صلاة الوتر
ننتقل بعد ذلك إلى التعليق على “السلسبيل شرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى صلاة الوتر، قال:
فالوتر وأقله: ركعةٌ.
حكم صلاة الوتر
صلاة الوتر سنةٌ مؤكدةٌ، وقد قال بعض العلماء بوجوبها، وهم فقهاء الحنفية، وجمهور أهل العلم على أنها غير واجبةٍ، وإنما مستحبةٌ استحبابًا مؤكدًا، وكان النبي يحافظ عليها، ولا يدعها لا سفرًا ولا حضرًا، وسيأتي الكلام عن أيهما آكد: الوتر أم ركعتا الفجر؟
فإذنْ صلاة الوتر قلنا: إنها مستحبةٌ استحبابًا مؤكدًا عند جمهور الفقهاء، وهو القول الراجح، خلافًا للحنفية القائلين بالوجوب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله زادكم صلاةً، وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح [1]، وقال: الوتر حقٌّ على كل مسلمٍ [2].
وهذه النصوص وما جاء في معناها تدل على تأكُّد هذه الصلاة، لكنها لا تقوى للقول بإيجابها؛ لأنه قد وردت صوارف تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب؛ ومنها: حديث الرجل الذي سأل النبي عما فُرض عليه من الصلاة، قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع [3]، والحديث في “الصحيحين”، وهو صريحٌ في عدم إيجاب غير الصلوات الخمس، فلو كانت صلاة الوتر واجبةً؛ لبيَّن هذا النبي ؛ وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
أيهما آكد: صلاة الوتر أم ركعتا الفجر؟
الموفق ابن قدامة رحمه الله رجح أن الوتر آكد؛ لأن الوتر مختلفٌ في وجوبه، ولم يُختلف في عدم وجوب ركعتي الفجر؛ ولأنه قد جاء في فضل الوتر ما لم يرد في ركعتي الفجر، فالأقرب -والله أعلم- أن الوتر أفضل من ركعتي الفجر، وأن ركعتي الفجر تلي الوتر في الآكدية.
حكم من ترك الوتر عمدًا
هنا فائدةٌ نقلتها في “السلسبيل” عن الإمام أحمد أنه قال: “من ترك الوتر عمدًا فهو رجل سوءٍ لا ينبغي أن تُقبل له شهادةٌ”، وهذه نقلها عنه ابنه أبو الفضل صالحٌ، وفسر ابن قدامة مراد الإمام أحمد بأن المقصود بذلك: المبالغة في تأكيد الوتر، ولم يُرِد الوجوب؛ لأنه قد صرح في رواية حنبلٍ بأن الوتر ليس بمنزلة الفرض؛ فإن شاء قضى الوتر، وإن شاء لم يقضه.
في الطبعة الحالية ذكرت أن هذه العبارة قد لا تصح عن الإمام أحمد؛ لأنه قال: “رجل سوءٍ”، ولكن بالتأمل في إسنادها؛ إسنادها صحيحٌ؛ ولذلك في طبعة “السلسبيل” التي طُبعت -وإن شاء الله في الطريق ستأتي قريبًا- هذا التعليق، وهو أن بعض العلماء يرى أن هذه العبارة لا تصح، حُذفت من الطبعة الجديدة؛ لأن العبارة صحيحةٌ عن الإمام أحمد، لكن تُحمل على أن المقصود بذلك تأكُّد صلاة الوتر، وإلا فالإمام أحمد يرى أنها ليست واجبةً، وأنا سمعت شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله يستشكل هذه المقولة من الإمام أحمد، وهنا في الطبعة القديمة قلت: ربما أنها لا تصح، لكن سندها صحيحٌ عن الإمام أحمد، وربما أنه يقصد بالسوء: أن هذا الإنسان ليس محافظًا على الفضائل، وهنا لا يقصد بذلك أنه ارتكب أمرًا محرمًا، أو ترك أمرًا واجبًا.
صفة صلاة الوتر
قال:
وأكثره: إحدى عشرة.
يعني: أكثر الوتر إحدى عشرة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة [4]، لكن هذا الحديث يدل على أن هذا هو غالب هدي النبي ، وقد ورد عنه صفاتٌ أخرى، وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح؛ فليوتر بواحدةٍ توتر له ما قد صلى [5]، وهذا الحديث صريحٌ في أنه لا حد لأكثره، وهذا هو القول الراجح؛ أنه لا حدَّ لأكثر صلاة الوتر، لك أن توتر ما شئت مثنى مثنى، تصلي من الليل ما شئت مثنى مثنى، وتوتر بواحدةٍ.
وعلى هذا: يكون القول الراجح أن أفضله: إحدى عشرة ركعةً، ولا حد لأكثره، وأدنى الكمال: ثلاثٌ بسلامين، أي ثلاث ركعاتٍ بسلامين، يصلي ركعتين، ثم يسلم، ثم يأتي بواحدةٍ؛ لحديث عبدالرحمن بن أبزى أن النبي كان يقرأ في الوتر بـسَبِّح [الأعلى:1]، وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] [6]، وهو حديثٌ صحيحٌ، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، فأدنى الكمال ثلاثٌ.
إذنْ أقل الوتر: ركعةٌ، وأدنى الكمال: ثلاث ركعاتٍ، وأفضله: إحدى عشرة ركعةً، ولا حد لأكثره.
ويجوز بواحدٍ سردًا.
يعني: يجوز الوتر بثلاث ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ، وهذا يقودنا إلى معرفة الصفات الواردة عن النبي في صلاة الوتر:
فالصفة الأولى: وهي أشهرها وأفضلها: أن يصلي مثنى مثنى، يعني ركعتي ركعتين، ويوتر بواحدةٍ، هذه أكمل الصفات وأفضلها، وهي الواردة في الأحاديث الصحيحة، وهي الواردة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدةٍ [7]، وهي أيضًا الصفة المتفق عليها؛ لأن بقية الصفات فيها خلافٌ، فإذنْ يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر بواحدةٍ، هذه أكمل وأفضل الصفات، وهي غالب هدي النبي .
الصفة الثانية: أن يوتر بثلاث ركعاتٍ سردًا بتشهدٍ واحدٍ، وهي التي أشار إليها المؤلف، ويدل لها حديث عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله يوتر بثلاثٍ لا يقعد إلا في آخرهن” [8]، رواه البيهقي بسندٍ صحيحٍ، أما إذا كان بتشهدين كصلاة المغرب، بتشهدين وسلامٍ واحدٍ، كصلاة المغرب، فهذا قد ورد النهي عنه، كما في حديث أبي هريرة : لا توتروا بثلاثٍ، أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ؛ لا تشبَّهوا بصلاة المغرب [9]، أخرجه ابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه.
النوع الثالث: الوتر بخمس ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ، وسلامٍ واحدٍ، يعني يسرد خمس ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ، وسلامٍ واحدٍ، وهذا قد جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعةً يوتر من ذلك بخمسٍ، لا يجلس بشيءٍ إلا في آخرها” [10].
النوع الرابع: أن يوتر بسبع ركعاتٍ يسردها لا يجلس إلا في آخرها؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها: “كان رسول الله يوتر بخمسٍ وبسبعٍ، لا يفصل بينها بسلامٍ ولا بكلامٍ” [11]، أخرجه النسائي.
النوع الخامس: أن يوتر بسبعٍ، لكن يتشهد بعد الركعة السادسة بدون سلامٍ، ثم يقوم ويأتي بالسابعة ويتشهد ويسلم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: “ثم يصلي سبع ركعاتٍ، ولا يجلس فيهن إلا عند السادسة، فيجلس ويذكر الله ويدعو” [12]، أخرجه ابن حبان.
النوع السادس: أن يوتر بتسع ركعاتٍ يسرد ثمانيًا، ثم يجلس بعد الركعة الثامنة، ويتشهد ولا يسلم، ثم يقوم ويأتي بالتاسعة ويتشهد ويسلم، يعني: كالصفة السابقة لكنها تسع ركعاتٍ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أيضًا، أن النبي كان يصلي تسع ركعاتٍ لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يُسمعنا” [13]، رواه مسلمٌ.
النوع السابع: أن يصلي ثماني ركعاتٍ يسلم في كل ركعتين، ثم يسرد خمس ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ، وسلامٍ واحدٍ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعةً، يوتر من ذلك بخمسٍ لا يجلس في شيءٍ إلا في آخرها” [14].
النوع الثامن: أن يوتر بركعةٍ واحدةٍ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: الوتر ركعةٌ من آخر الليل [15].
هذه ثماني صفاتٍ انتبه لها، واضبطها جيدًا، وطبقها ولو مرةً واحدةً، وقد لا تجد هذه الصفات مجموعةً في كتابٍ واحدٍ، لكن جمعتها بالنظر للروايات الواردة، وكلام المحققين في هذا.
إذن نعيدها مرةً أخرى:
- الصفة الأولى: أشهرها وأكملها: مثنى مثنى، ثم يوتر بواحدةٍ.
- الصفة الثانية: يسرد ثلاث ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ.
- الصفة الثالثة: يسرد خمس ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ.
- الصفة الرابعة: يسرد سبع ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ.
- الصفة الخامسة: يسرد تسع ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ.
- الصفة السادسة: يسرد ست ركعاتٍ يجلس بعدها للتشهد، ولا يسلم، ثم يقوم ويأتي بالسابعة.
- الصفة السابعة: يسرد ثماني ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ ولا يسلم، ثم يقوم ويأتي بالتاسعة.
- الصفة السابعة: أن يصلي ثماني ركعاتٍ مثنى مثنى، ثم يسرد خمس ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ.
- الصفة الثامنة: أن يوتر بركعةٍ واحدةٍ.
هذه هي الصفات الواردة.
إذنْ نضبطها: ثلاث ركعاتٍ أولًا مثنى مثنى، ويوتر بواحدةٍ، ثلاث ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ، خمس بتشهدٍ واحدٍ، سبعٌ بتشهدٍ واحدٍ، تسعٌ بتشهدٍ واحدٍ، سبعٌ بتشهدين، تسعٌ بتشهدين، ركعةٌ واحدةٌ من آخر الليل.
أيضًا أن يصلي ثماني ركعاتٍ مثنى مثنى، ثم يسرد خمس ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ.
بقي صفةٌ أخرى، وهي: أن يسرد إحدى عشرة ركعةً بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ، وهذا لم أقف عليه في شيءٍ من النصوص الواردة، وأذكر أني سألت شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله، فقال: لا أعلم أنه ورد في ذلك شيءٌ، والأصل في العبادات التوقيف، وعلى هذا فلا يُشرع سرد إحدى عشرة ركعةً بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ.
وقت صلاة الوتر
ووقته: ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر.
أي: وقت صلاة الوتر ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، وهذا باتفاق العلماء؛ وعلى ذلك: لو جَمَع جَمْع تقديمٍ لمرضٍ أو سفرٍ؛ فإن الوتر يبدأ من بعد الجمع، وقد جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “من كل الليل أوتر رسول الله ؛ من أول الليل وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر” [16]، متفقٌ عليه.
والأفضل في وقت الوتر: هو السدس الرابع والخامس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يومًا، ويفطر يومًا [17]، الليل مكونٌ من ستة أسداسٍ، نصف الليل: السدس الأول والثاني والثالث، السدس الرابع والخامس هذا أفضل وقتٍ لقيام الليل، والسدس السادس ينام فيه، هذه هي صلاة داود عليه الصلاة والسلام، وهي أحب الصلاة إلى الله.
فإذنْ أفضل وقتٍ يصلى فيه: السدس الرابع والخامس، يعني: من بعد منتصف الليل، السدس الرابع والخامس، إذا قسمت الليل ستة أقسامٍ: السدس الأول والثاني والثالث، هذه منتصف الليل، الرابع والخامس: من بعد منتصف الليل، أما السدس الأخير فينام فيه،
هذه هي صلاة داود ، وأخبر عليه الصلاة والسلام بأنها أحب الصلاة إلى الله، هناك ساعة إجابةٍ في كل ليلةٍ، يقول عليه الصلاة والسلام: إن في الليل لساعةً لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه؛ وذلك كل ليلةٍ [18]، رواه مسلمٌ، والمقصود بها لحظاتٌ يكون الدعاء فيها مستجابًا؛ كساعة الجمعة، وأرجى ما قيل في ساعة الإجابة في الليل: أنها آخر الليل قُبيل أذان الفجر، هذه اللحظات التي تسبق أذان الفجر ينبغي أن تغتنمها، تستقبل القبلة، وترفع يديك وتدعو، فالدعاء في هذا الوقت حريٌّ بالإجابة، وهذا الوقت أحرى ما يكون موافقةً لساعة الإجابة في الليل.
القنوت في الوتر
ويقنت فيه بعد الركوع ندبًا، فلو كبر ورفع يديه ثم قنت قبل الركوع جاز.
أي: يستحب أن يقنت في الوتر بعد الركوع، وقد رُوي أن النبي قنت في الوتر [19]، لكن ذلك لم يثبت، وجميع الأحاديث المروية عن النبي في هذا معلولةٌ، قال الإمام أحمد: “لا يصح فيه شيءٌ، ولكنَّ عمر يقنت”، قال ابن خزيمة وابن المنذر: “لا يصح عن النبي أنه كان يقنت في صلاة الوتر”، بل ظاهر حاله عليه الصلاة والسلام أنه لم يكن يقنت في صلاة الوتر، وقد صلى معه عددٌ من الصحابة ، ولم يذكروا أنه قنت، صلى معه حذيفة صلاة الليل [20]، ولم يذكر أنه قنت، وصلى معه ابن مسعودٍ صلاة الليل [21]، ولم يذكر أنه قنت، وصلى معه ابن عباسٍ رضي الله عنهما صلاة الليل [22]، ولم يذكر أنه قنت، وصلى معه عددٌ من الصحابة ثلاث ليالٍ: ليلة ثلاثٍ وعشرين، وليلة خمسٍ وعشرين، وليلة سبعٍ وعشرين، ولم يذكروا أنه قنت.
فظاهر هدي النبي عليه الصلاة والسلام: أنه لم يكن يقنت في صلاة الوتر، لكن -كما قال الإمام أحمد- أنه ثبت ذلك عن عمر ، وثبت عن بعض الصحابة ؛ وعلى هذا: فيشرع القنوت في صلاة الوتر لذلك، ولكن ينبغي ألا يُداوَم عليه، وإنما يُترك أحيانًا.
قال بعض أهل العلم: إنه لا يُقنت إلا في النصف الأخير من رمضان، وهذا مذهب الشافعية، وكان ذهب إليه الإمام أحمد، ثم رجع عنه.
فالأقرب: أن القنوت مشروعٌ في جميع ليالي السنة، وأنه ينبغي ألا يُداوِم المسلم عليه، وإنما يقنت أحيانًا، ويترك القنوت أحيانًا.
القنوت يكون بعد الركوع، أما القنوت قبل الركوع: فالمؤلف يقول: إنه يجوز، قال: “فلو كبر ورفع يديه ثم قنت قبل الركوع جاز”، وهذا محل نظرٍ؛ إذ إنه لم يثبت عن النبي أنه قنت قبل الركوع، وأما ما جاء في حديث أنسٍ أنه قنت قبل الركوع، فكما قال ابن القيم؛ المراد بالقنوت في حديث أنسٍ: هو إطالة القيام للقراءة؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: أفضل الصلاة طول القنوت [23]، يعني: طول القراءة، والأقرب أنه لا يُشرع القنوت قبل الركوع، وأن القنوت إنما يُشرع بعد الركوع.
ولا بأس أن يدعو في قنوته بما شاء، ومما ورد: اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
هذا قد جاء في حديث الحسن، قال: “علمني رسول الله كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت… إلى آخره [24]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، لكنه في سنده ضعفٌ؛ ولهذا ضعفه الإمام أحمد قال: “ليس يروى فيه عن النبي شيءٌ”، وقال ابن عبدالبر: “لا يصح عن النبي في القنوت حديثٌ”، فهذا الحديث في سنده مقالٌ، وإن كان الترمذي قال: “لا نعرف عن النبي في القنوت في الوتر شيئًا أحسن من هذا”، لكن ورد -كما قال الإمام أحمد- عن عمر ، ومما ثبت عن عمر : أنه كان يقول في القنوت: “اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نخشى عذابك، ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكفار ملحقٌ”، أو يدعو بما تيسر؛ فإن في حديث الحسن قال: “علمني.. دعاءً”، إن ثبت هذا الحديث، وهذا يدل على أنه لا ينحصر فيما قال له، لكن ينبغي للداعي أن يجتنب الاعتداء؛ فإن الله تعالى أخبر بأنه لا يحب المعتدين: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55].
ومن الاعتداء في الدعاء: أن يرفع صوته، رفع الصوت بالدعاء هذا نوعٌ من الاعتداء، والمطلوب من الداعي أن يخفض صوته بقدر الإمكان، وأن يرفع الإمام صوته بقدر ما يُسمع المأمومين، وأما ما يُرى من بعض المأمومين في دعاء القنوت من رفع أصواتهم، وكأن الإمام يخطب خطبة جمعةٍ؛ فهذا نوعٌ من الاعتداء في الدعاء، بعض الأئمة عندما يريد أن يدعو يقول: اللهم..، يبدأ ويرفع صوته، هذا نوعٌ من الاعتداء في الدعاء، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، المطلوب هو إخفاء الدعاء ما أمكن، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3].
المطلوب التضرع والتمسكن وخفض الصوت ما أمكن، أما رفع الصوت بالدعاء فهذا غير مشروعٍ، بل هو نوعٌ من الاعتداء في الدعاء.
أيضًا من الاعتداء في الدعاء: أن يدعو بأمرٍ غير ممكنٍ؛ كأن يقول: اللهم أهلك جميع الكفار، هذا أمرٌ قد دلت الأدلة على أنه غير ممكنٍ، والنبي يقول: لا تقوم الساعة إلا والروم أكثر الناس [25]، وأخبر بأنه يحصل مقتلةٌ عظمى بين المسلمين واليهود في آخر الزمان [26]، فهذا الدعاء دعاءٌ بأمرٍ غير ممكنٍ، لكن يقول: اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ادعُ بأمورٍ ممكنةٍ، أما الأمور التي قد دلت الأدلة على أنها غير ممكنةٍ؛ فالدعاء بها نوعٌ من الاعتداء.
ومن ذلك: أن يدعو بأمرٍ فيه سوء أدبٍ مع الله ؛ ولذلك ينبغي للداعي أن يحرص على الدعاء بالمأثور؛ لأنه إذا دعا بالمأثور؛ فلن يعترض عليه أحدٌ، أتى بدعاءٍ مأثورٍ واردٍ عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو واردٍ عن الصحابة ، أما إذا أتى بدعاء غير واردٍ؛ فلا بد من التأكد من سلامته، وأن يكون دعاءً موافقًا للسنة، وألا يكون فيه اعتداءٌ، ولا يكون فيه سوء أدبٍ، ولا يكون فيه دعاءٌ بأمرٍ غير ممكنٍ، ونحو ذلك.
وينبغي أن يختم دعاء القنوت بـ: اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، هذا قد جاء في حديث عليٍّ : أن رسول الله كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك [27] أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وأيضًا في سنده مقالٌ، يعني: لو أتى به أحيانًا لا يقصد بذلك أن هذا سنةٌ، وإنما على أنه دعاء من الأدعية الحسنة؛ فلا بأس بذلك.
الدعاء ليس توقيفيًّا، للإنسان أن يدعو بما يحضره من خيري الدنيا والآخرة، والدليل على أن الدعاء ليس توقيفيًّا قوله عليه الصلاة والسلام: ثم يتخير -يعني المصلي- من الدعاء أعجبه إليه [28]، وهذا يدل على أنه ليس توقيفيًّا، وأن الداعي يتخير من الدعاء ما أعجبه من خيري الدنيا والآخرة، لكن الأفضل أن يدعو بالمأثور، لكن لو دعا بغير المأثور؛ فلا بأس، بشرط ألا يكون فيه اعتداءٌ.
وينبغي للإمام ألا يطيل على المأمومين؛ لأن بعض الأئمة أيضًا يطيل على المأمومين ويشق عليهم بالإطالة، وبعضهم ربما يكون دعاء القنوت أطول من التسليمة التي يُصلي فيها، هذا خلاف السنة.
حكم التغني بالدعاء وتلحينه
طيب، في صفحة: 337، مسألة: ما حكم التغني بالدعاء وتلحينه؟
هذه مسألةٌ مهمةٌ، وأنا أوردتها في “السلسبيل”؛ لأهميتها.
كره بعض العلماء التغني بالدعاء وتلحينه، يعني: يأتي بالدعاء بصوتٍ ملحَّنٍ كما يقرأ القرآن.
قال ابن الهمام: “لا أرى تحرير النغم في الدعاء -كما يفعله القراء في هذا الزمان- يصدر ممن يفهم معنى الدعاء والسؤال، وما ذلك إلا نوع لعبٍ، فإنه لو قُدِّر في الشاهد سائلُ حاجةٍ من ملكٍ أدى سؤاله وطلبه بتحرير النغم فيه؛ من الرفع والخفض والتطريب والرجوع كالتغني؛ نُسِب البتة إلى قصد السخرية واللعب؛ إذ مقام طلب الحاجة: التضرع لا التغني”.
يعني: لو أن إنسانًا ذهب لسلطانٍ من السلاطين، وأراد أن يطلبه حاجةً، وأصبح يتغنى بهذه الحاجة؛ لعُدَّ يعني ساخرًا به، يقول له هذا السلطان: ماذا تريد؟ أخبرني ماذا تريد؟ لكن لو أنه قدَّم بين يدي طلبه الحاجةَ شُكرَه لهذا السلطان وثناءه عليه، ثم قال: أريد كذا؛ لكان هذا أدعى لإجابة السلطان له، هكذا أيضًا في دعاء الله ، فينبغي أن يكون الدعاء بتضرعٍ وخشوعٍ، وتمسكنٍ وانطراحٍ بين يدي الله ، وأن يبتعد عن هذا التلحين، هذا التلحين لا داعي له، وإنما يُقدِّم بين يدي الدعاء الثناءَ على الله سبحانه؛ ولذلك علمنا الله هذا في سورة الفاتحة، فإن سورة الفاتحة قد ورد فيها دعاءٌ عظيمٌ، من أعظم الأدعية التي يحتاج إليها كل مسلمٍ ومسلمةٍ، وهو الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، هذا الدعاء دعاءٌ عظيمٌ، لكن الله علمنا أن نُقدِّم بين يدي هذا الدعاء الثناء عليه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ثناءٌ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، تمجيد الله، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، كذلك: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، إخلاصٌ لله في العبادة والاستعانة؛ ولهذا إذا قال المصلي في صلاته: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُجيبه الله يقول الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين، وإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ، قال الله: سألني عبدي ولعبدي ما سأل [29].
ثم إن الإنسان بفطرته عندما يدعو الله على انفراد هل هو يتغنى بالدعاء؟ هل الإنسان عندما يكون وحده ويريد أن يدعو؟ هل يقول: اللهم اهدني فيمن هديت، أو أنه يدعو بتضرعٍ وتمسكنٍ؟ طيب لماذا إذا كان إمامًا يبدأ يُلحن في الدعاء، ويأتي بهذا النغم؟!
فالأفضل أن يدعو من غير تلحينٍ، وأن يدعو بتضرعٍ وتمسكنٍ وانكسارٍ بين يدي الله .
التغني إنما يكون في تلاوة القران؛ لأن الله أمر بذلك، فقال: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن [30]، ما أَذِن الله لشيءٍ ما أذن لنبيٍّ يتغنى بالقرآن [31].
أما الدعاء فلا يكون فيه تلحينٌ، ولا يكون فيه ترتيلٌ؛ وإنما يكون بتضرعٍ وخشوعٍ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف:56].
ختم الدعاء بالصلاة على النبي
ثم يصلي على النبي .
لم يرد فيها شيءٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن رُويت فيها آثارٌ عن بعض الصحابة ، يعني: يختم دعاء القنوت بالصلاة على النبي .
تأمين المأموم
ويؤمن المأموم.
يعني: يُستحب للمأموم أن يقول: آمين، بعد دعاء إمامه، المؤمِّن شريكٌ للداعي، فإذا دعا إنسانٌ بدعوةٍ فأمَّنَ مستمعٌ على هذه الدعوة؛ فإنه يكون شريكًا معه فيها؛ ولهذا كان موسى عليه الصلاة والسلام يدعو وهارون يقول: آمين، قال الله : قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، مع أن الداعي موسى ، لكن هارون كان يؤمِّن، فجعل الله تعالى هارون داعيًا أيضًا: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا، ولذلك -يا أخي المسلم- احرص كلما استمعت داعيًا أن تؤمن على دعائه؛ فإنك تشترك معه في هذا الدعاء، فإذا أُجيبت الدعوة شَمِلَتكما جميعًا، وهذه مسألةٌ يَغفُل عنها بعض الناس، يستمع إلى داعٍ يدعو ولا يؤمن على دعائه؛ فيفوته هذا الخير، إذا سمعت من يدعو فأمِّن على دعائه؛ فإنك تكون شريكًا له في هذا الدعاء، قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89].
مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء
ثم يمسح وجهه بيديه هنا، وخارج الصلاة.
يرى المؤلف أنه يُشرع مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من دعاء القنوت، والدعاء عمومًا؛ ولهذا قال: “وخارج الصلاة”، وهذه مسألةٌ اختلف فيها العلماء، وسبب الخلاف: هو الخلاف في ثبوت الرواية، فإنه قد رُوي في ذلك حديث عمر : “كان رسول الله إذا رفع يديه في الدعاء؛ لم يَحُطَّهما حتى يمسح بهما وجهه” [32]، وهذا الحديث أخرجه الترمذي، وهو ضعيفٌ، ضعفه كثيرٌ من أهل العلم، لكن الحافظ ابن حجرٍ في “بلوغ المرام” قال: إنه حسنٌ بمجموع طرقه، ولكن القول المرجح عند كثيرٍ من المُحققين: أنه لا يثبت، وأنه لا يصح في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء حديثٌ، كما قرر ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله، وأيضًا قرر ذلك البيهقي وغيرهما.
فالأقرب أنه لا يُشرع مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، لا داخل الصلاة ولا خارجها، ولكن مع ذلك من مسح وجهه بعد الدعاء لا يُنكَر عليه؛ لأن الحديث المروي في ذلك قد حسنه بعض أهل العلم، ومنهم الحافظ ابن حجرٍ، وهو إمامٌ عظيمٌ من أئمة الإسلام، فمن فعل ذلك لا ينكر عليه؛ باعتبار أن بعض أهل العلم قال به.
وبعد الفراغ من صلاة الوتر يُستحب له أن يسبح قائلًا: سبحان الملك القدوس، ثلاث مراتٍ، ويرفع صوته بالثالثة.
حكم القنوت في غير الوتر
وكُره القنوت في غير الوتر.
يعني: المذهب عند الحنابلة أنه يُشرع القنوت إذا نزل في المسلمين نازلةٌ، ولكن المؤلف هنا أطلق، ومراده: الرد على من يقول: يُشرع القنوت في صلاة الفجر، كما هو المذهب عند المالكية والشافعية.
القول الراجح: أنه لا يُشرع القنوت لا في صلاة الفجر ولا في غيرها، إلا أن ينزل بالمسلمين نازلةٌ، ويدل لذلك: ما أخرجه الترمذي بسندٍ صحيحٍ عن أبي مالكٍ سعد بن طارقٍ الأشجعي، قال: قلت لأبي -وأبوه صحابيٌّ جليلٌ- يا أبت، إنك قد صليت خلف رسول الله ، وخلف أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ ها هنا بالكوفة قريبًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: “أي بني، مُحدَثٌ” [33]، وهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في هذه المسألة.
فالظاهر من هدي النبي عليه الصلاة والسلام: أنه لم يكن يقنت في غير النوازل؛ وعلى هذا: فلا يُشرع القنوت في غير النوازل.
هل يشترط إذنُ الإمام في قنوت النازلة؟
الأقرب: أنه لا يشترط، لكن إذا منع الإمام من القنوت إلا بإذنه؛ وجبت طاعته، ولم تجز مخالفته؛ لأن المفسدة المترتبة على منازعته أعظم من المصلحة المترتبة على الدعاء؛ ولأن الدعاء لم يتعين في هذا الموضع، إذا لم يمكن الدعاء في قنوت النازلة؛ يمكن الدعاء في غيره؛ في السجود، وفي غير الصلاة؛ فمثلًا: في كثيرٍ من دول العالم الإسلامي يُمثِّل وليَّ الأمر وزارةُ الشؤون الإسلامية، أو وزارة الشؤون الدينية في بعض البلدان؛ فإذا منع ولي الأمر من قنوت النازلة إلا بإذنه؛ فلا تجوز منازعته.
إذا نزل بالمسلمين نازلةٌ فالقنوت يكون في جميع الصلوات، لكن ينبغي أن يكون أكثر ما يكون في صلاة الفجر، ثم في صلاة المغرب.
ننتقل بعد ذلك للكلام عن السنن الرواتب:
السنن الرواتب
السنن الرواتب: هي النوافل الدائمة التابعة للفرائض، وقد كان النبي يحافظ عليها حضرًا، ويتركها سفرًا، ما عدا سنة الفجر.
والحكمة من مشروعيتها: أنها تكمل الفرائض، وترفع النقص الذي قد يحصل فيها، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله الصلاة: أول ما يُحاسب عليه من الصلاة الفرائض، فإن وجد فيها نقصٌ؛ قيل: انظروا هل له من تطوعٍ؟ [34]، فيُكمَّل النقص ويُرَقَّع بالنوافل.
يقول المؤلف:
وأفضل الرواتب: سنة الفجر.
آكد السنن الرواتب: هي سنة الفجر، وهذا هو الذي عليه جماهير العلماء؛ لأنه قد ورد من الترغيب فيها ما لم يرد في غيرها، ومن ذلك قول النبي : ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها [35]، وكما تقول عائشة رضي الله عنها: “لم يكن النبي على شيءٍ من النوافل أشد منه تعاهدًا على ركعتي الفجر” [36]؛ ولأنه لم يكن يدع ركعتي الفجر لا سفرًا ولا حضرًا.
صفة سنة الفجر
ويستحب تخفيفهما؛ لقول عائشة رضي الله عنها: “كان النبي يخفف الركعتين اللتين قبل الصبح، حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب؟” [37]، يعني: هل قرأ بالفاتحة؟
وقد دلت السنة على أنه يستحب أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة بـقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، في الركعة الأولى، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، في الركعة الثانية، وورد أيضًا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا، الآية من سورة البقرة، الآية رقم: 136، في الركعة الأولى، وقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ، الآية رقم: 64، من سورة آل عمران، والأفضل أن يأتي بهذه مرةً، وبهذه مرةً.
الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
كان النبي يضطجع بعد ركعتي الفجر [38]، ولم يصح عنه الأمر بذلك [39]، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: “الحديث الذي فيه الأمر بالاضطجاع بعد ركعتي الفجر باطلٌ، وإنما ورد ذلك من فعل النبي “، ويقول ابن القيم رحمه الله: “غلا في هذه الضجعة طائفتان: طائفةٌ أوجبت الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وهم الظاهرية، بل قالوا: إن من لم يضجع بعد ركعتي الفجر؛ فصلاة الفجر في حقه باطلةٌ، وطائفةٌ كرهت الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وغلا منهم من غلا وقال: إنها بدعةٌ، وتوسط مالكٌ وغيره فلم يروا بها بأسًا لمن فعلها راحةً، وكرهوها لمن فعلها استنانًا”؛ ولهذا كانت تقول عائشة رضي الله عنها: “إذا كنتُ مستيقظةً حدثني، وإذا كنت نائمةً اضطجع” [40].
والأقرب -والله أعلم- أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر سنةٌ في حق من أطال قيام الليل؛ وذلك لأجل أن يكون هذا الاضطجاع فاصلًا بين قيام الليل وبين صلاة الفجر، أما من لم يُصلِّ الليل، أو لم يُطِل في قيام الليل؛ فلا يكون هذا الاضطجاع سنةً في حقه، ثم أيضًا هذا الاضطجاع -على هذا الوصف- إنما يكون سنةً في حق من أَمِن النوم عن صلاة الفجر، أما من كان يخشى لو اضطجع لنام عن صلاة الفجر؛ فلا يُشرع في حقه هذا الاضطجاع.
الحاصل: أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مستحبٌّ في حق من أطال قيام الليل، وأما من لم يصلِّ صلاة الليل، أو صلى صلاة الليل ولم يطل فيها؛ فليس هذا الاضطجاع بسنةٍ في حقه، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
سنة المغرب وبقية الرواتب
قال:
ثم المغرب.
يعني: سنة المغرب تلي سنة الفجر في الآكدية؛ باعتبار أن النبي كان يخصُّها بالصلاة في بيته، وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله.
ثم سواءٌ.
يعني: ثم تستوي جميع السن الرواتب في الآكدية.
طيب ما هي السنن الرواتب؟
عدد الرواتب المؤكدة
وضحها المؤلف، قال:
والرواتب المؤكدة عشرٌ: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو أيضًا مذهب الشافعية: أن السنن الرواتب عشرٌ، واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: “حفظت من النبي عشر ركعاتٍ: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح” [41].
والقول الثاني في المسألة: أن السنن الرواتب ثنتا عشرة ركعةً: أربعٌ قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، وهذا مذهب الحنفية وطائفةٍ من أهل العلم، وهو القول الراجح، ويدلُّ لذلك حديث عائشة رضي الله عنها في أن النبي كان يصلي قبل الظهر أربعًا: “كان يصلي قبل الظهر أربعًا” [42]، وأيضًا حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ما من عبدٍ مسلمٍ يصلِّي لله تعالى كل يومٍ وليلةٍ ثنتي عشرة ركعةً، تطوعًا من غير الفريضة؛ إلا بنى الله له بيتًا في الجنة، قالت أم حبيبة: فما برحت أصليهن بعد [43]، وجاء تفسير هذه الثنتي عشرة ركعةً في رواية الترمذي بأنها أربعٌ قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر [44].
إذنْ المقصود بالثنتي عشرة ركعةً المذكورة في حديث أم حبيبة رضي الله عنها: من صلى لله تعالى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعةً؛ بنى الله له بهن بيتًا في الجنة، المقصود بها السنن الرواتب: وهي أربعٌ قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.
إذنْ الراجح: أنها ثنتا عشرة ركعةً، وأما ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فحديث ابن عمر ورد من فعل النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي كان تارةً يحث على الشيء ولا يفعله؛ لمصلحة أرجح؛ فمثلًا: كان يقول: أفضل الصيام: صيام داود؛ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا [45]، لكن هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ الجواب: لا، نعلم من هديه عليه الصلاة والسلام أنه -كما تقول عائشة- “كان يصوم حتى يقول القائل: لا يُفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا يصوم” [46]، فأحيانًا يحث النبي عليه الصلاة والسلام على الشيء ولا يفعله؛ لمصلحةٍ أرجح، فحديث ابن عمر رضي الله عنهما إنما ورد من فعل النبي عليه الصلاة والسلام، بينما حديث عائشة وأم حبيبة رضي الله عنهما إنما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام؛ وعلى هذا فالقول الراجح: أن السنن الرواتب ثنتا عشرة ركعةً.
قضاء الرواتب والوتر
ويُسنُّ قضاء الرواتب والوتر.
هذا محلُّ خلافٍ بين الفقهاء، والقول الراجح: أنه يسن كما قال المؤلف، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، خلافًا للحنفية والمالكية، ويدل لذلك: أن النبي قضى ركعتي الفجر لما ناموا في الطريق، ولم يوقظهم إلا حر الشمس، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام المؤذن فأذن، ثم صلى ركعتي الفجر، ثم صلوا صلاة الفجر [47]، فيقاس على ركعتي الفجر غيرها من السنن الرواتب.
وهكذا الوتر، الوتر أيضًا يُقضى، لكن قد دلت السنة على أنه يُقضى شفعًا، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجعٍ أو غيره؛ صلى من النهار ثنتي عشرة ركعةً [48].
فإذا فاتتك صلاة الوتر فالسنة أن تقضيه شفعًا، فإذا كان من عادتك أن توتر بإحدى عشرة ركعةً؛ فالسنة أن تقضيه ثنتي عشرة ركعةً، ركعتين ركعتين، وإذا كان من عادتك أنك توتر بتسعٍ؛ فالسنة أن تقضيه عشر ركعاتٍ، وإذا كان من عادتك أن توتر بسبعٍ؛ فالسنة أن تقضيه ثماني ركعاتٍ، مثنى مثنى، وإذا كان من عادتك أن توتر بخمسٍ؛ فالسنة أن تقضيه ست ركعاتٍ، مثنى مثنى، وإذا كان من عادتك أن توتر بثلاثٍ؛ فالسنة أن تقضيه أربع ركعاتٍ، ركعتين ثم ركعتين.
إذا أذن المؤذن لصلاة الفجر ولم يوتر المسلم، فهل يُشرع له أن يصلي صلاة الوتر؟
الجواب: نعم يُشرع له ذلك، وقد أُثِر هذا عن عددٍ من الصحابة ، ذَكَر ابن عبدالبر منهم تسعةً من الصحابة ، ولم يُنقل عنهم خلاف ذلك، قال الإمام أحمد لما سئل عمن لم يصلِّ صلاة الوتر، هل يصليه بعد طلوع الصبح؟ قال: نعم، يصليه ما لم تُصلَّى الغداة، ما أقل ما اختلف فيه الناس.
فإذنْ لو أذن المؤذن لصلاة الفجر؛ لا بأس أن توتر، تصلي صلاة الوتر، حتى لو أذن المؤذن لا يضر، وهذا قد أُثِر عن عددٍ من الصحابة .
إلا ما فات مع فرضه وكَثُر فالأولى تركه.
يعني: يستثنى من قضاء السنن الرواتب ما لو كانت كثيرةً، فتترك ولا تقضى؛ للمشقة في قضائها.
صلاة الرواتب في البيت
وفعلُ الكُلِّ في بيتٍ أفضل.
لقوله عليه الصلاة والسلام: أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة [49]، وكان هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام، ويتأكد من ذلك سنة المغرب، فإنه لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه صلاها في المسجد، قال ابن القيم: كان النبي يصلي عامة السنن والتطوع الذي لا سبب له في بيته، لا سيما سنة المغرب، فإنه لم يُنقل عنه أنه فعلها في المسجد البتة، وكان هذا هدي السلف، قال السائب بن يزيد: رأيت الناس في زمن عمر إذا انصرفوا من المغرب؛ انصرفوا جميعًا حتى لا يبقى في المسجد أحدٌ، يريد أنهم لا يصلون بعد المغرب حتى يصيروا إلى أهلهم، فيتأكد من السنن الرواتب صلاتها في البيت -سنة المغرب- ولهذا لما سئل الإمام أحمد: أيجزئ أن تصلَّى سنة المغرب في المسجد؟ قال: لا أدري؛ وهذا لأنه يتأكد فعلها في البيت، فأكثر ما يتأكد فعله في البيت من السنن: سنة المغرب.
الفصل بين الفرض وسنته بقيامٍ أو كلامٍ
ويسنُّ الفصل بين الفرض وسنته بقيامٍ أو كلامٍ.
أي: يستحب أن يفصل بين النافلة والفريضة إما بكلامٍ، أو بتغيير المكان، ولا يَصِل السنة بالفريضة؛ لحديث معاوية قال: “أمر النبي ألا توصل صلاةٌ بصلاةٍ حتى نتكلم أو نخرج” [50]، رواه مسلمٌ؛ ولهذا فما يُرى من بعض الناس، خاصةً في الحرمين، أنه من بعد سلام الإمام يقومون ويتنفلون مباشرةً، هذا خلاف السنة، ينبغي أن يفصلوا بين الفريضة والسنة إما بكلامٍ، وإما أن يأتوا بالأذكار، أو بتغيير المكان.
صلاة التراويح
والتراويح عشرون ركعةً برمضان.
صلاة التراويح: سميت تراويح؛ لأنهم كانوا إذا سلَّموا من أربع ركعاتٍ استراحوا، وصلاة التراويح هي صلاة الليل في رمضان، صلاة الليل في رمضان هي صلاة التراويح، لكن لما كان السلف يُصلونها جماعةً ويُطيلونها جدًّا، حتى إنهم ليعتمدون على العِصي من طول القيام؛ كانوا إذا صلوا أربع ركعاتٍ استراحوا، فسميت صلاة التراويح، وقد ورد فيها قول النبي : من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه [51]، فهي سنةٌ مُؤكدةٌ.
عدد ركعات التروايح
واختُلف في عدد ركعاتها؛ فيرى المؤلف أنها عشرون ركعةً، وهذا هو مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة؛ أنها عشرون ركعةً، ويوتر بثلاثٍ، فتكون ثلاثًا وعشرين، واستدلوا بما جاء عن السائب بن يزيد، قال: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعةً.
وقال بعض أهل العلم: إنها إحدى عشرة ركعةً؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: كيف كانت صلاة رسول الله في رمضان؟ قالت: “ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعةً” [52].
وقال بعض أهل العلم: إنه لا حد لصلاة التراويح؛ لعموم قول النبي : صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح؛ فليوتر بواحدةٍ [53]، وهذا هو القول الراجح؛ أنه لا حد لأكثرها، وأن للإنسان أن يصلي ما شاء مثنى مثنى ويوتر بواحدةٍ، وهذا هو المأثور عن السلف الصالح.
القول بأن ما زاد على إحدى عشرة ركعةً بدعةٌ هذا قولٌ شاذٌّ لا يُلتفت إليه؛ لأنه خلاف إجماع السلف، وخلاف أيضًا ما ورد في النصوص، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح؛ فليوتر بواحدةٍ.
الصلاة في الحرمين: أما الصلاة في المسجد الحرام فمن عهد عمر بن الخطاب إلى وقتنا هذا وهي تُصلى ثلاثًا وعشرين ركعةً، من عهد عمر إلى وقتنا هذا تصلى ثلاثًا وعشرين ركعةً.
وأما في المسجد النبوي: فكانت في عهد عمر تُصلى ثلاثًا وعشرين، ثم بعد ذلك أصبح أهل المدينة يصلونها تسعًا وثلاثين؛ ولهذا قال الإمام الشافعي: “رأيتهم بالمدينة يقومون بتسعٍ وثلاثين ركعةً، وأحبُّ إليَّ عشرون؛ لأنه رُوي عن عمر ، وكذلك يقومون بمكة، يعني عشرين ركعةً، ويوترون بثلاثٍ، وفي عهدِ عليٍّ كانوا يصلونها ستًّا وثلاثين، وكذلك في عهد الإمام مالك كانوا يُصلونها ستًّا وثلاثين، ويوترون بثلاثٍ، يعني: يصلون تسعًا وثلاثين، والترمذي المتوفى سنة (179 هـ) قال: اختلف أهل العلم في قيام رمضان؛ فرأى بعضهم أنها تصلى إحدى وأربعين ركعةً مع الوتر، وهو فعل أهل المدينة، والعمل على هذا عند أهل المدينة، ثم بعد ذلك رجع أهل المدينة لعشرين ركعةً؛ إذنْ أهل المدينة كانوا يصلونها عشرين، ثم ستًّا وثلاثين، ثم تسعًا وثلاثين، ثم إحدى وأربعين، ثم رجعوا وأصبحوا يصلونها عشرين ركعةً؛ بسبب بعض الاضطرابات التي حصلت.
قال أبو زرعة عن أبيه: لما تولى والدي إمامة المسجد النبوي؛ أعاد إليها سنتها، يعني: أصبح يصلي بالناس ستًّا وثلاثين ركعةً، بعدما كانوا يصلون عشرين، فكان يصلي في أول الليل عشرين، كالمعتاد، وست عشرة ركعةً بعد منتصف الليل، وهذا يدل على أنهم في زمن الحافظ أبي زرعة كانوا يقسمون الصلاة إلى أول الليل وآخره، كما يُفعل في الوقت الحاضر، وهذا فيه ردٌّ على من يقول: إن الصلاة أول الليل وآخره أمرٌ محدثٌ، هذا أمرٌ غير صحيحٍ، بل كان الناس من قديم الزمان يقسمون صلاة الليل في رمضان، خاصةً في العشر الأواخر، إلى أول الليل وآخره، فهذا أبو زرعة يحكي عن والده أنهم كانوا يصلون أول الليل عشرين ركعةً، كالمعتاد، وست عشرة ركعةً بعد منتصف الليل، ثم في القرن الرابع عشر الهجري رجع أهل المدينة في صلاة التراويح لعشرين ركعةً، واستمر عليه الأمر إلى الآن، فالعمل في الحرمين الآن أن صلاة التراويح ثلاثٌ وعشرون ركعةً، حتى عام (1440)، أما في عام (1441) فقد أتت هذه الجائحة (كورونا)، فصُلِّيَت صلاة التراويح في الحرمين إحدى عشرة ركعةً، ولكن ستعود -إن شاء الله- هذا العام (1442) إلى ما كانت عليه، ثلاثًا وعشرين ركعةً.
وعلى كلٍّ: الأمر في هذا واسعٌ، والنبي يقول: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح؛ فليوتر بواحدةٍ.
والأفضل في حق من يطيلها: أن يقتصر على إحدى عشرة ركعةً، أما إذا كان يخففها -كما هو حال عامة الأئمة في الوقت الحاضر- فالأولى أن يزيد على إحدى عشرة ركعةً، خاصةً في العشر الأواخر من رمضان، حتى يتحقق إحياء الليل.
وقت صلاة التراويح
ووقتها: ما بين العشاء والوتر.
أي: وقت صلاة التراويح من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، صلاة التراويح هي صلاة الليل، ولو أنه جمع المغرب مع العشاء بدأت التراويح من بعد صلاة المغرب.
والأفضل: أن تكون في آخر الليل، الأفضل أن تكون صلاة التراويح في آخر الليل إذا لم يشق ذلك على الناس، لكن إن شق ذلك على الناس؛ فتصلى في أوله، وهذا هو الذي عليه عمل المسلمين؛ أن صلاة التراويح تصلى في أول الليل في العشرين الأولى من رمضان، وأما في العشر الأواخر فيستحب إحياء ليالي العشر بالصلاة.
والأرفق بالناس: أن يصلَّى جزءٌ من صلاة التراويح أول الليل، وجزءٌ منها آخر الليل، وهو ما يسمى بصلاة التهجد، ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: “كان رسول الله إذا دخل العشر؛ أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر” [54].
ويلاحظ أن بعض أئمة المساجد يصلون في العشر الأواخر من رمضان إحدى عشرة ركعةً خفيفةً، ولا يحصل بذلك إحياء الليل، وهذا خلاف السنة، السنة إذا دخلت العشر الأواخر أن يحيي الليل، وأفضل ما يحيي به الليل الصلاة، هذا هو ظاهر هدي النبي ، سواءٌ خفف الصلاة وأكثر عدد الركعات، أو أطال الصلاة وقلل عدد الركعات، المهم أن يحصل إحياء تلك الليالي بالصلاة، والإمام مؤتمنٌ؛ فعليه أن يتقي الله ، وأن يحرص على إحياء ليالي العشر الأواخر من رمضان بالصلاة.
وبعض الناس يقول: أريد تطبيق السنة، لكنه يطبق السنة في العدد، ويغفل عن الكيفية، إذا أردت أن تصلي إحدى عشرة ركعةً في العشر الأواخر من رمضان؛ فأطلها كما كان السلف يطيلونها، أما أن تطبق السنة فقط في العدد، ولا تُطبقها في الكيفية، وتفوت على الناس إحياء هذه الليالي الفاضلة بالصلاة؛ فهذا خلاف السنة.
صلاة الليل
فصلٌ: وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار.
لقول النبي : أفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الليل [55]، رواه مسلمٌ، والليل يبتدئ بغروب الشمس إلى طلوع الفجر.
والنصف الأخير أفضل من الأول.
لأن النصف الأخير فيه ثلث الليل الذي هو وقت النزول الإلهي؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ وذلك كل ليلةٍ [56]، متفقٌ عليه.
وأفضل النصف الأخير: هو السدس الرابع والخامس من الليل، كما سبق أن هذه صلاة داود .
صلاة التهجد
والتهجد ما كان بعد النوم.
أي: أن التهجد لا يسمى تهجدًا إلا إذا كان بعد النوم، أما ما لم يكن بعد النوم فلا يُسمى تهجدًا في لغة العرب، والله تعالى يقول: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، قد ذكر ابن كثيرٍ رحمه الله في تفسيره أن العرب في لغتها لا تعرف التهجد إلا أن يكون بعد النوم، ومثله الناشئة: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6]، فهذه لا تكون إلا بعد القيام من النوم، قال الإمام أحمد: الناشئة لا تكون إلا بعد رقدةٍ، ومن لم يرقد فلا ناشئة له؛ وذلك أن الصلاة بعد النوم أقرب للخشوع وحضور القلب، وهذا أمرٌ واقعٌ ومشاهدٌ؛ ولهذا قال سبحانه: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا، يعني: أكثر مواطأةً بين القلب واللسان، وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: أصوب قراءةً، والنهار يكون الإنسان مشغولًا فيه؛ ولهذا قال سبحانه: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:7].
فضل قيام الليل
ويسن قيام الليل.
وهو دأب الصالحين، وقد ورد في الحديث: عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربةٌ لكم إلى ربكم، ومكفرٌ للسيئات، ومنهاةٌ عن الإثم، وأمانٌ من النفاق [57]، كما يقال: ما قام الليل منافقٌ، فينبغي للمسلم أن يحرص على قيام الليل.
ويتأكد هذا في حق طالب العلم، أن يقوم من الليل ما شاء الله، وقيام الليل من أعظم أسباب الثبات؛ لأن قيام الليل يُعطي المسلم الزاد الروحي، ويكون سببًا في زيادة إيمانه، هذا الزاد الروحي الذي يحصل لك من قيام الليل يكفيك طيلة اليوم؛ ولذلك تجد أن من يحرص على قيام الليل يكون في الغالب في مأمنٍ من الفتن، ويكون عنده ثباتٌ، والله يقول: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، يُرى عليه أيضًا أثر ذلك في سمته وفي وجهه؛ لمن عندهم فراسةٌ في هذا، سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، فينبغي أن يحرص المسلم على قيام الليل، وأن يجعل له نصيبًا من قيام الليل، خاصةً في الثلث الأخير من الليل، إن تيسر في السدس الرابع والخامس، هذا أفضل الحالات، إن لم يتيسر يجعله في الثلث الأخير من الليل، يعني قبل أن يقوم لصلاة الفجر، يقوم ويصلي ما شاء الله له أن يصلي، ثم يوتر.
افتتاح قيام الليل بركعتين خفيفتين
وافتتاحه بركعتين خفيفتين.
هذه هي السنة في صلاة الليل؛ أن تُفتتح بركعتين خفيفتين؛ لحديث أبي هريرة أن النبي قال: إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين [58]، رواه مسلمٌ، وأيضًا لحديث عائشة رضي الله عنها، أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قام من الليل يصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين [59]؛ وذلك لأن هاتين الركعتين كالتهيئة والتوطئة لما يكون بعدهما من الصلاة التي ينبغي أن تكون طويلةً.
استحضار نية قيام الليل عند النوم
ونيته عند النوم.
يعني: يُسن استحضار نية قيام الليل عند النوم؛ حتى لو غلبه النوم يُكتب له أجرُ نيته؛ لحديث أبي الدرداء أن النبي قال: من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح؛ كُتِب له ما نوى، وكان نومه صدقةً عليه من ربه [60]، أخرجه النسائي وابن ماجه، والحديث حديثٌ صحيحٌ، فمن نام وقد نوى أن يقوم من الليل وغلبه النوم؛ كُتِب له أجر ما نوى، وكان نومه صدقةً عليه، وهذا من فضل الله على عباده.
أقل ما يتنفل به في الليل
ويصح التطوع بركعةٍ.
ليس المقصود به الوتر؛ وإنما أن يتطوع بركعةٍ، يعني: يتنفل بركعةٍ واحدةٍ، وهذه المسألة محل خلافٍ: ما أقل ما يُتنفل به؟
فالمؤلف يقول: إن أقل يتنفل به: ركعةٌ واحدةٌ.
والقول الثاني: أنه لا يصح التنفل بركعةٍ واحدةٍ، وإن أقل ما يُتنفل به: ركعتان، وهذا هو القول الراجح؛ لقول النبي : صلاة الليل مثنى مثنى [61]، وجاء في روايةٍ: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى [62]، وإن كانت هذه الزيادة في سندها مقالٌ، إلا أن العمل عليها عند أهل العلم، فأقل ما يُتنفل به من الصلاة: ركعتان، على القول الراجح، إلا في الوتر، فالوتر يمكن أن يصلي ركعةً واحدةً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: الوتر آخر الليل [63].
أجر القاعد غير المعذور
وأجر القاعد غير المعذور نصف أجر القائم.
وهذا قد ورد في حديث عمران بن حصينٍ أن النبي قال: من صلى قاعدًا؛ فله نصف أجر القائم [64]، وهذا في حق غير المعذور، وأما المعذور، وهو العاجز عن القيام، أو من يشق عليه القيام مشقةً شديدةً؛ فإن أجره يكون كاملًا؛ لقول النبي : إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا [65]، أخرجه البخاري؛ وهذا يدل على أن القيام في صلاة النافلة ليس ركنًا، وإنما هو مستحبٌّ، فالنافلة أمرها واسعٌ، سواءٌ كان قادرًا أو عاجزًا، فله أن يصلي قاعدًا؛ وبناءً على ذلك: إذا كان الإنسان تَعِبًا؛ فله أن يصلي قاعدًا مع قدرته على القيام، ويكون له نصف أجر القائم، وكونه يُكتب له نصف أجر القائم خيرٌ من ألا يكتب له شيءٌ.
أيهما أفضل: طول القيام، أم الزيادة في عدد الركعات؟
وكثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام.
هذه مسألةٌ خلافيةٌ، أيهما أفضل: كثرة الركوع والسجود، أو طول القيام؟ فقال بعضهم: إن الركوع والسجود أفضل، وهذا هو القول الذي قرره المؤلف؛ لقول النبي : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجدٌ؛ فأكثِروا الدعاء [66]، رواه مسلمٌ.
وقال بعضهم: إن القيام أفضل من الركوع والسجود؛ لحديث جابرٍ أن النبي قال: أفضل الصلاة طول القنوت [67].
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: الصواب: أنهما سواءٌ، والقيام أفضل بذكره، وهو القراءة، والسجود أفضل بهيئته، فهيئة السجود أفضل من هيئة القيام، وذكرُ القيام أفضل من ذكر السجود، وهكذا كان هدي النبي ، فإنه كان إذا أطال القيام؛ أطال الركوع والسجود؛ كما فعل في صلاة الكسوف، وفي صلاة الليل، وكان إذا خفف القيام؛ خفف الركوع والسجود، وكذلك كان يفعل في الفرض، لكن في صلاة الفريضة لم يكن القيام مساويًا للركوع والسجود؛ ولهذا جاء في حديث البراء : “كان ركوع النبي وسجوده وجلوسه -ما خلا القيام والقعود- قريبًا من السواء” [68]، فاستثنى القيام والقعود، القيام يعني: قيام المصلي وقراءته، والقعود يعني: جلوس التشهد، فهذه ليست مقاربةً للركوع والسجود في الطول في صلاة الفريضة، فالقيام قد يكون أطول من الركوع، والسجود في صلاة الفريضة، قد يقرأ مثلًا سورة السجدة في ركعةٍ واحدةٍ، هل معنى ذلك: أنه يطيل الركوع بقدر قراءة سورة السجدة، ويطيل السجود بقدر قراءة سورة السجدة؟ الجواب: لا، إنما يركع ويسجد بقدر عشر تسبيحاتٍ تقريبًا.
فإذنْ هذا الذي نقلناه، بالنسبة للتقارب بين القيام والركوع والسجود، هذا إنما يكون في صلاة الليل، وأما في صلاة الفريضة فالتقارب إنما يكون بين الركوع والرفع منه، والسجود والجلسة بين السجدتين فقط، ولا يكون مع ذلك القراءة في القيام أو الجلوس للتشهد.
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن صلاة الضحى، نقف عندها.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
والآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:
الأسئلة
السؤال: هل تُعَد صلاة الفرض جماعةً في منزله إذا كان له عذرٌ؟
الجواب: هي لا تعد جماعة، لكن إذا كان من عادته أنه يُصلي مع الجماعة في المسجد، وحصل له عذرٌ يمنعه من الصلاة في المسجد؛ فيُكتب له أجر الجماعة.
السؤال: ما حكم التأمين الصحي؟
الجواب: التأمين الصحي إذا كان تأمينًا تعاونيًّا فجائزٌ، أما إذا كان تأمينًا تجاريًّا فلا يجوز، بل جميع أنواع التأمين إذا كانت من قَبيل “التأمين التعاوني” فهي جائزةٌ، وإذا كانت من “التأمين التجاري” فلا تجوز، هناك شركاتٌ تتعامل بالتأمين التعاوني الجائز شرعًا، فجميع أنواع التأمين عندها جائزةٌ، وأما التأمين التجاري: فالمجامع الفقهية، وهيئة كبار العلماء، وأكثر العلماء المعاصرين على تحريمه.
السؤال: هذه تسأل عن ابنتها أنها تدرس عن بُعدٍ عند معلمةٍ في تحفيظ القرآن، وقد أعجبني أسلوبها، هل يجوز لي أن أتعاقد معها تعاقدًا خاصًّا بأجرةٍ تقوم بعملٍ زائدٍ عن التسميع، مثل التلقين؟
الجواب: لا بأس، الأصل في هذا الجواز.
السؤال: ما حكم كتابة آياتٍ قرآنيةٍ بماء الزعفران على ورقٍ، ثم وضعها في الماء، ثم شربها؟
الجواب: لا بأس بهذا، وهذا مأثورٌ عن السلف، والقرآن مباركٌ في كل شيءٍ، ومن ذلك: الرقية بالقرآن، سواءٌ كان ذلك بالنفث، أو بكتابة الآيات القرآنية في زعفرانٍ ثم شرب ذلك، أو التمسح به، هذا كله لا بأس، ومأثورٌ عن السلف.
السؤال: أحيانًا إذا صليت في بعض مساجد الطرق قد يصلي بنا شخصٌ يُسرِع في صلاته لدرجة أنني لا أتمكن من قول الذكر إلا مرةً واحدةً بسرعةٍ، فهل تصح صلاتي خلفه؟
الجواب: لا تصح صلاتك ولا صلاته؛ لأن هذه الصلاة قد افتقدت ركنًا من أركان الصلاة، وهو الطمأنينة، الطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة، فإذا كنت لا تطمئن في صلاتك، بحيث لا تستطيع أن تأتي بالتسبيح مرةً واحدةً في الركوع، أو التسبيح مرةً واحدةً في السجود؛ فهذه الصلاة قد خلت من الطمأنينة؛ فلا تصح، والنبي قال للذي لم يطمئن في صلاته: ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ، حتى فعل ذلك ثلاث مراتٍ، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أُحسن غير هذا فعلمني، فعلمه النبي الطمأنينة في الصلاة، قال: ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تعتدل جالسًا [69]، علمه الطمأنينة، ومن هنا أخذ جماهير الفقهاء من هذا: أن الطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة، فهؤلاء الذين يسرعون في صلاتهم، هؤلاء ليس لهم من صلاتهم إلا التعب، لا تصح صلاتهم، فهذه الصورة المذكورة في الصلاة، يقول السائل: إنني أصلي خلف إنسانٍ لدرجة أني لا أتمكن من قول الذكر مرةً واحدةً، هذا لا تصح صلاته؛ لأنها قد فقدت ركنًا من أركان الصلاة، وهو الطمأنينة.
السؤال: ما حكم ما يعتقده بعض الناس أنهم يصلون بعد العشاء في العشر الأواخر من رمضان بركعاتٍ ليست طويلةٍ، ثم يختمون صلاتهم بتسليمةٍ طويلةٍ، ويسمون الخفيفة بالتراويح، والطويلة بالقيام؟
الجواب: صلاة أول الليل تسمى التراويح، وآخر الليل التهجد، أما تقسيم صلاة الليل إلى تراويح وقيامٍ، هذا لا أصل له، وينبغي أن تصلَّى على وتيرةٍ واحدةٍ، يعني: تقسيم الصلاة أول الليل في العشر الأواخر من رمضان بهذه الطريقة، هذا لا أصل له، فينبغي أن تُصلى بطريقةٍ واحدةٍ، فيصلون أول الليل، يعني يخففونها، وآخر الليل يطيلونها، لكن ما يفعله بعض الناس من أن الصلاة أول الليل يقسمونها قسمين: قسمٍ يخففونه ويسمونه التراويح، وقسمٍ يطيلونه ويسمونه القيام، هذا لا أصل له.
السؤال: كيف يعرف المؤمن نتائج الاستخارة؟
الجواب: إذا استخار المسلم فإنه يُقدِم على ما يغلب على ظنه أنه هو الخير، فإن تيسر له الأمر؛ فهذه علامة الاستخارة، وتيسُّر هذا الأمر، وإن لم يتيسر فعلامة الاستخارة أن الخِيرة في الأمر الآخَر، أما إذا لم يتبين له خير الأمرين، وكان متحيرًا؛ فيختار ما ينشرح له صدره، هذه علامة الاستخارة.
السؤال: هل هناك فرقٌ بين صفة صلاة الرجل وصلاة المرأة؟
الجواب: ليس هناك فرقٌ بين صفة صلاة الرجل وصلاة المرأة، المرأة كالرجل في الأحكام الشرعية، إلا ما دل الدليل على تخصيصه بالرجل، أو على تخصيصه بالمرأة، والنساء شقائق الرجال، الأصل أنهن متساوياتٌ مع الرجال في الأحكام.
السؤال: هل يجوز صلاة الأربع الركعات قبل الظهر بسلامٍ واحدٍ؟
الجواب: لا يُشرع ذلك، ولا أعلم ما يدل لمشروعيته، وإنما الذي ورد: أن صلاة الليل مثنى مثنى، وأن أيضًا صلاة النهار مثنى مثنى [70]، والنبي كان يصلي أربعًا قبل الظهر [71]، لكن كان يصلي ركعتين ثم ركعتين، أما سرد أربع ركعاتٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ؛ فلا أعلم له أصلًا.
السؤال: يكثر من الأئمة صلاة التراويح ثماني ركعاتٍ مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث ركعاتٍ بسلامٍ واحدٍ، هل هذا ورد؟
الجواب: هذا لا بأس به، لكن ينبغي ألا يكون هو الغالب على فعل إمام المسجد، وأن يكون الغالب عليه أن يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر بواحدةٍ، هذا هو الفقه؛ أن المسلم يحرص على أن يُكثر على ما كان هو الغالب من هدي النبي عليه الصلاة والسلام، الغالب من هدي النبي أنه كان يُصلي مثنى مثنى، ثم يوتر بواحدةٍ [72]، لكن لو صلى أحيانًا ثماني ركعاتٍ، ركعتين ركعتين، ثم أوتر بثلاثٍ بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ، على غير الغالب؛ فلا بأس، لكن على غير الغالب، أما أن يجعل هذا هو الغالب؛ فهذا خلاف السنة.
السؤال: ما الأمور التي تُعِين المسلم في هذا الزمان على الثبات؟
الجواب: من أعظم الأمور التي تعين المسلم على الثبات: ما ذكرناه في الدرس؛ من الحرص على قيام الليل؛ لأنه يعطي المسلم زادًا روحيًّا، فهو من أعظم أسباب الثبات.
ومن ذلك أيضًا: الضراعة إلى الله سبحانه، وسؤاله الثبات، فينبغي للمسلم أن يحرص على هذا الدعاء كل يومٍ؛ أن يدعو الله تعالى أن يثبته بالقول الثابت، وأن يجنبه مضلات الفتن، وأن يُكثر من قول: رب لا تُزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، صرف قلبي على طاعتك.
وأيضًا من الأسباب: الصحبة الصالحة؛ فإن الجليس الصالح له أثرٌ على جليسه، كما أن جليس السوء له أثرٌ سيئٌ على جليسه؛ ولهذا ذكر الله تعالى حال الظالم، حياةٌ مليئةٌ بالندم: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَا [الفرقان:27-28]، ثم يذكر سببًا واحدًا يرى أنه هو السبب الرئيس في إضلاله ما هو؟ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا [الفرقان:28]، صديق السوء، لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا، فخَصَّ صديق السوء بالذكر، مع أنه ذكر حياةً مليئةً بالندم: يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَا، حياةٌ مليئةٌ بالندم، لكن أشد ما يندم عليه هو الصحبة السيئة يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:28-29]، فاحرص -يا أخي الكريم- على أن تصحب أهل الخير والاستقامة والصلاح، الذين يُعينونك إذا ذكرت، ويُذكرونك إذا نسيت، واجتنب مجالسة أهل السوء، الذين يُزهدونك في الخير، ويُجرِّئونك على المعصية، احرص على الجليس الصالح الذي يقول النبي فيه: مَثَل الجليس الصالح والجليس السوء؛ كحامل المسك ونافخ الكِير، الجليس الصالح كحامل المسك: إما أن يُحذيك يُهدي لك هديةً، وإما أن تبتاع منه يعني: تشتري منه، وإما -على الأقل- أن تجد منه رائحةً طيبةً، وأما جليس السوء: فمَثَله مَثَل نافخ الكير، إما أن يُحرِق ثيابك، وإما -على الأقل- أن تجد منه رائحةً خبيثةً [73].
والإنسان يُحكَم عليه من جلسائه؛ ولذلك إذا تقدم رجلٌ لخطبة امرأةٍ؛ يُسأل عن مُجالسيه؛ فإن قيل: مجالسوه فلانٌ وفلانٌ، من أهل الخير والصلاح؛ حكم بصلاحه، وإن قيل: مجالسوه فلانٌ وفلانٌ، من أهل الفسق والفجور؛ ذُمَّ على تلك الصحبة؛ ولهذا فالصحبة الصالحة من أعظم أسباب الثبات.
وأيضًا من أعظم أسباب الثبات: تدبر القرآن العظيم، والله تعالى ذكر أن الاستماع للقرآن بتدبرٍ يزيد الإيمان: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، هكذا أيضًا من باب أولى تلاوة القرآن بتدبرٍ تزيد الإيمان، فتدبر القرآن تلاوةً واستماعًا من أعظم أسباب زيادة الإيمان، ومن أعظم أسباب الثبات.
أسأل الله تعالى أن يثبتني وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يرزقنا الفقه في دينه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.
وموعدنا غدًا -إن شاء الله- بعد صلاة المغرب في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلمٍ”.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أحمد: 23851. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 1422. |
^3 | رواه البخاري: 46، ومسلم: 11. |
^4 | رواه البخاري: 2013. |
^5 | رواه البخاري: 990، ومسلم: 749. |
^6 | رواه أبو داود: 1423، والترمذي: 462، والنسائي: 1701، وابن ماجه: 1171، وأحمد: 15354. |
^7, ^53, ^61, ^63, ^67, ^71 | سبق تخريجه. |
^8 | رواه الحاكم: 1/ 305، والبيهقي: 4866. |
^9 | رواه ابن حبان: 2429، والحاكم: 1137، والبيهقي: 4816، والدارقطني: 1650. |
^10, ^14 | رواه مسلم: 737. |
^11 | رواه النسائي: 1714، وابن ماجه: 1192. |
^12 | رواه ابن حبان: 2441. |
^13, ^48 | رواه مسلم: 746. |
^15 | رواه مسلم: 752. |
^16 | رواه البخاري: 996، ومسلم: 745. |
^17 | رواه البخاري: 1131، ومسلم: 1159. |
^18 | رواه مسلم: 757. |
^19 | رواه ابن ماجه: 1182، والدارقطني: 1659. |
^20 | رواه مسلم: 772. |
^21 | رواه البخاري: 1135، ومسلم: 773. |
^22 | رواه البخاري: 726، ومسلم: 763. |
^23 | رواه مسلم: 756. |
^24 | رواه أبو داود: 1425، والترمذي: 464، والنسائي: 1745، وابن ماجه: 1178، وأحمد: 1718. |
^25 | رواه مسلم: 2898. |
^26 | رواه البخاري: 2926، ومسلم: 29. |
^27 | رواه أبو داود: 1427، والترمذي: 3566، والنسائي: 1747، وابن ماجه: 1179، وأحمد: 751. |
^28 | رواه البخاري: 835. |
^29 | رواه مسلم: 395. |
^30 | رواه البخاري: 7527. |
^31 | رواه البخاري: 7482، ومسلم: 792. |
^32 | رواه الترمذي: 3386. |
^33 | رواه الترمذي: 402. |
^34 | رواه أبو داود: 864، والترمذي: 413، والنسائي: 465، وابن ماجه: 1425، وقال الترمذي: حسنٌ. |
^35 | رواه مسلم: 725. |
^36 | رواه البخاري: 1169. |
^37 | رواه البخاري: 1171. |
^38 | رواه البخاري: 1160. |
^39 | رواه أبو داود: 1261، والترمذي: 420. |
^40 | رواه البخاري: 1167، ومسلم: 743. |
^41 | رواه البخاري: 1180. |
^42 | رواه مسلم: 730. |
^43 | رواه مسلم: 728. |
^44 | رواه الترمذي: 414. |
^45 | رواه البخاري: 1131، ومسلم: 1159، بنحوه. |
^46 | رواه البخاري: 1969، ومسلم: 1156. |
^47 | رواه البخاري: 344، ومسلم: 682. |
^49 | رواه البخاري: 731، ومسلم: 781. |
^50 | رواه مسلم: 883. |
^51 | رواه البخاري: 37، ومسلم: 759. |
^52 | رواه البخاري: 1147، ومسلم: 738. |
^54 | رواه البخاري: 2024، ومسلم: 1174. |
^55 | رواه مسلم: 1163. |
^56 | رواه البخاري: 1145، ومسلم: 758. |
^57 | رواه الترمذي: 3549، بنحوه. |
^58 | رواه مسلم: 768. |
^59 | رواه مسلم: 767. |
^60 | رواه النسائي: 1787، وابن ماجه: 1344. |
^62 | رواه أبو داود: 1295، والترمذي: 597، والنسائي: 1666، وابن ماجه: 1322. |
^64 | رواه البخاري: 1115. |
^65 | رواه البخاري: 2996. |
^66 | رواه مسلم: 482. |
^68 | رواه البخاري: 792، ومسلم: 471. |
^69 | رواه البخاري: 757، ومسلم: 397. |
^70 | سبق تخريجهما. |
^72 | رواه البخاري: 995، ومسلم: 749. |
^73 | رواه البخاري: 2101، ومسلم: 2628. |