logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(29) فصل حمل الميت ودفنه فرض كفاية- من قوله: “ويكره أخذ الأجرة ..”

(29) فصل حمل الميت ودفنه فرض كفاية- من قوله: “ويكره أخذ الأجرة ..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

ننتقل بعد ذلك للتعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى قول المصنف رحمه الله: “وحَمْله ودَفْنه فرضُ كفاية”.

لا نزال في كتاب الجنائز.

حمل الميت ودفنه من فروض الكفايات

قال المصنف رحمه الله:

وحَمْله ودَفْنه فرضُ كفاية.

سبق أن قلنا: إن تغسيل الميت وتكفينه وحمله ودفنه والصلاة عليه؛ كل هذه من فروض الكفاية؛ إذا قام بها بعض المسلمين سقط الإثم عن الباقين، وإن تركوها أثموا جميعًا. لكن يسقط الحمل والدفن والتكفين بالكافر؛ أي: لو أن الكافر حمل الميت المسلم أو كفَّنه أو دفنه سقط الوجوب؛ لأن فاعل الحمل أو التكفين أو الدفن لا يختص بكونه من أهل القُربة، فلا يُشترط أن يكون مسلمًا؛ يعني المقصود: حمل الميت؛ يحمله أي شخص، حتى وإن كان غير مسلم، فإذا حمله غير مسلم فيسقط فرض الكفاية بحمل غير المسلم، وهكذا أيضًا بالنسبة للتكفين.

حُكم أخذ الأجرة على تكفين الميت وحمله ودفنه

قال:

ويُكرَه أخذ الأجرة على ذلك وعلى الغُسل.

أي: تُكرَه الأجرة على حمله ودفنه وتكفينه، وعلى تغسيله أيضًا؛ لأن هذه عبادة، فينبغي أن يبذلها الإنسان مجانًا بدون مقابل، ولكن هذا لا يَحرم، وإنما يُكره؛ فلو قال: لا أُغسِّله إلا بكذا، أو لا أُكفِّنه إلا بكذا، أو لا أَحمِله إلا بكذا؛ فلا بأس بذلك.

كيفية المشي مع الجنازة

قال:

وسُنَّ كون الماشي أمام الجنازة، والراكب خلفها، والقُرب منها أفضل.

لقول ابن عمر رضي الله عنهما: “رأيتُ النبي وأبا بكر وعمر وعثمان يمشون أمام الجنازة”[1] أخرجه أحمد والترمذي.

وفي حديث المغيرة : الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبًا منها، والسِّقط يُصلى عليه ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة[2] أخرجه أحمد وأبو داود.

فهذه هي السنة، وكما قال ابن القيم هي سنة النبي عليه الصلاة والسلام وسنة الخلفاء الراشدين من بعده؛ أن مَن كان راكبًا يكون خلف الجنازة، ومَن كان ماشيًا يكون قريبًا منها؛ إما أمامها، وإما خلفها، وإما عن يمينها، وإما عن شمالها قريبًا منها، والأمر في ذلك واسع. ولكن كما قال المصنف: “والقُرب منها أفضل”؛ كلما كان أقرب من الجنازة كان ذلك أفضل.

حُكم القيام للجنازة

قال:

ويُكرَه القيام لها.

أي: يُكرَه القيام للجنازة إذا مرت به؛ إذا مُرَّ بالجنازة يُكرَه القيام، وهذا قال به الجمهور؛ لقول عليٍّ  في شأن القيام للجنازة: “قام رسول الله ثم قعد”[3]؛ قالوا: فالأمر بالقيام للجنازة منسوخ بهذا الحديث، وقال بعض أهل العلم: إنه يجب القيام لها.

لاحِظ اختلاف الأقوال؛ هذا يُكرَه وهذا يجب، وهذا مرويٌّ عن بعض السلف؛ لقول النبي : إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمَن تبعها فلا يقعد حتى توضع[4] وهذا الحديث في الصحيحين. ومُرَّ بجنازة فقام لها النبي ، فقيل: إنها جنازة يهودي، قال: أليسَتْ نَفْسًا؟[5]، وفي رواية قال: إنَّ الموت فَزَعٌ، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا[6].

وقال بعض أهل العلم: إنه يُستحب القيام إذا رأى الجنازة، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، اختاره جَمْع من المحققين من أهل العلم، كابن تيمية وجَمْع من أهل العلم، وهذا هو القول الراجح: إنه يُستحب القيام عند رؤية الجنازة؛ وذلك لحديث أبي سعيد السابق: إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمَن تبعها فلا يقعد حتى توضع؛ وهذا أمرٌ، وأقل ما يُفيده الأمرُ الاستحبابَ.

وأما حديث عليٍّ : “قام رسول الله ثم قعد”؛ فالمراد بيان الجواز، وأنه ليس بواجب؛ ونظير ذلك مثلًا ما ورد من النهي عن الشرب قائمًا، ثم أن النبي شرب قائمًا ليُبيِّن الجواز. نظير ذلك مثلًا صلاة الوتر؛ قال: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا[7]، ثم إنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه صلى ركعتين بعد الوتر ليُبيِّن الجواز، فأحيانًا يفعل النبي عليه الصلاة والسلام أمورًا ليُبيِّن أن هذا الأمر ليس بواجب.

فالقول الراجح -والله أعلم-: إن القيام عند رؤية الجنازة مستحبٌّ لهذا الحديث؛ ومما يدل على ذلك أن العلة التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام: إن الموت فَزَعٌ، أليسَتْ نَفْسًا؟ هذا يَبْعُد معه جدًّا نسخ مثل هذا الحُكم؛ لأن هذه العلة تقتضي الاستمرار في هذا الحُكم، فهو بعيد. ثم أيضًا القول بالنسخ يحتاج معرفة المتقدم من المتأخر، وقول عليٍّ : “قام رسول الله ثم قعد” ليس بصريح في النسخ، إنما قعد النبي عليه الصلاة والسلام ليُبيِّن أن هذا ليس بواجب. وعلى هذا فالقول الراجح الذي تجتمع له الأدلة أن القيام عند رؤية الجنازة مستحبٌّ.

والحكمة من ذلك؛ ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: إن الموت فَزَعٌ أي: إن الموت يُفْزَعُ منه، إشارةً لاستعظامه؛ لئلَّا يتمادى الإنسان في الغفلة عند رؤية الموت؛ يعني: إن كونك ترى جنازة إنسان ميت يُمَرُّ به، وتكون في غفلة ولا تهتم؛ هذا يدل على تبلُّد الإحساس عند هذا الإنسان، إذا رأيتَ الجنازة ينبغي أن تَفْزَع وتقوم وتنظر لهذه الجنازة، وتَعْتَبِر وتَتَفَكَّر، وأن هذه الجنازة التي حُمِلَت على الأعناق سيكون يومًا من الأيام مصيرك مصيرها.

وهذه السُّنة قد غفل عنها كثيرٌ من الناس اليوم؛ تجد أنه يؤتى بالجنائز إلى المسجد ونحو ذلك، ويرى الناس الجنازة أمامهم ولا يقومون، وكثيرٌ منهم يجهلون هذه السُّنة، وبعضهم يتساهل، السُّنة إذا رأيتَ الجنازة أن تقوم؛ فمثلًا في المساجد التي يُصلى فيها على الجنائز يوضع حاجز، إذا أُزيل هذا الحاجز ورأيتَ الجنازة فالسُّنة أن تقوم عندما ترى الجنازة، أو عندما يؤتى بالجنازة مثلًا، أحيانًا يكون الإنسان في المسجد أو في المقبرة ويؤتى بالجنازة، متى ما رأيتَ الجنازة فالسُّنة أن تقوم، هذه هي السُّنة، وأن تَعْتَبِر؛ ولهذا لما مُرَّ بجنازة يهودي قام النبي عليه الصلاة والسلام، فقيل: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، قال: أليسَتْ نَفْسًا؟، إن الموت فَزَعٌ؛ يعني: فيه إشارة للحكمة؛ أنه ينبغي للإنسان إذا رأى ميتًا أن يَفْزَع، وأن يتفكر، وأن يَعْتَبِر، وألَّا يكون مُتبلِّدَ الإحساس.

حُكم رفع الصوت عند حمل الجنازة

قال:

ورفع الصوت معها ولو بالذِّكر والقرآن.

أي: يُكرَه رفعُ الصوت عند حمل الجنازة، ولو كان ما يُرفَع به الصوت من الذِّكر أو القرآن؛ لحديث أبي هريرة  أن النبي قال: لا تُتْبَع الجنازة بصوت ولا نار[8] أخرجه أحمد وأبو داود، وهذا الحديث ضعيف.

وأيضًا جاء عن قيس بن عبَّاد: “كان أصحاب النبي يكرهون رفع الصوت عند الجنائز، وعند القتال، وعند الذِّكر”[9]، وإن كانت الأحاديث الواردة في هذا ضعيفة، لكن عمل أهل العلم على كراهة رفع الصوت عند الجنازة؛ وذلك لأن رفع الصوت يُنافي الأدب المطلوب عند حضور الجنازة من الخضوع والاستكانة والتذكر والاعتبار. وبعض الناس في بعض البلدان يرفعون أصواتهم؛ بعضهم يقرأ القرآن، وبعضهم يأتون حتى بقصائد أثناء حمل الميت، وبعضهم يرفعون صوتهم بـ”لا إله إلا الله”؛ هذا كله خلاف السنة، يُكرَه رفع الصوت، ينبغي أن يحملوا الجنازة وعليهم السكينة والوقار والخضوع والاستكانة، ولا يرفعون أصواتهم -ولو بالقرآن، ولو بالذِّكر، ولو من باب تذكير الناس أو نحو ذلك-؛ بعض الناس إذا حملوا الجنازة يقولون: “لا إله إلا الله، لا إله إلا الله”، هذا مكروه، فلا داعي لرفع الصوت، يحملون الجنازة وعليهم الخشوع والخضوع والاستكانة.

حُكم تعميق القبر

قال:

وسُنَّ أن يُعمَّق القبر ويُوَسَّع بلا حدٍّ.

السنة تعميق القبر؛ لقول النبي : احفروا وأَوْسِعوا[10]، وفي رواية: وأَعْمِقوا، وهل هذا التعميق أو الحَفر له حدٌّ؟ هذا ورَدَنا فيه سؤالٌ الأسبوع الماضي، ووعَدْنا بالإجابة عنه في هذا الدرس. هنا المؤلف يقول: “بلا حدٍّ”؛ وهذا أراد به المؤلف أن يَرُد على مَن حدَّد ذلك من العلماء بأن يكون بطول القامَة، وهذا التحديد لا دليل عليه، وقد يكون شاقًّا، والصواب هو ما أقرَّهُ المصنف رحمه الله -وهو المذهب عند الحنابلة-؛ أن ذلك بلا حدٍّ؛ لعدم الدليل الدالّ على التحديد، والتحديد بابُه التوقيف، ولم يرد في هذه المسألة تحديدٌ لمقدار تعميق القبر.

الحد الأدنى للتعميق

قال:

ويكفي.

يعني: الحد الأدنى للتعميق.

ما يَمنَع السباع والرائحة.

القدر الواجب في حفر القبر أن يكون بقدر ما يمنع خروج الرائحة من القبر، ويحمي الجثة من أن تأكلها السباع؛ لأن الإنسان بعدما يوضع في قبره ينتفخ بطنه، ثم ينفجر، ثم تأتيه الديدان. سبحان الله! هذا البدن الذي يَتعَب الإنسانُ في تنظيفه وفي تنعيمه وفي المحافظة عليه؛ تأتيه الديدان وتنهش هذا البدن، تبدأ في أكل اللحم، فيَفْنَى اللحم بعد ذلك، ولا يتبقى إلا العظام، ثم هذه العظام أيضًا مع مرور الوقت تَفْنَى إلى أن تنتهي، ولا يبقى إلا “عَجْب الذَّنَب”، وهو العُصْعُص (آخر العمود الفقري)، ومنه يُركَّب الخَلق يوم القيامة. ويُستثنى من ذلك الأنبياء، ومَن شاء الله من الصديقين والشهداء والصالحين؛ فإن هؤلاء لا تأكل الأرضُ أجسادَهم.

حُكم إدخال الخشب وما مسته النار في القبر

قال:

وكُرِهَ: إدخالُ القبرِ خشبًا، وما مَسَّته نارٌ، ووَضْعُ فِرَاشٍ تحته، وجَعْلُ مِخَدَّةٍ تحت رأسه.

لقول إبراهيم النخعي: “كانوا يَستحِبون الَّلبِن، ويكرهون الآجُر، ويَستحِبون القصب، ويكرهون الخشب”[11]، والآجُر: هو الحجارة أو الطين الذي مسَّته نار؛ كل هذا مكروه. ورُوي عن ابن عباس أنه كَرِه أن يُلقى تحت الميت في القبر شيءٌ[12]. فإذَن؛ يُكرَه أن يوضع في القبر خشب، أو يوضع فيه مثلًا إسمنت، أو يوضع فيه بلاط، أو ما مسَّته نار عمومًا؛ هذا كله مكروه، إلا عند الحاجة لذلك، فإنه عند الحاجة تزول الكراهة.

وقوله: “ووَضْعُ فِرَاشٍ تحته، وجَعْلُ مِخَدَّةٍ تحت رأسه”؛ يعني: هذا مكروه، لكن يُشكِل على هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما: “أنه جُعِلَ في قبر النبي قطيفة حمراء”[13] وهذا رواه مسلم. وجاء عند أبي داود أن الذي وضعها شَقْران مولى النبي [14]، وهذا يدل على أن الأمر فيه سعة؛ يعني: إذا وُجِد مثلًا فِرَاش أو مِخَدَّة أو نحو ذلك فلا بأس؛ لأن شَقْران وضع في قبر النبي عليه الصلاة والسلام قطيفة حمراء، وأقرَّه الصحابة على ذلك، ولو كان منكرًا لما أقرَّه الصحابة على ذلك، لكن ينبغي عدم التوسع في هذا.

السنة عند وضع الميت في القبر

قال:

وسُنَّ قولُ مُدْخِلِه القبرَ: باسم الله، وعلى مِلَّةِ رسول الله.

وقد ورد في هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما: إذا وضعتم موتاكم في القبر؛ فقولوا: باسم الله، وعلى ملة رسول الله[15]. إذَن؛ السنة عند وضع الميت في القبر أن يُؤتى بهذا الذِّكر.

قال:

ويجب أن يَستقبل به القبلة، ويُسَنُّ على جنبه الأيمن.

لِمَا رُوي عن النبي أنه قال عن الكعبة: قِبْلَتكم أحياءً وأمواتًا[16]، وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا إلا أن عمل المسلمين عليه من قديم الزمان، ويُشبِه أن يكون إجماعًا عمليًّا من المسلمين؛ توارثوه جيلًا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن.

بعض الناس يقول: “لا بد لكل مسألة من حديث صحيح”؛ كثيرٌ من المسائل ليس فيها أحاديث صحيحة -كهذه المسألة مثلًا-؛ أن الميت يوضع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، لا يوجد فيه حديث صحيح، لكنَّ عَمَلَ المسلمين على هذا، ويُشبِه أن يكون إجماعًا عمليًّا، العلماء في كل زمان يقولون بهذا، فعملوا بهذا الحديث الضعيف. فبعض الأحاديث الضعيفة يُعمَل بها إذا تلقتها الأمة بالقبول، وعمل بها الأئمة، وعمل بها أهل العلم؛ ولذلك مَن سيأخذ بهذه المقولة (لا بد لكل مسألة من حديث صحيح، وأني لا يمكن أن أطبق شيئًا إلا بحديث صحيح) ستَرِد عليه إشكالات كثيرة؛ ولذلك لا بد من الرجوع لفَهْم الأئمة وفَهْم السلف وفَهْم العلماء وكلام العلماء؛ ماذا فهموا من هذه المسألة، وكيف فهموها، وكيف عملوا بها؟

أما أن الإنسان يريد أن يقدح من رأسه مباشرةً يقول: “أنا أريد أن آخذ من النص مباشرةً”؛ هذا فيه مزالق وفيه خطورة على الإنسان، ربما تَزِل به القدم، وهذا هو الذي أوقَعَ بعض الفِرَق المنحرفة من الخوارج والمعتزلة والمرجئة؛ أنهم يقولون: نريد أن نأخذ من النص مباشرةً، ويَطَّرحون فَهْم الأئمة وفَهْم العلماء السابقين! لا بد أن نفهم الشريعة ونفهم النصوص كما فهمها السلف؛ كما فهمها الصحابة، والتابعون، والتابعون لهم بإحسان، وأئمة الإسلام والهدى، نفهمها كما فهموها، ونعمل بها كما عملوا بها، فَهُم أُسْوتنا وقدوتنا في ذلك كله.

حُكم دفن غيره عليه أو معه إلا لضرورة

قال:

ويحرم دفنُ غيره عليه أو معه إلا لضرورة.

يعني: يحرم دفن أكثر من ميت في قبرٍ واحد إلا للضرورة؛ لأن النبي إنما كان يدفن كل ميتٍ في قبرٍ مستقل، لكن لو وُجدت ضرورة ككثرة الموتى فلا بأس؛ لأنه عليه الصلاة والسلام في قتلى أُحُد كان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويُقدِّم أكثرهم أخذًا للقرآن. فلو كان عدد الأموات كثيرًا، وكانت هناك مشقة في أن يُدفن كل ميت في قبرٍ واحد؛ فلا بأس بأن يُدفن الاثنان والثلاثة في القبر الواحد، ويُقدَّم أكثرهم أخذًا للقرآن. أما عند عدم وجود الضرورة فالأصل أن الميت الواحد يكون في قبرٍ واحد، ولا يُجعل في القبر الواحد أكثر من ميت.

يُسَنُّ حَثْو التراب عليه ثلاثًا

قال:

ويُسَنُّ حَثْو التراب عليه ثلاثًا، ثم يُهال.

أي: يُستحب لمَن حضر دفن الميت أن يحثو عليه التراب ثلاث حَثَيات، ثم يُهال عليه التراب بعد ذلك؛ وقد رُوي في ذلك حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى على جنازة، ثم أتى على قبر الميت فَحَثَا عليه من قِبَل رأسه ثلاثًا[17] أخرجه ابن ماجه، لكن هذا الحديث ضعيف، بل قال أبو حاتم: “إنه باطل”. لكن تبقى المشاركة في حَثْو التراب مشاركةً في دفن الميت، فهي مشروعة من غير تقييدٍ بثلاث حَثَيات.

تلقين الميت بعد الدفن

قال:

واستَحَبَّ الأكثرُ تلقينه بعد الدفن.

يعني بعدما يُدفن؛ يُقال: “يا فلان، إذا أتاك المَلَك فقال: مَن ربك؟ قل: ربي الله، إذا قال: مَن نبيك؟ قل: نبيي محمد، إذا قال: ما دينك؟ قل: ديني الإسلام”؛ فيرى المؤلف أنه مستحب، ورُوي في ذلك حديث أبي أمامة لكنه ضعيفٌ لا يصح، ورُوي مِن فعل بعض التابعين. وقال ابن تيمية رحمه الله: “الأقوال في هذه المسألة ثلاثةٌ؛ الكراهة والاستحباب والإباحة، وهو أعدل الأقوال”، ولكن العبادات لا تثبت إلا بالتوقيف على النبي ، فالقول باستحباب ذلك يحتاج إلى دليلٍ ظاهر، أو -على الأقل- آثار عن الصحابة ، ولم يرد في هذا شيءٌ عن الصحابة، إنما رُوي ذلك عن بعض التابعين؛ ولذلك فالأقرب -والله أعلم- أنه غير مشروع؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيءٌ عن النبي ، ولم يرد عن أحدٍ من صحابة النبي ، فالأقرب في تلقين الميت بعد موته أنه غير مشروع.

رشُّ القبر بالماء

قال:

وسُنَّ رشُّ القبر بالماء.

أي: بعد الدفن؛ لِمَا رُوي أن النبي رشَّ على قبر سعدٍ ماءً[18]؛ وهذا الحديث ضعيفٌ، لكن عليه عمل المسلمين، كما قلنا قبل قليل: إن بعض المعاني الأحاديث المروية فيها ضعيفة، لكن عمل المسلمين عليها، يُشبِه أن يكون ذلك إجماعًا عمليًّا من المسلمين؛ تلقَّوْه جيلًا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن.

رَفْعه قدر شبرٍ

قال:

ورَفْعه قدر شبرٍ.

أي: يُسَنُّ رفع القبر قدر شبرٍ؛ لحديث جابر أن النبي أُلْحِدَ، ونُصِبَ عليه اللَّبِن نصبًا، ورُفع قبره من الأرض نحوًا من شبر[19].

ويُسَنَّم القبر؛ أي: يُجعل على هيئة سنام البعير؛ بأن يكون وسطه بارزًا على أطرافه؛ لِمَا جاء عن سفيان التمَّار قال: “رأيتُ قبر النبي مُسَنَّمًا”[20]. وهذا أيضًا هو الذي عليه عمل المسلمين؛ أنه يُجعل القبر على هيئة سنام، ويُرفع على قدر شبرٍ، لا يُزاد أكثر من شبرٍ، إنما بقدر شبرٍ هكذا، لكن لو زاد قليلًا أو نقص قليلًا، فالأمر في هذا واسع.

حُكم تزويقه وتجصيصه وتبخيره

قال:

ويُكرَه تزويقه وتجصيصه وتبخيره.

لحديث جابر قال: “نهى رسول الله عن أن يُجصَّص القبر، وأن يُقعَد عليه، وأن يُبنى عليه”[21] رواه مسلم؛ وظاهر كلام المؤلف أن هذا مكروه، والصواب أنه محرم؛ لأن الأصل في النهي أنه يقتضي التحريم؛ ولأن هذا قد يُفضي إلى الوقوع في الشرك وعبادة القبور من دون الله ​​​​​​​، البناء على القبور وتجصيصها والقعود عليها هذا ذريعة للشرك؛ لهذا فالصواب أن هذا العمل محرم.

حُكم الطواف بالقبر وتقبيله

قال:

وتقبيله، والطواف به.

ظاهر كلام المؤلف أنه مكروه، والصواب أنه محرم، بل إن الطواف بالقبر وتقبيله ذريعة عظيمة إلى الوقوع في الشرك وعبادة صاحب القبر من دون الله ؛ فإن الذين يعبدون الأصنام يُقِرُّون بأن الله الخالق الرازق المُدبِّر للكون؛ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، لكن يقولون: “هذه أصنامُ أُناس صالحين، نريد أن تكون واسطةً بيننا وبين الله، تُقرِّبنا إلى الله”؛ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

ما الفرق بينهم وبين الذين يطوفون بالقبر، ويُقبِّلونه، ويقولون: “إن هذا القبر قبرُ رجلٍ صالح، نريد أن يشفع لنا عند الله، أن يكون واسطةً بيننا وبين الله”؛ هل هناك فرق بينهم وبين شرك المشركين الأولين؟ لا فرق. ولهذا؛ الله تعالى بعث الأنبياء والرسل ليس لأَجْل تعريف الناس بوجود الله، لأن الناس يعرفون أن الله هو الخالق المُدبِّر للكون؛ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].

إذَن؛ ما المشكلة عند الناس التي لأَجْلها بعثَ اللهُ الأنبياء والرسل؟ هو الانحراف في العقيدة؛ عندهم انحراف في العقيدة، اتخذوا أصنامًا، وقالوا: “نريد أن تشفع لنا هذه الأصنام عند الله”؛ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ [الزمر:3]، نريد أن تقرِّبنا هذه الأصنام إلى الله؛ هذا هو شرك الأولين، وهذا يدلنا على خطورة الانحراف في العقيدة، فشرك الأولين هو انحراف في العقيدة، وإلا فهم يُقِرُّون بأن الله الخالق الرازق المُدبِّر لهذا الكون، لكن يقولون: “نريد أن تشفع لنا هذه الأصنام عند الله”؛ لا فرق بينهم وبين مَن يطوفون بالقبور، ويسألون أصحاب القبور قضاء الحاجات وتفريج الكربات؛ لأنهم يقولون: “هذه قبور أُناس صالحين، نريد أن تشفع لنا عند الله”، هذا هو الشرك الذي هو أعظم الذنوب، أعظم ذنبٍ عُصي الله به؛ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72]، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].

فإذَن؛ الطواف بالقبور ودعاء أصحاب القبور من دون الله هذا محرم، وهذا يُفضي إلى عبادتها من دون الله ، كما وقع من مشركي الأمم السابقة.

يُكرَه الاتكاء على القبر والمبيت عنده

قال:

والاتكاء عليه والمبيت.

أي: يُكرَه الاتكاء على القبر والمبيت عنده؛ لِمَا جاء عن عمرو بن حزمٍ قال: رآني رسول الله متكئًا على قبرٍ، فقال: لا تَؤذِ صاحب القبر[22]، ولِمَا فيه من التعدي على الميت، وهكذا أيضًا المبيت عنده.

حُكم الضحك عند القبر والحديث بأمر الدنيا

قال:

والضحك عنده، والحديث بأمر الدنيا.

الضحك عند القبر والحديث في المقبرة في أمور الدنيا مكروه؛ لأنه لا يليق فعلُ ذلك عند القبر؛ وجاء في حديث البراء قال: “خرجنا مع رسول الله في جنازة، فانتهينا إلى القبر، فجلس وجلسنا كأن على رؤوسنا الطير”[23]؛ هذا هو الذي يليق بمَن كان في المقبرة ومَن حضر دفن الميت؛ أن يكون وكأن على رأسه الطير. وأما ما يُلاحَظ من بعض الناس؛ أنهم يتحدثون في أمور الدنيا، وبعضهم يدعو الناس إلى وليمة في المقبرة، وبعض الناس يسأله عن أمور البناء، وعن أمور الدنيا، وهو في المقبرة، وربما يُسمَع لبعضهم ضحكات؛ فهذا يُنافي هذا المقام، هذا الأمر مكروه. فينبغي لمَن كان في المقبرة أن يكون عليه الخشوع كأن على رأسه الطير، ولا يليق به أن يتحدث في أمرٍ من أمور الدنيا وهو في المقبرة، أو أن يضحك وهو في المقبرة، هذا لا يليق بهذا المقام؛ ولهذا قال أهل العلم: إن هذه الأمور مكروهة.

حُكم الكتابة على القبر والجلوس والبناء

قال:

والكتابة عليه، والجلوس، والبناء.

كل هذه مكروهة؛ لحديث جابر قال: “نهى رسول الله أن يُبنى على القبر، أو يُزاد عليه، أو يُجصَّص، أو يُكتب عليه”[24]، وفي رواية: “وأن يُقعَد عليه”[25]، لكن لا بأس بتعليم القبر.

قوله: “والبناء”؛ الصواب أن البناء على القبر محرم -كما سبق-؛ وَضْع بنايات على القبور، ووَضْع مزارات، ووَضْع قِبَب؛ هذا كله لا يجوز، ولهذا فما يُرى من هذه المشاهد وهذه القِبَب على القبور؛ كل ذلك أمور مخالفة للشريعة.

ومن باب التحدث بنعمة الله ؛ عندنا في المملكة العربية السعودية لا يوجد على القبور قِبَب، ولا يوجد عليها بنايات ولا مشاهد، وإنما هي على وَفْق السُّنة؛ فهذا من نعم الله علينا، وعلينا أن نحافظ على هذه النعمة وأن نشكره عليها؛ فالواجب على المسلمين في كل مكان أن يحرصوا على تطبيق السُّنة، وألَّا يوضع بناءٌ على القبور؛ لأن البناء على القبور قد ورد النهي عنه، ولأنه من أسباب تعظيم تلك القبور، وعبادتها من دون الله ، ووقوع الشرك عندها.

لكن لا بأس بتعليم القبر بحجرٍ أو خشبةٍ يُعرَف بها؛ فقد رُوي أن النبي وضع حجرًا عند قبر عثمان بن مظعون بعد موته، وقال: أتعلَّم به قبرَ أخي، وأدفنُ إليه مَن مات من أهلي[26] أخرجه أبو داود، وفي سنده مقال. لكن احتج به الإمام أحمد؛ وقال: “لا بأس أن يُعلِّمَ الرجلُ القبرَ علامةً يعرفه بها، فقد علَّم النبي قبر عثمان بن مظعون”؛ وعلى هذا لا بأس بترقيم القبور (توضع أرقام: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة)، ويكون عند المُشرِف على هذه المقبرة أسماءُ أصحاب القبور؛ فيقول مثلًا لأهل هذا المُتوفَّى: “قبر أبيكم هو رقم عشرة”، وإذا أتَوا لزيارته يعرفون قبره مباشرةً، أو يسألون صاحب المقبرة عن الرقم، فوَضْع الأرقام على القبور لا بأس به؛ لأن وضع الخشبة مثلًا أو الحجر قد يتغير، الحجر قد يتغير، والخشبة كذلك، خاصةً عوامل التعرية، فوَضْع أرقام ربما يكون أيسر على أهل الميت؛ ولهذا لا بأس بترقيم القبور، لكن لا يُكتَب عليها، ولا يُبنى عليها، وإنما مجرد أرقام فقط.

المشي بين القبور بالنعال

قال:

والمشي بالنعل إلا لخوفِ شوكٍ ونحوه.

أي: يُكرَه المشي بين القبور بالنعال إلا لعذرٍ كالخوف من الشوك ونحوه. هذه مسألة اختلف فيها العلماء، فالمذهب عند الحنابلة أنه يُكرَه إلا لخوفِ شوكٍ ونحوه؛ لأن النبي لما رأى رجلًا يمشي بين القبور في نعليه، قال: يا صاحبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ، أَلْقِهِمَا[27]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بسندٍ حسن، وهذا القول من مفردات المذهب عند الحنابلة، وذهب جمهور الفقهاء من الحنيفة والمالكية والشافعية إلى أن ذلك مباح وليس مكروهًا، واستدلوا بحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي أخبر عن الميت؛ قال: إن العبد إذا وُضع في قبره، وتولَّى عنه أصحابه؛ إنه لَيَسْمَع قَرْعَ نعالهم[28]؛ قالوا: هذا دليلٌ على أن المُشيِّعين للجنازة عليهم نعال، لكن هذا الاستدلال محل نظر؛ لأن هذه حكاية واقع، لا تدل لا على الجواز ولا على نفي الكراهة.

والقول الراجح -والله أعلم-: هو ما ذهب إليه الحنابلة؛ من أن ذلك مكروهٌ إلا لخوفِ شوكٍ أو شدةِ حَرٍّ ونحو ذلك. وعلى ذلك؛ الآن المقابر كثيرٌ منها يحتاج الإنسان إلى لُبْس النعال؛ لأنها تكون تُرابية، ويكون فيها أشواك، وأحيانًا تكون في شدة الحَر، فيحتاج الإنسان إلى أن يلبس النعال اتقاءً لذلك، لكن لو قُدِّر أنه لم يَحتَجْ إلى لُبْس النعلين، فكونه يمشي في المقبرة بدون نعال هذا هو الأفضل.

حُكم إسراج المقابر

قال:

ويحرم إسراج المقابر.

لِوُرُود النهي عن ذلك؛ ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: “لعن رسول الله زائرات القبور، والمُتخِذين عليها المساجدَ والسُّرُجَ”[29]، إلا لحاجة؛ كأن يُراد من ذلك مثلًا التنوير على المُشيِّعين للجنازة، مَن يُشيِّع الجنازة توضع له إضاءة أو نحو ذلك؛ لأجل أن تُساعدهم في دفن الميت، لا بأس، لكن مُراد المؤلف بإسراج المقابر كما يُفعَل في بعض البلدان؛ بأن تكون المقابر لها إضاءة عالية، ولها مصابيح، ولها زخرفة…، هذا هو الذي يُنهى عنه.

حُكم الدفن بالمساجد

قال:

والدفن بالمساجد.

يعني: يحرم الدفن بالمساجد؛ لقول النبي : لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[30]؛ يُحذِّر مما صنعوا. وقال قبل أن يموت بخمسٍ: ألَا وإنَّ مَن كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد؛ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك[31] رواه مسلم. وإذا وُضِع القبر في المسجد؛ فإن كان القبر سابقًا للمسجد فيُهدَم المسجد، ولا تجوز الصلاة فيه، وإن كان المسجد هو السابق للقبر فيجب نبش هذا القبر ونقله إلى مكانٍ آخر.

حُكم الدفن في مُلْك غيره

قال:

وفي مُلْك الغير، ويُنبَش.

يعني: يحرم الدفن في مُلْك غيره؛ لأنه تصرفٌ في مُلْك الغير بغير إذنه، وإذا دُفِنَ فيه فإنه يُنبَش ويُخرَج إذا لم يأذن له صاحب المُلك.

الدفن بالصحراء أفضل

قال:

والدفن بالصحراء أفضل.

السنة اتخاذ مقبرة يُدفَن فيها الأموات، وأن تكون في الصحراء قريبة من البنيان، كما كان عليه الأمر في عهد النبوة.

حُكم شق بطن الميتة لإخراج الجنين

قال:

وإن ماتت الحاملُ حَرُمَ شَقُّ بطنها، وأخرجَ النساءُ مَن تُرجى حياته، فإن تعذَّر لم تُدفَن حتى يموت، وإن خرج بعضه حيًّا شُقَّ للباقي.

المؤلف يتكلم عن مسألة موجودة في زمانه لمَّا كان الطبُّ لم يتقدم مثلما هو عليه الآن في وقتنا الحاضر؛ فيقول: إن بطن الحامل إذا تعسَّرت ولادتُها يحرم شَقُّ بطنها لإخراج الولد؛ لأنه هتكٌ لحُرمةٍ مُتيَقَّنة لإبقاءِ حياةٍ مُتوَهَّمة، هكذا عللوا. أما في وقتنا الحاضر -مع وجود الأشعة ومع تقدم الطب- فيُخرَج الجنين أصلًا قبل وفاة أمه بالعملية القيصرية، فلا نحتاج إلى ما ذكره الفقهاء في هذه المسألة. ونقول: الأمر في وقتنا الحاضر يرجع إلى نظر الطبيب، فيفعل ما يرى فيه المصلحة، والفقهاء يصنفون مصنفات مناسبة لزمنهم، ويذكرون مثل هذه المسائل المناسبة لزمنهم.

ولذلك؛ الفقهاء المعاصرون ينبغي كذلك أن يكون لهم تصنيف مناسب لزمنهم، ويُلاحَظ الآن قلة المتون الفقهية؛ يعني: الفقهاء السابقون صنفوا متونًا فقهية، وكل فقيه يُصنِّف متونًا مناسبة لزمنه، يذكر بعض المسائل المعاصرة أو النوازل المناسبة لزمنه؛ لكن في وقتنا الحاضر يوجد مصنفات ومؤلفات في النوازل والمسائل المعاصرة، لكن متون على طريقة الفقهاء لا يكاد يوجد، إلا ما نَدَر؛ ولذلك -بإذن الله – سأعمل متنًا فقهيًّا يَجمع جُلَّ المسائل المتقدمة، وأيضًا معظم المسائل المعاصرة، بحيث تكون مركزةً في هذا المتن؛ يعني مثلًا: مُفطِّرات الصيام المعاصرة أجمعها في بضعة أسطر؛ بحيث مَن يقرأها يستطيع أن يعرف جميع مُفطِّرات الصيام المعاصرة، وهكذا. نسأل الله أن يُيَسِّر إخراجه، وأن يُعيننا على ذلك.

تعزية أهل الميت

آخر فصلٍ من كتاب الجنائز، في الكلام عن التعزية وما يتعلق بها؛ قال المصنف رحمه الله:

تُسَنُّ تعزية الميت إلى ثلاثة أيام.

تعزية الميت سُنَّة؛ قد ورد في فضلها حديثُ: ما من مؤمنٍ يُعَزِّي أخاه بمصيبةٍ إلا كساه الله من حُلَل الكرامة يوم القيامة[32]، لكنه حديثٌ ضعيف، أخرجه ابن ماجه، وهو حديثٌ ضعيف، وأيضًا حديث ابن مسعود : من عَزَّى مُصابًا فله مثلُ أجره[33] أخرجه الترمذي وابن ماجه، لكنه أيضًا ضعيف. فلا يثبت في فضل التعزية شيء، لكنها تبقى من حقوق المسلم على المسلم؛ لِمَا فيها من جبر مُصابه، ومواساته؛ ولذلك فإن المسلم عندما يُصاب بمصيبة يأنس بمَن يُعزِّيه، ويزول عنه كثيرٌ من أثر المصيبة؛ ولهذا بعدما تنتهي فترة العزاء يعود إليه الحزن؛ لأنه فَقَدَ الأُنس الذي يجده من هؤلاء المُعَزِّين، وهذا يدل على أن للتعزية أثرًا عظيمًا في نفس مَن يُعزَّى، فهي سُنَّة مؤكدة، ومن حق المسلم على المسلم.

وهنا حدَّد المؤلفُ التعزية بثلاثة أيام؛ قالوا: لأنها مدة الإحداد على غير الزوج؛ لقول النبي : لا يَحِل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميتٍ فوق ثلاث[34] متفق عليه؛ ولأن وقت المصيبة في الغالب يكون في حدود ثلاثة أيام، وبعدها يزول أثرُ المصيبة أو يَخِفُّ.

لكن التحديد بابُه التوقيف، هذا التحديد يحتاج إلى دليل، وقياسه على الإحداد قياسٌ مع الفارق؛ ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى عدم تحديد وقت التعزية بثلاثة أيام، وأن التعزية مرتبطة بالمصيبة، فما دام أثر المصيبة باقيًا على المُصاب فإن تعزيته مستحبة، فإذا زال أثر المصيبة فلا تُستحب تعزيته؛ وهذا هو القول الراجح في المسألة. وهذا يرجع إلى حال المُصاب؛ فمثلًا مَن أُصيب في وفاة قريبٍ له أو عزيز بصورةٍ مُفاجِئةٍ، فهذا ربما يبقى أثر المصيبة عليه مدةً طويلةً، خاصةً إذا فَقَدَ ابنه أو ابنته أو أباه أو أُمه أو زوجته، فيكون أثر المصيبة طويلًا إذا كان هذا الفقد فجأة، لكن أحيانًا يكون هذا القريب ليس قريبًا مباشرًا، يكون ابن عمٍّ مثلًا له بعيد، وربما كان مريضًا أيضًا من قبل، فلا يكون أثر المصيبة كبيرًا؛ ولذلك فالقول الراجح: إن التعزية لا تُحدَّد بمدة معينة، ولكن لا يُعزَّى بعد مدةٍ طويلةٍ عُرفًا؛ يعني: لا يُعزَّى مثلًا بعد سنة ونحو ذلك من المُدَد الطويلة.

لكن المدة التي يغلب على الظن بقاء أثر المصيبة لا بأس بالتعزية فيها؛ يعني: مثلًا إنسان عَزَّى بعد وفاة الميت بأربعة أو خمسة أيام؛ لا بأس. طيب، لو كانت المسألة بالعكس؛ أراد أن يُعزِّي قبل دفن الميت؛ أيضًا لا بأس، بعض العامة يعتقد أن التعزية بعد الدفن، هذا غير صحيح، التعزية مرتبطة بالمصيبة، التعزية تكون قبل دفن الميت، وتكون بعد دفن الميت، فما دام أثر المصيبة باقيًا فالتعزية مشروعة.

صيغة التعزية

ثم بَيَّن المؤلف صيغة التعزية؛ قال:

فيُقال له: أَعظَمَ اللهُ أجرك، وأَحسَنَ عزاءك، وغَفَرَ لميتك.

وهذا قد جاء في حديثٍ لكنه ضعيف؛ أن النبي عزَّى رجلًا فقال: يرحمه الله ويَأجُرك[35]؛ وعلى هذا فالتعزية لم يثبت فيها لفظ معين عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن قال أهل العلم: إن أحسن ما يُقال في التعزية هو قول النبي لابنته عند وفاةِ ابنها: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمًّى؛ فَلْتصبري وتحتسبي[36]؛ قالها لابنته، فإذا أردتَّ أن تُعزِّي أحدًا؛ فالأفضل أن تقول: “إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجل مُسمًّى؛ فاصبر واحتسب”. ولا بأس أن تقول: “أَحسَنَ الله عزاءك”، أو “أَعظَمَ الله أجرك”، أو نحو ذلك من العبارات. قال النووي: وأحسن ما يُعزَّى به…، ثم ذكر الحديث السابق: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى…؛ فالأمر في هذا واسع، يؤتى بعبارات مناسبة للمقام: “أحسَنَ الله عزاءك، جَبَرَ مُصابك، غَفَرَ لميتك”، أو “إن لله ما أخذ، وله ما أعطى”، أو نحو ذلك من العبارات.

قال:

ويقول هو: استجاب الله دعاءك، ورحمنا وإياك.

هذا جواب المُصاب، والأمر في هذا واسع، لكن الأفضل هو أن يقول ما ذكرنا، وأن يُجيبه بأية عبارة يرى أنها مناسبة؛ كأن يقول: “استجاب الله دعاءك”، أو يقول: “جزاك الله خيرًا”، أو نحو ذلك.

البكاء على الميت

قال:

ولا بأس بالبكاء على الميت.

يعني: من غير رفع صوت لا بأس؛ وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى، فأتاه النبيُّ يعوده مع عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود، فلما دخل عليه وَجَدَه في غاشية أهله، [أي: عنده أهلُهُ الذين يَغْشَوْنه ويَحضُرون لخدمته]، فقال: قد قضى؟ [يعني: قد مات؟]، قالوا: لا يا رسول، فبكى النبيُّ ، ولما رأى القومُ بكاءَ النبيِّ بَكَوْا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يُعذِّبُ بدمع العين، ولا بحُزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم[37]؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام بكى، وبكى الصحابة، لكن من غير رفع صوتٍ.

ولما حضر النبيُّ وفاة ابن ابنته زينب رضي الله عنها فاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء[38]؛ فدمعُ العين والبكاءُ من غير رفع صوتٍ لا بأس به.

الفضيل بن عياض لما مات ابنه جعل في المقبرة يضحك، فقيل له في ذلك، قال: “إن الله قد قضى بقضاءٍ، فرضيتُ بقضائه وقدره”؛ يعني: فأردتُّ أن أُعبِّرَ عن ذلك بالضحك. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: مقام النبي أعظم من مقام الفضيل بن عياض؛ لأن النبي لما مات ابنه دمعت عيناه، وقال: إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمَحزونون[39]، مع رضاه التام، فجمعَ بين الرحمة والرضا. بينما الفضيل بن عياض لم يستطع الجمع بينهما، فغلَّبَ جانب الرضا على الرحمة؛ ولهذا كان مقام النبي أعظم وأفضل من مقام الفضيل بن عياض.

الندب والنياحة على الميت

قال:

ويحرم الندب؛ وهو البكاء مع تَعْداد محاسن الميت.

يعني: إذا صَحِبَ البكاءَ تَعْدادُ محاسن الميت فهذا ندبٌ، وهو محرم؛ لأنه ينافي الصبر؛ فجاء في حديث أبي موسى أن النبي قال: ما من ميتٍ يموت فيقوم باكيه، فيقول: وا جَبَلَاه، وا سَيِّدَاه! ونحو ذلك؛ إلا وُكِّلَ به ملكان يَلْهَزَانِه: أهكذا كنتَ؟[40]؛ يعني: يضربانه ويدفعانه؛ فهذا يدل على تأذِّي الميت من ذلك.

قال:

والنياحةُ؛ وهي رفعُ الصوتِ بذلك بِرَنَّة.

يعني: محرمة؛ النياحة: هي رفع الصوت بِرَنَّة؛ يعني: بنَوْحٍ يُشبه نَوْح الحمام، فهي من كبائر الذنوب؛ وقد جاء في حديث أم عطية رضي الله عنها: “أخذ علينا رسولُ الله يوم البيعةِ ألا نَنُوح”[41] رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة : اثنتان في الناس هما بهما كُفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت[42]؛ وهذا يدل على أنها كبيرة؛ لأنه وَصَفها بالكفر، وإن كان كفرًا أصغر، إلا أن هذا يقتضي أنها من كبائر الذنوب. وفي حديث أبي مالك : النائحة إذا لم تَتُب قبل موتها؛ تُقام يوم القيامة وعليها سِربالٌ من قَطِران، ودِرعٌ من جَرَب[43] رواه مسلم؛ ولأن النياحة تُشعِر بتسخُّط المُصاب من قضاء الله وقدره واعتراضه عليه.

وإنما اختُصَّت النائحة بذلك مع أن النَّوْح قد يقع من الرجال أيضًا؛ لأن النياحة غالبًا في النساء لضعفهنَّ، وإلا فالرجال مثلهنَّ إذا ناحوا على الميت؛ يعني: لو قُدِّرَ أن رجلًا ناح على الميت فإنه يدخل في هذا الوعيد، ولا يختص هذا بالنساء، لكن باعتبار أن الغالب أن النياحة تكون من النساء؛ عُبِّرَ عن ذلك بلفظ المؤنث (النائحة)، ولكن قد يكون بعض الرجال مثل النساء في هذا؛ يَنُوح على قريبه أو على الميت، وهذا محرم. إذَن؛ رفعُ الصوت مع رَنَّةٍ ومع نَوْحٍ هذا من كبائر الذنوب، لا يجوز، أما البكاء من غير رفع صوتٍ لا بأس به، لكن إذا بكى مع رفع صوتٍ ورَنَّة ونَوْح هذا محرم، هذا لا يجوز.

قال:

ويحرم شَقُّ الثوب، ولطم الخد، والصراخ، ونتف الشعر ونشره وحلقه.

لحديث ابن مسعود أن النبي قال: ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية[44] متفق عليه؛ قوله: ليس منا يقتضي أن هذه الأفعال من كبائر الذنوب. يوجد في بعض البلدان عادات سيئة عند بعض الناس، عندما يعلم بموت قريبه يشق جيبه، وهذا من كبائر الذنوب، أو يُقطِّع شعره، هذا أيضًا من الكبائر، أو يلطم خده هكذا، أو يصرخ؛ هذه كلها من أفعال الجاهلية، وهي من كبائر الذنوب، ومع الأسف لا تزال موجودةً لدى بعض المجتمعات الإسلامية.

مشروعية زيارة القبور للرجال

قال:

وتُسَنُّ زيارة القبور للرجال.

زيارة القبور للرجال مشروعة بالإجماع، حكاه النووي وغيره؛ لحديث أبي هريرة : زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى مَن حوله، قال: استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذَن لي، واستأذنتُه في أن أزور قبرها فأذن لي؛ فزوروا القبور فإنها تُذكِّر الموت[45]. وحديث أبي موسى : نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها[46]؛ فزيارة الرجال للقبور مستحبة بالإجماع.

حُكم زيارة النساء للقبور

قال:

وتُكرَه للنساء.

اختلف العلماء في حُكم زيارة النساء للقبور على ثلاثة أقوال:

  • القول الأول: إنها مكروهة كما قال المصنف؛ وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
  • القول الثاني: إنها تُستحب كما تُستحب للرجال؛ وهذا هو مذهب الحنفية.
  • القول الثالث: إنها تَحرُم؛ وهو قول عند الشافعية، ورواية عن أحمد.

ومَن قال بالكراهة؛ قال: إن النساء فيهنَّ رقة قلب، وكثرة جَزَع، وقلة احتمال للمصائب غالبًا، وهذا مَظِنَّة لجَزَعِهنَّ ورَفْع أصواتهنَّ بالبكاء؛ فيُكرَه لهنَّ زيارة القبور. وأما مَن قال بالندب -وَهُم الحنفية-؛ فاستدلوا بعموم الأحاديث الدالة على مشروعية زيارة القبور، وقالوا: ما ورد من نهي النساء منسوخ؛ لقول النبي : نهيتُكم عن زيارة القبور؛ ألَا فزوروها[47]. وأما مَن قال بتحريم زيارة النساء للقبور؛ فاستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: “أن رسول الله لَعَنَ زوَّارات القبور”[48] وهذا الحديث أخرجه أحمد والترمذي، وسنده صحيح، وقال عنه الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

والقول الراجح -والله أعلم-؛ الله تعالى يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]؛ إذا رَدَدْنا هذه المسألة إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله نجد أن السنة الصحيحة الصريحة قد دلت على لَعْن زوَّارات القبور، كما ذكرنا أن هذا الحديث من جهة الصناعة الحديثية ثابت، “لَعَنَ رسولُ الله زوَّارات القبور”، فهل اللعن يَرِدُ على أمرٍ غير محرم؟! اللعن لا يَرِدُ إلا على أمرٍ محرم؛ ولهذا فالقول الراجح: إن زيارة النساء للقبور محرمة، وأما دعوى النسخ، فالنسخ لا يقال به إلا بعد معرفة المتقدم من المتأخر، وهو مُتعذِّر في هذه المسألة. ثم إن قوله : نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها هذا عامٌّ، وحديث لَعْنِ زوَّارات القبور خاصٌّ؛ ومن المُقرَّر عند الأصوليين أن العامَّ يُخصَّص به الخاصُّ. ثم إنه لم يُعهَد في الشريعة أن أمرًا يَرِدُ عليه اللعن ثم يُنسَخ، أعطوني مثالًا واحدًا لأمرٍ وَرَدَ فيه اللعن ثم نُسِخ، هذا غير معهود في الشريعة؛ وعلى ذلك فالقول الراجح هو تحريم زيارة النساء للقبور -والله تعالى أعلم-.

سلامُ المرأة على قبرٍ اجتازت به في طريقها

قال:

وإن اجتازت المرأة بقبرٍ في طريقها فسَلَّمَتْ عليه ودَعَتْ له؛ فحَسَن.

كما ورد عن عائشة رضي الله عنها: أنها مَرَّتْ بقبر أخيها فسَلَّمَتْ عليه ودَعَتْ له. فالمرور غير الزيارة؛ يعني: بعض الناس يَخْلِط، يستدل على جواز الزيارة واستحبابها بهذه الأحاديث، هذه إنما وردت في المرور، فالمرور غير الزيارة، لو مَرَّت المرأة بالمقبرة وسَلَّمَتْ على الأموات ودَعَتْ لهم فلا بأس -كما فعلت عائشة-، لكن الممنوع أن تذهب وتزورهم.

السلام على أهل القبور والدعاء لهم

قال:

وسُنَّ لمَن زار القبور أو مَرَّ بها أن يقول.

هذا ورد في عدة أحاديث في حق مَن زار المقبرة؛ منها ما ذكره المصنف: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لَلَاحقون[49]، نسأل الله لنا ولكم العافية[50]، اللهم لا تَحْرِمْنا أجرهم، ولا تَفْتِنَّا بعدهم، واغفر لنا ولهم[51]. أو يقول ما ورد كقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لَلَاحقون، أنتم لنا فَرَطٌ ونحن لكم تَبَعٌ؛ فنسأل الله لنا ولكم العافية[52].

من اللطائف التي تُروَى عن عليٍّ : أنه زار المقبرة يومًا، فسلَّم على أهل القبور، ثم قال: يا أهل القبور، أَمَّا أموالكم فقد قُسِمَت، وأمَّا بيوتكم فقد سُكِنَت، وأمَّا أزواجكم فقد نُكِحَت؛ هذا خبرُ ما عندنا، فما خبرُ ما عندكم؟ ثم سكت، ثم قال لمَن معه: أَمَا والله لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى. فسبحان الله! يعني عندما ينظر الإنسان إلى أصحاب القبور، وأن هؤلاء الذين كانوا يومًا من الأيام على ظهر الأرض يأكلون ويشربون ويمرحون ويضحكون، وهم الآن في باطن الأرض في قبورهم، مُرتَهَنون بأعمالهم، لا يستطيعون زيادةً في الحسنات ولا نقصًا من السيئات، يعتبر الإنسان بذلك، وأن أيضًا أهلهم من بعدهم قد نسوهم؛ قَسَموا أموالهم، وسكنوا بيوتهم ونسوهم، فالإنسان لا ينفعه بعد مماته إلا عمله الصالح؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: يتبع الميت ثلاثة: أهلُه ومالُه وعملُه، فيرجع اثنان ويبقى واحد؛ يرجع أهلُه ومالُه، ويبقى عملُه[53]، فلا ينفع الإنسان بعد موته إلا العمل؛ ولهذا ينبغي لنا أن نحرص على أن نتزوَّد بزاد التقوى، وأن نعمل صالحًا، وأن نستعد لذلك اليوم وما بعده.

أحكام السلام

ثم استطرد المؤلف في ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالسلام وتشميت العطاس؛ فقال:

وابتداء السلام على الحيِّ سنةٌ.

وهذا باتفاق العلماء، وقد ورد في ذلك عدة أحاديث؛ منها قول النبي : لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحَابُّوا، أَوَلَا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أَفْشُوا السلام بينكم[54]. وفي حديث عمران : جاء رجل إلى النبي فقال: “السلام عليكم”، فَرَدَّ عليه، ثم جلس، وقال: عشر، ثم جاء آخر فَرَدَّ عليه، ثم قال: عشرون، ثم جاء آخر فَرَدَّ عليه، وقال: ثلاثون[55]؛ يعني: إنه إذا قال: “السلام عليكم” حصل على عشر حسنات، وإذا قال: “السلام عليكم ورحمة الله” حصل على عشرين حسنة، وإذا قال: “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته” حصل على ثلاثين حسنة.

قال:

وَرَدُّه فرضُ كفاية.

يعني: هذا إذا كان التسليم على جماعة، فَرَدُّه فرضُ كفاية بالإجماع، أما إذا كان السلام على واحدٍ فَرَدُّ السلام فرضُ عين في حقه؛ لقول الله : وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]؛ فهذا دليلٌ على وجوب رد السلام، فَرَدُّ السلام واجب، ولأن عدم رد السلام يُفضي إلى القطيعة والشحناء؛ أنت إذا سَلَّمتَ على إنسان ولم يَرُدَّ عليك السلام، ألَا يُحدِث ذلك في نفسك شيئًا؟ ألَا تَشعر بالوَحشة؟ ألَا يُحدِث شحناء بينك وبينه؟ فَرَدُّ السلام واجب؛ إلقاءُ السلام سنة لكن رده واجب.

تشميت العاطس

قال:

وتشميت العاطس إذا حمد فرضُ كفاية.

وهذا هو المذهب عند الحنابلة والحنفية؛ لقول النبي : إذا عطس أحدكم فَلْيَقل: الحمد لله؛ وَلْيَقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله؛ فإذا قال له: يرحمك الله، فَلْيَقل: يهديكم الله ويُصلِح بالكم[56].

والقول الثاني: إن تشميت العاطس مستحب، وهو مذهب المالكية والشافعية؛ لأنه من حق المسلم على المسلم، فهو كسائر حقوق المسلم على المسلم؛ وقيل: إن تشميت العاطس واجب، وهو قول عند بعض الحنفية.

والقول الراجح: إن تشميت العاطس مستحب؛ لأن ذلك وإن كان قد ورد فيه الأمر، إلا أن هذا الأمر ورد في باب الآداب، والأوامر في باب الآداب محمولةٌ على الاستحباب؛ فتشميت العاطس إذَن سنة مؤكدة.

قال:

وَرَدُّه فرضُ عين.

 يعني قول: يهديكم الله، ويُصلِح بالكم أنه فرض عين؛ للحديث السابق. والأقرب -والله أعلم- أن الرد على التشميت مستحب في حق العاطس؛ لأن ذلك من باب الأوامر في الآداب، وهي محمولة على الاستحباب، ولا يقاس على رد السلام، لأن رد السلام يوجد فيه دليل خاص؛ وهو قول الله : وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، ولأن المَفسدة التي تتحقق من ترك رد السلام أعظم من المَفسدة التي تتحقق من ترك الرد على مَن شمَّت العاطس؛ ولكن هذا إذا حمد الله، أما إذا لم يحمد الله فلا يُشرَع تشميته بل يُكرَه، كما قال النووي وجماعة؛ لقول النبي : إذا عطس أحدكم فحمد الله فشَمِّتوه، فإذا لم يحمد الله فلا تُشَمِّتوه[57] رواه مسلم، وهذا نصٌّ صريح، قوله: فلا تُشَمِّتوه هذا نهي، وأقل ما يُفيده النهي الكراهة. وأيضًا جاء في حديث أنس : عطس عند النبي رجلان، فشَّمَتَ أحدَهما ولم يُشَمِّت الآخرَ، فقال الذي لم يُشَمِّته: عطسَ فلانٌ فَشَمَّتَّه، وعطستُ أنا فلم تُشَمِّتني؛ فقال : إن هذا حمد الله، وإنك لم تَحمَد الله[58] رواه مسلم؛ فكأنَّ تَرْكَ التشميت له من باب التعزير له، فيقال: كأنك لم تحمد الله فلا تستحق أن تُشَمَّت. لكن هل يُستحب تذكيره بذلك؟ سبق أن ذكرنا هذه المسألة في درسٍ سابق، وذكرنا الخلاف؛ قلنا: إن القول الراجح إنه يُستحب؛ لِمَا في ذلك من التعاون على البر والتقوى؛ يعني تقول: يا فلان، قل: الحمد لله، فيقول: الحمد لله، فتقول له: يرحمك الله، فيقول: يهديكم الله، ويُصلِح بالكم.

هل يعرف الميت مَن يزوره من الأحياء؟

قال:

ويعرف الميتُ زائره يوم الجمعة قبل طلوع الشمس.

رُوي هذا عن الإمام أحمد، لكن هذا يحتاج إلى دليل؛ يعني: هذه المسألة من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل البشري فيها، وإنما تُعرَف عن طريق الوحي، ولم يثبت في هذا شيء.

قال:

ويتأذى بالمُنكَر عنده.

ورُويت في هذا آثار عن بعض السلف، لكن أيضًا هذا يحتاج إلى دليل؛ معرفة الميت للحي، وَرَدّه السلام على المسلم، وتأذِّيه بالمُنكَر حوله؛ هذه تحتاج إلى دليل، هذه أمور غيبية، فلا مجال للاجتهاد فيها، ولا مجال للعقل البشري فيها؛ ولهذا فالأقرب -والله أعلم- أن نتوقف عندها، وألَّا نتكلم فيها بشيء؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيءٌ صحيحٌ عن النبي .

حُكم إهداء القُرَب للأموات

آخر مسألة في كتاب الجنائز؛ قال:

وينتفع بالخير.

يعني: إذا أُهدي ثواب قُربةٍ للميت فإنه ينتفع به، وعبارة صاحب زاد المستقنع أوضح: “وأيُّ قربةٍ فَعَلَها وجَعَلَ ثوابها لميتٍ مسلمٍ أو حيٍّ نَفَعَه ذلك”؛ وهذا هو المذهب عند الحنابلة. وقد ورد النص بوصول ثواب بعض القُرَب للميت؛ وهي: الدعاء والصدقة والحج والعمرة؛ هذه ورد النص بأنها تنفع الميت. أما ما عدا ذلك من القُرَب كتلاوة القرآن (يقرأ القرآن ويُهدي ثوابه للميت) اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا؛ والأقرب -والله أعلم- ما ذهب إليه ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم: من أن ذلك ينفع الميت، لكنه من قبيل الجائز غير المشروع؛ لأن ذلك لم يرد عن الصحابة، ولم يرد عن السلف أنهم كانوا يتسابقون إليه، ولو كان مشروعًا لفعلوه ولَاشتَهَر ونُقل فعلهم؛ لأن هذا مما تتوافر الدواعي لنقله، لكن لو فعله إنسانٌ فلا يُنكَر عليه؛ لأن النبي أجاز ما هو من جنسه، فلما سُئل عن ثواب الصدقة للميت أخبر بأنها تنفعه، ولما سُئل عن الحج أخبر بأنه ينفع الميت، ولكن لا يكون هذا من قبيل المشروع؛ لأنه لم يُؤثَر عن الصحابة أنهم كانوا يتسارعون لفعل ذلك لأمواتهم، بل لم يُؤثَر عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ يعني: مات بعض أقاربه، ماتت زوجته خديجة، مات جميع أبنائه وبناته ما عدا فاطمة، مات عمه حمزة؛ هل أهدى النبي لهم شيئًا من هذه القُرَب؟ لم يُهْدِ، ولم يرد هذا عن أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا عن بقية الصحابة ، لكن باعتبار أنه قد ورد ما يدل على جواز ما هو من جنسه؛ فنقول: إن هذا جائز، لكنه من قبيل الجائز غير المشروع.

فمَن أراد أن يُهدي ثواب التلاوة للميت لا يُنكَر عليه، لكن يقال: إن أفضل ما يفعله الحي للميت هو ما ورد النص عليه؛ وهو الدعاء، وكذلك الصدقة، سواء كانت صدقة جارية أو حتى من الصدقات العادية، كذلك أيضًا العمرة والحج؛ هذه كلها ورد النص بأنه يصل ثوابها للميت، ما عدا ذلك فالأَوْلى تركه، ولو فعله إنسانٌ لم يُنكَر عليه.

مقدمة في الزكاة

بهذا نكون قد انتهينا من كتاب الجنائز.

نأخذ مقدمة في الزكاة.

معنى الزكاة لغةً واصطلاحًا

الزكاة لغةً: تُطلَق على النماء والزيادة؛ يقال: زَكَا الزرعُ إذا نما وزاد. وتُطلَق على التطهير والصلاح؛ ومنه قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]؛ أن الله يُطهِّر بها نفس المُزكِّي من الشُّح والبُخل. وتُطلَق على المدح والثناء؛ ومنه قول الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32]؛ أي: لا تمدحوها.

وشرعًا: أحسن ما قيل في تعريفها؛ أنها “التعبد لله بإخراجِ جزءٍ واجبٍ شرعًا، في مالٍ معينٍ، لجهةٍ مخصوصةٍ”؛ فالتعبد يعني: أن المسلم يقصد التعبد لله بإخراج هذه الزكاة. وأما إذا كانت بغير نية التعبد، كأن تكون مجرد تبرُّع؛ هذه لا تُعتبر زكاةً شرعًا.

“بإخراجِ جزءٍ” يعني: مثل العُشر، نصف العُشر، ربع العُشر، ونحو ذلك.

“في مالٍ معينٍ”: وهي الأموال التي تجب فيها الزكاة -وسيأتي الكلام عنها-.

“لجهةٍ مخصوصةٍ”: وهم أصحاب الزكاة الثمانية.

متى فُرضت الزكاة؟

اختلف العلماء في وقت فرضية الزكاة؛ قيل: إنها فُرضت في مكة قبل الهجرة، وقيل: إنها فُرضت في المدينة بعد الهجرة. وبعض الآيات الواردة في شأن الزكاة مكية؛ ومنها قول الله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وقوله: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ۝ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25] أيضًا مكية، وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:4] أيضًا مكية -على تفسيرها بأنها الزكاة الشرعية وليس زكاة النفس-.

وأيضًا إذا تأملنا السُّنة نجد أن مقادير الزكاة وأَنْصِبَاء الزكاة إنما كانت في المدينة، ولهذا اختلف العلماء؛ فمنهم مَن قال: إنها فُرضت في مكة، ومنهم مَن قال: إنها فُرضت في المدينة. وذهب بعض أهل العلم إلى التفصيل؛ فقالوا: إن أصل فرض الزكاة في مكة، لكن تفاصيل أحكامها -من تقدير أنصبائها وتقدير الأموال الزكوية وبيان أهلها- كان في المدينة، وهذا هو القول الراجح -والله أعلم-؛ أن أصل فرضية الزكاة في مكة، وتفاصيل مقاديرها في المدينة، وهو الذي تجتمع به الأدلة، وقد رجحه الحافظ ابن كثير في تفسيره؛ فقال: “قد كان شيئًا واجبًا في الأصل، ثم إنه فُصِّل بيانه، وبُيِّن مقدار المُخرَج وكمِّيته؛ وقد كان هذا في السنة الثانية من الهجرة”؛ فكان المسلم في مكة مأمورًا بإخراج شيء من غير تحديد، ما تطيب به نفسه، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]؛ أي شيء، ثم في المدينة بُيِّنَ ذلك على وجه التفصيل.

والزكاةُ: هي ثالث أركان الإسلام، وقد أجمع المسلمون على وجوبها، واتفق الصحابة على قتال مانعيها. ومَن جحد وجوبها فإنه يكفر بالإجماع، لكن إن تركها بخلًا أو تهاونًا فالقول الراجح عند أكثر أهل العلم إنه لا يكفر، وإنما يكون فاسقًا، وهذه المسألة سيأتينا الكلام عنها بالتفصيل في باب إخراج الزكاة.

ثم بعد ذلك انتقل المؤلف للحديث عن شروط وجوبها الخمسة -والكلام عنها يطول-؛ فنكتفي بهذا القدر، ونقف عند شروط وجوب الزكاة.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة:

الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.

السؤال: إمام مسجد رأى رجلًا جاء متأخرًا بعد انتهاء الصلاة؛ هل يُشرَع له أن يتصدق على هذا الرجل، وقد فعل هذا بشكل عارض؟

الجواب: إذا كان بشكل عارض فلا بأس، لكن إذا كان بشكل دائم هذا العمل غير مشروع، أن الإنسان كلما صلى يتفقد المسبوقين، ويقول: “أصلي معكم وأتصدق عليكم”؛ هذا العمل بهذه الطريقة غير مشروع، ولم يُؤثَر عن السلف، لكن إذا فعل هذا بصفة عارضة فقد ورد في السنة ما يدل على جوازه.

السؤال: نظرًا للتباعد حاليًّا بين المصلين؛ لم أَقُم للركعة الرابعة ظنًّا مني أنها الثالثة، وقرأتُ التشهد الأخير بانتظار الإمام يُسلِّم، وتفاجأتُ بتكبيرة الإمام للركوع، فقمتُ وركعتُ مع الإمام وأتممتُ الصلاة؛ هل ما فعلتُه صحيح؟ علمًا بأني جلستُ لتشهد زائد.

الجواب: ليس عليك شيء؛ لأن غاية ما في الأمر أنك أتيتَ بفعل زائد في الصلاة بطريق الخطأ، ولم يَفُتْكَ شيءٌ من الأركان، وأدركتَ الإمام وهو في الركوع، وأما قراءة الفاتحة فيتحملها الإمام؛ فصلاتك صحيحة.

السؤال: عند الحَثَيات الثلاث أثناء الدفن نسمع مَن يقرأ؛ عند الأولى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ [طه:55]، وعند الثانية: وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه:55]، وعند الثالثة: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]؛ هل يُشرَع ذلك؟

الجواب: هذا غير مشروع؛ لأنه لم يرد، والأصل في العبادات التوقيف، وإنما يشارك الإنسان في دفن الميت، ولا يتقيد بثلاث حَثَيات؛ لأنه كما ذكرنا في الدرس أن الحديث المروي في ثلاث حَثَيات ضعيف، لكن يشارك بما يتيسر، بحَثْيَة واحدة أو ثِنْتَين أو ثلاث أو أكثر، فيكون له مشاركة في دفن الميت، وأما أن يُرتَّب على ذلك ذكرٌ يقال عند هذه الحَثَيات؛ فهذا لا أصل له.

السؤال: هل يجوز وضعُ شيءٍ أو علامة تدل على القبر؟

الجواب: نعم، لا بأس بذلك، وأيضًا لا بأس بترقيم القبور؛ بأن تُرقَّم، ويُجعَل رقم: واحد، اثنين، ثلاثة؛ وتوضع هذه الأرقام عند المسؤولين عن المقبرة، وإذا أراد الإنسان أن يزور قبر قريبه يعرف ذلك بالرقم؛ فهذا لا بأس به.

السؤال: هل يجوز نقل جنازةٍ من بلدٍ إلى آخر؛ مثل: إنسان توفي في الرياض، ويُنقَل إلى تبوك؟

الجواب: لا بأس بذلك من حيث الحُكم، لكن هذا ليس له فضل؛ يعني: لماذا يُنقَل؟ هذا هو السؤال، فالنقل ليس له مَزِيَّة، وليس له فضل، وربما يكون فيه مشقة على أهل الميت؛ ولذلك فالأحسن أنه يُدفَن في المكان الذي مات فيه، لكن إذا أرادوا نقله فلا بأس، بل حتى قال أهل العلم: لو أَوْصى بنقله لم يَجِب تنفيذ هذه الوصية؛ لأن هذا النقل ليس له مَزِيَّة.

السؤال: ما حُكم الصلاة على الجنازة في وقت النهي، وهل تُعتبر صلاة الجنازة من ذوات الأسباب؟

الجواب: أوقات النهي تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أوقات النهي عن الصلاة التي النهي فيها مُغلَّظ؛ وهي: (وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، وحين يقوم قائم الظهيرة قُبيل أذان الظهر)؛ هذه لا يُصلى فيها على الأموات، ولا يُدفَن فيها الأموات، كما جاء في حديث عقبة بن عامر .

القسم الثاني: أوقات النهي عن الصلاة التي النهي فيها ليس مُغلَّظًا؛ وهي: (ما بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، وما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس)؛ هذه لا بأس بالصلاة على الأموات فيها، ولا بأس بدفن الأموات فيها، لكن ننتبه إذا كان الوقت قريبًا من وقت طلوع الشمس، أو قريبًا من وقت غروب الشمس، فهنا نتوقف، فوقت طلوع الشمس وبعد طلوع الشمس بنحو عشر دقائق هذا وقت نهي، وقبل غروب الشمس بنحو عشر دقائق هذا وقت نهي، وقُبيل أذان الظهر بنحو عشر دقائق هذا وقت نهي؛ هذه الأوقات لا يُصلى فيها على الميت، ولا يُدفَن فيها الأموات؛ “ثلاث ساعات نهانا رسول الله أن نصلي فيهنَّ أو أن ندفن فيهنَّ موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضَيَّف الشمس إلى الغروب حتى تغرب”[59]، لكن الصلاة على الميت بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر لا بأس بها؛ لأن هذه من أوقات النهي التي النهي فيها ليس مُغلَّظًا.

السؤال: هل تُقلَع أسنان الذهب من الميت قبل دفنه؟

الجواب: نعم؛ لأن لها قيمة فتُقلَع وتُباع، ما دام أن لها قيمة فهي للورثة؛ وعلى ذلك فتُقلَع هذه الأسنان وتُباع، لكن ذلك ليس واجبًا، لكن لأهل الميت أن يفعلوا ذلك.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 3179، والترمذي: 1007، والنسائي: 1944، وابن ماجه: 1482، وأحمد: 6042.
^2 رواه أبو داود: 3180، وأحمد: 18181.
^3 رواه مسلم: 962.
^4 رواه البخاري: 1310، ومسلم: 959.
^5 رواه البخاري: 1312، ومسلم: 961.
^6 رواه مسلم: 960.
^7 رواه البخاري: 998، ومسلم: 751.
^8 رواه أبو داود: 3171، وأحمد: 10880.
^9 رواه البيهقي في السنن الكبرى: 7182.
^10 رواه أبو داود: 3215، والترمذي: 1713، والنسائي: 2011، وابن ماجه: 1560.
^11 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: 11770.
^12 رواه الترمذي: 1048.
^13 رواه مسلم: 967.
^14 رواه الترمذي: 1047، وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 1628.
^15 رواه النسائي في السنن الكبرى: 10860، وأحمد: 4812.
^16 رواه أبو داود: 2875.
^17 رواه ابن ماجه: 1565.
^18 رواه ابن ماجه: 1551.
^19 رواه ابن حبان: 6635، والبيهقي في السنن الكبرى: 6736.
^20 رواه البخاري: 2/ 103.
^21, ^25 رواه مسلم: 970.
^22 رواه أحمد: 38.
^23 رواه النسائي: 2001، وابن ماجه: 1549، وأحمد: 18625.
^24 رواه مسلم: 970، وهو بهذا السياق في سنن النسائي: 2027.
^26 رواه أبو داود: 3206.
^27 رواه أبو داود: 3230، والنسائي: 2048، وابن ماجه: 1568، وأحمد: 20784.
^28 رواه البخاري: 1338، ومسلم: 2870.
^29 بنحوه رواه أبو داود: 3236، والترمذي: 320، وقال: حسنٌ، والنسائي: 2043، وأحمد: 2030.
^30 رواه البخاري: 435، ومسلم: 531.
^31 رواه مسلم: 532.
^32 رواه ابن ماجه: 1601.
^33 رواه الترمذي: 1073، وابن ماجه: 1602.
^34 رواه البخاري: 1280، ومسلم: 1486.
^35 رواه البيهقي في السنن الكبرى: 7092.
^36, ^38 رواه البخاري: 1284، ومسلم: 923.
^37 رواه البخاري: 1304، ومسلم: 924.
^39 رواه البخاري: 1303، ومسلم: 2315.
^40 رواه الترمذي: 1003، وقال: حسنٌ.
^41 رواه مسلم: 936.
^42 رواه مسلم: 67.
^43 رواه مسلم: 934.
^44 رواه البخاري: 1294، ومسلم: 103.
^45 رواه مسلم: 976.
^46 رواه مسلم: 977.
^47 بنحوه رواه مسلم: 977.
^48 رواه الترمذي: 1056، وابن ماجه: 1574.
^49 رواه مسلم: 974.
^50 رواه ابن ماجه: 1547.
^51 رواه ابن ماجه: 1546.
^52 بنحوه رواه النسائي: 2040.
^53 رواه البخاري: 6514، ومسلم: 2960.
^54 رواه مسلم: 54.
^55 رواه أبو داود: 5195.
^56 رواه البخاري: 6224.
^57 رواه مسلم: 2992.
^58 رواه مسلم: 2991.
^59 رواه مسلم: 831.
zh