logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(28) فصل غسل الميت- من قوله: “وغسل الميت فرض كفاية”

(28) فصل غسل الميت- من قوله: “وغسل الميت فرض كفاية”

مشاهدة من الموقع

ننتقل بعد ذلك إلى السلسبيل في شرح الدليل، وكنا قد وصلنا إلى تغسيل الميت.

تغسيل الميت

قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ: في غسل الميت.

وغسل الميت فرض كفاية.

حُكم تغسيل الميت

وفرض الكفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإن تركوه جميعًا أثموا، وهذا بالإجماع؛ ولقول النبي في قصة الذي وَقَصَتْه راحلتُه: اغسلوه بماءٍ وسِدْر[1]. وتغسيل الميت عمل صالح؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام في فضله: مَن غسَّلَ ميتًا فكَتَم عليه غُفِرَ له أربعين مرة، وهذا أجر عظيم، قال: ومَن كفَّن ميتًا كسَاه الله من السندس وإستبرق الجنة، ومَن حفر لميت قبرًا فأَجَنَّه فيه أُجْرِيَ له من الأجر كأجر مسكنٍ أسكنه إلى يوم القيامة[2]؛ فتغسيل الميت وتكفينه ودفنه من الأعمال الصالحة العظيمة.

الماء الذي يُغسَّل به الميت

وشُرِط في الماء الطهورية والإباحة.

أي: إنه يُشترط في الماء الذي يُغسَّل به الميت أن يكون طاهرًا مباحًا، وهذا ظاهر.

الغاسل للميت

وفي الغاسل الإسلامُ والعقلُ والتمييزُ.

لأن التغسيل عبادة، فلا بد أن يكون المُغسِّل مسلمًا وعاقلًا وأن يكون مُميِّزًا؛ لأن الصبي غير المُميِّز لا يعقل، فلا يصح منه التغسيل.

والأفضل ثقةٌ عارفٌ بأحكام الغَسل.

يعني: هذا هو المستحب؛ أن يكون عارفًا بأحكام الغَسل، وأن يكون ثقةً أيضًا (يستر على الميت إذا رأى منه شيئًا ونحو ذلك)؛ ولهذا فالأفضل أن يتولى تغسيل الميت الصالحون العارفون بأحكام الغَسل، وقد رُوي في حديثٍ: لِيُغَسِّلْ موتاكم المأمونون[3]، لكنه حديثٌ ضعيفٌ.

قال:

والأَوْلى…

يعني: الأَوْلى بتغسيل الميت.

والأَوْلى به وَصِيُّه العدل.

إن كان الميت قد أوصى بأن يغسله أحد فيجب تنفيذ وصيته -إن أمكن-، ثم بعد الوصيّ مَن نصَّبَ نفسه لتغسيل الأموات وكان ثقةً عارفًا، إلا عند المُشاحَّة، عند المُشاحَّة يكون أَوْلى الناس بتغسيل الميت وَصِيُّه ثم أبوه ثم جَدُّه ثم الأقرب فالأقرب من عصباته، والغالب على عمل الناس اليوم هو أنهم يُوكِلون تغسيل الميت إلى مَن نصَّبَ نفسه لتغسيل الميت، لكن ينبغي -خاصةً لأبناء الميت إذا كان الميت رجلًا ولبناته إذا كان الميت امرأةً- أن يشاركوا هذا المُغسِّل في تغسيل ميتهم.

صفة تغسيل الميت

وإذا شَرع في غَسله سَتَرَ عورته وجوبًا.

انتقل المؤلف للكلام عن صفة تغسيل الميت؛ أول ما يفعله المُغسِّل سترُ العورة، فلا يجوز له النظر إلى عورة الميت بإطلاق، فعورة الميت لها حرمة كعورة الحي.

قال:

ثم يلف على يده خرقةً فيُنجِّيه بها.

هذا من كلام المؤلف، في وقتنا الحاضر يُغني عن الخرقة القفازات، يلبس المُغسِّل قفازين ويُنجِّيه عن طريق هذين القفازين؛ يُنجِّيه بالماء من غير أن ينظر إلى عورته، ومن غير أن يمس عورته مباشرةً، وإنما بحائل (وهو هذان القفازان).

ويجب غَسل ما به من نجاسة.

وهذا على سبيل الوجوب؛ لأنه للحي فكذا الميت.

ويحرمُ مسُّ عورةِ مَن بلغ سبع سنين.

يعني: فأكثر، مباشرةً من غير حائل، وإنما إذا أراد أن يُغسِّل عورته يكون ذلك من وراء حائل كالقفازين مثلًا.

والسنة ألَّا يمس سائر بدنه إلا بخرقة.

كذلك أيضًا حتى سائر البدن ينبغي أن يكون بقفازين، هذا هو الأفضل، وهو أيضًا حتى من الناحية الصحية الأحسن بالنسبة للمُغسِّل.

قال:

وللرجل أن يُغسِّل زوجته.

يجوز للرجل أن يُغسِّل زوجته -على القول الراجح-؛ ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله من جنازةٍ بالبقيع وأنا أجدُ صُداعًا في رأسي، فقلتُ: وا رأساه! فقال عليه الصلاة والسلام: بل أنا وا رأساه!، كان عليه الصلاة والسلام عنده أيضًا صداع، قال: ما ضرَّكِ لو مُتِّ قبلي، فقمتُ عليكِ؛ فغسَّلتُكِ وكفَّنتُكِ وصليتُ عليكِ ودفنتُكِ[4]؛ فقوله: فغسَّلتُكِ دليلٌ على أن للرجل أن يُغسِّل زوجته.

وفاطمة بنت النبي أوصت بأن يُغسِّلها زوجُها عليٌّ، فغسَّلها، واشتهر ذلك عند الصحابة؛ فكان كالإجماع.

قال:

وَأَمَتُهُ.

يعني: الأَمَة كالزوجة في هذا؛ لها أن تُغسِّل سيدها.

وبنتًا دون سبعٍ.

يعني: يجوز للرجل أن يُغسِّل بنته إذا كانت دون سبع سنين؛ لأن مَن كان دون سبع سنين لا عورة له، وقد حُكي هذا إجماعًا، وإن كان قد رُوي عن الزُّهري أنه كَرِهه لكن عامة أهل العلم يرون جوازه من غير كراهة، لكن إن وُجد امرأة تُغسِّل هذه البنت التي دون سبع سنين فهو أَوْلى.

وللمرأة غَسل زوجها وسيدها وابنٍ دون سبع.

يجوز للمرأة أن تُغسِّل زوجها بالإجماع، بينما تلاحظون في المسألة السابقة تغسيل الزوجِ زوجتَه قلنا: “على القول الراجح”؛ يعني: تغسيل الزوج لزوجته محل خلاف، بينما تغسيل الزوجة لزوجها بالإجماع، نقلَ الإجماعَ غيرُ واحدٍ من أهل العلم؛ ولهذا تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما غسَّلَ رسولَ الله إلا نساؤه”[5]. وأبو بكر  أوصى بأن تُغسِّله زوجتُه أسماء بنت عميس فغَسَّلَته، وكان هذا في مَحضَرٍ من الصحابة فكان كالإجماع.

أيضًا للمرأة إذا كانت أَمَة أن تُغسِّل سيدها، وأن تُغسِّل أيضًا غلامًا دون سبع سنين، وبنتًا دون سبع سنين -من باب أَوْلى-.

قال:

وحُكم غَسل الميت فيما يجب ويُسَنُّ كغُسل الجنابة، لكن لا يُدخِل الماء في فمه وأنفه، بل يأخذ خرقةً مبلولةً فيمسح بها أسنانه ومِنْخَرَيْه.

أي: إنه عندما يُغسَّل الميت يُغسَّل على صفة غُسل الجنابة؛ ولتغسيل الميت صفتان (صفة كاملة – صفة مُجْزِئَة)؛ الصفة المُجْزِئَة: هي أن يعم جميع بدنه بالماء، كالجُنُب إذا عَمَّ جميع بدنه بالماء ارتفعت الجنابة. أما الصفة الكاملة لتغسيل الميت؛ فهي أولًا أن يستر عورة الميت -كما ذكرنا-، ويلف على يده قفازًا، ويُجرِّد الميت من ثيابه، ويُغسِّله في مكانٍ لا يراه الناس، ولا يكون مع المُغسِّل إلا مُعاوِنُه (مَن يحتاج إليه في صب الماء ونحو ذلك).

ثم يرفع رأسه إلى قريبٍ من جلوسه، ويعصر بطنه برفق.

لأجل أن يخرج ما في البطن؛ لأن الإنسان بعد الموت يحصل لأعصابه ارتخاء، فلا بد من عصر البطن ليخرج ما في بطنه، ثم بعد ذلك إذا خرج من بطنه شيء يُنجِّيه، ويغسل محل الخارج بالماء من غير أن يمس عورة الميت، لكن إذا احتاج لتَنْجِيَته يكون ذلك من وراء القفاز. ثم يوضئه وضوءه للصلاة، مع ملاحظة ألَّا يُدخِل الماء إلى فمه وأنفه، وإنما يمسح أسنانه ومِنْخَرَيْه مسحًا؛ لأن الماء لو دخل إلى الفم أو الأنف فسيُحرِّك ما في البطن، ويؤدي ذلك إلى أن يَخرج ما في البطن؛ ولذلك يُكتفى -بالنسبة للمضمضة والاستنشاق- بأن تؤخذ خرقة مبلولة وتُمسح بها أسنانه ومِنْخَرَيْه.

ثم يغسل رأسه ولحيته.

الفقهاء السابقون يقولون: “بسِدْر”، لكن في وقتنا الحاضر بالمنظفات الحديثة كالشامبو مثلًا.

ثم يغسل شِقه الأيمن، ثم شِقه الأيسر، ثم بقية بدنه.

ويُكره الاقتصار في غَسله على مرةٍ وإن لم يخرج منه شيء، فإن خرج وجب إعادة الغسل إلى سبع، فإن خرج بعدها حُشِيَ بقُطن.

يعني: كما ذكرنا القدر المُجزئ هو مرة واحدة، لكن يُكره الاقتصار على غسله مرةً واحدةً إلا لعذر كقلة الماء مثلًا، والأفضل ألَّا تقل الغسلات عن ثلاث؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أم عطية رضي الله عنها: اغسِلْنَها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك، إن رأيتُنَّ ذلك[6]، وإذا لم يحصل التنظيف فيزيد على الثلاث إلى خمس، فيُسَنُّ ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا، أما أكثر من سبع فيقول المؤلف: “فإن خرج بعدها [يعني: بعد السبع] حُشِيَ بقُطن”؛ يعني: ولا يجب غسله بعد سبع حتى لو لم يحصل الإنقاء؛ وذلك للمشقة.

“حُشِيَ بقُطن” يعني: حُشِيَ المحل الذي يخرج منه القذر بقُطنٍ؛ لأن تغسيله أكثر من سبع مرات قد لا يفيد، ما دام أنه غُسِّل سبع مرات وبعد السابعة يخرج منه شيء؛ معنى ذلك سيستمر معه هذا الخارج، فأكثر ما ورد هو تغسيله سبع مرات.

فإن لم يستمسك فبطينٍ حُرٍّ، ثم يُغسل المحل ويُوَضَّأ وجوبًا.

يعني: إن لم يتوقف القذر بعد حشو المحل بالقُطن فإنه يُحشى بطينٍ حُرٍّ (الطينُ الحُرُّ هو الطين الخالص)، قالوا: لأن فيه قوةً تمنع الخارج. ثم يُغسل محل خروج القذر، ويُوَضَّأ الميت، ويُستحب أن يُجعل في الغسلة -أو بعد الغسلة الأخيرة- كافور؛ وذلك لأنه يُصلِّب البدن، وله خواص من طرد الهوام وتبريد وتطييب الميت؛ لهذا قال عليه الصلاة والسلام: واجعلْنَ في الأخيرة كافورًا، والظاهر -والله أعلم- أن الكافور لا يُجزئ عنه غيره؛ لأن فيه خواصًا لا توجد في غيره. بالنسبة للسِّدْر -كما ذكرنا- يُغني عنه غيره؛ لأن الغاية من السِّدْر هو التنظيف، فيُمكن استخدام الشامبو والصوابين الحديثة ونحو ذلك. لكن بالنسبة للكافور؛ الكافور فيه خواص لا توجد في غيره، فالكافور لا يُغني عنه غيره؛ ولذلك ينبغي أن يكون في أماكن تغسيل الموتى كافور، والحمد لله الآن متيسر.

إذا كان الميت مُحرِمًا فإنه يُغسَّل لكن يُجنَّب ما يُجنَّب المُحرِم من الطيب، فلا يُمَسّ طيبًا ولا يُغطى رأسه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ولا تُحنِّطوه، ولا تُخمِّروا رأسه[7].

وإن خرج بعد تكفينه لم يُعِد الوضوء ولا الغسل.

يعني: خرج شيءٌ من الميت بعد التكفين؛ لم يلزم إعادة الوضوء ولا الغسل للمشقة.

الشهيد لا يُغسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّى عليه

وشهيد المعركة.

أي: لا يُغسَّل شهيد المعركة الذي قُتل في معركةٍ وجهادٍ في سبيل الله بين المسلمين والكفار، فهذا لا يُغسَّل -في قول عامة أهل العلم-؛ لأن النبي أمر بدفن شهداء أُحُد في دمائهم ولم يُغسِّلهم[8].

والمقتول ظلمًا لا يُغسَّل.

يعني: قياسًا على شهيد المعركة؛ لقول النبي : مَن قُتل دون ماله فهو شهيد[9]، وفي حديثٍ: مَن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومَن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومَن قُتل دون أهله فهو شهيد[10]. وقال بعض الفقهاء: إن المقتول ظلمًا يُغسَّل ويُكفَّن ويُصلَّى عليه؛ لأن له حُكم شهيد المعركة في الآخرة في زيادة الثواب، وليس له حُكمه في الدنيا، فهو يُعتبر من شهداء الآخرة وليس من شهداء الدنيا، وإنما الذي لا يُغسَّل مَن كان شهيد الدنيا والآخرة (وهو الذي قُتل في معركة في خط المواجهة)، وهذا هو الذي عليه جمهور الفقهاء -وهو القول الراجح-؛ لأن هذا هو المأثور عن الصحابة ؛ عمر بن الخطاب قُتل ظلمًا ومع ذلك غَسَّله الصحابة، عثمان بن عفان قُتل ظلمًا ومع ذلك غَسَّله الصحابة، علي بن أبي طالب قُتل ظلمًا ومع ذلك غَسَّله الصحابة، الزبير بن العوام قُتل ظلمًا ومع ذلك غَسَّله الصحابة؛ فعَمَلُ الصحابة يدل على أن مَن قُتل ظلمًا فإنه يُغسَّل.

فالقول الراجح إذَن: أن مَن قُتل ظلمًا فإنه يُغسَّل، وهكذا أيضًا مَن وردت تسميتهم بالشهداء كالمطعون والمبطون والغريق وصاحب الهَدم، فهؤلاء يُغسَّلون؛ قال المُوفَّق ابن قدامة: “لا نعلم فيه خلافًا”.

ولا يُكفَّن.

يعني: لا يُكفَّن شهيد المعركة، ولا أيضًا -على رأي المؤلف- المقتول ظلمًا، وسبق أن القول الراجح أن هذا خاصٌّ بشهيد المعركة فقط.

ولا يُصلَّى عليه.

شهيد المعركة لا يُصلَّى عليه؛ لأن النبي لم يصلِّ على شهداء أُحُد[11]، وأمر بأن يُنزع عنهم الحديد والجلود ويُدفنوا بدمائهم وثيابهم[12]. وأما صلاة النبي عليه الصلاة والسلام قُبيل وفاته على شهداء أُحُد، فهذه كانت بمثابة التوديع لهم؛ ولذلك لم يصلِّ عليهم إلا بعد ثماني سنين كالمُودِّع للأحياء والأموات[13]؛ لأن الصلاة هي دعاءٌ له بالشفاعة، وهذا الشهيد -كما يقال- قد جاوز القنطرة؛ يعني: حصلت له الشهادة في سبيل الله، وحُطَّت عنه الخطايا، وينال من إكرام الله ​​​​​​​ ورحمته شيئًا عظيمًا، فلا حاجة لأن يُصلَّى عليه. وعلى كل حال؛ المُعوَّل عليه هو النص؛ وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصلِّ على مَن قُتل شهيدًا في المعركة.

ويجب بقاء دمه عليه، ودفنه في ثيابه.

يعني: شهداء المعركة يُدفنون في ثيابهم ودمائهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بقتلى أُحُد أن يُدفنوا بدمائهم وثيابهم[14].

قال:

وإن حُمِلَ.

يعني: هذا الذي هو جريحٌ في معركة بين المسلمين والكفار جُرِحَ لكنه لم يمت، فحُمِلَ فأكل أو شرب أو نام أو بال أو تكلم أو عطس أو طال بقاؤه عُرفًا، فهذا يُغسَّل؛ يعني: مثلًا جُرح في خط المواجهة الأمامي في المعركة، لكنه لم يمت، وذُهب به إلى المستشفى، ثم في المستشفى بعد أيام مات، أو أنه أيضًا في الطريق أو في المستشفى أكل أو شرب أو نام أو بال أو تكلم أو عطس؛ فهذا أيضًا يُغسَّل، وإنما الذي لا يُغسَّل هو مَن قُتل في المعركة في الحال.

أو قُتل وعليه ما يُوجِب الغُسل من نحو جنابةٍ فهو كغيره.

يعني: لو كان شهيد معركة وقُتل في المعركة، لكن عليه جنابة أو عليه ما يُوجِب الغُسل عمومًا؛ يقول المؤلف: إنه يُغسَّل؛ لقصة حنظلة ، فإن حنظلة خرج إلى الجهاد وهو جُنُب؛ لمَّا سمع “حيَّ على الجهاد” كان يجامع زوجته، فقام من على زوجته، وقال: “لبيك يا رسول الله”، ولم يغتسل، فقُتل، فغسَّلته الملائكة[15]. أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الملائكة غسَّلته، ولكن الاستدلال بهذا محل نظر؛ لأن النبي أخبر عن هذا الصحابي من باب الإخبار بإكرام الله له، لكونه قد بادر حينما سمع صوت المنادي للجهاد وامتثل، ولم يتأخر حتى لمجرد الاغتسال، فغسَّلته الملائكة إكرامًا له، وهذا لا يدل على أنه يجب تغسيله.

وعلى هذا؛ فيبقى هذا الذي عليه غُسلٌ واجبٌ كغيره من الشهداء، فالراجح أن الشهيد الذي يُقتل في معركة في خط المواجهة بين المسلمين والكفار؛ أنه لا يُغسَّل حتى وإن كان عليه جنابة، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية والشافعية.

تغسيل السِّقط وتكفينه

وسِقْطٌ لأربعة أشهر كالمولود حيًّا.

إذا وُلد السِّقْط وعمره أربعة أشهر فأكثر فحُكمه حُكم المولود حيًّا؛ أي: إنه يُغسَّل ويُكفَّن ويُصلَّى عليه. أما إذا وُلد لأقل من أربعة أشهر فهذا ليس بإنسان؛ الإنسان مُكوَّن من جسد وروح، والروح إنما تُنفَخ بعد أربعة أشهر؛ كما في حديث ابن مسعود  في الصحيحين أن النبي قال: إن أحدكم يُجمَع خَلْقه في بطن أمه أربعين يومًا نُطفة، ثم عَلَقةً مثل ذلك يعني: أصبحت ثمانين، ثم مُضغَةً مثل ذلك أصبحت مئة وعشرين، ثم يأتيه الملك ويُؤمَر بنفخ الروح[16]؛ أي: إن نفخ الروح يكون بعد مئةٍ وعشرين يومًا، أي: بعد أربعة أشهر، فقبل أربعة أشهر ليس بإنسان، هو مجرد نُطفة أو عَلَقة أو مُضغَة وليس إنسانًا؛ ولذلك لا يُغسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّى عليه، وإنما يُلف في خرقة ويُدفن في مكان؛ لأنه ليس له حرمة كاملة، ليس بإنسان، ليس له حرمة الإنسان. أما إذا كان عمره أربعة أشهر فأكثر فهذا -كما ذكرنا- يُغسَّل ويُكفَّن ويُصلَّى عليه ويُدعى لوالديه بالرحمة، وأيضًا ينبغي أن يُسمى حتى يُنادى باسمه يوم القيامة.

وهل يُعَقّ عنه أم لا؟ محل خلاف، والقول الراجح أنه لا يُعَقّ عنه؛ لأن العقيقة إنما شُرِعَت من باب شكر نعمة الله على سلامة المولود؛ ولذلك تُشرع في اليوم السابع، لأنهم يقولون: إن المولود إذا مضى عليه سبعة أيام فالغالب عليه السلامة، فهذا قد مات، فهذا يُنافي هذا المعنى؛ ولذلك فالسِّقْط لا يُعَقّ عنه -على القول الراجح-.

تغسيل وتكفين ودفن المسلم للكافر

ولا يُغسِّل مسلمٌ كافرًا ولو ذميًّا، ولا يُكفِّنه، ولا يُصلِّي عليه، ولا يَتَّبع جنازته، بل يُوارى لعدم مَن يواريه.

الكافر لا يُغسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّى عليه؛ لقول الله : وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، والآية وإن كانت نزلت في حق المنافقين إلا إن الكفار في حُكمهم؛ لأن مقصود المنافقين في الآية المنافقون نفاقًا اعتقاديًّا، وهم كفار، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]. وإذا مات الكافر في بلاد المسلمين فيُوارَى فقط بأن يُدفَن إذا لم يوجد مَن يواريه من الكفار، كما فُعل بـ”أهل القَلِيب” يوم بدر؛ وجاء في مسند أحمد وغيره: أنه لما مات أبو طالب أتى عليٌّ ابنُه للنبي عليه الصلاة والسلام فقال له النبي : اذهب فَوَارِه[17] يعني: ادفنه؛ ولأن في تغسيله وتكفينه والصلاة عليه تعظيمًا له، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الممتحنة:13]، ولا يُدفن أيضًا في مقابر المسلمين، وإنما في مكانٍ آخر.

الميت الذي يتعذر تغسيله

طيب -قبل أن ننتقل للتكفين- بقي في تغسيل الميت مسألة لم يذكرها المصنف رحمه الله: مَن تعذَّر تغسيله لكونه مثلًا مات محترقًا أو لغير ذلك من الأسباب؛ فقيل: يُيَمَّم، وقيل: يسقط وجوب تغسيله؛ لأن غَسل الميت إنما هو للتنظيف لا لرفع الحدث؛ ولهذا أمر النبي بأن يُغسَّل الميت أكثر من ثلاث غسلات عند الحاجة، وهذا يدل على أن المقصودَ بالتغسيل التنظيفُ وليس رفع الحدث، فإن تيسر أن يُيَمَّم وإلا كُفِّنَ مباشرةً من غير تغسيل.

طيب، مَن يموت بكورونا؛ إن أمكن تغسيله بطريقةٍ بحيث يُؤْمَن معها انتقال العدوى فإنه يُفعل به ذلك، وإن تعذَّر تغسيله فيُنظر هل يُمكن أن يُيَمَّم، فإن أمكن أيضًا بطريقةٍ آمنة يُؤْمَن معها انتقال العدوى فإنه يُيَمَّم، وإن كان لا يُمكن هذا ولا ذاك -لا يُمكن التغسيل ولا أن يُيَمَّم لأجل مخافة انتقال العدوى- فإنه يسقط تغسيله ويُكفَّن مباشرةً.

تكفين الميت

ننتقل بعد ذلك إلى تكفين الميت؛ قال المصنف رحمه الله:

حُكم تكفين الميت

فصلٌ: وتكفينه فرضُ كفاية.

قبل أن نتكلم عن تكفين الميت؛ بعض الناس -خاصةً بعض أهل الخير والصلاح- يُعِدُّ لنفسه كفنًا، يعني: من باب الاستعداد للموت؛ هل هذا مشروع؟ الأقرب -والله أعلم- أن هذا غير مشروع، هذا رُوي عن بعض العُبَّاد ولكن لم يرد عن النبي ولم يرد عن أحدٍ من الصحابة أنه فعل ذلك، ولو كان هذا مشروعًا لفعلوه، والخير كل الخير في اتباعهم، فالأقرب -والله أعلم- أنه لا يُستحب للإنسان أن يُعِدَّ لنفسه كفنًا، يَسَعنا ما وَسِع النبي وصحابته ، النبي لم يُعِدَّ لنفسه الكفن، ولم يرد هذا عن أحدٍ من الصحابة، ويَسَعنا ما وَسِعهم.

وتكفينه فرضُ كفاية.

سبق أن قلنا: إن القيام بحقوق الميت من فروض الكفايات؛ تغسيله فرضُ كفاية، تكفينه فرضُ كفاية، الصلاة عليه فرضُ كفاية، دفنه فرضُ كفاية.

صفة تكفين الميت

والواجبُ سترُ جميعه سوى رأس المُحرِم ووجه المُحرِمة بثوبٍ لا يصف البشرة.

الواجب في تكفين الميت أن يستر جميع بدنه بثوب أو خرقة ونحوهما بما لا يصف لون البشرة، لكن يُستثنى من ذلك المُحرِمُ؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ولا تُخمِّروا رأسه[18] فلا يُغطى رأس المُحرِم، وكذلك إذا كُفِّنَت المرأة المُحرِمة لا يُغطى وجهها بناءً على القول بأن المُحرِمة لا تستر وجهها حال الإحرام، وسبق أن قلنا: إن القول الراجح أن الممنوع في حق المرأة المُحرِمة هو تغطيةُ وجهها بالنقاب ونحوه مما هو مُفصَّلٌ على الوجه، أما ما عدا ذلك فإنه يجوز للمرأة المُحرِمة كغير المُحرِمة؛ وبناءً على ذلك لا بأس بتغطية وجه المُحرِمة بثوبٍ عند التكفين، لكن الممنوع هو النقاب ونحوه.

قال:

ويجب أن يكون من ملبوس مثله ما لم يوصِ بدونه.

يعني: أن يكون الكفن في الجودة مما يلبسه مثل هذا الميت، فلا يكون من نفيس الثياب ولا من رديئه، إلا إذا أوصى بذلك.

والسنة تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيضٍ من قُطن.

القدر المُجزئ في التكفين ثوبٌ واحدٌ، والأفضل بالنسبة للرجل أن يُكفَّن في ثلاث لفائف بيض، وأن تكون من قُطن -إن تيسر-؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: “أن رسول الله كُفِّنَ في ثلاثة أثوابٍ يَمَانِيَّةٍ بيضٍ سُحُولِيَّةٍ من ‌كُرْسُف [يعني: من قُطن]، ليس فيهنَّ قميص ولا عمامة”[19]؛ سُحُولِيَّة: نسبةً إلى بلدةٍ في اليمن. ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: إن من خير ثيابكم البياض، فالبسوها وكَفِّنوا فيها موتاكم[20] وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن بسندٍ صحيحٍ، وهذا يدل على أن الأفضل هو لُبْس الأبيض من الثياب بالنسبة للرجال -ما أمكن-، وهكذا أيضًا بالنسبة لتكفين الميت، فيُكفَّن في ثلاث لفائف بيض.

تُبسط على بعضها ويوضع عليها مستلقيًا، ثم يُرَدُّ طرفُ العليا من الجانب الأيسر على شِقه الأيمن، ثم طرفها الأيمن على الأيسر، ثم الثانية ثم الثالثة كذلك.

هذه هي صفة التكفين؛ وهي: أن تُفرَش هذه اللفائف بعضها فوق بعض، ويوضع الميت عليها مستلقيًا، ثم يُرَدُّ طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شِقه الأيمن، ثم يُرَدُّ طرف اللفافة اليُمنى على شِقه الأيسر، ثم الثانية والثالثة كذلك. ويُجعَل فوق اللفائف كافور أو حَنُوط، وتُربط هذه اللفائف بخيوط حتى لا ينتشر الكفن، فإذا وُضِع الميت في قبره حُلَّت هذه العُقَد؛ لأن عَقْدها إنما كان للخوف من انتشار اللفائف، وقد أُمِنَ ذلك بدفنه؛ ولذلك فعند وضع الميت في القبر الأفضل أنها تُفَك هذه الخيوط.

أما بالنسبة للمرأة؛ قال:

والأنثى في خمسةِ أثوابٍ بيضٍ من قُطنٍ؛ إزارٍ وخمارٍ وقميصٍ ولفافتَين.

وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك؛ وذلك لأن المرأة تزيد في حال حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها، فكذلك بعد الممات، فتكون في إزارٍ وخمارٍ وقميصٍ ولفافتَين.

والصبي في ثوبٍ، ويُباح في ثلاثة.

يعني: هذا هو القدر المُجزئ، والأقرب أن يقال: إن الصبي كالكبير؛ يعني: لا فرق بين الصبي والكبير في تكفينهما.

والصغيرة في قميصٍ ولفافتَين.

والأقرب أن يقال أيضًا: إن الصغيرة كالكبيرة، لا فرق لعموم الأدلة، لكن المؤلف يريد بذلك أن يُبيِّن أن كفن الصبي والصغيرة أخف من كفن الكبير، لكن الأكمل والأفضل هو أن يكون كفنهما مثل كفن الكبير.

صفة الكفن

ويُكره التكفين بشَعرٍ وصوفٍ ومُزَعْفَرٍ ومُعَصْفَرٍ ومنقوشٍ.

السنة أن يكون التكفين مما يلبسه الإنسان في الحياة -كما ذكرنا-؛ فلا يكون بالشَّعر والصوف لأن هذا ليس مما يُلبَس عادةً، وأما المُزَعْفَر والمُعَصْفَر ورد النهي عن لُبْسهما في حال الحياة، فكذلك بعد الممات، وكذلك المنقوش لباسُ زينة وليس من لباس الأموات.

ويحرم بجلدٍ وحريرٍ ومُذَهَّبٍ.

يعني: يحرم تكفين الميت بجلدٍ؛ لأن النبي أمر بنزع الجلود عن الشهداء وأن يُدفنوا في ثيابهم[21] والجلد ليس من لباس الأحياء، فلا يكون من لباس الأموات. كذلك لا يُكفَّن الميت بحرير ولا ثوب فيه ذهب -سواء للذكر أو للأنثى-؛ لما في ذلك من الإسراف والتبذير؛ ولأن المرأة إنما أُبيح لها الحرير والذهب في حال الحياة لأنها محل زينة، وقد زال ذلك بموتها.

الصلاة على الميت

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن الصلاة على الميت؛ قال:

والصلاة عليه فرضُ كفاية.

كما ذكرنا: إن تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه؛ كلها من فروض الكفاية، ويدل لذلك قول الله عن المنافقين: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] والمقصود بذلك الصلاةُ على الميت، وهذا يُفهم منه مشروعية الصلاة على غير المنافقين من المسلمين، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يُصلي على الأموات.

وقد وردت أحاديث في فضل الصلاة على الأموات بالنسبة للمصلي وللمُصلَّى عليه؛ أما بالنسبة للمُصلَّى عليه فيقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة رضي الله عنها: ما من ميتٍ تُصلي عليه أُمَّةٌ من المسلمين يبلغون مئةً كلهم يشفعون له؛ إلا شُفِّعوا فيه[22] رواه مسلم، لكن جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: فيقوم على جنازته أربعون[23] وهو أيضًا في صحيح مسلم؛ وجُمِع بين الحديثَين بأن ما جاء في حديث ابن عباس زيادةٌ تفضَّل اللهُ بها، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام أُعلِم أولًا بأن الله يقبل شفاعةَ مئة، ثم أُعلِم بأنه يقبل شفاعة أربعين؛ هذا أحسن ما قيل في الجمع بين الحديثَين، وهذا له نظائر.

ولهذا ينبغي لأهل الميت أن يحرصوا على أن يُصلَّى على ميتهم في الأماكن التي يكثر فيها الناس؛ فمثلًا يذهبون به إلى مسجد يكثر فيه الناس، ولا يُصلون عليه في مسجد لا يصلي عليه إلا قليل، فمن الإحسان لميتهم أن يذهبوا به إلى مكانٍ يكثر فيه المصلون عليه؛ يعني: مثلًا لو أن الميت في بلدٍ قريب من المسجد الحرام، فالأفضل أن يُذهَب به إلى المسجد الحرام لكثرة المصلين.

وينبغي ألَّا تَنْقُص الصفوف عن ثلاثة.

أيضًا لحديث مالك بن هُبَيْرة : ما من مسلمٍ يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوفٍ من المسلمين؛ إلا أَوْجَب[24]، وفي لفظٍ: إلا غُفِرَ له[25]، وكان مالك بن هُبَيْرة إذا استقل أهلَ الجنازة جزَّأَهم ثلاثة صفوف، وهذا الحديث (حديث مالك) أخرجه أبو داود والترمذي، وسنده حسن أو صحيح؛ وهذا يدل على أن المصلين على الميت ينبغي تقسيمهم إلى ثلاثة صفوف -على الأقل-، هذا هو الأفضل حتى ينال الميت هذا الفضل: إلا غُفِرَ له أو إلا أَوْجَب حتى لو لم يكتمل الصف؛ يعني: لو كان مثلًا المصلون عشرين جَزِّئهم ثلاثة صفوف (مثلًا: سبعة – سبعة – ستة)، حتى لو لم يكتمل الصف.

وأما بالنسبة لفضل الصلاة على الميت للمصلي فقد ورد في فضلها عدة أحاديث؛ من أشهرها حديث أبي هريرة أن النبي قال: مَن شهد الجنازة حتى يُصلَّى عليها فله قيراط، ومَن شهدها حتى تُدفَن فله قيراطان قيل: وما القيراطان يا رسول الله؟ قال: أصغرهما مثل جبل أُحُد[26] متفق عليه؛ وهذا فضل عظيم على عمل يسير، إذا صليتَ على جنازة يكون لك أجرٌ بقَدْر القيراط؛ يعني: مثل جبل أُحُد، ما بالك لو كانت أكثر من جنازة؟! تتعدد القراريط، لو صليتَ مثلًا على خمس جنائز يكون لك مثل جبل أُحُد خمس مرات من الأجور والحسنات، وهذا فضل عظيم على عمل يسير؛ ولذلك لما بلغ ابن عمر رضي الله عنهما هذا الحديث قال: “لقد فرَّطنا إذَن في قراريط كثيرة”[27] فالنبي عليه الصلاة والسلام صلى على النجاشي ولم يُصلِّ على غيره.

طيب إذَن؛ المعنى الذي لأجله صلى النبي على النجاشي هو أنه لم يُصلِّ عليه أحد؛ فإذَن تُشرع الصلاة على الغائب إذا مات ببلدٍ ولم يُصلِّ عليه أحد. كذلك الصحابة لم يُنقل عنهم أنهم صلوا إلا على مَن مات ولم يُصلِّ عليه أحد؛ فمثلًا مات الخلفاء الراشدون -ولا يخفى عظيم فضلهم وأثرهم ونفعهم العظيم للإسلام والمسلمين-، ومع ذلك لم يُنقل عن الصحابة المُقيمين خارج المدينة أو خارج البلدان التي ماتوا فيها -لأن عليًّا مات بالعراق-؛ لم يُنقل عنهم أنهم صلوا عليهم صلاة الغائب، ولو كان هذا مشروعًا لفَعَله الصحابة ولاشتُهر؛ لأن هذا مما تتوافر الدواعي لنقله.

عند الموازنة بين هذه الأقوال؛ أضعفها: القول بأنها لا تُشرع مطلقًا، طبعًا هذا قول ضعيف؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على النجاشي صلاة الغائب. يليه: القول بأنها تُشرع على كل غائب، هذا أيضًا ضعيف؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يُصلِّ على كل غائب، والصحابة لم يُصلوا على كل غائب.

تبقى الموازنة بين القول الثالث والرابع (تُصلى على مَن كان فيه نفعٌ ظاهر للإسلام والمسلمين – أو مَن مات ببلدٍ ولم يُصلِّ عليه فيه أحد)، عند الموازنة نرجع للمعنى الذي لأجله صلى النبي على النجاشي؛ المعنى ظاهر: أن النجاشي مات ببلدٍ لم يُصلِّ عليه فيه أحد، وليس لأن نفعه ظاهر؛ لأنه مات في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أُناس نفعهم ظاهر، ومع ذلك لم يُصلِّ عليهم النبيُّ صلاةَ الغائب، الخلفاء الراشدون نفعهم ظاهر ولم يُصلِّ عليهم الصحابةُ خارج بلدانهم صلاةَ الغائب؛ فبهذا يظهر أن القول الراجح في هذه المسألة هو القول الرابع؛ وهو أن الصلاة على الغائب إنما تُشرع إذا مات ببلدٍ لم يُصلِّ عليه فيه أحد، وهذا هو الذي اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم.

ولكن مع ذلك؛ لو أن ولي الأمر اختار قولًا آخر، كأن يختار القول الثالث بأن يُصلَّى على مَن كان فيه نفعٌ ظاهر للإسلام والمسلمين، ووجَّه الناس بصلاة الغائب على ميتٍ من الأموات؛ فلا يُنازَع ولي الأمر في ذلك، فهو كـ”حُكم الحاكم يَرفع الخلاف”؛ ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يصلي صلاة الغائب مع المسلمين ولا يخالفهم، حتى وإن كان يرى قولًا بخلافه؛ لأن هذه مسألة اجتهادية، فإذا اختار ولي الأمر قولًا من هذه الأقوال المُختلَف فيها بين العلماء فينبغي طاعته في ذلك، وأن يكون المسلم مع الجماعة ولا يخالفهم في هذا.

طيب، هنا مسألة: الصلاة على الغائب يُشترط لها أن يكون الميت خارج البلد (يعني: أن يكون غائبًا)، أما إذا لم يكن غائبًا وإنما كان داخل البلد؛ فإما أن يصلي الإنسان على الجنازة -إن أمكن- وإما أن يصلي على القبر، فإذا لم يتمكن من الصلاة على الجنازة ولا على القبر فيكتفي بالدعاء والترحم عليه، ولا تُشرع الصلاة على الغائب حينئذٍ؛ فعندما مثلًا يقال: “الصلاة على فلان” فتُشرع صلاة الغائب على فلان إلا في البلد الذي مات فيه فلان؛ لأن مَن كان في هذا البلد فهذا الميت بالنسبة له ليس غائبًا وإنما هو حاضر، فيصلي الإنسان على الجنازة مباشرةً أو يصلي على قبره، وإذا لم يتيسر هذا ولا ذاك يكتفي بالدعاء والترحم عليه، وإنما تُشرع صلاة الغائب لمَن كان خارج البلد.

طيب، بقيت مسألة نازلة مع كورونا الآن وتعذُّر الصلاة على بعض الأموات: بعض الناس قد يموت قريبٌ له عزيزٌ عليه، ويكون ممنوعًا من الذهاب للمقبرة بسبب نقص المناعة لديه أو لكبر سنه أو نحو ذلك؛ فهل يُشرع له أن يصلي صلاة الغائب على هذا الميت؟ هذه مسألة خلافية، وبناءً على القول الذي رجحناه في هذه المسألة لا يُشرع، لكن هناك مَن أفتى بمشروعية الصلاة على الغائب في هذه الحالة، وهذه نازلة لا يقاس عليها غيرها، وما دامت المسألةُ اجتهاديةً وخلافيةً بين أهل العلم فلو أخذ الإنسان بقول مَن قال بمشروعية الصلاة على الغائب في هذه الحال؛ فالأمر في هذا واسع -إن شاء الله-.

وإسلام المصلي والمُصلَّى عليه.

أي: لا بد أن يكون المصلي مسلمًا، وأن يكون المُصلَّى عليه مسلمًا، وهذا ظاهر لقول الله : وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا [التوبة:84].

وطهارتهما ولو بتراب لعذرٍ.

أي: لا بد من طهارة المصلي والمُصلَّى عليه، بأن يكون المصلي متطهرًا من الحدث الأكبر والأصغر، وأيضًا الميت مغسولًا، فإن تعذر غَسْله فإنه يُيَمَّم.

أركان الصلاة على الميت

وأركانها سبعة.

يعني: أركان الصلاة على الميت سبعة.

الركن الأول:

القيام في فرضها.

القيام مع القدرة كبقية الصلوات؛ فلا تصح من قاعد.

وقوله: “في فرضها” يفيد بأن صلاة الجنازة لو تكررت فصلى على الميت جماعةٌ بعد جماعة لم يجب القيام في الصلاة على غير الجماعة الأولى؛ لأن الفرض سقط بالصلاة الأولى، فالصلاة الثانية والثالثة وما بعدها نافلة.

الركن الثاني:

والتكبيرات الأربع.

لأن النبي صلى على النجاشي وكبَّر عليه أربعًا، لكن جاء في بعض الأحاديث كما في حديث زيد بن أرقم: “أن النبي كبَّر خمس تكبيرات”[28]، وجاء أيضًا عن علي أنه إذا صلى على بَدْرِيٍّ كبَّرَ عليه ستًّا، وعلى سائر الصحابة خمسًا، وعلى بقية الناس أربعًا[29]؛ ومن هنا اختلف العلماء في عدد التكبيرات، والأقرب -والله أعلم- أن التكبيرات تكون في الغالب أربعًا، لكن لا بأس بالزيادة على ذلك أحيانًا، فيُكبِّر خمسًا أو ستًّا، لا سيما إذا كان صاحبُ الجنازة ذا فضلٍ كأن يكون عالمًا كبيرًا ونحو ذلك.

ولم يُنسَخ الزيادة على أربع تكبيرات؛ لأن النسخ يحتاج إلى معرفة المُتقدِّم من المُتأخِّر؛ ولهذا فالصواب كما قال النووي وغيره: إنه لم يُنسَخ، وأنه يُشرع أحيانًا الزيادة على أربع تكبيرات؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: “صح عنه أنه كبَّر أربعًا، وكان الصحابة بعده يُكبِّرون أربعًا وخمسًا وستًّا”.

الركن الثالث:

وقراءة الفاتحة.

لقول النبي : لا صلاة لمَن لم يقرأ بفاتحة الكتاب[30].

قال طلحة بن عبدالله بن عوف: “صليتُ خلف ابن عباس فصلى على جنازةٍ فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنها سنة”[31].

الركن الرابع:

والصلاة على محمد.

أن نُصلي على النبي ؛ لحديث أبي أمامة بن سهل عن رجلٍ من أصحاب النبي .

الركن الخامس:

والدعاء للميت.

وهو آكد أركان الصلاة على الميت؛ لأن المقصود من الصلاة على الجنازة هو الدعاء للميت، فالأركان بعضها آكد من بعض؛ يعني مثلًا: أركان الحج آكدها الوقوف بعرفة، أركان الصلاة آكدها السجود، أركان الصلاة على الميت آكدها الدعاء.

الركن السادس:

والسلام.

لعموم حديث: وتحليلها التسليم[32].

الركن السابع:

والترتيب.

لكن هنا استثنى المؤلف من ذلك الدعاء بقوله:

لكن لا يتعين كون الدعاء بثلاثٍ، بل يجوز بعد الرابعة.

يعني: لا يجب أن يكون الدعاء بعد التكبيرة الثالثة، بل يجوز أن يكون بعد التكبيرة الرابعة، والأفضل أن يكون بعد التكبيرة الثالثة، وهذا يدل على أنه أيضًا لو دعا بعد التكبيرة الرابعة وقبل السلام فلا بأس؛ يعني: لو كنتَ تُصلي على الجنازة، ثم إن الإمام بعد التكبيرة الرابعة أطال قليلًا فدعوتَ للميت لا بأس.

صفة الصلاة على الميت

وصفتها.

يعني: صفة الصلاة على الميت.

أن ينوي، ثم يكبر ويقرأ الفاتحة.

فلا يستفتح بدعاء الاستفتاح؛ قال أبو داود: “سمعتُ أحمدَ يُسأل عن الرجل يستفتح الصلاة على الجنازة بـ”سبحانك اللهم”؟ قال: ما سمعتُ”؛ يعني: ما سمعتُ أنه ورد هذا؛ ولأنها مبنيةٌ على التخفيف فلم يُشرع افتتاحها بدعاء الاستفتاح. بناءً على ذلك؛ فالصلاة على الجنازة: (يكبر “الله أكبر”، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2])؛ ولا حاجة لأن يأتي بدعاء الاستفتاح.

ثم يكبر ويصلي على محمدٍ كَفِي التشهد.

يعني: إنه يأتي بالصلاة الإبراهيمية: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد… إلى آخره.

ثم يكبر، ويدعو للميت بنحو: اللهم ارحمه.

وقد ورد في ذلك عدة أحاديث، يختار للميت منها ما يعجبه وما يحفظه؛ من ذلك ما جاء في حديث عوف بن مالك : اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعفُ عنه، وأكرم نُزُله، ووسِّع مُدخَله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما نَقَّيْتَ الثوب الأبيض من الدَّنَس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأَعِذه من عذاب النار وعذاب القبر[33].

وأيضًا جاء في حديث أبي هريرة : اللهم اغفر لِحَيِّنا ومَيِّتِنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذَكَرنا وأُنْثانا؛ اللهم مَن أحيَيْتَه منا فأَحيِه على الإيمان، ومَن توفَّيْتَه منا فَتَوَفَّه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنَّا بعده[34]، أو: ولا تُضِلَّنا بعده كل هذا ورد.

أو يقول: “اللهم اغفر له وارحمه، اللهم عافه واعفُ عنه، اللهم أدخله الجنة، اللهم أَعِذه من عذاب النار وعذاب القبر”، ونحو ذلك من الأدعية التي ينتفع بها الميت.

ثم يكبر.

يعني: التكبيرة الرابعة.

ويقف بعدها قليلًا، ويُسلِّم.

وإن دعا بعد التكبيرة الرابعة فلا بأس.

وتُجزئ واحدةٌ.

يعني: تسليمة واحدة عن يمينه؛ لأن هذا هو هدي النبي غالبًا، ووردت التسليمة الواحدة عن ستةٍ من الصحابة.

ولو لم يقل: ورحمة الله.

يعني لو قال: “السلام عليكم” كفى، لكن الأكمل أن يقول: “السلام عليكم ورحمة الله”، تسليمةً واحدةً، وإن سلَّمَ تسليمتَين فلا بأس، لكن الأفضل والأقرب للسنة أن يقتصر على تسليمة واحدة.

الصلاة على القبر

ويجوز أن يُصلَّى على الميت مِن دفنه إلى شهرٍ وشيء، ويحرم بعد ذلك.

انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن الصلاة على القبر؛ وهي مشروعة في حق مَن لم يُصلِّ على الميت، فيُشرع له أن يذهب للقبر ويصلي على الميت المدفون في القبر؛ لحديث أبي هريرة : أن امرأةً سوداء كانت تَقُمُّ المسجد فَفَقَدَها النبيُّ ، فقالوا: ماتت، قال: أفلا كنتم آذَنْتُمُوني [يعني: أَعْلَمْتُمُوني] دُلُّوني على قبرها[35]،  فذهب وصلى على قبرها، وقال: إنَّ هذه القبور مملوءة ظلمةً على أهلها، وإن الله يُنَوِّرها بصلاتي عليهم[36]؛ ولهذا قال الإمام أحمد: “مَن يشك في الصلاة على القبر؟ يُروى فيه من ستة وجوهٍ كلها حِسان”. لكن هنا المؤلف يقول: “إلى شهر”؛ ومن هنا اختلف العلماء في المدة التي يُصلَّى فيها على القبر، فالمذهب عند الحنابلة أنه إلى شهر، ولو تجاوز الشهرَ لبعض الأيام فيُتسامَح في ذلك؛ ولهذا قال: “إلى شهرٍ وشيء”. وقال بعض العلماء: إنها تُشرع الصلاة على القبر أبدًا -ولو طالت المدة-، وقال آخرون: يُصلَّى عليه ما لم يَبْلَ جسدُه.

وعندما نوازن بين هذه الأقوال؛ القول بمشروعية الصلاة على القبر مطلقًا هذا ضعيف؛ لأن قبر النبي لا يُصلَّى عليه الآن إجماعًا، ولا قبل الآن؛ يعني: من بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام وصلاة الصحابة عليه لم يُصلِّ عليه أحدٌ من المسلمين، وأما التحديد بِبَلْي الميت فهذا ليس عليه دليل، ولو أيضًا قلنا بذلك لقلنا بمشروعية الصلاة على قبر النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وحينئذٍ لا بد من التحديد، والأقرب أن يكون التحديد بما وردت به السنة وهو شهر، هذا هو الأقرب كما قال الإمام أحمد؛ قال: “أكثر ما سمعتُ أن النبي صلى على أُمِّ سعد بن عُبَادة بعد شهر”، فتُحدِّد المدة بشهر ونحوه؛ يعني: لو زاد على الشهر أيامًا فلا بأس، لكن إذا طالت المدة فلا تُشرع الصلاة على القبر، إنما تُشرع إذا مات ولم يمضِ على ذلك أكثر من شهر؛ يعني مثلًا: إنسان مات له قريبٌ أو صديقٌ، ودُفِن ولم يكن حاضرًا، فيذهب إلى قبره، ويصلي عليه خلال مدة لا تزيد على شهر.

ثم انتقل بعد ذلك المؤلف للكلام عن أحكام حَمْله ودَفْنه، وأيضًا المسائل المتعلقة بذلك، وتعزية الميت أيضًا، وإهداء الثواب وإهداء القُرَب للأموات، وهذه كلها تحتاج إلى وقت ربما يطول؛ ولذلك نُرجئ الكلام عنها للدرس القادم، الدرس القادم نُكمل -إن شاء الله- كتاب الجنائز، ونأخذ أول كتاب الزكاة -بإذن الله تعالى-.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: هل الأموات معصومون من الفتن؟

الجواب: المعصوم هم الصالحون؛ الذين يعصمهم الله من أن يُفتنوا في قبورهم، فإن الميت في قبره يُفتن، ويُسأل عن ربه ونبيه ودينه، فإن كان من أهل الصلاح والخير فإنه يُوفَّق للإجابة، ويتنعم بنعيم القبر، وإن لم يكن من أهل الخير (أي: كان من أهل النار -نسأل الله العافية-) فإنه يُفتن ويُعذَّب في قبره؛ ولذلك يُشرع الدعاء في كل صلاةٍ يصليها المسلم أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال[37]، وهنا تضمَّن هذا الدعاءُ الاستعاذةَ بالله من عذاب القبر، وأيضًا من فتنة الممات، فإن الممات له فتنة.

السؤال: إذا تكلم شخصٌ عن شخصٍ آخر بكلامٍ قبيح بينه وبين نفسه، ولم يكن عنده أحد؛ فما الحُكم؟

الجواب: هذا لا يجوز، هل ترضى أن أحدًا يتكلم فيك بكلام قبيح؟ حتى ولو لم يكن عنده أحد، إن كنتَ لا ترضى بهذا لنفسك، فكيف ترضاه لغيرك؟! ثم الله يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ  [ق:18]؛ فما يتكلم به الإنسان يُكتب عليه.

السؤال: إذا طلب شخصٌ من آخر سُلفة أو مقابل شيءٍ اشتراه، كان الذي اشتراه بقيمة ثمانية وتسعين وأعطاه مئة؛ هل هذا جائز؟

الجواب: إذا كان بيعًا بأن تكون هذه السلعة قيمتها نقدًا وهي حاضرة ثمانية وتسعون، وقيمتها مؤجلًا أو أقساطًا مئة؛ هذا لا بأس به، تقول مثلًا: هذه السيارة ثمنها خمسون ألفًا إذا اشتريتَها نقدًا، وثمنها سبعون ألفًا أو ثمانون ألفًا -أو أكثر- إذا اشتريتَها بالأجل أو بالتقسيط؛ هذا لا بأس به، ونُقل الإجماع على الجواز؛ نقل ذلك الحافظ ابن حجر وغيره.

وهذا بخلاف ما إذا كانت نقدًا بنقد؛ إذا قال: أعطني خمسين أردها عليك ستين، هذا ربا بالإجماع، مثلما قال الأخ السائل: أعطني ثمانية وتسعين أردها عليك مئة؛ هذا ربا، فإذا كانت نقدًا بنقد مع الزيادة هذا محرم ولا يجوز، أما إذا كانت بيعًا وشراءً فلا بأس، فالبائع حُرٌّ في تحديد الثمن؛ إذا قال: إذا اشتريتَها نقدًا اشتَرِها مني بخمسين، وإذا اشتريتَها نسيئةً أو بثمن مُؤجَّل أو مُقسَّط اشتَرِها بسبعين، هو حُرٌّ في تحديد الثمن، يحَدِّد الثمن كما يُريد، فإذا رضي المشتري بهذا التحديد للثمن فلا بأس، فالبيع بالأجل والبيع بالتقسيط لا بأس بأن يُزاد في الثمن مقابل الأجل والتقسيط، لكن يكون هذا في ابتداء العقد، أما إذا أُبرِم العقد فلا تجوز الزيادة لأجل زيادة الأجل؛ لأن هذا نظير ربا الجاهلية، كانوا في الجاهلية إذا حَلَّ الدينُ على المَدين أتى الدائن إلى المَدين وقال له: إمَّا أن تقضي وإمَّا أن تُربي.

السؤال: إذا صلى الشخص أربعًا مثنى مثنى قبل أن ينام، وعندما استيقظ آخر الليل صلى خمسًا متصلة، هل يُعتبر أنه عمل بالسنة وصلى إحدى عشرة؟

الجواب: نرجو ذلك، لكن الأكمل في صلاة الليل أن يصلي مثنى مثنى؛ لأن هذه هي أشهر الصفات الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولأن أيضًا صلاته خمسًا متصلة محلُّ خلاف بين العلماء، لكن صلاته مثنى مثنى محلُّ إجماع في جوزاها ومشروعيتها، وهدي النبي عليه الصلاة والسلام غالبًا أنه كان يصلي الليل مثنى مثنى؛ كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فَلْيُوتِر بواحدة[38]؛ فالأفضل أن يصلي إحدى عشرة ركعة، وإن صلى أول الليل جزءًا منها وأكمل آخر الليل البقية فلا بأس، لكن الأفضل في الصفات أن تكون مثنى مثنى، ثم يُوتِر بواحدة. ثم إن صلاة الليل ليس لها حدٌّ محدود، له أن يزيد على إحدى عشرة ركعة؛ له أن يصلي ثلاث عشرة ركعة أو خمس عشرة ركعة أو أكثر من ذلك؛ لعموم الحديث: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فَلْيُوتِر بواحدة.

السؤال: ما يقضيه المسبوق هل يُعتبر آخر الصلاة أم أولها؟

الجواب: هذا محلُّ خلاف بين الفقهاء؛ فمنهم مَن قال: إن ما يقضيه المسبوق هو آخر صلاته، وما أدركه مع الإمام هو أولها؛ ومنهم مَن قال: إن ما يقضيه هو أول صلاته، وما أدركه مع الإمام هو آخرها، وهذا الأخير هو المذهب عند الحنابلة، ولكن القول المُرجَّح عند كثير من المحققين من أهل العلم: إن ما يدركه المسبوق هو أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها؛ لعموم قول النبي : فما أدركتم فَصَلُّوا، وما فاتكم فأتِمُّوا[39].

وعلى هذا؛ فقد تكون هذه الركعة التي أدركها المسبوق هي الركعة الثالثة في حق الإمام، وهي في حق المأموم الركعة الأولى؛ فثمرة الخلاف أنه على القول الراجح: إن استطاع أن يأتي بسورة بعد الفاتحة فإنه يفعل؛ لأنها بالنسبة له هي الركعة الأولى، وبالنسبة للإمام الركعة الثالثة، لكن بناءً على القول الآخر هي الثالثة في حق الإمام والمأموم، والقول الراجح: إن ما يدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها.

السؤال: ما حُكم قص أظافر الميت ونتف إبطه وقص شاربه؟

الجواب: قال به بعض الفقهاء، ونصَّ عليه بعض فقهاء الحنابلة؛ وقالوا: إن هذا من كمال التنظيف للميت، كما أنه من كمال التنظيف للحي فكذلك يُفعل بالميت، ولكن لا أعلم في هذا دليلًا عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا حتى آثارًا صحيحةً عن الصحابة؛ ولهذا فالأقرب أن هذا العمل غير مستحب لأن هذا لم يرد، ولأن الميت سوف يُدفن، فلا حاجة لأن يُقَص شاربه وتُقَلَّم أظفاره، وإنما يُكتفى بتنظيفه بتغسيله وتكفينه، ولأن هذا لو كان مشروعًا لَبَيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام للأمَّة، ولَفَعله الصحابة، ولَاشتُهر ونُقِل؛ ومع ذلك مَن فعل هذا لا يُنكر عليه لأنه قولٌ لبعض أهل العلم.

السؤال: في الصلاة على الميت؛ ماذا يقول المصلي بعد التكبيرة الخامسة أو السادسة -على القول بمشروعيتها-؟

الجواب: نعم، نحن قلنا: إن القول الراجح في التكبيرات على الميت أنها أربع، لكن لا بأس أن يزيد أحيانًا على أهل الفضل؛ بأن يكبر خمسًا أو ستًّا كما كبَّر النبيُّ على زيد بن أرقم خمس تكبيرات -كما في صحيح مسلم-، وكبَّر عليٌّ على أهل بدر ست تكبيرات وعلى سائر الصحابة خمسًا وعلى سائر الناس أربعًا.

ماذا يقول بعد التكبيرة الرابعة والخامسة؟ الجواب: يدعو للميت؛ لأن الأصل في الصلاة على الميت هو الدعاء؛ ولذلك قلنا: حتى بعد التكبيرة الرابعة لو أن الإمام تأخر في التسليم، فينبغي للمأموم أن يغتنم هذا الوقت في الدعاء للميت، فالغرض من الصلاة على الميت هو الدعاء للميت، فبعد التكبيرة الرابعة أو الخامسة أو السادسة يدعو للميت.

السؤال: أنا امرأة وأرغب بالأجر في متابعة المؤذن، لكن المسجد بعيد، فهل لي أجر إذا سمعتُه عن طريق المذياع؟

الجواب: إذا كان الأذان منقولًا على الهواء مباشرةً ولم تصلي أنتِ بعد فتابعي المؤذن وقولي مثلما يقول، إلا في “حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح” فتقولين: “لا حول ولا قوة إلا بالله”، ثم تأتين بالذكر الوارد. أما إذا كان الأذان مسجلًا فلا تُشرع متابعته؛ لأن هذه حكاية صوت، فلا تُشرع المتابعة، وهكذا أيضًا لو كان منقولًا على الهواء مباشرةً والإنسان قد صلى فلا تُشرع المتابعة في هذه الحال.

السؤال: من شروط التوبة الندم، هل يكون بالبكاء؟

الجواب: نعم، مِن أظهر وأبرز شروط التوبة الندمُ؛ لأن الندم دليل على صدق التائب؛ ولهذا جاء في بعض الروايات: الندم توبة[40]، لكن لا يُشترط للندم البكاء، الندم يكون بالبكاء وبغير البكاء، المهم أن الإنسان يندم على فعل ذلك الذنب وتلك المعصية، ويعزم على ألَّا يعود إليه مرةً أخرى، ويُقلِع عن الذنب، فإذا تحققت هذه الشروط الثلاثة صحَّت التوبة، إلا إذا كانت متعلقة بحقوق العباد فلا بد من التحلل منهم.

السؤال: تأتيني فترةُ تكاسل عن بعض السنن؛ فما النصيحة؟

الجواب: ينبغي أن يجاهد الإنسان نفسه وأن يرفع مستوى الصبر عنده، فالنفس على ما تعودَت، إذا عوَّد الإنسان نفسه على الإتيان بالسنن فإنه سيعتاد على الإتيان بها؛ ولذلك أنصحك يا أخي الكريم أن تكون ذا عزيمة، والعمر قصير؛ ولهذا كان النبي يقول: اللهم إني أسألك العزيمة على الرشد[41]، فإذا رفعتَ مستوى الصبر وكنتَ ذا عزيمة فإنك تستطيع أن تأتي بالسنن، لكن مَن كان عنده تردُّد يضعف ويتكاسل، ولكن مع ذلك فإن النفس لها إقبال وإدبار، فإذا أقبلَت النفس ينبغي بعد الفرائض أن يُكثر الإنسان من النوافل، وإذا أدبرَت النفس فَلْيُحافظ على الفرائض وما تيسر من النوافل؛ فإن النبي يقول: إن لكل عملٍ شِرَّة، ولكل شِرَّةٍ فَتْرَة؛ فمَن كانت فَتْرَته إلى سنتي فقد هُدي[42] رواه الترمذي بسندٍ صحيح؛ معنى الحديث: أن كل عمل يعمله الإنسان يكون له حماس ونشاط، لكن هذا النشاط لا يكون مستمرًّا، هذه طبيعة الإنسان، فيعقب هذا النشاط فتورٌ، وهذا الفتور هو مرحلة خطرة في حياة الإنسان؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: فمَن كانت فَتْرَته إلى سنتي فقد هُدي، وأكثر ما يقع الانحراف والانتكاسة هي في هذه الفترة؛ عندما تكون النفس في حال فتور.

ولهذا ابن مسعود -على جلالة فضله وعلمه وقدره ومكانته- لما حضرته الوفاة؛ رُوي عنه أنه كان يبكي، فقيل: ما يُبكيك؟ قال: “ودِدتُّ أنه أتاني الموت وأنا في غير هذه الحال”، وأنا في حال نشاطٍ، ولم أكن في حال فَتْرَة، فالفتور يعتري النفوس، وهي مرحلة خطرة؛ ولذلك على الإنسان أن يكون حذرًا وأن يحافظ على الفرائض ويفعل في الفَتْرَة ما تيسر من النوافل؛ أما في حال النشاط وإقبال النفس، فينبغي أن يغتنم ذلك في الإكثار من النوافل.

السؤال: بعض الناس عندهم عادةُ الانحناء (الركوع قليلًا) عندما يريد أن يُبدي احترامًا وتقديرًا لمَن أمامه؛ فما حُكم ذلك؟

الجواب: هذا لا يجوز، هذا التعظيم لا يكون إلا لله ، لا يجوز الانحناء لغير الله سبحانه، السجود والركوع إنما يكونان لله ، والانحناء هو نوع من الركوع، لا يجوز أن يكون هذا الانحناء إلا لله .

السؤال: امرأةٌ أرضعت أختها وهي صغيرة، وكبرت الأخت وتزوجت، هل يكون زوج أختها محرمًا لها؟

الجواب: إذا كانت أرضعتها خمس رضعات فأكثر في الحولين فهي أُمُّها؛ ومعنى ذلك: أن أولاد هذه المُرضِعة يكونون إخوةً لها من الرضاع، ويكون زوج الأخت أبًا لها من الرضاع؛ لأنها إنما أرضعت أختها بلبن هذا الزوج، فيكون زوج الأخت أباها من الرضاع، وتكون أختها أُمًّا لها من الرضاع، ويكون أولاد هذه المُرضِعة -من بنين وبنات- إخوةً لها من الرضاع.

السؤال: أعطاني الله صوتًا جميلًا، وأصلي إمامًا، وأجاهد نفسي على الإخلاص، وأنوي تزيين الصوت كما جاء في فضل الترتيل، لكن لدي معاصٍ؛ هل هذا رياء؟

الجواب: هذا ليس رياءً، مَن ذا الذي يَسلم من الذنوب كلها، كل بني آدم خطاء، فالإنسان ليس معصومًا من الوقوع في الذنوب والمعاصي والتقصير، وإنما يجاهد نفسه، فما دام أن الله أعطاك هذا الصوت ومَنَّ عليك بإمامة المسجد، فاحرص على أن تحمد الله على هذه النعمة، وأن تحرص أيضًا على ترتيل القرآن، وأن تُزيِّن صوتك بالتلاوة؛ وكما جاء في الحديث: زَيِّنوا القرآن بأصواتكم[43].

وأيضًا الله تعالى يقول: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4] فينبغي عندما يقرأ الإنسان القرآن أن يُرتِّل التلاوة وأن يأتيه بأحسن صوتٍ لديه؛ لأن هذا أيضًا أبلغ في التأثير؛ ولهذا لما مَرَّ النبي على أبي موسى وهو يقرأ القرآن، ولم يشعر به أبو موسى، ثم لما أصبح قال: لقد أُعطي عبدالله بن قيس مزمارًا من مزامير آل داود[44]، فلما بلغ ذلك عبدالله بن قيس، قال: لو كنتُ أعلم بأنك تستمع لقراءتي لحبَّرْتُه لك تحبيرًا[45]؛ يعني: لَزَيَّنتُه أكثر، وأقرَّه النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، ولم يعتبر هذا رياءً؛ فتزيين الصوت بالتلاوة أمرٌ مطلوب، وترتيل القرآن أمرٌ مطلوب؛ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4].

بعض الناس عندما يقرأ القرآن يقرأ قراءة صامتة، إن كانت هذه القراءة بدون أن يتلفظ بلسانه فهذه ليست قراءة ولا يُؤجَر عليها ولا يُثاب عليها ثواب التلاوة، هذه مجرد تأمُّل ونظر في المصحف، أما إن كان يتلفظ بلسانه من غير رفع الصوت فهذه تلاوة، لكن فاته الترتيل، كيف يُرتِّل ويتغنى بالقرآن بهذه القراءة الصامتة؟! ولذلك ينبغي أن يرفع صوته قليلًا ويتغنى بالقراءة ويُرتِّل القرآن؛ والله تعالى يقول: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، كيف يُرتِّل القرآن وهو يقرأ قراءةً صامتةً بدون صوت؟!

وبعض الناس يقول: أنا أخشى أني إذا رفعتُ صوتي شوَّشْتُ على مَن حولي؛ نقول: ارفع صوتك قليلًا بالقدر الذي لا تُشوِّش به على الآخرين، لكن ترتيل القرآن إنما يتأتَّى بالقراءة التي يكون معها صوت، وليس بالقراءة الصامتة.

طيب، إذَن نكتفي بهذا القدر، ونعتذر للإخوة الذين لم يتيسر الإجابة عن أسئلتهم.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1, ^7 رواه البخاري: 1265، ومسلم: 1206.
^2 رواه البيهقي في شعب الإيمان: 8827، والحاكم في المستدرك: 1307.
^3 رواه ابن ماجه: 1461.
^4 رواه النسائي في السنن الكبرى: 7043، وابن ماجه: 1465، وأحمد: 25908.
^5 رواه أبو داود: 3141، وأحمد: 26306.
^6 رواه البخاري: 1253، ومسلم: 939.
^8 رواه البخاري: 1347.
^9 رواه البخاري: 2480، ومسلم: 141.
^10 رواه أبو داود: 4772، والترمذي: 1421، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 4095، وأحمد: 1652.
^11, ^14, ^18, ^21 سبق تخريجه.
^12 رواه أبو داود: 3134، وابن ماجه: 1515، وأحمد: 2217.
^13 رواه البخاري: 4042، ومسلم: 2296.
^15 رواه ابن حبان: 7025.
^16 رواه البخاري: 3208، ومسلم: 2643.
^17 رواه النسائي: 190، وأحمد: 759.
^19 رواه البخاري: 1264، ومسلم: 941.
^20 رواه أبو داود: 3878، والترمذي: 994، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 1896، وابن ماجه: 1472، وأحمد: 2219.
^22 رواه مسلم: 947.
^23 رواه مسلم: 948.
^24 رواه أبو داود: 3166، والترمذي: 1028، وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 1490.
^25 رواه أحمد: 16724.
^26 رواه البخاري: 1325، ومسلم: 945.
^27 رواه البخاري: 1324، ومسلم: 945.).

والظاهر أن كل جنازة يُصلَّى عليها يحصل للمصلي هذا الأجر، وأن الأجور تتعدد بتعدُّد الجنائز؛ وهذا الأجر يحصل لمَن كان أولَ مَن صلى على جنازة، أو كان لمَن صلى عليها قبله أحد. وأما قول مَن قال: إن هذا الأجر إنما يحصل لمَن صلى على الجنازة أولًا، وأنه لا يحصل لمَن صلى على الجنازة بعد ذلك؛ فهذا قولٌ لا دليل عليه، بل عموم حديث أبي هريرة السابق يدل على أن هذا الأجر والفضل يحصل لكل مَن صلى على جنازة، سواءٌ كان أولَ مَن صلى عليها أو كان ممَّن صلى عليها بعده؛ ففي حديث أبي هريرة السابق لم يُفرِّق النبيُّ في الثواب بين أول مَن صلى على الجنازة وبين مَن صلى عليها بعده؛ بل قال: مَن شهد الجنازة حتى يُصلَّى عليها فله قيراط…((سبق تخريجه.).

وأما قول مَن قال من أهل العلم: إن مَن صلى على الجنازة أولًا يكون أعظمَ أجرًا لكونه أتى بفرض كفاية، وأن مَن صلى بعده لا يكون له مثل أجره؛ فهذا غير مُسلَّم، ما الدليل على ذلك؟ لا دليل على هذا، وهذه القاعدة التي ذكروها قاعدة غير صحيحة؛ ولهذا قال الزركشي في كتابه “المنثور في القواعد الفقهية”: “أما مَن فعلَ فرضَ الكفاية ثانيًا فلا يكون في حقه من فرض العين، وتسميته فرضًا إنما هو لحصول ثواب الفرض”؛ يعني كأنَّ الزركشي رحمه الله يقول: إنه لا فرق بين مَن يصلي على الجنازة أول مرة أو مَن يصلي عليها ثاني مرة؛ ولذلك لا وجه لمنع المصلين إذا أرادوا أن يصلوا على الجنازة قبل أن يُصلَّى عليها في المسجد، بل ينبغي أن يُمَكَّن الجميع، كل مَن أراد أن يصلي على جنازة تُتاح له الفرصة، فإن في هذا خيرًا للمصلي وللمُصلَّى عليه؛ المُصلَّى عليه كلما كثر عدد المصلين كان أعظم لأجره، والمصلي ينال الأجر والثواب من الله .

قال:

وتسقط بمُكلَّفٍ ولو أنثى.

يعني: إذا صلى على الميت أحدٌ من المسلمين ولو أنثى؛ سقط الوجوب لأنها من فروض الكفايات.

شروط صلاة الجنازة

وشروطها ثمانية.

شروط الصلاة على الميت ثمانية شروط:

الأول: النية.

وهو شرطٌ لجميع العبادات.

والتكليف.

يعني: أن يكون بالغًا عاقلًا.

واستقبال القبلة، وستر العورة، واجتناب النجاسة.

لأنها صلاة، فيُشترط لها ما يُشترط للصلاة، ومن ذلك أيضًا الطهارة، وبقية شروط الصلاة تُشترط.

الصلاة على الميت الغائب

وحضور الميت إن كان بالبلد.

يعني: إن الجنازة لا بد أن تكون حاضرةً بين يدي المصلي، فإن رُفِعَت الجنازة لم تُشرع الصلاة حينئذٍ على الميت؛ ولذلك مَن فاتته الصلاة على الميت فقد فاتته، ليس له أن يقضيها إلا إذا لم تُرفع الجنازة بعد، أما إذا رُفِعَت الجنازة فليس له أن يصلي على الميت.

وقوله: “إن كان بالبلد” يفهم منه أنه إذا لم يكن بالبلد يجوز أن يصلي عليه، وهذا ما يُسميه الفقهاء بـ”الصلاة على الغائب”، الصلاة على الغائب اختلف الفقهاء في حُكمها على أقوال؛ أشهرها أربعة أقوال:

  • القول الأول: إنها تُشرع على كل غائب، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة؛ قالوا: لأن النبي صلى على النجاشي صلاة الغائب، والصلاة على الميت دعاءٌ، فتُشرع على كل غائب.
  • القول الثاني -عكسه-: إنها لا تُشرع على الغائب مطلقًا، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية؛ قالوا: لأن من شرط الصلاة على الجنازة حضورها، وهذا غير متحقق في الصلاة على الغائب.
  • القول الثالث: إنها تُشرع على الغائب إذا كان فيه نفعٌ ظاهرٌ للإسلام والمسلمين، كعالِم نفع الناس بعلمه، وأمير صالح أو غنيّ صالح نفع الناس بماله ونحو ذلك؛ قالوا: لأن النبي صلى على النجاشي ولم يُصلِّ على غيره من الغائبين؛ لأنه أمير صالح نفع الله به الإسلام والمسلمين نفعًا عظيمًا، فقد آوى المهاجرين، وأحسن إليهم، وأكرمهم، ومنع قريشًا من الوصول إليهم.
    هذا القول قال به بعض المعاصرين، بل هو المشتهر الآن، لكن لم أقف على مَن قال به من المتقدمين، وإذا وَجَدَ أحدٌ منكم -أيها الإخوة المتابعون لهذا الدرس- أحدًا من العلماء المتقدمين قال بهذا القول فَلْيُفِدْنا به، فأنا أُدرِّس الفقه من سنوات طويلة، كلما درَّستُ كتاب الجنائز طرحتُ هذا السؤال، وقلتُ للطلاب: هل تجدون مَن قال به من المتقدمين؟ ولم يأتِ لي طالبٌ واحدٌ بشيء، كل مَن بحث لم يجد، فمع ذلك أقول مرة أخرى: إذا وجدتم أحدًا من العلماء المتقدمين قال بهذا القول فَلْيُفِدْنا به. لكن لا يأتِ أحدٌ ويقول: إنه ورد في الإنصاف وفي غيره أن يُصلَّى على كل رجل صالح، هذا هو مذهب الحنابلة، قالوا: على كل رجل صالح؛ أنا أقصد القول بأن صلاة الغائب إنما تُشرع على مَن كان نفعه ظاهرًا للإسلام والمسلمين كالعالِم والأمير الصالح والغنيّ الذي نفعه ظاهر ونحو ذلك، فهذا قال به كثير من العلماء المعاصرين، لكن لم أقف على أحدٍ قال به من العلماء المتقدمين.
  • القول الرابع: تُشرع الصلاة على الغائب إذا مات ببلدٍ لم يُصلِّ عليه فيها أحدٌ؛ هذا قول عند الحنابلة اختاره ابن تيمية وابن القيم، وابن عثيمين من المعاصرين، رحمهم الله تعالى جميعًا؛ وقالوا: لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يُصلِّ على الذين ماتوا وهم غُيَّب سوى رجل واحد، وهو النجاشي؛ وإنما صلى على النجاشي لأنه أسلم وكتم إسلامه، فلما مات دفنه قومُه على الطريقة النصرانية، لم يُصلِّ عليه أحدٌ، والصلاة على الميت من فروض الكفاية؛ ولهذا صلى عليه النبيُّ .

النجاشي كان رجلًا عادلًا عاقلًا؛ لذلك أرسل النبيُّ عليه الصلاة والسلام الصحابةَ لمَّا عذَّبتهم قريشٌ، أرسلهم إليه لِمَا يسمع من عدله وعقله، ولعل الله تعالى وفَّقه بأن أسلم وكتم إسلامه وبقي على مُلكه؛ يعني: بقي مَلِكَ الحبشة وهو مسلم.

وأما كِسْرى لمَّا كتب له النبيُّ عليه الصلاة والسلام كتابًا يدعوه للإسلام مَزَّق كتاب النبي عليه الصلاة والسلام؛ فدعا عليه النبيُّ بأن يُمزِّق اللهُ مُلكه، فمَزَّق اللهُ مُلكه إلى الآن.

وأما هِرَقْل (مَلِك الروم) لمَّا كتب له النبيُّ عليه الصلاة والسلام كتابًا -وكان رجلًا عاقلًا- عظَّم كتاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: “ادعوا لي مَن كان ها هنا من قريش”، ووافق ذلك أن أبا سفيان كان موجودًا في الشام، فأُتي بأبي سفيان وسأله هِرَقْل عشرة أسئلة، وقال: “لولا أني أخشى أن يُؤثَر عليَّ الكذب لكذبت”؛ يعني: يستنكف ويأنف أن يُؤثَر عليه كذب؛ قال هِرَقْل لما سمع هذا الكلام: “لئن كان ما تقول حقًّا لَيَمْلِكَنَّ صاحبُكم موضعَ قدميَّ هاتَين، ولوددتُّ لولا ما أنا فيه من الملك أن أذهب وأقبِّل قدمَيه”؛ عرف الحق لكن منعه من ذلك أنه خشي إن أسلم أن يُخلع من مُلك الروم؛ وهدى الله النجاشي، أسلم وكتم إسلامه وبقي مَلِك الحبشة.

فهؤلاء ثلاثة ملوك -سبحان الله- أحوالهم متغايرة! كِسْرى مَزَّق كتابَ النبي عليه الصلاة والسلام فمَزَّق اللهُ مُلكه؛ هِرَقْل عرف الحق لكنه لم يتبعه، وآثر الدنيا على الآخرة، ومات كافرًا؛ النجاشي عرف الحق واتبعه، ووفَّقه الله لأن يُسلم ويكتم إسلامه، فنال خيرَي الدنيا والآخرة، بقي مَلِكًا على الحبشة ومات مسلمًا، وصلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وترحَّم عليه ووصفه بالصلاح؛ قال: إنه مات اليوم رجل صالح((رواه البخاري: 3877.

^28 رواه الطبراني في المعجم الكبير: 4994.
^29 رواه الطبراني في المعجم الكبير: 5546.
^30 رواه البخاري: 756، ومسلم: 394.
^31 رواه الحاكم في المستدرك: 1323، والبيهقي في السنن الكبرى: 6957.
^32 رواه أبو داود: 61، والترمذي: 3، وابن ماجه: 275، وأحمد: 1006.
^33 رواه مسلم: 963.
^34 رواه أبو داود: 3201، والترمذي: 1024، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 1986، وابن ماجه: 1498، وأحمد: 8809.
^35 رواه البخاري: 458، ومسلم: 956.
^36 رواه مسلم: 956.
^37 رواه البخاري: 1377، ومسلم: 588.
^38 رواه البخاري: 990، ومسلم: 749.
^39 رواه البخاري: 635، ومسلم: 603.
^40 رواه ابن ماجه: 4252، وأحمد: 3568.
^41 رواه النسائي: 1304.
^42 رواه الترمذي: 2453، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
^43 رواه أبو داود: 1468، والنسائي: 1015، وابن ماجه: 1342، وأحمد: 18494.
^44 رواه البخاري: 5048، ومسلم: 793.
^45 رواه النسائي في السنن الكبرى: 8004، وابن حبان: 7197.
zh