logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(21) فصل في أوقات النهي- من قوله: “وهي من طلوع الفجر..”

(21) فصل في أوقات النهي- من قوله: “وهي من طلوع الفجر..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

ننتقل بعد ذلك إلى “السلسبيل في شرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى أوقات النهي.

الأصل: أن المسلم له أن يتطوع ويصلي ما شاء من ليلٍ أو نهارٍ، مثنى مثنى، ركعتين ركعتين، إلا في أوقات النهي، فليس له أن يتطوع فيها.

أوقات النهي عن الصلاة

فما هي أوقات النهي؟

أوقات النهي: هي الأوقات التي نهى الشارع عن الصلاة فيها، وعدَّها المؤلف ثلاثة أوقاتٍ:

الصلاة بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس قِيدَ رمحٍ

الوقت الأول:

من طلوع الفجر إلى ارتفاع الشمس قِيدَ رُمحٍ.

هنا المؤلف قال: “من طلوع الفجر”، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، أن النهي متعلقٌ بطلوع الفجر، وقد جاء هذا في أحاديث رُويت عن النبي ؛ منها: لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين [1]، أخرجه أحمد، وفي بعض الروايات: لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر [2]، ولكن جميع الروايات الواردة في تقييد وقت النهي بطلوع الفجر لا تصح، والمحفوظ هو ما جاء في “الصحيحين” من أن النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر [3]، وليس بعد طلوع الفجر، وعلى تقدير صحة هذه الرواية: لا صلاة بعد طلوع الفجر..، فهي محمولةٌ على نفي المشروعية، يعني: أنه لا يشرع للإنسان أن يتطوع بنافلةٍ إلا ركعتي الفجر، وليس فيها ما يدل على أن هذا هو وقت نهيٍ يأثم بالصلاة فيه.

وعلى هذا نقول: الأقرب: أن الوقت الأول من أوقات النهي يبتدئ من بعد صلاة الفجر، وليس من حين طلوع الفجر، فالنهي متعلقٌ بفعل الصلاة، يبتدئ من بعد صلاة الفجر إلى ارتفاع الشمس قِيدَ رمحٍ، يعني: إلى حين أن تطلع الشمس وترتفع قِيدَ رمحٍ.

وبعضهم يُفصِّل في هذا، يجعل هذا الوقت وقتين: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ومن طلوع الشمس حتى ترتفع قِيدَ رمحٍ.

وبعضهم يُجمِل؛ كالمؤلف، جعلها وقتًا واحدًا، قال: “من بعد صلاة الفجر إلى ارتفاع الشمس قِيدَ رمحٍ”، ولا مشاحة في الاصطلاح، وهذا الوقت قد دل للنهي عن الصلاة فيه عدة أحاديث؛ منها: حديث عمرو بن عَبَسَة : صلِّ صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطانٍ، وحينئذٍ يسجد لها الكفار [4]، رواه مسلمٌ.

وأيضًا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: إذا بدا حاجب الشمس؛ فأخِّرُوا الصلاة حتى تَبرُز [5]، وأيضاً حديث: لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس.. [6]، وعدة أحاديث تدل على النهي عن الصلاة في هذا الوقت.

الحكمة من النهي عن الصلاة بعد الفجر

لماذا نُهي عن الصلاة في هذا الوقت؟

نُهي عن الصلاة في هذا الوقت؛ لما جاء في حديث عمرو بن عَبَسَة أن الشمس حين تطلع؛ تطلع بين قرني شيطانٍ فيسجد لها الكفار؛ فنُهي المسلمون عن مشابهتهم.

طيب، إذا كان هذا حين طلوع الشمس، فلماذا نُهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر؟

من باب سد الذريعة؛ لأنه لو أَذِن في الصلاة بعد صلاة الفجر؛ فربما تمادى الأنسان بالصلاة حتى يصلي وقت طلوع الشمس؛ ولهذا فإن النهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس شديدٌ، بينما النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر ليس شديدًا، وإنما من باب سد الذريعة؛ ولهذا تجوز فيه الصلاة على الميت، بينما وقت طلوع الشمس لا تجوز الصلاة على الميت.

طيب، ارتفاع الشمس قيد رمحٍ يعادل تقريبًا مترًا في عين الرائي، وليس في حقيقة الأمر، وقد حسبتُه على الطبيعة فوجدته في حدود عشر دقائق تقريبًا، وبعضهم يقدره بثنتي عشرة دقيقةً، وبعضهم بربع ساعةٍ، وربما اختلف ذلك باختلاف فصول السنة وباختلاف الأماكن؛ ولذلك فالأحوط أن يجعل ربع ساعةٍ، وهو ما بين عشر دقائق إلى ربع ساعةٍ، وطريقة ذلك.. طبعًا داخل المدن يصعب النظر إلى الشمس وهي تطلع من الأفق؛ بسبب وجود العمائر المرتفعة والبنيان؛ ولذلك فالطريقة لمعرفة الوقت الذي يزول به وقت النهي عن الصلاة: هو أن تأخذ ورقة التقويم، وتنظر إلى شروق الشمس في البلد الذي أنت مقيمٌ فيه، وتُضيف له ربع ساعةٍ، فمثلًا إذا كانت الشمس تُشرق الساعة الخامسة؛ فيزول وقت النهي الخامسة والربع، الخامسة والربع لك أن تصلي صلاة الضحى، لك أن تتنفل، لك أن تتطوع.

الصلاة من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس

ومن صلاة العصر إلى غروب الشمس.

هذا هو الوقت الثاني على سبيل الإجمال، والوقت الثالث على سبيل التفصيل، وهذا قد ورد فيه عدة أحاديث؛ منها: قوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس [7].

والنهي متعلقٌ بصلاة العصر؛ ولهذا لو أنه جمع بين الظهر والعصر جمع تقديمٍ؛ فإن وقت النهي يكون بعد صلاة العصر مباشرةً، وبعضهم يفصل؛ فيجعل هذا الوقت وقتين:

  • الوقت الأول: من بعد صلاة العصر لحين غروب الشمس.
  • والثاني: من حين غروب الشمس إلى أن يتكامل غروبها، كما قلنا بالنسبة للطلوع، ووقت الغروب هو الذي يكون النهي فيه شديدًا.

إذنْ: عندنا الوقت الثالث أو الرابع -أما الثالث إذا قلنا: إنه على سبيل الإجمال، والرابع إذا قلنا: على سبيل التفصيل- من بعد صلاة العصر إلى حين غروبها، وهذا وقتٌ قد ورد النهي عنه في عدة أحاديث عن النبي .

فالنهي عن الصلاة بعد صلاة العصر هذا من باب سد الذريعة -كما قلنا بالنسبة لصلاة الفجر- وحين غروبها، هذا الذي النهي فيه شديدٌ؛ لأنه هو المقصود؛ لأن الشمس تغرب بين قرني شيطانٍ، فيسجد لها المشركون، فنُهي عن الصلاة فيها في هذا الوقت لأجل عدم التشبه بالكفار الذين يسجدون للشمس؛ ولهذا جاء في حديث عمرو بن عَبَسَة: ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطانٍ، وحينئذٍ يسجد لها الكفار.

ما هو وقت النهي الشديد هنا؟

وقت النهي الشديد قبل غروب الشمس من عشر دقائق إلى ربع ساعةٍ -كما قلنا بالنسبة لطلوع الشمس- لأنه هنا عكسه، فكما قلنا: بالنسبة لِمَا بعد طلوع الشمس؛ نقول: تنتظر من عشر دقائق إلى ربع ساعةٍ؛ كذلك أيضًا هنا، تنتظر قبل غروب الشمس من عشر دقائق إلى ربع ساعةٍ.

الصلاة من قيام الشمس في كبد السماء إلى أن تزول

وعند قيامها حتى تزول.

هذا هو الوقت الخامس -إذا اعتبرنا على وجه التفصيل- والثالث على سبيل الإجمال، يعني: حين استواء الشمس في كبد السماء، حين يقوم قائم الظهيرة؛ وذلك أن الشمس حين تطلع تبدأ في الارتفاع إلى أن تصل إلى أقصى ارتفاعٍ لها عند منتصف النهار، ثم تبدأ في الهبوط.

ويتوقف الظل.

يعني: الظل يزيد يزيد، ثم يتوقف، ثم يبدأ يَقصُر، لكل شاخصٍ ظلٌّ من جهة الشرق، وهذا الظل يزيد يزيد، ثم يتوقف، ثم بعد ذلك يزيد بعد التوقف، فيُعرف بذلك وقت النهي؛ ولذلك عبَّرَ النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا الوقت بـحين يقوم قائم الظهيرة [8]، وحين تميل الشمس [9]، وحين تكون الشمس في كبد السماء [10]، فهذا هو وقت النهي عن الصلاة: حتى يستقل الظل بالرمح، يعني: ورد بعدة ألفاظٍ، يعني: لو أردنا أن نوضحها بمثالٍ تقريبيٍّ، يعني: مثلًا هذا الشاخص، وهذه الشمس، فيكون هناك ظلٌّ طويلٌ للشاخص، ثم ينقص ينقص، ثم يتوقف، وفي بعض البلدان ينعدم، ثم يزيد، زيادة الظل بعد تناهي قصره: هذا هو الزوال، زيادة الظل بعد تناهي قصره، وأيضًا الشمس تشرق من الشرق وظلها يكون من الغرب، ثم يتجه إلى جهة الشمال، إذا وصل إلى جهة الشمال الحقيقي هذا هو وقت النهي، حين يقوم قائم الظهيرة، إذا اتجه إلى جهة الشرق؛ هذا وقت زوال الشمس، لكن الأضبط في هذا: أن يُحسب بزيادة الظل بعد تناهي قصره.

وهناك برامج فلكيةٌ تحسب لك طول الظل، وتستطيع أن ترى حساب طول الظل في المكان الذي أنت فيه، ستجد أنه حين منتصف النهار يتوقف طول الظل، ثم يزيد، فعند زيادته ولو بشعرةٍ؛ هنا يكون قد ابتدأ الزوال، هذه طريقة حساب زوال الشمس، فهذه البرامج تحسب لك زيادة الظل بدقةٍ كبيرةٍ.

إذنْ هذا الوقت الذي يتوقف فيه الظل، يتوقف الظل عن التناقص، الظل يتناقص يتناقص، ثم يتوقف، ثم يزيد، هذه المرحلة التي يتوقف فيها الظل عن التناقص هذا هو وقت النهي، حين يقوم قائم الظهيرة، وهو وقتٌ قصيرٌ ليس طويلًا، يعني: هو قبل الزوال بنحو سبع دقائق، وقبل أذان الظهر المدوَّن في التقاويم الموجودة الآن بنحو خمس دقائق تقريبًا، يعني يُمكن أن نجعله سبع دقائق، وإن أردت أن تحتاط؛ تجعله عشر دقائق، فهذا الوقت الذي في حدود عشر دقائق، هذا لا تجوز الصلاة فيه، النهي عن الصلاة فيه مغلظٌ، بعضهم قدره بقدر قراءة سورة الفاتحة، وقالوا: أصلًا أن الشمس لا تتوقف، وأنها تسير باستمرار، لكن هذا محل نظرٍ؛ إذ إن تقديره بقدر قراءة سورة الفاتحة تفريغٌ للنص من محتواه، هذا وقتٌ يتسع لدفن الموتى؛ ولهذا جاء في حديث عقبة بن عامرٍ  قال: “ثلاث ساعاتٍ نهانا رسول الله عن أن نَقبُر فيهن موتانا، أو أن نصلي فيهن: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول..” [11]، فهو وقتٌ يتسع لدفن الميت، فالقول بأنه مقدار قراءة سورة الفاتحة، أو مقدار قراءة سورة الصمد ثلاث مراتٍ هذا قولٌ ضعيفٌ، الصواب أنه في فترةٍ زمنيةٍ ما بين خمس إلى عشر دقائق هذا هو وقت النهي الذي يكون قُبيل الزوال، فهذه هي أوقات النهي.

هل يستثنى يوم الجمعة من وقت النهي منتصف النهار؟

هل يُستثنى يوم الجمعة من وقت النهي الذي يكون عند منتصف النهار؟

الجمهور على أنه لا يستثنى، ولا فرق بين يوم الجمعة وغيره؛ لعموم الأدلة، والشافعية ذهبوا إلى استثنائه، واختار هذا القول ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وقالوا: إن النبي حث على التبكير للجمعة [12]، ورغَّب في صلاة النافلة إلى حين خروج الإمام [13]، ولو كان لا يجوز الصلاة قُبيل الزوال؛ لنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وأيضًا: قالوا: إن الصحابة  لم يكونوا يخرجون من المسجد فينظرون هل الشمس في كبد السماء أم لا؟

والقول الراجح: هو قول الجمهور؛ لعموم الأدلة، وليس هناك مخصصٌ لهذا العموم.

وأما ما ذكره القائلون باستثناء يوم الجمعة فلا يقوى للتخصيص؛ ما ذكروه من أن النبي عليه الصلاة والسلام حث على الصلاة، هو حث على الصلاة لكن نهى عن الصلاة في هذا الوقت، فلا بد من الجمع بين النصوص.

وأما ما ذكروه من أن الصحابة  لم يكونوا يخرجون من المسجد للنظر في الشمس، فهذه دعوى، ربما أن الصحابة  أو بعضهم كانوا يخرجون ولم يُنقل، ثم إن مسجد النبي عليه الصلاة والسلام كان مسقوفًا بجذوع النخل، فيعرفون وهم بداخل المسجد متى تصل الشمس لكبد السماء من غير حاجةٍ للخروج من المسجد.

فعمومات الأدلة التي فيها النهي عن الصلاة في هذا الوقت لم تستثنِ يوم الجمعة، وما ذكره القائلون باستثناء يوم الجمعة لا يقوى على تخصيص تلك العمومات.

وعلى هذا نقول: القول الراجح: أن يوم الجمعة كغيره بالنسبة لوقت النهي قُبيل الزوال؛ وعلى ذلك: من يأتي للمسجد الجامع يوم الجمعة، إذا أراد أن يتنفل؛ فعليه أن يتوقف عن الصلاة قُبيل الزوال بنحو عشر دقائق؛ يتوقف عن الصلاة لأن هذا الوقت وقت نهيٍ.

ويقسم الفقهاء أوقات النهي إلى قسمين:

  • أوقات النهي التي يكون النهي فيها شديدًا، وهي أوقات النهي الثلاثة: عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وحين يقوم قائم الظهيرة، هذه لا تجوز فيها الصلاة، ولا يجوز فيها دفن الموتى.
  • القسم الثاني: أوقات النهي التي النهي فيها غير شديدٍ، وهي ما بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، وما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس؛ ولهذا يجوز فيها دفن الموتى.

حكم الصلاة في أوقات النهي

 فتحرم صلاة التطوع في هذه الأوقات ولا تنعقد، ولو جاهلًا للوقت والتحريم.

لعموم النهي عن صلاة التطوع، والنهي يقتضي التحريم والفساد.

النوافل التي يجوز فعلها في وقت النهي

ثم استثنى المؤلف من ذلك صلواتٍ يصحُّ التطوع بها في أوقات النهي.

سنة الفجر

أولها قال:

سوى سنة الفجر قبلها.

وهذا بناءً على قولهم: بأن وقت النهي يبدأ من طلوع الفجر، ورجحنا أنه يبدأ من بعد صلاة الفجر؛ ولهذا لا حاجة لهذا الاستثناء.

ركعتا الطواف

ثانيها:

وركعتي الطواف.

لعموم الأدلة؛ ومنها: قول النبي عليه الصلاة والسلام: يا بني عبد منافٍ، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعةٍ شاء من ليلٍ أو نهارٍ [14].

سنة الظهر إذا جَمَع

وثالثها:

وسنة الظهر إذا جَمَع.

يعني: يجوز سنة الظهر البعدية إذا جمع الظهر مع العصر جمع تقديمٍ، أو جمع تأخيرٍ بعد صلاة العصر؛ لأن النبي لما فاتته راتبة الظهر؛ قضاها بعد العصر.

إعادة جماعةٍ أقيمت وهو بالمسجد

أيضًا مما يستثنى:

وإعادة جماعةٍ أقيمت وهو بالمسجد.

إعادة جماعةٍ لأي سببٍ، قد جاء في حديث أبي ذرٍّ  أن النبي قال: صلِّ الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد؛ فصلِّ [15]، رواه مسلمٌ.

الصلوات ذوات الأسباب في أوقات النهي

ويجوز فيها قضاء الفرائض، وفعل المنذورة، ولو نذرها فيها.

هذه المسألة: فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، اختلف الفقهاء فيها على أقوالٍ:

القول الأول: قول الحنابلة: أنه لا يصلى من ذوات الأسباب إلا صلاة الفريضة، وفعل المنذورة، وما عدا ذلك فلا تُصلَّى في أوقات النهي.

القول الثاني: أنه يجوز فعل ذوات الأسباب عمومًا في أوقات النهي، ويشمل ذلك ما ذكره المؤلف من قضاء الفرائض، وفعل المندورة، وأيضًا كل ما له سببٌ؛ كتحية المسجد، وركعتي الطواف، وصلاة الكسوف، ونحو ذلك، وهذا هو القول الراجح، القول الراجح الذي اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كابن تيمية وابن القيم وشيخنا عبدالعزيز بن بازٍ والشيخ محمد بن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع، أنه يجوز فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي؛ وعلى هذا: فمن دخل المسجد بعد صلاة العصر؛ يجوز له أن يأتي بتحية المسجد، ويجوز أن يُصلَّى على الجنائز بعد صلاة العصر، ويجوز أن تُصلَّى صلاة الكسوف بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة العصر، ويجوز أن يأتي بركعتي الطواف بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة العصر؛ لأن هذه كلها من ذوات الأسباب؛ وذلك لأن الأحاديث الواردة في فعل ذوات الأسباب عند وجود سببها عامةٌ محفوظةٌ لم تخصص، بخلاف أحاديث النهي عن الصلاة، فإنها مخصوصةٌ كما سبق، ثم أيضًا النهي إنما هو عن تحري الصلاة في أوقات النهي؛ لئلا يتشبه المصلي بالمشركين الذين يسجدون للشمس عند طلوعها وعند غروبها، أما ذوات الأسباب: فمقبولةٌ بأسبابها، فيبعد أن يقع الاشتباه في مشابهة المشركين؛ ولهذا جاء في بعض الروايات: لا تَحَرَّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها [16]، والذي يُصلي لسببٍ؛ لا يقال: إنه متحرٍّ، وإنما صلى لأجل قيام ذلك السبب.

الاعتبار في التحريم بعد العصر بفراغ صلاة نفسه، لا بشروعه فيها

والاعتبار في التحريم بعد العصر بفراغ صلاة نفسه، لا بشروعه فيها، فلو أحرم بها ثم قَلَبَها نفلًا؛ لم يُمنع من التطوع.

يعني: الاعتبار بفراغه من صلاة العصر لا بمجرد شروعه فيها، فلو أنه كبَّر لصلاة العصر ثم قلبها نفلًا؛ فلا يَمنع ذلك من التطوع، ولا يكون ذلك الوقت وقت نهيٍ، هذا مراد المؤلف.

قراءة القرآن في الطريق

ثم استطرد المؤلف وذكر جملةً من المسائل، وهذا من باب الاستطراد:

وتباح قراءة القرآن في الطريق.

وإنما ذكر ذلك المؤلف؛ ردًّا على من قال: إن ذلك يُكره، والصواب: أنه لا يكره؛ لأن قراءة القرآن أشرف أنواع الذكر، وقد كان النبي يذكر الله على كل أحيانه، وأُثِر هذا عن بعض السلف؛ وعلى هذا: لا بأس أن يقرأ الإنسان القرآن وهو يمشي، بعض الناس مثلًا يمشي ويقرأ القرآن، يقرأ مما يحفظ، فهذا أمرٌ طيبٌ، فإن كنتَ لا تحفظ كثيرًا من القرآن فلو تقرأ سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] تكررها وأنت تمشي، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن [17]، لو كنت مثلًا ستمشي نصف ساعةٍ، وكنت تقرأ طيلة نصف الساعة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تُكررها، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن، فما أعظم الأجر والثواب لمن فعل ذلك!

ومثل ذلك أيضًا: لو كنت في السيارة، لا بأس أن تقرأ من القرآن وأنت في السيارة؛ تقرأ من حفظك عن ظهر قلبٍ، أو تقرأ حتى من المصحف إذا لم تكن أنت القائد للسيارة، فلا بأس بقراءة القرآن في الطريق.

قراءة القرآن مع الحدث الأصغر

ومع حدثٍ أصغر.

تجوز قراءة القرآن مع الحدث الأصغر، وإنما تُكره مع الحدث الأكبر، وسبق تفصيل الكلام عن هذه المسألة في كتاب الطهارة.

قراءة القرآن مع وجود نجاسةٍ

ونجاسة ثوبٍ وبدنٍ وفمٍ.

أي: أن وجود النجاسة في ثوب الإنسان أو بدنه أو فمه، لا يمنع من قراءة القرآن.

حفظ القرآن فرض كفايةٍ

قال المصنف رحمه الله:

وحفظ القرآن فرض كفايةٍ.

وهذا قد حُكي إجماعًا، وحِفظ القرآن هو من النعم العظيمة التي ينعم الله تعالى بها على الإنسان؛ كما قال الله تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، ويقول النبي : الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة [18]، الذي يحفظ القرآن ويتقنه ويقرؤه قراءة الماهر به منزلته عليَّةٌ: مع السفرة الكرام البررة؛ وهذا يدل على عظيم منزلة من حفظ القرآن الكريم.

فينبغي أن تحرص -أخي المسلم- على حفظه، أو حفظ ما تيسر منه، ويتأكد هذا في حق طالب العلم، وأعجب من بعض طلبة العلم الذين يحرصون على حفظ المتون من كلام البشر، وهم لم يحفظوا كلام رب البشر، وهذا خللٌ كبيرٌ، ينبغي أن يحرص المسلم أولًا على أن يحفظ كتاب الله ، ثم بعد ذلك ينتقل لحفظ ما تيسر من المتون، والارتباط بالقرآن نعمةٌ عظيمةٌ، وقد قال عليه الصلاة والسلام -كما جاء في حديث أنسٍ – قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصتُه [19]، وهذا الحديث أخرجه أحمد والنسائي في “الكبرى” وابن ماجه بسندٍ حسنٍ، وأهل الله هم حفظة القرآن العاملون به، فهؤلاء هم الذين يَصدُق عليهم هذا الحديث -أنهم أهل قرآن- فيكونون هم أهل الله تعالى وخاصته، وهذه منزلةٌ رفيعةٌ عاليةٌ لحفظة كتاب الله إذا كانوا عاملين به.

يتعين حفظ ما يجب في الصلاة

ويتعين حفظ ما يجب في الصلاة.

والذي يجب في الصلاة: هو الفاتحة، فيجب حفظها؛ لأنه ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجبٌ، وقراءة الفاتحة ركنٌ من أركان الصلاة، بالنسبة للإمام والمنفرد، وواجبةٌ في حق المأموم.

وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أوقات النهي عن الصلاة.

صلاة الجماعة

قال المصنف رحمه الله:

باب صلاة الجماعة.

صلاة الجماعة مشروعةٌ بالإجماع، وقد جاءت نصوصٌ كثيرةٌ في فضلها؛ منها: قول الله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وقوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36]، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]، وحديث: صلاة الجماعة تَفضُل عن صلاة الفَذِّ بسبعٍ وعشرين درجةً [20]، إلى غير ذلك مما ورد في فضل صلاة الجماعة.

فوائد وحِكَم صلاة الجماعة

وصلاة الجماعة: اجتماع الناس في المسجد خمس مراتٍ في اليوم والليلة؛ هذا الاجتماع فيه مصالح عظيمةٌ؛ منها: ما يحصل من المودة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الجيران؛ ولهذا نجد أن الجيران إنما يتعارفون في الغالب في المسجد، وأن من كان مقصرًا في الصلاة مع الجماعة في المسجد لا يُعرف من قِبَل جيرانه.

فالصلاة مع الجماعة في المسجد تُحقق معاني التكافل الاجتماعي بين الجيران، وتقوية المحبة والمودة والألفة بينهم؛ ولهذا فإن أفضل مسجدٍ يُصلي فيه الإنسان بعد المساجد الثلاثة؛ المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى: هو أقرب مسجدٍ إلى بيته، لماذا؟ لأنه بذلك يحقق مقصود الشارع من صلاة الجماعة.

أما من كان كلَّ وقتٍ يصلي في مسجدٍ؛ فهذا لا يحقق مقصود الشارع من صلاة الجماعة، فمقصود الشارع من صلاة الجماعة: هو تحقيق الألفة والمحبة والمودة ومعاني التكافل الاجتماعي بين الجيران، وإلا فقد يصلي الإنسان في بيته صلاةً أكثر خشوعًا من صلاته في المسجد، لماذا طُلِبَ من الرجال أن يصلوا خمس مراتٍ جماعةً في المسجد؟ لأجل تحقيق معاني التكافل الاجتماعي بين الجيران وبين أهل الحي، حين يلقى بعضهم بعضًا، ويسلم بعضهم على بعضٍ، ويتفقد بعضهم أحوال بعضٍ، وتقوى بينهم المحبة والمودة والألفة، هذه المعاني معانٍ مقصودةٌ في الشريعة الإسلامية، ويحققها اجتماع المسلمين خمس مراتٍ في اليوم والليلة في المسجد.

أيضًا: من مصالح صلاة الجماعة ومن فوائدها: إظهار عزة الإسلام والمسلمين، يظهر هذا عندما يُرى كثرة المسلمين في المساجد، خاصةً في الحرمين، ويُنقَل ذلك عبر وسائل الإعلام، فهذا لا نظير له في أي دينٍ من الأديان، هل يوجد دينٌ من الأديان ترى فيه هذه الجموع الكثير بهذه الأعداد في المساجد؟ لا تجد؛ ولهذا فهذه الصورة صورةٌ مُشرِقةٌ، صورةٌ عظيمةٌ تظهر فيها عزة الإسلام والمسلمين.

ومن الفوائد أيضًا: تعليم الجاهل؛ فإن بعض المصلين إنما يستفيد عن طريق الصلاة مع الجماعة، ربما حفظوا قصار السور من الإمام، وربما أيضًا مثلًا إذا سها الإمام ثم سجد للسهو؛ تعلموا منه أحكام سجود السهو، وماذا يُفعل، ونحو ذلك، ففيها تعليمٌ للجاهل.

أيضًا: الإمام ربما يُلقي كلمةً أو موعظةً أو نحو ذلك، ففيها تعليمٌ للجاهل.

ومنها أيضًا: نحن قلنا: تفقُّد أحوال المصلين بعضهم لبعضٍ، هذا سبق.

أيضًا: تعويد النفس على الانضباط والنظام؛ لأن المصلين يقفون خلف إمامٍ واحدٍ، ويسوون صفوفهم، ولا يتقدمون على الإمام، ولا يتأخرون عنه، بل يتابعونه، فهذا فيه تعويدٌ للنفس على الانضباط.

وأيضًا: هذا الاجتماع يُمثِّل اجتماعًا مصغرًا لاجتماع الأمة على ولي أمرها، فلا يختلفون عليه، ولا يخرجون عن طاعته؛ ولهذا قال بعض العلماء: اجتماع المصلين على إمامهم في الإمامة الصغرى، تنبيهٌ على الاجتماع على الإمام في الإمامة الكبرى، فكما أن المصلين خلف إمام المسجد يتابعونه، لا يتقدمون عليه، ولا يتأخرون عنه؛ فهكذا أيضًا الرعية مع ولي الأمر؛ عليهم السمع والطاعة وعدم الخروج عن طاعته.

وجوب الجماعة على الرجال الأحرار القادرين

تجب على الرجال الأحرار القادرين.

المؤلف يرى أن صلاة الجماعة واجبةٌ، وهذا هو القول الراجح الذي تدل له الأدلة من الكتاب والسنة:

ومنها: قول الله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102]، فلم يُرَخِّص الله تعالى للمسلمين في حال الحرب والخوف والمعركة، مع ما في ذلك من المشقة؛ ففي حال السلم والأمن من باب أولى.

وأيضًا: ما جاء في “صحيح مسلمٍ” من حديث أبي هريرة  أن رجلًا أعمى أتى النبي فقال: يا رسول الله، إني رجلٌ أعمى، وليس لي قائدٌ يلائمني يقودني للمسجد، فهل تجد لي رخصةً أن أصلي في بيتي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هل تسمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح؟، قال: نعم، قال: فأجب [21]، وجاء في روايةٍ عند غير مسلمٍ: فإني لا أجد لك رخصةً [22]، فإذا كان النبي -الرحيم الرفيق بأمته، الذي ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما [23]- لم يجد رخصةً لهذا الأعمى الذي ليس له قائدٌ يقوده للمسجد؛ فكيف بالصحيح المبصر القادر؟!

أيضًا من الأدلة: قول النبي عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطبٍ فيُحتطَب، ثم آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجالٍ معهم حِزَمٌ من حطبٍ، فأحَرِّق عليهم بيوتهم بالنار [24]، والتحريق بالنار عقوبةٌ شديدةٌ لا تكون إلا على منكَرٍ عظيمٍ، وجاء في روايةٍ عند أحمد: لولا ما في البيوت من النساء والذرية.. [25].

فكون النبي عليه الصلاة والسلام -وهو الصادق المصدوق- يخبر بأنه هَمَّ أن يحرِّق على قومٍ بيوتهم بالنار؛ لكونهم لا يصلون مع الجماعة في المسجد؛ هذا من أظهر الأدلة على وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد.

وأيضًا من الأدلة: حديث أبي الدرداء أن النبي قال: ما من ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بَدْوٍ لا تقام فيهم الصلاة؛ إلا استحوذ عليهم الشيطان [26]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي بسندٍ صحيحٍ.

أيضًا: قول مسعودٍ : “من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا؛ فليحافظ على هذه الصلوات حيث يُنادى بهن؛ فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته؛ لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم؛ لضللتم، ولقد رأيتُنا -يعني الصحابة- وما يتخلف عنها -يعني الصلاة مع الجماعة في المسجد- ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها -أي: ما يتخلف عن الصلاة مع الجماعة في المسجد- إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهادَى بين الرجلين -يعني: يُعضَّد له بين اثنين- حتى يقام في الصف” [27]، رواه مسلمٌ.

إذنْ القول الصحيح في هذه المسألة: أن الصلاة مع الجماعة في المسجد واجبةٌ، ولكن هذه المسألة فيها أقوالٌ أخرى:

  • فقال بعضهم: إنها مستحبةٌ استحبابًا مؤكدًا، وهذا مذهب الحنفية والمالكية وبعض الشافعية.
  • وقال آخرون: إنها فرضٌ على الكفاية، وهذا هو مذهب الشافعية.
  • وهناك من قال: إنها شرطٌ لصحة الصلاة، وهذا قول أبي محمد ابن حزمٍ، واختيار ابن تيمية.

والقائلون بأنها سنةٌ استدلوا بأحاديث صحيحةٍ غير صريحةٍ، أو صريحةٍ غير صحيحةٍ؛ فمن الأحاديث الصحيحة غير الصريحة: قول النبي عليه الصلاة والسلام: صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجةً [28]، حديثٌ صحيحٌ، أخرجه البخاري ومسلمٌ، لكنه ليس صريحًا في عدم إيجاب الصلاة مع الجماعة؛ لأن كونها أفضل لا يقتضي أنها غير واجبةٍ، وأنها مستحبةٌ؛ فإن التفضيل قد يكون في الأمور الواجبة؛ كما قال الله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۝تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الصف:10-11]، هذه أمورٌ واجبةٌ، ومع ذلك قال: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، فالتفضيل والخيرية لا يدلان على عدم الوجوب.

أما من قال: بأنها فرض كفايةٍ فقال: إنها شعيرةٌ، والمقصود إحياؤها، فإذا أقامها بعض المسلمين؛ تحقق المقصود، لكن هذا محل نظرٍ، لو كان الأمر كذلك؛ لرخص النبي عليه الصلاة والسلام للرجل الأعمى؛ لأن الصلاة كانت تقام في مسجده، من قال بأنها شرطٌ -يعني: لا تصح الصلاة إلا مع الجماعة في المسجد- استدل بحديث: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد [29]، لكنه حديثٌ ضعيفٌ.

وأيضًا استدل بحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: من سمع النداء فلم يُجِب؛ فلا صلاة له إلا من عذرٍ [30]، وهو أيضًا لا يصح مرفوعًا، وإنما هو موقوفٌ.

وبهذا يتبين أن القول الراجح: هو أن صلاة الجماعة واجبةٌ في المسجد، وهو قولٌ وسطٌ بين هذه الأقوال؛ بين من قال بأنها شرطٌ، وبين من قال بأنها مستحبةٌ.

وقول المؤلف: “على الرجال”، يُفهم منها: أن صلاة الجماعة لا تجب على النساء، وهذا محل إجماعٍ، وسيأتي الكلام عنه إن شاء الله.

الأحرار.

فلا تجب على الأرقاء؛ لأن الرقيق مشغولٌ بخدمة سيده.

القادرين.

فغير القادر لا تجب عليه صلاة الجماعة، وسيأتي الكلام على هذا مفصلًا في باب صلاة أهل الأعذار.

صلاة الجماعة للمسافر

حضرًا وسفرًا.

يرى المؤلف أن صلاة الجماعة تجب على المسافرين كما تجب على المقيمين؛ لعموم الأدلة.

وذهب أكثر أهل العلم إلى أن المسافر لا تجب عليه الجماعة، سواءٌ أكان سائرًا في الطريق أم نازلًا، وهذا هو ظاهر هدي النبي عليه الصلاة والسلام وهدي أصحابه ، وقد خففت الشريعة للمسافر، فأباحت له قصر الصلاة، وأباحت له الجمع، وإيجاب الجماعة لا يتفق مع ذلك، ومما يدل لهذا: أن النبي لما نزل بعرفاتٍ في حجة الوداع لم يُقِم الجمعة، فصلاها ظهرًا، فإذا لم تجب الجمعة على المسافر النازل؛ لم تجب عليه الجماعة من باب أولى، لاحِظ هذا الاستدلال اللطيف: النبي لما نزل بعرفاتٍ في حجة الوداع لم يُقِم الجمعة مع كونه نازلًا، فإذا لم تجب الجمعة على المسافر النازل؛ لم تجب عليه الجماعة من باب أولى.

وأيضًا يدل لذلك: قصة الرجلين اللذين صليا في رحالهما، فقال لهما النبي : إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد؛ فصليا؛ تكن لكما نافلةً [31]، أخرجه أبو داود، وهو حديثٌ صحيحٌ، ولم ينكر عليهما النبي تركهما الجماعة، وكانا في سفرٍ.

فالقول الراجح: أن المسافر لا تجب عليه الجماعة، فلو كنت مثلًا مسافرًا ومقيمًا في الفندق، فيجوز لك أن تصلي وحدك في الفندق، ولا يلزمك أن تذهب للمسجد فتصلي معه على القول الراجح.

أقل الجماعة

وأقلها: إمامٌ ومأمومٌ ولو أنثى.

أقل الجماعة: اثنان؛ إمامٌ ومأمومٌ، ويدل لذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث مالك بن الحويرث : إذا حضرت الصلاة؛ فأذِّنا وأقيما، ثم ليؤمَّكما أكبركما [32].

وقول المؤلف: “ولو أنثى”، يدل على أن الجماعة تنعقد برجلٍ وامرأةٍ، وعلى هذا لو فاتت صلاة الجماعة رجلًا، فأمَّ زوجته في البيت؛ فإنه بذلك يحصل على أجر الجماعة؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص إذا فاتته الصلاة مع الجماعة في المسجد ألا يصلي وحده، فإن وجد جماعةً أُخرى في المسجد؛ صلى معهم، فإن لم يجد؛ يذهب لأهل البيت ويصلي مع أحدٍ من أهل البيت، فيكون مثلًا إمامًا لزوجته أو لابنته، أو نحو ذلك.

إمامة الصبي

ولا تنعقد بالمميز في الفرض.

أي: أن إمامة الصبي المميز لا تصح في الفرض، وهذا أحد أقوال أهل العلم، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة، قالوا: لأن الإمامة حالة كمالٍ، والصبي ليس من أهل الكمال، فكما أنه لا تؤم المرأة الرجل؛ فلا يؤم الصبيُّ البالغَ.

والقول الثاني: أن إمامة الصبي تصح في الفرض والنفل، وهذا هو مذهب الشافعية، وهو القول الراجح؛ لدلالة السنة على هذا؛ كما جاء في قصة عمرو بن سلمة أنه كان يؤم قومه في عهد النبي وعمره سبع سنواتٍ؛ لكونه كان أحفظهم لكتاب الله ، ولأن من صحت صلاته؛ صحت إمامته، هذا هو الأصل، أن من صحت صلاته صحت إمامته في الجملة، ولأن من جازت إمامته في النفل جازت إمامته في الفرض كالبالغ؛ وعلى هذا فالقول الراجح: أن إمامة الصبي المميز صحيحةٌ، فلو كان هناك صبيٌّ عمره مثلًا عشر سنواتٍ؛ لا بأس أن يؤم الكبار البالغين؛ فإن عمرو بن سلمة أمَّ قومه وعمره سبع سنواتٍ، وخلفه كبارٌ وشيوخٌ، وأقرهم النبي على هذا.

حكم صلاة الجماعة بالمسجد

قال المؤلف رحمه الله:

وتُسنُّ الجماعة بالمسجد.

المؤلف لما قرر أنه تجب الجماعة؛ هنا أتت مسألةٌ أخرى: هل تجب الجماعة في المسجد أو تجب الجماعة ولو في غير المسجد؟

المؤلف يقول: إنها تجب الجماعة، لكن لا يلزم أن تكون في المسجد، وإنما يُسنُّ ذلك، وهذا أحد أقوال العلماء في المسألة، قالوا: لأن الجماعة تتحقق في المسجد وفي غير المسجد، والأحاديث إنما وردت بإقامة الجماعة.

والقول الثاني في المسألة: أن صلاة الجماعة يجب إقامتها في المسجد، وهذا هو القول الراجح، وهو قولٌ عند الحنابلة، وقد اختاره ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، ومما يدل لذلك: قصة الرجل الأعمى الذي أتى النبي فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائدٌ يُلائمني يقودني إلى المسجد، فهل تجد لي رخصةً في أن أصلي في بيتي؟ قال: هل تسمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح؟، قال: نعم، قال: فأجب [33]، هذا الرجل الأعمى كان عنده في البيت من يمكن أن يصلي معه جماعةً، فلو كانت الجماعة لا تجب في المسجد؛ لرخص النبي لهذا الأعمى، وطلب منه أن يصلي مع أهل بيته جماعةً في البيت، فلما لم يرخص له؛ دل ذلك على أن الجماعة تجب في المسجد.

ومما يدل لذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطبٍ فيُحتطَب، ثم آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجالٍ معهم حزمٌ من حطبٍ، فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار [34]، فهؤلاء الذين هم النبي عليه الصلاة والسلام أن يُحرق عليهم بيوتهم بالنار ربما أنهم يُصلون جماعةً، ولم يستفسر النبي عن حالهم؛ فدل ذلك على وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد، وهذا هو مستقِرٌّ عند الصحابة ، كما قال ابن مسعودٍ ، قال: “ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته؛ لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم”، قال: “ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق”، فجعل ابن مسعودٍ التخلف عن الصلاة مع الجماعة في المسجد من شعار المنافقين: “ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يُهادَى بين الرجلين” يعني: يُعضَد له “حتى يُقام في الصف”.

قال ابن القيم رحمه الله: من تأمل السنة حق التأمل؛ تبين له أن فعلها في المساجد فرضٌ على الأعيان، إلا لعارضٍ يَجوز معه ترك الجمعة والجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذرٍ كترك أصل الجماعة لغير عذرٍ، قال: فالذي نَدين الله به: أنه لا يجوز لأحدٍ التخلف عن الجماعة في المسجد إلا لعذرٍ، لكن وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد أدنى من وجوب الجماعة، وعلى هذا إذا وجد مصلحةٌ تقتضي الصلاة جماعةً خارج المسجد فلا بأس؛ ومن ذلك مثلًا: صلاة الموظفين في الدوائر الحكومية جماعةً، لا بأس، ولا يلزم الموظفين أن يخرجوا من الدائرة الحكومية لكي يصلوا في المسجد، كذلك صلاة الطلاب في المدرسة جماعةً لا بأس، مع أنه ليس مسجدًا وإنما مصلًّى؛ ولأن المصلحة تقتضي ذلك، فإذا اقتضت المصلحة أن يُصلوا جماعة في غير المسجد؛ فلا بأس بهذا.

صلاة الجماعة للنساء

وللنساء منفرداتٍ عن الرجال.

أي: أن الجماعة تسن للنساء منفراتٍ عن الرجال، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، ومذهب الشافعية.

والقول الثاني: أنها تكره الجماعة في حقهن، وهو مذهب الحنفية، وهناك قولٌ بأنها لا تصح أصلًا منهن، وهو مذهب المالكية، لاحِظوا اختلاف الأقوال: قول بأنها تستحب، وقولٌ بأنها لا تصح، وقولٌ بأنها تكره.

والقول الرابع: أن الجماعة مباحةٌ في حق النساء، وهذا هو الأظهر والله أعلم، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تؤم النساء، وروي ذلك عن أم سلمة، لكن هذا إنما ورد في أحوالٍ عارضةٍ، ولم يُعرف أن ذلك كان بصفةٍ دائمةٍ مستمرةٍ.

فالقول باستحباب الجماعة للنساء محل نظرٍ؛ لأنه يحتاج إلى دليلٍ ظاهرٍ، ولو كانت سُنةً؛ لاجتمع نساء النبي وصلين جماعةً، وقد كانت بيوتهن متجاورةً، ولم يَشِعْ هذا في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا في زمن الصحابة ، ولا في زمن التابعين: أن نساءً كن يجتمعن ويصلين جماعةً، فالأقرب -والله أعلم- أن الجماعة في حق النساء مباحةٌ، وأنهن بالخيار؛ إن شئن صلين جماعةً، وإن شئن انفردن.

حكم التقدم على الإمام الراتب

وحرم أن يؤم بمسجدٍ له إمامٌ راتبٌ، فلا تصح إلا مع إذنه -إن كره ذلك- ما لم يضق الوقت.

الإمام الراتب هو الإمام الذي يعيَّن من قِبَل ولي الأمر، أو الذي يتفق جماعة المسجد على أن يكون إمامًا، وهذا الإمام الراتب له سلطانٌ بمسجده، يعني: هو بمثابة المدير للمسجد، فلا يُفتات عليه في الإمامة؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ولا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه [35].

فإذا لم يأذن الإمام بأن يؤم غيرُه، وأتى ووجد الناس قد صلوا بغير إذنه وسبقوه؛ فعلى كلام المؤلف أنهم يعيدون الصلاة، وأن صلاتهم لا تصح، ما لم يضق الوقت؛ لكونهم قد افتاتوا على الإمام الراتب.

وذهب بعض العلماء إلى أن صلاتهم تصح مع الإثم؛ مع إثم من افتات على الإمام الراتب، وهذا هو القول الراجح؛ لأنها صلاةٌ مكتملة الشروط والواجبات.

هل تقام الجماعة إذا تأخر الإمام وضاق الوقت؟

ما لم يضق الوقت.

يعني: إن ضاق الوقت؛ فلهم أن يصلوا ولو بدون إذن الإمام الراتب، لكن ينبغي للإمام الراتب أن يوكِّل من يصلي عنه، من يؤم الناس، إذا عرض له عارضٌ، إما توكيلًا عامًا، أو توكيلًا خاصًّا، التوكيل العام: أن يقول لجماعة المسجد: إذا تأخرت عن موعد الإقامة فصلُّوا، والتوكيل الخاص: أن يوكل أحدًا من الناس أن يؤم المصلين، وبذلك يزول الحرج عنه وعن جماعة المسجد؛ فإنه إذا لم يفعل ذلك؛ فسيلحق جماعةَ المسجد الحرجُ، ويلحقه أيضًا الحرج، وتظهر عيوبه أيضًا لجماعة المسجد؛ لأنه في كل مرةٍ سينتظرونه مدةً طويلةً، ويسبب هذا تشويشًا وإرباكًا وحديثًا بين جماعة المسجد عن هذا الإمام الذي يتأخر، لكن لو أنه وكَّلهم توكيلًا عامًّا، وصلَّوا الصلاة في وقتها؛ فإن هذه الأمور على الأقل تخف إن لم تَزُل بالكلية؛ ولهذا قال الفقهاء: ينبغي أن يراسَل الإمام إن غاب عن وقته المعتاد، وفي الوقت الحاضر يمكن ذلك عن طريق وسائل التواصل والجوال، ونحو ذلك؛ وهذا يدل على عظيم مقام إمام المسجد، وأنه ينبغي أن يُعرف له قدره واحترامه؛ ولهذا الفقهاء يقولون: إذا تأخر إمام المسجد؛ ينبغي أن يراسَل، مع أنه في زمنهم ليس هناك وسائل تواصلٍ، ومع ذلك قالوا: ينبغي أن يراسَل، لكن لو أن الإمام لم يأذن لهم إذنًا عامًّا ولا خاصًّا، وتأخر عن الوقت المعتاد تأخرًا كثيرًا، ولم يُمكن مراسلته، فماذا يفعل جماعة المسجد؟ ظاهر كلام المؤلف: أنهم ينتظرون، ما لم يضق الوقت.

وقال بعض العلماء: أنهم لا ينتظرون، بل يقدمون من يؤمهم، وهذا هو القول الراجح، واختاره شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله، ومن أدلة ذلك: أن النبي لما ذهب يصلح بين بني عمرو بن عوفٍ وتأخر؛ أمهم أبو بكرٍ الصديق ، وأتى النبي وهم يصلون [36]، وأيضًا في إحدى الغزوات لما تأخر عليه الصلاة والسلام أمهم عبدالرحمن بن عوفٍ، وفات النبيَّ بعضُ الركعات فقضاها بعد السلام، ثم لما سلم؛ قال لهم: أحسنتم -أو أصبتم- [37].

من كبَّر قبل تسليمة الإمام الأولى؛ أدرك الجماعة

ومن كبَّر قبل تسليمة الإمام الأولى؛ أدرك الجماعة.

أي: أن الجماعة إنما تدرك بإدراك جزءٍ منها ولو بقدر التسليمة، ولكن المؤلف قيَّد ذلك بالتسليمة الأولى؛ لأن التسليمة الثانية ليست واجبةً عند بعض أهل العلم، بل عند الجمهور، وهذه المسألة -أعني مسألة ما تدرك به الجماعة- اختلف فيها الفقهاء على قولين:

القول الأول: أنها تدرك بإدراك جزءٍ من الصلاة، فمن كبر قبل سلام إمامه التسليمة الأولى؛ فقد أدرك الجماعة، وإلى هذا ذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بحديث أبي هريرة أن النبي قال: إذا سمعتم الإقامة؛ فامشوا وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا [38]، متفقٌ عليه، قالوا: فدل هذا الحديث على أن من أدرك جزءًا من الصلاة؛ فإنه يكون مدركًا للصلاة؛ ولأنه أدرك جزءًا من صلاة الإمام؛ فأشبه ما لو أدرك ركعةً.

وذهب المالكية إلى أن الجماعة إنما تدرك بإدراك ركعةٍ، وهو روايةٌ عند الحنابلة، واستدلوا بحديث أبي هريرة أن النبي قال: من أدرك ركعة من الصلاة؛ فقد أدرك الصلاة [39]، متفقٌ عليه.

فإن هذا الحديث يدل بمفهومه على أن من أدرك دون الركعة فإنه لا يكون مدركًا للصلاة، وهذا هو القول الراجح: أن الجماعة إنما تدرك بإدراك ركعةٍ، وقد اختاره ابن تيمية وابن القيم وشيخنا عبدالعزيز بن بازٍ، والشيخ محمد بن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع؛ ولذلك في صلاة الجمعة لو أدرك أقل من ركعةٍ؛ فإنه تكون قد فاتته الجمعة، ويصليها ظهرًا؛ فكذلك أيضًا الجماعة، إذا لم يدرك ركعةً؛ تكون قد فاتته الجماعة كذلك، لا فرق بين الجمعة والجماعة، الجمعة تدرك بإدراك ركعةٍ، كذلك الجماعة تدرك بإدراك ركعةٍ ولا فرق.

من ثمرات الخلاف في هذه المسألة: إذا أتى رجلٌ مسجدًا وقد رفع الإمام من الركوع من الركعة الأخيرة، فإن كان يرجو وجود جماعةٍ أخرى؛ فالأفضل أن ينتظر حتى يصلي مع الجماعة الجديدة التي يرجوها؛ لأنه لو دخل مع الإمام في هذه الحال؛ فقد فاتته الجماعة، لكن لو انتظر وصلى مع الجماعة الجديدة؛ فيكون قد ضمن أجر الجماعة، ضمن سبعًا وعشرين درجةً، أما إذا كان لا يرجو وجود جماعةٍ جديدةٍ، فإنه يدخل معهم على كل حالٍ؛ لأن كونه يدخل معهم فيدرك جزءًا من الصلاة؛ خيرٌ من كونه يصلي منفردًا.

طيب لو دخل مع الجماعة الأولى ظنًّا منه أنه لن يأتي أحدٌ، ثم في أثناء الصلاة أحس بجماعةٍ جديدةٍ تصلي، فالأفضل أن يقلب الفرض نافلةً، ركعتين خفيفتين، ثم ينصرف ويصلي مع الجماعة الجديدة؛ لأجل أن يحوز أجر الجماعة، يعني: أقول: هذا رجلٌ أتى للمسجد وقد رفع الإمام من الركوع من الركعة الأخيرة، ثم لما سلَّم الإمام؛ قام يقضي، وأحس بجماعةٍ جديدةٍ تقيم الصلاة، فالأفضل في حقه أن يقلب الفرض إلى نفلٍ، يصليها ركعتين خفيفتين، ويلتحق بالجماعة الجديدة؛ لأنه إذا فعل ذلك؛ ضمن أجر الجماعة، ضمن سبعًا وعشرين درجةً، بينما لو استمر في الجماعة الأولى؛ فقد فاته أجر الجماعة؛ لأنه لم يدرك ركعةً، والجماعة إنما تدرك بإدراك ركعةٍ على القول الراجح.

من أدرك الركوع غير شاكٍّ؛ أدرك الركعة

ومن أدرك الركوع غير شاكٍّ؛ أدرك الركعة، واطمأن ثم تابع.

أي: أن الركعة إنما تدرك بإدراك الركوع مع الإمام؛ لقصة أبي بكرة ، حيث أتى والنبي يصلي بالناس، فركع دون الصف ثم مشى حتى ركع في الصف، فلما قضى النبي صلاته؛ قال له: زادك الله حرصًا! ولا تَعُد [40]، ولم يأمره بقضاء تلك الركعة، لكن لا بد أن يغلب على ظنه أنه أدرك الركوع؛ ولذلك قال المؤلف: “غير شاكٍّ”.

والأفضل لمن أتى والإمام راكعٌ: أن يكبر تكبيرتين: تكبيرة الإحرام وهو قائمٌ، ثم تكبيرة الركوع، يقول: أكبر، وهو قائمٌ، ثم يقول: الله أكبر، أثناء ركوعه.

وإن كبر تكبيرةً واحدةً؛ فلا يخلو الأمر من حالاتٍ:

  • الحالة الأولى: أن ينوي بالتكبيرة تكبيرة الإحرام، فتجزئ عن تكبيرة الركوع.
  • الحالة الثانية: أن ينوي بالتكبيرة تكبيرة الركوع، ولا ينوي تكبيرة الإحرام، فلا تجزئ هذه التكبيرة عن تكبيرة الإحرام، ولا تنعقد صلاته؛ لأنه أخل بركنٍ من أركان الصلاة، وهو تكبيرة الإحرام.
  • الحالة الثالثة: أن ينوي تكبيرةً واحدةً؛ ينوي بها تكبيرة الإحرام والركوع جميعًا، فلا بأس بذلك -على القول الراجح- لكن الأولى والأكمل: أن يكبر تكبيرتين: تكبيرة الإحرام وهو قائمٌ، وتكبيرة الركوع حين يركع.

كيف يدخل المسبوق مع الإمام؟

وسُنَّ دخول المأموم مع إمامه كيف أدركه.

هذه هي السنة: أن المأموم إذا أتى الإمامَ فإنه يدخل معه، سواءٌ كان الإمام قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا أو جالسًا، يدخل معه على أي حالٍ كان عليها حال الإمام؛ لقول النبي : فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا [41]، فإن قوله : فما أدركتم فصلوا، يشمل جميع أحوال الإمام.

وبعض الناس يأتي والإمام في السجود، فينتظر حتى يقوم الإمام للركعة التالية، وهذا خطأٌ؛ الذي ينبغي له: أن يسجد إذا أتى الإمامَ وهو في السجود، يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائمٌ ثم يسجد، ويتابع مع الإمام، إذا أتى والإمام في الجلسة بين السجدتين، يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائمٌ، ويجلس بين السجدتين ويتابع مع الإمام.

فالسنة لمن دخل: أن يفعل كما يفعل الإمام، ولا ينتظر حتى يصل الإمام إلى الركعة التالية.

وهنا مقولةٌ للترمذي نقلتها في “السلسبيل”، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم، قالوا: إذا جاء الرجل والإمام ساجدٌ؛ فليسجد، ولا تجزئه تلك الركعة إذا فاته الركوع مع الإمام، وذُكر عن بعضهم أنه قال: لعله لا يرفع رأسه في تلك السجدة حتى يُغفر له، يعني: إذا أتى والإمام ساجدٌ؛ فليسجد معه؛ لأنه بهذا السجود يكسب أجرًا وثوابًا، ولا يقال: إن هذا السجود لا فائدة منه، بل يكسب به أجرًا وثوابًا، ربما يُغفر له بسبب تلك السجدة، ولا ينتظر حتى يصل الإمام إلى الركعة التالية.

إذا قام المسبوق قبل تسليم إمامه التسليمة الثانية

وإن قام المسبوق قبل تسليمة إمامه الثانية ولم يرجع؛ انقلبت نفلًا.

انتقل المؤلف للكلام عن أحوال المأموم مع الإمام، وابتدأ بذكر المسابقة، والمسابقة محرمةٌ، بل قد تُبطل الصلاة؛ ولهذا قال المؤلف: “وإن قام المسبوق قبل تسليمة إمامه الثانية”، يعني: قبل أن يسلم الإمام التسليمة الثانية، “ولم يرجع”، يعني: بطلت صلاة الفرض في حقه، وانقلبت إلى نافلةٍ، قالوا: لترك العود الواجب لمتابعة إمامه بلا عذرٍ، هذا إذا كان متعمدًا، أما إذا كان جاهلًا أو ناسيًا؛ فصلاته صحيحةٌ، وهذا الكلام كله بناءً على أن التسليمتين ركنٌ من أركان الصلاة، وسبق القول بأن الراجح: أن التسليمة الثانية ليست واجبةً، فضلًا عن أن تكون ركنًا؛ وبناءً على ذلك: إذا قام المسبوق بعد تسليمة الإمام التسليمة الأولى وقبل التسليمة الثانية؛ فصلاته صحيحةٌ.

صلاة النافلة بعد إقامة الفريضة

وإذا أقيمت الصلاة التي يريد أن يصلي مع إمامها؛ لم تنعقد نافلته، وإن أقيمت وهو فيها؛ أتمها خفيفةً.

إذا أقيمت الصلاة ودخل الإنسان المسجد؛ فليس له أن يتنفل بعد إقامة الصلاة، فإن تنفل؛ لم تنعقد صلاته أصلًا، وهذا معنى قول المؤلف: “وإذا أقيمت الصلاة التي يريد أن يصلي مع إمامها لم تنعقد نافلته”؛ لقول النبي : إذا أقيمت الصلاة؛ فلا صلاة إلا المكتوبة [42]، رواه مسلمٌ.

أما إذا أقيمت الصلاة وهو يصلي صلاة نافلةً، وهو يصلي تحية المسجد، أو يصلي السنة الراتبة؛ فقد اختلف العلماء في ذلك؛ فالمؤلف يقول: أتمها خفيفةً، وبعضهم يقول: يقطعها، وهناك من قال: إنه إذا كان في الركعة الأولى يقطعها، وإذا كان في الثانية؛ أتمها خفيفةً؛ لأن النبي قال: من أدرك ركعةً من الصلاة؛ فقد أدرك الصلاة [43]، وفي هذا الحديث قال: إذا أقيمت الصلاة؛ فلا صلاة إلا المكتوبة، وإذا كان في الركعة الثانية؛ يكون قد أدرك الصلاة، ولم ينشئ صلاةً جديدةً؛ فلا يصدق عليه النهي الوارد في قوله: فلا صلاة إلا المكتوبة، وهذا هو الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة: أنه إذا كان في الركعة الأولى؛ يقطعها، وفي الركعة الثانية؛ يتمها خفيفةً، ولكن بالتجربة إذا أقيمت الصلاة وأنت في صلاة نافلةٍ؛ يمكنك أن تقتصر على أدنى الواجب، وتكملها خفيفةً وتدرك الإمام، فلو اقتصرت مثلًا على تسبيحةٍ واحدةٍ في الركوع والسجود، وبالتجربة أنك تستطيع أن تدرك الإمام؛ لأنه إذا أقيمت الصلاة؛ العادة أن أئمة المساجد يبقون وقتًا يسوون المصلين، ويلتفت الإمام عن يمينه وعن يساره، ويقول: استووا، وينظر للمصلين، هذا يأخذ وقتًا، فأنت إذا اقتصرت على أدنى الواجب؛ ففي الغالب أنك تستطيع أن تتمها خفيفةً، وتدخل مع الإمام، فإذا أمكن ذلك؛ كان ذلك حسنًا، إذا لم يمكن ذلك؛ إن كنت في الركعة الأولى فاقطعها، وإن كنت في الركعة الثانية؛ فأتمها خفيفةً.

إعادة الصلاة مع الجماعة لمن صلى وحده

ومن صلى ثم أقيمت الجماعة سُنَّ أن يعيد.

هذا رجلٌ صلى صلاة الفريضة، ثم وجد جماعةً أخرى تصلي، ذهب مثلًا إلى مسجدٍ آخر فوجدهم يصلون، أو ذهب إلى استراحةٍ أو محلٍّ فوجد أناسًا يصلون صلاة الجماعة، فالأفضل أن يدخل معهم بنية النافلة؛ لقول النبي لأبي ذرٍّ : كيف أنت إذا بقيتَ في قومٍ يؤخرون الصلاة عن وقتها؟، قال: ما تأمر؟ قال: صلِّ الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصلِّ [44]، وأيضًا قصة الرجلين اللذين صليا في رحالهما، قال لهما النبي عليه الصلاة والسلام: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعةٍ؛ فصلِّيا معهم؛ تكن لكما نافلةً [45]، فالإنسان إذا صلى صلاة الفريضة، ثم ذهب إلى أي مكانٍ ووجد من يصلون جماعةً؛ فالأفضل أن يدخل معهم بنية النافلة، هذا هو الأفضل والأكمل، ولو لم يدخل معهم؛ لا شيء عليه، لكن الأكمل والسنة أن يدخل معهم بنية النافلة.

والأُولى فرضه.

يعني: إذا أعاد الجماعة؛ فإن الصلاة الأولى فرضه، والثانية نافلةٌ، ولا يملك قلب النية؛ لكونه قد أتى بالفريضة.

ما يتحمله الإمام عن المأمومين

ويتحمل الإمام عن المأموم القراءة.

انتقل المؤلف للكلام عن الأمور التي يتحملها الإمام عن المأموم.

الأمر الأول: القراءة، ومسألة تحمل الإمام القراءة عن المأموم سبق الكلام عنها بالتفصيل، ورجحنا القول بأنه لا يجب على المأموم قراءة الفاتحة فيما جهر فيه الإمام، وأما الصلاة السرية وما لم يجهر به من الصلاة الجهرية، فيجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة، ولا يتحملها، وهنا قول المؤلف: “يتحمل الإمام عن المأموم القراءة”، ظاهره أنه حتى فيما يسر به، هذا هو المذهب عند الحنابلة.

ولكن القول الراجح: أنه في الصلاة السرية يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة.

وسجودَ السهو.

يعني: يتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو، فإذا سها المأموم؛ فلا يجب عليه أن يسجد للسهو، ولكن هذا بشرط أن يدخل معه من أول الصلاة، أما لو كان مسبوقًا فلا يتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو، وإنما يسجد المأموم في آخر صلاته.

وسجودَ التلاوة.

إذا قرأ المأموم في صلاته آية سجدةٍ؛ فإنه لا يسجد للتلاوة؛ يعني مثلًا: هذا المأموم قرأ سورة العلق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، وفي آخرها آية سجدةٍ ليس للمأموم أن يسجد، ويتحمل عنه هذه السجدة الإمام.

وهكذا لو قرأ الإمام آيةً فيها سجود تلاوةٍ ولم يسجد الإمام، فإن المأموم لا يسجد أيضًا.

والسترةَ.

سترة الإمام سترةٌ لمن خلفه، وقد جاء في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “أقبلتُ راكبًا على حمارٍ أتانٍ، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله يصلي بمنًى إلى غير جدارٍ، فمررت بين يدي الصف، وأرسلت الأتان ترتع” يعني: الحمار ترتع، “ودخلت الصف ولم ينكر عليَّ منكِرٌ” [46]، فسترة الإمام سترةٌ لمن خلفه.

ودعاءَ القنوت.

يعني: أن الإمام تحمل عن المأموم دعاء القنوت، ويكفي أن المأموم يؤمِّن على دعائه، ولا حاجة لأن يعيد المأموم دعاء الإمام، والمؤمِّن شريكٌ للداعي في الدعاء، فالداعي إذا دعا بدعوةٍ فقلتَ: آمين، فأنت تشترك معه في هذا الدعاء، ويدل لذلك: أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يدعو وكان هارون يقول: آمين، قال الله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، مع أن الداعي هو موسى وليس هارون، لكن هارون كان يؤمِّن؛ فدل ذلك على أن المؤمِّن على الدعاء شريكٌ للداعي، وهذه مسألة يغفُل عنها بعض الناس، يجد من يدعو ولا يؤمن على دعائه، يحرم نفسه من هذا الفضل، إذا سمعت من يدعو بدعاءٍ حسنٍ؛ فأمِّنْ على دعائه، فإنك تكون شريكًا معه في الدعاء، فإن الله تعالى قال لموسى وهارون: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا، مع أن الداعي موسى، وهارون يقول: آمين فقط.

والتشهد الأول إذا سبق بركعةٍ في رباعيةٍ.

أي: اذا أتى المسبوق وقد فاتته ركعةٌ ودخل مع الإمام؛ فالركعة الثانية في حق الإمام هي الأولى في حق المأموم، فإذا قام الإمام للركعة الثالثة؛ تكون الثانيةَ في حق المسبوق، يُفترض أن المأموم المسبوق يجلس بعد الركعة الثالثة، لكن لا يشرع له ذلك؛ لأجل متابعة إمامه؛ وعلى ذلك: سيترك التشهد الأول في موضعه، وهذا التشهد يتحمله عنه الإمام، فهو إذنْ يجلس للتشهد الأول في غير موضع جلوسه، ولا يجلس في موضع الجلوس لأجل متابعة الإمام، وهذا يدل على عظيم شأن المتابعة، فالمأموم يترك أمرًا واجبًا عليه لأجل المتابعة.

والسنة للمأموم أن يستفتح ويتعوذ في الجهرية.

هذا تفريعٌ عن المسألة السابقة؛ أي أن الإمام يتحمل على المأموم القراءة، وما دام أنه يتحمل عنه القراءة؛ فهذا التحمل فيما يجهر به الإمام، والإمام لا يجهر بالتعوذ ولا بالاستفتاح؛ ولهذا فإن المأموم يُشرع له أن يستفتح ويتعوذ؛ لكون الإمام لا يجهر بهما.

ويقرأ الفاتحة وسورةً حيث شُرِعَت في سكتات إمامه، وهي قبل الفاتحة، وبعدها، وبعد فراغ الفاتحة.

لو أن المؤلف أتى بهذه العبارة بعد كلامه عن حكم قراءة المأموم لسورة الفاتحة؛ لكان هذا أحسن؛ لأن تفريق الكلام بهذه الطريقة قد يشتت القارئ، وهذه قد أشرنا لها نحن في موضعها، لكن المؤلف ذكرها هنا، فالحنابلة عندهم أنه لا يجب على المأموم قراءة الفاتحة مطلقًا، حتى في الصلاة السرية لا تجب، ولكن قالوا: يُسنُّ له قراءتها في سكتات إمامه، وقد سبق أن قلنا: إن القول الراجح هو أنه يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلاة السرية، وفيما لم يجهر به الإمام في الصلاة الجهرية، مثل الثالثة والرابعة في العشاء.

وكم يُشرع للإمام أن يسكت من سكتةٍ أثناء القراءة؟

هناك سكتةٌ متفقٌ عليها، وهي التي بعد تكبيرة الإحرام، وهذه يقرأ فيها دعاء الاستفتاح، والسكتة التي تكون قُبيل الركوع بعد الفراغ من قراءة السورة، فهذه السكتة لطيفةٌ بقدر ما يتراد النفس، وهناك سكتةٌ مختلفٌ فيها: وهي التي تكون بعد قراءة الفاتحة.

والقول الراجح: أنها لا تُشرع؛ لأن الحديث المروي في ذلك ضعيفٌ؛ وعلى هذا: فيكون الصحيح في سكتات الإمام أنها سكتتان: السكتة التي بعد تكبيرة الإحرام، يقرأ فيها دعاء الاستفتاح، وسكتةٌ لطيفةٌ قُبيل أن يركع بقدر ما يتراد النفس.

قراءة المأموم في الصلاة السرية

ويقرأ فيما لا يجهر فيه متى شاء.

يعني: يقرأ المأموم في الصلاة السرية متى شاء، وسبق أن قلنا: إن القول الراجح: أن المأموم تجب عليه قراءة الفاتحة في الصلاة السرية، لكن هذا تفريغٌ على قول المؤلف بأن الإمام يتحمل عن المأموم القراءة في الصلاة السرية، وفي الصلاة الجهرية، ونحن الآن في هذا الشرح ننتقد المؤلف -رحمه الله تعالى- وفي النية -إن شاء الله- أن أضع متنًا فقهيًّا، سبق أن ذكرت هذا المشروع إن شاء الله، يعني متنًا فقهيًّا معاصرًا؛ لأن فقهاء كل عصرٍ يضعون متونًا مناسبةً لعصرهم، لكن المتون الفقيه المعاصرة الآن قليلةٌ، فنحن الآن ننتقد الإمام، ربما يأتي من ينتقدنا، إذا وضعنا متنًا فقهيًّا؛ لأن هذه طبيعة البشر: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].

حكم مسابقة الإمام أو موافقته في الصلاة

قال المصنف رحمه الله تعالى:

فصلٌ

ومن أحرم مع إمامه أو قبل إتمامه لتكبيرة الإحرام؛ لم تنعقد صلاته.

تكلم المؤلف في هذا الفصل عن أحوال المأموم مع إمامه، فابتدأ أولًا بالمسابقة، فالمسابقة إن كانت في تكبيرة الإحرام؛ فإن الصلاة لا تصح ولا تنعقد، وهذا معنى قول المصنف: “ومن أحرم مع إمامه”، يعني: كبَّر تكبيرة الإحرام مع إمامه، أو كبر تكبيرة الإحرام قبل إمامه؛ فلا تصح صلاته، مَن سابق الإمام في تكبيرة الإحرام فكبَّر قبله أو كبر معه؛ فلا تصح صلاته ولا تنعقد.

والأولى للمأموم: أن يشرع في أفعال الصلاة بعد إمامه.

أي: أن المطلوب من المأموم متابعة إمامه؛ فالسنة المتابعة، فلا تجوز المسابقة ولا الموافقة، ولا أيضًا التأخر عن الإمام، وإنما السنة المتابعة، إذا كبَّر فكبروا، إذا ركع فاركعوا، إذا سجد فاسجدوا؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: إنما جعل الإمام ليؤتَمَّ به؛ فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا [47]، والفاء للتعقيب.

فإن وافقه فيها أو في السلام؛ كُرِه.

الموافقة تعني: أن المأموم يوافق الإمام في أفعال الصلاة فيركع معه، لا يسابقه، لكن يركع معه ويسجد معه، فهذا مكروهٌ، لكنه لا يبطل الصلاة.

وإن سبقه؛ حَرُم.

المسابقة محرمةٌ؛ لقول النبي : لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف [48]، ولقوله : أمَا يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمارٍ، أو يحوِّل صورته صورة حمارٍ؟! [49]، وهذا وعيدٌ شديدٌ يقتضي تحريم المسابقة.

فمن ركع أو سجد أو رفع قبل إمامه عمدًا؛ لزمه أن يرجع ليأتي به مع إمامه، فإن أبى عالمًا عامدًا؛ بطلت صلاته.

أي: من سابق الإمام في أي فعلٍ من أفعال الصلاة؛ سواءٌ أكان ركوعًا أو سجودًا أو نحو ذلك؛ لزمه أن يرجع فيأتي بذلك الركن مع الإمام، فإن سابقه في الركوع؛ لزمه أن يرجع مرةً أخرى إلى القيام، ثم يركع بعد ركوع إمامه، “فإن أبى” أن يرجع “عالمًا” بوجوب ذلك “عامدًا”؛ بطلت صلاته.

وقال بعض أهل العلم: إنه إذا سابق إمامه عالمًا عامدًا؛ فصلاته باطلةٌ، سواءٌ رجع فأتى به بعد الإمام أو لم يرجع، وهذا هو القول الراجح، واختاره الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله وبعض المحققين؛ لأنه فعل أمرًا محظورًا في الصلاة متعمدًا، فتبطل الصلاة، فمن تعمد مسابقة الإمام عالمًا بالحكم؛ بطلت صلاته.

المسابقة عن نسيانٍ وجهلٍ

لا صلاة ناسٍ وجاهلٍ.

أي: إذا كانت المسابقة عن نسيانٍ وجهلٍ؛ فالصلاة صحيحةٌ، وغالب الذين يسابقون الإمام إما عن جهلٍ أو نسيانٍ، يبعد جدًّا أن مسلمًا يتوضأ ويأتي للمسجد حريصًا على الصلاة يبتغي فضلًا من الله ورضوانًا، ويتعمد مسابقة الإمام عالمًا متعمدًا، هذا بعيدٌ، الغالب على من يقع في ذلك: أن هذا إنما يقع عن جهلٍ أو نسيانٍ، وعلى هذا لا تبطل الصلاة، لكن ينبغي أن يُعلَّم هؤلاء أن المسابقة محرمةٌ، وأن بعض أهل العلم قالوا: بأن المسابقة تُبطل الصلاة مطلقًا، حتى لو وقعت عن سهوٍ أو نسيانٍ.

التأخر عن الإمام أو ما يسمى بـ”التخلف”، إن كان عمدًا؛ فالمذهب أنها لا تبطل الصلاة، وإن كان هذا خلاف السنة.

وقال بعض أهل العلم: إنه إذا تخلف عن الإمام بركنٍ فأكثر، عالمًا متعمدًا؛ فإن صلاته تبطل، وهذا هو القول الراجح؛ لأن المطلوب هو المتابعة، والتخلف عن عمدٍ وعلمٍ هو كالمسابقة عن عمدٍ وعلمٍ ولا فرق.

طيب، إن سبق الإمامُ المأمومَ بركنٍ فأكثر، والإمام معذورٌ في هذا، مثل أن يركع الإمام ويرفع قبل ركوع المأموم، والمأموم قد ذَهَل أو غَفَل، أو لم يسمع الصوت -وهذه تحصل كثيرًا- أو كان هناك زحامٌ، كما يحصل في المسجد الحرام، ولا يستطيع المأموم أن يسجد، أو بسبب عَجَلة الإمام، فإن المأموم يفعل ما سُبِقَ به، ثم يُدرك إمامه، ولا شيء عليه، وقد نص الإمام أحمد على هذا في رواية المَرُّوذي، وقال الموفق: لا أعلم فيه خلافًا.

مثال ذلك: الإمام يقرأ سورةً فيها سجدةٌ، ثم ركع الإمام ولم يسجد، مثلًا في سجدة (ص): فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، ركع الإمام ولم يسجد المأموم، ظن أن الإمام سجد، فسجد المأموم، ففي هذه الحال ماذا يفعل؟ نقول: يقوم المأموم ويتابع الإمام؛ يقوم المأموم ثم يركع ويتابع إمامه، هذا هو المطلوب، ولا شيء عليه، ومثل ذلك أيضًا: ما يحصل في المسجد الحرام مع الزحام، إذا لم يستطع المأموم أن يسجد؛ فالقول الراجح: أنه ينتظر، فإذا قام الإمام إلى الركعة التالية؛ فإنه يأتي المأموم بالسجود وبما بعده، ثم يتابع الإمام، ولا شيء على المأموم في هذه الحال؛ لأنه معذورٌ.

هناك من قال من أهل العلم: بأنه يسجد على ظهر أخيه، لكن هذا قولٌ مرجوحٌ؛ لأنه ليس لهذا دليلٌ، وإن كان فيه بعض الآثار، ثم أيضًا فيه نوع تعدٍّ على الآخرين، كيف يجعل ظهر أخيه محلًّا لسجوده؟! وبعض الناس عنده تحسس من هذا الأمر، لا يرضى أن أحدًا أن يجعل ظهره موضعًا لسجوده، وقد تحصل فتنةٌ أيضًا بسبب ذلك؛ ولهذا فالأقرب: أنه إذا رفع الإمام؛ يأتي المأموم بالسجود وبما بعده حتى يدرك الإمام، وهذا قد ورد نظيره في بعض صفات صلاة الخوف، وهذا اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله في هذه المسألة.

فإذنْ نقول: إذا سبق الإمام المأموم بركنٍ فأكثر، والمأموم معذورٌ؛ فإن المأموم يرجع ويأتي بما سُبِقَ فيه، ويُتابع إمامه؛ فمثلًا: لو كان يصلي الجمعة، وانقطع صوت المكبر، والمأموم ساجدٌ والإمام رفع من السجود، ولم يعلم بذلك المأموم، ثم إن الإمام ركع، ثم انتبه المأموم بعد ذلك، فماذا يفعل المأموم؟ يقوم المأموم ويأتي بالقيام حتى يدرك الإمام في الركوع؛ أي أن المأموم يرجع ويأتي بما سبقه به الإمام من أفعالٍ حتى يدرك الإمام فيها.

إذنْ نتوقف عند هذا القدر.

ويسن للإمام التخفيف مع الإتمام.

يعني: لا نريد أن يتجاوز الوقت ساعتين، نجعل بقية الوقت للإجابة عن الاسئلة.

الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة.

ما شاء الله! هذا هو “السلسبيل في شرح الدليل” وصل الآن للمكتبات ولله تعالى الحمد والمنة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، “السلسبيل في شرح الدليل” أصبح الآن مكتملًا في ثمانية مجلداتٍ، ووصل الآن إلى الرياض، وموجودٌ في المكتبات، موجودٌ الآن في مكتبة “دار أطلس الخضراء”، ما أدري هل يوجد الآن في المكتبات الأخرى؟ بعد أسبوع يعني: الناشر موجودٌ معنا الآن في المكتب، ويقول: بعد أسبوعٍ سيكون موجودًا في المكتبات الأخرى، لكنه الآن موجود في “دار أطلس الخضراء” بشارع السويدي، من أراد أن يحصل عليه وهو في مكان بعيدٍ، كيف؟

مداخلة:

الشيخ: الأخ ياسر يقول: ممكن نشحن الكتاب لمن رغب، كيفية التواصل؟

مداخلة:

الشيخ: طيب، ممكن نضع لكم الجوال.

إذنْ هذا هو “السلسبيل في شرح الدليل” ولله الحمد بنسخته الكاملة في ثمانية مجلداتٍ، ويمثِّل موسوعةً فقهيةً مصغرةً، هو في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى الإقرار، في جميع أبواب الفقه، وقد سلكتُ في هذا الشرح مسلك شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله في “الشرح الممتع”؛ بحيث يكون الشرح متوسطًا، فلا يكون طويلًا مملًا، ولا أيضًا مختصرًا مخلًّا، وحرصتُ على إبراز الدليل في الشرح، ففيه عنايةٌ بذكر الأدلة والآثار، وأيضًا الربط بالقواعد الفقهية وأصول الفقه، وأيضًا العناية بذكر أقوال المحققين من أهل العلم في المسائل الخلافية، وكذلك أيضًا تميز هذا الكتاب بالإشارة لأبرز النوازل والمسائل المعاصرة، فهذا الكتاب يعتبر موسوعةً فقهيةً مصغرةً، وقد بُذِلَ فيه جهدٌ كبيرٌ؛ استغرق ثنتي عشرة سنةً، ست سنواتٍ كانت أثناء إلقاء الدرس، فكنتُ أُحَضِّر له تحضيرًا موسَّعًا، ثم أُلقي الدرس، ثم بعد الست السنوات أعدت كتابته على صيغة مؤلَّفٍ؛ لأن ما يُلقى في الدروس يختلف عما يكتب للتأليف، فأعدت الصياغة على صيغة كتابٍ ومؤلَّفٍ، واستغرق هذا وقتًا طويلًا مع المراجعة والتنقيح والتحقيق.

وأيضًا أُضيفَ لذلك التوثيقُ، فالمذاهب الأربعة عندما تُذكر -مذهب الحنفية المالكية الشافعية الحنابلة- يذكر المرجع في الحاشية، المرجع لمذهب الحنفية، لمذهب المالكية، مذهب الشافعية، مذهب الحنابلة، أيضًا النقولات التي تُنقل توثَّق، فحرصنا على التوثيق أيضًا؛ بحيث يكون هذا الكتاب مفيدًا لطالب العلم، ومستوعِبًا، ويكون أيضًا مُغنيًا عن غيره، يعني بالنسبة للفقه المقارن بدل أن يرجع الطالب لهذه الكتب، يعني: هي موثقةٌ الآن بالجزء والصفحة وموجودةٌ.

فنسأل الله تعالى أن يُبارك في هذا الكتاب، وأن يكتب له القبول، وهذا الكتاب من ثمرات هذا الدرس الذي عمره ثلاثون عامًا، بدأ عام (1412 هـ)، ونحن الآن في عام (1442)، ولم ينقطع بحمد الله ، فهذا الكتاب هو من ثمرات هذا الدرس، وقد قدَّم له سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية، سماحة شيخنا: عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، والذي -في الحقيقة- شجعني على إخراج هذا الكتاب، بل لا أكاد ألتقي به طيلة السنوات الماضية إلا ويسألني عن الكتاب، حتى إنني قبل أن أُسَلِّم عليه أُحَضِّر جوابًا لسؤاله، وكان يشجع على إخراجه، ووعد بأن يقدِّم له، ووفى بما وعد، وقدَّم له بمقدمةٍ متينةٍ، وقرأ الأجزاء الأولى منه، وكان كلما انتهى من قراءة جزءٍ؛ اتصل عليَّ، لما قرأ ما يتعلق بالصيام اتصل، ولما قرأ ما يتعلق بالحج اتصل، وشكر وبيَّن أيضًا بعض الملحوظات التي أفدت منها، فشكر الله تعالى لسماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ الوالد على تشجيعه وعلى حرصه، فقد كان مشجعًا لإخراج هذا الكتاب، فجزاه الله تعالى عنا خير الجزاء.

فهذا الكتاب لا يَستغني عنه طالب علمٍ؛ أقول هذا لأنني أعرف حجم الجهد المبذول فيه، وأسأل الله تعالى أن يجعل فيه الخير والبركة، وآمل من الإخوة من طلابنا ومن غيرهم ممن يقرأ هذا الكتاب أن يُتحفنا بما لديه من ملحوظاتٍ، ولما خرجت الأربعة الأجزاء الأولى؛ وردتنا ملحوظاتٌ من بعض الإخوة، وقد استفدنا منها، وتم استدراك الأخطاء الطباعية والملحوظات التي وجدت في الطبعة الأولى، وهذه الطبعة نرجو أن تكون منقَّحةً -إن شاء الله- من الأخطاء الطباعية، رُوجِعَ عدة مراتٍ ونقح، ونسأل الله تعالى التوفيق والإعانة والسداد، وأن يجعل هذا من العلم الذي يُنتفع به، وأن يجعل فيه البركة، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم.

إذنْ هذا الكتاب الآن موجودٌ لدى “دار أطلس الخضراء”، ومن أراد الحصول عليه -كما ذكرت- فموقع دار أطلس الخضراء على شارع السويدي العام، ويمكن التواصل مع إدارة دار أطلس على هذا الجوال: (0544896654)، وإن شاء الله سيكتب في تغريدةٍ، يباع هذا الكتاب كاملًا في ثمانية مجلداتٍ، أو أربعة مجلدات التي تخص القسم الثاني: المعاملات وما بعدها.

مداخلة:

الشيخ: هذا يباع كاملًا لمن أراد الحصول عليه كاملًا، من كان عنده الأجزاء الأربعة الأولى؛ فتُباع الأربعة الأجزاء الثانية مفردةً، لكن هذه الأربعة الأجزاء المفردة.. يعني: بالنسبة للأربعة الأجزاء الأولى، روجعت واستُدركت الأخطاء التي فيها، فالأربعة الأجزاء التي طُبعت مرةً أخرى تم استدراك جميع الأخطاء التي في الطبعة السابقة، هذه الطبعة تتميز بأنها مدعومةٌ من بعض المحسنين، فهي تباع بسعرٍ مخفضٍ، أقل من سعر التكلفة، سعر التكلفة كم يا أخ ياسر؟

مداخلة:

الشيخ: نعم، يعني بدون الدعم ثلاثمئة وثمانون، مع الدعم أصبحت مئتين وثلاثين مع الضريبة، فالتخفيض من ثلاثمئة وثمانين إلى مئتين وثلاثين، هذا بدعم من أحد المحسنين جزاه الله خيرًا، وهذا إنما هو لهذه الطبعة فقط، فنسأل الله تعالى أن يجزي من دعم هذا الكتاب خير الجزاء، والكمية محدودةٌ أيضًا، هذا الأخ الناشر -الأخ ياسر- يقول: إن الكمية محدودةٌ، وإن شاء الله ستكون موجودةً في جميع المكتبات بعد أسبوعٍ تقريبًا، لكن من أراد أن يحصل عليها الآن؛ يجدها لدى “دار أطلس الخضراء”.

نسأل الله أن يجعل فيه البركة، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم.

نُجيب عن بعض الأسئلة الواردة:

الأسئلة

السؤال: هل الاستعاذة والبسملة تُقرأ في كل ركعةٍ، أم في الركعة الأولى فقط؟

الجواب: أما البسملة فتقرأ في كل ركعةٍ، والبسملة عند بعض أهل العلم آيةٌ من الفاتحة، وإن كان القول الراجح أنها ليست بآيةٍ من الفاتحة، وإنما آيةٌ نزلت للفصل بين السور، لكن قال بعض أهل العلم: إنها آيةٌ من الفاتحة، فالبسملة تُقرأ في كل ركعةٍ، وأما الاستعاذة فمحل خلافٍ بين أهل العلم، والراجح أنها تُقرأ في الركعة الأولى فقط، وقد فصلتُ الكلام عن هذا في “السلسبيل في شرح الدليل” في موضعه عندما تكلمنا عن صفة الصلاة، ذكرت الخلاف بين العلماء في الاستعاذة: هل تُقرأ في كل ركعةٍ، أو تقرأ في الركعة الأولى؟ وانتهينا إلى ترجيح القول بأنها تُقرأ في الركعة الأولى فقط.

السؤال: مقيمٌ لَبِسَ الجورب بعد الفجر، ومسح عليه الظهر ثم سافر، فهل يجوز له المسح لمدة ثلاثة أيامٍ، أو يومًا وليلةً؟

الجواب: هذا محل خلافٍ بين الفقهاء:

المذهب عند الحنابلة أنه يُكمل مسح يومٍ وليلةٍ.

القول الثاني: قول الجمهور، أنه يُكمل مسح ثلاثة أيامٍ بلياليهن، وهذا هو القول الراجح، أشبه ما لو دخل عليه وقت الصلاة في الحضر وصلى في السفر، فإنه -على القول الراجح- يقصر؛ كذلك أيضًا هذه المسألة، إذا ابتدأت مدة المسح وهو مقيمٌ ثم سافر؛ فالقول الراجح أنه يُكمل مسح مسافرٍ.

السؤال: هل يُشرع رفع اليدين عند الدعاء في خطبة الجمعة حال الاستسقاء؟

الجواب: نعم يُشرع، النبي كان يخطب الجمعة، فأتى رجلٌ وقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع النبي يديه، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، فنزل الغيث [50]، فالنبي عليه الصلاة والسلام رفع يديه؛ فدل ذلك على أن خطيب الجمعة إذا استسقى يُشرع له أن يرفع يديه، ويُشرع للمستمعين للخطبة أن يرفعوا أيديهم كذلك.

السؤال: خروج الدم من الجسم بما يزيد على مقدار الحجامة يُفطر قياسًا على الحجامة، قال: هل جرَّاحُ العملية يُفْطِر قياسًا على الحاجم؟

الجواب: لا، لا يفطر، حتى الحاجم لا يفطر، إلا إذا كان يمصُّ الدم كما كان قديمًا؛ لأنه ربما نفذ لجوفه أجزاءٌ لطيفةٌ من الدم، أما إذا كانت الحجامة بالطريقة المعروفة الآن، وهي بطريقة تفريغ الهواء، فالحاجم لا يفطر، لا يفسد صومه، إنما قول النبي عليه الصلاة والسلام: أفطر الحاجم والمحجوم [51]، فيما إذا كان الحاجم يمص الدم، هذا هو الذي يفطر الحاجم مع المحجوم، أما إذا كان الحاجم لا يمص الدم، وإنما تكون الحجامة بطريقة تفريغ الهواء؛ فالحاجم لا يفسد صومه، وإنما يفسد صوم المحجوم فقط.

السؤال: ما حكم التشاؤم بالسنين؛ مثل: من يتشاءم من سنةِ (2020)، وأنها سنة وباءٍ؟

الجواب: هذا لا يجوز، التشاؤم من الزمان من فعل أهل الجاهلية، هم الذين كانوا يتشاءمون بالأزمنة وبالأمكنة، قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النمل:47]، قد كانت الطِّيَرة والتشاؤم معروفًا عند أهل الجاهلية، الزمان ليس له علاقةٌ بالوقائع التي تحدث فيه؛ ولهذا يقول الله تعالى في الحديث القدسي: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، أُقَلِّب الليل والنهار [52]، فـ(2020)، أو (2019)، أو أي سنةٍ من السنين، ليس لها علاقةٌ بما يقدره الله فيها من أحداثٍ، فلا يجوز التشاؤم بالزمن، ولا يجوز التشاؤم بالمكان، وهذا من فعل أهل الجاهلية.

السؤال: شخصٌ دخل والإمام راكعٌ وركع معه، لكن شك هل أدرك الركوع أم لا؟ فماذا يفعل؟

الجواب: في هذه الحال لا يكون هذا المأمومُ المسبوقُ مدركًا للركعة؛ لأن الأصل عدم الإدراك، الأصل أنه لم يدرك الركعة، فلا يكون مدركًا لهذه الركعة، إلا إذا غلب على ظنه أنه أدرك الركوع مع الإمام، وأما إذا شك في ذلك، فالأصل عدم الإدراك؛ وبناءً على هذا: يكون لم يدرك هذه الركعة، وعليه أن يقضيها بعد سلام إمامه.

السؤال: عند الاستدلال بآيةٍ من القرآن، وكان نهايتها تنوينٌ، هل يؤتى به، أم يُسَكَّن؟

الجواب: يُسَكَّن عندما يقف عليها، فالعرب عند الوقوف تُسَكِّنْ الكلمة.

السؤال: إذا نسي المصلي وسجد سجدةً واحدةً من الركعة الأخيرة، ثم تشهَّد وسلَّم وتذكر بعد السلام، فهل يعيد الركعة كاملةً؛ وذلك لأنه انفصل عن الصلاة؟

الجواب: يعيد السجود وما بعده، ما دام أنه في الركعة الأخيرة، فإنه يعيد هذه السجدة التي تركها وما بعدها، ويسجد للسهو، لكن لو كانت السجدة ليست من الركعة الأخيرة، من الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة؛ تبطل تلك الركعة التي ترك فيها هذا الركن، وتقوم التي بعدها مقامها، ويسجد لسهو.

السؤال: كيف يصل العبد إلى إصلاح السريرة؟

الجواب: عليه أن يُقوي جانب الخشية والخوف من الله ، وأن يُعْنَى بأعمال القلوب؛ فإن أعمال القلوب أمرها عظيمٌ عند الله سبحانه، وهي التي يتفاوت الناس بسببها تفاوتًا عظيمًا، هذا سعد بن معاذٍ أسلم وعمره واحدٌ وثلاثون، ومات وعمره سبعٌ وثلاثون أو ثمانٍ وثلاثون، يعني: بقي في الإسلام ست أو سبع سنواتٍ فقط، ومع ذلك لما مات؛ اهتز لموته عرش الرحمن، ولعل ذلك -والله أعلم- لوجود أعمالٍ قلبيةٍ لديه رفعته إلى هذه المنزلة العلية، وهذا المقام الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن عرش الرحمن اهتز لموته [53].

فعلى المسلم أن يُعنَى بأعمال القلوب، وأعمال القلوب إذا اعتنى المسلم بها؛ فهذا يكون سببًا لإصلاح السريرة، وللخشية من الله .

لعلنا نختم بهذا السؤال:

السؤال: ما حكم الصلاة على السجادة الطبية؟

الجواب: هذه السجادة الطبية التي يجعلها بعض الناس على شكل كرسيٍّ، ويسجد عليها مَن يومِئ بالسجود، فيجعل أمامه سجادةً؛ لكي يسجد عليها، إذا كان المصلي سينحني أثناء السجود أقصى ما يُمكنه؛ فلا بأس بالسجود عليها، أما إذا كان لن يَنْحَنِ؛ فإن هذا لا يصح؛ لأن المطلوب ممن يومئ بالسجود أن ينحني بأقصى ما يستطيع، فإذا كانت هذه السجادة الطبية تتسبب في أنه لا ينحني بأقصى ما يستطيع؛ فلا تصح الصلاة عليها، والأَولى ألا يسجد عليها؛ لأنه لا داعي لها؛ لأنه إذا كان يصلي جالسًا؛ يومئ بالركوع، ويومئ بالسجود بأقصى ما يمكن، ولا داعي لأن يأتي بهذه السجادة التي يسجد عليه؛ لأن وجودها في هذه الحالة كعدمها، بل ربما تؤثر على صحة الصلاة؛ من جهة أنه إذا لم ينحنِ بأقصى ما يستطيع؛ فإن صلاته لا تصح.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه الترمذي: 419، وأحمد: 4756.
^2 رواه الترمذي: 419.
^3 رواه البخاري: 581، ومسلم: 826.
^4 رواه مسلم: 832.
^5 رواه البخاري: 3272، ومسلم: 829.
^6 رواه البخاري: 585، ومسلم: 828.
^7 رواه البخاري: 1864، ومسلم: 1340.
^8, ^11 رواه مسلم: 831.
^9 رواه البخاري: 904، ومسلم: 831.
^10 رواه الطبراني في المعجم الأوسط: 5964.
^12 رواه البخاري: 929
^13 رواه البخاري: 910.
^14 رواه الترمذي: 868، والنسائي: 585، وابن ماجه: 1254، وأحمد: 16736، وقال الترمذي: حسن صحيح.
^15, ^44 رواه مسلم: 648.
^16 رواه البخاري: 583، ومسلم: 828.
^17 رواه مسلم: 811.
^18 رواه البخاري: 4937، ومسلم: 798.
^19 رواه النسائي في السنن الكبرى: 7977، وابن ماجه: 215، وأحمد: 12292.
^20, ^28 رواه البخاري: 645، ومسلم: 650.
^21 رواه مسلم: 653، بنحوه.
^22 رواه أبو داود: 552، وابن ماجه: 792، وأحمد: 15490.
^23 رواه البخاري: 6786، ومسلم: 2327.
^24 رواه البخاري: 644، ومسلم: 651.
^25 رواه أحمد: 8796.
^26 رواه أبو داود: 547، والنسائي: 847.
^27 رواه مسلم: 654.
^29 رواه عبدالرزاق: 1915، وابن أبي شيبة: 3469، والدارقطني: 1552، والحاكم: 898، والبيهقي: 5005-5006.
^30 رواه ابن ماجه: 793.
^31 رواه أبو داود: 575، والترمذي: 219، والنسائي: 858، وأحمد: 17474.
^32 رواه البخاري: 630، ومسلم: 674.
^33, ^34, ^41, ^43, ^45 سبق تخريجه.
^35 رواه مسلم: 673.
^36 رواه البخاري: 684، ومسلم: 421.
^37 رواه مسلم: 2531.
^38 رواه البخاري: 636، ومسلم: 602.
^39 رواه البخاري: 580، ومسلم: 607.
^40 رواه البخاري: 783.
^42 رواه مسلم: 710.
^46 رواه البخاري: 76، ومسلم: 504.
^47 رواه البخاري: 733.
^48 رواه مسلم: 426.
^49 رواه مسلم: 427.
^50 رواه البخاري: 1014، ومسلم: 897.
^51 رواه أبو داود: 2367، والترمذي: 774، والنسائي: 3120، وابن ماجه: 1679، وقال الترمذي: حسن صحيح.
^52 رواه البخاري: 4826، ومسلم: 2246.
^53 رواه البخاري: 3803، ومسلم: 2466.
zh