النبي يقول: مَن يُرِد اللهُ به خيرًا يفقهه في الدين[1]، إذا وجدتَّ من نفسك حرصًا على التفقه في الدين، وحرصًا على طلب العلم، ومحبةً لذلك، فهذه أمارة -إن شاء الله- على أنه أُرِيدَ بك الخير؛ ومفهوم هذا الحديث: أنَّ مَن لم يُرَدْ به الخير لا يُوفَّق للفقه في الدين.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى مع استئناف هذا الدرس بعد فترة التوقف -فترة الإجازة الصيفية-، ونسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.
وهذا هو الدرس الأول في هذا العام الهجري؛ في يوم الإثنين، الثاني والعشرين من شهر محرم، من عام (1443) للهجرة.
ننتقل بعد ذلك لـ”السلسبيل”، وكنا قد وصلنا إلى باب زكاة السائمة.
باب زكاة السائمة
قال المصنف رحمه الله:
باب: زكاة السائمة.
معنى السائمة
“السائمة” المقصود بها في اللغة العربية: الراعية؛ كما قال الله تعالى: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل:10]؛ يعني: تَرْعَون دوابَّكم.
ومعناها في اصطلاح الفقهاء: هي التي تَرعى العُشب والكلأ أكثرَ الحول، فلا بُدَّ من أنها تَرعى العُشب والكلأ أكثرَ السنة.
فإذا كانت تَرعى النَّبْت الذي يُنبته الآدميُّ فهذه لا تُعتبر سائمة؛ إذا كانت مثلًا في مزرعة الإنسان وتَرعى العُشب والكلأ الذي زرعه الإنسانُ فهذه لا تُعتبر سائمة. ولو كانت أيضًا تَرعى العُشب والكلأ الذي لم يُنبته الآدميُّ أقلَّ من ستة أشهر فلا تُعتبر سائمة.
فلا بُدَّ إذَن من تحقُّق هذا الضابط؛ أن تَرعى العُشب والكلأ أكثرَ السنة.
شروط زكاة السائمة
تجب فيها.
يعني: تجب الزكاة فيها.
بثلاثة شروط.
الشرط الأول؛ قال:
أحدها: أن تُتَّخَذَ للدَّرّ والنسل والتسمين لا للعمل.
فيكون الغرض من هذه البهيمة الدَّرّ والنسل والتسمين، ولا يكون الغرض منها العمل؛ كان الناس قديمًا -وما زالوا- في بعض البلدان يعملون على الدواب في استخراج الماء، أو في الزراعة، أو في الركوب عليها، أو في الحَمل؛ فهذه لا زكاة فيها، فالدواب التي تُتَّخذ للعمل لا زكاة فيها، لا بُدَّ من أن تُتَّخذ للدَّرّ والنسل والتسمين.
الثاني: أن تَسُوم.
يعني: أن تكون سائمة.
تكلمنا عن هذا الشرط، وقلنا إن معنى كونها سائمة؛ أي أنها تَرعى العُشب والكلأ أكثرَ السنة، وأوضح هذا المؤلفُ؛ قال:
أي: أن تَرعى المُباح أكثرَ الحول.
والدليل لهذا الشرط حديثُ أنس في كتاب أبي بكر رضي الله عنهما الذي كتبه إليه لمَّا وجَّهه إلى البحرين[2]، وهذا في صحيح البخاري؛ والمقصود بالبحرين: منطقة الأحساء وما حولها، ليست البحرين المعروفة الآن.
جاء في كتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس رضي الله عنهما لمَّا وجَّهه إلى البحرين؛ قال: “وفي صدقة الغنم: في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئةٍ شاةٌ”، قال: في سائمتها.
وفي حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: في كلِّ إبلٍ سائمةٍ في كل أربعين ابنةُ لَبُون[3].
وهذا الشرط ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة، وهو قول الجمهور، وخالف في ذلك المالكيةُ وقالوا إنه لا يُشترط السَّوْم، ووافقهم في هذا الليث بن سعد، واستدلوا بعموم الأدلة الموجبة للزكاة في بهيمة الأنعام؛ وقالوا إن قوله عليه الصلاة والسلام: “في سائمتها” -يعني: في حديث أبي بكر، وكذلك في حديث بَهْز بن حكيم- بناءً على الغالب.
لكن هذا محلُّ نظر، بل الأقرب أن هذا قيدٌ في أن الزكاة لا تجب إلا في السائمة في بهيمة الأنعام، وليس لكونه جرى مجرى الغالب؛ قال ابن عبدالبر: “لا أعلم أحدًا قال بقول مالك والليث من فقهاء الأمصار”، يعني: لم يقل بعدم اشتراط السَّوْم أحدٌ سوى الإمام مالك والليث بن سعد، وأما بقية الفقهاء فيشترطون السَّوْم لإيجاب الزكاة في بهيمة الأنعام.
القول الراجح هو قول الجمهور، وهو اشتراط السَّوْم، أن تكون البهيمة سائمة؛ أي أن تَرعى العُشب والكلأ أكثرَ السنة، ولو كانت تَرعى العُشب والكلأ الذي زرعه الآدميُّ فلا تُعتبر سائمة.
طيب، إذا لم تكن سائمة فهذه لا زكاة فيها، إلا أن تُعَد للتجارة، فإن أُعِدَّت للتجارة فتُزكَّى زكاة عُروض التجارة. فهذا رجل عنده إبل، عنده بقر، عنده أغنام، يتاجر فيها، يبيع ويشتري فيها؛ هذه عُروض تجارة، يجب عليه أن يزكيها زكاة عُروض التجارة حتى لو لم تكن سائمة.
الثالث: أن تبلغ نصابًا.
نصاب الإبل
ثم بيَّن المؤلف النصاب؛ قال:
فأقل نصاب الإبل خمسٌ، وأقل نصاب البقر ثلاثون، وأقل نصاب الغنم أربعون.
وهذا مُجمَع عليه.
المؤلف بدأ ببيان المقدار الواجب في زكاة الإبل؛ قال:
خمسٌ، وفيها شاةٌ.
أقل من خمس في الإبل ليس فيها زكاة، إلا إذا أعدَّها للتجارة فيزكيها زكاة عُروض التجارة، فإذا بلغت خمسًا ففيها شاةٌ.
إن أخرج بدل الشاة بعيرًا؛ فما الحُكم؟ الجواب: يجزئ في قول الجمهور؛ يعني: هذا إنسان ما عنده غنم، عنده إبل، عنده مثلًا خمسٌ من الإبل أو ستٌّ أو سبعٌ أو ثمانٍ أو تسعٌ؛ فقيل له: الواجب عليك الشاة، قال: أنا ما عندي غنم، أنا أريد أن أُخرِج بعيرًا بدل الشاة؛ فلا بأس بذلك في قول الجمهور.
قال:
ثم في كلِّ خمسٍ شاةٌ.
يعني: في خمس من الإبل شاةٌ، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاثُ شِيَاه، وفي عشرين أربعُ شِيَاه، إلى خمس وعشرين؛ قال:
إلى خمس وعشرين؛ فتجب بنتُ مَخَاضٍ.
معنى “بنت مخاض”
ثم فسَّر المؤلف “بنت المخاض”؛ قال:
وهي ما تمَّ لها سنة.
ما تم لها سنة ودخلت في الثانية؛ تُسمَّى بنت مخاض.
والماخِض: هي الحامل؛ سُمِّيت بذلك لأن أمها -في الغالب- قد مَخِضَت.
فإن لم يجد بنت مخاض فلا بأس أن يُخرج بدلًا عنها ابنَ لَبُون، طبعًا ابن لَبُون أعلى سنًّا من بنت مخاض؛ ابن لَبُون له سنتان، وبنت مخاض لها سنة، فإذا لم يجد بنت مخاض فلا بأس أن يُخرج بدلًا عنها ابنَ لَبُون، وهو ما تم له سنتان.
طيب، في بهيمة الأنعام؛ أيهما أفضل: الذكر أو الأنثى؟
الجواب: الأنثى، الأنثى مُفضَّلة عند أرباب المواشي أكثر من الذكر؛ لأن الأنثى يستفاد منها في النسل، خلاف الذكر، فهي مفضلة؛ ولذلك حتى في الزكاة هنا الأنثى أفضل من الذكر؛ ولذلك إذا أراد أن يُخرج بدل بنت مخاض ذكرًا هنا فلا يُخرج ابنَ مخاض، وإنما يُخرج ابنَ لَبُون؛ يعني: يُعوِّض عن مسألة الذُّكورية بارتفاع السنِّ.
طيب، هل هذا يجري في جميع الأنصبة؟ قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: “ولا يُجبَر نقصٌ بالذُّكورية في غير بنت مخاض؛ لظاهر الحديث”؛ يعني: هذه هي الحالة الوحيدة التي نقول إنه يجزئ ابنُ لَبُون فيها عن بنت مخاض، لكن لا نقول ذلك في سائر الأنصبة.
قال:
وفي ستٍّ وثلاثين بنتُ لَبُون.
معنى “بنت لَبُون”
و”بنت لَبُون” فسَّرها المؤلف؛ قال:
لها سنتان.
تمَّ لها سنتان ودخلت في الثالثة؛ سُمِّيت بذلك لأن أمها قد وَضَعَت -في الغالب-، فهي ذاتُ لَبَن.
طيب، ما بين خمس وعشرين إلى ست وثلاثين؛ هذا يُسميه الفقهاء “الوَقْص”، هذا لا زكاة فيه رفقًا بالمالك.
فمثلًا؛ في خمس وعشرين بنتُ مخاض، في ست وعشرين بنتُ مخاض، في سبع وعشرين بنتُ مخاض، في ثمانٍ وعشرين بنتُ مخاض، في تسع وعشرين بنتُ مخاض، في ثلاثين بنتُ مخاض، في إحدى وثلاثين بنتُ مخاض، في ثنتين وثلاثين بنتُ مخاض، في ثلاث وثلاثين بنتُ مخاض، في أربع وثلاثين بنتُ مخاض، في خمس وثلاثين بنتُ مخاض؛ إلى أن تبلغ ستًّا وثلاثين: بنت لَبُون. فهذا الذي ما بين خمس وعشرين إلى ست وثلاثين يُسمَّى “وَقْصًا”؛ فهذا لا زكاة فيه مراعاةً للمالك.
معنى “الحِقَّة”
قال:
وفي ستٍّ وأربعين حِقَّةٌ.
وفسَّرها المؤلف بقوله:
لها ثلاثُ سنين.
فالحِقَّة: هي ما لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة؛ سُمِّيت بذلك لأنها استحقت أن يَطرُقَها الفحل، وأن يُحمَل عليها وتُركَب، وهذا قد جاء منصوصًا عليه في كتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس رضي الله عنهما.
قال:
وفي إحدى وستين.
لاحِظ هنا، من ست وأربعين إلى إحدى وستين؛ هذا الوَقْص الذي قلنا لا زكاة فيه.
قال:
وفي إحدى وستين جَذَعةٌ.
معنى “جَذَعة”
وفسرها المؤلف؛ قال:
لها أربعُ سنين.
فالجَذَعة: هي التي لها أربع سنين ودخلت في الخامسة؛ سُمِّيت بذلك لأنها تَجْذَع إذا سقط سِنُّها. والجَذَعة هي أعلى سنٍّ في الزكاة، وما بعدها يُسمَّى “ثَنِيَّة”؛ وهي التي لها خمسُ سنين.
لكن هنا نُقل في “السلسبيل” عن المُوفَّق؛ قال: “إذا رضي ربُّ المال أن يُخرج مكانَ الجَذَعة ثَنِيَّةً؛ جاز ذلك”؛ لأنه انتقل إلى الأفضل.
انظر هنا للفرق بين الهدي والأضحية وبين الزكاة، فرق كبير؛ في الزكاة: الذي يُخرِج بنت المخاض وبنت اللَّبُون والحِقَّة والجَذَعة، يعني: لها سنةٌ وسنتان وثلاثٌ وأربعٌ؛ هذه كلها لا تُجزئ في الهدي ولا في الأضحية؛ في الهدي والأضحية: أقلُّ سنٍّ مجزئة خمسُ سنين، يعني: ثَنِيَّة.
فانظر إلى الفرق العظيم ما بين أسنان الإبل في الزكاة وفي الهدي والأضحية.
قال:
وفي ستٍّ وسبعين بنتَا لَبُون.
إذا بلغت ستًّا وسبعين ففيها بنتَا لَبُون، وهذا بالنص والإجماع.
وفي إحدى وتسعين حِقَّتان.
وهذا أيضًا محل إجماع.
وفي مئة وإحدى وعشرين ثلاثُ بناتِ لَبُون.
وهذا أيضًا بالإجماع.
إلى مئة وثلاثين فيستقر.
يعني: تستقر الفريضة.
في كل أربعين بنتُ لَبُون، وفي كل خمسين حِقَّةٌ.
طيب، نأخذ على هذا أمثلة:
في مئة وثلاثين: حِقَّةٌ وبنتَا لَبُون (حِقَّة عن: خمسين، وبنتَا لَبُون عن: ثلاثين).
وفي مئة وأربعين: حِقَّتان وبنتُ لَبُون (خمسون، خمسون، أربعون).
وفي مئة وخمسين: ثلاثُ حِقَاق (خمسون، خمسون، خمسون).
وفي مئة وستين: أربعُ بناتِ لَبُون (بنت لَبُون: أربعون، وبنت لَبُون: أربعون، وبنت لَبُون: أربعون، وبنت لَبُون: أربعون)؛ أصبحت كم؟ مئةً وستين.
وفي مئة وسبعين: حِقَّةٌ وثلاثُ بناتِ لَبُون (حِقَّة عن: خمسين، وثلاث بناتِ لَبُون عن: مئة وعشرين)؛ أصبحت مئةً وسبعين.
وفي مئة وثمانين: حِقَّتان وبنتَا لَبُون (حِقَّتان: خمسون وخمسون، وبنتَا لَبُون: أربعون وأربعون)؛ أصبحت مئةً وثمانين.
وفي مئة وتسعين: ثلاثُ حِقَاق وبنتُ لَبُون (خمسون، خمسون، خمسون، أربعون).
وفي مئتين: أربعُ حِقَاق، أو خمسُ بناتِ لَبُون. في مئتين يُخيَّر؛ إما أربعُ حِقَاق (خمسون، خمسون، خمسون، خمسون)، وإما خمسُ بناتِ لَبُون (أربعون، أربعون، أربعون، أربعون، أربعين).
وهكذا؛ فتكون القاعدة هي: أنه في كل أربعين بنتُ لَبُون، وفي كل خمسين حِقَّة.
هذه الأنصبة -كما ذكرتُ- محلُّ اتفاقٍ بين أهل العلم، وجاءت منصوصًا عليها في كتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس رضي الله عنهما.
نصاب البقر
ننتقل بعد ذلك إلى زكاة البقر.
قال:
وأقلُّ نصابِ البقر -أهليةً كانت أو وحشيةً- ثلاثون.
نصاب البقر ثلاثون -كما ذكرنا-؛ والبقر سُمِّي بقرًا لأنها تَبقُر الأرض بالحِرَاثة. والبقر إذا قيل يشمل أيضًا الجواميس، فالجاموس نوعٌ من البقر، وأشار المؤلف إلى الجواميس بقوله: “وحشية”، هي المراد بقوله: “وحشية”.
والزكاة تجب في البقر بالإجماع؛ ودلَّ لذلك حديثُ أبي ذرٍّ أن النبي قال: والذي نفسي بيده، ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يُؤدِّي حقها؛ إلا أُتِي بها يوم القيامة…[4] إلى آخر الحديث؛ ففيه وعيد شديد في حق مَن لم يُزكِّ زكاة الإبل والبقر والغنم، وهذا دليل على أنه تجب الزكاة في البقر.
أقلُّ نصاب في البقر ثلاثون -كما قلنا-؛ أُخذ من حديث معاذ : “بعثني رسول الله إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كلِّ أربعين مُسِنَّةً، ومن كلِّ ثلاثين تبيعًا”[5] هذا الحديث أخرجه الترمذي وأحمد ومالك، وفي سنده مقال، لكنه من طرق متعددة يشد بعضُها بعضًا، وأَخَذ به عامةُ أهل العلم. ولهذا؛ قال ابن عبدالبر: “لا خلاف بين العلماء في أن السُّنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذٍ هذا”.
الفرق بين نصاب الإبل والبقر
لاحِظ هنا الفرق بين الإبل والبقر؛ نصاب الإبل يبدأ بخمس، ونصاب البقر يبدأ بثلاثين، مع أنهما في باب الهدي والأضحية متساويان؛ يعني تجزئ الواحدة من الإبل أو الواحدة من البقر عن سبعةٍ، لكن في النصاب هنا فرق كبير؛ نصاب الإبل خمس، ونصاب البقر ثلاثون.
هذه الأمور مبناها على النص؛ يعني: مِثْل هذه التحديدات قد لا يجد الإنسانُ فيها حكمةً ظاهرةً، ولذلك نحن نسلِّم بها كما وردت، والحمد لله أنها محل إجماع ومحل اتفاق بين أهل العلم. فهذه التحديدات يُسلِّم بها المسلمُ، ليس بالضرورة أن يعرف الإنسانُ الحكمةَ من كل حُكم، هو على يقين بأن الله حكيم عليم، وأن الله تعالى أحكم الحاكمين.
يعني مثلًا: لماذا كانت الصلوات خمسًا وما كانت ستًّا أو أربعًا؟ لماذا صلاة الفجر في هذا الوقت؟ لماذا الظهر والعصر أربع ركعات؟ لماذا المغرب ثلاث؟ لماذا العشاء أربع؟ لماذا الفجر ركعتان؟
مثل هذه التحديدات أحيانًا لا تظهر فيها الحكمة، والمطلوب من المسلم هو الاستسلام لله ، يكفي معرفة حُكم الله ورسوله سواء عرفتَ الحكمة أو لم تعرفها؛ لأن حُكم الله هو حِكمة الحِكم وغاية الحِكم.
وإذا كان الإنسان لن يقبل من الأحكام الشرعية شيئًا إلا إذا فهم الحكمة وعلمها فيه، معنى ذلك أنه يكون ممَّن اتَّبع هواه؛ لأنه يقول: لا أقبل شيئًا من الأحكام إلا ما ظهرت مصلحته.
فلا بُدَّ من الاستسلام لله كي يظهر أثر العبودية، المهم هو صحة النص، بأن يكون من القرآن أو فيما صح من السنة، بعد ذلك عرفتَ الحكمة أو لم تعرفها؛ هذا لا يهمّ، إن عرفتَها فالحمد لله نورٌ على نور، وإن لم تعرفها فأنت على يقين بأن الله تعالى أحكم الحاكمين.
نعود لزكاة البقر؛ قال:
في ثلاثين تَبِيعٌ؛ وهو ما له سَنَةٌ.
أو تَبِيعة؛ سُمِّي بذلك لأنه يَتْبع أُمَّه في المُرَاح والمَسْرح ونحو ذلك.
وفي كلِّ أربعين مُسِنَّةٌ؛ وهي ما لها سنتان. وفي كل ستين تَبِيعَان.
أو تَبِيعتان.
ثم.
تستقر الفريضة.
في كلِّ ثلاثين تَبِيعٌ.
أو تبيعة.
وفي كلِّ أربعين مُسِنَّةٌ.
يعني؛ يكون في سبعين: تبيعٌ ومُسِنَّةٌ (تبيع عن: ثلاثين، ومُسِنَّة عن: أربعين).
وفي ثمانين: مُسِنَّتان (أربعون، أربعون).
وفي تسعين: ثلاثةُ أتبعة (ثلاثون، ثلاثون، ثلاثون).
وفي مئة: مُسِنَّة وتبيعان (مُسِنَّة عن: أربعين، وتبيعان عن: ستين).
وهكذا.
نصاب الغنم
ننتقل بعد ذلك لزكاة الغنم؛ قال:
وأقلُّ نصاب الغنم -أهليةً كانت أو وحشيةً- أربعون.
الغنم: اسم للضأن وللماعز، ولا واحد للغنم من لفظه؛ يعني ليس هناك مفرد، وتُضَم أنواع الغنم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، فيُضَم الماعز إلى الضأن بالإجماع. فمثلًا؛ لو كان عندك ثلاثون من الضأن وعشرٌ من الماعز فيُضَم الماعز إلى الضأن، فتجب عليك الزكاة، وهذا بالإجماع.
أقلُّ نصاب الغنم أربعون؛ ويدل لذلك كتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس رضي الله عنهما، وهذا أيضًا بالإجماع. ومع ذلك؛ فأقل من أربعين لا زكاة فيها، إلا أن يُعِدَّها للتجارة فتُزكَّى زكاة عُروض التجارة.
طيب، الأربعون؛ قال:
وفيها شاةٌ لها سنة، أو جَذَعةُ ضأنٍ لها ستة أشهر.
في الأربعين: شاةٌ، لكن السِّن معتبرة هنا، فالشاة إذا كانت من المعز لا بُدَّ أن يكون لها سنةٌ، وإذا كانت من الضأن لا بُدَّ أن يكون لها ستةُ أشهر، كما في الهدي والأضحية؛ لحديث سُعْر بن دَيْسَم[6] وفي سنده مقال، لكن له طرقٌ وشواهدُ يقوي بعضُها بعضًا.
قال:
وفي مئة وإحدى وعشرين شاتان.
يعني: من أربعين إلى مئة وعشرين ما فيها إلا شاة واحدة، فإذا بلغت مئةً وإحدى وعشرين ففيها شاتان، إلى مئتين وواحد.
قال:
وفي مئتين وواحدةٍ ثلاثُ شِيَاه.
ولاحِظ الفرق بين المئتين وواحد وبين أربعمئة؛ يعني: في مئتين وواحد ثلاثُ شِيَاه.
وفي أربعمئة أربعُ شِيَاه، ثم في كل مئةٍ شاةٌ.
طيب، عندنا وَقْصٌ ما بين مئة وإحدى وعشرين إلى مئتين وواحد، ووَقْصٌ ما بين مئتين وواحد إلى أربعمئة، الأعلى هو ما بين مئتين وواحد إلى أربعمئةٍ؛ كم مقداره؟ مئةٌ وتسعة وتسعون، وهذا أعلى وَقْصٍ في زكاة بهيمة الأنعام.
لاحِظ مئتين وواحد، مئتين واثنين، إلى أن تصل إلى ثلاثمئة وتسعة وتسعين؛ ما فيها إلا ثلاث شِيَاه، فإذا بلغت أربعمئة ففيها أربعُ شِيَاه.
طيب، ثم تستقر الفريضة: في كل مئةِ شاةٍ شاةٌ؛ يعني: في خمسمئة خمسُ شِيَاه، وفي ستمئة ستُّ شِيَاه، وفي سبعمئة سبعُ شِيَاه، وهكذا.
طيب، هنا فائدة ذُكِرَت في “السلسبيل”؛ جاء في صحيح البخاري من حديث أنس في كتاب أبي بكر رضي الله عنهما لمَّا وجَّهه إلى البحرين، قال: “لا يُخرَج في الصدقة [في الصدقة يعني: في الزكاة] هَرِمَةٌ، ولا ذاتُ عَوَارٍ، ولا تيسٌ إلا ما شاء المُصَّدِّق”[7].
فهاتان لا يجوز إخراجهما في الزكاة:
- الأولى: الهَرِمَة؛ وهي الكبيرة التي سقطت أسنانها، هذه لا تجزئ في الزكاة.
- الثانية: ذات العَوَار؛ وهي المَعيبة، فهذه لا تؤخذ في الزكاة؛ لأنها من رديء المال.
فالهَرِمَةُ وذاتُ العَوَار من رديء المال؛ والله تعالى يقول: وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [البقرة:267]؛ “لا تيمَّموا” يعني: لا تقصدوا الخبيث (يعني: الرديء)، فالرديء من المال لا يجوز إخراجه في جميع أنواع المال، ليس فقط في بهيمة الأنعام.
التوسط في إخراج زكاة الحيوان
لا يجب إخراجُ النفيس، وإنما الواجبُ الوسطُ، إلا إذا شاء الإنسان أن يُخرِج النفيسَ من ماله؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ لمَّا بعثه إلى اليمن: إياك وكرائم أموالهم…[8]؛ يعني: إياك ونفائس الأموال تأخذها منهم بالقوة الجبرية، لا يجوز هذا، هذا اعتبره النبي ظلمًا؛ ولهذا قال: إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
فإذَن؛ الواجب هو الوسط، لا يجوز إخراج رديء المال، ولا يجب إخراج نفيس المال، والواجب هو الوسط، إلا أن يشاء ربُّ المال إخراجَ نفيس المال، فهذا هو الأكمل والأفضل لكنه ليس واجبًا.
وقوله في الحديث في كتاب أبي بكر : “ولا تيسٌ”[9]، هل النهي عن أخذ التيس لكون التيس أقلَّ من المعز فيكون من رديء المال كالهَرِمة وذات العَوَار؛ أو لأن التيس من نفيس المال لأنه يُعتبَر فحلَ الغنم؟ يحتمل هذا وهذا؛ يحتمل أن نعتبر التيس من رديء المال لأنه أقلُّ مرتبةً من المعز، فلا يُؤخَذ التيس لنقصه وفساد لحمه، لكن هذا النقص ليس نقصًا معيبًا؛ ولهذا قال: “إلا ما شاء المُصَّدِّق”[10]؛ يعني: الساعي. ويحتمل أن نقول إن النهي عن أخذ التيس لكون التيس من نفيس المال وفحلَ الغنم، فلا يجوز أخذه إلا برضا المالك؛ فهذان الاحتمالان واردان.
وهنا قوله: “إلا ما شاء المُصَّدِّق” قد اختُلف في ضَبْطها؛ فقيل بتخفيف الصاد (المُصَدِّق)، وقيل بتشديدها (المُصَّدِّق)؛ فبتخفيف الصاد (المُصَدِّق) يعني: الساعي، بأن يكون مثلًا جميعُ المال من جنس التيس فيأخذه. وبتشديد الصاد (المُصَّدِّق) يعني: المالك؛ يكون معنى الحديث أنه لا يؤخذ التيس الذي هو فحل الغنم إلا برضا المالك.
والأقرب -والله أعلم- أنها بتشديد الصاد، هذا هو الأقرب، ويكون المقصود بالمُصَّدِّق هو المالك، وأن النهي عن أخذ التيس ليس لرداءته وإنما لنفاسته؛ لأنه فحل الغنم، فليس للساعي أن يأخذه إلا برضا المالك.
ولهذا أشار الحافظ ابن حجر في النقل المنقول هنا في “السلسبيل”؛ قال: “ولا يُؤخَذ التيس (وهو فحل الغنم) إلا برضا المالك؛ لكونه يحتاج إليه، فبأخذه بغير اختياره إضرارٌ به”.
طيب، نِتَاج السائمة لا يُشترط له الحول؛ ولهذا قال الفقهاء بأن رِبْح التجارة ونِتَاج السائمة لا يُشترَط له الحول، لكن ما نتج بعد تمام الحول وقبل إخراج الزكاة لا يُضَم للنصاب ولا تجب زكاته، كرِبْح التجارة بعد الحول.
طيب، نكون بهذا قد انتهينا من الكلام عن هذا الفصل، ننتقل أيضًا لفصل متعلق بهذا؛ وهو الكلام عن: الخُلطة وأحكامها.
الخُلطة وأحكامها
قال المصنف رحمه الله:
وإذا اختلط اثنان فأكثرُ من أهل الزكاة في نصاب ماشيةٍ لهم جميعَ الحول.
“الخُلطة”: مِن خَلَطَ يَخْلِط خِلْطةً وخُلْطةً؛ هي اشتراك شخصين فأكثر من أهل الزكاة في نصابٍ من الماشية -أغنام أو أبقار أو إبل- حولًا فأكثر.
وتُقسَّم عند الفقهاء إلى قسمين: (خُلطة أعيان – خُلطة أوصاف).
القسم الأول (خُلطة الأعيان): يعني أن يكون المالُ مُشترَكًا بين اثنين في المِلك؛ غنمٌ مُشترَكٌ بينك وبين صديقك، بينك وبين أخيك، أو مثلًا ورثة يشتركون في أغنام، في أبقار، في إبل؛ هذه تُسمى “خُلطة أعيان”.
وخُلطة الأعيان تُصيِّر المالَين مالًا واحدًا باتفاق أهل العلم؛ فمثلًا: لو كان عند شخص أربعون من الغنم، وعند صاحبه أربعون من الغنم، فخَلَطا الأغنام؛ فبالخُلطةِ الواجبُ عليهما شاةٌ واحدةٌ، لكن لو لم يَخلِطَا هذه الأغنام لكان على كل واحد منهما شاةٌ (يعني: يُخرَج شاتان)؛ فالخُلطة تُصيِّر المالَين مالًا واحدًا.
القسم الثاني (خُلطة الأوصاف): وهي أن يتميَّز مالُ كلِّ واحدٍ منهما عن الآخر، لكن يشتركان في أمور؛ ذكر المؤلف خمسة أمور:
الأول: المَبِيت.
ويقال: المُرَاح، يكون مُرَاحهما واحدًا؛ يعني: يكون المكانُ الذي تأوي إليه هذه الماشية واحدًا.
الثاني: المَسْرح.
تَسْرح الماشية جميعًا وترجع جميعًا؛ فمثلًا لا يُسَرِّح أحدُهما بغنمه يومًا والآخرُ يومًا آخر، لا، تَسْرح جميعًا.
الثالث: المَحْلَب.
أن يكون مكان الحلب واحدًا.
الرابع: الفحل.
أن يكون الفحل مُشترَكًا.
الخامس: المَرْعى.
أن يكون المرعى لهما واحدًا.
فهذه الأمور الخمسة تتحقَّق بها خُلْطة الأوصاف، إذا تحققت هذه الأمور الخمسة؛ قال:
زُكِّيَا كالواحد.
يعني: أن الخُلطة تُصيِّر المالَين مالًا واحدًا، وهذا هو المذهب عند الحنابلة؛ واستدلوا بحديث سعد بن أبي وقاص : والخليطان ما اجتمعا على: الحوض، والراعي، والفحل[11] أخرجه الدارقطني، لكنه حديثٌ ضعيفٌ، ضعَّفه الإمام أحمد وابن أبي حاتم.
القول الثاني: أن المرجع في خُلطة الأوصاف إلى العُرف؛ فما عَدَّه الناسُ خُلطةً فهو خُلطةٌ، وما لا فلا.
وهذا القول رجَّحه ابن مفلح صاحب “الفروع”، وهذا هو الأقرب -والله أعلم-؛ لأن الحديثَ الذي استدل به أصحاب القول الأول -كما ذكرنا- حديثٌ ضعيفٌ، تحديده بهذه الأمور الخمسة يحتاج إلى دليلٍ صحيحٍ.
فعلى هذا؛ إذا كان هذا الحديثُ ضعيفًا، فالأصل في الشريعة أن ما ورد من غير تحديد فالمرجع فيه إلى العُرف.
ولا تُشترط نية الخُلطة.
يعني: إذا حصل هذا الاختلاط فيكون هذان المالان مالًا واحدًا، ولو من غير نية.
ولا اتحاد المَشْرب.
اتحاد المَشْرب: هو الحوض أو المكان الذي تشرب منه الماشية، لا يُشترَط اتحاده.
والراعي.
لا يُشترط أن يكون الراعي واحدًا.
ولا اتحاد الفحل إن اختلف النوع كالبقر والجاموس والضأن والمعز.
طبعًا هذا تفريعٌ على قوله من الخُلطة في الأمور الخمسة، وبناءً على القول الراجح (وهو: أن المرجع في الخُلطة إلى العُرف) لا نحتاج لهذا الكلام.
قال:
وقد تفيد الخُلطة تغليظًا أو تخفيفًا.
“تغليظًا” ذكر المؤلف له مثالًا؛ قال:
كاثنين اختلطا بأربعين شاةً، لكلِّ واحدٍ عشرون؛ فيلزمهما شاةٌ.
يعني: هذان صديقان، محمد وخالد؛ محمد عنده عشرون من الغنم، وخالد عنده عشرون من الغنم، جَمَعَا هذه الأغنام وجعلاها في مكان واحد، فيجب عليهما أن يُزكِّيا هذه الأغنام؛ لأنها بلغت النصاب (عشرون وعشرون: أربعون)؛ فيُخرجان شاةً واحدةً.
بينما لو لم يَخلِطَا هذه الأغنام بعضها مع بعض، لم تجب عليهما الزكاة؛ لأن هذا عنده عشرون أقلُّ من النصاب، وهذا عنده عشرون أقلُّ من النصاب؛ فهنا أفادت الخُلطة تغليظًا.
طيب، قد تفيد تخفيفًا؛ يعني العكس.
قال:
كثلاثة اختلطوا بمئة وعشرين شاةً، لكلِّ واحدٍ أربعون؛ فيلزمهم شاةٌ.
هؤلاء ثلاثة أصدقاء، محمد وخالد وزيد؛ عند كلٍّ منهم أربعون من الغنم، جمعوا هذه الأربعين (أربعين، وأربعين، وأربعين)؛ فأصبحت مئةً وعشرين، جمعوها في مكانٍ واحدٍ، في حَوْشٍ واحدٍ، فمئة وعشرون الواجب فيها شاةٌ واحدةٌ، لو لم يَخلِطوا هذه الغنم بعضها مع بعض لكان على محمدٍ شاةٌ لأن عنده أربعين، وعلى خالد شاةٌ لأن عنده أربعين، وعلى زيد شاةٌ لأن عنده أربعين؛ لكان الواجب عليهم ثلاث شِيَاه، لكن لمَّا خَلَطوا هذه الأغنام أصبحت مئةً وعشرين، لم يجب عليهم سوى شاة واحدة، فأفادت الخُلطة تخفيفًا.
لكن هنا يُشترط شرط: وهو ألَّا يكون ذلك بقصد الاحتيال والفرار من الزكاة، فالفارُّ من الزكاة يُعامَل بنقيض قصده؛ ولهذا جاء في كتاب أبي بكر : “ولا يُجمَع بين مُتفرِّق، ولا يُفرَّق بين مُجتمِعٍ خشيةَ الصدقة”[12].
“ولا يُجمَع بين مُتفرِّق” يعني: كأن يكون كما في المثال السابق، ثلاثة؛ لكلِّ واحدٍ منهم أربعون، فإذا أتى الساعي يأخذ من كل واحدٍ شاةً، فقاموا بجمع هذه الشِّيَاه؛ يعني أصلًا ما عندهم خُلطة، قالوا إن الساعي الآن سيأتينا ويأخذ من كل واحد منَّا شاةً؛ إذَن نجمع هذه الشِّيَاه كلها (أربعين، وأربعين، وأربعين) كي لا يأخذ منا إلا شاةً واحدةً؛ هذا لا يجوز إذا كان ذلك فرارًا من الزكاة.
“أو يُفرَّق بين مُجتمِعٍ”؛ كأن يكون عند صديقين أغنامٌ عددها أربعون، ولمَّا علموا بأن الساعي سيأتي فرَّقَا، جَعَلَا عند هذا عشرين وعند هذا عشرين حتى تكون أقلَّ من النصاب؛ فهذا لا يجوز.
فإذَن؛ إذا كان ذلك بقصد الفرار من الزكاة فلا يجوز، وهذا معنى قوله: “ولا يُجمَع بين مُتفرِّق، ولا يُفرَّق بين مُجتمِعٍ خشيةَ الصدقة”.
ولا أثر لتفرقة المال ما لم يكن سائمةً.
يشير المؤلف إلى مسألة؛ وهي: هل الخُلطة خاصة بالسائمة من بهيمة الأنعام، أو تشمل جميع الأموال؟
المؤلف يقول إنها خاصة ببهيمة الأنعام، وما عدا السائمة فلا تؤثر الخُلطة فيها. فلو أنني خلطتُّ مالي ومالَكَ؛ فلا يؤثر هذا الخَلط في الحبوب والثمار أو في الذهب والفضة أو في عُروض التجارة؛ إذَن الخُلطة إنما تُؤثِّر في السائمة من بهيمة الأنعام فقط.
طيب، هنا مسألة معاصرة: وهي أسهم الشركات المساهمة، هي مُختلَطة كلها؛ يعني مثلًا شركة “أ” فيها مئة ألف مساهم؛ هل هذه الخُلطة مؤثرة في الزكاة؟ الجواب: لا؛ معنى ذلك أن كل مساهم يُطالَب بزكاة الأسهم التي تخصُّه، إلا أن يكون هناك ترتيب بأن الشركة تُخرِج الزكاة عن المساهمين. فالشركات المساهمة عندنا في المملكة تدفع الزكاة عن المساهمين لمصلحة الزكاة والدخل، لكنَّ المساهمَ في الدول الأخرى مسؤولٌ عن زكاة ماله (زكاة أسهمه)، فهنا لا بُدَّ على كل واحد من المساهمين أن يزكي عن الأسهم التي تخصُّه، حتى لو كانت مُختلَطة في هذه الشركة؛ لأن الخُلطة لا تؤثر في غير السائمة من بهيمة الأنعام. فنستفيد إذَن من هذا فائدةً: وهي أن الخُلطة إنما تؤثر في السائمة من بهيمة الأنعام، ولا تؤثر في سائر الأموال.
قال:
فإن كانت سائمةً بمَحلَّيْن بينهما مسافةُ قصرٍ؛ فلكلٍّ حُكمٌ بنفسه.
مسافة القصر هي ثمانون كيلومترًا، إذا قال الفقهاء: “مسافة قصر” يعنون بذلك ثمانين كيلومترًا؛ لأن مسافة القصر هي أربعةُ بُرُدٍ عند الجمهور، والبريد أربعةُ فَراسِخ؛ يعني: ستة عشر (4×4)، والفَرسَخ ثلاثةُ أميال، ثمانيةٌ وأربعون ميلًا تعادل -بالتقديرات المعاصرة- ثمانين كيلومترًا؛ فأقل مسافة للسفر ثمانون كيلومترًا.
طيب، إذا “كانت سائمةً بمَحلَّيْن بينهما مسافةُ قصر؛ فلكلٍّ حُكمٌ بنفسه”؛ كأن يكون عند رجل أغنامٌ سائمةٌ في الرياض، وأغنامٌ سائمةٌ في مكة مثلًا أو في المدينة، هنا بينهما مسافةُ قصر، فكلٌّ منهما مالٌ مستقل؛ يعني: لا تجب فيه الزكاة إذا كان لا يبلغ نصابًا؛ وهذا القول من مفردات الحنابلة، واستدلوا بحديث: “ولا يُجمَع بين مُتفرِّق، ولا يُفرَّق بين مُجتمِعٍ خشيةَ الصدقة”[13].
القول الثاني: أنهما كالمال الواحد، وأنه إذا كان للإنسان سائمةٌ بمَحلَّيْن أو بمحالَّ، فهي كالمال الواحد؛ وإليه ذهب أكثرُ الفقهاء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة. مثلًا؛ هذا رجل عنده عشرون رأسًا من الغنم في مكة، وعشرون رأسًا من الغنم في الرياض؛ فعلى قول الحنابلة: لا زكاة عليه، وعلى القول الثاني (قول الجمهور): تجب عليه الزكاة؛ هنا تظهر ثمرةُ الخلاف في مثل هذه المسائل.
القول الراجح هو قول الجمهور، وقد رجَّحه المُوفَّق ابن قدامة رحمه الله تعالى؛ وذلك لعموم الأدلة، فما الذي يُخرِج هذا عن عموم الأدلة؟! هذا رجل يملك أربعين شاةً، لكنْ عشرون في مكة وعشرون في الرياض؛ فما الذي يُخرِجه من عموم الأدلة؟! ما الذي يُخرِجه من قول النبي عليه الصلاة والسلام: في كلِّ أربعين شاةٌ[14]، عنده أربعون من الغنم، كونها متفرقةً فهذا لا يُؤثِّر.
فالقول الراجح إذَن هو قول الجمهور: وهو أن تفرقةَ مال الإنسان لا تُؤثِّر في الزكاة؛ ومما يدل لذلك أنه لو كان عندك مالٌ في الرياض ومالٌ في مكة ومالٌ في المدينة؛ هذه الأموالُ كلُّها تُعتبر مالًا واحدًا وتُزكِّيها، هكذا بالنسبة أيضًا للسائمة.
إذَن؛ القول الراجح هنا في هذه المسألة هو قول الجمهور، خلاف ما قرَّره المصنف رحمه الله، بل إن القولَ الذي قرَّره المصنف قولٌ ضعيفٌ؛ لأنه خلاف الأدلة. إنسان عنده أغنام؛ عشرون في مكة وعشرون في الرياض، نقول: لا تجب عليه الزكاة؟! هذا بعيد عن الأدلة، كلُّه مالٌ لشخص واحد، فيدخل في عموم قول النبي في كلِّ أربعين شاةٌ[15].
فالصواب إذَن في هذه المسألة هو قول الجمهور؛ ولذلك فالمُوفَّق ابن قدامة في “المغني” رجَّح قول الجمهور.
قال:
فإن كان له شِياهٌ بمَحَالَّ متباعدةٍ، في كلِّ محلٍّ أربعون؛ فعليه شِيَاهٌ بعدد المحالِّ.
هذا تفريعٌ على قول المذهب؛ يعني رجل عنده مثلًا: في الرياض أربعون، وفي مكة أربعون، وفي المدينة أربعون؛ فعلى المذهب: عليه ثلاثُ شِيَاه، وعلى قول الجمهور: عليه شاةٌ واحدةٌ؛ يعني: قد تفيد أحيانًا تغليظًا أو تخفيفًا.
ولا شيء عليه إن لم يجتمع له في كلِّ محلٍّ أربعون ما لم يكن خُلطة.
هذا أيضًا تفريعٌ؛ لو كان في الرياض عنده عشرون، وفي مكة عشرون؛ فعلى المذهب: لا شيء عليه، وعلى الجمهور: عليه شاةٌ واحدةٌ.
إذَن؛ فأحيانًا قد يفيد تغليظًا، وأحيانًا قد يفيد تخفيفًا.
طيب، هنا مسألة ذُكرت في “السلسبيل”: إذا جاء الساعي ليأخذ الفرض من الخليطَيْن؛ فمِن أيهما يأخذ؟ يعني هذا رجل عنده عشرون، والآخر عنده عشرون، جَمَعَا العشرين والعشرين فأصبحت أربعين بالخُلطة؛ الساعي سيأخذ شاةً واحدةً، هل يأخذ من عشرين هذا الرجل، أو من عشرين الرجل الآخر؟
نقول: هو يأخذ من مال الخليطَيْن ما شاء، ومَن أُخِد منه يَرجع على صاحبه؛ لقول أبي بكر في كتابه الذي كتبه لأنس رضي الله عنهما: “وما كان من خليطَيْن فإنهما يتراجعان بينهما بالسَّويَّة”[16].
فمثلًا؛ هذا عنده عشرون، وهذا عنده عشرون؛ فأتى الساعي وأخذ من زيد شاةً واحدةً، زيدٌ يرجع على صديقه محمد ويقول له: أعطني قيمةَ نصف شاة؛ لأن الشاة هذه عنهما جميعًا وليست عن زيد فقط. فإذَن؛ الساعي يأخذ من أحدهما، ومَن أُخِذ منه يرجع على صاحبه؛ وهذا معنى قوله: “وما كان من خليطَيْن فإنهما يتراجعان بينهما بالسَّويَّة”.
بهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أحكام زكاة بهيمة الأنعام.
طيب، نأخذ ما تيسر من زكاة الخارج من الأرض، ونكمل -إن شاء الله- الكلام عنها في الدرس القادم.
باب زكاة الخارج من الأرض
قال المصنف رحمه الله:
باب: زكاة الخارج من الأرض.
الخارج من الأرض الأصلُ فيه قولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [البقرة:267]، وقول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]؛ و”حَقّه” قيل المقصود به الزكاة؛ وقيل ليس المقصود به الزكاة، وإنما كان قَدْرًا يُؤخَذ قبل فرضية الزكاة. والصحيح أن المقصود به الزكاة؛ لعموم الأدلة: فيما سقتِ السماءُ والعيونُ، أو كان عَثَرِيًّا؛ العُشْرُ[17] وما جاء في معناه. لكن؛ هل تجب الزكاة في كل خارج من الأرض، أو في قَدْرٍ مخصوصٍ منها؟
الحنفية قالوا إن الزكاة تجب في جميع الخارج من الأرض استدلالًا بعموم الأدلة، وأما الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة فقالوا إنها تجب في نوعٍ وقَدْرٍ مخصوصٍ؛ وهذا هو الأقرب -والله أعلم-، وهو أنها لا تجب في كل الخارج من الأرض؛ لأن على عهد النبي عليه الصلاة والسلام كانت هناك أصناف من الخارج من الأرض لا تُزكَّى، كالخُضروات والفواكه ونحو ذلك.
الأصناف التي تجب الزكاة فيها من الزروع
طيب، ما هو الضابط فيما تجب فيه الزكاة من الحبوب والثمار؟
نقول: الضابط -والله أعلم- هو ما ذهب إليه الحنابلة؛ وهو أن الزكاة تجب في الحبوب كلها، وفيما يُكال ويُدَّخر من الثمار؛ هذا هو الضابط فيما تجب فيه الزكاة في الخارج من الأرض.
ومعنى الادخار: أنه يمكن أن يبقى فترةً من الزمن ويُيَبَّس دون أن يَفسُد.
قال المصنف رحمه الله:
تجب في كلِّ مكيلٍ مُدَّخَرٍ من الحَبِّ.
يعني: في الحبوب كلها؛ الحبوب الأصل أنها كلها مَكيلة.
ثم مثَّل المؤلف للحبوب؛ قال:
كالقمح والشعير والذرة والأرز.
هذه كلها معروفة، تجب الزكاة فيها.
والحِمَّص.
بكسر الحاء وفتح الميم، وبعضهم يكسر الميم.
والعَدَس.
هذه كلها بقوليات.
والباقِلَّاء.
وأيضًا مِثْلُها الفول، هذه كلها تجب فيها الزكاة.
والكِرْسَنَّة.
“الكِرْسَنَّة”: نوع من الحبوب يشبه العَدَس، ليس معروفًا في بلادنا، لكن قد يكون معروفًا في بعض البلدان، ويظهر أنه كان معروفًا في زمن المصنف وفي بيئته.
والسِّمْسِم والدُّخْن والكَرَاوِيَا والكُزْبَرة.
هذه كلها من الحبوب التي تجب فيها الزكاة.
وبِزْر.
يعني: بذر.
القُطن والكُتَّان والبَطِّيخ ونحوه.
هذه كلها من الحبوب. وأيضًا الحبة السوداء، والقهوة، والأرز؛ هذه كلها تجب فيها الزكاة.
“وبِزْر” يعني: بذور هذه الأشياء تجب فيها الزكاة، أما هي نفسها فلا تجب، لأنه لا ينطبق عليها الضابط؛ إذَن هذه الحبوب كلها تجب فيها الزكاة.
أما الثمار فلا تجب الزكاة في جميع الثمار، وإنما تجب فيما يُكال ويُدَّخر من الثمار؛ ولهذا قال المصنف:
ومن الثمر.
يعني: ما يُكال ويُدَّخر.
ومثَّل المؤلف له بأمثلة؛ قال:
كالتمر.
وهو من أبرز الثمار.
والزبيب واللَّوْز والفُسْتُق والبُنْدُق.
هذه كلها تجب فيها الزكاة.
والسُّمَاق.
شبيه بالبندق، تجب فيه الزكاة.
لا زكاة في عُنَّاب
قال المصنف رحمه الله:
ولا زكاة في عُنَّاب.
انتبهوا؛ أُريدُ أن أقف وقفةً مع هذه، كان فيها إشكال في الطبعة السابقة وتداركناها في الطبعة الأخيرة؛ في بعض نُسَخ “السلسبيل” وقع “عِنَب”، حيث قال: “ولا زكاة في عِنَب”، ففي نسخة “منار السبيل” وقع “عِنَب” بدل “عُنَّاب”؛ ويظهر أن هذا تصحيف لمخالفة النُّسَخ المُحقَّقة من “دليل الطالب”؛ لأنه إذا قلنا: “عِنَب” يعني: لا زكاة في عِنَب، وهذا يخالف ما أقرَّه الحنابلة بأن الزكاة تجب في العِنَب، فلا خلاف في المذهب في أن الزكاة تجب في العِنَب. ولهذا، فالنُّسَخ المُحقَّقة من “دليل الطالب” العبارةُ فيها “عُنَّاب” وليس “عِنَب”؛ فالعبارة الصحيحة: “ولا زكاة في عُنَّاب”.
و”العُنَّاب”: هو شجرٌ شبيه بالسِّدر، شجر شائك من الفصيلة السِّدرية، أحمر، لذيذ الطعم، على شكل ثمرة النَّبْق؛ هذا لا زكاة فيه. والمؤلف يقول إنه لا تجب فيه الزكاة لأنه لم تجرِ العادة بادخاره، وجزمَ المَرْداويُّ في “الإنصاف” بأن الصحيح وجوب الزكاة فيه؛ فتكون المسألة محل خلاف في المذهب. لكن، هنا أُنبِّه إلى أنه ليس المقصود به العِنَب، وإنما هو عُنَّاب.
والعُنَّاب ليس معروفًا في بلادنا، ربما يكون معروفًا في بعض البلدان الأخرى، ما أدري إن كان معروفًا في مصر أو في الشام، لكنه في بلادنا ليس معروفًا.
فعلى كلٍّ؛ هنا لا بُدَّ من تصحيح العبارة، لأنه أيضًا وقع في الطبعة الأولى وفي بعض نُسَخ “دليل الطالب”: “ولا زكاة في عِنَب”، وهذا خطأ، هذا تصحيف، صواب العبارة: “ولا زكاة في عُنَّاب”؛ لأن الحنابلة يَرَوْن وجوب الزكاة في العِنَب، ولأن النُّسَخ المُحقَّقة من “دليل الطالب” أُثبِت فيها هذا اللفظ: “ولا زكاة في عُنَّاب”.
زكاة الزيتون
وزيتون.
يعني: لا تجب الزكاة في الزيتون، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
وهذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء:
- القول الأول: أنه لا تجب الزكاة في الزيتون، وهذا مذهب الحنابلة، وهو قول الشافعي في الجديد؛ قالوا: لأنه لا يُدَّخَر يابسًا، والزكاة إنما تجب فيما يُدَّخَر.
- القول الثاني: أن الزكاة تجب في الزيتون، وهو مذهب الحنفية والمالكية، وهو قول عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة واختارها المجد ابن تيمية رحمه الله؛ واستدل أصحاب هذا القول بقول الله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]؛ قالوا: الزيتون جاء منصوصًا عليه في الآية.
والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني؛ وهو أن الزكاة تجب في الزيتون، خاصةً في وقتنا الحاضر؛ ادخار الزيتون الآن ظاهر بوضعه في سائل بمواصفات معينة، فكيف لا نُوجِب الزكاة على مَزَارع الزيتون وأصحاب الزيتون، وهي الآن أصبحت تجارةً رائجةً؟! يعني: مَزَارع الزيتون وصناعة الزيتون من التجارات الرائجة في العالم، فكيف لا نُوجِب الزكاة على صاحب الزيتون؟!
الأقرب للنصوص وللأصول والقواعد الشرعية هو القول الثاني؛ وهو أن الزكاة تجب في الزيتون، وهو الآن أصبح ادخاره ظاهرًا وواضحًا، ثم هو منصوصٌ عليه في الآية الكريمة.
زكاة الجَّوْز والتين والمشمش
قال:
وجَوْزٍ وتِينٍ ومِشْمِشٍ.
يعني: لا تجب الزكاة فيها، لكن في الوقت الحاضر أصبح يمكن ادخار الجوز والمشمش. فعلى هذا؛ الأقرب -والله أعلم- هو وجوبُ الزكاة في الجوز والمشمش، لأنه أصبح يمكن ادخارها.
أما التين فاختلف العلماء في حُكم الزكاة فيه:
- القول الأول: أن الزكاة لا تجب في التين؛ وهو قول المؤلف، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو قول المالكية والشافعية.
- القول الثاني: أن الزكاة تجب في التين؛ وهو قول كثيرٍ من المالكية، ورواية عن الإمام أحمد، واختاره الحافظ ابن عبدالبر والإمام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع؛ قالوا: لأن التين يمكن ادخاره، والأصل أن ما أمكن ادخاره من الثمار تجب فيه الزكاة، وهذا هو القول الراجح؛ وادخار التين في وقتنا الحاضر ظاهر جدًّا.
وعلى ذلك؛ فالتين كالزيتون، تجب فيه الزكاة -على القول الراجح-.
لا زكاة في النَّبْق والزُّعْرُور والرمان
ونَبْقٍ وزُعْرُورٍ.
النَّبْق: هو ثمر السِّدر؛ والزُّعْرُور: هو ثمر أحمر يشبه أيضًا النَّبْق، ويُسمَّى “نَبْق البادية”؛ فلا تجب فيهما الزكاة، لأنهما ليسا مَكِيلَين.
ورُمَّان.
يعني: الرمان لا تجب فيه الزكاة لأنه معدودٌ من الفواكه؛ فإن قال قائل: كيف تقولون إن الرمان لا تجب فيه الزكاة وقد جاء النص عليه في الآية الكريمة السابقة: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]؟! فالرمان منصوص عليه في الآية.
فالجواب عن ذلك: أن الآية جاءت على سبيل الامتنان، ولم يرد بها الزكاة لأنها مكية، وقد نزلت قبل وجوب الزكاة؛ ومما يدل لذلك قولُ الله تعالى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68]، والنخل والرمان من الفواكه، والعطف هنا لا يقتضي المُغايَرة، بل التشريف والتخصيص.
قال البخاري في صحيحه: “وقال بعضهم: ليس الرمان والنخل بالفاكهة، وأما العرب فإنها تعدها فاكهة، وفي قوله : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى فأمرهم بالمحافظة على الصلوات، ثم أعاد العصر تشديدًا لها كما أُعِيد النخل والرمان”. فالرمان فاكهة، ولو قلنا بإيجاب الزكاة فيه فسيَنْخَرِم قولنا بأن الزكاة لا تجب في الفواكه، فالرمان لا تجب فيه الزكاة.
طيب، الآية الكريمة؟ نقول: النصوص يُجمَع بعضها مع بعض، فلا يُنظَر لطرف من النصوص ويُترَك الطرف الآخر؛ مجموع النصوص تدل على أن الفواكه لا تجب فيها الزكاة، والرمان من الفواكه؛ فالآية الكريمة جاءت على سبيل الامتنان، والسنة بيَّنَت ووضَّحت ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب فيه الزكاة. وعلى هذا؛ فالأظهر -والله أعلم- أن الرمان معدود من الفواكه، والفواكه لا زكاة فيها.
نخلص من هذا إلى أن التين والزيتون فيهما الزكاةُ -على القول الراجح-، والرمان لا زكاة فيه. والخُضروات لا تجب الزكاة فيها، كالباذنجان والخيار والجزر والكوسة والبطيخ والبقوليات والبصل والثوم والقِثَّاء والكُرَّاث ونحو ذلك؛ لا تجب الزكاة فيها. كذلك أيضًا لا تجب الزكاة في الفواكه -كما ذكرنا-؛ ومنها الرمان والبرتقال والتفاح والموز والكمثرى ونحو ذلك. وقد رُوي في ذلك أحاديث لكنها ضعيفة: ليس في الخُضروات صدقة[18] لكن يشد بعضُها بعضًا، ويؤيدها عملُ الصحابة ؛ ولهذا قال البيهقي: “هذه الأحاديث كلها مراسيل إلا أنها من طرق مختلفة، فبعضُها يؤكد بعضًا، ومعها قولُ بعض الصحابة”؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم: “لم يكن من هدي النبي أخذُ الزكاة من الخُضروات ولا من الفواكه”.
شروط زكاة الحبوب والثمار
طيب، تجب الزكاة في الحبوب والثمار بشرطين:
بلوغ النصاب
الشرط الأول؛ قال المصنف رحمه الله:
الأول: أن يبلغ نصابًا.
ما هو النصاب؟ قال:
وقَدْره بعد تصفية الحَبِّ وجَفَاف الثَّمَر: خمسةُ أَوْسُقٍ.
نلاحظ هنا أن النصاب إنما يكون بعد التصفية والجفاف؛ وبناءً على ذلك، لو كان عنده عشرة أَوْسُق عِنَبًا لا يجيء منها خمسة أَوْسُق زبيبًا فلا تجب عليه الزكاة.
طيب، ما مقدار النصاب في الزكاة؟
مقدار النصاب في الزكاة؛ قال المصنف:
وهي ثلاثُمئة صاعٍ.
لأنه خمسةُ أَوْسُقٍ، والوَسْقُ ستون صاعًا؛ فتكون ثلاثَمئة صاعٍ.
ذكر المؤلف مقدار هذا الصاع بما هو معروفٌ في زمنه؛ قال:
وبالأَرَادِبِّ: ستةٌ وربعٌ، وبالرَّطْلِ العراقيِّ: ألفٌ وستُّمئة، وبالقُدسيِّ: مئتان وسبعةٌ وخمسون وسُبْعُ رَطْلٍ.
الناس الآن لا يعرفون هذه المقاييس، فلا بُدَّ أن نخاطب الناس بما يعرفون، الناس يتعاملون بماذا؟ يتعاملون الآن بالكيلوجرام، هذا المُزارع يقول: كم مقدار الزكاة بالكيلوجرام؟
اليوم في إذاعة القرآن الكريم، في برنامج “سؤال على الهاتف”، أتانا هذا السؤال: كم مقدار نصاب الزكاة في النخل؟
فبيَّنتُ له أن مقدار النصاب في التمر ستُّمئة واثنا عشر كيلوجرامًا، خاطبتُه باللغة التي يعرفها. لكن لو قلتُ له مثلًا: ثلاثُمئة صاعٍ، أو قلتُ له -مثلما قال المؤلف-: بالأَرَادِبِّ ستةٌ وربعٌ، وبالرَّطْلِ العراقيِّ ألفٌ وستُّمئة، وبالقُدسيِّ مئتان وسبعةٌ وخمسون وسُبْعُ رَطْلٍ؛ هل سَيَفهم؟ لن يفهم شيئًا. لكن مجرد أنه سأل اليوم في إذاعة القرآن الكريم، قال: كم مقدار نصاب التمر؟ قلتُ: ستُّمئة واثنا عشر كيلوجرامًا؛ فَهِمَ الجواب، فلا بُدَّ من أن نخاطب الناس بما يعرفون.
فإذَن؛ مقدار نصاب الحبوب والثمار: هو ستُّمئة واثنا عشر كيلوجرامًا.
أن يكون مالكًا للنصاب وقتَ وجوبها
الشرط الثاني: أن يكون مالكًا للنصاب وقتَ وجوبها.
لا بُدَّ من أن يكون الحَبُّ أو الثَّمَرُ مملوكًا وقت الوجوب؛ وبناءً على ذلك، لو باعه قبل ذلك فلا زكاة فيه، ولو ملكه بعد ذلك فلا زكاة عليه.
فوقتُ الوجوب في الحَبِّ إذا اشتدَّ، وفي الثمرة إذا بَدَا صلاحُها.
تجب الزكاة في الحبوب: إذا اشتدَّت؛ بحيث إذا غُمِزَت لم تنغمز بل تكون مُشتَدَّة. وأما في الثمار: إذا بَدَا فيها الصلاحُ، وهو يختلف باختلاف نوع الثمرة؛ فمثلًا في ثمر النخل أن تحمَرَّ أو تصفَرَّ.
طيب، هنا مسألةٌ -لم يذكرها المؤلف لكن ذُكِرت هنا في “السلسبيل”- نختم بها هذا الدرس؛ وهي استقرار وجوب الزكاة، الفقهاء يقولون: لا يستقر وجوب الزكاة إلا بجَعْل الحبوب والثمار في موضع تجفيفها وتيبيسها، وله عدة أسماء -بحسب البلدان-؛ يُسمَّى “البَيْدر”، ويُسمَّى “المِرْبَد”، ويُسمَّى “الجَرِين”، ويُسمَّى “الفِدَى”؛ كلُّ هذه أسماءٌ له، عندنا هنا في المملكة أكثر ما يُسمَّى بالفِدَى، وفي بعض البلدان ربما يُسمَّى بالمِرْبَد أو الجَرِين والبَيْدر، الذي هو موضع التجفيف والتيبيس.
بناءً على ذلك؛ لو تَلِفَت الحبوب والثمار بعد بُدُوِّ الصلاح فيها وقبل جَعْلها في البَيْدر، فلا تجب فيها الزكاة ما لم يكن ذلك التلف بتعدٍّ أو تفريط منه؛ أما إذا تَلِفَت بعد وَضْعها في البَيْدر فتجب الزكاة عليه حتى لو كان التلف بتعدٍّ أو تفريط، لاستقرار وجوب الزكاة؛ هذا هو المذهب.
وقال بعض العلماء إنها إذا تَلِفَت بعد وضعها في البَيْدر من غير تعدٍّ ولا تفريط؛ فلا تجب عليه الزكاة، وهذا هو الأقرب -والله أعلم-؛ لأنه اجتهد في حفظها. يعني مثلًا: هذا رجلٌ مُزارع عنده تمر، قام بصِرَام هذا التمر ثم وَضَعه في الفِدَى أو في المِرْبَد (موضع التجفيف)، ثم قدَّر الله أن نزلت أمطارٌ وسيولٌ ودخلت على موضع تجفيف التمر فتَلِف التمر، هذا من غير تعدٍّ ولا تفريط منه؛ فهل نقول إنه يضمن الزكاة أو لا يضمنها؟
على القول الراجح لا يضمن إذا لم يكن منه تفريطٌ، بأن كان هذا المِرْبَد في مكان مرتفع، ولكن بسبب غزارة السيول دخلَت إلى هذا المكان فتَلِفَت الثمرةُ؛ فالقول الراجح أن ذمته بريئة، ولا يجب عليه ضمان الزكاة في هذه الحال.
وبناءً على ذلك؛ يكون لتلف الثمار والزروع ثلاث حالات:
- الحال الأولى: أن تتلف قبل وجوب الزكاة؛ يعني قبل اشتداد الحب وبُدُوِّ الصلاح في الثمر، فهذا لا شيء على المالك مطلقًا؛ سواء كان التلف بتعدٍّ أو تفريط، أو بدون تعدٍّ ولا تفريط.
- الحال الثانية: أن تتلف بعد وجوب الزكاة وقبل جَعْلها في البَيْدر (موضع التجفيف)؛ فإذا كان التلف بتعدٍّ أو تفريط وجب عليه إخراج الزكاة، وإذا كان بدون تعدٍّ ولا تفريط لم يضمن.
- الحال الثالثة: أن تتلف بعد جَعْله في البَيْدر (موضع التجفيف)؛ فالمذهب عند الحنابلة أنه تجب عليه الزكاة مطلقًا لاستقرارها في ذمته. والقول الراجح أنه لا تجب عليه الزكاة في هذه الحال إذا كان التلف بدون تعدٍّ ولا تفريط، أما إذا كان بتعدٍّ أو تفريط فتجب عليه الزكاة.
هذا ما تيسر في هذا الدرس، ونكتفي به، ونقف عند قول المصنف رحمه الله: “ويجب فيما يُسقى بلا كُلْفَةٍ العُشرُ”، ونفتتح به درسنا القادم -إن شاء الله تعالى-.
الأسئلة
الآن نجيب عمَّا تيسر من الأسئلة.
السؤال: ما الحُكم إذا انتشرت النجاسة في البيت؟ وكيف التعامل معها؟
الجواب: الأصلُ في الأشياء الطهارةُ، فالأصلُ في البيت الطهارةُ، فلا يقال أن هذه البقعة أو هذا المكان نَجِس إلا إذا تَيَقَّنْتَ أنه نَجِس، أما إذا لم تعلم فابنِ على الأصل وهو الطهارة؛ ولذلك أنا أخشى أن يكون الأخُ السائلُ عنده وساوس، لأن هذا السؤال يُشْعِر بأن الأخَ السائلَ عنده وساوس.
نقول: الأخ الكريم، الأصلُ في بيتك الطهارةُ، إلا إذا تَيَقَّنْتَ بأن هذا الموضع نَجِس، فإذا تَيَقَّنْتَ بأن هذا الموضع نَجِس فلا تُصَلِّ فيه، وإلا فابنِ على الأصل وهو الطهارة.
السؤال: كيف نُطيل الغُرَّة في الوضوء؟
الجواب: ما معنى الغُرَّة؟ إن أمتي يأتون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلِين من آثار الوضوء[19]؛ الغُرَّة: هي بياضٌ في الوجه، والتحجيل: بياضٌ في أطراف اليدين والقدمين.
التحجيلُ بالإمكان إطالتُه؛ يعني كان أبو هريرة إذا توضأ وغسل يديه أَشْرَعَ في العَضُد، وإذا غسل قدميه أَشْرَعَ في الساق؛ قال: “هكذا رأيتُ النبي يفعل”[20].
أما بالنسبة للغُرَّة؛ فإذا غسل الوجه لا يمكن إطالة الغُرَّة، لأنه إذا أراد أن يطيل الغُرَّة فلا بُدَّ أن يغسل جزءًا من الرأس، وهذا غير ممكن؛ ولهذا قال ابن القيم:
وإطَالَةُ الغُرَّاتِ ليس بمُمْكِنٍ | …………………………….. |
هذا غير ممكن.
إذَن؛ ماذا نقول عن الحديث: “فمَن أراد منكم أن يُطِيل غُرَّته فَلْيَفْعَلْ”[21]؟ هذا ليس من كلام النبي ، وإنما هو مُدرَج من كلام أبي هريرة ؛ ولهذا قال ابن القيم:
وأبو هُرَيْرةَ قال ذا مِن كِيسِه | …………………………… |
فهو من كِيسِ أبي هريرة وليس من كلام النبي .
فإذَن؛ الغُرَّة لا يمكن إطالتها.
السؤال: ما حُكم الصلوات للمُبتعَث خارج بلاده عند الدراسة، لا يدري متى يزور أهله؟
الجواب: بالنسبة للقصر؛ المُبتعَثون لا يترخصون برخص السفر، لأن إقامتهم طويلة، ولو قيل بأن المُبتعَثين يترخصون خلال السفر فهذا يرجع على جميع الناس غير المواطنين. يعني مثلًا: عندنا في المملكة (11) مليونًا؛ هل يقال إن هؤلاء يفطرون في نهار رمضان ويَقْصُرون ويَجْمعون؟! في بعض الدول يصل المقيمون غير المواطنين إلى نسبة عالية، يعني أكثر من النصف، فلا تَرِد الشريعة بأن يكون أكثر الناس يفطرون في نهار رمضان ويَقْصُرون ويَجْمعون.
ولذلك؛ فالمُبتعَثون -في قول أكثر أهل العلم- يجب عليهم الإتمام، وليس لهم الترخص برخص السفر؛ لا الفطر في نهار رمضان ولا القصر.
وأما قول الأخ السائل الكريم بأنهم لا يعرفون التوقيت للصلاة؛ فالساعات موجودة والتقاويم موجودة، فإذا كتبتَ اسمَ المدينة التي أنت فيها وتوقيتَ الصلاة فسيخرج لك الوقت، إلا في البلدان الواقعة في شمال أوروبا في فترة الصيف؛ في شهر -تقريبًا- مايو إلى آخر أغسطس يَقصُر الليلُ كثيرًا، وربما امتدَّ الشَّفَق إلى طلوع الفجر، هذه دَرَسَها مَجمع الفقه برابطة العالم الإسلامي، وكنتُ معهم، وكنتُ ممَّن كتب بحثًا في هذا؛ وذهبنا إلى إحدى هذه البلدان، ورأينا الشَّفَق على الطبيعة، وأنه استمر إلى طلوع الفجر، ثم وضعنا تقويمًا موجودًا على موقع رابطة العالم الإسلامي، وضعنا تقويمًا لهذه المدن الواقعة في شمال أوروبا.
فننصح الإخوة المسلمين في تلك البلدان أن يعتمدوا هذا التقويم؛ لأنه بُذِلت فيه جهود كبيرة من قِبَل فقهاء العالم الإسلامي، واعتُمِد هذا التقويم من المَجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي، التقويم موجودٌ على موقع الرابطة، فيمكن أخذ هذا التقويم والاعتماد عليه في مواقيت الصلاة.
السؤال: ما حُكم نقل جثة الشخص من بلد إلى بلد لأنه أوصى بذلك؟
الجواب: لا يجب تنفيذ وصيته؛ لأن هذا النقل لا يُعتبر من المعروف ومن الأمر الذي يجب معه تنفيذ الوصية؛ البلدان واحدة بالنسبة للميت، فليس معنى كونه أنه يُنقل إلى بلد آخر أنه سيكون له مزيدُ ثوابٍ أو سيخفف عنه العذاب، كلها بالنسبة للأموات واحدة؛ فلا معنى أصلًا لهذا النقل.
ولذلك؛ لا يلزم تنفيذ هذه الوصية وإنما يباح؛ إن أراد أهله أن ينقلوا هذا الشخص ويدفنوه في المكان الذي أوصى به فلا بأس، وإن لم ينفذوا هذه الوصية ودفنوه في البلد الذي مات فيه فلا بأس.
السؤال: سمعنا أن صلاة السُّنة في البيت تَفضُل على صلاتها في المسجد بخمس وعشرين درجةً؛ هل هذا صحيح؟
الجواب: هذا غير صحيح؛ إنما الذي ورد التفضيل فيه بخمس وعشرين درجة في صلاة الجماعة، الرواية المشهورة بسبع وعشرين درجة، لكن جاء في إحدى الروايات بخمس وعشرين درجة[22]. وأما صلاة النافلة في البيت فهي أفضل، لكن من غير تحديدٍ بالدرجات؛ لقول النبي : أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة[23].
السؤال: إذا أدركتُ مع الإمام الركعتين الأخيرتين وفاتتني الركعتان الأوليان؛ هل يكفي أن أقرأ فيهما الفاتحة، أو أقرأ معهما من قِصَار السور؟
الجواب: هذه المسألة ترجع لمسألة خلافية بين الفقهاء؛ وهي: هل ما يدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته أو آخر صلاته؟
قولان لأهل العلم:
- القول الأول: أن ما يدركه المسبوق مع الإمام هو آخر صلاته، وهذا هو المذهب عند الحنابلة. وعلى ذلك؛ فإنه يكتفي بقراءة الفاتحة فيما يدركه مع الإمام، ويقرأ الفاتحةَ وسورةً فيما يقضي؛ لأن ما يقضيه سيكون أول صلاته.
- القول الثاني: أن ما يدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته، وما يقضيه هو آخر صلاته؛ وهذا هو القول الراجح، واختاره جمع من المحققين من أهل العلم. وعلى ذلك؛ إذا أراد المأموم أن يقضي فإن القضاء سيكون للركعة الثالثة والرابعة، فيكتفي بقراءة سورة الفاتحة.
السؤال: أصرف زكاة مالي في سداد مستحقات مالية على المستحقين للزكاة، مثل فواتير الكهرباء، وفواتير العلاج، وأجور مساكن؛ فما حُكم ذلك؟
الجواب: إذا كان في هذا مصلحة راجحة فلا بأس، أما إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة فالأصل أنك تعطي الفقير الزكاة نقدًا؛ هذا هو الأصل.
لكن لو كان هذا الفقير مثلًا عنده سوء تدبير للمال، فأردتَّ أن تدفع عنه فاتورة الكهرباء أو إيجار المنزل؛ فلا بأس، لكن إذا لم يكن عنده سوء تدبير للمال فالأصل أن الفقير يُمَلَّك ويُعطَى الزكاة، وهو الذي يتصرف في مبلغ الزكاة.
السؤال: ما حُكم كتابة آيات قرآنية بماء الزعفران على ورق، ثم وضعها في الماء، ثم شربها؟
الجواب: لا بأس بذلك، هذا مأثور عن بعض السلف، وأيضًا شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى ذكر أن هذه من صور الرقية؛ تُكتَب آيات قرآنية -كآية الكرسي مثلًا- بالزعفران، ثم بعد ذلك توضع في ماء، ثم يُتمسَّح بها أو يُشرَب منها؛ هذه من صور الرقية، ولا بأس بها لأن هذا من آثار بركة القرآن، فالقرآن مبارك.
والرقية لها عدة صور؛ من أفضلها الرقيةُ المباشرةُ بالنَّفْث، لكن أيضًا من صور الرقية كتابةُ الآيات القرآنية بالزعفران، ثم وَضْع هذا المكتوب في ماء، ثم شرب هذا الماء أو التمسح به؛ هذا من صور الرقية.
السؤال: أحيانًا إذا صليتُ في بعض مساجد الطرق، قد يصلي بنا شخص يُسرع في صلاته لدرجة أنني لا أتمكن من قول الذكر إلا مرةً واحدةً وبسرعة؛ هل تصح صلاتي خلفه؟
الجواب: إذا كان هذا الإمام لا يطمئن في صلاته فلا تصح الصلاة خلفه، إذا كنتَ لا تُحقِّق ركن الطمأنينة في الصلاة فلا تصح الصلاة خلفه؛ النبي قال للرجل المسيء صلاتَه: ارجِعْ فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ ردَّده ثلاثَ مرات، حتى قال هذا الرجل: والذي بعثك بالحق لا أُحسِن غير هذا؛ فعَلِّمْني. فعلَّمه النبيُّ الطمأنينةَ في الصلاة؛ قال: اركَعْ حتى تطمئنَّ راكعًا، واسجد حتى تطمئنَّ ساجدًا، واجلس حتى تطمئنَّ جالسًا[24].
فلا بُدَّ من الطمأنينة في الصلاة، فهذه الصلاة التي وصفها الأخُ السائلُ لا يستطيع أن يقول الذكر إلا مرةً واحدةً وبسرعة، معنى ذلك أنها لا تتحقق الطمأنينة فيها؛ فإذا كانت لا تتحقق الطمأنينة فقد أخلَّ بركنٍ من أركان الصلاة، فلا يُصَلَّى خلف هذا الرجل، بل ينبغي مناصحته؛ لأن الصلاة بهذه الطريقة أو بهذه الصفة لا تصح، ولو صلى ألفَ صلاة: ارجِعْ فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ.
السؤال: أُلاحظ اختلافَ أذكار الصباح والمساء من تطبيقٍ لآخر؛ فنودُّ معرفة أصحِّ ما في الأذكار؟
الجواب: أصحُّ ما في أذكار الصباح والمساء هو ما ذكره الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله في كتابه “تحفة الأخيار”، وهو كتاب صغيرٌ في حجمه عظيمٌ في فائدته؛ فقد شَرَط الشيخ على نفسه في مقدمة الكتاب ألَّا يذكر إلا ما ثبت بسندٍ صحيحٍ أو بسندٍ حسنٍ.
السؤال: النصاب في الزكاة؛ هل يُحسَب بالميلادي أم بالهجري؟
الجواب: النصاب في الزكاة يُحسَب بالهجري وليس بالميلادي؛ وعلى ذلك فإذا كانت مثلًا هذه الشركة تَحسِب بالميلادي فلا بُدَّ من مراعاة الفارق بينه وبين الهجري، فالسنة الميلادية تزيد عن السنة الهجرية بأحد عشر يومًا تقريبًا؛ فلا بُدَّ من مراعاة هذا الفارق.
وبعض المعاصرين وضع قاعدة؛ قال إن الزكاة رُبُعُ العُشر؛ يعني: بالهجري (2.5%) وبالميلادي (2.577%)، هذه تصلح للشركات؛ لأن الشركات الآن ميزانياتها بالسنة الميلادية.
المهم أنه لا بُدَّ من مراعاة الفرق بين السنة الميلادية والسنة الهجرية، وأن الزكاة إنما تكون بالسنة الهجرية وليست بالسنة الميلادية.
السؤال: هل حديث “الثلاثة الذين تُسعَّر بهم النار” محصورٌ في الثلاثة، ويشمل العلوم الدنيوية؟
الجواب: هو خاص بما ذُكر في الحديث[25]، والذي ذُكر في الحديث إنما هو علوم الشريعة فقط.
السؤال: حديث “مَن صلى أربعًا بعد العشاء كُنَّ في قَدْرِهِنَّ من ليلة القدر”.
الجواب: هذا الحديث[26] حديثٌ ضعيفٌ، لا يصح عن النبي ، فهو منكر سندًا ومتنًا، كيف تكون أربعٌ بعد العشاء كقَدْرِهِنَّ من ليلة القدر؟! فالحديث ضعيفٌ من جهة الإسناد، وأيضًا فيه نَكَارة في متنه.
والمحفوظ عن النبي عليه الصلاة والسلام هو ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه صلى أربع ركعات بعد العشاء على أنها جزءٌ من صلاة الليل؛ يعني: صلى ركعتين ثم ركعتين بعد صلاة العشاء على أنها جزءٌ من صلاة الليل، ثم في آخر الليل قام وصلَّى[27]؛ فهذا هو المحفوظ كما في صحيح البخاري.
وأما هذا الحديث: “مَن صلى أربعًا بعد العشاء كُنَّ في قَدْرِهِنَّ من ليلة القدر” فهذا حديثٌ ضعيفٌ، وليست هذه سنةً مستقلةً (أنَّ الإنسان يصلي أربع ركعات بعد العشاء)، إلا إذا أراد أن يصلي جزءًا من صلاته من الليل كي تَخِفَّ عنه صلاة الليل، فصلى بعد صلاة العشاء ركعتين أو أربعًا أو ستًّا؛ لا بأس بذلك. لكن على أنها سنةٌ مستقلةٌ فإن هذا يحتاج إلى دليلٍ صحيحٍ، فالحديث هذا حديثٌ ضعيفٌ لا يصح عن النبي .
السؤال: هل قراءة سورة “الإخلاص” كلَّ ليلةٍ من السنن المهجورة؛ لقول النبي : أَيَعْجَزُ أحدُكم أن يقرأ في كل ليلةٍ ثُلُثَ القرآن؛ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعدِل ثُلُثَ القرآن؟
الجواب: تخصيص قراءتها في كلِّ ليلةٍ ليس سنة من السنن، إنما تُقرأ في أي وقت؛ هي تَعدِل ثُلُثَ القرآن[28] لكن لا تُخصَّص بالليل، تُقرأ في أي وقت. لكن دلَّت السنة على أنها تُقرأ أدبار الصلوات، وتُكرَّر بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب ثلاثَ مرات، وقبل النوم ثلاثَ مرات.
لكن ينبغي للمسلم أن يحرص على أن يُكثِر من قراءتها؛ لأنها تَعدِل في الأجر والثواب ثُلُثَ القرآن؛ يعني: لو كنتَ مثلًا في السيارة، وقرأتَ سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثلاثَ مرات كأنما ختمتَ القرآن، قرأتَها ستَّ مرات كأنما ختمتَ القرآن مرتين، قرأتَها تسعَ مرات كأنما ختمتَ القرآن ثلاثَ مرات؛ هذا فضل الله، وفضل الله يؤتيه مَن يشاء.
السؤال: ورد في الحديث مَن قام بألف آية كُتِب من المُقَنْطَرين؛ علَّق ابن حجر على هذا الحديث فقال: “وجدتُّ جُزْأَيْ تَبَارَكَ وعَمَّ يَعدِلان ألفَ آيةٍ”؛ هل يكفي أن أقرأ الجزء التاسع والعشرين والثلاثين لأنال هذا الأجر؟
الجواب: هذا الحديث حديثٌ صحيحٌ؛ يقول فيه النبي : مَن قام بعشر آيات لم يُكتَب من الغافلين، ومَن قام بمئة آية كُتِب من القانتين، ومَن قام بألف آية كُتِب من المُقَنْطَرين[29] هذا الحديث حديثٌ صحيحٌ، رواه أحمد وأبو داود بسندٍ صحيحٍ.
ومَن يقوم ويصلي من الليل ما شاء الله؛ على الأقل لن يُكتَب من الغافلين، وإذا قام وصلى إحدى عشرة ركعة، وقرأ الفاتحة وقِصَار السور، فَيَصِلُ إلى مرتبة أنه يُكتَب من القانتين؛ لماذا؟ لأن “الفاتحة” سبع آيات، إذا صلى إحدى عشرة ركعة يكون قد قرأ سبعًا وسبعين آية، فَمَعَ قِصَار السور تَصِلُ إلى مئة آية؛ فيُكتَب من القانتين. لكن إذا أراد المرتبة الأعلى أن يقرأ ألف آية فيُكتَب من المُقَنْطَرين.
وكما ذكر الأخُ السائلُ عن ابن حجر: أن جُزْأَيْ تَبَارَكَ وعَمَّ يَعدِلان ألفَ آية؛ فعلى ذلك إذا قرأ هذين الجُزْأَيْن كُتِب من المُقَنْطَرين.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1454. |
^3 | رواه أبو داود: 1575، وأحمد: 20016. |
^4 | رواه البخاري: 1460. |
^5 | رواه مالك: 340، وأحمد: 22037، وأبو داود: 1576، والترمذي: 623. |
^6 | رواه أحمد: 15426، وأبو داود: 1581، والنسائي: 2462. |
^7 | رواه البخاري: 1455. |
^8 | رواه البخاري: 1496، ومسلم: 19. |
^9, ^10, ^13, ^15 | سبق تخريجه. |
^11 | رواه الدارقطني في “سننه”: 1943. |
^12 | رواه البخاري: 1450. |
^14 | رواه أبو داود: 1568. |
^16 | رواه البخاري: 1451. |
^17 | رواه البخاري: 1483. |
^18 | رواه الترمذي: 638. |
^19, ^21 | رواه البخاري: 136، ومسلم: 246. |
^20 | رواه مسلم: 246. |
^22 | رواه البخاري: 645، ومسلم: 650. |
^23 | رواه البخاري: 731. |
^24 | رواه البخاري: 757، ومسلم: 397. |
^25 | رواه الترمذي: 2382. |
^26 | رواه النسائي: 4954. |
^27 | رواه البخاري: 117. |
^28 | رواه البخاري: 5015، ومسلم: 811. |
^29 | رواه أبو داود: 1398. |