فَبَرِئْت -بإذن الله -، وشربه أناسٌ كان بهم أمراض مستعصية فشفاهم الله ؛ فماء زمزم لِمَا شُرِب له.
قال:
ويَرُشُّ على بدنِه وثوبِه.
وقد ورد في ذلك آثارٌ لكنها كلها ضعيفة؛ يعني: ورد أن مَن رشَّ على رأسه ماءً لم تُصِبْه ذِلَّةٌ قط[62]. وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: “آيةُ ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلَّعون من زمزم”[63] أخرجه ابن ماجه، لكنه حديثٌ ضعيفٌ. و”التضلُّع” معناه: أن يشرب منه وهو غير عطشان حتى يمتلئ بطنه.
ويقول.
يعني: حينما يشرب ماء زمزم.
باسم الله، اللهم اجعله لنا عِلمًا نافعًا، ورِزقًا واسعًا، ورِيًّا وشِبَعًا، وشِفاءً من كلِّ داء، واغسل به قلبي واملأه من خشيتك.
هذا ليس عليه دليلٌ؛ فيدعو بما تيسَّر بما يَحْضُره من خيرَي الدنيا والآخرة.
الوقوف بالمُلْتَزَم
طيب، هنا أمرٌ لم يذكره المؤلف؛ وهو: الوقوف بالمُلْتَزَم.
“المُلْتَزَم” هو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، ويُسمى “المُدَّعَى”، ويُسمى “المُتَعَوَّذ”، ويُسمى “الحَطِيم” أيضًا.
وصفتُه: أن يُلصِق المُلْتَزِم خَدَّه وصَدْرَه بالمُلْتَزَم ويديه هكذا، ويدعو الله [64]، وهذا قد رُوي عن بعض التابعين.
وقيل إن الصفة أن يضع المُلْتَزِم يَدَه فقط على الكعبة هكذا، ثم يدعو[65]؛ وهذا ثابتٌ عن مجاهد بن جبر -الراوي لجميع آثار الصحابة في المُلْتَزَم-، فهو قد روى جميع الآثار عن الصحابة في المُلْتَزَم، ومع ذلك فمجاهِدٌ كان يضع يده فقط.
وظاهر الآثار المنقولة عن الصحابة أنهم ما كانوا يُلصِقون أيديهم ولا صدورهم بالكعبة، وإنما يقفون عند هذا المكان الذي ما بين باب الكعبة والحجر الأسود ويدعون الله . هذا هو المنقول عن الصحابة كابن عباس رضي الله عنهما[66].
وعلى هذا؛ فالأقرب -والله أعلم- أنَّ مَن ذهب للمُلْتَزَم؛ يقف عند المُلْتَزَمِ ويدعو الله ، يدعو الله تعالى رافعًا يديه مُستقبِلَ الكعبة، من غير حاجة إلى أن يُلصِق صدره ولا وجهه ولا خدَّه، وإنْ وَضَعَ يده فلا بأس -كما فَعَلَ مجاهدٌ-، لكن المنقول عن الصحابة أنهم يقفون بهذا المكان من غير إلصاق، هذا هو الأقرب -والله أعلم-؛ فتأتي لهذا المكان ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، وتقف عنده مُستقبِلَ الكعبة وتدعو الله .
فالدعاء في هذا الموطن حَرِيٌّ بالإجابة؛ يقال إن هذا المكانَ مكانُ إجابةِ الدعاء، وقد رُوي فيه آثارٌ عن بعض السلف، وعن بعض المعاصرين أيضًا؛ أنهم دَعَوُا اللهَ تعالى بدعواتٍ تبيَّنوا إجابتَها:
رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دعا الله تعالى بدعوةٍ تبيَّن له إجابتَها[67]، وكذلك رُوي عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب أنه دعا فيه بدعوةٍ، ورُوي عن عبدالرحمن بن حسن أنه دعا بدعوةٍ تبيَّن إجابتَها، ورُوي عن شيخ المشايخ محمد بن إبراهيم أنه دعا الله تعالى بدعوة فتبيَّن إجابتَها، ورُوي أيضًا عن الشيخ عبدالرحمن بن قاسم، ورُوي عن عددٍ كثير من الصالحين أنهم دَعَوُا اللهَ تعالى في هذا الموطن بدعوات تبيَّن لهم إجابتَها؛ رحمة الله تعالى على الجميع.
فهذا الموطن من المواطن التي يُستجاب فيها الدعاء غالبًا -والله تعالى أعلم-.
زيارة قبر النبيِّ وقبر صاحبَيْه رضوان الله عليهما
طيب، نختم هذا الباب والدرس.
قال المصنف:
وسُنَّ زيارةُ قبر النبيِّ وقبر صاحبَيْه رضوان الله عليهما.
تُسَن زيارةُ قبورهم لعموم الأدلة؛ ومنها قول النبي عليه الصلاة والسلام: كنتُ نَهَيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها[68]. فتُسَن زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وقبر صاحبَيْه، لكن شَدّ الرَّحْل لقبر النبي عليه الصلاة والسلام هذا لا يجوز؛ لعموم قول النبي : لا تُشَدُّ الرِّحَال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى[69].
والمقصود بالنهي عن شَدِّ الرِّحَال؛ يعني: شَدّ الرَّحْل لأجل تعظيم البقعة، أما شدُّ الرَّحْل لغير تعظيم البقعة كالتعزية مثلًا فلا بأس، أو للصلاة على الميت فلا بأس. وإنما المَنْهيُّ عنه شدُّ الرَّحْل لأجل تعظيم البُقَع، والذي يَشُدُّ الرَّحْل لأجل زيارة قبر النبي يقصد بذلك تعظيمَ القبر؛ فهذا لا يجوز، وإنما إذا أراد أن يذهب للمدينة يَشُدُّ الرَّحْل لأجل زيارة مسجد النبي وليس لأجل زيارة القبر، ثم إذا وصل إلى المدينة يُستحب له أن يزور قبر النبي وقبر صاحبَيْه.
قال:
وتُستحبُّ الصلاة بمسجده ، وهي بألف صلاةٍ، وفي المسجد الحرام بمئة ألف، وفي المسجد الأقصى بخمسمئة.
وهذا قد رُوي فيه حديثٌ عن النبي ، لكن الأقرب وقفه على ابن الزبير رضي الله عنهما، لكن جاء في صحيح مسلم أن النبيَّ قال: صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه، إلا المسجد الحرام[70]؛ وهذا دليلٌ على أن الصلاة في المسجد النبوي تعدل ألفَ صلاةٍ فيما سواه، وأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاةٍ، وهذا يدل على فضل الصلاة في هذين المسجدين. وكذلك المسجد الأقصى؛ فورد أن الصلاة فيه تعدل خمسمئة صلاة، لكن الحديث المَرْوي في ذلك في سنده مقالٌ.
ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند: باب الفوات والإحصار.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
الآن نجيب عمَّا تيسر من الأسئلة:
س: لو قدَّم السعيَ بين الصفا والمروة على الطواف بالعمرة جهلًا أو نسيانًا؛ هل تصح؟
ج: لا تصح؛ لا يصح تقديم السعي على الطواف في العمرة، ولا تقديم السعي ولم يسبقه طواف مشروع، فلا بُدَّ من أن يسبق السَّعْيَ طوافٌ مشروعٌ، فلو قدَّمه لم يصح ذلك، حتى ولو كان ذلك جهلًا.
س: هل يُشرَع الوقوف أثناء الإشارة للحجر الأسود، أو يشير وهو ماشٍ؟
ج: عند الإشارة للحجر الأسود يشير بيده اليمنى فقط، وبعض الناس يشير باليدين هكذا، هذا خلاف السنة؛ السنة أن يشير بيده اليمنى هكذا، قائلًا: “الله أكبر” من غير زيادة “باسم الله”، يقول: “الله أكبر” مرةً واحدةً، ومعنى ذلك أنه لن يتوقف إلا ثوانيَ فقط ليستقبل الحجر ويقول: “الله أكبر”.
أما بعض الناس فتجد أنه يتوقف ويُعيق الطائفين، وربما رفع يديه الثِّنتَيْن هكذا: “الله أكبر” ويكررها، هذا خلاف السنة؛ فالسنة مرة واحدة، إذا حاذَيْتَ الحجر الأسود تقول: “الله أكبر” مرة واحدة، يتوجه للحجر ويستقبل الحجر ويقول: “الله أكبر”.
س: هل تُشرَع التسمية عند الإشارة للحجر الأسود أو يُكتفَى بالتكبير؟
ج: يُكتفَى بالتكبير، “باسم الله” لم ترد، إنما الذي ورد التكبيرُ فقط، يقول كلما حاذى الحجر: “الله أكبر”.
س: كيف نَرُدُّ على مَن يستدل بقول الله تعالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13] للتعرف بين الرجال والنساء عبر مواقع التواصل؟
ج: هذا استدلال في غير محله؛ هذا استدلالٌ بحقٍّ أُرِيدَ به باطلٌ، فالرجل ليس له أن يتواصل مع المرأة الأجنبية ويتعرَّف بها إلا لسبب مشروع؛ إما مثلًا لخطبةٍ بأن يخطبها ويتزوجها، أو مثلًا يتواصل معها لحاجة مثلًا من الحوائج. أما التعرف لغير سبب مشروع فهذا يُفضِي إلى أمور لا تُحمَد عُقْباها، فنظرةٌ ثم ابتسامةٌ ثم موعدٌ ثم لقاءٌ، وكثير من الأمور المحرمة أولَ ما تحصل بمثل هذا التعرف، ثم بعد ذلك بالمخالَطة، ثم يصل ذلك إلى أمور لا تُحمَد عُقْباها؛ فالإنسان عندما يتواصل مع امرأة فلا بُدَّ من أن يكون ذلك لسببٍ مشروعٍ، وبقدر الحاجة.
س: بعض المنصات الخيرية تستقطع يوميًّا هللات؛ هل يكفي عن الصدقة اليومية؟
ج: هي جزءٌ من الصدقة، لكن إن تيسَّر لك أن تتصدَّق بأكثر من ذلك فهو أفضل؛ وينبغي للمسلم أن يحرص على الإكثار من الصدقة، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه: ما مِن يوم يُصبح العبادُ فيه إلا وينزل ملكان من السماء؛ يقول أحدهما: اللهم أَعْطِ مُنفِقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أَعْطِ مُمسِكًا تلفًا[71]؛ فينبغي لك ألَّا يمر عليك يومٌ إلا تصدَّقت فيه لله بصدقةٍ -ولو بمبلغٍ يسيرٍ-؛ حتى تدخل في دعوة المَلَك بأن يُخلِفَ اللهُ عليك.
س: أريد أن أشتري سيارة من شخص، لكن البنك هو الذي سوف يشتريها لي من هذا الشخص، ثم يبيعها لي البنك بسعرٍ أعلى على أقساط لمدة سبع سنين، ثم بعد أن يبيعها لي البنك أودُّ بيعها لأنتفع بثمنها لإكمال بيتي ثم الزواج.
ج: لا بأس بذلك؛ فتطلب من البنك أن يشتري لك سيارة من فلان من الناس، البنك يشتريها ويتملَّكها، ثم يبيعها لك مُقسَّطة، ثم أنت تتسلَّم هذه السيارة وتبيعها لطرف خارجي نقدًا لكي تستفيد من السيولة النقدية؛ هذه تُسمى المُرابَحة للآمر بالشراء، فلا بأس بها، لكن لا تشترِها من البنك حتى يتملَّكها، لا بُدَّ من أن البنك يشتريها من هذا الشخص ويتملَّكها ثم يبيعها لك، ثم بعد ذلك -بعدما تتسلَّمها أنت- فأنت حُرٌّ فيها؛ تريد أن تُبْقِيها عندك، أو تريد أن تبيعها بنقدٍ، أنت حُرٌّ فيها، فهذه كلها بُيُوعاتٌ؛ والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].
س: بعض الناس لا يتمكَّنون من صيامِ ثلاثةِ أيامٍ كلَّ شهرٍ إلا يوم الجمعة بسبب العمل؛ هل يجوز لهم ذلك؟
ج: أولًا: صيام ثلاثة أيام من كل شهر سُنة، وقد أوصى به النبيُّ عددًا من الصحابة ؛ أوصى به أبا ذرٍّ [72]، وأوصى به أبا هريرة [73]، وأوصى به عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما[74]، وبيَّن في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن صيام ثلاثة أيام من الشهر تعدل صيامَ الشهر؛ لأن الحسنة بعَشْر أمثالها -ثلاثةٌ في عشَرةٍ يعني: ثلاثين-، فالذي يصوم ثلاثة أيام من كل شهر كأنما صام السَّنَةَ كلَّها.
فلذلك؛ السُّنةُ صيامُ ثلاثةِ أيامٍ من كل شهر، ولا يلزم أن تكون أيام البيض؛ فبعض الناس يصوم كلَّ “إثنين”، مثلًا: الإثنين الأول، الإثنين الثاني، الإثنين الثالث؛ هذه ثلاثة أيام كلَّ شهرٍ، فيجمع بين فضل صيام ثلاثة أيام وبين فضل صيام الإثنين. وبعض الناس يجعل صيام ثلاثة أيام في أيام البيض؛ فالمهم أن تصوم ثلاثة أيام، هذه هي السُّنة.
ثانيًا: الأخ السائل يقول: إنه لا يتمكَّن من الصيام إلا يوم الجمعة بسبب العمل.
نقول: لا بأس بذلك، ولا يدخل هذا في النهي عن إفراد يوم الجمعة؛ لأنك لم تُفرِدها لأجل فضيلتها، إنما أفرَدتَّها بسبب ظروف العمل عندك؛ فلا بأس بذلك -إن شاء الله تعالى-.
س: هل أقول في دعائي كما قال إبراهيم : ربِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40] أو بدون “مِن”؟
ج: لا، لا بُدَّ من أن تقول “مِن”؛ لأنك لا تضمن أن تكون جميعُ ذريتك من الصالحين، فما تدري؛ ولذلك تقول كما قال إبراهيم : رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي، لكن إذا أردتَّ أن تدعو لأولادك ففَرِّقْ بين الذُّرِّيَّة وبين الأولاد؛ تقول: “اللهم اجعل أولادي مُقيمِي الصلاة”، لكن إذا أردتَّ الذُّرِّيَّةَ -الذُّرِّيَّة يدخل فيها الأحفادُ وأحفادُ الأحفاد- فتقول كما قال إبراهيم : وَمِن ذُرِّيَّتِي.
س: ما حُكم مَن يرفع يديه للتكبير عند السجود؟
ج: هذا غير مشروع؛ ولذلك جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: وكان لا يفعل ذلك عند السجود[75]؛ يعني لا يرفع يديه عند السجود، وإنما ورد رَفْعُ اليدين في الصلاة في أربعة مواضع فقط: (عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول)، وما عدا هذه المواضع الأربعة فلا يُشرَع فيها رفع اليدين.
س: هل الالتفات سهوًا في الصلاة يُبطلها؟
ج: لا يُبطلها، بل حتى الالتفات عمدًا لحاجة لا بأس به؛ مثلًا: امرأة صاح طفلها، فالتفتَتْ تريد أن ترى هذا الطفل؛ يعني تريد معرفة سبب صياحه، فلا بأس، الالتفات لحاجة لا بأس به. إنما الالتفات لغير حاجة غايةُ ما فيه أنه مكروهٌ ولا يُبطل الصلاة، لكن الالتفات لحاجة لا بأس به، ومن باب أَوْلى أن الالتفات سهوًا أنه لا يُبطل الصلاة.
س: هل يحلق الحاجُّ يوم النحر إذا أراد أن يضحي؟
ج: الحاجُّ يوم العيد إذا رمى جمرة العقبة، فإنه يُشرَع له أن يحلق رأسه أو يُقصِّر، ومثل ذلك أيضًا المرأة بالنسبة للتقصير، هذا نُسُك، فلا يُمنع منه الحاج ولو كان يريد أن يضحي، فلا بأس أن يحلق رأسه ولو لم تُذبح أضحيته. لكن بقية الشعور ما عدا شعر الرأس، وكذلك تقليم الأظافر؛ ينتظر حتى تُذبح أضحيته، فمثلًا: إذا أراد أن يقص من شاربه أو يُقلِّم أظفاره؛ فهنا ينتظر حتى تذبح أضحيته. أما بالنسبة لحلق الرأس أو التقصير فهذا نُسُك، وهذا يفعله الحاج ولو لم تُذبح أضحيته.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أحمد: 27367، وابن خزيمة: 2764، والطبراني في “الكبير”: 572. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 1297. |
^3 | رواه البخاري: 1790، ومسلم: 1277. |
^4 | رواه أحمد: 18300، وأبو داود: 1950، والترمذي: 891. |
^5 | رواه البخاري: 1676 – 1681، ومسلم: 1290. |
^6 | رواه ابن أبي شيبة: 14282. |
^7, ^8, ^9, ^11, ^12, ^13, ^14, ^25, ^26, ^30, ^32, ^34, ^40, ^45, ^53, ^54, ^58 | سبق تخريجه. |
^10 | رواه مسلم: 1218. |
^15 | رواه البخاري: 1634، ومسلم: 1315. |
^16 | رواه ابن ماجه: 3029، وابن حبان: 5470. |
^17 | رواه أحمد: 24351، وأبو داود: 1888، والدارمي: 1895. |
^18 | رواه البخاري: 1751، ومسلم: 1296. |
^19 | رواه أحمد: 14435، وأبو داود: 1971، والترمذي: 894. |
^20 | رواه البخاري: 1746. |
^21 | رواه أبو داود: 1976، والترمذي: 954، والنسائي: 3068. |
^22 | رواه أبو داود: 1975، والترمذي: 955. |
^23 | رواه البخاري: 1728، ومسلم: 1302. |
^24 | رواه البخاري: 1691، ومسلم: 1227. |
^27 | رواه مسلم: 1327. |
^28 | رواه البخاري: 1755، ومسلم: 1328. |
^29 | رواه البخاري: 305، ومسلم: 1211. |
^31 | رواه مسلم: 1211. |
^33 | رواه البخاري: 1602، ومسلم: 1266. |
^35 | رواه أحمد: 3512، وأبو داود: 1889. |
^36 | رواه أحمد: 2782. |
^37 | رواه أحمد: 4899. |
^38 | رواه أحمد: 3426، وأبو داود: 3878، والترمذي: 994، والنسائي: 5323، وابن ماجه: 3566. |
^39 | رواه البخاري: 3551. |
^41 | رواه النسائي: 2782. |
^42 | رواه البخاري: 1550، ومسلم: 1184. |
^43 | رواه الترمذي: 828، وابن ماجه: 2921. |
^44 | رواه ابن أبي شيبة: 15730، والطبراني في “الأوسط”: 6418، والبيهقي في “معرفة السنن”: 9564. |
^46, ^48 | رواه مسلم: 1184. |
^47 | رواه أبو داود الطيالسي في “المسند”: 231، والطبراني في “الكبير”: 350، والضياء في “المختارة”: 1111. |
^49 | رواه مالك: 188، والدارقطني: 2534، والبيهقي في “السنن”: 1733. |
^50 | رواه الترمذي: 2641، والطبراني في “الصغير”: 724، والحاكم: 444. |
^51 | رواه البخاري: 1622، ومسلم: 1347. |
^52 | رواه الترمذي: 960. |
^55 | رواه البخاري: 1757، ومسلم: 1211. |
^56 | رواه مسلم: 1264. |
^57 | رواه مسلم: 1273. |
^59 | رواه أحمد: 2796، والترمذي: 961. |
^60 | رواه البخاري: 4971، ومسلم: 208. |
^61 | رواه أحمد: 14849، وابن ماجه: 3062. |
^62 | ذكره الفاكهي في “أخبار مكة”: 1101. |
^63 | رواه ابن ماجه: 3061. |
^64 | رواه ابن ماجه: 2962. |
^65 | رواه ابن أبي شيبة: 9361. |
^66 | رواه الطبراني في “الكبير”: 11873. |
^67 | ذكره الضياء في “أحاديث مسلسلات”: 3 |
^68 | رواه مسلم: 1977. |
^69 | رواه البخاري: 1189، ومسلم: 1397. |
^70 | رواه البخاري: 1190، ومسلم: 1394. |
^71 | رواه البخاري: 1442، ومسلم: 1010. |
^72 | رواه أحمد: 21301، والترمذي: 761، وابن ماجه: 1708. |
^73 | رواه البخاري: 1178، ومسلم: 721. |
^74 | رواه البخاري: 1976، ومسلم: 1159. |
^75 | رواه البخاري: 736، ومسلم: 390. |