الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(20) صلاة الضحى- من قوله: “وتسن صلاة الضحى غِبًّا”
|categories

(20) صلاة الضحى- من قوله: “وتسن صلاة الضحى غِبًّا”

مشاهدة من الموقع

ننتقل الآن للتعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى صلاة الضحى.

صلاة الضحى

قال المؤلف رحمه الله:

وتسن صلاة الضحى غِبًّا.

“صلاة الضحى”: من باب إضافة الشيء إلى وقته، أي: الصلاة التي تصلى وقت الضحى، وهذه الصلاة مشروعةٌ بإجماع العلماء؛ على اعتبار أن القول بعدم سُنِّيتها ليس قولًا معتبرًا، فهذا -على كلٍّ- هو نُسب لبعض الصحابة ؛ ولذلك حكاية الإجماع قد يعتريها ما يعتريها كما سنبين، لكن بعبارةٍ أدق نقول: هي مشروعةٌ عند عامة أهل العلم، أو عند أكثر أهل العلم، وقد ورد في مشروعية صلاة الضحى أحاديث بلغت حد التواتر.

حكم صلاة الضحى

واختلف العلماء في حكمها على أقوالٍ، قبل أن نشير لهذه الأقوال، نحن قلنا: إن صلاة الضحى مشروعةٌ، وأن الأحاديث الواردة فيها بلغت حد التواتر.

الحكمة من مشروعية صلاة الضحى: أن الوقت ما بين صلاة الفجر والظهر من أطول الأوقات بين الصلوات المكتوبات، فشرعت صلاة الضحى؛ لئلا تطول غفلة العبد عن ذكر الله؛ ولأن صلاة الضحى تؤدَّى في اليوم كالشكر لله تعالى على سلامة أعضائه ومفاصله، كما قال عليه الصلاة والسلام: يصبح على كل سُلَامَى من أحدكم صدقةٌ [1].

أما حُكم صلاة الضحى؛ فاختلف العلماء في ذلك على أقوالٍ:

  • القول الأول: أنها سنةٌ مطلقًا، وإليه ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية.
  • القول الثاني: أنها ليست بسنةٍ، رُوي عن بعض الصحابة .
  • القول الثالث: استحباب فعلها غِبًّا؛ بأن يصليها في بعض الأيام دون بعضٍ، هذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو القول الذي قرره المؤلف، قال: “وتسن صلاة الضحى غِبًّا”.
  • والقول الرابع: أنها تُفعل لسببٍ؛ كالنصر، أو القدوم من سفر، ونحوه.
  • والقول الخامس: أن من كان من عادته قيام الليل؛ فلا تسن له، وإلا فتسن، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله.

سبب الخلاف بين العلماء: هو الاختلاف في الأحاديث الواردة فيها؛ فجاء في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: “ما رأيت رسول الله يصلي سُبحة الضحى، وإني لأسبِّحها” [2]، وهذا في “الصحيحين”.

وجاء في “صحيح مسلمٍ” أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت: هل كان النبي يصلي الضحى؟ قالت: “لا، إلا أن يجيء من مَغِيبِه” [3].

وأيضًا جاء عنها قالت: “كان رسول الله يصلى الضحى أربعًا، ويزيد ما شاء الله” [4]، وهذا رواه مسلمٌ.

فلاحَظوا أن هذه الروايات عن عائشة رضي الله عنها مختلفةٌ؛ بعضها يَنفي، وبعضها يُثبت، وعائشة رضي الله عنها عُمِّرَت بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام وهي صغيرةٌ، وتوفي عنها وعمرها ثماني عشرة سنةً، وعاشت بعده إلى سنة سبعٍ وخمسين، فعُمِّرت بعده سنين طويلةً، فربما أنها في بعض الأحيان نسيت مثلًا، وإلا فهي قد رُوي عنها أنها أثبتت أنه كان عليه الصلاة والسلام يصلي الضحى، لكن قولها: “ما رأيت النبي يصلي سبحة الضحى”، يعني: ربما أنها نسيت، أو أن مقصودها: ما رأيته يصليها على الدوام، ونحو ذلك.

وأوصى النبي بها أبا هريرة [5] وأبا ذرٍّ [6] وأبا الدرداء [7]، وابن القيم رحمه الله في “زاد المعاد” بسط الكلام عنها.

والقول الراجح والله أعلم: أن صلاة الضحى -سواءٌ كانت ركعتين أو أكثر- سُنةٌ مطلقًا، تفعل دائمًا، هذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز، وكذلك الشيخ محمد بن عثيمين، رحمهما الله تعالى، والدليل لذلك: ما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن أبي ذرٍّ  أن النبي قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقةٌ [8].

السلامى معناه: المَفْصِل، والإنسان له ثلاثمئةٍ وستون مَفصِلًا، فـيصبح على كل سلامى من أحدكم صدقةٌ أي: أن الإنسان إذا أصبح؛ فعليه أن يشكر الله على سلامة مفاصله بعدد هذه المفاصل، أي: عليه أن يتصدق بثلاثمئةٍ وستين صدقةً، كل صدقةٍ عن مَفصِلٍ من مفاصله؛ ولذلك ذكر عليه الصلاة والسلام أنواعًا من الصدقات، قال: فكل تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكر صدقةٌ، ويُجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى، أي: أن ركعتين يركعهما من الضحى تُجزئان عن ثلاثمئةٍ وستين صدقةً؛ وهذا يدل على فضل صلاة الضحى، ويدل أيضًا على أن صلاة الضحى تُفعل دائمًا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقةٌ، أي: أن هذا مطلوبٌ منه كل يومٍ؛ كل يومٍ مطلوبٌ من الإنسان أن يتصدق بثلاثمئةٍ وستين صدقةً، من باب شكر نعمة الله على سلامة مفاصله الثلاثمئةٍ وستين، ويُجزئ عن هذه الثلاثمئةٍ والستين صدقةً ركعتان يركعهما من الضحى؛ وهذا يدل على فضل صلاة الضحى، وعلى أنها سنةٌ تُفعل دائمًا.

وهذا الحديث كالنص في هذه المسألة؛ ولهذا فالقول الراجح: أن صلاة الضحى سنةٌ مطلقًا، وأما من قال بأنها ليست بسنةٍ: هذا قولٌ ضعيفٌ، ومن قال بأنها تفعل غِبًّا: فهذا محل نظرٍ أيضًا؛ فإن النبي لم يواظب على فعلها، وهذا لا ينافي استحبابها؛ لأن استحبابها حاصلٌ بدلالة القول، وليس من شرط الحكم أن تتضافر عليه دلالة القول والفعل؛ ولأن الروايات قد اختلفت؛ فبعضها مثبِتٌ، وبعضها نافٍ كما سبق، والمثبِت مقدَّمٌ على النافي؛ لأن المثبت عنده زيادة علمٍ؛ ولأنه إذا تعارضت دلالة القول ودلالة الفعل؛ فدلالة القول مقدَّمةٌ؛ لأنها أصرح، وهذا مقررٌ عند الأصوليين؛ فمثلًا: كان النبي يخبر بأن أفضل الصيام صيام داود؛ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا [9]، لكن هل كان عليه الصلاة والسلام يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ الجواب: لا، كان يصوم حتى يقول القائل: لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا يصوم [10]؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان مشغولًا بمصالح أرجح، فقد لا يتيسر له أن يصوم يومًا ويفطر يومًا؛ هكذا أيضًا بالنسبة لصلاة الضحى، قد لا يتيسر له عليه الصلاة والسلام أن يصليها كل يومٍ.

فالقول الراجح والله أعلم: أنها سنةٌ مطلقًا، لكنها تتأكد في حق من لا يقوم الليل؛ لأنها تكون كالتعويض لما فاته من قيام الليل، وابن تيمية رحمه الله قال: إنها سنةٌ في حق من كان لا يقوم من الليل.

لكن الأقرب أن نقول: إنها تتأكد في حق من لا يقوم الليل، وإلا فهي سنةٌ في حق الجميع؛ في حق من يقوم الليل، وفي حق من لا يقوم الليل؛ لهذا الحديث: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقةٌ.

إذنْ الحاصل بالنسبة لصلاة الضحى: أن القول الراجح: أنها سنةٌ تُفعل دائمًا؛ لأن النبي أخبر: بأنه يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقةٌ أي: المطلوب منه أن يتصدق بعدد مفاصله من باب شكر نعمة الله على سلامة مفاصله، ومفاصل الإنسان ثلاثمئةٍ وستون مَفصِلًا، أي: أنه مطلوبٌ منه أن يتصدق بثلاثمئةٍ وستين صدقةً؛ ولهذا قال: فكل تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، ذكر أنواعًا من الصدقات، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى، أي: أن الثلاثمئةٍ وستين صدقةً يُجزئ عنها ركعتا الضحى؛ وهذا يدل على فضل صلاة الضحى.

فينبغي عليك -أخي المسلم- أن تحرص على صلاة الضحى، فإنها تُجزئ عن ثلاثمئةٍ وستين صدقةً.

عدد ركعات صلاة الضحى

قال:

وأقلها: ركعتان.

لأن ذلك أقل ما ورد في صلاة الضحى: ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى، ولأنها أقل ما يُشرع في الصلوات، ما عدا الوتر.

وأكثرها: ثمانٍ.

هذا هو المذهب عند الحنابلة، أن أكثر صلاة الضحى ثمانٍ؛ لحديث أم هانئٍ رضي الله عنها، أن النبي دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل وصلى ثمان ركعاتٍ [11]، قالوا: هذا أعلى ما ورد في صلاة الضحى، فيكون هو أكثرها.

وقال بعض أهل العلم: إنه لا حد لأكثرها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله يصلي الضحى أربعًا، ويزيد ما شاء الله” [12]، ولم يقيِّد هذا بعددٍ معينٍ، وهذا هو القول الراجح، أنه لا حد لأكثر صلاة الضحى.

وأما حديث أم هانئ رضي الله عنها فقيل: إن هذه الصلاة التي صلاها النبي ثماني ركعاتٍ ليست بصلاة الضحى، وإنما هي صلاة الفتح، قالوا: ولهذا يستحب للقائد إذا فتح بلدًا أن يصلي ثماني ركعاتٍ شكرًا لله ، ثم لو سلَّمنا بأنها صلاة الضحى؛ فهي قضية عينٍ لا تدل على أن أكثر صلاة الضحى ثماني ركعاتٍ، وإنما هذا حصل اتفاقًا، فربما أن النبي عليه الصلاة والسلام في موضعٍ آخر يصلي عشرًا، أو يصلي ستًّا، فهذه قضية عينٍ، وعلى هذا نقول: القول الراجح أنه لا حَدَّ لأكثر صلاة الضحى؛ لك أن تصلي ركعتين، أو أربعًا، أو ستًّا، أو ثمانيًا، أو أكثر من ذلك، مثنى مثنى.

وقت صلاة الضحى

ووقتها: من خروج وقت النَّهي.

وقت صلاة الضحى من خروج وقت النهي الذي يكون بعد طلوع الشمس وارتفاعها قِيدَ رُمحٍ، والمقصود بـ”قيد رمحٍ”: في نظر الرائي بنحو مترٍ تقريبًا، وبعد شروق الشمس بعشر دقائق تقريبًا يبدأ وقت صلاة الضحى.

إذنْ يبدأ وقت صلاة الضحى بعد شروق الشمس بعشر دقائق تقريبًا.

والطريقة الأفضل إذا كنت داخل المدينة: أن تأخذ ورقة التقويم وتنظر إلى الشروق، وتُضيف لها عشر دقائق، وإن جعلت الإضافة ربع ساعةٍ؛ كان ذلك أحوط، فهنا يبتدئ وقت صلاة الضحى، فمثلًا هذا اليوم الاثنين غرة ربيعٍ الآخر من عام ألفٍ وأربعمئةٍ واثنتين وأربعين للهجرة، شروق الشمس في مدينة الرياض: السادسة وعشر دقائق، فنضيف لها عشر دقائق، فيكون أول وقت صلاة الضحى: السادسة وعشرون دقيقةً، وهكذا تكون بهذه الطريقة.

قال:

إلى قُبيل الزوال.

يعني: يمتد وقت صلاة الضحى إلى قُبيل الزوال، ولم يقل المؤلف: إلى الزوال؛ لأن “قُبيل الزوال” هو وقت نهيٍ، وهو وقت الاستواء، حين يقوم قائم الظهيرة، وتكون الشمس في كبد السماء، قُبيل أذان الظهر بنحو سبع دقائق، من خمسٍ إلى عشر دقائق، ويكون تقريبًا في حدود عشر دقائق، يعني: الأحوط أن يتوقف عن الصلاة قبل أذان الظهر بعشر دقائق.

وأفضله: إذا اشتد الحر.

يعني: أفضل وقت صلاة الضحى آخره؛ لحديث زيد بن أرقم أن النبي قال: صلاة الأوَّابين حين تَرْمَضُ الفِصَال [13]، رواه مسلمٌ، ومعنى ترمض الفصال: تشتد الرَّمْضاء [14]، والفصال: هي صغار الإبل، وهذا إنما يكون في آخر وقت صلاة الضحى، فأفضل وقتٍ تصلَّى فيه الضحى: هو آخر وقتها، قبل أذان الظهر بنحو ثلث ساعةٍ تقريبًا، هذا أفضل وقتٍ تصلَّى فيه صلاة الضحى، لكن من خشي أن ينسى مثلًا، أو ينشغل، فيصليها في أول وقتها؛ حتى يضمن أنه صلاها.

تحية المسجد

قال:

وتسن تحية المسجد.

تحية المسجد سنةٌ، ليست واجبةً، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة؛ من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وعامة أهل العلم؛ لقول النبي : إذا دخل أحدكم المسجد؛ فليركع ركعتين قبل أن يجلس [15]، ولما دخل رجلٌ للمسجد، ورسول الله يخطب؛ توقف عن الخطبة وقال: يا فلان، أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فصلِّ ركعتين [16]، فكونه عليه الصلاة والسلام يقطع الخطبة، ويأمر رجلًا من الصحابة  بأن يؤدي تحية المسجد علنًا أمام الناس، ويأمره بذلك؛ هذا دليلٌ على تأكد تحية المسجد.

وقال الظاهرية: إن هذا يدل على وجوب تحية المسجد، ولكن هذا محل نظرٍ؛ فإن هذا الأمر قد ورد ما يصرفه إلى الاستحباب، ومن ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأتي الجمعة ويجلس، ولا يأتي بتحية المسجد، الخطيب عندما يدخل؛ يجلس على المنبر ولا يأتي بتحية المسجد، ولو كانت واجبةً؛ لأتى بها قبل أن يصعد المنبر، ولحديث الرجل الذي سأل النبي عما يجب عليه من الصلاة، فقال له عليه الصلاة والسلام: خمس صلواتٍ في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تَطَوَّع [17].

القول الراجح: أن تحية المسجد مستحبةٌ وليست واجبةً.

خلافُ الظاهرية هل يعتد به؟

الأقرب -والله أعلم- أن خلاف الظاهرية لا يعتد به فيما انفردوا به، وأما إذا لم ينفردوا؛ فيعتد به، لكن ما انفردوا به عن العلماء لا يعتد به، هذا هو القول المرجح عند كثيرٍ من المحققين من أهل العلم.

تحية المسجد إنما تُشرع إذا دخل المسجد، أما إذا دخل المصلى فلا تُشرع تحية المسجد، ولو بُني المصلى على هيئة مسجدٍ، فمثلًا في بعض المدارس وبعض الدوائر الحكومية يُجعل مصلياتٌ، هذه لا تُشرع لها تحية المسجد.

أيضاً في المشاعر؛ في منًى وعرفاتٍ ومزدلفة، تُجعل مصلياتٌ، فيأتي بعض الناس لهذه المصليات، هل يُشرع لهم أن يأتوا بتحية المسجد؟ نقول: لا، لا تشرع، لكن يُشرع أن يصلي المسلم ركعتين من باب قوله عليه الصلاة والسلام: بين كل أذانين صلاةٌ [18]، والمقصود بالأذانين: الأذان والإقامة.

فإذا دخل هذا المصلَّى بعد الأذان؛ فيأتي بركعتين، لا على أنهما تحية المسجد؛ فإن هذا ليس بمسجدٍ؛ وإنما هو مصلًّى، وإنما من باب قوله عليه الصلاة والسلام: بين كل أذانين صلاةٌ، وعلى ذلك: من أتى لمصلًّى وليس بمسجدٍ؛ يأتي بركعتين، لكن ينوي بذلك أنهما ليستا تحية المسجد، وإنما من باب قوله عليه الصلاة والسلام: بين كل أذانين صلاةٌ.

سنة الوضوء

قال:

وسنة الوضوء.

أي: تُسن سنة الوضوء؛ لحديث عثمان أنه توضأ ثم قال: رأيت رسول الله توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه [19]، متفقٌ عليه؛ وهذا يدل على فضل ركعتي الوضوء، وقال النبي لبلالٍ : يا بلال، حدِّثني بأرجى عملٍ عملتَه في الإسلام؛ فإني سمعت دَفَّ نعليك [20] في الجنة؟، فقال بلالٌ: ما عملت عملًا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورًا في ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ، إلا صليت بذلك الطهور ما كَتَبَ الله لي أن أصلي [21]، وهذا يدل على استحباب ركعتي الوضوء، واستحباب سنة الوضوء عمومًا، وأنها لا تتقيد بركعتين؛ لأنه في حديث بلالٍ  قال: “صليت بذلك الطهور ما كُتب لي أن أصلي”، ولم يحدد ذلك بركعتين، وهذا يدل على فضل سنة الوضوء، فينبغي لك -أخي المسلم- إذا توضأت أن تصلي لله تعالى ركعتين، فإنك إذا فعلت ذلك، ووقعت هاتان الركعتان بخشوعٍ تامٍّ؛ فإنك موعودٌ بمغفرة الذنوب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه إلا غُفر له ما تقدم من ذنبه، لكن بهذا الشرط: لا يحدِّث فيهما نفسه.

وهنا فائدةٌ في قول النبي عليه الصلاة والسلام لبلالٍ : حدِّثني بأرجى عملٍ عملته، أخذ بعض العلماء من هذا: أن الإنسان إذا استحسن شيئًا من أعماله، ورجا أن يُثيبه الله عليها؛ فإن الله تعالى عند ظن عبده به؛ يُرجى أن الله تعالى يعطيه على ما ظن.

لكن سنة الوضوء هل تُشرع في أوقات النهي؟ هذا -إن شاء الله تعالى- سيأتي الكلام عنه في أوقات النهي -بإذن الله تعالى- بعد قليلٍ، أو بعد سجود الشكر إن شاء الله تعالى.

إحياء ما بين العشاءين

قال:

وإحياء ما بين العشاءين، وهو من قيام الليل.

يرى المؤلف: أن إحياء ما بين العشاءين -يعني: ما بين صلاة المغرب والعشاء- سنةٌ، المقصود بالعشاءين: المغرب والعشاء، وقد رُويَت في ذلك أحاديث؛ منها: حديث حذيفة قال: “أتيت النبي فصليت معه المغرب، فصلى حتى صلى العشاء” [22]، أخرجه أحمد والترمذي وسنده حسنٌ.

وجاء في ذلك حديث أبي هريرة  أن النبي قال: من صلى ست ركعاتٍ بعد المغرب لم يتكلم بينهن بسوءٍ؛ عُدِلن له بعبادة ثنتي عشرة سنةً [23]، هذا أخرجه ابن ماجه، لكنه ضعيفٌ.

ورُوي هذا عن بعض الصحابة ؛ كابن مسعودٍ وابن عمر وسلمان؛ ولهذا نص بعض فقهاء المذاهب؛ كفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة، على استحباب الصلاة بين المغرب والعشاء، وإن كان الحنابلة يعتبرونها من قيام الليل، والأحاديث المروية في هذه الصلاة -عند التحقيق- لا يثبت منها شيءٌ سوى حديث حذيفة ، وحديث حذيفة قلنا: إنه حديثٌ حسنٌ، ولكن يظهر أن النبي صلاها في بعض المرات، وليس بصفةٍ مستمرةٍ.

فالقول بأنها سنةٌ تُفعَل دائمًا، يحتاج إلى دليلٍ، والأصل في العبادات التوقيف، لكن لو جلس الإنسان أحيانًا في المسجد بعد صلاة المغرب، وصلى مثنى مثنى إلى أن يؤذن للعشاء؛ كان هذا حسنًا، على الأقل يدخل في النفل المطلق، وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام: صلاة الليل مثنى مثنى [24]، لكن أن يصلي ست ركعاتٍ، ويسميها بعضهم بـ”المؤنسات”؛ فهذا يحتاج إلى دليلٍ، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل لهذا، والحديث المروي في ذلك حديثٌ ضعيفٌ؛ فليس هناك سنةٌ معينةٌ في الصلاة ما بين المغرب والعشاء، وإنما من جلس بعد صلاة المغرب، وصلى ركعتين ركعتين، من باب النفل المطلق، إلى أن يؤذن للعشاء؛ فلا بأس بذلك، وعلى هذا يُحمل حديث حذيفة ، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام ذات مرةٍ جلس وصلى ما بين المغرب والعشاء، فإذا فعل الإنسان ذلك أحيانًا من باب أنه يأتي بنفلٍ مطلقٍ؛ فلا بأس، أما أن يفعل الإنسان هذا دائمًا كل يومٍ بركعاتٍ معينةٍ، ويعتقد أن هذا سنةٌ؛ فهذا العمل غير مشروعٍ؛ لأن الأحاديث المروية في ذلك ضعيفةٌ.

سجود التلاوة

ننتقل بعد ذلك للكلام عن سجود التلاوة، قال المصنف رحمه الله:

ويسن سجود التلاوة.

حكم سجود التلاوة

قد أجمع العلماء على مشروعية سجود التلاوة، ومما ورد في فضله: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : إذا قرأ ابن آدم السجدة -يعني: الآية التي فيها سجدة التلاوة- فسجد؛ اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله! -وفي روايةٍ: يا ويلي!أُمر ابن آدم بالسجود فسجد؛ فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت؛ فلي النار [25]، رواه مسلمٌ.

فالمقصود بالسجدة: الآية التي تكون فيها سجدةٌ، ومع اتفاق العلماء على مشروعيته، إلا أنهم اختلفوا: هل سجود التلاوة واجبٌ أو مستحبٌ؟

فالجمهور على أنه مستحبٌّ، خلافًا للحنفية الذين قالوا بوجوبه، وقد وافق الحنفيةُ الحنابلةَ في روايةٍ، واختار هذا القول ابن تيمية رحمه الله.

القائلون بالوجوب استدلوا بظاهر النصوص التي فيها الأمر بالسجود، والتي فيها ذمُّ من لم يسجد؛ ومنها: قول الله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [الانشقاق:21]، ونحو ذلك.

أما الجمهور فحملوا ما ورد في الأمر بالسجود على الاستحباب، قالوا: لأنه قد ورد ما يصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؛ ومن الصوارف: ما جاء عن زيد بن ثابتٍ قال: “قرأت على النبي سورة النجم فلم يسجد فيها” [26]، وهذا الحديث متفقٌ عليه، ولو كان السجود واجبًا؛ لم يُقِرَّه النبي على ترك السجود؛ لأنه قرأ سورة النجم على النبي عليه الصلاة والسلام، زيد بن ثابت يقول: “قرأت على النبي سورة النجم، فلم يسجد فيها”، فلو كان سجود التلاوة واجبًا؛ لأمر النبي زيد بن ثابتٍ بالسجود.

وأيضًا: يدل لذلك ما جاء في “صحيح البخاري” عن عمر أنه خطب الناس وقرأ سورة النحل على المنبر، حتى إذا بلغ السجدة؛ نزل فسجد وسجد الناس معه، حتى إذا كان الجمعة القابلة؛ قرأ بها حتى إذا جاء السجدة؛ قال: يا أيها الناس، إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر، وفي روايةٍ قال: “إن الله لم يفرض السجود علينا، إلا أن نشاء” [27].

قال الموفق بن قدامة رحمه الله: وهذا قاله بمَحضَرٍ من الصحابة وغيرهم في يوم جمعةٍ، ولم يظهر لهم مخالفٌ، فكان إجماعًا، وهذا استدلالٌ قويٌّ، أن عمر يفعل ذلك بين ظهرانَيِ الصحابة، ويقره الصحابة على ذلك، ولم يَظهر له مخالفٌ، أو يُنكر عليه منكِرٌ؛ هذا دليلٌ على أن عامة الصحابة يرون أن سجود التلاوة مستحبٌّ وليس واجبًا.

وبهذا يتبين أن القول الراجح في هذه المسألة: هو قول الجمهور، وهو أن سجود التلاوة مستحبٌ وليس بواجبٍ، وهذا هو الذي عليه عامة الصحابة .

وإذا قرأ الخطيب آيةً فيها سجدةٌ في خطبة الجمعة، السنة أن ينزل ويسجد، ويسجد الناس معه، ثم يرجع للمنبر ويكمل خطبته، هذه من السنن المهجورة، قد فعلها عمر ، والحديث في “صحيح البخاري”، ولكن إذا أراد الخطيب أن يفعلها؛ فينبغي أن يبين هذا للناس؛ لأن الأشياء التي يستغربها الناس، أو تكون من السنن المهجورة، ينبغي أن يمهَّد لها بتمهيدٍ، فإذا فعل ذلك ومهَّد له بتمهيدٍ، وبيَّن ذلك للناس؛ فلا بأس أن يفعلها، أما أن يفعل ذلك من غير أن يبين هذا للناس؛ فهذا يسبب تشويشًا وإرباكًا للناس في المسجد.

يسن سجود التلاوة إذا كان الفاصل قصيرًا

قال المصنف رحمه الله:

مع قِصَر الفصل.

أي: إنما يُسن سجود التلاوة إذا كان الفاصل قصيرًا، أما إذا قرأ آيةً فيها سجدةٌ، وبعد فاصلٍ طويلٍ أراد أن يسجد؛ فلا يُشرع السجود حينئذٍ.

سجود التلاوة سنةٌ للقارئ والمستمع

للقارئ والمستمع.

أي: أن سجود التلاوة سنةٌ في حق القارئ الذي يقرأ القرآن ويتلوه، وكذلك أيضًا سنةٌ في حق المستمع له دون السامع، والفرق بين المستمع والسامع: أن السامع هو الذي يسمع الشيء دون أن ينصت له، وأما المستمع هو الذي ينصت للقارئ ويتابعه، فالذي تترتب عليه الأحكام، ويشرع له السجود هو المستمع؛ لأنه في حكم الناطق، كما أن المؤَمِّن على الدعاء في حكم الداعي.

فإذنْ يشرع السجود للمستمع دون السامع، فلو أنك مررت بقارئٍ يقرأ، ومر بآية سجدةٍ وسجد؛ لا يشرع لك أن تسجد معه، لكن لو كنت تستمع لتلاوته فسجد؛ فيشرع أن تسجد معه، فسجود التلاوة مشروعٌ للمستمع دون السامع.

سجود التلاوة كصلاة النافلة

وهو كالنافلة فيما يُعتبر لها.

أي: أن سجود التلاوة كصلاة النافلة، فيما يُعتبر لها من السجود، وبهذا يتبين أن المؤلف يرى أن سجود التلاوة صلاةٌ، وهذه مسألةٌ اختلف فيها العلماء، وهذا الخلاف له ثمرةٌ، وإذا قلنا: إن سجود التلاوة صلاةٌ، فيشترط له ما يشترط للصلاة من الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، وغير ذلك، أما إذا قلنا: إنه ليس بصلاةٍ، فلا يشترط له ذلك، المؤلف يقول: إن سجود التلاوة صلاةٌ؛ لأن تعريف الصلاة ينطبق عليه، فإنها عبادةٌ ذات أقوالٍ وأفعالٍ، مفتَتَحةٌ بالتكبير، ومختَتَمةٌ بالتسليم، قالوا: فهذا ينطبق على سجود التلاوة.

القول الثاني: أن سجود التلاوة ليس بصلاةٍ، إذ إنه لا ينطبق عليه تعريف الصلاة، فلم يثبت في السنة أن له تكبيرًا أو تسليمًا، والأحاديث إنما وردت بمجرد السجود فقط، وما ورد من أنه كبَّر عند السجود فضعيفٌ لا يثبت، ومما يدل لذلك: حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، أن النبي سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس [28]، وهذا الحديث في “صحيح البخاري”؛ بوب عليه البخاري: باب سجود المسلمين والمشركين، والمشرك نجسٌ ليس له وضوءٌ، ثم قال البخاري: وكان ابن عمر يسجد على غير وضوءٍ، فكأن البخاري يميل إلى القول الثاني، وهو القول الراجح: وهو أن سجود التلاوة ليس بصلاةٍ، وقد اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كالإمام ابن تيمية وابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.

القول الراجح: أن سجود التلاوة ليس بصلاةٍ؛ وعلى ذلك: فلا يشترط له ما يشترط للصلاة، فللإنسان أن يسجد على غير طهارةٍ، وله أن يسجد إلى غير القبلة، وله إذا كان الإنسان في السيارة ويقرأ القرآن ومر بآيةٍ فيها سجدةٌ؛ فلا بأس أن يسجد، يومئ بالسجود ولو إلى غير القبلة، هذا إذا لم يكن هو السائق للسيارة، أما السائق للسيارة فلا يشرع له ذلك؛ لأن في هذا خطرًا عليه، لكن إذا لم يكن هو السائق؛ فلا بأس إذا مر بآيةٍ فيها سجدةٌ أن يسجد، يومئ بالسجود، ولو كان ذلك إلى غير القبلة؛ بناءً على القول الراجح: وهو أن سجود التلاوة ليس بصلاةٍ.

صفة سجود التلاوة

قال:

يكبر إذا سجد بتكبيرة إحرامٍ، وإذا رفع، ويجلس ويسلم بلا تشهدٍ.

أي: يكبر تكبيرةً واحدةً، ولا يكبر تكبيرتين، ثم إذا رفع يكبر ويجلس ويسلم بلا تشهدٍ، وهذا بناءً على أن سجود التلاوة صلاةٌ.

وبناءً على القول الراجح الذي رجحناه، وهو أنه ليس بصلاةٍ، نقول: إن سجود التلاوة -بناءً على القول الراجح- لا يخلو من حالين:

الحال الأولى: أن يكون داخل الصلاة، فيشرع التكبير معه عند الرفع وعند الخفض، أي: إذا أراد السجود كبر، وإذا رفع كبر.

الحال الثانية: أن يكون سجود التلاوة خارج الصلاة، ولم يرد دليلٌ يدل على مشروعية التكبير في سجود التلاوة؛ وعلى هذا فالقول الراجح: أنه لا يشرع التكبير عند سجود التلاوة، لا عند السجود، ولا عند الرفع منه.

إذنْ إذا كان التكبير داخل الصلاة: فيكبر عند الخفض وعند الرفع؛ لحديث أبي هريرة أنه كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض ورفع، ويقول: “إني لأَشبَهكم صلاةً برسول الله [29]؛ ولأنه لم يُنقل عن النبي أنه سجد في الصلاة من غير تكبيرٍ، أو رَفَع من غير تكبيرٍ.

أما إذا كان خارج الصلاة: فرُوي في ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما: “كان رسول الله يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد، وسجدنا معه” [30]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود، لكنه حديثٌ ضعيفٌ، ولم يرد دليلٌ آخر يدل على مشروعية التكبير في سجود التلاوة خارج الصلاة غير هذا الحديث.

والتكبير أيضًا عند الرفع منه لم يرد فيه شيءٌ، وهكذا السلام لم يرد فيه شيءٌ، والأصل في العبادات التوقيف؛ لهذا قال ابن تيمية رحمه الله: “سجود القرآن لا يُشرع فيه تحريمٌ ولا تحليل”، هذه هي السنة المعروفة عن النبي ، وعليه عامة السلف، وهو منصوصٌ عن الأئمة المشهورين”، ولا سَنَّ فيها النبي سلامًا، ولم يُرْوَ ذلك عنه لا بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ.

على هذا نقول: القول الراجح في سجود التلاوة: أنه إذا كان داخل الصلاة؛ فيُكبر إذا أراد السجود، ويكبر عند الرفع، أما إذا كان خارج الصلاة؛ فالقول الراجح: أنه يسجُد من غير تكبيرٍ عند الركوع، ولا عند الرفع منه؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيءٌ عن النبي .

ما يقول في سجود التلاوة

ويقول في سجود التلاوة ما يقول في سجود صُلب الصلاة.

نصَّ على هذا الإمام أحمد؛ فعلى هذا: يشرع أن يقول: سبحان ربي الأعلى [31]، يكررها، ويقول بعد ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي [32]، وأيضًا مما ورد: سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره، وشق له سمعه وبصره بحوله وقوته، تبارك الله أحسن الخالقين! [33]، وأيضًا جاء حديث الشجرة، وإن كان في سنده مقالٌ، لكن له طرقٌ متعددةٌ، والحديث الوارد فيه: اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود [34].

المهم أن يقول: سبحان ربي الأعلى، وما زاد بعد ذلك مما ذكرنا حسنٌ، لكن لو اكتفى بقول: سبحان ربي الأعلى، في سجود التلاوة؛ فإن ذلك كافٍ إن شاء الله.

لا يشرع في حق المأموم السجود لقراءة نفسه

وإذا سجد المأموم لقراءة نفسه، أو لقراءة غير إمامه عمدًا؛ بطلت صلاته.

أي: إذا سجد المأموم لقراءة نفسه في الصلاة السرية عمدًا؛ بطلت صلاته.

مثال ذلك: في صلاة الظهر أو العصر قرأ المأموم، فمر بآيةٍ فيها سجدةٌ، ليس له أن يسجد؛ لأنه مأمورٌ باتباع الإمام، قد قال عليه الصلاة والسلام: إنما جُعل الإمام ليؤتم به [35]، ولو سجد للتلاوة؛ بطلت صلاته؛ لمخالفته للمتابعة الواجبة للإمام، وهكذا أيضًا لو سمع المأموم آية سجدةٍ في قراءة غير إمامه فسجد متعمدًا؛ فإن صلاته تبطل، وأفاد المؤلف بقوله: “عمدًا”، أن المأموم لو فعل ذلك سهوًا أن صلاته لا تبطل، كما يحصل عند تداخل أصوات بعض الأئمة.

إذنْ المأموم حتى لو قرأ بآيةٍ فيها سجدةٌ ليس له أن يسجد، المأموم تابعٌ لإمامه.

متابعة المأموم إمامه في سجدة التلاوة

ويلزم المأمومَ متابعة إمامه في صلاة الجهر.

يعني: لو سجد الإمام سجود التلاوة في صلاة الجهر؛ فإنه يلزم المأموم أن يتابعه.

فلو ترك متابعته عمدًا بطلت.

يعني: لو لم يسجد المأموم مع إمامه؛ بطلت صلاته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إنما جُعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه [36]، مثلًا: لو أن الإمام يقرأ في سورة (ص)، ومر بآية السجدة في سورة (ص): وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، وفيها خلافٌ، هل يُشرع السجود عندها أو لا يشرع؟ فلو أن الإمام سجد فيها -بناءً على القول بأنه يُشرع السجود عندها- والمأموم طالب علمٍ يرى أنه لا يشرع السجود عندها؛ فلم يتابع المأموم الإمام في سجود التلاوة؛ فإن صلاة هذا المأموم تبطل، هذا معنى كلام المؤلف.

طيب، ما حكم قراءة الإمام سورةً فيها سجدةٌ في الصلاة السرية؛ في صلاة الظهر أو العصر؟

بعض أهل العلم كَرِهَ ذلك، وقالوا: إن الإمام إذا سجد للتلاوة في الصلاة السرية؛ فإن المأموم سيظن أن الإمام سها؛ فيسبح، وأن هذا يكون فيه تشويشٌ على المأمومين؛ لأنه لا يخلو إما أن يسجد فيشوش على المأمومين، أو لا يسجد فيترك السجود المتأكد استحبابه.

والقول الثاني: أنه لا بأس بأن يسجد الإمام عندما يمر بالسجدة في الصلاة السرية، بشرط ألا يكون في ذلك تشويشٌ على المأمومين، ويمكن أن يزول التشويش إما بأخبارهم قبل الصلاة بأنه سيقرأ آيةً فيها سجدةٌ، يقول: يا جماعة، أنا سأصلي بكم صلاة الظهر؛ سأقرأ آيةً فيها سجدةٌ، فبذلك يزول التشويش، وتُطَبَّق السنة، أو بمعرفةٍ بحالِ إمامهم، إذا سجد يشير لهم مثلًا، أو أنه رفع صوته قليلًا بآية السجدة، والآن اللواقط ومكبرات الصوت تلتقط حتى النفس، فلو رفع صوته قليلًا بآية السجدة، وعرف المأمومون أنه سيسجد سجود التلاوة؛ فلا بأس بذلك؛ إذ إن القول بالكراهة يحتاج إلى دليلٍ، والكراهة حكمٌ شرعيٌّ؛ وعلى ذلك نقول بالنسبة لسجود الإمام سجود التلاوة في الصلاة السرية: إذا كان ذلك يسبب تشويشًا للمأمومين..، على ذلك نقول: إذا كانت قراءة الإمام لآيةٍ فيها سجدةٌ في الصلاة السرية؛ كصلاة الظهر أو العصر، إذا كان ذلك يسبب إرباكًا للمأمومين وتشويشًا عليهم؛ فالأولى تركه، أما إذا كان ذلك لا يسبب إرباكًا ولا تشويشًا؛ لكونه مثلًا أخبرهم بأنه سيسجد، أو لمعرفتهم بحال إمامهم، أو لكونه يرفع صوته قليلًا بآية السجدة، فيعرف من خلفه بأنه سيسجد سجود التلاوة؛ فلا بأس بذلك، لا بأس به من غير كراهةٍ على القول الراجح.

يعتبر كون القارئ يصلح إمامًا للمستمع

قال:

ويعتبر كون القارئ يصلح إمامًا للمستمع.

سبق أن قلنا: إن سجود التلاوة يكون للمستمع دون السامع، والمؤلف هنا يشترط لسجود المستمع صلاحية القارئ للإمامة؛ ولذلك قال:

فلا يسجد إن لم يسجد، ولا قدامه، ولا عن يساره مع خلو يمينه، ولا يسجد رجلٌ لتلاوة امرأةٍ وخُنْثى، ويسجد لتلاوة أُميٍّ وزَمِنٍ ومميِّزٍ.

قال: “لا يسجد إن لم يسجد، ولا قدامه..”: كل هذا الكلام الذي ذكره المؤلف بناءً على القول بأن سجود التلاوة صلاةٌ، وأن القارئ إمامٌ للمستمع؛ فتنطبق عليه أحكام الاقتداء بالإمام، وسبق ترجيح القول بأن سجود التلاوة ليس بصلاةٍ، ولا يُشترط كون القارئ يصلح إمامًا للمستمع، ولهذا فلا نحتاج إلى هذه التفريعات التي ذكرها المؤلف؛ على هذا: لو أن المستمع كان على يسار القارئ؛ فلا بأس أن يسجد، على رأي المؤلف أن هذا المستمع لا يسجد، ولكن بناءً على القول الراجح لا بأس أن يسجد، ومما يدل لذلك: أن سبب سجود المستمع: هو استماعه لآية السجدة، وهذا حاصلٌ بتلاوة من لا يصلح للإمامة.

هل يسجد للتلاوة إذا سمع آية السجدة مسجلةً؟

وما ذكره المؤلف من أن المستمع لا يسجد إن لم يسجد القارئ، هذا صحيحٌ؛ لأن سجود المستمع تبعٌ لسجود القارئ، فالقارئ هو أصلٌ، والمستمع فرعٌ، ومما يدل لذلك: ما جاء عن زيد بن ثابتٍ أنه قرأ على النبي سورة النجم، فلم يسجد فيها، وهذا يدل على أن زيدًا لم يسجد؛ لأنه لو سجد لسجد النبي كما كان الصحابة يسجدون مع النبي ، ومر عثمان بقارئٍ يقرأ سجدةً، فقال عثمان: “إنما السجدة على من استَمَعها”، ثم مضى ولم يسجد [37]، رواه عبدالرزاق بسندٍ صحيحٍ، وذكره البخاري في “صحيحه” معلَّقًا بصيغة الجزم.

بناءً على هذا: هل يشرع السجود عند استماع تلاوة القرآن عن طريق التسجيل، أو عن طريق الإذاعة إذا مرَّ القارئ بآيةٍ فيها سجدةٌ؟

الجواب: لا يشرع؛ لأن القارئ لم يسجد في هذا الوقت وفي هذه الحال؛ لكون الصوت الصادر عن جهاز التسجيل عبارةً عن حكاية صوتٍ، فما دام القارئ لم يسجد؛ فإنه لا يشرع للمستمع أن يسجد، حتى لو أن القارئ في التسجيل سجد؛ فإنه لا يشرع للمستمع أن يسجد؛ لأن تلاوته مجرد حكاية صوتٍ، وربما كان القارئ ميتًا، فلا بد أن يكون سجود القارئ حال القراءة ليسجد معه المستمع، وهذا كما في متابعة الأذان المسجل عن طريق جهاز التسجيل أو الإذاعة؛ لا تشرع متابعته، فنقول كذلك بالنسبة للأذان، يعني: الأذان الذي يكون عن طريق المسجل لا تُشرع متابعته، وهذا أحيانًا يكون في إذاعة القرآن الأذان يُنقل مسجلًا، وليس على الهواء مباشرةً، فلا تشرع متابعته، أو يكون الأذان مثلًا عبر الجوال، أو عبر بعض وسائل التواصل الاجتماعي، ويكون بصوتٍ مسجَّلٍ، فلا تُشرع متابعةُ الأذان في هذه الحال؛ لأنه مجرد حكاية صوتٍ.

وهكذا لو كان الأذان منقولًا على الهواء مباشرةً، وقد صلى الإنسان، لا تشرع المتابعة أيضًا، إنما تُشرع إذا كان الأذان منقولًا على الهواء مباشرةً ولم يصلِّ بعد، مثال ذلك: إذا نُقل الأذان مثلًا لمن كان في مدينة الرياض من جامع الإمام تركي بن عبدالله، يُنقل أذان المغرب على الهواء مباشرةً، هنا تُشرع متابعته، لكن لو أنك صليت العشاء في الرياض، وركبت السيارة، واستمعت للأذان منقولًا من مكة على الهواء مباشرةً؛ لا تُشرع متابعته؛ لأنك قد صليت وأديت الصلاة، والأذان ومتابعة المؤذن يُشترط لها أن يكون المتابع لم يؤدِّ الصلاة بعد؛ لأن المؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، يعني: أقبل على الصلاة، وأقبل على الفلاح، وأنت قد صليت، وقد نص على هذا فقهاء الحنابلة؛ أن المتابعة للمؤذن إنما تكون في حق من لم يؤدِّ الصلاة، أما من صلى فلا تُشرع في حقه المتابعة.

مواضع سجود التلاوة

هنا استدراكٌ في “السلسبيل” على المؤلف، على “الدليل”، في أن المؤلف فاته أن يذكر الآيات التي فيها سجدةٌ، مع أن عامة كتب الفقه يذكرونها، لكنه يبقى بشرًا، فنحن نحتاج إلى أن نستدركها ونذكرها، والآيات التي قيل فيها سجود التلاوة خمس عشرة آيةً:

أولها في الأعراف، وآخرها العلق، هذه المواضع الخمس عشرة: في سورة الأعراف، وسورة الرعد، وسورة النحل، وسورة الإسراء، وسورة مريم، وسورة الحج في موضعين، وسورة الفرقان، وسورة النمل، وسورة السجدة، وسورة فصلت، وسورة النجم، وسورة الانشقاق، وسورة العلق، هذه أربع عشرة سجدة، وأما سجدة سورة (ص) عند قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، ففيها خلافٌ بين الفقهاء؛ فمنهم من قال: لا يُشرع السجود عندها، وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة، قالوا: لأنها توبة نبيٍّ قد وردت بلفظ الركوع، ولأن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: إنها ليست من عزائم السجود، ومنهم من قال: إنه يُشرع السجود عندها، وهو مذهب الحنفية والمالكية، وروايةٌ عند الحنابلة، قالوا: لأنه قد جاء في “صحيح البخاري” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “(ص) ليس من عزائم السجود، وقد كان النبي يسجد فيها” [38].

وسمعت شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله يقول: إن قول ابن عباسٍ: “رأيت النبي يسجدُ فيها”، يكفي لإثبات مشروعية السجود في هذا الموضع، يكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام سجد عند هذه الآية؛ آية سجدة (ص)، يكفي هذا لأثبات المشروعية، والحديث في “صحيح البخاري”؛ ولهذا قال مجاهدٌ: سألت ابن عباسٍ عن سجدة (ص)، قال: أَوَمَا تقرأ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام:84].. إلى قوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]؟! فكان داود ممن أُمر نبيكم أن يقتدي به، فسجدها داود ، فسجدها رسول الله “، وثبت أيضًا عن عمر أنه سجد عندها، وثبت كذلك عن عثمان وعن ابن عمر .

فالقول الراجح: أنه يشرع السجود عند سجدة (ص): فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، وأما ما استدل به القائلون بعدم شرعية السجود بأنها قد وردت بلفظ الركوع، فقد أجاب عن ذلك الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله، حيث قال في “تفسيره”: إن قوله: وَخَرَّ رَاكِعًا أي: ساجدًا، فالركوع يُعبر به أحيانًا عن السجود، قال: ويحتمل أنه ركع ثم سجد بعد ذلك.

قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: السجدة التي في (ص) إنما وردت بلفظ الركوع، ولولا التوقيف ما ظهر أن فيها سجدةً.

بكل حالٍ: يكفينا أن النبي سجد عندها، والحديث في “البخاري”، هذا بحد ذاته كافٍ في إثبات مشروعية السجود عند سجدة (ص).

وأذكرُ أنه في سنةٍ من السنوات، إمام الحرم قرأ سورة (ص)، ولم يسجد لما مرَّ بالآية: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، واتصلت عليه وقلت له: هل أنت على مذهب الحنابلة؟ ثم ذكرت له الخلاف والأدلة بنحو هذا الكلام الذي سمعتم، واقتنع جزاه الله خيرًا، ثم قُدِّر أنه أمَّنا في العام الذي بعده وقرأ سورة (ص)، فلما بلغ موضع السجود سجد، جزاه الله خيرًا، فهذا الموضع مما يُختلف فيه، لكن ينبغي لطالب العلم أن يحرص على التحقيق في مثل هذه المسائل الخلافية، كما ذكرنا، يكفي أن النبي سجد عندها، وهذا في “صحيح البخاري”.

طيب، هنا فائدةٌ: بعض السور تكون السجدة في آخرها؛ مثل سورة الأعراف والنجم والعلق، فهل إذا سجد الإمام فيها؛ يُشرع أن يقرأ آيةً بعدها؟ نقول: هو مخيرٌ؛ إن أراد أن يقرأ آيةً بعدها فلا بأس، وإن أراد ألا يقرأ يرفع، ويقول: الله أكبر، ثم يكبر للركوع: الله أكبر، وبعض أئمة المساجد يتحرج إذا قرأ مثلًا سورة العلق ورفع لا بد أن يقرأ سورة: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، هذا ليس بلازمٍ، إن شاء رفع وركع مباشرةً، فهو مخيرٌ بين أن يقرأ سورةً بعدها، وبين أن يركع من غير أن يقرأ سورةً بعدها.

سجود الشكر

ننتقل بعد ذلك للكلام عن سجود الشكر، قال:

ويسن سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم.

سبب سجود الشكر

“سجود الشكر”: من باب إضافة الشيء إلى سببه، يعني: السجود الذي سببه الشكر، وهو كسجود التلاوة في أفعاله وأحكامه وشروطه، ولكن سببه مختلفٌ، فسبب سجود التلاوة: قراءة أو استماع آية سجدةٍ، أما سبب سجود الشكر: فتجدد النعم أو اندفاع النقم.

إذنْ سبب سجود الشكر: تجدد النعم أو اندفاع النقم، وإنما قلنا: تجدد النعم؛ احترازًا من النعم المستمرة، فإن النعم المستمرة لا يُشرع السجود عندها؛ إذ لو قيل بمشروعية السجود عندها؛ لكان الإنسان دائمًا في سجود؛ لأن نعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ومن أمثلة تجدد النعم: أن يُرزق الإنسان بمولودٍ، ومن ذلك مثلًا: أن تحصل له وظيفةٌ كان يسعى إليها، ومن ذلك: إتمام حفظ القرآن، ومن ذلك: نعمةٌ عامةٌ للمسلمين؛ كانتصار المسلمين على عدوهم، ونحو ذلك.

ومن أمثلة اندفاع النقم أولًا المقصود بالنقم: النقم التي قام سببها فاندفعت، أما اندفاع النقم المستمر فلا يُشرع السجود عنده؛ لأنه لو قيل بذلك؛ لكان الإنسان في سجودٍ دائمًا، لكن الكلام في النقم التي انعقد سببها واندفعت.

ومن أمثلة اندفاع النقم: النجاة من حادث سيارةٍ، ومن ذلك: الشفاء من مرضٍ، ومن ذلك، نجاته أو نجاة أهله من احتراق المنزل، ومن ذلك: اندفاع بليَّةٍ عامةٍ عن المسلمين، ومن ذلك: ارتفاع جائحة (كورونا)، لو ارتفعت بشكلٍ نهائيٍّ؛ فيشرع سجود الشكر لله ​​​​​​​؛ كأن يُقال مثلًا: حالات الإصابة وصلت إلى صفرٍ، وارتفعت هذه الجائحة تمامًا، فهذا يعتبر من اندفاع النقم التي يشرع سجود الشكر عندها، أو يُكتشف علاجٌ لهذا الوباء، فيشرع السجود عند ذلك الاكتشاف، فإذنْ اندفاع النقم يشرع عنده سجود الشكر.

وقد ورد عن النبي أنه سجد للشكر في وقائع متعددةٍ، وإن كان في أسانيدها مقالٌ، إلا أنها بمجموع طرقها ثابتةٌ، وجاء في “الصحيحين”: أن كعب بن مالكٍ لما بُشر بتوبة الله عليه سجد لله شكرًا، وقد رُوي سجود الشكر عن أبي بكرٍ وعن عمر وعن عليٍّ وغيرهم .

حكم سجود الشكر في الصلاة

قال:

وإن سجد له عالمًا ذاكرًا في صلاته؛ بطلت.

يعني: أن سجود الشكر لا يشرع أثناء الصلاة، وإنما يكون خارج الصلاة، ولو سجد سجود الشكر داخل الصلاة متعمدًا؛ بطلت صلاته، أما لو كان ساهيًا؛ فلا حرج؛ ولذلك المؤلف قال: “عالمًا ذاكرًا”، لكن لو أنه بُشِّر ببشرى وهو في الصلاة، فنسي وذهل، وسجد لله شكرًا؛ فصلاته صحيحةٌ، أما تعمد ذلك فهذا يُبطل الصلاة؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، ولم يرد عن النبي ولا عن أحدٍ من أصحابه  أنهم كانوا يسجدون لله سجود الشكر داخل الصلاة.

صفة سجود الشكر

قال:

وصفته وأحكامه كسجود التلاوة.

يعني: سجود الشكر، حكمه وصفته وأحكامه، كصفة وأحكام سجود التلاوة التي سبق الكلام عنها، السجود لغير سجود الصلاة، ولغير سجود التلاوة، ولغير سجود الشكر بدعةٌ محدثةٌ، فلو قال إنسانٌ: أنا أريد أن أسجد لله سجودًا أخصصه للدعاء، فنقول: هذا العمل بدعةٌ، إما أن تصلي وتدعو الله تعالى في السجود، وهذا لا بأس به، أو أن يكون السجود سجود تلاوةٍ أو سجود شكرٍ، أما سجودٌ مستقلٌّ عن الصلاة، وليس بسجودِ تلاوةٍ، وليس بسجود شكرٍ؛ فهذا من البدع المحدثة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ [39]، وقال: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ [40].

إذنْ نقف عند أوقات النهي.

الآن أجيب عما تيسر من الأسئلة في حدود ربع ساعةٍ.

الأسئلة

السؤال: هل هناك مقدارٌ محددٌ عند إطعام المساكين في كفارة اليمين؟

الجواب: هذا محل خلافٍ بين العلماء:

فمنهم من حدد المقدار وقال: إنه نصف صاعٍ، وبعضهم قال: مُدٌّ من بُرٍّ، وصاعٌ من غيره،

والقول الثاني: أن المرجع في ذلك للعرف، فما عده الناس إطعامًا؛ فهو إطعامٌ، وهذا هو القول الراجح، واختاره ابن تيمية رحمه الله وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، أن المرجع في ذلك للعرف، فإذا أطعم عشرة مساكين، وصَدَق عليه عرفًا أنه أطعمهم؛ أجزأ، ومن ذلك: أن يشتري لهم عشر وجبات أرزٍ مع لحمٍ ويعطيهم، هذا يكفي في الإطعام، ومن ذلك: أن يعطي عشرة مساكين أرزًا مع إدامٍ، فهذا يكفي، فالمرجع في ذلك إلى العرف.

المهم أن يحصل الإطعام عُرفًا، يعني: ما نسميه في الوقت الحاضر وجبة غداءٍ أو وجبة عشاءٍ، تُغدي أو تُعشي عشرة مساكين.

السؤال: إذا منعت الأم ولدها عن التفرغ لطلب العلم، أو عن صيام النفل، أو ألا يتزوج أي امرأةٍ تغطي وجهها، أو نهته عن لبس القميص؛ معللةً لذلك بأنها تريد منه أن يستمتع بالحياة، هل تجب طاعتها؟

الجواب: لا تجب طاعتها: إنما الطاعة في المعروف [41]، إذا كان النبي  قال الله تعالى له: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12]، ما بالك بغيره؟! فالطاعة للمخلوق تكون بالمعروف، ليست طاعةً مطلقةً، فإذا أمر الأب أو الأم بأمرٍٍ ليس من المعروف؛ فلا تجب طاعته، إذا قال: لا تصم صيام النافلة، طيب ما فائدتك من أنه لا يصوم صيام النافلة؟ ما فائدة الأب والأم من هذا الأمر؟ لأن بعضهم قد يكون يكره الدين، ويكره المتدينين، وينهى أولاده عن الالتزام بالطاعة والتمسك بالدين، فمثل هذا لا يُسمع له، لكن كما قال ربنا سبحانه في الوالدين اللذين يأمران ولدهما بالشرك: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، فنقول لهذا الابن: لا تُطع أباك وأمك في هذا الأمر، لكن صاحبهما؛ صاحب أمك أو أباك في الدنيا معروفًا، فلا تُطعه فيما أمرك به من هذا الأمر، إما أن يكون معصيةً أو يكون ليس من المعروف، لكنْ صاحِبْه معروفًا؛ بَرَّه وأحسِن إليه، وهذا يقودنا إلى معرفة ضابط بر الوالدين، ما هو الضابط في ذلك؟

أحسن ما قيل في الضابط: هو ما ذكره ابن تيمية رحمه الله: وهو أن يأمر الوالدان ولدهما بما فيه منفعةٌ لهما وليس فيه ضررٌ على الولد، فلا بد أن يكون لأمر الوالدين بهذا الأمر منفعةٌ.

إذنْ ضابط وجوب طاعة الوالدين: متى تجب طاعة الوالدين؟

نقول: تجب طاعة الوالدين إذا أمرا ولدهما بما فيه منفعةٌ لهما، وليس فيه ضررٌ على هذا الولد، بما فيه منفعةٌ لهما، أما إذا لم يكن هذا الأمر فيه منفعةٌ لهما؛ كأن يكون على سبيل التعنت، فلا تجب طاعتهما فيه، أو أن يكون على الولد ضررٌ، فلا تجب طاعتهما فيه على سبيل التعنت؛ مثل أن يأمر الأب أو الأم ابنه بعدم صيام النوافل، لا تجب طاعتهما في ذلك، أو مثل ما ذكر الأخ السائل: ألا يتزوج امرأةً تُغطي وجهها، هنا لا تجب طاعة الأم في ذلك، أو أن يتدخل في لبسه، أو أن ينهاه مثلًا عن صلاة الجماعة في المسجد، أو نحو ذلك.

فإذا لم يكن لهذا الأب أو الأم منفعةٌ في هذا الأمر أو النهي؛ فلا تجب طاعته فيه، أو كان على الابن ضررٌ؛ كأن يأمر الأب أو الأم الابن بطلاق امرأته، لا تجب طاعة الأب أو الأم في ذلك، قد جاء رجلٌ إلى الإمام أحمد وقال: إن أبي يأمرني بطلاق امرأتي، قال: لا تطعه، قال: أليس النبي لما أمر عمر ابنه عبدالله بطلاق امرأته؛ قال النبي لابن عمر: أطع أباك [42]، قال: إذا كان أبوك مثل عمر؛ فأطع أباك؛ لأن عمر لا يمكن أن يأمر ابنه بطلاق امرأته إلا لسببٍ شرعيٍّ.

فإذنْ الضابط في طاعة الوالدين: أن يأمرا ولدهما بما لهما فيه منفعةٌ وليس فيه ضررٌ على الولد.

السؤال: هل يجوز للمدير المباشر بالعمل منحي إجازة يومٍ واحدٍ بالشهر، ولا تُستقطع هذه الإجازة من راتبي ولا رصيد إجازاتي، علمًا أن هذا بدون علم صاحب الشركة؟

الجواب: إذا كان هذا من صلاحية هذا المدير؛ فلا بأس، أما إذا لم يكن من صلاحيته؛ فلا يجوز؛ لأن المدير قد يكون متساهلًا، قد يكون غير منضبطٍ، فالعبرة إذنْ بنظام هذه المنشأة أو الشركة؛ فإذا كان من صلاحية المدير المباشر أن يمنحك هذه الإجازة؛ جاز ذلك، وإن لم يكن من صلاحيته؛ فلا يجوز ذلك.

السؤال: ما معنى بعض الألفاظ التي يطلقها بعض الفقهاء؛ كالقول عند الحنابلة: “المشهور”، “روايةٌ”؟

الجواب: هذه مصطلحاٌت في كتب المذاهب، ولعل الأخ السائل الكريم يرجع لكتب تاريخ الفقه، فهي تُبين معاني هذه المصطلحات عند المذاهب عمومًا، سواءٌ عند الحنابلة أو عند غيرهم، فكتب تاريخ الفقه مفيدةٌ لطالب العلم.

السؤال: هل من أسماء الله: “الماجد”؟

الجواب: لا أعلم أن هذا من أسماء الله تعالى، وأسماء الله تعالى توقيفيةٌ، ومن يقول: إن هذا من أسماء الله، فعليه الدليل، وأما الحديث الوارد في “الترمذي” في تسمية تسعةٍ وتسعينٍ اسمًا لله ​​​​​​​، فهذا الحديث ضعيفٌ، وفيه أسماءٌ لم تثبت، وبكل حالٍ هذا الحديث ضعيفٌ.

السؤال: صلاة ركعتين بعد الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر، هل تعتبر من الضحى، أو صلاة الإشراق؟

الجواب: إذا جلس المسلم في المسجد بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع قِيدَ رُمحٍ، يعني: حتى بعد طلوع الشمس بنحو عشر دقائق، فإن أراد أن يصلي صلاة الضحى في أول وقتها؛ فلا بأس، يصلي صلاة الضحى في أول وقتها، وأما أن يصلي ركعتين يسميهما بعض العامة بصلاة الإشراق، فهذا لا دليل عليه، والحديث المروي في ذلك حديثٌ ضعيفٌ؛ حديث: من جلس في المسجد بعد صلاة الصبح يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين؛ كان له أجر حجةٍ وعمرةٍ تامةٍ تامةٍ تامةٍ [43]، هذا حديثٌ رواه الترمذي، لكنه حديثٌ ضعيفٌ، لكن كان النبي عليه الصلاة والسلام يجلس في المسجد بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، جاء ذلك في “صحيح مسلمٍ” وغيره [44].

فالجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس، يذكر الله ​​​​​​​، هذا سنةٌ، كان النبي عليه الصلاة والسلام غالبًا يفعلها، لكن صلاة ركعتين بعد ذلك، هذا لم يثبت فيه حديثٌ، الحديث المروي في ذلك ضعيفٌ، لكن إذا أراد أن يصلي ركعتين نقول: ينوي بهما ركعتي الضحى في أول وقتها فلا بأس، وإذا أراد أن يصلي صلاة الضحى في آخر وقتها، وهو الأفضل؛ فحينئذٍ يخرج من المسجد من غير أن يأتي بركعتين، ويصلي صلاة الضحى في آخر وقتها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: صلاة الأوَّابين حين تَرْمَضُ الفِصَال [45].

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 720.
^2 رواه البخاري: 1177، ومسلم: 718.
^3 رواه مسلم: 717.
^4 رواه مسلم: 719.
^5 رواه مسلم: 721.
^6 رواه النسائي: 2403.
^7 رواه مسلم: 722.
^8, ^12, ^36, ^45 سبق تخريجه.
^9 رواه البخاري: 1131، ومسلم: 1159.
^10 رواه البخاري: 1971، ومسلم: 1157.
^11 رواه البخاري: 1103، ومسلم: 336.
^13 رواه مسلم: 748.
^14 الرمضاء: الرمل الذي اشتدت حرارته. شرح النووي على مسلم: 6/ 30.
^15 رواه البخاري: 444، ومسلم: 714.
^16 رواه البخاري: 931.
^17 رواه البخاري: 46، ومسلم: 11.
^18 رواه البخاري: 624، ومسلم: 838.
^19 رواه البخاري: 159، ومسلم: 226.
^20 دَفَّ نعليك: صوت مشيك فيهما. مطالع الأنوار لابن قرقول: 3/ 44.
^21 رواه البخاري: 1149، ومسلم: 2458.
^22 رواه الترمذي: 3781، وأحمد: 23329.
^23 رواه ابن ماجه: 1167.
^24 رواه البخاري: 472، ومسلم: 749.
^25 رواه مسلم: 81.
^26 رواه البخاري: 1073، ومسلم: 577.
^27 رواه البخاري: 1077.
^28 رواه البخاري: 1071.
^29 رواه البخاري: 785، ومسلم: 392.
^30 رواه أبو داود: 1413.
^31 رواه مسلم: 772.
^32 رواه البخاري: 794، ومسلم: 484.
^33 رواه مسلم: 771.
^34 رواه الترمذي: 579، وابن ماجه: 1053.
^35 رواه البخاري: 688، ومسلم: 412.
^37 رواه عبدالرزاق في مصنفه: 5906، وذكره البخاري معلقا: 2/ 42.
^38 رواه البخاري: 1069.
^39, ^40 رواه مسلم: 1718.
^41 رواه البخاري: 7145، ومسلم: 1840.
^42 رواه أبو داود: 5138، والترمذي: 1189، وابن ماجه: 2088، وأحمد: 4709، واللفظ له، وقال الترمذي: حسن صحيح.
^43 رواه الترمذي: 586.
^44 رواه مسلم: 670.