logo

(42) كتاب الحج- من قوله: “باب الفدية..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

حياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي، في هذا اليوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول، من عام ألف وأربعمائة وثلاثة وأربعين للهجرة.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، اللهم ارزقنا الفقه في الدين، ربنا زدنا علمًا، ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

الآن، ننتقل للتعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، كنا قد وصلنا إلى باب الفدية.

باب الفدية

قال المصنف رحمه الله:

باب: الفدية.

ثم عرَّفها، فقال:

وهي ما يجب بسبب الإحرام أو الحرم.

يعني: ما يجب بسبب الإحرام؛ بسبب التلبس بالإحرام والدخول في النسك، وهذا ظاهر، أو ما يجب بسبب الحرم؛ لكون مثلًا هذا الصيد في الحرم، هذا النبات في الحرم. وهذا سنتكلم عنه بالتفصيل.

أقسام الفدية

قال:

وهي.

أي: الفدية.

قسمان: قسم على التخيير، وقسم على الترتيب.

فقسم التخيير كفِدْية اللُّبْس، والطِّيب، وتغطية الرأس، وإزالة أكثر من شعرتين أو ظُفرين، والإمناء بنظرة، والمباشرة بغير إنزال مَنيٍّ.

هذه الأمور فديتها كلها على التخيير.

طيب، التخيير بين ماذا وماذا؟ قال:

يُخيَّر: بين ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين.

وهذه الفدية قد ورد ذِكرها في القرآن، في قول الله  في سورة البقرة: فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196].

وجاء تفسيرها في حديث كعب بن عُجْرة: بأن الصيام صيام ثلاثة أيام، وأن الصدقة إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك هو ذبح شاة[1]. فهو مُخيَّر بين هذه الأمور الثلاثة.

فمثلًا: إذا لبس مخيطًا، نقول: عليك فدية: إما أن تذبح شاة، أو تصوم ثلاثة أيام، أو تُطعم ستة مساكين. تطيَّبَ، غطَّى رأسه، أزال الشعر.

والمؤلف هنا قال: (أكثر من شعرتين أو ظفرين)، وتكلمنا عن هذه المسألة في الدرس السابق بالتفصيل، ورجحنا أن الشعر الذي تجب به الفدية هو ما يحصل به إماطة الأذى كما هو المذهب عند المالكية، وهكذا أيضًا لو استمنى بسببٍ من نفسه، بنظرة أو باشر بغير إنزال؛- فيكون عليه هذه الفدية على التخيير.

قدر الإطعام في الفدية

ثم تكلم المؤلف عن قدر الإطعام، نحن قلنا: إطعام ستة مساكين، طيب كم مقدار الإطعام؟

قال:

لكل مسكين مُدُّ بُرٍّ، أو نصفُ صاعٍ مِن غيره.

هذا هو المذهب عند الحنابلة، والمسألة فيها خلاف.

وفيها أقوال أخرى، ومِن أشهرها القولُ الثاني: أنَّ لكلِّ مسكينٍ نصفَ صاع، يعني: مُدَّين؛ لأن الصاع أربعة أمداد، فنصف صاع، يعني: مدين. وهذا هو القول الراجح.

المُدُّ: معناه مِلْء كَفَّيِ الإنسان مُعتدِلِ الخِلقة إذا مدَّهما. هذا هو المد. والصاع: قَدْر هذا أربع مرات، نصف الصاع قدره مرتين.

طيب، القول الراجح في هذه المسألة هو القول الثاني، وهو أن لكل مسكين نصفَ صاع؛ لأن هذا قد جاء منصوصًا عليه في حديث كعب، فإنه في قصة كعب قال عليه الصلاة والسلام: أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع[2]. وهذا اللفظ عند البخاري ومسلم: لكل مسكين نصف صاع، فهذه المسألة محددة بالنص.

قال المصنف رحمه الله:

ومن التخيير جزاءُ الصَّيد يُخيَّر فيه بين المِثل من النَّعَم، أو تقويم المِثل بمَحَلِّ التَّلَف ويَشتري بقيمته طعامًا، يُجزئ في الفِطرة، فيُطعم كلَّ مسكين مُدَّ بُرٍّ، أو نصفَ صاعٍ مِن غيره، أو يصوم عن طعامِ كلِّ مسكينٍ يومًا.

هنا، المؤلف تكلم عن جزاء الصيد، ثم تكلم في النصف الثاني عن الصيد الذي له مِثل؛ ولذلك نؤخر الكلام عن جزاء الصيد حتى نصل إلى كلام المؤلف عن الصيد الذي له مِثل. ولو أنَّ المؤلف جمع الكلام عن الصيد في موضع واحد؛ لكان هذا أحسن.

وكذلك أيضًا الفدية، كلام المؤلف عنها متفرق في عدة مواضع، مع أن صاحب “الدليل” مُعْتَنٍ بالترتيب، هو من أفضل فقهاء الحنابلة في الترتيب وفي التعليم، لكن سبحان الله! يبقى بشرًا، والناقد بصير.

وإن شاء الله تعالى، كما ذكرت لكم في درسٍ سابق، سأضع متنًا في أبواب الفقه، بعد هذا الكتاب إن شاء الله، ومع ذلك إذا وضعنا متنًا سيأتي من ينتقد، وربما أيضًا انتقَدْنا أنفسنا مرة أخرى.

يعني يبقى الإنسان بشرًا، كما قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء:82]، والإمام مالك يقول: ما منا إلا رادٌّ ومردودٌ عليه.

فكلام المؤلف هنا عن الصيد فرَّقه؛ ولذلك نؤخر الكلام عنه حتى نأتي إليه في موضعه إن شاء الله.

طيب قال المصنف رحمه الله:

وقِسم الترتيب كَدَمِ المُتعة والقِرَان.

القسم الثاني من أقسام الفدية: الفدية على الترتيب، وليست على التخيير، كدم المتعة والقران؛ لأن دمَ المتعة الواجبُ فيها هَدْيٌ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196]، هذا على سبيل الترتيب.

يعني: لا بد أولًا من الهدي، لكن من لم يجد الهدي هنا ينتقل للصيام، ليس له أن ينتقل إلى الصيام مع قدرته على الهدي. هذا معنى قوله: (على الترتيب).

وقوله: (كدم المتعة والقران)؛ المتعة: يعني المتمتع، المتمتع يجب عليه أن يذبح هَدْيًا، وكذلك القارن يجب عليه أن يذبح هديًا، الذي ليس عليه هَدْيٌ هو المُفرِد، ووجوب الدم على المتمتع جاء منصوصًا عليه بقول الله : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196].

والفقهاء قالوا: إن القارِنَ حُكْمُه حكم المتمتع في وجوب الهَدْي عليه.

أمثلة للفدية التي على الترتيب

قال:

وتَرْكِ الواجب.

هذا أيضًا مثال للفدية التي على الترتيب، لو تَرَك واجبًا؛ كأن ترك مثلًا الإحرام من الميقات، أو ترك مثلًا الرمي، أو ترك المبيت بمِنًى، ونحو ذلك؛ فعليه دم.

والإحصار.

إذا أحصر الحاج فعليه دم، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام. وهذا إن شاء الله سيأتي الكلام عنه بالتفصيل في باب الإحصار.

والوطء ونحوه.

أيضًا على الترتيب، وسيأتي الكلام بالتفصيل عن الآثار المترتبة على الوطء.

قال:

فيجب على متمتعٍ وقارِنٍ وتاركِ واجبٍ دمٌ.

يعني: يجب على هؤلاء كلهم دمٌ، والمقصود بالدم يعني: شاة تُذبح في الحرم وتُوزع على فقراء الحرم.

قال:

فإن عَدِمَه أو ثمنَه.

يعني: إن لم يجد دمًا يذبحه في الحرم، أو لم يجد ثمن الدم، طيب كيف ما يجد دمًا؟! نعم، قد يكون أحيانًا في بعض السنين ما يستطيع الإنسان أن يجد هديًا، وهذا حصل.

يعني: فيه ظروف مرت بها الأمة الإسلامية، يعني مثلًا لما أتى العُبَيْديون للحرم سنة ثلاثمائة وسبع عشرة للهجرة، وقتلوا الحجيج في يوم التروية، وحاصروهم، فهنا لم يحج إلا نفرٌ قليل، فمثل ذلك العام، قد لا يجد الحاجُّ الهَدْيَ.

أحيانًا تأتي ظروف قد لا يجد الهدي نفسه، أو أنه يجد الهدي لكنه يعجز عن الثمن، ففي كلتا الحالتين ينتقل للصيام، صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم.

قال:

صام ثلاثة أيام في الحج، والأفضل كون آخرها يوم عرفة.

يعني: السابع والثامن والتاسع.

والقول الثاني في المسألة: أن الأفضل أن يكون آخرها يوم التروية، يعني: السادس والسابع والثامن، حتى يكون يومَ عرفة مُفطِرًا.

وهذا هو القول الراجح؛ لأن النبيَّ نهى الحاجَّ عن أن يصوم بعرفة، وكان عليه الصلاة والسلام مُفطِرًا لم يَصُم، ولم يصم أصحابه معه[3].

فصيام الحاج في عرفة مكروه، فالأفضل أن يجعل الثلاثة الأيام في الحج: السادس والسابع والثامن.

حكم صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي

ويصح أيام التشريق.

يصح أن تكون الأيام الثلاثة التي في الحج في أيام التشريق، وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة؛ لحديث عائشة وابن عمر قال: لم يُرخِّص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لم يجد الهدي[4].

وسبعة إذا رجع إلى أهله.

يعني: يصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، إذا رجع إلى بلده، ولا يُشترط التتابع.

ويجب على مُحصَرٍ دمٌ.

هنا تكلم المؤلف عن الإحصار، مع أنه عقد له بابًا، باب الفوات والإحصار، وهنا الإحصار تكلم عنه عدة مرات، ولا نريد أن نكثر الانتقاد على المؤلف، لكن خاصة في كتاب الحج فيه تقطيع لبعض العبارات.

ولذلك؛ نحن سنجمع الكلام عنها في مكان واحد، لكن باعتبار أن المؤلف الآن تكلم عن الإحصار، نأخذ نبذة مختصرة عن الإحصار.

نبذة مختصرة عن الإحصار

إذا أحصر الإنسان من عدوٍّ أو من غير عدو، على القول الراجح فيجب عليه دمٌ يُذبح في المكان الذي أُحْصِر فيه؛ لأن النبي وأصحابه لما أُحْصِروا في الحديبية نحروا البُدْنَ وتَحَلَّلوا.

ولم يَذْكر المؤلِّفُ وجوبَ حَلْق الرأس، وإنما ذكر الدم فقط، جريًا على المذهب عند الحنابلة: أنه لا يجب حلق الرأس على المُحْصَر.

والقول الثاني في المسألة: أنه يجب على المُحْصَر أن يحلق رأسه، وهذا هو القول الراجح؛ لقول الله : وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، ففيه إشارة إلى أنه لا بد من الحلق.

وأيضًا هَدْي النبي عليه الصلاة والسلام بيَّن ذلك؛ فإنه لما أُحصِر هو وأصحابه في الحديبية أمرهم النبي أن يحلقوا رؤوسهم، فما قام منهم أحد، لم يقم منهم أحد، ليس عصيانًا للنبي عليه الصلاة والسلام، حاشا وكلا، ولكن كان الصحابة يَرْجُون أن يُنسَخ ذلك الحكم؛ لأنهم كانوا مُتلهِّفين للذهاب إلى مكة.

فأتى وَفْدُ قريش، وصالحوا النبيَّ عليه الصلاة والسلام صُلْح الحديبية المشهور، وكان في ظاهره أن فيه غضاضةً على المسلمين، وأنه في مصلحة قريش، والنبي عليه الصلاة والسلام قَبِلَ بهذا الصلح، وكان من أشد بنود الصلح: أن الصحابة لا يعتمرون ذلك العام ويرجعون.

هنا، النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم بأن يحلقوا رؤوسهم، فما قام منهم أحد؛ مِن شدة ما يجدون في نفوسهم؛ لأنهم كانوا يريدون أن يعتمروا مشتاقين ومتلهفين للبيت، فما قام منهم أحدٌ رَجاءَ النَّسْخ، وليس معصية لرسول الله .

فدخل النبيُّ على أم سلمة مغضبًا، فقالت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال ما لي آمُرُ أَمْرًا فلا يُمتثَل. فأم سلمة امرأة عاقلة ولبيبة، وعندها حكمة، عرفت السبب، عرفت أن الصحابة لم يقصدوا معصية النبي عليه الصلاة والسلام بهذا، وإنما كانوا يرجون النسخ.

فقالت: احلِقْ رأسك، فإذا حلقت رأسك سيحلقون رؤوسهم؛ لأنك إذا حلقت رأسك يئسوا من النسخ.

فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام برأيها، فحلق رأسه؛ فلما رأوا النبي عليه الصلاة والسلام حلق رأسه يئسوا من نسخ الحكم، فقاموا وحلقوا رؤوسهم.

يقول الراوي: جعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا[5]. يعني: وصلوا إلى هذه المرحلة، سبحان الله! ومع ذلك سمَّى اللهُ تعالى هذا الصلح فتحًا: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1].

سبحان الله! الإنسان أحيانًا قد يظن أن بعض الأمور فيها شر، وأن فيها غضاضة، ولكن الله تعالى يجعل فيها فتحًا مبينًا، ليس فتحًا فقط، بل مبينًا: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1].

المقصود بالفتح بإجماع المفسرين: أنه صلح الحديبية، وليس فتح مكة؛ لأن هذه الآية نزلت قبل فتح مكة.

فانظر! الصحابة يكاد يقتل بعضهم بعضًا من الغم؛ لمَّا قَبِلَ النبي عليه الصلاة والسلام الصُّلح، كيف نقبل الصلح؟ حتى إن عمر أتى النبي قال: يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى قال: فلِمَ نُعطي الدَّنِيَّة في ديننا؟ قال: إني رسول الله، وهو ناصري فقال أبو بكر: استمسِكْ بغَرْزه، فإنه على الحق[6].

سبحان الله! كل الصحابة حصل عندهم ما حصل، إلا رجل واحد عنده اليقين العظيم التام، وهو أبو بكر الصديق ، لم يحصل في نفسه شيء؛ لأن عنده يقينًا عظيمًا ؛ ولهذا أوصى عمرَ، يقول عمر: ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذٍ، كيف نفعل هذا ونحن على الحق وهم على الباطل؟!

ثم قال عمر: أيها الناس، اتَّهِموا الرأي في الدين. يعني لا يُعجَب الإنسان برأيه، قد يرى رأيًا ولا يكون صوابًا، قد تكون المُعطَيات كلها تدل على أنه الرأي الصواب، لكن في حقيقة الأمر أنه ليس بصواب، وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا.

لماذا كان صلح الحديبية فتحًا؟ لأنه أُمِّنت فيه الدعوة الإسلامية، وصار فيه حرية في الدعوة.

ولذلك؛ فالذين كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في الحديبية كانوا قرابة ألف وأربعمائة، وبعد سنتين فقط كانوا في فتح مكة أكثر من عشرة آلاف، يعني: كان معه ألف وأربعمائة، وبعد سنتين تضاعف عددهم إلى عشرة آلاف.

انتشر الإسلام، وأصبح للدعوة حرية، فانتشر الإسلام مع وجود هذه الحرية؛ ولذلك سماه الله تعالى فتحًا: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، ثم بعد سنتين -يعني: في السنة العاشرة- حجَّ مع النبي عليه الصلاة والسلام قرابة مائة ألف، فعرف الصحابة أنه بالفعل كان فتحًا.

وأيضًا من فوائد هذه القصة: أنه قد يوجد عند بعض النساء من الرأي السديد ما لا يوجد عند كثيرٍ من الرجال.

فهذه أم سلمة رضي الله عنها، أشارت على النبي بهذا الرأي السديد المُوفَّق، وعَمِل به وأخذ به، وكان هذا رأيًا حكيمًا، وحَلَق عليه الصلاة والسلام رأسَه، وحلق الصحابة رؤوسهم.

فكان هذا الرأي رأيًا سديدًا، جاء من امرأة، فكان دليلًا على أن بعض النساء عندهن من جودة الرأي ومن الحكمة ما لا يوجد عند كثير من الرجال.

حكم المُحصَر إذا عجز عن الدم

قال:

فإن لم يجد؛ صام عشرة أيام ثم حلَّ.

أي: أنَّ المُحصَر إذا لم يجد دمًا بأن عجز عن الدم، عن الشاة، أو عن ثمنها، فيصوم عشرة أيام، قياسًا على دم التمتع؛ لأنه دم واجب للإحرام، فكان له بدلٌ كدم التمتع.

ثم ذكر المؤلف ما الذي يجب بالوطء حال الإحرام؟ قال:

ويجب على مَن وَطئ في الحج قبل التحلل الأول، أو أنزل منيًّا، بمباشرة، أو استمناء، أو تقبيل، أو لمس بشهوة، أو تَكْرارِ نظرٍ؛ بَدَنةٌ.

ما يترتب على الوطء قبل التحلل الأول

الوطء في الإحرام هو أشد محظورات الإحرام، والوطء في الصيام هو أشد محظورات الصيام أيضًا، ففي الصيام يفسد الصوم، وتجب به كفارة مغلظة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.

الوطء حال الإحرام؛ إن كان قبل التحلل الأول فيترتب عليه خمسة أمور:

  • الأمر الأول: فساد النسك؛ لقضاء الصحابة بذلك، وحُكي إجماعًا.
  • ثانيًا: وجوب المضي فيه.
  • ثالثًا: وجوب القضاء مِن قابل.
  • رابعًا: الفدية، وهي بدنة؛ لآثار وردت عن الصحابة في هذا.
  • خامسًا: الإثم، ويترتب على ذلك وجوب التوبة.

إذن؛ يترتب على الوطء قبل التحلل الأول هذه الأمور الخمسة، احفظها: فساد النسك، وجوب المضي فيه، وجوب القضاء من قابل، بدنة، الإثم.

هذه المسألة ليس فيها أدلة صحيحة صريحة، لكن العمدة فيها على الآثار المروية عن الصحابة .

وأما قول المؤلف: (أو أنزل منيًّا بمباشرة أو استمناء أو تقبيل أو لمس بشهوة بتكرار نظر)، فهذه ألحقها المؤلف بالوطء، ألحق هذه الأمور بالوطء، فعلى رأي المؤلف أنه يجب بها بدنة.

ولكن هذا محل نظر؛ لأنه ليس هناك دليل ظاهر يدل لهذا، وقياسها على الوطء قياس مع الفارق؛ لأن الإنزال لا يشترك مع الوطء إلا في أمر واحد، وهو وجوب الغسل فقط، ويختلف معه في بقية الأحكام، فكيف يقاس عليه؟! والقياس إذا كان مع الفارق لم يكن قياسًا صحيحًا.

والأظهر -والله أعلم- أنه يجب بهذه الأمور -التي هي غير الوطء- ما يجب في سائر محظورات الإحرام، من صدقة أو صيام أو نسك.

قال:

فإن لم يجدها صام عشرة أيام: ثلاثةً في الحج، وسبعة إذا رجع.

فإن لم يجدها، يعني: فإن لم يجد البدنة، الضمير يرجع إلى البدنة، فإنه يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.

وفي العمرة إذا أفسدها قبل تمام السعي: شاة.

يعني: يجب عليه شاة إذا وقع هذا منه عن عمدٍ في العمرة، وأما عن جهل فالجمهور على أن الوطء يستوي فيه العمد والجهل والنسيان، والقول الراجح: أنه إذا كان عن جهل أو نسيان ليس عليه شيء.

حكم الوطء بعد التحلل الأول

طيب، المؤلف تكلم عن حكم الوطء قبل التحلل الأول في الحج، ولم يتكلم عن الوطء بعد التحلل الأول، مع أن عامة فقهاء الحنابلة يتكلمون عن هذه المسألة، ربما يكون المؤلف نسيها فنحن نشير إليها.

إذا كان الوطء بعد التحلل الأول، فيجب عليه دم، ولا يفسد به النسك على القول الراجح، ولكن المشهور من مذهب الحنابلة أنه يجب عليه أن يجدد الإحرام؛ وذلك بأن يَخرج إلى الحِل ويُحرم منه، يخرج مثلًا إلى التنعيم، يخرج إلى عرفة، ويجدد الإحرام.

قالوا: لأنه قد فسد ما تبقى من إحرامه، فوجب عليه أن يجدده.

يعني: ليس عندهم إلا هذا التعليل فقط، ولكن هذا تعليل عليل، والصواب: أنه ليس عليه شيء، ليس عليه أن يجدد إحرامه، وأن إحرامه باقٍ، وإنما الواجب عليه دم فقط، مع التوبة إلى الله مما قد حصل منه.

يعني بالنسبة للجِماع في الحج، سواء قبل التحلل الأول أو بعد التحلل الأول، أو أيضًا بالنسبة للصائم، يعني مثل هذه الأمور تحصل مع رِقة الديانة، وقلة الخوف من الله ، وإلا فكيف للمسلم الذي يعرف أن هذه الأمور مُحرَّمةٌ على الصائم وعلى المُحرِم ويُقدم عليها؟! ويعرف أنها أشد محظورات الإحرام.

وأكثر المستفتين عن هذه الأمور لا يجهلون الحكم، وإنما ربما بعضهم يجهل ما الذي يترتب، وهو يعرف أنه حرام، لكن يقول: ما الواجب عليَّ؟ ما الذي يترتب عليَّ؟

وفِعل هذا مع العلم بتحريمه وشدة تحريمه يدل على الاستهانة بحدود الله ، ورقة الديانة.

فعلى المسلم أن يتقي الله ، الله تعالى إذا حرَّم عليك أمرًا حرَّمه لحكمة، يعني: بالنسبة للصائم فقط فترة النهار والليل مُباح، الأمر مباح بالنسبة لك، بالنسبة للحاج وقت الإحرام فقط، فإذا تحللت التحلل الثاني فالأمر مباح.

فعلى الإنسان أن يرفع مخافة الله عنده، وألا يستهين بحدود الله سبحانه، وأن يرفع مستوى الصبر أيضًا، لا يكون الإنسان أيضًا عبدًا لشهواته، كلما طاوعت نفسه شيئًا وكُلَّما أرادت نفسه شيئًا طاوعها عليه.

فلا يكون الإنسان عبدًا لهواه، ولا يكون عبدًا لشهواته، وإنما يرفع مستوى نفسه فوق هذه الأمور، وقبل ذلك كله يراقب الله ، ويخاف الله .

أقول هذا، ونحن نرى بعض الاستفتاءات، سواء فيما يتعلق بالصيام، وهي الاستفتاءات الأكثر، أو فيما يتعلق بالحج، وإن كانت الأقل لكنها موجودة، يعني عامة مَن تَحصُل منهم هذه الأمور يكون عندهم استهتار بحدود الله ، يعني لا يقيمون لحدود الله تعالى وزنًا.

وأحيانًا، المرأة تكون هي السبب في هذا، هي التي تشجع الرجل على الوقوع في الأمر المُحرَّم؛ ولذلك فالمرأة في هذه الأحكام كالرجل تمامًا.

بم يحصل التحلل؟

نعود لعبارة المؤلف، قال:

والتحلل الأول يحصل باثنين من: رَمْيٍ، وحَلْق، وطواف. ويحل له كل شيء إلا النساء، والثاني يحصل بما بقي مع السعي إن لم يكن سَعَى قبلُ.

وهذا هو قول الجمهور: أن التحلل الأول يحصل بفعل اثنين من ثلاثة، وهي:

  • رمي جمرة العقبة.
  • والحلق أو التقصير.
  • وطواف الإفاضة.

إذا فعل اثنين منها فقد حلَّ التحلل الأول؛ بأن رمى وحلق، أو رمى وطاف، أو حلق وطاف، أو طاف ورمى.

إذا فعل اثنين من هذه الثلاثة حل التحلل الأول، معنى التحلل الأول: أنه يحل له كل شيء حَرُم عليه بالإحرام ما عدا وطء الزوجة.

الفقهاء يعبرون بقولهم: ما عدا النساء باعتبار أن هذا يعني معروف، وأن المقصود الزوجة.

ولكن الأدق في العبارة أن نقول: وطء الزوجة؛ لأننا إذا قلنا: النساء؛ يعني ربما يتوهم متوهم أن هذا عام في النساء، وإن كان هذا غير مقصود وغير مراد.

فالأدق في العبارة أن نقول: إلا وطء الزوجة، يكون هذا أدق في العبارة، وما يتعلق به.

إذا فعل هذه الأمور ثلاثة كلها مع السعي، فقد حل التحلل الثاني، وهو التحلل الكامل، حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، حتى وطء الزوجة.

وهنا المؤلف قال: (والثاني يحصل بما بقي مع السعي إن لم يكن سعى قبل)؛ يعني: هنا في البداية قال: التحلل الأول يحصل بفعل اثنين من ثلاثة، طيب التحلل الثاني يحصل بفعل الثلاثة، والمؤلف أضاف لها السعي.

والقول الثاني: أن التحلل الثاني أو الكامل يحصل بدون السعي، إذا فعل الثلاثة حل التحلل الكامل بدون السعي.

وقد حُكي اتفاق السلف على ذلك؛ لقول عائشة رضي الله عنها: «إذا رَمَى حل له كل شيء إلا النساء حتى يطوف بالبيت، فإذا طاف بالبيت حل له النساء». رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح[7].

ولعدم الدليل الدال على كون السعي مانعًا من التحلل الثاني، فهو كرمي الجمرات أيام التشريق، وكالمبيت بمِنًى، فما هو الدليل الذي يدل على أنه لا يحل التحلل الكامل إلا إذا سعى.

ولهذا؛ فالقول الراجح: أن التحلل الثاني لا يُشترط له السعي، خلافًا لكلام المؤلف، وكما ذكرت أنه حُكي اتفاق السلف على ذلك. هذه مسألة ليست مذكورة في “السلسبيل”، لعلنا نضيفها إن شاء الله في الطبعة القادمة، يعني وذُكر فقط رأي المؤلف.

والقول الثاني في المسألة: أنه يحصل التحلل الثاني، التحلل الكامل بدون السعي، وإنما بالأمور الثلاثة فقط: الرمي، والحلق أو التقصير، والطواف بدون السعي، وقلنا: إن هذا هو القول الراجح لعدم الدليل؛ وللأثر المروي عن عائشة رضي الله عنها في ذلك.

طيب، ذهب بعض العلماء إلى أن التحلل الأول يحصل برَمْي جمرة العقبة فقط، وليس بفعل اثنين من ثلاثة، وإنما برمي الجمرة فقط.

وسبب الخلاف في هذه المسألة هو الخلاف في ثبوت الرواية، فإنه قد ورد أن النبي قال: إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم الطِّيب والثياب وكل شيء إلا النساء[8]، وفي رواية: إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، فقد حل له كل شيء إلا النساء بدون زيادة: وحلقتم[9].

وهناك خلاف في ثبوت الرواية، ولا شك أن قول الجمهور هو الأحوط: أن التحلل إنما يحصل بفعل اثنين من ثلاثة.

ولكن، القول بأن التحلل الأول يحصل برمي جمرة العقبة قول قوي، خاصة أنه مؤيَّد بآثارٍ عن بعض الصحابة، فقد ورد أن التحلل الأول يحصل برمي الجمرة فقط، عن عمر وعائشة وابن عمر وابن الزبير، فهو مؤيد بآثار عن الصحابة.

ولهذا؛ فالذي أرى في هذه المسألة: أن يقال للناس ابتداءً: إن التحلل الأول يحصل بفعل اثنين من ثلاثة، ولكن لو قُدر أن أحدًا حل التحلل الأول بعد رمي جمرة العقبة، فلا نوجب عليه شيئًا، لا يترتب على ذلك أي شيء.

لأن القول بأن التحلل الأول يحصل برمي جمرة العقبة قول قوي، فهو من حيث الرواية ومن حيث الصناعة الحديثية هو الأقرب؛ لأن زيادة وحلقتم لم تثبت عند كثير من المحدثين.

ولأن القول بأن التحلل الأول يحصل برمي الجمرة فقط كما ذكرتُ مُؤيَّد بآثارٍ عن عدد من الصحابة.

فيمكن، نحتاج لهذا القول عندما تحصل مخالفة من بعض الحجاج، يكون قد حل التحلل الأول بعد الرمي فقط، فنقول: ليس عليك شيء.

لكن، عندما نوجه الحجاج ابتداءً نوجههم بالأحوط، وبقول الجمهور، ونقول لهم: إن التحلل الأول يحصل بفعل اثنين من ثلاثة.

وهذا من فقه الفتوى: أنك توجه الناس في البداية للأكمل والأفضل والاحتياط والأقرب للسنة، لكن عندما يحصل لأحدهم مخالفة، فإنك تفتيه بالقول الأقوى والأرجح من حيث الدليل، بحيث لا ترتب عليه شيئًا إلا بدليل.

ففرق بين الاستفتاء قبل حصول الشيء والاستفتاء بعد حصول الشيء، العلماء يفرقون في الفتوى بين هذا وذاك، فقبل حصول الشيء يشددون ويوجهون بالأحوط ويوجهون بالأكمل، لكن بعد حصول الشيء الأحوط هو عدم التشديد على المستفتي، وأن يؤخذ فقط بما دل عليه الدليل الصحيح الصريح.

طيب، ننتقل بعد ذلك للكلام على الصيد، ونحن وعدنا بأن نتكلم عنه بالتفصيل، والمؤلف خصص له فصلًا.

الصيد

قال المصنف رحمه الله:

فصل: والصيد الذي له مِثْلٌ مِن النَّعَم.

تعريف الصيد

سبق أن عرَّفنا الصيد لما تكلمنا عن محظورات الإحرام، عرَّفنا الصيد بأنه: “الحيوان الحلال البري المتوحش بأصل الخِلقة”.

هذا هو تعريفه: “الحيوان الحلال”، فإذا كان من الحيوانات المحرمة فهذا ليس صيدًا، يعني: مِثل الذئب والكلب والسباع، هذه ليست من الصيد في شيء.

“البري”، حيوانات البحر كلها ليست من الصيد.

“المتوحش بأصل الخلقة”، لا بد أن يكون متوحشًا، لكن بأصل خلقته وليس بالواقع، كالحمام مثلًا، الحمام هو متوحش بأصل الخلقة، لكنه في واقعنا المعاصر الآن أصبح مستأنسًا، فيعتبر صيدًا، يعني: العبرة بأصله.

لو أن بعيرًا نَدَّ، نفر وأصبح متوحشًا، أو بقرة أصبحت متوحشة، هل تعتبر صيدًا؟ الجواب: لا؛ لأنها بأصل الخلقة مستأنسة، وليست متوحشة.

فهذا هو تعريف الصيد عند أهل العلم.

أقسام الصيد

يقول المصنف رحمه الله: (الصيد الذي له مِثْل من النعم)، وقسَّم الصيد إلى قسمين:

  • قسم له مِثل من النعم، المقصود بها بهيمة الأنعام. وبهيمة الأنعام: هي الإبل والبقر والغنم. فالصيد الذي له مِثل يعني: له شبيه من النَّعَم، يعني من بهيمة الأنعام، هناك شيءٌ يُشبهه من الإبل أو البقر أو الغنم. فهذا هو الصيد الذي له مِثل من النعم.
  • والصيد الذي ليس له مثل هناك صيد ليس له مثل، ليس له شبيه من بهيمة الأنعام.

فالقسم الأول: وهو الصيد الذي له مِثل من النعم، يعني: له شبيه من بهيمة الأنعام، مَثَّل له المؤلف، فقال:

كالنَّعَامة، وفيها بَدَنةٌ.

النعامة من الصيد، إذا قتلها المحرم فالواجب مثلها من بهيمة الأنعام.

طيب، ما الذي يُشبه النعامة من بهيمة الأنعام؟ يعني: من الإبل والبقر والغنم؟

الذي يشبهها البدنة، بجامع أن النعامة لها رقبة طويلة، كذلك البدنة لها رقبة طويلة، فهي تشبهها بهذا الاعتبار، فالذي يشبه النَّعَامةَ البَدَنةُ، فيكون في النعامة بدنة.

قال:

وفي حِمار الوَحْش وبَقَرِه: بقرة.

حمار الوحش كان في وقت النبي عليه الصلاة والسلام، وفي زمن الصحابة والتابعين، كان موجودًا في الجزيرة العربية، ثم انقرض في الوقت الحاضر، انقرض.

ويقال: إنه الآن موجود في إفريقيا، وفي الهند، وفي بعض بلدان العالم، لكن ليس هو المُخطَّطَ الذي نراه في الصور، وإنما هو حمارٌ آخر هو الذي يميل للحُمرة، ما بين الصفرة والحمرة.

فهو موجود؛ لكنه في الجزيرة العربية انقرض من قرون، ليس موجودًا، وهو صيد، بخلاف الحمار الأهلي، فإنه مُحرَّم أكله، حمار الوحش، وبقر الوحش، الواجب فيه بقرة؛ لأن أقرب ما يشبهه من بهيمة الأنعام البقر.

وفي الضَّبُع: كبش.

وهذا بناء على المذهب عند الحنابلة، وهو أن الضبع صيد، وأنه يحل أكله. والمسألة محل خلاف.

القول الثاني: أن الضبع ليس بصيد، ولا يباح أكله؛ لأنه من ذوات السباع التي لها ناب، وقد حرم النبي كل ذي ناب من السباع، ونابه يعني أشد الحيوانات افتراسًا، ويأكل الجيف، ويأكل الإنسان، فالأقرب أنه ليس بصيد.

إن شاء الله سيأتينا الكلام عن هذه المسألة في باب كتاب الأطعمة، فالأقرب -والله أعلم- أن الضبع لا يباح أكله، وأنه ليس بصيد، وأنه من ذوات السباع.

وأما الأحاديث المروية في ذلك ففي سندها مقال من جهة الصناعة الحديثية إن شاء الله، هذه المسألة سنبسط الكلام فيها في كتاب الأطعمة بإذن الله .

لكن، بناء على المذهب وكلام المؤلف يعتبرونه صيدًا، ويقولون: أقرب ما يشبهه الكبش. وجاء في حديث جابر وهو الذي في سنده مقال[10]، طيب.

وفي الغزالِ: شاةٌ.

لأن أقرب ما يُشبه الغزالَ من بهيمةِ الأنعام الشاةُ.

وفي الوَبْرِ والضَّبِّ: جَدْيٌ له نصفُ سَنة.

الوبر معروف عند الناس، وكذلك الضب، فكلاهما من الصيد. فيه جَدْيٌ. ما معنى جدي؟ الجدي هو الذَّكر من ولد الماعز الذي له ستة أشهر.

وفي اليربوع: جَفْرة لها أربعة أشهر.

اليربوع تُسميه العامة الجربوع، فيبدلون الياء جيمًا. وهو حيوان معروف، رِجْلاه أطول من يديه، ويُعتبر صيدًا، ففيه جَفْرة، وهي ما كان مِن ولد الماعز له أربعة أشهر، تسمى جفرة.

وفي الأرنب: عَنَاقٌ دون الجَفْرة.

(في الأرنب عناق)، وهي ولد المعز إذا كان أقل من أربعة أشهر، إلى الآن العامة تسميه عناقًا، يسمونه عناقًا، ففي الأرنب عناق؛ لحكم الصحابة  بذلك.

وفي الحَمَام.

ثم وسَّع المؤلف المقصود بالحمام، فقال:

وهو كل ما عَبَّ الماء؛ كالقَطَا والوَرَشِين.

وهذا طير يشبه الحمام.

والفَوَاخِتِ.

أيضًا نوع من الحمام. هذه كلها فيها:

شاة.

لقضاء الصحابة بذلك.

ووجه الشبه بين الحمامة والشاة عَبُّ الماء عند الشرب، فالحمام عندنا تشرب الماء كما تشرب الشاة الماء، تعب عَبًّا.

طيب، هذا إذن الذي له مِثل مما قضى فيه الصحابة .

والقسم الثاني من الصيد: الذي ليس له مِثل من بهيمة الأنعام، مثَّل له المؤلف، فقال:

كالإوز والحُبَارَى والحَجَل.

هذه طيور معروفة، وليس لها مِثل.

والكُرْكي.

أيضًا هو نوع شبيه بالحجل، ومثل ذلك أيضًا العصفور، وهو حيوان، طائر معروف للجميع.

هذه كلها من الصيد الذي ليس له مِثل من بهيمة الأنعام، طيب ما الواجب فيها؟ قال:

ففيه قيمته مكانه.

يعني: يُقوَّم الصيد في مكانه.

الخلاصة في جزاء الصيد

طيب، الخلاصة في جزاء الصيد، يعني ذكرت هنا الخلاصة: أن جزاء الصيد على قسمين:

القسم الأول: أن يكون للصيد مِثْلُه، كالنعامة والغزال، فيُخيَّر بين ثلاثة أشياء:

أولًا: ذبح المثل، وتفريق لحمه على فقراء الحرم، فإذا قتل حمامة فيذبح شاة في الحرم، ويوزعها على فقراء الحرم.

ثانيًا: تقويم المثل؛ بأن يُنظر كم يساوي هذا المِثل، ويُخرج ما يُقابِل قيمتَه طعامًا، يوزع على فقراء الحرم لكل مسكين نصف صاع.

فمثلًا؛ لو قتل حمامة، قلنا: فيها شاة. طيب، كم قيمة الشاة؟ متوسط قيمة الشاة؟ قالوا مثلًا: متوسط قيمة الشاة ألف ريال، فيشتري بالألف ريال طعامًا، ويوزعه على فقراء الحرم.

ثالثًا: أن يصوم عن إطعام كل مسكين يومًا، ففي المثال السابق: لو اشترى طعامًا بألف ريال، ووزعه على فقراء الحرم، فكم سيطعم من المساكين؟ قالوا مثلًا: سيُطعم عشَرة من المساكين، إذن؛ يصوم عشَرة أيام عن هذا الصيد الذي له مِثل.

القسم الثاني: الصيد الذي ليس له مِثل، كالعصفور وكالجراد والحَجَل ونحو ذلك، فيُخيَّر بين أمرين، هو ليس له مِثل؛ فنستبعد الخيار الأول وهو ذبح المثل، ويبقى الثاني والثالث.

فيكون فيه تقويم قيمة الصيد، ينظر كم قيمته، ويُخرج ما يقابلها طعامًا، يُوزَّع على مساكين الحرم.

ثانيًا: أن يصوم عن إطعام كل مسكين يومًا، والأصل في هذا هو قول الله تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95] يعني: بهيمة الأنعام يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]. هذه المسألة منصوص عليها في كتاب الله .

وأما بالنسبة للتقديرات؛ مثلًا في الحَمَامة: شاة، وفي حمار الوحش: بقرة، وفي النَّعَامة: بدنة. هذه كلها قد حكم فيها الصحابة ، وقد قال الله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، والصحابة هم أعدل الناس، فما حكم فيه الصحابة فيجب الالتزام به.

وأما ما لم يحكم فيه الصحابة، فيُختار اثنان من ذوي العدالة والخبرة، فيحكمان هل هذا له مِثلٌ أو لا؟ إن كان له مِثلٌ يُخيَّر بين الأمور الثلاثة التي ذكرنا، وإن لم يكن له مثل فيخير بين الأمرين.

حكم صيد حرم مكة وصيد المحرم

ثم قال المصنف رحمه الله:

فصل: ويحرم صيد حرم مكة، وحكمه حكم صيد الإحرام.

أي: أنه يحرم الصيد على المحرم، ويحرم كذلك على ما كان في حرم مكة، على المحرم وعلى غير المحرم، فما كان داخل حدود الحرم يحرم صيده مطلقًا، ويكون فيه من التحريم والجزاء ما ذكرنا بالنسبة للمحرم.

وحدود الحرم قد بُيِّنت، وهي توقيفية، بينت وحددت تحديدًا دقيقًا، من وقت إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26]، فنزل جبريل، وكان معه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وحدد جبريل الحرم بصحبة إبراهيم الخليل، وبعد ذلك تناقل الناس هذه الحدود منذ ذلك الزمن إلى وقتنا الحاضر.

وفي وقتنا الحاضر، أصبح هناك لوحات وعلامات لبداية حدود الحرم ونهاية حدود الحرم، فهي توقيفية، حدود الحرم توقيفية، لا مجال للاجتهاد فيها، مثل عرفة ليست من الحرم، من الحل، ومنى ومزدلفة من الحرم. فهذه الحدود حدود توقيفية.

هنا قال المؤلف: (يحرم صيد حرم مكة)، وهذا بالإجماع، ويقول النبي : إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة[11].

ولكن، هل تحريم حرم مكة، مِن زمن إبراهيم أو قبل زمن إبراهيم؟ هذا محل خلاف، والقول الراجح أن تحريمها كان قبل إبراهيم؛ لقول النبي : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: إن إبراهيم حرَّم مكة، ودعا لها[12]، فالمعنى: أنه أظهر تحريمها، وإلا فهي محرمة قبل إبراهيم يوم خلق الله السماوات والأرض، يعني تحريم مكة يوم خلق اللهُ السماوات والأرض.

ومعلوم أنَّ خَلْق السماوات والأرض كان قبل خلق الإنسان بمدة طويلة جدًّا، فخلق الإنسان في -فقط- مئات السنوات الأخيرة، لكن خلق السماوات والأرض كان قبل خلق الإنسان بمدة طويلة جدًّا.

فتحريم الله لمكة يوم خلق السماوات والأرض، هذا يدل على عظيم حرمة هذا البلد، وأن الله تعالى حرمه منذ ذلك الحين قبل أن يخلق الإنسان، حرم الله مكة، وجعله بلدًا آمنًا، وسيبقى آمنًا إلى قيام الساعة؛ لقول النبي : لا هجرة بعد الفتح[13].

وقوله: لا هجرة بعد الفتح فيه بشارة إلى أن مكة ستبقى بلدًا إسلاميًّا إلى قيام الساعة، وأنه لن يحكمها المشركون أبدًا، لن يحكمها إلا المسلمون إلى قيام الساعة. هذه بشارة من النبي ، في أن مكة ستبقى بلدًا إسلاميًّا: لا هجرة بعد الفتح.

ومن تعظيم الله لهذا البلد، قول الله سبحانه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فتوعد الله على مجرد الإرادة فقط، فما بالك بمَن ألحد في الحرم؟

حكم شجر مكة

ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن شجر الحرم، فقال:

ويحرم قطع شجره وحشيشه.

المقصود بذلك: الشجر والحشيش الأخضران اللذان لم يزرعهما الآدمي؛ لقول النبي : لا يُعضَّد شَجَرُها، ولا يُحْتَشُّ حشيشُها، ولا يُختلَى خَلَاها[14].

وعلى ذلك؛ يجوز قطع اليابس، ويجوز قطع ما زرعه الآدمي؛ لأن النبي أضاف الشجر إلى الحرم، فدل ذلك على أن المُحرَّم إنما هو شجر الحرم دون غيره، ودل هذا على أنه لا حرج في قطع ما زرعه الناس في بيوتهم.

يعني بعض الناس قد يكون في بيته، في مكة داخل حدود الحرم، يكون هناك زرعة زرعها، لا بأس بقطعها، لا بأس بقطع هذا الزرع الذي زرعه في بيته، فليس هذا من الزرع الذي يحرم قطعه.

ويُستثنى من ذلك الإذخر؛ لقول النبي لما قال: لا يُعضَّد شجرها، ولا يحتش حشيشها، ولا يختلى خلاها، قال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر؛ فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا. قال: إلا الإذخر[15].

والإذخر: هو حشيش طيب الرائحة، قال: “نجعله في قبورنا وفي بيوتنا”، في قبورهم يجعلونها بين اللَّبِنات؛ ليمنع تسرب التراب للميت. “وفي بيوتنا”، يعني: في تسقيف المنازل، كانوا يستفيدون منه، وأيضًا يستفاد منه أيضًا في الحدادة؛ لأنه سريع الاشتعال؛ فاستثناه النبي .

يعني هنا فائدة أصولية ذُكرت في “السلسبيل”، وهي الاستثناءُ المُتعقِّبُ جُمَلًا، هل هو استثناء صحيح أو لا؟ هل يفترض في الاستثناء أن يكون متصلًا بالكلام؟

يعني: في هذه القصة، النبي عليه الصلاة والسلام كان يتكلم عن تحريم مكة، قال: لا يُعضَّد شجرها، ولا يُحْتَشُّ حشيشها، ولا يُختلى خَلَاها لما انتهى قال العباس: إلا الإذخر. قال النبي عليه الصلاة والسلام: إلا الإذخر.

وهذا يدل على أنه لا يشترط في المستثنى أن يكون متصلًا بالمستثنى منه، وأنه يكون استثناءً حتى مع وجود فاصلٍ، بشرط أن يكون ذلك في المجلس الواحد.

ويتفرع عن هذا مسألة، وهي: لو حلف إنسانٌ، قال: والله لا أفعل كذا. ثم بعد قليل قال له أحد الحاضرين: قل “إن شاء الله”. قال: إن شاء الله. فينفعه ذلك حتى لو لم ينو قوله “إن شاء الله” من البداية. لو قال: “والله ما أفعل كذا”، فقال أحد: قل “إن شاء الله”، فقال: “إن شاء الله”؛ فينفعه ذلك.

ومَن حلف على يمين فقال: “إن شاء الله”؛ لم يحنث، إذا حلفتَ على أيِّ يمينٍ وقلت: “إن شاء الله”؛ لم تحنث، سواء فعلت ما حلفت عليه أو لم تفعله.

وهذه فائدة؛ ولهذا يقال: لا يحنث فقيهٌ قط؛ لماذا؟ لأن الفقيه إذا احتاج للحلف وحلف، قال: “إن شاء الله”، فإذا قال: إن شاء الله، فليس عليه كفارة، سواء وقع ما حلف عليه أو لم يقع.

ولهذا؛ جاء في الصحيحين: أن النبي قال: قال سليمان عليه الصلاة والسلام: والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، تلد كل امرأة غلامًا، يقاتل في سبيل الله. فقال الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله. قال عليه الصلاة والسلام: لو قال إن شاء الله لكان دَرَكًا لحاجته يعني: أدرك حاجته ولم يحنث[16].

وهذا موضع الشاهد: ولم يحنث، فدل هذا على أن من حلف على يمين فقال: “إن شاء الله” لم يحنث.

قال المصنف رحمه الله:

والمُحِلُّ والمُحرِم في ذلك سواءٌ.

يعني: يستوي المُحرِم وغير المحرم فيما ذكر من قطع الشجر. لكن، هل فيه جزاء؟

قال:

فتُضمن الشجرة الصغيرة عُرفًا بشاةٍ، وما فوقها ببقرة، ويُضمن الحشيش والوَرَق بقيمتِه.

لأثرٍ رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك، هذا هو المذهب عند الحنابلة، واعتمدوا على هذا الأثر، وهذا الأثر لم نجد له أصلًا، بل قال ابن المُلقِّن في “البدر المنير”: إنه لم يَرَ مَن خرَّجه بعد البحث عنه.

ولهذا؛ ذهب أكثر العلماء إلى أنه لا جزاء في قطع الشجر في الحرم، وإن كان يأثم بذلك، لكن لا جزاء فيه، وأن عليه التوبة فقط. وهذا هو المذهب عند المالكية، وكذلك الشافعية، وأيضًا نسبه الموفق ابن قدامة في “المغني” لأكثر أهل العلم: أنه لا جزاء فيه.

لأن الأصلَ براءةُ الذمة، ولا يوجد دليل يدل على هذا الجزاء، وكما ذكرنا الأثر المَرْويَّ عن ابن عباس أصلًا لا يصح عن ابن عباس، لا نعلم له أصلًا، المحدِّثون ذكروا أنهم لم يجدوا له أصلًا، ولو ثبت هذا الأثر عن ابن عباس فيعني يُحمل على الاستحباب.

نحن لا نستطيع أن نُلزم الناس بهذه الجزاءات بدون دليل، والأصل في أموال الناس الحرمة.

فالقول الراجح: أن قطع الشجر في الحرم، أنه لا جزاء فيه، وإنما فيه التوبة فقط.

هل يجوز رَعْي المواشي في حرم مكة والمدينة؟

طيب، هنا مسألة: هل يجوز رعي المواشي في حرم مكة والمدينة؟

الجواب: نعم، يجوز، يجوز في قول جمهور أهل العلم؛ لأن النبي كان معه الإبل، وكانت ترعى مِن حرم مكة والمدينة، ولم يُرو أنه كان يُكمِّم أفواهَها، فدل ذلك على أنه يجوز رَعْي المواشي في حرم مكة والمدينة.

الدم المجزئ في النسك

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن الدم المجزئ في النسك، فقال:

ويُجزئ عن البدنة بقرةٌ كعكسه.

في الهَدْي والأضحية البقرة والبدنة سواء، تُجزئ عن سبعة؛ ولهذا قال جابر : «نحرنا مع رسول الله عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة»[17].

مع اختلافهما الكبير في الزكاة، فنصاب الإبل في الزكاة خمس، فإذا بلغت خمسًا وعشرين ففيها بنت مخاض، بينما نصاب البقر ثلاثون. فبينهما اختلاف كبير في الزكاة، لكن في الهدي والأضحية سواء، فالبدنة والبقرة كل منهما يجزئ عن سبعة.

قال:

ويجزئ عن سبعِ شِيَاهٍ: بدنة أو بقرة.

تُجزئ البَدَنة أو البقرة عن سبع شياهٍ.

والمُراد بالدم الواجب: ما يُجزئ في الأضحية، جَذَعُ ضأنٍ، أو ثَنِيُّ مَعْزٍ، أو سُبع بَدَنة أو بقرة.

يعني: الدم الواجب المقصود ما يجزئ في الأضحية، الدم الذي يجزئ في الأضحية، الذي يجزئ في الأضحية هو جَذَعٌ من الضأن، يعني: ما بلغ ستة أشهر، أو ثَنِيٌّ من الماعز، يعني: ما بلغ سنة، أو سُبع بدنة أو سبع بقرة، يعني: جزء من سبعة أجزاء.

فإذا ذبح إحداهما فأفضل، وتجب كلها.

يعني: إذا ذبح بدنة كاملة فهو أفضل، إذا ذبح بقرة كاملة فهو أفضل مِن أن يذبح سُبعًا، وإذا ذبح بدنة فهو أفضل من الشاة، إذا ذبح بقرة كاملة فهو أفضل من الشاة، لكن إذا اختار الأعلى: بدنة أو بقرة؛ لزمه ذلك لأداء فرضه، فكان واجبًا عليه، كالأعلى في خصال الكفارة إذا اختاره.

يعني: لا يصح أن يقول: “سوف أضحي بسُبع بدنة، وبقي ستة أسباع هذه تكون للثلاجة”، هذا لا يصح، أو يقول: “سوف أضحي بسُبع بقرة، وستة أسباع تكون للثلاجة”، أو أهديها”، هذا لا يصح، بل إذا اختار السُّبع فلا بد أن يكون في البدنة كلها.

نعم، له أن يشترك مع سبعة، سبعة أشخاص يشتركون في بدنة، سبعة أشخاص يشتركون في بقرة، لكن ليس له أن يختار السُّبع، والباقي يكون في غير الهدي والأضحية.

طيب، وصلنا إلى باب أركان الحج وواجباته.

باب: أركان الحج وواجباته

قال المصنف رحمه الله:

باب: أركان الحج وواجباته.

(باب: أركان)؛ أركان: جمع “ركن”، والركن: هو جانب الشيء الأقوى؛ ولذلك يقال مثلًا: ركن الغرفة، ركن الغرفة هو أقوى ما فيها؛ ولذلك عندما مثلًا يأتي انهدامٌ لمبنى تجد أن الزوايا تبقى وينهدم الجدار، أما الزوايا فتبقى؛ لأنه أقوى ما في البناء هو الزوايا؛ ولذلك يسميها الناس ركنًا، ركن هذه الغرفة مثلًا هو هذه الجهة، ركن هذه الغرفة وهذه الزاوية، فركن الشيء هو جانب الشيء الأقوى.

حصر المؤلف أركان الحج في أربعة، فقال:

الأول: الإحرام

الأول: الإحرام، وهو مجرد النية، فمَن تركه لم ينعقد حَجُّه.

(الإحرام) تكلمنا عنه بالتفصيل، وعن حقيقة الإحرام، وأنه نية الدخول في النسك.

فالإحرام ركن من أركان الحج؛ من لم يحرم بالحج لم يصح حجه، لكن ليس المقصود بالإحرام لُبْسَ ملابس الإحرام، قد يُحرِم وعليه ملابسه، عليه ثوبه، ويكون محرمًا، ويكون عليه فدية. فالإحرام إذن هو نية الدخول في النسك.

طيب، هل يُشترط مع النية لفظٌ؟

مِن أهل العلم مَن قال: إنه لا بد مع النية التلفظ، لا بد من التلبية، فإذا نوى العمرة يقول: لبيك عمرة، إذا نوى الحج يقول: لبيك حجًّا.

وقالوا: إن التلبية هنا كتكبيرة الإحرام في الصلاة، فكأنه لو دخل الصلاة من غير أن يتلفظ بتكبيرة الإحرام لم تصح، قالوا: أيضًا لو نوى العمرة أو الحج من غير أن يُهِل بالعمرة أو الحج لم تنعقد عمرته ولا حجه.

والقول الثاني في المسألة: أنه لا يشترط ذلك، وإنما تكفي النية؛ لقول النبي : إنما الأعمال بالنيات[18]. وهذا هو القول الراجح.

فمناط الخلاف في المسألة: مَن مرَّ بالميقات ونوى النسك لكنه لم يتلفظ، لم يقل: لبيك عمرة أو لبيك حجًّا، فعلى القول الأول: لا يصح إحرامه، وعلى القول الثاني: يصح. والقول الراجح: أنه يصح إحرامه؛ لأن العبرة بالنية: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.

وأما قياسه على تكبيرة الإحرام فقياسٌ مع الفارق؛ لأن تكبيرةَ الإحرام بحد ذاتها هي ركن من أركان الصلاة، بينما التلفظ بالنية أصلًا ليس ركنًا.

الثاني: الوقوف بعرفة

الثاني من أركان الحج: الوقوف بعرفة.

وهذا آكَد أركان الحج، كما أن آكَد أركان الصلاة السجود، فآكد أركان الصيام النية، فمعرفة آكد الأركان هذا مهم جدًّا لطالب العلم في الموازنة وفي الترجيح وفي الفتوى، فالأركان تختلف منزلتها، يعني: بعضها عن بعض. إذن؛ آكَدُ أركان الحج هو الوقوف بعرفة.

وقد أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، نقل الإجماع ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما.

وذكر الله تعالى هذا الركن بقوله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، وقال عليه الصلاة والسلام: الحج عرفة؛ كما في حديث عبدالرحمن بن يعمر[19].

وقت الوقوف بعرفة

ووقته.

يعني: وقت الوقوف بعرفة.

من طلوع فجر يوم عرفة.

وهذا هو المذهب عند الحنابلة: أن وقت الوقوف بعرفة يبتدئ من طلوع الفجر.

هذه المسألة محل خلاف على قولين:

القول الأول: هو القول الذي أقره المؤلف، وهو أنَّ وقت الوقوف بعرفة يبتدئ من طلوع فجر يوم عرفة، وهو من المُفرَدات.

والقول الثاني: أن وقت الوقوف بعرفة يبتدئ من زوال الشمس، وإليه ذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عند الحنابلة، وحُكي إجماعًا، حكاه ابن المنذر، وابن عبدالبر، وابن رشد، وإن كان لا يُسلَّم الإجماع مع خلاف الحنابلة.

فالحنابلة استدلوا على أنَّ ابتداءَ وقت الوقوف بطلوع الفجر؛ بقصة عروة بن مُضرِّس الطائي، هذا صحابي جليل أتى للنبي في حجة الوداع، وقد أتى من حائل من جبال طيئ، وأتى متأخرًا، أدرك النبي عليه الصلاة والسلام في مزدلفة.

يقول في قصته: أتيتُ رسول الله بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، قلت: يا رسول الله، إني جئتُ من جبل طيئ، يعني من حائل، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟

فقال رسول الله : مَن شهد صلاتنا هذه -يعني صلاة الفجر- ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجُّه، وقضى تَفَثَه[20].

وهذا الحديث من جهة الإسناد حديث صحيح، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وهو حديث صحيح، واحتج العلماء بهذا الحديث في مسائل كثيرة؛ ولهذا قالوا: إن هذا الرجل -عروة بن مضرس- أَحْسَنَ للأمة.

يعني في هذه القصة استفاد العلماء منها فوائد كثيرة، فالشاهد هنا قوله عليه الصلاة والسلام: وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه؛ قالوا: قوله أو نهارًا النهار يمتد بطلوع الفجر.

القول الثاني كما ذكرنا: قول الجمهور أن وقت الوقوف بعرفة يبتدئ من زوال الشمس؛ واستدلوا بأن النبي عليه الصلاة والسلام وخلفاءه الراشدين من بعده، لم يقفوا إلا بعد الزوال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: خذوا عني مناسككم[21].

قالوا: ويبعد جدًّا أن وقت الوقوف بعرفة يبتدئ بطلوع الفجر، ومع ذلك لا يقف النبي ، ولا يقف خلفاؤه الراشدون مِن بعده إلا بعد الزوال، ذهب منتصف النهار، كيف يكون وقت الوقوف يبدأ من طلوع الفجر، ولا يقفون بعرفة إلا بعد الزوال؟ هذا بعيد.

ولذلك؛ فالقول الراجح هو القول الثاني، وهو أن وقت الوقوف بعرفة إنما يبتدئ بعد الزوال، واختاره جمع من المحققين من أهل العلم، كابن تيمية، وابن القيم، وأيضًا سماحة شيخنا عبدالعزيز ابن باز، والشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله تعالى، وعامة المحققين من أهل العلم على القول الثاني، وهو أن وقت الوقوف إنما يبتدئ بزوال الشمس.

بقي: كيف نجيب عن حديث عروة؟ قال الجمهور: إن قوله عليه الصلاة والسلام: وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا؛ المقصود بقوله أو نهارًا: بعد الزوال، فيكون فِعل النبي مُقيِّدًا للعموم الوارد في حديث عروة.

طيب، ثمرة الخلاف في المسألة: فيمن وقف بعرفة قبل الزوال، ولم يقف بها بعد الزوال، هل يصح حجه أو لا؟

يعني: إنسان وقف مثلًا بعرفة الساعة التاسعة صباحًا، ثم بعد ذلك ذهب إلى مزدلفة، ما رجع لعرفة بعد الزوال، على القول الأول: يصح حجه، وعلى القول الثاني: لا يصح.

وأيضًا من فروع هذه المسألة: أن بعض الناس يأتي إلى عرفة مبكرًا في أول النهار، ثم يقوم ويجتهد بالدعاء وبالذكر، فإذا أتى وقت الوقوف بعد الزوال كان متعبًا فنام، فنقول: إذا أردت أن تنام فنم أول النهار؛ لأن وقت الوقوف إنما يبتدئ على القول الراجح بعد الزوال، وتفرَّغ للدعاء بعد الزوال، لا أن تعكس.

هذا يعني نلحظه، بعض الحجاج أولَ ما يصل إلى عرفة أول النهار يشتغل بالدعاء والذكر، فإذا أتى وقت الوقوف بعد الزوال إذا هو مُتعَب ونام، فنقول: ينبغي أن تعكس المسألة، إذا أتيت لعرفة أول النهار، وكنت بحاجة للنوم، نم أول النهار، لكن بعد الزوال تفرغ للذكر والدعاء.

طيب، ما أفضل عمل يعمله الحاج بعرفة؟ الجواب: أفضل عمل يعمله الحاج بعرفة هو ما كان يعمله.

طيب، ما الذي كان يعمله النبي عليه الصلاة والسلام؟

كان قد تفرغ للدعاء، فإنه عليه الصلاة والسلام أقام بنَمِرة إلى أن زالت الشمس؛ لما زالت الشمس خطب الناس بوادي عُرَنة، وصلى بهم صلاة الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ثم سار عليه الصلاة والسلام إلى شرق عرفة عند الصَّخْرات، وجعل مُستقبِلًا القبلة ومُستقبِلًا الجبلَ في الوقت نفسه رافعًا يديه يدعو إلى أن غربت الشمس على ناقته.

لم ينزل من الناقة، حتى إن الصحابة شَكُّوا: هل كان صائمًا؟ فأرسلت إليه أم الفضل بلبن بعد العصر فشرب منه والناس ينظرون، فعلموا بأنه كان مفطرًا.

فكان -طيلة الوقت- النبي عليه الصلاة والسلام، كان رافعًا يديه يدعو، مع أنه عليه الصلاة والسلام حجَّ في الزمن المعتدل في الربيع تقريبًا، يعني مَكَث خمس أو ستَّ ساعات رافعًا يديه يدعو[22].

وهذا يدل على أن أفضل ما يشتغل به الحاج في يوم عرفة بعد الزوال هو الدعاء؛ لأن أكمل الهدي هدي النبي ؛ ولأن الدعاء في هذا المكان وهذا الزمان حَرِيٌّ بالإجابة.

ولهذا أثرٌ عن بعض السلف: أنه قال: ما دعوتُ الله تعالى في عرفة بدعوة إلا تبينت إجابتها قبل أن يَحوُل عليها الحول.

وهذا الوقت هو من أثمن أوقات العمر، وأخبر النبي عليه والسلام بأن الله يدنو من الحجيج عشيَّةَ عرفة ويُباهي بهم الملائكة، ويقول: ما أراد هؤلاء؟ وما مِن يومٍ أكثرُ مِن أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة[23]. فهذا الوقت مِن أثمن أوقات العمر، ودعاء الحاج فيه حري بالإجابة.

طيب، ينتهي وقت الوقوف بعرفة بطلوع فجر يوم النحر، وهذا بالإجماع؛ لحديث عروة بن مُضرِّس الطائي: أن النبي قال: مَن شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه، وقضى تَفَثَه[24].

وفي حديث عبدالرحمن بن يَعمُر: الحج عرفة، من جاء ليلة جَمْع قبل طلوع الفجر، فقد أدرك الحج[25].

فإذن؛ وقت الوقوف بعرفة يمتد إلى طلوع فجر يوم النحر، مَن وقف بعرفة قبل طلوع فجر يوم النحر ولو لحظةً صح حجه؛ ولهذا قال المصنف رحمه الله:

فمَن حصل في هذا الوقت بعرفة لحظةً وهو أهلٌ.

يعني: صح حجه حتى لو دقيقة واحدة. قوله (وهو أهلٌ) يعني: عاقل.

ولو مارًّا.

يعني: حتى لو كان مجرد مرور.

أو نائمًا.

حتى لو كان طيلة الوقوف بعرفة كان نائمًا، فيصح حجه.

أو حائضًا.

حتى المرأة الحائض والنُّفَساء، لو كانت بعرفة، فيصح حجها.

أو جاهلًا.

إذا مرَّ بعرفة جاهلًا.

أنها عرفة؛ أجزأه.

لقصة عروة بن مُضرِّس الطائي، فقد أتى النبي في مزدلفة، وقال: يا رسول الله، جئتك من جبل طيئ، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال النبي : من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه، وقضى تفثه[26].

فالظاهر مِن حال عروة: أنه وقف بعرفة وهو جاهل بها، لا يعرف أنها عرفة، ومع ذلك بيَّن له النبي عليه الصلاة والسلام أن حجه قد صح إذا كان قد وقف بعرفة.

فأخذ الفقهاء من هذا دليلًا على أن من وقف بعرفة وهو جاهل بها: أن حجه صحيح.

لا إن كان سكرانًا، أو مجنونًا.

المجنون لا يصح وقوفه بعرفة بالإجماع، وهكذا أيضًا السكران؛ لأنه قد اختار تغطية عقله، فهو كالمجنون.

هل يصح وقوف المُغْمَى عليه؟

أو مُغمًى عليه.

يعني: إذا وقف بعرفة مغمى عليه، هل يصح وقوفه أو لا؟

وهذا يحصل لبعض الحجاج: يصاب بمرض ويُغمى عليه، ويُنقل إلى عرفة مَثَلًا بسيارة الإسعاف، أو ينقل إلى مستشفى عرفة، فيكون طيلة يوم عرفة وليلة المزدلفة، يكون مغمى عليه طيلة الوقت، مغمى عليه، طيلة وقت الوقوف يكون مغمى عليه، هل يصح وقوفه أو لا؟

هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، والخلاف فيها قوي؛ ولهذا توقَّف فيها الإمام أحمد لمَّا سُئل عن هذه المسألة، قال: الحسن يقول: بطل حجه، وعطاء يرخص فيه.

فالمسألة فيها قولان لأهل العلم:

القول الأول: أنه لا يصح حجه، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة؛ لأن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، فلم يصح مِن المغمى عليه، كسائر الأركان.

القول الثاني: أنه يصح حجه، وهو قول عطاء، وبه قال أبو حنيفة ومالك، قالوا: إن الوقوف بعرفة لا يعتبر له نية ولا طهارة، فصح من المغمى عليه كالنائم.

وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أخرى، وهي: هل المغمى عليه تصح أفعاله أو لا؟ هل هو مكلف أو غير مكلف؟ إذا أغمي عليه مثلًا في شهر رمضان ثم أفاق، هل يؤمر بقضاء الصلاة والصيام أو لا؟

هذه المسألة ليس فيها أدلة ظاهرة، وإنما مبناها على النظر:

مِن العلماء مَن ألحق المغمى عليه بالنائم، قال: يلزمه قضاء تلك الصلوات مدة الإغماء، ويلزمه قضاء الصوم. هذا هو المذهب عند الحنابلة.

ومن العلماء من ألحقه بالمجنون، قال: لا يلزمه قضاء تلك الصلوات، أما الصوم فيلزمه. وهذا أيضًا فيه إشكال، كيف لا يُلزمه بقضاء الصلاة ويلزمه بقضاء الصوم؟!

وهذه المسألة في الحقيقة فيها إشكالات كثيرة، ولا يمكن وضع قاعدة مطردة فيها، وإنما يُنظَر لكل مسألة على حدة، والمبالغة في التقعيد يعني هذه فيها إشكال، بعض طلبة العلم عنده مبالغة في التقعيد، وبعض المسائل لا يَطَّرِد فيها التقعيد.

ولذلك؛ ينبغي أن يُنظَر لكل مسألة على حدة، هذه المسألة إشكالاتها كثيرة، لا يمكن أن نضع فيها قاعدة مطردة.

ولهذا؛ ننظر لصلاة المغمى عليه كمسألة مستقلة، وننظر لصيام المغمى عليه كمسألة مستقلة، وننظر لحج المغمى عليه كمسألة مستقلة؛ لأن هذا هو الذي تتفق به الأدلة الواردة، وأما وضع قاعدة مطردة فما تستقيم، لا تستقيم قاعدة مطردة في هذه المسألة.

فالأقرب -والله أعلم- بالنسبة للمغمى عليه: أن مدة الإغماء إذا كانت يسيرة في حدود ثلاثة أيام فأقل، فهو كالنائم، فيقضي. وإذا كانت أكثر من ثلاثة أيام، فهو كالمجنون، فلا يقضي. هذا الأقرب، والله أعلم.

وبالنسبة للصيام يلزمه القضاء مطلقًا في قول أكثر أهل العلم.

وبالنسبة للوقوف بعرفة فذكرنا قولين: هل يصح وقوفه أو لا يصح؟ هذه المسألة كنتُ متوقفُا فيها فيما سبق، ثم بعد النظر والبحث والتأمل والمناقشة مع بعض أهل العلم، ظهر لي -والله أعلم- أن الأقرب هو القول الثاني، وهو أن وقوف المغمى عليه صحيح، وأنه يُلحَق بالنائم.

لأننا إذا كنا قد قررنا في المسألة السابقة صحة وقوف مَن وقف بعرفة جاهلًا أنها عرفة، فالمغمى عليه مِن بابٍ أولى؛ لأن هذا يدل على أن المطلوب في الوقوف أن يكون موجودًا بعرفة وقت الوقوف؛ ولأنه يصح الحج من الصغير غير المميز مع أنه لا يعقل النية، حتى لو كان عمره يومًا واحدًا، يصح حجه، وهو لا يعقل النية، فكذلك أيضًا المغمى عليه.

وهذا يدل على أن وجود النية في أصل العبادة يكفي، فوجود أصل النية في أصل العبادة وهو الإحرام يُغني عن اشتراطها في الوقوف؛ ولأن عقله باقٍ لم يَزُل، فهو أشبه بالنائم.

فالأقرب -والله أعلم- أن وقوف المغمى عليه بعرفة يصح.

وبناء على ذلك: هذا المريض الذي نُقل إلى مستشفى عرفة، أو نقل مثلًا بسيارة الإسعاف وهو مغمى عليه، يصح وقوفه على القول الراجح.

طيب، ننتهي من الأركان، ثم نقف.

حكم وقوف الحجاج بعرفة يوم الثامن أو العاشر خطأ

قال:

ولو وقف الناس كلهم، أو كلهم إلا قليلًا، في اليوم الثامن أو العاشر خطأً؛ أجزأهم.

يعني: لو أخطأ الناس في إثبات دخول شهر ذي الحجة، فبدل أن يقفوا في اليوم التاسع، وقفوا في اليوم الثامن، أو بدل أن يقفوا في اليوم التاسع من ذي الحجة، وقفوا في اليوم العاشر خَطَأً، فيجزئهم وقوفهم بالإجماع.

وهذه مسألة ترجع إلى: هل يوم عرفة هو يوم عرفة باطنًا وظاهرًا، أو ظاهرًا فقط؟ يعني: ظاهرًا للناس وباطنًا -يعني- عند الله تعالى؟

فالأقرب -والله أعلم- هو أن اليوم الذي يجتمع الناس فيه في عرفة أو أكثرهم: أنه يوم عرفة باطنًا وظاهرًا، وهذا أيضًا حتى بالنسبة لدخول شهر رمضان وعيد الفطر؛ أن الشيء الذي يُعلَن ويُشتهَر يكون هو الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية، وإن كان خطأ في نفس الأمر.

يعني: لو أخطأ الناس في إثبات دخول شهر رمضان، فصام الناس، فهذا اليوم هو بداية رمضان شرعًا وإن كان خطأ في نفس الأمر، أو مثلًا أخطأ الشهود في إثبات دخول شهر شوال، فهو شرعًا يعتبر من شهر شوال، وإن كان خطأ في نفس الأمر، وهكذا بالنسبة لشهر ذي الحجة.

لأن الهلال من الاستهلال؛ إذا أُعلن واشتُهر كان هلالًا شرعًا، وإذا لم يُعلَن ولم يَستهل ولم يُشتهَر، لم يكن هلالًا شرعًا. وهذا من تيسير الله تعالى على عباده.

فالعبرة إذن بما ظهر واستهل وأُعلن، وليست العبرة بما كان في حقيقة الأمر.

هذا المعنى قرره بالتفصيل الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، من أراد مزيدًا مِن بحث هذه المسألة، فليرجع لكتب ابن تيمية رحمه الله، فقد أفاض الكلام فيها.

الثالث: طواف الإفاضة

الثالث من أركان الحج: طواف الإفاضة، وهو ركن بالإجماع.

لقول الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، ويسمى طواف الزيارة.

وقت طواف الإفاضة

ووقته يبتدئ، قال:

وأول وقته من نصف ليلة النحر لمن وقف.

يبتدئ من نصف ليلة مزدلفة أو ليلة النحر، لمن وقف بعرفة، وإلا فبعد الوقوف.

ولا حدَّ لآخره.

يعني: لا حد لآخر وقت طواف الإفاضة، فلو أتى به في أي وقت صح، وبعض العلماء كالمالكية يجعلون آخِرَ وقتٍ لطواف الإفاضة نهاية شهر ذي الحجة، والأقرب هو قول الجمهور أنه لا حد لآخره.

وعلى هذا؛ لو أن امرأة حاضت أو نُفِسَتْ، وذهبت لبلدها وأرادت أن ترجع مثلًا بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة؛ لكي تطوف طواف الإفاضة؛ فلا بأس، بشرط أن يمتنع زوجها من معاشرتها حتى تطوف طواف الإفاضة.

طيب، هنا مسألة: وهي إذا أخَّر الحاجُّ طوافَ الإفاضة مع طواف الوداع؟ وهذه مسألة يكثر السؤال فيها، إذا أخَّر الحاج طواف الإفاضة مع طواف الوداع، لكنه عندما أراد أن يطوف طواف الوداع نسي أن ينوي طواف الإفاضة، فنوى طواف الوداع ولم ينو طواف الإفاضة، فهل هذا الطواف يجزئه عن طواف الإفاضة، وهو إنما نواه عن طواف الوداع فقط؟

هذه المسألة محل خلاف بين العلماء:

مِن أهل العلم مَن قال: إنه يلزمه أن يأتي بطواف الإفاضة؛ لأنه لم ينوه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[27]، وهذا لم ينو طواف الإفاضة، وإنما نوى طواف الوداع. وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

القول الثاني: أنه يجزئ، وينقلب طواف الوداع في حقه إلى طواف إفاضة، قالوا: لأن نية الحج تشمل نية جميع أفعاله، ومنها طواف الإفاضة، كما أن نية الصلاة تشمل نية جميع أفعالها، فالركوع لا يحتاج إلى نية خاصة، والسجود لا يحتاج إلى نية خاصة، وهكذا بالنسبة لسائر أفعال الصلاة.

وهذا هو القول الراجح: أنه إذا نوى طواف الوداع، ولم يطف طواف الإفاضة، أجزأه ذلك عن طواف الإفاضة، أي: أن طواف الوداع ينقلب إلى طواف الإفاضة.

ومما يُؤيِّد ذلك ما ذكره الفقهاء مِن أنه لو وقف بعرفة نائمًا أو جاهلًا أنها عرفة صح وقوفه، وهذه يستفاد منها -يعني- أن النية العامة للحج تكفي، وهكذا النية العامة للصلاة تكفي، ولا يَحتاج الركوعُ لنية، ولا يحتاج السجود لنية.

فهكذا أيضًا نقول بالنسبة للطواف: إذا طاف طواف الوداع ناويًا أنه طوافُ وداع، وهو لم يَطُف طواف الإفاضة، انقلب هذا الطواف إلى طواف إفاضة، وأجزأه ذلك عن الإفاضة وعن الوداع جميعًا. وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية، وهو القول الراجح.

ونقف عند السعي بين الصفا والمروة، ونفتتح به الدرس القادم إن شاء الله تعالى، ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الآن، نجيب عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: هل أَهْل مكة وجُدَّة يَقصُرون في مِنًى؟

الجواب: المسافة الآن ما بين جدة إلى مكة هي أقل من ثمانين كيلو مترًا، فالذهاب من جدة إلى مكة لا يعتبر سفرًا.

وهل أهل مكة لهم الترخص برخص السفر؟ هل لهم القصر والجمع في مِنًى أو ليس لهم ذلك؟ هذا محل خلاف:

جمهور الفقهاء على أن أهل مكة ومن في حكمهم يُتمون الصلاة في مِنًى، وأنهم لا يقصرون، فجمهور الفقهاء على ذلك.

والمسألة فيها قول آخر: أنهم يقصرون باعتبار أنه نسك.

ولكن جماهير الفقهاء على أن أهل مكة يُتمون، ولا يقصرون في مِنًى.

وهذا هو الأقرب، والله أعلم؛ لأن القول بأن القصر نسك يُشكل عليه أن الحاجَّ مِن أهل مكة لو صلى في مكة وجب عليه أن يُتم عند الجميع، لو كان نسكًا لجاز له أن يقصر في مكة.

فهذا يدل على ضعف القول بأنه نسك، وحتى رأي ابن تيمية بأنه يقصر باعتبار أن المسافة ما بين منى إلى مكة مسافة سفر على رأيه رحمه الله، يعني: في الوقت الحاضر اتصلت مِنًى بمكة، فحتى على رأي ابن تيمية -يعني- لا يتأتى القول بالقصر.

فالأقرب -والله أعلم- أن أهل مكة يُتمون في منى بناء على القول الراجح في هذه المسألة.

السؤال: هل مَن حج حجة الإسلام لا يجب عليه العمرة؟

الجواب: لا، مَن حج حجة الإسلام فيجب عليه العمرة؛ لأن فيه عمرة الإسلام وحجة الإسلام، ولا تُغني حجة الإسلام عن عمرة الإسلام.

وسبق أن رجَّحنا القولَ بوجوب العمرة، إلا إذا حج حجة الإسلام متمتعًا أو قارنًا؛ أجزأ ذلك عن عمرة الإسلام؛ لأنه إذا حج متمتعًا معنى ذلك أنه سيأتي بعمرة وحج، وهكذا لو كان قارنًا سيأتي بعمرة وحج، لكن إذا حج مفردًا ولم يكن قد سبق أن اعتمر في حياته، هنا تكون العمرة باقية في حقه، فيجب عليه أن يأتي بالعمرة.

السؤال: لديَّ طفل صغير عمره ست سنوات، هل يصح الاعتمار عنه؟

الجواب: إذا كان المقصود أنه يعتمر عنه وهو في بلده لم يأتِ مكة فهذا ليس بمشروع، أما إذا كان المقصود أن الطفل نفسه يُحمَل وينوي وليُّه عنه؛ فلا بأس بذلك.

السؤال: شخص في البَرِّ أذَّن إلى غير جهة القِبلة، ثم تبينت له القبلة، هل يعيد الأذان؟

الجواب: لا يعيد الأذان؛ لأن استقبال القبلة مستحب، مِن سنن الأذان لكنه ليس واجبًا.

السؤال: عندي مبلغ تم جمعه من أهل الخير لدفع رسومٍ لأرض سوف يُقام عليها مسجد، هل فيه زكاة؟

الجواب: هذا المبلغ لا زكاة فيه، الأموال الخيرية والأوقاف والوصايا هذه كلها لا زكاة فيها.

السؤال: امرأة مِن جُدة توفي زوجها، وهي ما زالت في العدة، ووالدتها كبيرة في السن في الرياض ومريضة، هل يجوز للمرأة السفر لزيارة أمها ورعايتها؟

الجواب: لا بأس بأن تزورها أمها في هذه الحال؛ وذلك لأن الأم حقها متأكد على ابنتها، وبرها واجب، فحينئذٍ خروج هذه المرأة وسفرها لأجل زيارة والدتها يَدخل في الخروج وفي السفر لحاجة؛ فلا بأس بذلك إن شاء الله.

السؤال: متى يتلفظ بتكبيرات الانتقال في الصلاة؟

الجواب: يتلفظ بها مِن بداية الشروع في الانتقال إلى انتهائه، فمثلًا عند الركوع عندما يريد أن يكبر للركوع من حين انحنائه، يقول: الله أكبر.

وكذلك أيضًا عندما يرفع أو يبدأ في الرفع من الركوع، يبدأ في قول: “سمع الله لمن حمده”، بحيث يكون التكبير أو التسميع مصاحبًا للفعل والحركة.

بعض الناس يخالف السنة في هذا، فتجد أنه يكبر قبل أن يرفع، أو يكبر بعدما يرفع، يعني: ما زال راكعًا، ثم يقول: “سمع الله لمن حمده”، ثم يرفع، هذا خلاف السنة، أو أنه يستوي قائمًا ثم يقول: “سمع الله لمن حمده”، هذا أيضًا خلاف السنة.

وإنما ينبغي أن تكون التكبيرات والتسميع مصاحبًا للانتقال.

السؤال: هذا الأخ السائل يسأل عن صيام الأيام البيض لشهر ربيع الأول من هذا العام، هل تبدأ غدًا الثلاثاء أو بعد غد الأربعاء؟

الجواب: الجواب أن الأيام البيض تبتدئ بعد غدٍ الأربعاء؛ وذلك لأن شهر ربيع الأول لم تثبت رؤية هلاله، فمعنى ذلك أنه يكون متأخرًا عن تقويم أم القرى بيوم، فيكون اليوم الثالث عشر ليس يوم غد بحسب الرؤية، وإنما يكون يوم الأربعاء، وعلى ذلك فتكون الأيام البيض الأربعاء والخميس والجمعة.

السؤال: حديث: مَن صلى لله ثنتي عشرة ركعة؛ بنى الله له بهن بيتًا في الجنة[28]، هل هذا الفضل خاص بمن أتى بالسنن الرواتب، أو أنه عام من دون تحديد السنن الرواتب، كمن صلى الضحى ثماني ركعات، وقام في الليل أربع ركعات؟

الجواب: هذا الحديث خاص بالسنن الرواتب: مَن صلى لله تعالى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بهن بيتًا في الجنة هذا رواه مسلم، وجاء تفسير ذلك في رواية الترمذي[29]: بأنها السُّنن الرواتب.

وهي: أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. المقصود بهذه الاثنتي عشرة ركعة: السنن الرواتب.

السؤال: الحكمة هل هي توهب أو تكتسب؟

الجواب: هي تُوهب وتُكتسب.

أما الموهبة فهذا ظاهرٌ؛ بعض الناس يخلقه الله تعالى حكيمًا، قد أعطاه الله تعالى الحكمة: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]، فتجد أنه حكيم في أقواله، حكيم في تصرفاته، حكيم في نظرته للأمور.

وبعض الناس يكتسب الحكمة بالتجارب، يستفيد من التجارب، يستفيد من الأحداث، فيكتسب الحكمة؛ ولذلك يقال: لا حكيم إلا ذو تجربة، يعني: لا يمكن أن يبلغ الإنسانُ المبلغَ الأكمل في الحكمة إلا إذا كان صاحب تجارب.

فالحكمة جزء منها موهبة، وجزء منها مكتسب يكتسبه الإنسان مع التجارب.ولذلك فالعاقل الذي يستفيد من التجارب، ويستفيد من الدروس، ويستفيد من العِبَر، مع مرور الوقت تتراكم عنده فيكون مع مرور الوقت حكيمًا.

السؤال: ما حكم تحدُّث الخاطب مع مخطوبته عبر الواتساب أو مكالمة هاتفية، أو عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي؟

الجواب: لا بأس بذلك؛ لأنه إذا كان يجوز للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، فيجوز أن يتحدث معها من بابٍ أولى، فلا بأس أن يتحدث معها، وأن يتكلم معها، لكن بغير توسع، ويكون ذلك بعلم وإذن أهلها، ويكون ذلك من غير توسع، فمكالمة المخطوبة هو كرؤية المخطوبة، إذا جاز رؤية المخطوبة فتجوز مكالمتها من باب أولى.

السؤال: ما حكم الروبوت إذا كان صورته تشبه ذوات الأرواح؟

الجواب: إذا كان مُجسَّمًا على شكل ذوات أرواح، هذا من أشد ما يكون من التصوير؛ لأن العلة في النهي عن التصوير هي محاكاة لخلق الله ، ومضاهاة لخلق الله سبحانه: ومَن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي[30]، يُضاهُون خَلْقَ الله[31].

فالصُّور المُجسَّمة التي فيها مضاهاة لخلق الله تعالى، هذه أشدُّ ما تكون من أنواع التصوير، وقد لعن اللهُ المصورين، والبيت الذي فيه صورةٌ لا تدخله الملائكة، وكذلك أيضًا الصور المرسومة -صور ذوات الأرواح المرسومة أيضًا- تدخل في الصور المحرمة.

ولهذا؛ كان عند عائشة قِرَامٌ -يعني- تَستُر به سَهْوةً مِن البيت، يعني عندها مثل البساط ونحوه، وكان عليه رسوماتٌ لخيلٍ ذواتِ أجنحة، كما جاء في “صحيح مسلم”، ومع ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام لما رآه تغيَّر وجهُه من شدة الغضب، وقال: يا عائشة، ما هذا؟ إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون. فقالت عائشة: جعلنا منه وسادة أو وسادتين[32].

مع أنها صورٌ لخيلٍ ذواتِ أجنحة، رسوماتٌ لخيلٍ ذواتِ أجنحة.

فإذن، الصور المحرمة هي الصور المجسمة لذوات الأرواح، وكذلك أيضًا الرسومات لذوات الأرواح، هذه الصور المحرمة.

أما الصور الفوتوغرافية والتلفزيونية، فهذه لا تَدخُل في الصور المحرمة، وهي أصلًا ليست صورًا بالمعنى الشرعي؛ ولذلك كانت قديمًا عندنا في المملكة العربية السعودية، ما كانت تسمى صورة، كانت تسمى عُكُوسًا، فهي ليست صورًا بالمعنى الشرعي؛ لأنها ليست فيها محاكاة ومضاهاة خلق الله.

إذن؛ الصور المحرمة التي ورد التشديد فيها والتي إذا وُجدت في مكان لا تدخله الملائكة، هي الصور المجسمة لذوات الأرواح، وكذلك الرسومات لذوات الأرواح.

السؤال: ما الفرق بين العُربون وهامش الجِدِّية؟

الجواب: العربون معناه: أن المشتري يعطي البائع مبلغًا من المال، ويقول: إن أتممت البيع كان جزءًا من الثمن، وإن لم يتم البيع فيكون هذا المبلغ لك. هذا هو العربون.

ولا بأس به على القول الراجح؛ ولما سُئل عنه الإمام أحمد قال: أي شيء أقول، هذا عمر فعله.

أما هامش الجدية: فهو مبلغ يعني بمثابة التأمين، بعض الناس يقول: أعطني هامش جدية حتى أعرف أنك جادٌّ في الشراء. فيعطيه مبلغًا من المال، ويقول: إن تم البيع اعتبرناه جزءًا من الثمن، وإن لم يتم البيع تُعيده لي.

فالفرق بين العربون وهامش الجدية: أن العربون إذا لم يتم البيع يذهب على المشتري، يأخذه البائع، أما هامش الجدية إذا لم يتم البيع فيلزم البائع أن يعيده للمشتري، ولا يذهب عليه.

وكلاهما لا بأس به، كلاهما -العربون وهامش الجدية- لا بأس به، هامش الجدية قد يحتاج إليه في بعض المسائل التي لا يجوز فيها العربون، مثلًا شراء عقار عن طريق البنك، فالفتوى أنه لا يجوز لمشتري هذا العقار أن يعطي عربونًا للبائع، للمالك، وإنما يكون العربون للبنك؛ لأنه سيشتريه من البنك.

لأنه لو أعطاه صاحبَ البيت فمعنى ذلك أنه اشترى من صاحبِ البيتِ والبنكُ فقط مُقرِضٌ، وهذا لا يجوز، ينبغي أن تكون علاقة المشتري بالبنكِ، والبنكُ هو الذي يشتري البيت من مالكه، فلا يجوز أن يعطي المالكَ عربونًا، فما هو الحل في مثل هذه المسألة؟

يعني: بعض المُلَّاك يقول: أنا أخشى أن هذا الذي يريد الشراء لا يعزم في شرائه، أريد أن أعرف جديته، فيطلب منه هامش جدية، يقول: أعطني هامش جدية، أعطني مبلغًا من المال إذا تم البيع حسَبناه جزءًا من الثمن، وإذا لم يتم البيع أعيده لك. أو يقول مثلًا: أعطني هامش جدية، وإذا تم البيع أو لم يتم أنا سأعيده لك.

لأن -أصلًا- تعامُلَه مع البنك في الصورة الأخيرة، فيقول: أعطني هامش الجدية حتى أعرف أنك جاد، وسأعيده لك.

فيعني قد يحتاج لهامش الجدية في الحالات التي لا يجوز فيها دفع العربون، فكلاهما لا بأس به: العربون وهامش الجدية، لا بأس به.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1, ^2 رواه البخاري: 1816، ومسلم: 1201.
^3 رواه أحمد: 8031، وأبو داود: 2440، وابن ماجه: 1732.
^4 رواه البخاري: 1997.
^5 رواه البخاري: 2731.
^6 رواه البخاري: 2731، ومسلم: 1785.
^7 رواه ابن أبي شيبة في “المصنف”: 13808.
^8 رواه أحمد: 25103.
^9 رواه أحمد: 2090، وأبو داود: 1978، والنسائي: 3084، وابن ماجه: 3041.
^10 رواه أحمد: 14165، وأبو داود: 3801، والترمذي: 851.
^11 رواه البخاري: 3189، ومسلم: 1353.
^12 رواه البخاري: 2129، ومسلم: 1360.
^13 رواه البخاري: 2783، ومسلم: 1864.
^14 رواه البخاري: 1349، ومسلم: 1353.
^15 رواه البخاري: 112، ومسلم: ١٣٥٣.
^16 رواه البخاري: 6720، ومسلم: 1654.
^17 رواه مسلم: 1318.
^18 رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
^19 رواه أحمد: 18774، والترمذي: 889، وابن ماجه: 3015، والنسائي: 3016.
^20 رواه أحمد: 16208، وأبو داود: 1950، والترمذي: 891، وابن ماجه: 3016، والنسائي: 3041.
^21 رواه مسلم: 1690.
^22 رواه مسلم: 1218.
^23 رواه مسلم: 1348.
^24, ^25, ^26, ^27 سبق تخريجه.
^28 رواه مسلم: 728.
^29 رواه الترمذي: 414.
^30 رواه البخاري: 5953، ومسلم: 2111.
^31, ^32 رواه البخاري: 5954، ومسلم: 2107.
zh