عناصر المادة
النبي يقول: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين[1]، إذا وجدت من نفسك حرصًا على التفقه في الدين، وحرصًا على طلب العلم، ومحبة لذلك، فهذه أمارة إن شاء الله على أنه أريد بك الخير، ومفهوم هذا الحديث: أن من لم يرد به الخير، لا يوفق للفقه في الدين.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي، في هذا اليوم الاثنين، الثالث عشر من شهر صفر، من عام 1443 للهجرة.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10]، اللهم ارزقنا الفقه في دينك يا حي يا قيوم.
حكم النية لإخراج الزكاة
وكنا قد وصلنا في (باب: الزكاة) إلى قول المصنف رحمه الله تعالى:
فصل: ويُشترط لإخراجها نيةٌ من مكلف.
وهذا بالإجماع؛ لقول الله تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]، قوله: تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فيه إشارة إلى النية؛ ولحديث: إنما الأعمال بالنيات[2]؛ ولأن إخراج المال يكون لأغراض متنوعة.
فالنية هي التي تُحدِّد؛ قد يكون هبة، قد يكون صدقة، قد يكون هدية، قد يكون يُؤدِّي أغراضًا متعددة، فالذي يحدد الزكاة هو النية، بناء على هذا لو أن رجلًا يعرف أخًا له، أو صديقًا يريد أن يخرج الزكاة، فأخرجها عنه بدون توكيل، هل يجزئ؟
المؤلف اشترط النية، والنية هنا لم تَحصُل، فعلى كلام المؤلف أنه لا يُجزئ.
والقول الثاني في المسألة: أنها تُجزئ، إذا أجاز ذلك مَن تجب عليه الزكاة، تخريجًا على مسألة الفضول، فلو أنه لما أخرج عنه الزكاة، قال له: جزاك الله خيرًا، وأقره على ذلك، فيجزئ.
واستدل أصحاب هذا القول بقصة أبي هريرة لمَّا وكله النبي عليه الصلاة والسلام في حفظ الزكاة، وأتاه شيطان على صورة إنسي، وجعل يحثو من الطعام؛ ولما أراد أبو هريرة أن يرفعه للنبي عليه الصلاة والسلام اشتكى فقرًا وعيالًا، فخَلَّى عنه، وفي كل مرة يقول له النبي عليه الصلاة والسلام: ما فعل أَسِيرُك البارحة؟ ثم يقول: إنه كَذَبك وسيعود.
ثم بعد ذلك، في المرة الثالثة، لمَّا أراد أن يرفعه للنبي عليه الصلاة والسلام، قال: ألا أُعلِّمك كلماتٍ ينفعك الله بها؟
لأن الشيطان يعرف حِرص الصحابة على العلم، العلم عندهم أعظم من المال، فأبو هريرة قَبِل بذلك، قال: إذا أَوَيْتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فذهب أبو هريرة للنبي عليه الصلاة والسلام، قال: صَدَقَكَ وهو كَذُوب، أَتَعْلم من تخاطب منذ ثلاث ليال؟ قال: لا. قال: ذاك شيطان[3].
الشاهد من هذه القصة: أن أبا هريرة دفع الزكاة لمن ادَّعى فقرًا، مع أن أبا هريرة ليس هو المالك، وإنما وكيل في الحفظ، وليس وكيلًا في الإعطاء، ومع ذلك دفع الزكاة من غير نية من صاحب الزكاة، وأجاز ذلك النبي وأقره عليه.
ولأن منع التصرف حق للغير، فإذا أجازه فلا مانع. أما النية فتكفي نية النائب؛ ولأن المالك لو أذن له قبل التصرف صح، فكذا إذا أذن له بعد التصرف.
ولهذا؛ بوَّب البخاري في “صحيحه” على هذا الحديث بقوله: “باب: إذا وكل رجلًا فترك الوكيل شيئًا، فأجازه الموكل، فهو جائز”، استنباطًا من هذه القصة. وهذا القول هو القول الراجح.
فمَن دفع الزكاة عن غيره، فأجازه رب المال، فيجزئ ذلك. واختار هذا القول الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله تعالى.
فمثلًا؛ إذا كنت تعرف أن والدك يريد أن يُخرج الزكاة، فأردتَ أن تُدخل السرور عليه، فأتيته وقلت: يا أبتِ، أنا أخرجتُ عنك الزكاة. فدعا لك، وقال: جزاك الله خيرًا.
هنا الأب لم ينو، لكن لما أخرجتَ الزكاة وذكرتَ له ذلك، فأتت النية فيما بعد، فعلى القول الراجح: أن هذا لا بأس به، لكن على المذهب: أن هذا لا يجزئ، لا بد من أن تستأذن من أبيك قبله، ويوكلك في إخراج الزكاة. لكن على القول الراجح: أن هذا مجزئ، ولا بأس به.
طيب، ماذا لو كان العكس، وأن أحدًا دَفَع عن غيره الزكاةَ بغير عِلمه وبغير إذنه، ثم أتى إليه بعد ذلك، وقال: يا فلان، أنا أخرجت الزكاة عنك، فلم يقره على ذلك، بل أنكر عليه، وقال: لِمَ تدفع عني؟ ما أذنتُ لك؟ فهذا لا يجزئ قولًا واحدًا، لا يجزئ، وينصرف الذي دفعه إلى صدقة تطوع.
وأذكر أن رجلًا كان بارًّا بأبيه، وكان أبوه رجلًا صالحًا، لكنه كان لا يُخرج الزكاة، فأتى واستفتى، وقال: لو أخرجتُ عنه الزكاة، هل يجزئ بغير إذنه وعلمه؟ فقلت له: لا بد من نية. فقال: يمكن أن أخرج عنه الزكاة وأخبره بعد ذلك. قلت: طيب إذا أخبرته هل سيجيز ذلك؟ قال: لا، نحن إذا تحدثنا معه في هذا الموضوع غضب علينا غضبًا شديدًا، فلو أنني قلت له: أخرجتُ عنك زكاةً، سيغضب، ولن يرضى. قلت: إذن، لا يجزئ، لا بد من أن يقرك على ذلك، لا بد من الإجازة بالتصرف، إما قبل وإما بعد على القول الراجح.
فإذن، الزكاة لا بد لإخراجها من النية؛ ولهذا فبعض الناس يواجهون صعوبة مع بعض أقاربهم الذين لا يُخرجون الزكاة، خاصة إذا كان القريب أبًا أو أُمًّا، ولا يخرج الزكاة، فيقولون: نحن نريد أن نُخرج الزكاة عنه وهو لا يعلم؟ نقول: إن هذا لا يجزئ؛ لأنه لا بد في إخراج الزكاة من النية.
طيب، ما العمل؟ العمل أنكم تَسْعَون لإقناعه ولموعظته وتذكيره بالله ونحو ذلك، هذا هو الذي تفعلون معه، أمَّا أنكم تُخرجون الزكاة عنه بغير علمه وبغير إذنه، فهذا لا يجزئ؛ لأن الزكاة لا بد في إخراجها من نية من صاحب المال.
تفريعات على شرط النية في إخراج الزكاة
ماذا لو أن رجلًا تصدَّق بصدقةٍ على فقير أو مسكين، ثم تبين له بعد ذلك أن الزكاة تجب في ماله، فقال: أعتبر تلك الصدقة زكاة؟
نقول: لا يصح اعتبار تلك الصدقة زكاة؛ لأنه يشترط مقارنة النية للإخراج، هذا رجل أتاه فقير، أخرج ألف ريال وأعطاها هذا الفقير ناويًا أنها صدقةُ تطوع، ثم تذكَّر أن في ذمته زكاةً لم يُخرجها، قال: إذن أعتبر الصدقة التي دفعتها لهذا الفقير زكاة. نقول: هذا لا يجزئ؛ وذلك لأنه عند الإخراج لم تنوِ أنها زكاة.
لو أن شخصًا وكل آخر في توزيع الزكاة، فأعطاها الوكيل للفقير على أنها صدقة تطوع، فما الحكم؟ الجواب: هذا لا يضر؛ لأن العبرة بنية الدافع على أنها زكاة، ما دام أنه نوى أنها زكاة قبل أن يسلمها للوكيل؛ فتصح وتجزئ.
طيب، ماذا لو أخرج مالًا ونوى أنه إن كان عليه زكاة فهو زكاة، وإلا فهي صدقة، نقول: لا بأس بذلك ويجزئ؛ لأن أصل النية موجود؛ ولأنه بدأ بالفرض فلم يتردد فيه.
وهذا يُحتاج إليه فيما لو أشكل على الإنسان حسابُ مقدار الزكاة، فبعض الناس يشكل عليه، يريد أن يحسب الزكاة فتشكل عليه حسابات الزكاة، فيريد أن يحتاط، يقول: إذن، أنا أحتاط بدفع هذا المبلغ، فإن كان زكاة وإلا فالزائد أنويه وأعتبره صدقة تطوع؟ فنقول: هذا لا بأس به، وهذا من الورع والاحتياط.
طيب، ماذا لو أعطى فقيرًا مالًا ناويًا أنه زكاة، لكن عند تسليمه للمال أخطأ، وقال: هذا هدية أو هبة؟ الجواب: أن هذا لا بأس به، وتصح زكاة؛ لأن العبرة بما في القلب.
ولهذا؛ إذا اختلف ما في القلب عما في اللسان، فالعبرة بما في القلب، الأصل أن الإنسان يؤاخذ بما في قلبه، وإنما اعتُبر اللسان للتعبير عما في القلب، فإذا اختلف اللسان عن القلب، فيُرجَّح ما في القلب.
حكم تقديم نية إخراج الزكاة
قال المصنف رحمه الله:
وله تقديمها بيسير.
أي: تقديم النية عن الإخراج بزمن يسير كسائر العبادات، في الصلاة، قال: لو تقدمت النية عليها بزمن يسير صح، وهكذا في جميع العبادات، حتى في الصيام: نوى أنه سيصوم غدًا، وتقدمت النية قبل وقت الفجر مثلًا بساعتين أو ثلاث فلا بأس بذلك، تَقَدُّم النية على العبادة بزمن ليس طويلًا عُرفًا لا بأس به.
قال:
والأفضل قَرْنها بالدفع.
الأفضل أن تقترن النية بالدفع عند عامة العلماء.
فينوي الزكاة، أو الصدقة الواجبة.
أي: أنه يُعيِّن ما نوى، هل هو زكاة أو صدقة؟
ولا يجزئ أن ينوي صدقة مطلقة.
لأن الصدقة المطلقة لا تنصرف بالفرض إلا بالتعيين، فلا بد من أن يُحدِّد، يقول: زكاة أو صدقة، كما أنه مَن صلى صلاة مطلقة لا تجزئ عن الفريضة.
قال:
ولو تصدَّق بجميع ماله.
لو تصدق إنسان بجميع ماله لم يجزئ ذلك عن الزكاة؛ لأنه لا بد من نية الزكاة.
ولا تجب نية الفرضية.
يعني: الاكتفاء بنية الزكاة؛ لأنها لا تكون إلا فرضًا.
وإنما قال المؤلف ذلك احترازًا من قول بعض الفقهاء: إنه لا بد أن ينوي أنها زكاة وينوي أنها فرض. نقول: هذا لا دليل عليه، يكفي أن ينوي أنها زكاة، ولا حاجة لأن ينوي أنها فرض. كما قالوا أيضًا في الصلاة: لا بد أن ينوي أنها صلاة، ولا بد أن ينوي أنها فرض. والراجح: أنه يكفي أن ينوي أنها صلاة.
وأما هذه التشقيقات فلا دليل عليها، وهذه ربما تؤدي ببعض الناس إلى الوسواس، يعني: بعض الناس يتحسَّس من هذه المعاني، إذا قلتَ له: لا بد من أن تنوي أنها صلاة، وتنوي أنها فرض، وتنوي أنها زكاة، وتنوي الفرضية أنها فرض.
بعض الناس الذين عندهم استعداد للوساوس يوسوسون في مثل هذه الأمور، يكفي أنك نويتَ أنها صلاة، أصلًا إذا أتيت المسجد فقد نويت أن تصلي، فإن كان مِن عادتك أنك تُخرج الزكاة كلَّ عام، وأخرجتَ هذا المال بناء على هذه العادة فأنت نويت الزكاة، ومن تسحَّر نوى الصيام، كما قال ابن تيمية رحمه الله: “النية تتبع العلم، إذا علمت أن غدًا من رمضان فقد نويت الصيام”.
فلا داعي للتدقيق في مسائل النية؛ لأن هذا التدقيق يؤدي للوسواس.
قال المصنف رحمه الله:
ولا تعيين المال المُزكَّى عنه.
أي: لا يجب تعيين المال المزكى عنه، فإن كان له مثلًا خمسٌ من الإبل، وأربعون من الغنم، وقال: هذه الشاة أخرجتها عن الإبل أو عن الغنم أجزأ ذلك.
ومن فروع هذه المسألة: لو كان له مالٌ غائب وحاضر، قال: هذه الزكاة عن مالي الغائب، فإن كان تالفًا فعن الحاضر؛ أجزأ ذلك إذا كان المال الغائب تالفًا؛ لأنه لا يشترط نية تعيين المال المزكى.
وأيضًا من فروع هذه المسألة: بعض الناس قد يكون ساهم في شركة متعثرة، ويقول: لا أدري هل أموال هذه الشركة موجودة أو لا؟ وهل ترجع أموالي إليَّ أو لا؟ فأنا أزكي عن مالي في هذه الشركة المتعثرة إن كان موجودًا، فإن كان غير موجود أو تالفًا أو لن يرجع فتكون الزكاة عن مالي الحاضر، فهذا يقول الفقهاء: إنه يصح.
قال:
وإن وكَّل في إخراجها مسلمًا أجزأت نية المُوكِّل مع قرب الإخراج.
نية الموكل تكفي، والغرض متعلق بها.
وإلا نوى الوكيل أيضًا.
يعني: إذا وكَّل في إخراجها وكيلًا مسلمًا فتجزئ نية الموكل، إذا كان وقت الإخراج قريبًا؛ لأن هذا هو الأصل، لكن إذا كان وقت الإخراج بعيدًا فلا بد من نية من الموكل ونية من الوكيل.
حكم نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر
والأفضل جَعْل زكاة كلِّ مالٍ في فقراء بلده، ويحرم نقلها مسافةَ قصرٍ، وتجزئ.
هذه المسألة عند الفقهاء هي مسألة حكم نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، والمؤلف يقول: إن الأفضل ألا تُنقل الزكاة، وهذا عند جميع العلماء أن الأفضل ألا تُنقل، وإنما تعطى الزكاة لفقراء البلد؛ وذلك لأن فقراء البلد تتعلق أطماعهم بما عند الإنسان من المال؛ ولأن دفع الزكاة لفقراء البلد مما يقوي المحبة والمودة بين المسلمين؛ ولأنه أيسر غالبًا؛ ولأن الإنسان أيضًا يدفع بذلك التهمة عن نفسه حتى لا يقال: إن فلانًا عنده أموال ولا يزكي.
لكن، هذا كونه هو الأفضل هذا قول عامة أهل العلم، لكن من حيث الحكم: هل يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر أو يحرم؟
يقول المؤلف: (ويحرم نقلها إلى مسافة قصر وتجزئ)، فالمؤلف يقول: (إنه يحرم نقلها إلى مسافة قصر)، يعني أكثر من ثمانين كيلومترًا، مسافة القصر عند الحنابلة أربعة برد، وتعادل ثمانين كيلومترًا.
فعلى رأي المؤلف وهو المذهب عند الحنابلة: أنه لا يجوز نقل الزكاة أكثر من ثمانين كيلومترًا، وهو قول الجمهور أيضًا.
واستدلوا بقصة معاذ لما بعثه النبي إلى اليمن، وجاء فيه: فأَعلِمْهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، فتُرد على فقرائهم[4].
قالوا: فقوله: فترد على فقرائهم إضافةُ تخصيص؛ أي: على فقراء أهل اليمن.
القول الثاني في المسألة: أنه يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر للحاجة أو للمصلحة الراجحة، وأما للحاجة كأن يكون من في البلد الآخر أشد فقرًا. وأما للمصلحة الراجحة كأن يكون له في البلد الآخر أرحام، فيريد بذلك أن تكون زكاة وصلة رحم.
وهذا القول قول عند الشافعية، وهو القول الراجح: أنه يجوز نقل الزكاة للحاجة وللمصلحة، وهذا هو الذي عليه عمل أكثر المسلمين اليوم؛ ولعموم الأدلة، ومنها قول الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، وهذا يعم الفقراء والمساكين في أي مكان؛ ولأنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على منع نقل الزكاة.
أما ما استدل به أصحاب القول الأول من حديث معاذ، واستدلالهم بقوله: فتُرد على فقرائهم فلن نسلم بأن المقصود بقوله: فترد على فقرائهم أن المقصود فقراء اليمن، وإنما المقصود: فترد على فقرائهم؛ أي: فقراء المسلمين.
ولهذا؛ ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا الدليل يصلح دليلًا وحجة لمن أجاز نقل الزكاة، وممن ذهب إلى ذلك البخاري رحمه الله، وبوَّب في “صحيحه”، قال: “باب: أخذ الصدقة من الأغنياء، وترد في الفقراء حيث كانوا”، ثم ذكر حديث معاذ.
وعلَّق الحافظ ابن حجر في “فتح الباري”، قال: “قال ابن المنير: اختار البخاري جواز النقل.. لأن الضمير في قوله: على فقرائهم يعود على المسلمين، فأيُّ فقيرٍ منهم في أي جهة فقد وافق عموم الحديث”.
وعلى ذلك نقول: بأنه لا بأس بنقل الزكاة من بلد إلى آخر، إذا كان ذلك للحاجة أو للمصلحة الراجحة.
ثم أيضًا إذا تأملنا في ظاهر الحال في عهد النبي ، ظاهر الحال أن الزكاة كانت تُنقل من بلد إلى بلد، كما في حديث عبدالله بن اللُّتْبِيَّة، حيث كان يقبض الزكوات من أربابها، ثم يأتي بها النبي عليه الصلاة والسلام[5]، وكما في حديث قَبِيصَة، وكما أيضًا في حديث أبي هريرة في الصحيحين، قال: ما زلت أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من النبي . وذكر منها: وجاءت صدقاتهم، فقال عليه الصلاة والسلام: هذه صدقات قومنا[6].
ومعلوم أن مواطن بنو تميم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أنها مواطن بعيدة، يبعدون مسافةً أكثر من ثمانين كيلومترًا، وهذا كالنص في المسألة في جواز النقل، فالأدلة متظافرة على جواز النقل من بلد إلى آخر، ولم يأتِ المانعون بدليل سوى حديث معاذ، وأجبنا عنه، وقلنا: إنه ليس بالصريح في عدم جواز النقل.
وعلى هذا؛ فلا بأس بنقل الزكاة من بلد إلى آخر للحاجة أو للمصلحة الراجحة، يعني: هذا رجل مثلًا يعمل في المملكة، وعنده زكاة، وله أقارب في بلده فقراء، فالأفضل أن الزكاة يعطيها أقاربه الفقراء في بلده؛ لأن ذلك يجعلها زكاةً وصلة رحم، فيكون أجرها وثوابها أعظم، أو أن الفقراء في بلده أشدُّ حاجةً من الفقراء في البلد الذي يعمل فيه، فنَقْل الزكاة إلى بلده أفضل.
حكم تعجيل الزكاة لحولين
قال:
ويصح تعجيل الزكاة لحولين فقط إذا كَمَلَ النِّصابُ، لا منه للحولين، فإن تلف النصاب أو نقص وقع نفلًا.
يعني: مسألة تعجيل الزكاة، وهي محل خلاف بين الفقهاء:
- فجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة على جواز تعجيل الزكاة، خلافًا للمالكية.
- المالكية هم الذين لم يجيزوا تعجيل الزكاة.
والقول الراجح هو قول الجمهور، ومن أدلة ذلك: أن النبي تعجل زكاة عمه العباس بسنتين؛ لما قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس، فقال: ما يَنقِمُ ابنُ جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا فقد احتبس أَدْرَاعه وأَعْتُدَه في سبيل الله، وأما العباس فهي عليَّ ومثلها معها[7].
فالشاهد قوله: فهي عليَّ ومثلها معها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام تعجَّل صدقة عمه العباس.
قوله: فهي عليه صدقة ومثلها معها يعني: العباس عزَّره النبي عليه الصلاة والسلام بأن أخذ منه الزكاة ومثلها معها، كما في قوله: ومن منعها فإنا آخِذُوها وشَطْرَ ماله[8].
لكن تعجيل النبي بزكاة عمه العباس جاء من طرق متعددة يشد بعضها بعضًا؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر: “ليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق”.
وقياسًا على دفع كفارة اليمين قبل الحنث؛ فإنها جائزة.
وأيضًا من جهة النظر: تعجيل الزكاة لمصلحة أهل الزكاة، وتأخيرها إلى أن يتم الوجوب، من باب الرفق بالمالك، وإلا فالأصل أنها تجب عليه الزكاة من حين مَلَك النصاب، فإذا كان هذا من باب الرفق بالمالك ورَضِيَ لنفسه بالأشد، وأراد أن يُعجِّل الزكاة؛ فلا بأس، ولا مانع من هذا.
لكن المؤلف اشترط، قال: (إذا كمل النصاب)، فلا بد أن يكون عنده نصاب، أما إذا لم يكن عنده نصاب فإنه لا يجزئ تعجيل الزكاة في هذه الحال.
وهذا مَبْنيٌّ على قاعدة فقهية ذكرها الحافظ ابن رجب قال: “القاعدة الرابعة: العبادات كلها -سواء كانت بدنية أو مالية أو مركبة منهما- لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب، وقبل شرط الوجوب”.
هذه القاعدة مفيدة لطالب العلم، فتقديم الشيء على سببه مُلْغًى، وتقديمه على شرطه جائز.
فمثلًا، تقديم الزكاة على مِلك النصاب ملغى؛ لأنه تقديمٌ للزكاة على سببها، لكن تقديم الزكاة على تمام الحول جائز، فيجوز تعجيل الزكاة.
ومن فروع ذلك مثلًا: لو أن شخصًا قال في الكفارة: أنا أريد أن أكفر، حتى إذا حلفت أكون قد كفَّرت، نقول: هذا لا يصح؛ لأن هذا من باب تقديم الكفارة على سببها، وهو الحنث، لكن لو أنه حلف وأراد أن يكفر قبل أن يحنث فلا بأس؛ لأنه من باب تقديم الكفارة قبل شرطها؛ لأن الحِنث هو شرط وليس سببًا.
قال: (فإن تلف النصاب أو نقص وقع نفلًا)؛ يعني لو أنه عجَّل الزكاة فنقص النصاب بعد التعجيل وقبل تمام الحول، فإن الزائد يكون نفلًا، ولا يجزئ عن غيره من الأعوام؛ لأنه نواه لذلك العام، وهكذا أيضًا لو تلف النصاب.
طيب، ماذا لو كانت المسألة بالعكس: عجَّل الزكاة ثم زاد النصاب، فإنه يُخرِج الزكاةَ على قدر الزائد.
طيب، نحن قلنا: إذن القول الراجح: أنه يجوز تعجيل الزكاة لعام ولعامين، لكن هل تعجيل الزكاة مستحب أو مباح؟
الجمهور يقولون: إنه مباح وليس مستحبًّا، وصاحب “زاد المستقنع” قال: “لا يستحب تعجيل الزكاة”.
وعللوا لذلك بأنه ربما ينقص النصاب أو يتلف المال قبل تمام الحول؛ ولهذا قال صالح ابن الإمام أحمد: سألت أبي عن تعجيل الزكاة؟ قال: “لا بأس إذا وَجَد لها موضعها”.
فإذن، ظاهر كلامهم: أن تعجيل الزكاة مباح وليس مستحبًّا.
القول الثاني في المسألة: أن تعجيل الزكاة مباح، لكن قد يكون مستحبًّا، إذا كان في تعجيل الزكاة مصلحة فهو مستحب. وهذا هو القول الراجح.
ولهذا؛ قال ابن مُفْلح في “الفروع”: يتوجه اعتبار المصلحة. وقال المَرْدَاوِيُّ في “الإنصاف”: “وهو توجيه حسن”.
مثال ذلك: أتى إليك إنسان فقير حلَّ عليه إيجار البيت، وقال له المالك للبيت: إما أن تسدد وإما أن تَخرج من البيت. فقلتَ له: ما عندي إلا الزكاة، وأنا الزكاة أُخرجها في رمضان. فنقول: الأفضل أن تعجل الآن الزكاة التي تخرجها في رمضان، وتعطي هذا الفقير قيمة سداد إيجار هذا المنزل، هذا الأفضل. لماذا؟ لأنك إذا فعلت ذلك فتكون قد أخرجت الزكاة معجلة، وقد فرجت كربة أخيك المسلم، فيكون هذا أعظم أجرًا وثوابًا مما لو انتظرت إلى رمضان فأخرجت الزكاة في ذلك الوقت.
وهذا القول ينبغي أن يُشاع في الناس؛ لأن فيه تنفيسًا لهموم كثيرٍ من الفقراء؛ لأن بعض الفقراء تُلِمُّ بهم حوائج فيأتون ويطلبون من بعض الناس مساعدات، يقولون: ما عندنا شيء. ولكن هؤلاء يُخرجون زكواتهم في رمضان.
فنقول لهذا الذي يُخرج زكاته في رمضان: الأفضل أنك تعجل الآن زكاة مالك وتعطيها هذا الفقير المحتاج فتسد بذلك حاجته، يكون هذا أعظم أجرًا وثوابًا مما لو انتظرت حتى يأتي رمضان فتُخرج زكاة مالك.
لكن هنا استثنى الفقهاء من جواز تعجيل الزكاة وليَّ اليتيم والمجنون والسفيه ومَن وَلِيَ مالًا لغيره، فقالوا: ليس له تعجيل الزكاة. وعلَّلوا ذلك قالوا: لأن تعجيل الزكاة فيه تبرُّع لفائدةِ استثمار المال في فترة التعجيل.
انتبِه؛ هذه مسألة ليست موجودة في “السلسبيل” استدركناها، لعلها تُذكَر في الطبعة القادمة.
إذن، استثنوا هذه المسألة، فقالوا: ليس لولي اليتيم والمجنون والسفيه ومَن ولي مالًا لغيره تعجيل الزكاة؛ لأن تعجيل الزكاة فيه تبرع لفائدة استثمار المال في فترة التعجيل، والولي ممنوع من التبرع بشيء مِن مالِ مَن وَلِيَ عليه مِن يتيمٍ وغيره.
فإذن، ولي اليتيم والمجنون والسفيه ومَن ولي مالًا لغيره ليس له تعجيل الزكاة.
باب أهل الزكاة
ننتقل بعد ذلك إلى (باب: أهل الزكاة)، قال المصنف رحمه الله:
باب: أهل الزكاة.
وهم ثمانية.
ثمانية أصناف على سبيل الحصر، ذكرهم الله تعالى في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].
الأول: الفقير
الأول: الفقير.
والفقير؛ هذه المادة مادة الفاء والقاف والراء، “فقير” على وزن فَعِيل، يُشتق مِن “فَقَر الظَّهْرَ”، كأنه يعني كَسَر صُلْبَه لشدة حاجته.
عرَّفه المؤلف بقوله:
وهو من لم يجد نصف كفايته.
يعني: المُعدَم الذي ليس عنده شيء، أو لم يجد نصف كفايته، فالمُعدم الذي ما عنده شيء: هذا فقير، عنده شيء لكن دون نصف الكفاية فيعتبر فقير أيضًا.
الثاني: المسكين
الثاني: المسكين.
المسكين من السكون، وهو الذي أسكنَتْه الحاجة وأذلته؛ لأن الحاجة والفقر تُذل الإنسان؛ ولذلك لو وجدتَ في مجلس فقيرًا وغنيًّا تجد أن الفقيرَ منكسر ذليل بسبب الفقر، وأما الغني تجد أن عنده عزة وينطلق في الكلام وفي الحديث.
فإذن، الفقر والمسكنة تُذل صاحبها؛ ولذلك سُمي مسكينًا، والفقير والمسكين يجمعهما الحاجة.
عرَّف المصنف (المسكين) فقال:
وهو من يجد نصفها أو أكثرها.
يعني: يجد نصف الكفاية أو أكثر الكفاية، لكنه لا يجد تمام الكفاية.
الفرق بين الفقير والمسكين
والفقير والمسكين من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت، إذا قيل “فقير” شمل المسكين، وإذا قيل “مسكين” شمل الفقير، لكن إذا قيل: “فقير ومسكين”، فالفقير له معنى، والمسكين له معنى.
الفقير: من لا يجد شيئًا، أو يجد دون نصف الكفاية. والمسكين: مَن يجد نصف الكفاية أو أكثرها.
ومثل ذلك مثلًا: الإسلام والإيمان، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
طيب، نريد أن نوضح الفرق بين الفقير والمسكين.
أولًا: بعض العلماء قال: إن الفقير هو المحتاج المتعفف الذي لا يَسأل، والمسكين هو المحتاج الذي يسأل. هذا رجحه ابن جرير الطبري، ولكنه قول مرجوح.
والأقرب ما ذهب إليه المؤلف، هذا هو الأقرب والله أعلم: أن الفقير من لا يجد شيئًا أو يجد دون نصف الكفاية، والمسكين ما يجد نصف الكفاية أو أكثرها.
لأن الله تعالى ذكر عن المساكين أن عندهم مالًا، قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، هم مساكين ويعملون في البحر. فدل ذلك على أن المسكين يكون له مال.
وأما الفقير، فقال الله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر:8]، فهذا الذي ما عنده لا دار ولا مال، يعتبر فقيرًا.
طيب، نوضح الفرق بين الفقير والمسكين بمثال:
إنسان مُعدَم ما عنده شيء، هذا فقير، أو عنده دخل لا يكفيه إلى منتصف الشهر فينتهي مثلًا خمسة من الشهر أو عشرة من الشهر، هذا فقير.
طيب، مَن عنده دخل من الشهر يكفيه إلى منتصف الشهر أو أكثر الشهر، يعني يكفيه إلى خمس عشرة من الشهر أو إلى عشرين من الشهر، لكنه لا يكفيه إلى آخر الشهر، فهذا مسكين.
طيب، من عنده دخل شهري يكفيه لآخر الشهر، هذا ليس بفقير ولا مسكين، بل هو مَكْفِيٌّ ولا تحل له الزكاة. طيب عنده دخل شهري ويدخر جزءًا منه، هذا يعتبر غنيًّا. والغِنَى في كلِّ شيءٍ بحسَبِه: فالغنى في باب الزكاة هو أن يدخر شيئًا ويبلغ النصاب.
فإذن، الفقير: مَن لا يجد شيئًا أو يجد دون نصف الكفاية. المسكين: من يجد نصف الكفاية أو أكثرها دون تمام الكفاية.
طيب، هنا فائدة بالنسبة للفقر والمسكنة، النبي عليه الصلاة والسلام استعاذ بالله تعالى من فتنة الفقر، كما جاء في الصحيحين: أن النبي كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، وفتنة القبر وعذاب القبر، وفتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر[9].
فكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من شر فتنة الغنى ومن شر فتنة الفقر؛ لأن الإنسان إذا افتَقر فربما ينشغل بكسب لقمة العيش ويَصُدُّه ذلك عن العلم، ويصده ذلك عن الدعوة إلى الله تعالى، وربما أيضًا الفقر ترتبط به معاصٍ وجرائم كما هو معلوم، فربما أيضًا يقع بسبب الفقر في الكذب والغش والخداع ونحو ذلك، فكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من شر فتنة الفقر.
وأما حديث: اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين. فهذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه[10]، لكنه ضعيف، وجميع طرقه واهية.
ولذلك؛ كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: اللهم اجعل رِزْق آل محمدٍ قوتًا[11]؛ يعني: كفافًا يكفيهم.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان في أول الأمر ليس عنده كثير مال، كان كما تقول عائشة: يمر عليه الشهر والشهران والثلاثة، وما أوقد في بيته نار[12]. لكنه في آخر حياته عليه الصلاة والسلام أغناه الله تعالى، كما قال سبحانه: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:8].
وفي قصة لَقِيط بن صَبْرة عند أبي داود: أنه لما أتى النبيَّ عليه الصلاة والسلام، وجده قد أتى ومعه الراعي ومعه مائةٌ من الغنم، فقال للراعي: اذبَحْ لنا واحدة. ثم قال للقيط: إنا لم نذبحها لأجلك، ولكن عندنا مائة من الغنم، فإذا نَتَجتْ واحدةٌ ذبحنا مكانها أخرى، لا نريد أن تزيد على مائةٍ[13].
فكان عليه الصلاة والسلام في آخر حياته عنده مال، فأغناه الله ، أقول هذا لأن بعض الناس ربما أنه يُثني ويمدح الفقر، ويستدل بحديث: اللهم أحيني مسكينًا!
نقول: هذا لم يثبت، بل النبي عليه الصلاة والسلام استعاذ بالله من الفقر.
ولكن، مَن ابتُلي بالفقر أو المسكنة فعليه أن يصبر، هذا الذي قدَّره الله تعالى عليه، عليه أن يصبر على ذلك، لكن لا يتشوَّف الإنسان له، ولا يتمناه، ولا يدعو به، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من الفقر.
الثالث: العامل عليها
الثالث:
من أصناف أهل الزكاة.
العامل عليها.
العاملون عليها، وهؤلاء هم الذين يبعثهم وليُّ الأمر لجمع الزكوات من أهلها وصرفها لمستحقيها، فيُعتبرون ولاة اكتسبوا الولاية من الإمام وليسوا مجرد أُجَرَاء.
ولهذا؛ فهناك فرقٌ بين الوكيل وبين العامل عليها: فمَن أُعطي الزكاة لِيُوزِّعها لا يُعتبر من العاملين عليها، هذا يعتبر وكيلًا، هذا يعتبر وكيلًا. وأما العامل فهو الذي يكتسب الولاية من ولي الأمر.
فمثلًا؛ جمعيات البر والجمعيات الخيرية لا يُعتبرون من العاملين عليها، هؤلاء وكلاء على أرباب الأموال في توزيع الزكاة.
ومثَّل المؤلف للعاملين عليها، قال:
كجابٍ وحافظٍ وكاتبٍ وقاسمٍ.
الجابي: الذي يأخذ الزكاة من أهلها. والحافظ: الذي يقوم على حِفظها. والكاتب: هو الذي يكتب الزكاة. والقاسم: الذي يقسمها في أهلها.
فهؤلاء يُعتبرون من العاملين عليها، ويُعطون ولو كانوا أغنياء؛ لأنهم يعملون لمصلحة الزكاة، بل قال الفقهاء: إنه ينبغي أن يُبدأ بهم؛ لأن العامل يأخذ عوضًا، فكان حقُّه آكَدَ ممن يأخذ مواساةً.
لكن لو أنَّ ولي الأمر رتَّب للعاملين عليها رواتب مِن بيت المال، فليس لهم الأخذ من الزكاة إلا بإذن ولي الأمر.
وهذا هو الذي عليه العمل عندنا في المملكة العربية السعودية، بأن الدولة تبعث العاملين عليها وتُعطيهم الرواتب ومكافآت وانتدابات، فهؤلاء ليس لهم الأخذ من الزكاة، إلا إذا أذنت الدولة لهم، أما إذا لم تأذن لهم فليس لهم الأخذ من الزكاة باعتبار أنهم من العاملين عليها.
الرابع: المؤلفة قلوبهم
الرابع:
من أهل الزكاة: المؤلفة قلوبهم، والمؤلف قال:
المُؤلَّف.
مفرد “المؤلفة قلوبهم”، وعرف المؤلف بقوله:
وهو السيد المطاع في عشيرته ممن يرجى إسلامه، أو يخشى شره، أو يُرجى بعطيته قوةُ إيمانه، أو جبايتها ممن لا يُعطيها.
المؤلفة قلوبهم ممن كانت فيهم هذه الأمور التي ذكرها المؤلف:
- الأول: يُرجى إسلامه: بأن يكون كافرًا لكن لو أُعطي من الزكاة لأسلم. فهذا يُعطى من الزكاة؛ لأن في هذا حياةً لقلبه، فإذا كان الفقير يُعطى من الزكاة لإحياء بدنه، فإعطاء الفقير الذي يرجى إسلامه وحياة قلبه من بابٍ أَوْلى، لكن لا بد من أن يكون ممن يرجى إسلامه.
كيف نعرف أنه ممن يُرجى إسلامه؟ بأن تقوم القرائن؛ يعني مثلًا هذا إنسان يَسأل عن الإسلام، يطلب كتبًا عن الإسلام، يطلب أشرطة عن الإسلام، فتوجد قرائن على أنه يُرجى إسلامه.
أما إذا كان ممن لا يُرجى إسلامه، وإنما يُطمع في إسلامه لكن لا يُرجى، فهذا لا يُعطى من الزكاة.
لكن إنسان مثلًا عُرض عليه الإسلام، فأبى بشكل قاطع، ولا يُرجى إسلامه، ولا عنده استعداد للنقاش أصلًا في موضوع أنه يُشرح له الإسلام واعتناق الإسلام، ما عنده أصلًا استعداد، فهذا لا يُعطى من الزكاة.
فالذي يُعطى من الزكاة باعتباره من المؤلفة قلوبهم لا بد أن يكون ممن يرجى إسلامه، وتقوم القرائن على أنه يرجى إسلامه.
- الأمر الثاني: أو يخشى شره: بأن يَكُف شره عن المسلمين. قد يكون شريرًا على المسلمين في أموالهم وأعراضهم، فإذا أُعطي من الزكاة كف شره؛ لأن المال له تأثير على النفوس، أو تأثير في تغيير العواطف في الحب والكره، كما يقال في المثل: “الفلوس تغير النفوس وتُشترَى بها الذمم.
فالمال له تأثير، وهذه المعاني راعت الشريعة الإسلامية، راعت هذه الأمور النفسية.
ولهذا؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أناسٌ من سادات قريش، وكانوا يكرهون النبي عليه الصلاة والسلام، ويكرهون الإسلام، ويكرهون المسلمين، فأعطاهم النبي عليه الصلاة والسلام أموالًا عظيمة، حتى بلغ لبعضهم، بلغت أعطيات بعضهم مائةً من الإبل، فسبحان الله! انقلب هذا الكره إلى محبة.
انظر إلى تأثير المال في النفوس، فالمال يؤثر في النفوس، يؤثر في العواطف، يؤثر في الحب والكره، فإذا كان يُرجى بإعطائه المال أن يكف شره عن المسلمين؛ فلا بأس بأن يُعطى من الزكاة، ويكون من المؤلفة قلوبهم.
- الأمر الثالث: أو يُرجى بعطيته قوة إيمانه: يعني تقوية إسلامه؛ بأن كان ضعيف الإيمان، ضعيف الإسلام، عنده تهاون في أداء الواجبات، فإذا أعطيناه من الزكاة قوي إسلامه؛ فلا بأس بأن يُعطى من الزكاة، لكن بشرط أن توجد القرائن التي تدل على أننا إذا أعطيناه من الزكاة قوي إسلامه.
قال صاحب “منار السبيل”: “أو إسلام نظيره”، هذا لم يذكره صاحب “الدليل”، ولكن ذكره صاحب “منار السبيل”، وذكره بعض الفقهاء، يعني: أنه لو أسلم أسلم نظيره، فيُعطى من الزكاة، فإذا غلب على ظنه ووجدت قرائن بأننا إذا أعطينا فلانًا سينتشر الخبر عند الجماعة المحيطين به، وأيضًا يعتنق الإسلام نظراؤه، فهنا لا بأس بأن يُعطى من الزكاة.
- الأمر الرابع: أو جِبَايتها ممن لا يعطيها: يعني يرجى بإعطائه من الزكاة أن يقوم هو بجبايتها، وأخذها ممن لا يعطيها؛ لقُوَّته، فلا بأس أن يعطى من الزكاة.
لكن، هل يشترط في المؤلَّفِ قَلْبُه أن يكون سيدًا مطاعًا في قومه؟
أما إذا كان ممن يُرجى كَفُّ شره عن المسلمين، أو جبايتها ممن لا يعطيها؛ فهذا يشترط أن يكون سيدًا مطاعًا؛ لأن الذي ليس بسيد ولا مطاع لا يضر المسلمين، وليس له غلبة، فلا نحتاج أن نعطيه من الزكاة أصلًا، بخلاف ما إذا كان سيدًا مطاعًا.
أما إذا كان ممن يرجى إسلامه أو تقوية إسلامه، فهل يشترط أن يكون سيدًا مطاعًا أو لا يشترط؟
ظاهر كلام المؤلف أنه يشترط، والقول الثاني في المسألة: أنه لا يشترط، وهو القول الراجح؛ لأن حفظ الدين وإحياء القلب أولى من حفظ الصحة وإحياء البدن، فإذا كان الفقير يعطى من الزكاة لأجل حفظ بدنه، فلَأَن يُعطى هذا الإنسان لأجل حفظ قلبه ودينه من باب أولى.
فإذن على هذا نُلخِّص ما سبق، نقول: إذا كان هذا الذي يُراد تأليف قلبه يُرجى بإعطائه الزكاة إسلامُه، أو يرجى بذلك تقوية إيمانه، فيُعطى من الزكاة ولو لم يكن سيدًا مطاعًا في قومه، وأما إذا كان يرجى بإعطائه الزكاة أن يكف شره عن المسلمين، أو يرجى بذلك أن يجبي الزكاة ممن لا يعطيها، فيشترط أن يكون سيدًا مطاعًا.
الخامس: المكاتب
الخامس: المُكاتَب.
مأخوذ من الكتابة، والكتابة تقع بين السيد والعبد؛ وذلك بأن يتفق الرقيق مع سيده على أن يعطيه أقساطًا مُنجَّمةً إذا دفعها كلَّها يكون حرًّا. فهذا هو المقصود بقول الله : وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60]؛ يعني: المكاتبين.
وذكر الله تعالى الكتابة في قوله: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33]، فيجوز أن يُعطَى المكاتب ما يُوفِّي به سيِّدَه.
والرِّقُّ الآن انقرض في العالم، وأصبح ممنوعًا، بل مُجرَّمًا في جميع دول العالم، والهيئات الدولية تلاحق الرق الآن في أي بقعة في العالم، فأصبح الآن الرق ليس موجودًا، منقرضًا.
لكن، هنا قاس الفقهاء على ذلك فكَّ الأسير المسلم، قالوا: يجوز أن يُعطى من الزكاة ما يَفُك به الأسيرَ المسلم؛ لأنه إذا جاز أن يفك العبد مِن رِقِّ العبودية، يفك بدن الأسير من بابٍ أولى؛ لأن الأسير في محنةٍ أشدُّ من رق العبودية؛ ولأنه مُعرَّض للقتل، لا سيما إن هدَّده الآسِرُ بقتله إن لم يدفع إليه فدية.
فإذن، يجوز دفع الزكاة لفك الأسرى المسلمين، ويدخل ذلك في قوله: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60].
السادس: الغارم
السادس:
من أصناف أهل الزكاة.
الغارم.
يعني: المَدِين.
وهو مَن تَدَيَّن للإصلاح بين الناس، أو تديَّن لنفسه وأعسر.
قسَّم المؤلف الغارم الذي هو المدين إلى قسمين:
- القسم الأول: الغارمون للإصلاح بين الناس، يستدينون لأجل أن يُصلحوا بين الناس، فيُعطون من الزكاة تشجيعًا لهم على هذا العمل النبيل، وحتى لو كانوا أغنياء، كأن يأتي إنسانٌ لجماعتين أو قبيلتين بينهما فتنة وعداوة، ولا يتمكن من الإصلاح بينهم إلا ببذل المال، فيلتزم لكل جماعة أو لإحدى الجماعتين، يلتزم لجماعة أو لكلا الجماعتين ببذل مال، وربما يكون هذا المال كبيرًا.
هذا يجوز أن يُعطى من الزكاة حتى لو كان غنيًّا، لكن بشرط أن ينوي الرجوع على أهل الزكاة، أو يكون قد التزم في ذمته بأن أصبحت ذمته مشغولة وأصبح مَدِينًا.
أما إذا دفع من ماله تبرعًا ولم ينو الرجوع على أهل الزكاة، ثم أتاه بعض الناس، وقال: يا فلان، ترى يجوز لك أن تأخذ من الزكاة. ليس له الأخذ من الزكاة في هذه الحال، فلا بد أن ينوي الرجوع على أهل الزكاة، أو أنه يكون قد التزم في ذمته.
ويدل لجواز أن يأخذ من الزكاة مَن غَرِمَ لإصلاح ذات البين، قصةُ قَبِيصَة بن مُخَارِقٍ الهلاليِّ، قال: تحمَّلْتُ حَمَالةً فأتيتُ النبي أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تَحِل إلا لأحدِ ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك[14].
فهذا الغارم إذن لإصلاح ذات البين يُعطَى من الزكاة حتى وإن كان غنيًّا.
- القسم الثاني: الغارم لنفسه. وهذا هو الأكثر في وقتنا الحاضر، يعني المدين الذي لحقته ديون عرَّفه المؤلف بقوله: (أو تديَّن لنفسه فأعسر)، هذا يعطى من الزكاة ما يُسدِّد به دينه، بشرط أن يكون عاجزًا عن سداد الدين، وأن يكون الدين حالًّا. وأما إذا كان الدَّين مؤجلًا فلا يُعطى من الزكاة، وهكذا لو كان عاجزًا عن سداد الدين، لا يعطى من الزكاة.
لأننا لو قلنا: بأن كل مدين يجوز له الأخذ من الزكاة، معنى ذلك أن كثيرًا من التجار والأغنياء يُعتبرون من المدينين، هل نقول: إنهم يأخذون من الزكاة، بعض التجار عليه ديون، وبعض الأغنياء عليه ديون، بل كثير من أمور التجارة في الوقت الحاضر تقوم على الديون، يشتري بدين، ويبيع بدين، فلا بد أن يكون المدين عاجزًا عن سداد الدين، وأن يكون الدين حالًّا بحيث لو رَفَع الدائن فيه شكاية لربما حُبس بسبب ذلك الدين.
ولهذا؛ نجد أن بعض الناس يخطئ في فهم هذه المسألة، فيأتي ويطلب من الزكاة ودَخْله دخل أغنياء، عندما يقال: كيف يا فلان تأخذ من الزكاة، ودخلك دخل أغنياء؟! قال: والله عليَّ ديون. طيب، هذه الديون، تستطيع أن تجدولها على دخلك ولا تزاحم الفقراء والمساكين وأهل الزكاة في الزكاة.
فلا يجوز للإنسان أن يأخذ من الزكاة وهو غير مستحق لها، هذه يتساهل فيها بعض الناس؛ يأتي ويزاحم أهل الزكاة في الزكاة، ويأخذ من الزكاة ودخله دخل أغنياء بحجة أن عليه ديونًا، هذه الديون يمكن جدولتها على دخله.
فإذن، المدين الذي يستحق الزكاة هو المدين العاجز عن سداد الدين ودَينُه حالٌّ وليس مؤجلًا، بحيث لو رَفَع فيه الدائن شكاية لربما حُبس بسبب هذا الدين، هذا هو المدين الذي يستحق الزكاة.
طيب، هل يجوز أن نذهب للدائن ونعطيه مباشرة من غير أن نسلم الزكاة للمدين؟
الجواب: يجوز ذلك؛ لأن الله قال: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60]، ولم يقل: للرقاب، بينما في الفقراء والمساكين قال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فاللام للتمليك، فلا بد من تمليكه، أما بالنسبة للغارمين فلا يُشترط تمليكهم، وإنما متى ما أُعطي الدائنُ الدَّينَ حصل المقصود.
طيب، هل الأفضل أن نُعطي الدائنَ الدَّيْنَ أو نعطي المدينَ لكي يُسدِّد به الدَّين؟ نقول: إذا كان المَدين ثقة حريصًا على سداد الدين فالأفضل أن نُعطيها الزكاة وهو بنفسه يتولى الدفع عن نفسه، أما إذا كان هذا المدين سيئ التدبير وإذا أعطيناه الزكاة ربما يسيء تدبيرها ولا يسدد الدين، فالأفضل أن نذهب للدائن مباشرة ونسدد هذا الدين عن المدين من الزكاة.
هل يُقضَى دَين الميت من الزكاة؟
طيب، هنا مسألة: هل يُقضى دين الميت من الزكاة أو لا؟ إنسان مات وعليه ديون، هل يسدد دينه من الزكاة؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يجوز قضاء ديون الأموات من الزكاة. وهو قول عند الشافعية، ووجه عند الحنابلة، واختاره ابن تيمية رحمه الله تعالى، واستدلوا بقول الله تعالى: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60]، قالوا: إن الميت إذا كان مدينًا يعتبر غارمًا، بل هو أولى ببراءة الذمة من الحي.
القول الثاني: أنه لا يسدد ولا يُقضى دين الميت من الزكاة. وإلى هذا ذهب جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، بل حكاه أبو عبيد إجماعًا، وحكاه الحافظ ابن عبدالبر إجماعًا.
وهذا هو القول الراجح، وهو أنه لا يسدد دين الميت من الزكاة؛ لأن النبي كان لا يقضي ديون الأموات من الزكاة، وكان عندما يُؤتَى بالجنازة يقول: هل عليه دَين أو لا؟». فإن كان عليه دين لم يُصلِّ عليه، وقال: صلوا على صاحبكم[15]. ولمَّا فتح الله عليه كثيرًا من البلدان، وكثرت الغنائم والأموال، أصبح يقضي الدين من بيت المال.
ولو كان قضاء الدَّين عن الميت من مال الزكاة جائزًا لفعله النبي ؛ ولأن الغرض من إعطاء المدينِ والغارمِ الزكاةَ هو أن يُزال عنه ذل الدَّين؛ لأن الدين ذل. وهذا غير وارد بالنسبة للميت، فالميت قد أفضى إلى ربه؛ ولأنه لو فتح هذا الباب لتعطل قضاء ديونُ كثيرٍ من الأحياء؛ لأن الغالب أن الناس يعطفون على الأموات أكثر من الأحياء، والأحياء أحق بسداد ديونهم من الأموات؛ ولأن ذمة الميت قد خربت بموته فلا يسمى غارمًا، وهذا الميت من جهة براءة الذمة إن كان قد أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه يوم القيامة، ولا تلحقه تبعة وذمته بريئة، أما إن كان أخذ أموال الناس يريد إتلافها فتلحقه التبعة والمسؤولية أمام الله .
فالحاصل: أن القول الراجح: أنه لا يجوز أن يُسدَّد دَين الميت من الزكاة.
السابع: الغازي في سبيل الله
السابع: الغازي في سبيل الله
يعني: المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء يُعطَون من الزكاة، والمقصود بهم الغزاة في سبيل الله، الذين ليس لهم رواتب مستمرة، وإنما هم متطوعون.
وفي الوقت الحاضر، أصبحت الدول الإسلامية تعطي أفراد جيوشها والجنود مرتبات مستمرة، فلا يدخلون في مصرف في سبيل الله، وليس لهم الأخذ من الزكاة.
لكن ما المقصود بقول الله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]، هل هو خاص بالجهاد أو يشمل جميع وجوه البر؟
هل مصرف “في سبيل الله” يشمل وجوه البر؟
اختلف العلماء في ذلك:
فمن أهل العلم من قال: إن مصرف في سبيل الله يشمل جميع وجوه البر، فيشمل عندهم بناء المساجد، ويشمل عندهم بناء المدارس، وإصلاح الطرق، وطباعة الكتب، ونحو ذلك من وجوه البر.
ولكن هذا القول قول ضعيف؛ لأننا لو فسرنا الآية بذلك لم يكن الحصر المذكور في قول الله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتٌ [التوبة:60] فائدة، ولكان الأبلَغُ أن يقول: “إنما الصدقات في سبيل الله”، وهذا يشمل الفقراء والمساكين وجميع أصحاب الزكاة.
ولهذا قال المباركفوري عن هذا القول: “هذا القول هو أبعد الأقوال؛ لأنه لا دليل عليه من كتاب الله ولا من سنة صحيحة، ولا من إجماع، ولا رأي صحابي، ولا قياس صحيح أو فاسد، بل هو مخالف للحديث الصحيح، ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف إلا ما حكي عن القفال في تفسيره”.
يعني: أول من قال بهذا القول القَفَّالُ الشافعيُّ، حكاه عن بعض الفقهاء المجاهيل، والقاضي عياض عن بعض العلماء غير المعروفين.
وبُحثت هذه المسألة قديمًا في هيئة كبار العلماء في المملكة، وصدر فيها قرار بأن المقصود في “سبيل الله” هو الجهاد في سبيل الله فقط، ولا يشمله جميع وجوه البر.
وهذا هو القول الراجح: أن المقصود بقول الله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60] أنه الجهاد في سبيل الله، ولا يشمل جميع وجوه البر.
لكن، هل ينحصر مفهوم الجهاد في سبيل الله على جهاد السلاح، أو يشمل جهاد الدعوة؟ قولان لأهل العلم:
منهم من حصره على جهاد السلاح.
ومنهم من قال: إنه يشمل جهاد الدعوة. وهذا هو القول الراجح؛ لأن جهاد السلاح أصلًا إنما شُرع لأجل نشر الدعوة إلى الله تعالى، فجهاد الدعوة هو الأصل، وجهاد السلاح ليس مقصودًا لذاته وإنما لغيره.
ولهذا؛ لو أن المسلمين يقاتلون كفارًا فلما أرادوا قتالهم أعلن هؤلاء الكفار إسلامهم، لم يَجُز قتالهم؛ ولأن جهاد الدعوة يكون أبلغ في الأثر من جهاد السلاح.
ولهذا؛ جاء في “صحيح مسلم” عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي قال لحَسَّان: اهْجُوا قريشًا، فإنه أشد عليها من رَشْقٍ بالنبل، وفيه: أن حسَّانًا قال: والذي بعثك بالحق لأَفْرِيَنَّهم بلساني فَرْيَ الأديم. فقال النبي : إنَّ رُوحَ القُدُس لا يزال يؤيدك ما نَافَحْتَ عن الله ورسوله. قالت: سمعت رسول الله يقول: هجاهم حسَّانٌ فشفى واشتفى[16].
وهذا يدل على أهمية جهاد الكلمة، وأنَّ مَن أعطاه الله موهبة الشعر فوظَّفها في الدعوة للفضائل والتحذير من الرذائل، فإن هذا يكون نوعًا من جهاد الدعوة. ولهذا؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام أثنى على حسان، قال: هجاهم حسان فشفى واشتفى.
وجاء في حديث أنس: جاهِدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم[17].
وهذا هو القول الراجح، وصدر فيه قرار من المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي، بأن الجهاد لا ينحصر في جهاد السلاح، وإنما يشمل جهاد الدعوة.
وعلى ذلك؛ فلا بأس بدفع الزكاة لمراكز الدعوة إلى الله ، لكن ينبغي تقييد ذلك فيما تمحَّض من أمور الدعوة، كرواتب الدعاة مثلًا، أو إيجار المقر، ولا تُصرف مثلًا الزكاة في -مثلًا- منشورات، أو تصرف في جوائز، أو تصرف في رحلات، أو نحو ذلك، إنما فيما تمحَّض في أمور الدعوة إلى الله تعالى.
وأما حَلْقات تحفيظ القرآن الكريم، فأيضًا هي تدخل في مفهوم الجهاد في سبيل الله؛ لأن الله قال: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ يعني بالقرآن جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52]، ووصف الله الجهاد بالقرآن بالجهاد الكبير. فدل ذلك على أن تعليم القرآن أنه من جهاد الدعوة.
وبناء على ذلك؛ يجوز دفع الزكاة لحلقات تحفيظ القرآن الكريم، لكن أيضًا ينبغي تقييد ذلك فيما تمحَّض، كأن يكون في دفع رواتب المعلمين والمعلمات ونحو ذلك، ولا يكون في الأشياء غير الأساسية، فلا يكون مثلًا في توزيع الجوائز، ولا في الرحلات، ولا في الإعلانات.
الثامن: ابن السبيل
الثامن:
من أصحاب الزكاة.
ابن السبيل، وهو الغريب المنقطع بغير بلده.
السبيل: معناها الطريق. وابن السبيل: هو المسافر؛ سُمي بذلك لأنه ملازم للطريق، فإذا انقطع به السفر لضياع نفقته أو نفادها أو سرقتها فيُعطى من الزكاة ما يوصله لبلده.
مثلًا؛ ذهبتَ لمكة ووجدتَ شخصًا سُرِقت نفقته، وما عنده شيء، فتعطيه من الزكاة ما يوصله إلى بلده؛ لأن هذا يعتبر ابنَ سبيلٍ.
قال المؤلف بعد ذلك:
فيُعطى الجميع من الزكاة بقدر الحاجة.
بقدر الحاجة، يُعطى كل واحد من هؤلاء بقدر حاجته.
وقال بعض أهل العلم: إنه يعطى الفقير والمسكين من الزكاة بقدر ما يكفيه لسنة. وهذا هو القول الراجح؛ لأن الزكاة إنما تجب في أكثر الأموال مرة واحدة في العام.
فيعطى ما يكفيه لمدة سنة؛ لأنه سيأخذ من الزكاة مرة أخرى في السنة الثانية والثالثة ما استمر معه الفقر.
وهناك قول ثالث، وهو: أنه يُعطى من الزكاة ما يكفيه على الدوام. وهو قول الشافعية.
والأقرب -والله أعلم- أنه يعطى من الزكاة ما يكفيه لمدة سنة.
قال:
إلا العامل فيُعطى بقدر أجرته ولو غنيًّا أو قِنًًا.
العامل يعني: العاملون عليها يُعطَون بقدر أجرتهم، وليس بقدر حاجتهم.
هنا فائدة ذكرها الموفق ابن قدامة، قال: “جملة مَن يُعطى مع الغِنَى خمسة: العامل، والمؤلَّف قلبه، والغازي، والغارم لإصلاح ذات البين، وابن السبيل الذي له اليسار في بلده”.
يعني: هؤلاء الخمسة ولو كانوا أغنياء:
- العاملون عليها.
- المؤلفة قلوبهم.
- الغازي في سبيل الله.
- الغارم لإصلاح ذات البين.
- وابن السبيل.
وخمسة لا يعطون إلا مع الحاجة، وهم:
- الفقير.
- والمسكين.
- والمكاتب.
- والغارم لمصلحة نفسه.
- وابن السبيل.
وأربعة يأخذون أخذًا مستقرًّا ولا يلزمهم ردُّ شيء بحال، وهم:
- الفقير.
- والمسكين.
- والعامل.
- والمؤلَّف.
وأربعة يأخذون أَخْذًا غير مستقر، معنى غير مستقر أنه يمكن أن يَرُد الزكاة، يطالب برد الزكاة:
- المكاتب لو أنه لم يرد الكتابة أو عجز عن الكتابة؛ فيلزمه أن يرد الزكاة.
- الغارم كذلك، لو اغتنى الغارم ورزقه الله تعالى فأصبح غنيًّا وسدَّد الديون التي عليه فلم يَعُد غارمًا، فيلزمه أن يرد الزكاة.
- الغازي كذلك، لو -مثلًا- أعطاه ولي الأمر فاغتنى.
- وابن السبيل كذلك، يعني ابن السبيل نفترض مثلًا أنه طلب الزكاة، ثم بعد ذلك وجد نفقته، كأن ضاعت نفقته ثم وجدها؛ فيلزمه أن يرد الزكاة.
هنا ابن السبيل ذُكر في الخمس الأولى، وذُكر في الخمس الثانية.
يعني: جملة مَن يُعطى مع الغنى خمسةٌ، ذُكر فيها ابن السبيل، وذُكر أيضًا أنه لا يُعطى إلا مع الحاجة. فكيف نجمع بين هذا؟
نقول: هو لا يُعطى إلا مع الحاجة، يعني: ابنُ سبيلٍ ضاعت نفقته، أو لم يجد ما يوصله إلى بلده، فهو الآن محتاج، فيُعطى من الزكاة حتى لو كان غنيًّا في بلده، فهو غني بوصف وفقير بوصف آخر، فقير هو الآن في هذا المكان الذي هو فيه فقير، فيُعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده، وهو في بلده غني. فهذا وجه الجمع بينهما.
هل للمزكي إعطاء زكاته لصنف واحد؟
طيب، مسألة: هل للمُزكي إعطاء زكاته لصنف واحد، أو لا بد من أن يقسمها على الأصناف الثمانية؟
جمهور الفقهاء على أنه يجوز أن يعطي الزكاة صنفًا واحدًا، ولا يلزمه أن يعطي جميع الأصناف، خلافًا للشافعية الذين قالوا: لا بد من التعميم لجميع الأصناف.
والقول الراجح هو قول الجمهور؛ لعموم الأدلة، ومنها قول الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إلى آخر الآية [التوبة:60]، فالآية سِيقت لبيان من يجوز الصرف إليه، لا إيجاب الصرف إلى الجميع.
وكذلك عموم الأدلة من السنة تدل على أنه يجوز أن تُعطَى الزكاة إلى صنف واحد؛ ولهذا قال حذيفة: “إذا أعطاها في صنف واحد من الأصناف الثمانية التي سمى الله تعالى أجزأه”.
ثم أيضًا قول الشافعي: إنه لا بد من التعميم. هذا قد يتعذر.
يعني مثلًا في الرِّقاب: لو أردنا أن نُطبِّق هذا في الوقت الحاضر، ما فيه رِقٌّ الآن، وقد لا يوجد أسير مسلم أيضًا يُعطَى من الزكاة. طيب كيف يُطبَّق؟ التطبيق في قول الشافعية هنا متعذر، فلا يَسَعُ الناسَ إلا قول الجمهور، وهو أنه يجوز أن تُعطى الزكاة لصنف واحد.
قال:
ويجزئ دفعها إلى الخوارج والبغاة.
مراد المصنف مسألة دقيقة، يعني: لو كان الوالي من الخوارج أو البغاة، فيجزئ دفع الزكاة إليهم؛ لأن في هذا آثارًا عن السلف، عن الصحابة.
وكذلك مَن أخذها من السلاطين قهرًا أو اختيارًا، عَدَلَ فيها أو جَارَ.
يعني: أن الزكاة تُعطى للسلطان بغض النظر عن حاله.
ولهذا قال ابن عمر: “ما أقاموا الصلاة فادفعوها إليهم”، فالآثار عن السلف: يُعطى ولي الأمر إذا طلب الزكاة، يعطى إياها بغض النظر عن حاله. هذا هو المأثور عن الصحابة .
وقال ابن قدامة: “لا نعلم عن غيرهم خلافًا”، وقال: “ولنا قول الصحابي من غير خلاف في عصرهم عَلِمْناه، فيكون إجماعًا”.
ونقف عند قول المصنف رحمه الله: (ولا يجزئ دفع الزكاة لكافر).
نكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة.
وفي الدرس القادم سنكمل (الزكاة) إن شاء الله، وسندخل في (الحج)؛ لأن (الصيام) أخذناه من قبل، أخذناه في شعبان، وبقي معنا الآن قدر يسير من الزكاة.
لكن الآن كما ترون لا نريد أن نُثقل عليكم، الدرس طويل، فسنأخذ (الزكاة) ونبدأ في (الحج)، فيعني الدرس القادم تُحضرون المجلد الثالث أو الجزء الثالث مع الجزء الرابع؛ لأننا سننتهي من (الزكاة)، ثم ندخل في (الحج) إن شاء الله تعالى.
طيب، نجيب عما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة
السؤال: بعض الناس يقوم بتنفير الحَمَام الذي بقُرْب الحرم، ويجعلون أولادهم يفعلون ذلك، فما الحكم؟
الجواب: هذا لا يجوز؛ لأن النبي قال: لا يُنفَّر صَيْدُها[18]، فلا يجوز تنفير الصيد، والحمام يُعتبر من الصيد؛ فلا يجوز تنفيره.
السؤال: كيف نجمع بين حديث أن النبي أخبر بأنه لا يقطع الصلاة إلا المرأة والحمار والكلب الأسود، وبين حديث عائشة أنها كانت تنام بين يدي النبي وهو يصلي؟
الجواب: لا تعارض بين كون عائشة تنام وهي مُعترِضة بين يَدَيِ النبي عليه الصلاة والسلام فإذا سجد غمزها[19]، هذا لا يُعتبر مرورًا.
المرور معناه: أنه يأتي ويمر أمام المصلي من جهة إلى جهة أخرى، وأما مجرد الاعتراض فلا يعتبر مرورًا.
ولهذا؛ فالقول الراجح: أن الصلاة يقطعها هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث: المرأة، والحمار، والكلب الأسود.
أن هذه الأمور الثلاثة تقطع الصلاة؛ لأن هذا هو كلام النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يقطَعُ صلاةَ الرجل إذا لم يكن بين يَدَيه قِيدُ آخِرَةِ الرَّحْلِ: المرأة والحمار والكلبُ الأسود. وهذا الحديث حديث صحيح، أخرجه مسلم في “صحيحه”[20].
وهذا ليس فيه انتقاص للمرأة، ليس فيه انتقاص، يعني النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأن مرور المرأة يقطع الصلاة لحكمةٍ اللهُ أعلم بها.
والمسلم أهم شيء له أن يكون الدليل صحيحًا، فإذا ورد الدليل من القرآن أو من السنة الصحيحة فالواجب عليه أن يستسلم لحكم الله ورسوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
أما إذا كان الإنسان لا يقبل من الأحكام الشرعية إلا ما يوافق عقله، وما يوافق هواه، فهذا ليس عبدًا لله، وإنما هو عبد لهواه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43].
مقتضى العبودية لله هو الاستسلام لله ، ما دام أن هذا الحديث حديث صحيح، ورواه مسلم، فهذا الحديث يقتضي أن هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث أنها تقطع الصلاة.
السؤال: هل طلب الدعاء ممن أتصدق عليه يُذهب أجر الصدقة؟
الجواب: لا يذهب أجر الصدقة، لكنه ينقص من الأجر، كأنك طلبت منه شُكُورًا، والمطلوب من المتصدق ألا يطلب ممن يتصدق عليه جزاء ولا شكورًا، فلا تطلب منه الشكر ولو بصيغة الدعاء.
ولهذا؛ كانت عائشة رضي الله عنها تبعث الصدقة مع خادمها، وتقول: انظر إلى ما يدعون لنا به، فادعوا لهم بمثله، فإذا قالوا: بارك الله فيكم، فقل: وفيكم بارك.
تريد أن يكون الأجر كاملًا، إذا أردتَ أن يكون الأجر كاملًا فلا تطلب من الفقير أيَّ شيءٍ، لا تطلب منه جزاءً ولا شُكُورًا ولا دعاءً ولا أيَّ شيء، إنْ دعا مِن تلقاء نفسه فهذا لا يضر، لكن لا تطلب منه الدعاء، ولا تطلب منه الجزاء ولا الشكور بأية صورة من الصور.
السؤال: هل لصلاة الجمعة سُنة قَبْلية وبَعْديَّة؟
الجواب: أمَّا قبل صلاة الجمعة فالسُّنة أن يأتي بصلاةٍ مثنى مثنى من غير تحديدٍ للعدد؛ لحديث سلمان: ثم صَلَى ما كُتِب له[21].
قال: ما كُتب له ولم يحدد ذلك بركعات معينة، فلك أن تصلي ركعتين، أو أربعًا ركعتين ثم ركعتين، أو ستًّا ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، أو أكثر من ذلك.
فالسنة قبل صلاة الجمعة ليست محددة بعدد معين، وأما السنة التي بعد صلاة الجمعة فهي أربع ركعات على القول الراجح؛ لقول النبي : إذا صلَّى أحدُكم الجمعةَ فَلْيُصَلِّ بعدها أربعًا. رواه مسلم[22]، أي: تصلي ركعتين ثم ركعتين، سواء صليتها في البيت أو في المسجد.
السؤال: لو توضَّأ مَن به سلس البول لأجل الطواف، هل يضر خروج الوقت؟
الجواب: القول الراجح: أن صاحب الحدث الدائم، سواء كان هذا الحدث سلسَ بولٍ أم غيره، أنه لا يجب عليه أن يتوضأ لوقت كل صلاة، وإنما يستحب. وهذا هو مذهب المالكية.
وذلك لأن الدليلَ الذي يستدل به الموجبون للوضوء لوقت كلِّ صلاةٍ لا يَثبُت عن النبيِّ ، فإنه قد جاء في حديث عائشة في قصة المرأة التي كانت تستحاض، قال: ثم توضَّئي لكلِّ صلاة[23].
وهذه اللفظة أتت في “البخاري” قال: قال أبي: ثم توضئي لكل صلاة. وقد جاء من طريق عروة بن الزبير.
فهل هذا الكلام من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أو أنه من كلام عروة؟ هذا فيه خلاف، الحافظ ابن حجر قال: إنه من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن أكثر المحققين ومنهم الحافظ ابن رجب قال: إنه مُدرَج من كلام عروة، وليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
وأشار إلى هذا الإمام مسلم في “صحيحه”، فإنه لما خرج هذا الحديث قال: وفيه زيادة حرف تركناه[24]، فأشار مسلم إلى أن هذه الزيادة غير ثابتة.
فالقول الراجح: أن قوله: ثم توضئي لكل صلاة ليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو مدرج من قول عروة.
وعلى ذلك؛ فلا يكون في المسألة دليل يدل على أنه يجب على صاحب الحدث الدائم أن يتوضأ لوقت كل صلاة.
القول الراجح: أنه يُستحب لصاحب الحدث الدائم أن يتوضأ لكل صلاة، ولا يجب.
فعلى ذلك؛ لو ذهب للطواف أو دخل حتى المسجد أو نحو ذلك لا يلزمه إذا دخل وقت الصلاة الأخرى أن يَخرج ويتوضأ.
فمثلًا؛ مَن أتى للمسجد الحرام لصلاة المغرب، وأراد أن يبقى في المسجد إلى صلاة العشاء، فعلى القول الراجح يبقى ولا يلزمه أن يخرج ويتوضأ لصلاة العشاء.
فالقول الراجح: أن صاحب الحدث الدائم لا يلزمه أن يتوضأ لوقت كل صلاة، وإنما يستحب ذلك.
السؤال: مَن حلف ألا يستخدم برنامجًا، ثم رجع فاستخدمه، فماذا عليه؟
الجواب: عليه أن يُكفِّر كفارة يمين؛ لأنه قد حَنِثَ في يمينه، فمَن حلف ألا يفعل شيئًا ثم فعله فيكون قد حنث؛ فعليه أن يُكفِّر كفارة يمين.
السؤال: ما معنى “الشك بعد العبادة لا يُلتفت إليه”؟
الجواب: هذه قاعدة عند الفقهاء، وهي أن الشك الطارئ على العبادة بعد الفراغ منها لا يُلتفت إليه.
مثال ذلك: صليتَ صلاة الظهر أو العصر مثلًا، ثم بعد الصلاة شككت: هل هي ثلاث أو أربع؟ إذا كان هذا الشك إنما طرأ بعد الصلاة فلا تلتفت إليه، لكن لو كان هذا الشك موجودًا أثناء الصلاة فهنا يُلتفت إليه إذا لم يكن المصلي كثيرَ الشكوك.
فإذا كان عندك تَحَرٍّ وغلبةُ ظنٍّ تعمل بغلبة ظنك وتسجد للسهو، وإذا لم يكن عندك تَحَرٍّ ولا غلبة ظن، فتعمل باليقين، وهو الأقل.
إذا شككتَ: هل هي ثلاثُ ركعات أو أربع؟ تجعلها ثلاثًا، وتأتي بركعة، وتسجد للسهو.
وهكذا أيضًا مثلًا في رَمْي الجمرات: لو أنك بعدما فرغت من الرمي شككت: هل رَمَيْتَ ستًّا أو سبعًا، لا تلتفِت لهذا الشك.
لكن، لو كان الشك أثناء الرمي، وشككت: هل رميت ستًّا أو سبعًا، اعتبِرْها ستًّا، وارْمِ بحَصَاةٍ أخرى.
فإذن، هذه قاعدة مُطَّرِدة عند العلماء في العبادات، وهي: أن الشك الطارئ على العبادة بعد الفراغ منها لا يُلتفت إليه.
السؤال: لدينا وقت الظهر الثانية عشرة والنصف، ولكن نخرج من المدرسة الواحدة والنصف، ولا نصليها في المدرسة بسبب كورونا، هل نأثم بتأخيرها؟
الجواب: لا تأثم بتأخيرها؛ لأن وقت الظهر يمتد إلى أذان العصر، إلى دخول وقت صلاة العصر، هذا كله وقتٌ لصلاة الظهر، حتى لو لم تصلوا صلاة الظهر إلا الساعة الثالثة فلا تأثموا بذلك، تكونون قد صليتم صلاة الظهر في وقتها، لكن عليكم أن تحرصوا على أداء الصلاة جماعةً ما أمكن.
السؤال: عندي أرضٌ أُريد التجارة بها، وليس معي نَقْدٌ، ولم تُبَعْ إلا بعد أربعِ سنواتٍ، هل يُزكَّى ما مضى من السنوات؟
الجواب: نعم، إذا كان يريد التجارة، يريد بهذه الأرض التربح والتكسب، هذه عُرُوض تجارة، ويجب أن يُزكِّيها عن جميع السنوات الماضية.
السؤال: غرامة التأخير التي توضع على البطاقات الائتمانية وغيرها عند حلول تاريخ الدفع ولم يتم الدفع، توضع غرامة تسمى غرامة تأخير، هل تكون ربًا؟
الجواب: نعم، هذه من جنس ربا الجاهلية، كانوا في الجاهلية إذا حلَّ الدين على المدين قالوا له: إما أن تقضي وإما أن تُربي. فإذا سدَّد الدَّين لم يحسبوا عليه غرامة، وإن لم يسدد حَسَبوا عليه غرامةً.
فهم قالوا: إما أن تقضي وإما أن تُربي. يسمون الغرامة رِبًا، يعني يسمونها -أهل الجاهلية- باسمها الصريح ربًا: إما أن تقضي، وإما أن تربي.
والآن، في وقتنا الحاضر، يسمون هذا الربا غرامة.
فغرامة التأخير التي تكون على البطاقات هذه من جنس ربا الجاهلية، لا تجوز.
وعمومًا، غرامات التأخير على الديون هذه لا تجوز، هي من جنس ربا الجاهلية، فلا يجوز أن تُحتسب غرامات تأخير على الديون عمومًا، سواء كانت هذه الديون في البطاقات أو في غيرها.
السؤال: بعض الخطباء يقرأ في صلاة الجمعة آيات تتناسب مع الموضوع والخطبة، ما حكم هذا؟
الجواب: هذا عمل لا أصل له، ولم يرد هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن الصحابة أنهم كانوا يفعلون ذلك، وإنما يقرأ في صلاة الجمعة ما وردت به السنة من قراءة سورة سبح، والغاشية، أو سورة الجمعة والمنافقون أو الجمعة والغاشية، أو ما تيسر من القرآن، لكن لا يربط الآيات بموضوع الخطبة، فهذا لا أصل له.
السؤال: مَن لم يتمكن من صلاة ركعتي الطواف خلف المقام، فأين يصليهما؟ وماذا يقرأ؟
الجواب: يصلي ركعتي الطواف في أي مكان من المسجد الحرام، ولا يلزم أن يكون ذلك خلف المقام، في أي مكان، الأمر فيه سَعة.
ويقرأ فيهما ما تيسر من القرآن، لكن الأفضل أن يقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى بسورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون [سورة الكافرون]، وفي الركعة الثانية بسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص]. هذا هو الأفضل والأكمل.
ثم إن ركعتي الطواف مستحبة وليست واجبة؛ لأن بعض العامة يعتقد أنها واجبة؛ ولذلك يسألون، يقولون: ما حكم العمرة لو نسيت ركعتي الطواف؟ ما حكم الحج لو نسيت ركعتي الطواف؟ نقول: ركعتا الطواف مستحبة وليست واجبة.
السؤال: هل أستطيع أن أدفع كفارة اليمين عن غيري بدون علمه؟
الجواب: لا، ليس لك ذلك، كما قلنا في الزكاة، لا بد من النية، مِن نية مَن يريد الزكاة، ومَن يريد الكفارة، لا بد أن ينوي، وليس لأحدٍ أن يدفع عنه الزكاة، أو يدفع عنه الكفارة بغير عِلمه، وبغير إذنه.
السؤال: نختم بهذا السؤال، هل قول النبي عليه الصلاة والسلام: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صَدَقا وبَيَّنَا بُورِك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكَتَما مُحِقَت بركة بيعهما، ما معنى الحديث؟
الجواب: هذا الحديث رواه البخاري ومسلم: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا يعني: أن المتبايعين ما داما في مكان التبايع فلكل منهما الخيار في إمضاء البيع أو عدم إمضائه، ما داما في مكان التبايع، فإن تفرقا من مكان التبايع لزم البيع، فليس لأحدهما أن يفسخ العقد إلا بإذن الطرف الآخر؛ لأن العقد أصبح لازمًا.
ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: البيعان بالخيار يعني: خيار المجلس ما لم يتفرقا، ثم قال: فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وهذا يدل على أن الصدق والبيان والوضوح من أسباب حلول البركة في البيع والشراء وإن كَذَبا وكتما محقت بركة بيعهما[25].
فالكذب والكتمان والغش من أسباب مَحْق البركة في البيع والشراء.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907. |
^3 | رواه البخاري: 5010. |
^4 | رواه البخاري: 1496، ومسلم: 19. |
^5 | رواه البخاري: 1500، ومسلم: 1832. |
^6 | رواه البخاري: 2543، ومسلم: 2525. |
^7 | رواه البخاري: 1468، ومسلم: 983. |
^8 | رواه أحمد: 20041، وأبو داود: 1575. |
^9 | رواه البخاري: 6368، ومسلم: 589. |
^10 | رواه الترمذي: 2352، وابن ماجه: 4126. |
^11 | رواه البخاري: 6460، ومسلم: 1055. |
^12 | رواه مسلم: 2972. |
^13 | رواه أحمد: 16382، وأبو داود: 142. |
^14 | رواه مسلم: 1044. |
^15 | رواه البخاري: 5371، ومسلم: 1619. |
^16 | رواه مسلم: 2490. |
^17 | رواه أحمد: 12246، وأبو داود: 2504. |
^18 | رواه البخاري: 2434، ومسلم: 1355. |
^19 | رواه البخاري: 382، ومسلم: 512. |
^20 | رواه مسلم: 510. |
^21 | رواه البخاري: 883. |
^22 | رواه مسلم: 881. |
^23 | رواه البخاري: 228. |
^24 | رواه مسلم: 333. |
^25 | رواه البخاري: 2079، ومسلم: 1532. |