|categories

(14) من: باب أركان الصلاة

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

أركان الصلاة

وننتقل بعد ذلك للتعليق على “السلسبيل لشرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى باب أركان الصلاة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

وأركان الصلاة أربعة عشر.

سبق ذكر الفرق بين الركن والواجب، وأن الركن يكون في صلب الصلاة، يعني سبق ذكر الفرق بين الركن والشرط، وأن الركن يكون في صلب الصلاة، بينما الشرط يكون قبلها ويستمر معها.

ويجب الإتيان بالأركان، فلا تسقط إلا عند العجز عنها، فمن تركها ناسيًا أو عامدًا لم تصح صلاته إلا بالإتيان بها، وبعض الناس ربما خلط بين الأركان والشروط.

قال الدَّمِيري في “النجم الوهاج”، وهو من فقهاء الشافعية: التمييز بين الشروط والأركان قد يعسر في بعض الأحيان؛ مثل: القيام مع القدرة، يشترط أن يكون قبل الصلاة، وفي أثناء الصلاة، والمؤلف جعله ركنًا، وبعضهم جعله شرطًا.

قال المصنف رحمه الله:

وأركان الصلاة أربعة عشر، عُرِفَت بالاستقراء، ولا تسقط عمدًا ولا سهوًا ولا جهلًا.

لأن الركن من شأنه أنه لا يسقط عمدًا ولا سهوًا، بخلاف الواجب فإنه يسقط سهوًا، ويُجبر بسجود السهو.

الأول: القيام في الفرض على القادر

ثم ابتدأ المؤلف بأول هذه الأركان فقال:

أحدها: القيام في الفرض على القادر.

وهذا إنما هو ركنٌ في صلاة الفريضة خاصةً؛ لقول الله ​​​​​​​: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وقد أجمع العلماء على أن القيام مع القدرة ركنٌ من أركان الصلاة؛ ولِمَا جاء في “صحيح البخاري” وغيره عن عمران بن حصينٍ قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي عن الصلاة فقال: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ [1].

وأما صلاة النافلة فالقيام ليس ركنًا فيها، وإنما هو مستحبٌّ، وقد حُكي الإجماع على ذلك، قال الموفق بن قدامة رحمه الله: “لا نعلم خلافًا في إباحة التطوع جالسًا، وأنه في القيام أفضل”، والنبي كان يصلي قيام الليل في آخر حياته جالسًا [2]، ويصلي النافلة على راحلته [3].

ولذلك إذا كان الإنسان مثلًا أحيانًا يكون به كسلٌ، أو تعبٌ، ويتردد هل يصلي من الليل أو لا يصلي؟ نقول: قم فتوضأ، ولو أن تصلي جالسًا، خيرٌ من ألا تصلي، إذا قمت وصليت جالسًا؛ يُكتب لك نصف أجر القائم، هذا أحسن من ألا تصلي.

أما من صلى جالسًا لعذرٍ؛ يكتب له الأجر كاملًا، لكن إن عجز المصلي عن القيام في الفرض؛ جاز له أن يصلي قاعدًا؛ لقول النبي في حديث عمران السابق: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، وأيضًا إذا لم يعجز عن القيام، لكن القيام يشق عليه مشقةً شديدةً، فيجوز له أن يصلي قاعدًا، فإذنْ يجوز له أن يصلي قاعدًا عند العجز عن القيام، وعند المشقة الشديدة، لكن نحتاج إلى أن نضبط المشقة الشديدة؛ لأن بعض العامة يتساهل في الصلاة قاعدًا مع قدرته على القيام بدعوى المشقة، فلا بد إذنْ من ضابطٍ نضبط به المشقة الشديدة التي يجوز بسببها أن يصلي قاعدًا، وأرجح ما قيل في ضابط المشقة الشديدة التي يجوز بسببها ترك القيام: هو فوات الخشوع إذا صلى قائمًا، فلو كان إذا صلى قائمًا؛ كان مشغولًا بنفسه وبحالته المرضية، ولم يستطع أن يخشع في صلاته؛ ففي هذه الحالة له أن يصلي قاعدًا.

أما إذا كان لا يفوت الخشوع بسبب القيام؛ فلا بد أن يصلي قائمًا، أحيانًا قد يكون مع الإنسان مرضٌ ليس شديدًا، يكون مثلًا ألمًا يسيرًا في الركبة، ونحو ذلك، ولو صلى قائمًا لم يفت عليه الخشوع، فيجب عليه أن يصلي قائمًا، وكما ذكرت أن بعض الناس يتساهل في الصلاة قائمًا مع قدرته على ذلك، ويُفتي نفسه بنفسه بأنه يشق عليه القيام، وإذا تأملت واقعه في أمور دنياه؛ تجد أنه يزاولها بنشاطٍ كبيرٍ، لكن إذا أتت الصلاة؛ صلى قاعدًا، ومثل ذلك: بعض النساء، في الأعراس ترقص وتبقى مدةً طويلةً وهي في الرقص، فإذا أتت الصلاة؛ صلت على كرسيٍّ!

وقد ذكر الإمام الشافعي أنه رأى رجلًا بلغ التسعين من عمره يُعَلِّم الجواري الغناء قائمًا، فإذا أتى المسجد؛ صلى جالسًا! يعني: هذه الإشكالية من قديمٍ وهي موجودةٌ، نقول: لا يجوز للمصلي أن يصلي جالسًا مع قدرته على القيام إلا عند العجز عن القيام، أو عند المشقة الشديدة بصلاته قائمًا، بحيث يفوته الخشوع لو صلى قائمًا.

حدُّ القيام فى الصلاة

قال المؤلف رحمه الله:

منتصبًا.

أي: لا بد أن يكون في القيام منتصبًا، فلا يكون منحنيًا، ثم فرَّع المؤلف على ذلك، قال:

فإن وقف منحنيًا أو مائلًا -بحيث لا يُسمَّى قائمًا- لغير عذرٍ؛ لم تصح.

إذا كان هذا الانحناء والميلان يسيرًا؛ فهذا لا يضر، أما إذا كان كبيرًا؛ فهذا يمنع من صحة الصلاة، وضبطه المؤلف قال: “فإن وقف منحنيًا أو مائلًا، بحيث لا يسمى قائمًا”، يعني عُرْفًا، لا يسمى قائمًا؛ فلا تصح صلاته، يعني: هذا إنسانٌ مُنْحَنٍ، لو رأيته تقول: هذا ليس قائمًا، فهذا لا تصح صلاته إذا كان ذلك لغير عذرٍ، أما إذا كان لعذرٍ؛ كأن يكون مريضًا، أو يكون كبيرًا في السن ونحو ذلك، فلا بأس؛ لأن المعذور يجوز له أن يصلي قاعدًا؛ فمحنيًا من باب أولى.

قال:

ولا يضر خفض رأسه.

السنة خفض الرأس، والنظر إلى موضع السجود في الصلاة، لكن بعض الناس قد يبالغ في خفض الرأس، يعني هكذا، هذا لا يضر، وإن كان خلاف السنة.

حكم القيام على رجلٍ واحدةٍ

وكره قيامه على رجلٍ واحدةٍ لغير عذرٍ.

لو أنه قام منتصبًا، لكن على رجلٍ واحدةٍ، صلاته صحيحةٌ، لكن ذلك مكروهٌ؛ لأن هذا أشبه بالعبث والهيئة المنافية للخشوع في الصلاة، ما معنى كونه يقوم على رجلٍ واحدة وهو قادرٌ على أن ينتصب على رجليه؟! يعني هذا أشبه بالعبث الذي ينبغي أن يتنزه عنه في الصلاة، لكنه لا يصل إلى درجة التحريم، أو درجة إبطال الصلاة، وإنما هو مكروهٌ.

الثاني: تكبيرة الإحرام

قال:

الثاني: تكبيرة الإحرام.

تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة بالإجماع، ويعبِّر عنها بعضهم بـ(التحريمة)، وسميت بذلك؛ لأنه يَحرم كل ما كان مباحًا خارج الصلاة، ويدل لكونها ركنًا من أركان الصلاة: قصة المسيء صلاته، الذي أتى المسجد والنبي جالسٌ فيه، فصلى ثم أتى وسلم، فرد عليه السلام، قال: ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ، حتى فعل ذلك ثلاث مراتٍ، فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، قال له عليه الصلاة والسلام: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبِل القبلة فكبر [4]، يعني: تكبيرة الإحرام، ولقوله عليه الصلاة والسلام: مِفتاح الصلاة: الطُّهور، وتحريمها: التكبير [5]، وهذا موضع الشاهد: وتحليلها التسليم، وهو حديثٌ حسنٌ، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد.

شروط صحة تكبيرة الإحرام

ما هي تكبيرة الإحرام؟ تكبيرة الإحرام، قال:

لفظ تكبيرة الإحرام

وهي: الله أكبر، لا يجزئه غيرها.

يعني: الله أكبر من كل شيءٍ، ولو أتى بلفظٍ آخر غير التكبير لم تنعقد صلاته؛ كأن يقول: الله أجل، أو الرب أكبر، أو الرحمن أكبر، أو الله أعظم، لم يجزئه ذلك عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة.

وقال بعض الحنفية: إنه يصح الافتتاح بالتكبير والتهليل والتسمية، وكل اسمٍ من أسماء الله تعالى.

لكن الصحيح: أنه لا يجزئه غير هذه اللفظة؛ لأنه لم ينقل عن النبي ولا عن أحدٍ من أصحابه أنه عَدَل عن لفظ التكبير إلى غيره، والعبادات مبناها على التوقيف؛ فإذنْ لا تنعقد الصلاة إلا بتكبيرة الإحرام؛ بأن يقول: الله أكبر.

أن يقولها قائمًا

قال:

ويقولها قائمًا، فإن ابتدأها وأتمها غير قائمٍ؛ صحت نفلًا.

أي أن يقول: الله أكبر، وهو قائمٌ، فإن ابتدأ التكبير غير قائمٍ، ثم أتمها قائمًا، أو ابتدأها قائمًا وأتمها غير قائمٍ -يعني راكعًا- فإن الصلاة لا تنعقد فرضًا، وهذا يحصل، كما يحصل من بعض المسبوقين، يدخل المسجد مسرعًا ويكبر وهو راكعٌ، ويدخل في الصف؛ فعلى كلام المؤلف لا تصح صلاته؛ لأنه أتى بتكبيرة الإحرام وهو راكعٌ وليس قائمًا، وقالوا: إن القيام في الفريضة ركنٌ، فمن كبَّر تكبيرة الإحرام وهو غير قائمٍ؛ فهو كمن كبر تكبيرة الإحرام قبل دخول الوقت؛ فلا يصح.

وذهب بعض المالكية إلى أن الصلاة تصح لو كبَّر تكبيرة الإحرام غير قائمٍ، قالوا: لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على اشتراط القيام لتكبيرة الإحرام، وإنما غاية ما تدل عليه الأدلة: أن القيام ركنٌ في الركعة، وفي صلاة الفريضة، وهذا القول هو القول الراجح؛ لأنه ليس هناك دليلٌ يدل على إبطال الصلاة فيما لو كبر راكعًا، والقياس على شرط دخول الوقت قياسٌ مع الفارق؛ لأن دخول الوقت من الشروط، بينما القيام من الأركان، فقياس أحدهما على الآخر قياسٌ مع الفارق، ويمكن أيضًا أن يستدل للقول الراجح بقصة أبي بَكْرة  لما ركع دون الصف، فقال له النبي : زادك الله حرصًا، ولا تَعُدْ [6]، ولم يستفصل منه النبي هل كبَّر وهو قائمٌ أو راكعٌ؟ مع الاحتمال، وكما يقول الأصوليون: ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنزَّل منزلة العموم في المقال.

حكم اللحن في تكبيرة الإحرام

وتنعقد إن مَدَّ اللام، لا إن مد همزة “الله”، أو همزة “أكبر”، أو قال: أكبار، أو الأكبر.

مراد المؤلف أنه إذا لحن في تكبيرة الإحرام لحنًا يُحيل المعنى؛ فإن صلاته لا تنعقد، أما إذا لحن لحنًا لا يُحيل المعنى؛ فإن صلاته صحيحةٌ، ومثَّل المؤلف للَّحن الذي لا يحيل المعنى بقوله: “إن مد اللام” في لفظ الجلالة؛ بأن قال: (اللـــــــــــه أكبر)، هذا لحنٌ لا يُحيل المعنى؛ فصلاته صحيحةٌ، يعني: هذا أيضًا تكلفٌ ولحنٌ، لكنه لا يغير المعنى، وهذا يحصل من بعض الناس، عندما يُكبِّر: (اللــــــــــه أكبر)، هذا خلاف السنة، السنة ألا يمد، وإنما يقول: الله أكبر، لكن مع ذلك الصلاة صحيحةٌ؛ لأن هذا اللحن لا يُحيل المعنى.

مثالٌ لِلَحنٍ يُحيل المعنى، مثَّل له المؤلف قال: “إن مَدَّ همزة الله”، بأن قال: آلله أكبر، فهذا اللحن يُحيل المعنى؛ لأنه يقلبها من كونها جملةً خبريةً إلى كونها استفهامًا، فجَعَلها استفهامًا: آلله أكبر؟ كأنه يستفهم: آلله أكبر؟ هذا اللحن يحيل المعنى، ولا تنعقد معه الصلاة، أو يمد همزة “أكبر”؛ بأن يقول: (الله أكبار)، فهذا اللحن يُحيل المعنى؛ لأن (أكبار) جمع كَبَرٍ، والكَبَر: هو الطبل، فهذا يُحيل المعنى.

قال: أو قال: الله الأكبر، فهذا أيضًا لا تنعقد معه ولا تصح معه الصلاة.

الجهر بتكبيرة الإحرام

وجهره بها وبكل ركنٍ وواجبٍ بقدر ما يُسمِع به نفسه فرضٌ.

مراد المؤلف: أنه لا بد من الجهر بتكبيرة الإحرام، وهكذا الجهر بجميع الأركان والواجبات، وذكر المؤلف ضابطًا لهذا الجهر بقوله: بقدر ما يسمع نفسه، وظاهر كلامه أن الجهر مطلوبٌ، سواءٌ كان المصلي إمامًا أو منفردًا أو مأمومًا، وهذا هو المذهب عند الحنابلة؛ وعللوا ذلك: بأنه إذا كان لا يجهر جهرًا يُسمع نفسه؛ لا يسمى كلامًا.

القول الثاني: أنه لا يشترط أن يجهر جهرًا بقدر ما يسمع نفسه؛ وإنما يُكتفى في ذلك بمجرد النطق والإتيان بالحروف وإن لم يسمع نفسه، سواءٌ كان في الأركان أو الواجبات أو تكبيرة الإحرام، ما الفرق بين القولين؟

الفرق مثلًا إذا كَبَّر، لو قال في نفسه كذا -يعني من غير أن يسمع نفسه- لكن تلفظ، قال: الله أكبر، الله أكبر، من غير أن يسمع نفسه، على المذهب لا تنعقد صلاته، القول الثاني: تنعقد؛ لماذا؟ لأنه مجرد تلفظٍ، فعند الحنابلة أنه..، يعني القول الأول، لا بد من أن يجهر جهرًا يُسمع نفسه، لا بد أن يقول: الله أكبر، على الأقل حتى يُسمع نفسه، وهكذا بالنسبة للفاتحة في الصلاة السرية، لا بد أن يُسمع نفسه، يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3]، لا بد أن يسمع نفسه، لكن القول الثاني يقول: لا، لا يحتاج أن يسمع نفسه، فلو قرأ في نفسه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، لا يسمع نفسه، تلفَّظ فقط، فعلى القول الثاني يقولون: تصح.

والقول الراجح: هو القول الثاني، وهو قولٌ عند الحنابلة، ومذهب المالكية، واختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كأبي العباس ابن تيمية وابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع؛ لأن الإسماع أمرٌ زائدٌ على القول والنطق، وعلى من اشترط الإسماع الدليل، ولا دليل يدل لذلك، وما ذكروا من أنه لا يسمَّى كلامًا بدون إسماعٍ؛ فهذا غير صحيحٍ، بل يسمَّى كلامًا، ويؤاخذ به الإنسان، ويثاب عليه أو يعاقب عليه، ويقال له لغةً وعُرْفًَا: إنه قد تلفظ، وقد تكلم، ولو طلق زوجته بذلك؛ لوقع الطلاق، لو تلفظ وقال: أنتِ طالقٌ، من غير أن يُسمِع نفسه؛ وقع الطلاق.

فالعبرة بالتلفظ بتحريك اللسان، قال المَرْداوي في “الإنصاف”: “والنفس تميل إليه”، يعني هذا القول، وقال ابن مفلحٍ: “يتوجه مثله في كل ما تعلق بالنطق؛ كطلاق وغيره”.

ثم أيضًا القول بأنه لا بد أن يُسمع نفسه فيه حرجٌ كبيرٌ على الناس، خاصةً في صلاة الجماعة، فإذا قلنا للمأمومين: كل واحدٍ لا بد أن يُسمع نفسه، فأتوا يصلون صلاة الظهر، فكل واحدٍ سيرفع صوته قليلًا يسمع نفسه تكبيرة الإحرام، يسمع نفسه الفاتحة، يسمع نفسه السورة التي بعدها، إذا كبَّر في الركوع يسمع نفسه بالتسبيح، في السجود كذلك، وسيشوش الناس بعضهم على بعضٍ، لكن القول الثاني، يقولون: المهم هو أن يتلفظ بذلك، وهذا يُسمى كلامًا لغةً وشرعًا وعرفًا، ولا دليل يدل على أنه يشترط أن يسمع نفسه.

المهم أنه لا بد من التلفظ باللسان، لا بد من تحريك اللسان، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، لكن بعض الناس أيضًا يُبالغ في هذه المسألة مبالغةً شديدةً، لا يحرك حتى لسانه، فهذا لا تصح صلاته، وتجد أن بعض الناس يُكبر، خاصةً في الصلاة السرية هكذا..، لسانه لا يتحرك، يقرأ الفاتحة في نفسه، وحتى التسبيح يسبح في نفسه، جميع الأقوال في الصلاة يقولها في نفسه، هذا لا تصح صلاته، هذه المسألة مسألةٌ خطيرةٌ؛ لأنه في الحقيقة لا يُعتبر متكلمًا، الذي يقرأ في نفسه لا يعتبر متكلمًا، إلا إذا تلفظ بالكلام؛ ولذلك لو طلق زوجته في نفسه من غير أن يتلفظ بكلمة الطلاق؛ لم يقع طلاقًا في قول عامة أهل العلم، فينبغي التنبه لهذه المسألة.

وأذكر أن استفتاءً قُدم لدار الإفتاء عن رجلٍ كان في فمه نخامةٌ -أكرمكم الله- وصلى منفردًا، وقرأ الفاتحة في نفسه بسبب وجود النخامة، لم يتلفظ بها، فأُفتيَ بأن يعيد صلاته؛ لأن هذه لا تعتبر قراءةً.

فإذنْ: الواجب هو أن يتلفظ بأقوال الصلاة، سواءٌ كان تكبيرة الإحرام، أو الفاتحة، أو التسبيح، أو التشهد، أو غير ذلك، لا بد من أن يتلفظ به، ولا يُشترط أن يُسمع نفسه بذلك على القول الراجح.

أُنبه أيضًا هنا إلى مسألةٍ يقع فيها بعض الناس: وهي أن بعضهم يفتح المصحف، ويقرأ في نفسه من غير أن يتلفظ بالقراءة، هذه لا تعتبر قراءةً، لا تعتبر تلاوةً شرعًا، ولا يُثاب عليها الإنسان ثواب التلاوة، هذه كأنها مجرد تأملٍ وتفكرٍ، وهذا نجده في المجتمع، بعض الناس يفتح المصحف لا يحرك لسانه، ينظر هكذا، هذه ليست تلاوةً شرعًا، ولا يُثاب عليها ثواب التلاوة، فينبغي التنبيه والتنبه لذلك.

الثالث: قراءة الفاتحة مرتبةً

الثالث من أركان الصلاة: قراءة الفاتحة مرتبةً.

حكم قراءة الفاتحة للإمام والمنفرد

قراءة الفاتحة بالنسبة للإمام وبالنسبة للمنفرد ركنٌ من أركان الصلاة؛ لقول النبي : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب [7]، متفقٌ عليه؛ ولقوله : أيما صلاةٍ لم يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب؛ فهي خِدَاجٌ [8].

وهي ركنٌ في كل ركعةٍ للإمام والمنفرد، وهذا هو مذهب جماهير العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة.

وذهب الحنفية إلى أن قراءة الفاتحة ليست ركنًا في الصلاة، بل الركن قراءة ما تيسر من القرآن ولو آيةً، واستدلوا بقول الله تعالى: فَاقْرَؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20]، وبقول النبي عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن [9].

والقول الراجح: هو قول الجمهور، وهو أن قراءة الفاتحة ركنٌ في حق الإمام والمنفرد.

وأما ما استدل به الحنفية من الآية والحديث؛ فهما عامَّان، وحديث عبادة  وما جاء في معناه خاصٌّ، ومن المقرر عند الأصوليين أن الخاص يقضي على العام ويخصصه.

إذنْ: هذا بالنسبة للإمام والمنفرد قراءة الفاتحة ركنٌ من أركان الصلاة.

مذاهب العلماء في قراءة الفاتحة للمأموم

أما بالنسبة للمأموم فقد اختلف العلماء في حكم قراءته للفاتحة على أربعة أقوالٍ:

  • القول الأول: أن المأموم لا قراءة عليه، لا في الصلاة السرية ولا الجهرية، بل تحرم عليه القراءة في الصلاة الجهرية، وهذا هو مذهب الحنفية.
  • القول الثاني: لا قراءة على المأموم في الصلاة السرية ولا الجهرية، لكن يستحب له أن يقرأ في السرية، وهو مذهب المالكية والحنابلة، إلا أن المالكية قالوا: يكره أن يقرأ في الصلاة الجهرية، واستَحب الحنابلة أن يقرأ في سكتات الإمام في الصلاة الجهرية.
  • القول الثالث: لا قراءة على المأموم فيما جهر فيه الإمام من الصلاة الجهرية، ويجب عليه قراءتها في السرية، وفيما لم يجهر فيه من الجهرية، يعني مثلًا الركعة الثالثة والرابعة، وهذا القول روايةٌ عند الحنابلة، واختارها ابن تيمية رحمه الله تعالى.
  • القول الرابع: تجب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية والسرية، وهذا هو مذهب الشافعية.

هل يمكن الاحتياط في هذه المسألة؟ يعني: المسألة فيها قولٌ بالوجوب، وقولٌ بالتحريم؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: لا سبيل إلى الاحتياط في الخروج من الخلاف في هذه المسألة، يعني لأن الأقوال متقابلةٌ.

ومن المسائل مسائل لا يمكن أن يُعمل فيها بقولٍ جامعٍ، لكن القول الراجح والصحيح عليه دلائل وقرائن تدل على الحق، واختار ابن تيمية رحمه الله -بل نَصَر- القول الثالث، وهو أنه لا تجب قراءة الفاتحة على المأموم فيما جهر فيه الإمام في الصلاة الجهرية، لكن تجب عليه قراءة الفاتحة في الصلاة السرية، وفيما لم يجهر فيه في الصلاة الجهرية، هذا هو القول الراجح، وهو المأثور عن كثيرٍ من الصحابة .

أما الشافعية القائلون بأنه يجب على المأموم أن يقرأ في الصلاة السرية والجهرية، فاستدلوا بحديث عبادة بن الصامت ، هذا الحديث كان الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله يقول: “لولا هذا الحديث؛ لقلت بأنها لا تجب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية”.

طيب، نقف مع هذا الحديث، ثم نناقش الاستدلال به.

هذا الحديث قال عبادة : كنا خلف رسول الله في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله ، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم يا رسول الله، قال: لا تفعلوا، إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها [10]، هذا الحديث أخرجه أبو داود وأحمد، لكن هذا الحديث من جهة الصناعة الحديثية ضعيفٌ لا يصح، وعلى تقدير ثبوته فقد ورد ما ينسخه، وهو حديث أبي هريرة  أن النبي انصرف من صلاة الفجر يومًا، فقال: هل قرأ أحدٌ منكم معي آنفًا؟، قال رجلٌ: نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: ما لي أُنازع القرآن؟!، قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله فيما جهر فيه بالقراءة من الصلوات حينما سمعوا ذلك [11]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ.

فقوله: “فانتهى الناس عن القراءة”، فيه إشارةٌ إلى النسخ، وأيضًا قول النبي عليه الصلاة والسلام: إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا [12].

وابن تيمية رحمه الله انتصر للقول بأنه لا تجب قراءة الفاتحة على المأموم فيما جهر فيه من الصلاة الجهرية، وذكر لذلك عدة أدلةٍ؛ منها:

أولًا: قول الله تعالى في آخر سورة الأعراف: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، وهذه الآية كما قال الإمام أحمد: “أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة”، فمعنى الآية: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ، يعني: في الصلاة، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا، فأمر الله تعالى بالاستماع وبالإنصات إذا قُرئ القرآن، والفاتحة هي أم القرآن، وهي التي لا بد من قراءتها في كل صلاةٍ، فلا يمكن أن يكون المراد بالآية: الاستماع إلى غير الفاتحة دون الفاتحة مع إطلاق لفظ الآية وعمومها، والله تعالى يقول: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا، والإمام أحمد يقول: “أجمع الناس على أن المقصود: في الصلاة”، طيب، إذا كان المقصود: في الصلاة، الله تعالى يقول: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا، فهذا يشمل الفاتحة وغير الفاتحة؛ وهذا يدل على عدم وجوب قراءة الفاتحة على المأموم؛ لأن الله أمر بالاستماع والإنصات عند القراءة في الصلاة.

الوجه الثاني: حديث: من كان له إمامٌ فقراءة الإمام له قراءةٌ [13]، أخرجه أحمد وابن ماجه، وهذا قد رُوي مرسلًا ومسندًا، والمحققون على أنه مرسلٌ، لكن هذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن في الآية السابقة والسنة كذلك، وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، ورُوي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر وأبي سعيدٍ وابن مسعودٍ وابن عباسٍ وأنس وعليٍّ ، وعن أكابر التابعين، فمِثله مرسلٌ يُحتج به عند الأئمة، ونص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل.

أيضاً من وجوه ترجيح هذا القول: الإنصات إلى قراءة القارئ من تمام الائتمام، والنبي يقول: إنما جُعل الإمام ليؤتم به [14]، فمن قرأ على قومٍ لا يستمعون قراءته؛ لم يكونوا مؤتمين به، كيف يقرأ الإمام على أُناسٍ لا يستمعون قراءته؟َ!

أيضًا من وجوه الترجيح: لو كانت القراءة في الجهر واجبةً على المأموم؛ للزم أحد أمرين: إما أن يقرأ مع الإمام، وإما أن يجب على الإمام أن يسكت للمأموم حتى يقرأ، وقد اتفق العلماء على أنه لا يجب السكوت على الإمام لأجل قراءة المأموم الفاتحة؛ فثبت أنه لا تجب على المأموم القراءة في حال الجهر.

أيضًا من مؤيدات ترجيح هذا القول: لو كان الصحابة كلهم يقرءون الفاتحة خلف النبي ؛ لنقل ذلك؛ لأن هذا مما تتوافر الدواعي لنقله، فلم يُنقل هذا، فلو كان مشروعًا؛ لكان الصحابة  أحق الناس بعلمه وعمله، ونصر الشيخ ابن تيمية رحمه الله هذا القول، وهو أن القراءة على المأموم في الصلاة الجهرية غير واجبةٍ، لكن تجب عليه في الصلاة السرية، وفيما لم يجهر فيه الإمام من الصلاة الجهرية؛ مثل: الركعة الثالثة والرابعة، فهذا هو القول الراجح في المسألة؛ وعلى ذلك يزول الحرج؛ لأن بعض الناس -خاصةً في صلاة التراويح- يقول: إن الإمام يقرأ مباشرةً بعد الفاتحة، كيف أقرأ الفاتحة؟ ويَلحق بعضَ الناس الحرج في هذه المسألة.

نقول: إن القول الراجح: أنه لا يجب على المأموم قراءة الفاتحة فيما جهر فيه الإمام في الصلاة الجهرية، والمأموم يشترك مع الإمام -في الحقيقة- في قراءة الفاتحة عندما يقرؤها الإمام، أنه يستمع له وينصت، ثم يقول: آمين، والمؤمن على الداعي هو كالداعي؛ ولهذا لما كان موسى  يدعو، وهارون  يقول: آمين، قال الله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، مع أن الداعي موسى فقط، لكن المؤمن يُعتبر شريكًا للداعي، وهذه فائدةٌ: إذا أمَّنت على دعاء الداعي؛ تكون شريكًا معه في الدعاء، وهذا يبين أهمية وفضل التأمين على الدعوات، بعض الناس يسمع الداعي يدعو بدعاءٍ، ولا يؤمِّن على دعائه، هذا يفوت على نفسه خيرًا كثيرًا، إذا سمعت من يدعو بدعاءٍ فيه خيرٌ؛ فأمِّن على دعائه، فإنه إن تُستجب هذه الدعوة؛ تكن أنت شريكًا للداعي في الدعاء؛ فإن الله قال لموسى وهارون عليهما السلام: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا، مع أن الداعي إنما هو موسى، وهارون إنما كان يقول: آمين، ومع ذلك قال الله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا؛ لأن المؤمن شريكٌ مع الداعي في الدعاء.

صلاة من ترك التشديد في الفاتحة

قال:

وفيها إحدى عشرة تشديدةً.

يعني: في الفاتحة إحدى عشرة تشديدةً، وهذه التشديدات التي يسميها النحويين: الشدات، والشدة، هذه هي اللام في لفظ الجلالة: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2]، فهذه التشديدة الأولى.

الثانية: في رَبِّ، فالباء مشددةٌ، رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].

الثالثة والرابعة: في الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، الشدة على الراء، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

التشديدة الخامسة: في الدال مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، هنا التشديد على الدال.

السادسة والسابعة: في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، الياء في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.

الثامنة: في الصاد اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة:6].

التاسعة: في اللام صِرَاطَ الَّذِينَ [الفاتحة:7]، اللام في الَّذِينَ.

العاشرة والحادية عشرة: في الضاد، وفي اللام من قوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، الضاد واللام في وَلا الضَّالِّينَ، فأصبحت إحدى عشرة تشديدةً في الفاتحة.

فإن ترك واحدةً أو حرفًا ولم يأتِ بما ترك؛ لم تصح.

يعني: لا بد من الإتيان بالفاتحة بجميع تشديداتها، لو ترك تشديدةً واحدةً لم تصح صلاته؛ لأن التشديدة تعتبر حرفين، فإذا ترك تشديدةً؛ فكانه أسقط حرفًا من الفاتحة، فلا تصح صلاته، لكن لو مَدَّ في غير موضع المد؛ كأن يمد الرَّحْمَنِ، الرَّحْمَنِ عند أهل التجويد مَدٌّ طبيعيٌّ، لو مدها، أو مد الرَّحِيمِ فوق المدى الطبيعي؛ فأهل التجويد -أو كثير من أهل التجويد- يعتبرون ذلك لحنًا، لكن جاء في “صحيح البخاري” عن أنسٍ قال: “كانت قراءة النبي مَدًّا، يمد بِسْمِ اللَّهِ، ويمد الرَّحْمَنِ، ويمد الرَّحِيمِ[15]، وهذا دليلٌ على أن هذا المد لا بأس به، وأن هذا لا يُعتبر لحنًا.

وأذكر أنني كنت إمامًا لجامع الأميرة سارة، فكنت أقرأ بمد الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ أخذًا بهذا الحديث وتطبيقًا له، فصلى معنا أحد المشايخ قال: أنت تلحن، هذا يُعتبر عند أهل التجويد لحنًا، قلت: ألم يرد في “صحيح البخاري”: “كانت قراءة النبي مدًّا”؟ كان يمد الرَّحْمَنِ، ويمد الرَّحِيمِ، وهذا نصٌّ في المسألة، نصٌّ صحيحٌ صريحٌ، أما كونه صحيحًا ففي “صحيح البخاري”، وأما كونه صريحًا فكما تراه الآن، كان يمد الرَّحْمَنِ، ويمد الرَّحِيمِ، يعني: مدًّا فوق المد الطبيعي؛ لأنه لو كان مدًّا طبيعيًّا -كما قال الحافظ ابن حجرٍ- لم يكن هناك حاجةٌ لأن يُشير أنسٌ إلى ذلك المد.

اللحن في الفاتحة

اللحن في الفاتحة ينقسم إلى قسمين: لحنٌ يُحيل المعنى، ولحنٌ لا يُحيل المعنى؛ أما إذا كان اللحن يُحيل المعنى؛ فلا تصح معه الصلاة؛ مثال ذلك: أن يقرأ: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، يقول: (أنعمتُ)، هنا هذا اللحن يُحيل المعنى، أو يقرأ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، يقرأها: (أَهْدِنَا)، هذا اللحن يُحيل المعنى؛ لأنه يقلبها من الهداية إلى الهدية، أما إذا كان اللحن لا يُحيل المعنى فالصلاة معه صحيحةٌ، مثل أن يضم الباء في: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، يقول: (الحمد لله ربُّ العالمين)، هنا في “السلسبيل” خطأٌ طباعيٌّ بضم الراء، والصواب بضم الباء بدل كسرها، فلعله يعدل -إن شاء الله- في الطبعة القادمة، فمثل ضم الباء في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هذا اللحن لا يُحيل المعنى.

طيب، هنا مسألةٌ مهمةٌ: بعض العامة ينطق: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، ينطقها: (ولا الظالين)، يعني: يقلب الضاد إلى ظاءٍ، هل هذا اللحن يُحيل المعنى، أو لا يُحيل المعنى؟

إذا تأملنا للمعنى: وَلا الضَّالِّينَ، الضَّالِّينَ: من الضلال، و(الظالين) من الظل، المعنى مختلفٌ، لكن قال الفقهاء: إن هذا اللحن وإن كان كذلك، إلا أن الصلاة لا تبطل به؛ لتقارب المخرجين ومشقة التحرز من ذلك عند كثيرٍ من العامة؛ لأننا لو قلنا: إن الصلاة لا تصح؛ لأبطلنا صلاة كثيرٍ من العامة؛ لأنهم لا يفرقون، تجد أنه عندما يقرأ الفاتحة يقول: (غير المغضوب عليهم ولا الظالين)، فهذا لحنٌ، لكن الفقهاء استثنوا هذه الصورة، وقالوا: إن الصلاة تصح معها؛ نظرًا لتقارب المخرجين، ولأن ذلك مما يشق مراعاته على كثيرٍ من العامة، لكن مع ذلك ينبغي التنبه لهذه المسألة، وأن من يقرأ الفاتحة يقرؤها هنا في هذا الموضع بالضاد أخت الصاد، وليس بالظاء أخت الطاء غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].

أيضًا بعض الناس يُبالغ في الضاد، حتى إذا سمعته كأنه ينطقها دالًا، يعني: عندما تسمعه يقول: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ يقول: (غير المغدوب)، هذه مبالغةٌ، فالضاد هي بين الدال والظاء، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ، فبعض الناس يسمع مثل هذا الكلام فيبالغ مبالغةً شديدةً، فيقرؤها: (غير المغدوب)، بالدال، (ولا الدالين)، يعني: أقرب للدال منها للضاد، فينبغي أن تُنطق النطق الصحيح: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ.

من لم يعرف إلا آيةً؛ كررها بقدر الفاتحة

فإن لم يعرف إلا آيةً؛ كررها بقدرها.

إن لم يعرف الفاتحة، ولم يحفظ من القرآن كله إلا آيةً واحدةً؛ فإنه يُكرر هذه الآية بقدر قراءة سورة الفاتحة؛ مثلًا: إذا كان لا يحفظ من القرآن كله إلا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، يكررها بقدر قراءة سورة الفاتحة.

فإن لم يعرف شيئًا من القرآن -كمن كان حديث عهدٍ بالإسلام- وحضر وقت الصلاة؛ فإنه يسبح، ويحمد الله، ويكبر ويهلل ويُحَوْقِل، يعني: يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد جاء ذلك في حديث عبدالله بن أبي أوفى  قال: جاء رجلٌ إلى النبي فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا؛ فعلمني ما يُجزئني، فقال عليه الصلاة والسلام: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [16]، أخرجه أبو داود وأحمد والنسائي، وهو حديثٌ حسنٌ أو صحيحٌ.

قراءة الأعجمي للفاتحة

الأعجمي هل له أن يقرأ الفاتحة بغير العربية؟

ليس له أن يقرأ الفاتحة بغير العربية، ولا تُجزئ، لا تجزئ قراءة الفاتحة بغير اللغة العربية؛ وعلى هذا: لو أسلم أعجميٌّ لا يُحسن العربية؛ فيُطلب منه أن يأتي بالذكر الوارد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن لم يُحسن الإتيان به وضاق الوقت؛ مثلًا: أسلم بعد المغرب، ويُخشى من فوات وقت صلاة المغرب، ولم يُحسن أن يقول هذه الكلمات الخمس، فإنه يجب عليه الوقوف بقدر الفاتحة؛ لأن القيام ركنٌ فلم يسقط بالعجز عن القراءة.

من امتنعت قراءته قائمًا؛ صلى قاعدًا وقرأ

قال:

ومن امتنعت قراءته قائمًا؛ صلى قاعدًا وقرأ.

لأن القيام له بدلٌ وهو القعود بخلاف القراءة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا [17]، كان عليه الصلاة والسلام يصلي جالسًا فيقرأ وهو جالسٌ، فإذا بقي من قراءته قدر ثلاثين أو أربعين آيةً؛ قام فقرأها وهو قائمٌ.

الرابع: الركوع

قال المصنف رحمه الله:

الركن الرابع: الركوع.

لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، ولحديث المسيء صلاته: ثم اركع حتى تطمئن راكعًا [18]، وأجمعت الأمة على أنه ركنٌ من أركان الصلاة.

أقل ما يُجزئ من الركوع

قال:

وأقله: أن ينحني بحيث يمكنه مس ركبتيه بكفيه.

يعني: أقل ما يُجزئ من الركوع: أن ينحني المصلي بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه، هذا هو المذهب عند الحنابلة، لكن هذا القول عندما نتأمله، كيف يُمكن تطبيقه؟

لو أردت الآن أن أركع أقل ما يُسمى ركوعًا، بحيث تمس أطراف الأصابع الركبتين هكذا، فهل هذا ركوع؟ هذا لا ينضبط الحقيقة؛ ولذلك ذكر المجد ابن تيمية رحمه الله ضابطًا آخر وأجود، قال: وضابط الإجزاء الذي لا يختلف: أن يكون انحناؤه إلى الركوع المعتدل أقرب منه إلى القيام المعتدل، ضابط الإجزاء الذي لا يختلف: أن يكون انحناؤه إلى الركوع المعتدل أقرب منه إلى القيام المعتدل، هذا هو القول الراجح، فمن رأى هذا الإنسان؛ يعرف أنه راكعٌ وليس قائمًا، هذا أقل ما يكون، يعني مثلًا: لو كان قائمًا هكذا، هل هذا راكعٌ؟ هذا ليس راكعًا، لكن مثل هكذا يعتبر راكعًا، فإذا كان أقرب للانحناء منه للقيام؛ فيعتبر راكعًا، أما إذا كان أقرب للقيام منه للانحناء؛ فلا يعتبر راكعًا، هذا هو القول الراجح.

فالضابط الذي ذكره المجد ابن تيمية رحمه الله أدق وأجود من الضابط الذي ذكره المؤلف؛ لأن القول بأن أقله أن ينحني بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه، طيب بعض الناس يكون طويلًا، وبعض الناس يكون قصيرًا، وبعض الناس يداه طويلتان، وبعض الناس قصيرتان، لا ينضبط هذا، فضابط المجد ابن تيمية رحمه الله أدق، أن يكون انحناؤه إلى الركوع المعتدل أقرب منه إلى القيام المعتدل.

وأكمله: أن يمد ظهره مستويًا، ويجعل رأسه حياله، هذه هي السنة في الركوع، أن يمد ظهره بحيث يكون ظهره مستويًا، ويجعل رأسه حيال ظهره، بحيث لو صُبَّ عليه ماءٌ لاستقر؛ كما جاء ذلك في حديث عائشة، وتقول عائشة رضي الله عنها أيضًا: “كان رسول الله إذا ركع؛ لم يُشخِص رأسه ولم يُصَوِّبه، ولكن بين ذلك” [19]، رواه مسلمٌ، وفي حديث أبي حميدٍ قال: “كان إذا ركع؛ أمكن يديه من ركبتيه ثم هَصَر ظهره” [20]، فبعض الناس عندما يركع؛ يقوس ظهره، وهذا خلاف السنة، وبعضهم يَهْصِر ظهره؛ بحيث ينزل وسطه فلا يكون مستويًا، هذا خلاف السنة، هدي النبي هو تسوية الظهر، بحيث يكون الظهر بشكلٍ مستقيمٍ لو صُب عليه ماءٌ لاستقر، ويجعل رأسه حيال ظهره، لا يخفض رأسه هكذا، ولا يرفع رأسه هكذا، وإنما يجعل مستوى الرأس على مستوى الظهر، هذه هي السنة في الركوع.

الخامس: الرفع من الركوع

الخامس: الرفع منه، ولا يقصد غيره، فلو رفع فزعًا من شيءٍ؛ لم يَكفِ.

الرفع من الركوع ركنٌ من أركان الصلاة، لا بد أن ينوي الرفع، لكن لو كان راكعًا وسمع صوتًا قويًّا فرفع، ثم قال: أُكمل صلاتي، نقول: لا يُجزئ، لا بد أن ينوي الرفع.

السادس: الاعتدال قائمًا

السادس: الاعتدال قائمًا.

لقوله عليه الصلاة والسلام: ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا [21]، والفرق بين الركن الخامس والسادس، يعني: الخامس: الرفع منه، والسادس: الاعتدال قائمًا، ما الفرق؟ الخامس: هو فعل الرفع، وهو الانتقال، والسادس: هو الاعتدال، وهو الانتصاب والاستواء قائمًا.

ولا تبطل إن طال.

يعني: لا تبطل الصلاة إن طال الاعتدال، بل إن هذا هو السنة: كان عليه الصلاة والسلام إذا رفع رأسه؛ استوى حتى يعود كلُّ فَقَارٍ إلى مكانه [22]، وكما قال أنسٌ : “كان إذا رفع رأسه من الركوع؛ قام حتى نقول: قد نسي” [23].

والسنة أن يكون هناك تقاربٌ بين الركوع والرفع منه، والسجود والجلسة بين السجدتين، هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام، فيكون ركوعه والرفع من الركوع متقاربين، بعض الناس الرفع من الركوع والجلسة بين السجدتين يقصرهما، هذا خلاف السنة، بل ينبغي أن يكون هناك اعتدالٌ، وهذه -إن شاء الله- سيأتي الكلام عنها، أن القيام -يعني القراءة- والجلوس للتشهد، هذا مستثنًى، يعني لا يكون الركوع بقدر القراءة، سيتكلم عنها بعد قليلٍ، لكن الركوع والرفع منه، والسجود والجلسة بين السجدتين، ينبغي أن تكون قريبةً من السواء.

السابع: السجود

السابع: السجود.

وهو آكد أركان الصلاة؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، وما قبله هو كالمقدمة له؛ القيام والركوع والرفع منه كالمقدمة والتوطئة له، فهو آكد أركان الصلاة؛ ولذلك لا يسقط أبدًا، وهو سر العبودية، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجدٌ؛ ولذلك لو تعارض القيام مع السجود، يعني: رجلٌ يقول: أنا إما أن أصلي قائمًا ولا أتمكن من السجود على الأرض، أو أصلي قاعدًا وأتمكن من السجود على الأرض، فنقول: صلِّ قاعدًا؛ حتى تتمكن من السجود على الأرض، هذا أولى من أن تصلي قائمًا ولا تسجد على الأرض، لماذا؟ لأن السجود آكد من القيام.

السجود على الأعضاء السبعة

وأكمله: تمكين جبهته وأنفه وكفيه وركبتيه وأطراف أصابع قدميه من محل سجوده.

يعني: أكمل السجود: تمكين جميع الأعضاء السبعة هذه من موضع سجوده؛ لقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: قال النبي : أمرت أن أسجد على سبعة أعظمٍ: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين [24]، متفقٌ عليه.

وأقله: وضع جزءٍ من كل عضوٍ.

لو اقتصر على وضع جزءٍ من كل عضوٍ من هذه الأعضاء أجزأ؛ فمثلًا: بالنسبة للقدمين، لو سجد على ظهور قدميه أجزأ؛ لأنه لا يخلو من إصابة بعض أطراف قدميه؛ فيكون ساجدًا، وكذلك أيضًا لو سجد على جبهته ولم يسجد على أنفه؛ أجزأ على قول الجمهور، لكن إن سجد على الأنف فقط دون الجبهة؛ لم يُجزئ، وقد حُكي إجماع الصحابة على ذلك، حكاه ابن المنذر وغيره، أما لو سجد على الجبهة دون الأنف؛ أجزأ ذلك عند جمهور الفقهاء، والسنة أن يسجد على الجبهة والأنف جميعًا.

لا بد من مقر تصل إليه أعضاء السجود

ويعتبر المقر لأعضاء السجود، فلو وضع جبهته على نحو قطنٍ منفوشٍ ولم ينكبس؛ لم تصح.

لا بد من مقرٍّ تصل إليه أعضاء السجود السبعة، فلو سجد على قطنٍ منفوشٍ، لم يكن هناك مقرٌّ للسجود؛ فلا تصح الصلاة؛ لعدم المكان المستقر عليه، فلا يصدق عليه أنه سجد على مكانٍ مستقرٍّ.

هناك السجادة الطبية، السجادة الطبية يأتي بها بعض الناس ويضعها بين يدي إنسانٍ لا يتمكن من السجود على الأرض؛ لكي يسجد عليها، يأتي بهذه السجادة الطبية ويرفعها، بحيث إن المصلي يسجد عليها هكذا، ما حكمها؟

نقول: إن كان المصلي سينحني أثناء سجوده بأقصى ما يستطيع؛ فالصلاة عليها صحيحةٌ، وإن كان ذلك خلاف الأولى، فلو كان مثلاً غاية ما يستطيع المصلي أن ينحني إلى هذه الدرجة، ووضع السجادة؛ فالصلاة صحيحةٌ؛ لأن وضع السجادة تحصيل حاصلٍ، هو انحنى بأقصى ما يستطيع، أما إذا كان وجود هذه السجادة يمنعه من الانحناء بأقصى ما يستطيع؛ فلا تصح صلاته، يعني كان بإمكانه أن يسجد هكذا، لكن وضع السجادة هكذا فانحنى قليلًا، هنا لا تصح صلاته، والأَوْلى عدم استخدام هذه السجادة الطبية، لا داعي لها، لكن نحن نتكلم الآن عن تقرير أحكامٍ، فإذا كان سينحني بأقصى ما يستطيع ويسجد على السجادة الطبية؛ فصلاته صحيحةٌ، وإذا كان لن ينحني بأقصى ما يستطيع؛ فلا تصح صلاته، والأَوْلى عدم استخدام هذه السجادة الطبية، وأن من عجز عن السجود يومئ بقدر ما يستطيع، من غير حاجةٍ لهذه السجادة.

السجود على الحائل

ويصح سجوده على كمه وذيله، ويكره بلا عذرٍ.

السجود على الحائل، لا يخلو إما أن يكون هذا الحائل متصلًا مثل الغترة، أو منفصلًا مثل السجادة، فإن كان متصلًا بالمصلي؛ فالسجود عليه يكره إلا لحاجةٍ، فإذا سجد على غترته أو شماغه أو مشلحه أو كمه؛ فإن كان ذلك لغير عذرٍ؛ فهو مكروهٌ، وإن كان لعذرٍ؛ فلا بأس؛ ولهذا المؤلف قال: “يكره بلا عذرٍ”؛ لقول أنسٍ : “كنا نصلي مع رسول الله في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض؛ بسط ثوبه فصلى عليه” [25]، رواه مسلمٌ.

فقوله: “فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض؛ بسط ثوبه”، يدل على أن الصحابة كانوا لا يفعلون ذلك إلا عند وجود العذر؛ كشدة الحر، أما مع عدم العذر فهذا أشبه بالعبث؛ فيكون مكروهًا؛ ولهذا لم يكن الصحابة  يفعلونه مع أنهم كانوا يصلون على التراب وعلى الحصباء، حيث لم يكن مسجد النبي مفروشًا.

ومن العذر في الوقت الحاضر مع الظروف الحالية لجائحة (كورونا)، هذه الجائحة هذه تعتبر عذرًا، فلو أتى رجلٌ إلى المسجد، ولم يأتِ بسجادته؛ فلا بأس أن يسجد على غترته أو شماغه في الظروف الحالية، يعني: إنسانٌ أتى المسجد، ولم يأتِ بسجادته، إما أنه نسيها أو لغير ذلك، فأراد أن يسجد على غترةٍ فلا بأس؛ لأن الظروف الحالية لجائحة (كورونا) تعتبر عذرًا في ذلك.

أما إذا كان الحائل منفصلًا كالسجادة ونحوها؛ فلا بأس بالصلاة على السجادة من غير كراهةٍ، ولو لغير عذرٍ، كان النبي يصلي على الخمرة المتخذة من خوص النخل [26]، كما في حديث ميمونة رضي الله عنها.

العاجز عن السجود

ومن عجز بالجبهة؛ لم يلزمه بغيرها، ويومئ ما يمكنه.

يعني: من عجز عن السجود على جبهته، لكن يُمكن أن تصل كفاه إلى الأرض، وركبتاه وأطراف أصابعه؛ لا يلزمه السجود ببقية أعضائه، ويومئ ما يمكنه؛ لأن الجبهة هي الأصل في السجود، وغيرها من الأعضاء تبعٌ لها؛ لهذا الحديث حديث ابن عمر رضي الله عنهما: إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه [27]، فإذا كانت الجبهة لا تصل إلى الأرض؛ فلا داعي لأن يقوم ويضع يديه هكذا، بعض الناس يفعل هذه الحركة، إذا كانت جبهته لا تصل إلى الأرض؛ تجد أنه يقوم ويسجد بيديه وأعضائه، نقول: لا داعي لذلك، وإنما يكفي أن يومئ بأقصى ما يستطيع، ما دام أن الجبهة لا تصل للأرض؛ فيومئ بأقصى ما يستطيع، من غير حاجةٍ لسجود الأعضاء، فبعض الناس مثلًا إذا كان يصلي على كرسيٍّ، ولا يتمكن من وضع جبهته على الأرض، تجد أنه يسجد بيديه، يضع يديه هكذا في الهواء، نقول: هذا خلاف السنة، السنة أن يضع يديه على ركبتيه وينحني بأقصى ما يستطيع.

الثامن: الرفع من السجود

الثامن من أركان الصلاة: الرفع من السجود.

لقول النبي في حديث المسيء صلاته: ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها [28].

التاسع: الجلوس بين السجدتين

التاسع: الجلوس بين السجدتين.

وهو ركن من أركان الصلاة؛ لحديث المسيء صلاته، وفيه: ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ولحديث عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله إذا رفع رأسه من الركوع؛ لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وإذا رفع رأسه من السجدة؛ لم يسجد حتى يستوي جالسًا” [29].

صفة الجلوس بين السجدتين

وكيف جلس كفى.

يعني: أجزأ.

والسنة أن يجلس مفترشًا على رجله اليسرى، وينصب اليمنى.

السنة في الجلسة بين السجدتين أن يفترش؛ وذلك بأن يفترش رجله اليسرى، وأن ينصب رجله اليمنى، ويوجه أصابعه إلى القبلة إن تيسر؛ لحديث أبي حُميدٍ الساعدي [30].

والسنة أيضًا في الجلسة بين السجدتين أن تكون مقاربةً للسجود وللركوع، فبعض الناس يسرع فيها، قال أنسٌ : “كان رسول الله يقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم” [31]، رواه مسلمٌ، يعني: حتى نقول: نسي، فكان عليه الصلاة والسلام يجعل الجلسة بين السجدتين مقدارها كمقدار السجود ومقدار الركوع، فيكون هناك تناسبٌ بين أركان الصلاة؛ كما جاء في حديث البراء قال: “كان ركوع النبي وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع رأسه من الركوع -ما خلا القيام والقعود- قريبًا من السواء” [32]، أخرجه البخاري ومسلمٌ.

فقوله: “ما خلا القيام”، إشارةٌ إلى أن القيام لا يكون بينه وبين بقية الأركان تناسبٌ، والقعود يعني: الجلوس للتشهد، وليس المقصود به: الجلوس بين السجدتين، فمراد البراء : أن النبي كان ركوعه، والرفع من الركوع، والسجود، والجلسة بين السجدتين، كانت هذه قريبًا من السواء، هذه هي السنة في ذلك، وليس المعنى كما يفهم بعض الناس: أن تكون جميع أفعال الصلاة قريبةً من السواء؛ لأن هذا يترتب عليه أنه لو أطال القراءة؛ أطال الركوع، وهنا في حديث البراء  قال: “ما خلا القيام والقعود”.

فالقيام يعني خاصةً في صلاة الفجر قد يقرأ الإمام بسورةٍ طويلةٍ، هل معنى ذلك: أنه يطيل الركوع إطالةً بقدر القراءة في القيام؟ نقول: لا، القيام والقعود -يعني الجلوس للتشهد- هذان مستثنيان؛ لقول البراء : “ما خلا القيام والقعود”، لكن الركوع والرفع منه، والسجود والجلسة بين السجدتين، السنة أن تكون قريبًا من السواء؛ ولهذا قال ثابتٌ البُنَاني: كان أنسٌ يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه؛ كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة -يعني: السجود- مكث حتى يقول القائل: قد نسي.

ويوجهها إلى القبلة.

يعني: يوجه أصابع رجليه إلى القبلة، وهذا قد جاء في قول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: “من سنة الصلاة: أن تنصب القدم اليمنى، والاستقبال بأصابعه القبلة، والجلوس على اليسرى” [33].

والمرأة في جميع ما سبق كالرجل، وهذا هو الأصل، أن المرأة كالرجل في الأحكام الشرعية، إلا ما ورد الدليل بتخصيصه بالرجل، أو بتخصيصه بالمرأة.

العاشر: الطُّمأنينة

العاشر من أركان الصلاة:

الطُّمأنينة: وهي السكون -وإن قَلَّ- في كل ركنٍ فِعْليٍّ.

“الطُّمأنينة” ركنٌ من أركان الصلاة، هذا هو المذهب عند الحنابلة والمالكية والشافعية، خلافًا للحنفية الذين يقولون: إنها ليست ركنًا، والصواب هو قول الجمهور.

ودليل الطمأنينة: قصة المسيء صلاته التي تكررت معنا، قصة الرجل الذي أتى وصلى ثم سلَّم على النبي فقال له: ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ، فعل ذلك ثلاث مراتٍ، فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني، فعلمه النبي عليه الصلاة والسلام الطمأنينة، وقال: ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا؛ فهذا يدل على أن الطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ هذا نفيٌ، والأصل في النفي أن يكون نفيًا للوجود، فإن لم يُمكن فيكون نفيًا للصحة، فإن لم يمكن فيكون نفيًا للكمال، نفي الوجود هنا غير واردٍ؛ لأن الصلاة موجودةٌ، فيُنتقل إلى نفي الصحة، فيُحمل النفي في قوله : فإنك لم تصلِّ، على نفي الصحة، فالصلاة التي لا يطمئن المصلي فيها لا تصح.

“وهي السكون وإن قل” يعني: أدنى حدٍّ للطمأنينة السكون، فيعتبر هذا طمأنينةً وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، ولكن ضبط السكون يصعب، ما ضابط السكون؟ غير مطمئنٍّ، هو يظن أنه قد سكن بأقل ما يمكن، فما ضابط السكون؟ يعني: هل المقصود: السكون لحظةً، ثوانٍ؟ لا تنضبط هذه المسألة، لو كان ثواني فهو في حقيقة الأمر لم يطمئن؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن حد الطمأنينة هو قدر الإتيان بالذكر الواجب، هذا قولٌ عند الحنابلة، وهو القول الراجح، فمثلًا: في السجود بقدر أن يقول: سبحان ربي الأعلى، مرةً واحدةً، في الركوع بقدر أن يقول: سبحان ربي العظيم، مرةً واحدةً، هذا هو الحد الأدنى للطمأنينة، وهو يحقق الطمأنينة بمعناها اللغوي والشرعي والعرفي.

الحادي عشر: التشهد الأخير

الحادي عشر: التشهد الأخير، وهو قول: اللهم صلِّ على محمدٍ.

لم يقل هنا: التشهد الأول؛ لأن التشهد الأول ليس من أركان الصلاة، وإنما من واجباتها كما سيأتي.

قال:

بعد الإتيان بما يُجزئ من التشهد الأول، والمجزئ منه.

يعني: من التشهد.

التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والكامل مشهورٌ.

هنا أتى بصيغةٍ أخرى:

التحيات لله، سلامٌ عليك أيها النبي ورحمة الله، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والكامل منه مشهورٌ.

الأكمل من صيغ التشهد

الأكمل: هي الصيغة الواردة في حديث ابن مسعودٍ : التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله [34]، قال الترمذي: “هو أصح حديثٍ عن النبي في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي ومن بعدهم من التابعين”.

ولو أتى بأية صيغةٍ أخرى وردت أجزأ.

طيب، ابن مسعودٍ بعد وفاة النبي كان يقول: لا تقولوا: السلام عليك أيها النبي؛ وإنما قولوا: السلام على النبي، فأخذ بهذا بعض أهل العلم، قالوا: إنما يُشرع قول: السلام على النبي، وليس: السلام عليك أيها النبي، ولكن أكثر العلماء يقولون: المشروع قول: السلام عليك أيها النبي، وهذا هو القول الراجح، ومما يدل لذلك: أن عمر كان يُعلِّم الناس التشهد على منبر النبي بلفظ: السلام عليك أيها النبي، كان هذا بمحضرٍ من الصحابة ؛ فكان كالإجماع، وعمر أعلم من ابن مسعودٍ ، وهذا اجتهاد من ابن مسعودٍ ، كأنه فهم أنه خطابٌ للنبي ، وفي الواقع أنه ليس قول المصلي: السلام عليك أيها النبي، أنه خطاب للنبي ؛ ولهذا كان الصحابة يقولون وهم خارج المدينة، ولم يقصدوا بذلك مخاطبة النبي ، وإنما يؤتى بذلك لقوة استحضار القائل للنبي كأنه أمامه يخاطبه.

الثاني عشر: الجلوس للتشهد الأخير والتسليمتين

الثاني عشر: الجلوس له وللتسليمتين.

يعني: الجلوس للتشهد الأخير، وجلوس التسليمتين، فلو أنه أتى بالتشهد الأخير وهو قائمٌ؛ لم تصح صلاته.

وقوله: “وللتسليمتين”؛ هذا لأن المؤلف يرى ركنية التسليمتين؛ فعلى هذا قال: إن الجلوس للتسليمتين من أركان الصلاة، وسيأتي مناقشة ذلك.

قال:

فلو تشهد غير جالسٍ، أو سلم الأولى جالسًا والثانية غير جالسٍ؛ لم تصح.

الجلوس للتسليمتين، نحن قلنا: جلوس التشهد هذا ركنٌ من أركان الصلاة، لكن جلوس التسليمتين محل خلافٍ، والأقرب -والله أعلم- أنه ليس ركنًا، ولا حتى واجبًا؛ لأنه إذا كان التسليمتان أصلًا محل خلافٍ؛ فكيف بالجلوس لهما؟!

الثالث عشر: التسليمتان

قال:

الثالث عشر: التسليمتان، وهو أن يقول مرتين: السلام عليكم ورحمة الله.

عد المؤلف التسليمتين من الأركان، وعلى ذلك مذهب الحنابلة في القول المشهور.

القول الثاني: أن التسليمتين مستحبتان.

القول الثالث: أن التسليمة الأولى ركنٌ، وأما الثانية فمستحبةٌ، وهذا قول الجمهور من المالكية والشافعية، واعتبره بعض أهل العلم أنه هو المذهب عند الحنابلة، وإن كان المؤلف اعتبر المذهب أن التسليمتين ركنٌ، وهو أيضًا الذي نص عليه صاحب “الزاد”، لكن بعض أهل العلم قال: إن المذهب عند الحنابلة: هو أن التسليمة الأولى ركنٌ، وأما الثانية فمستحبةٌ، وهذا هو القول الراجح، أن التسليمة الأولى ركنٌ، والثانية مستحبةٌ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم [35].

ويدل لذلك حديث أنسٍ : أن النبي كان يسلم تسليمةً واحدةً [36]، وهو حديثٌ صحيحٌ، فلو كانت التسليمة الثانية ركنًا؛ لما اكتفى عليه الصلاة والسلام بالتسليمة الواحدة أحيانًا، بل إن بعض أهل العلم حكى الإجماع على إجزاء تسليمةٍ واحدةٍ، وممن حكى ذلك: ابن المنذر والداودي، وحكاه ابن رجبٍ إجماع الصحابة، وقال النووي في “شرح مسلمٍ”: “وشذ بعض الظاهرية والمالكية فأوجبها -يعني التسليمة الثانية- وهو ضعيفٌ مخالفٌ لإجماع من قبله”.

فالقول الراجح إذنْ: أن التسليمة الثانية ليست ركنًا، وأن الركن هو التسليمة الأولى فقط.

حكم زيادة (وبركاته) في التسليم

والأولى ألا يزيد: وبركاته.

يعني: يقول: السلام عليكم ورحمة الله، من غير زيادة: وبركاته، لكن مع ذلك جاء في حديث وائل بن حُجْرٍ  قال: “صليت مع النبي ، فكان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله [37]، أخرجه أبو داود، وهو حديثٌ حسنٌ، لكن هذا يُفعل أحيانًا على غير الغالب، وأما الغالب فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، والركن: أن يقول: السلام عليكم، وأما زيادة: ورحمة الله، فليست ركنًا، وقد رُوي ذلك عن عليٍّ ، وهو أنه اقتصر على قول: السلام عليكم، كما في “مصنف عبد الرزاق” بسندٍ حسنٍ.

يكفي في النفل تسليمةٌ واحدةٌ، وكذا في الجنازة

ويكفي في النفل تسليمةٌ واحدةٌ، وكذا في الجنازة.

يعني: ويكفي في النفل تسليمةٌ واحدةٌ، وكذا في الجنازة، يعني: ركنية التسليم إنما تختص بالفريضة، أما النافلة فالركنية خاصةٌ بتسليمةٍ واحدةٍ، وهذا مما يُضعف القول السابق، يعني لاحِظ هنا أنه لما قالوا: إن التسليمتين ركنٌ، طيب طُرح سؤالٌ: ركنٌ حتى في النافلة؟ قالوا: لا، النافلة التسليمة الأولى هي الركن، أما الثانية ليست ركنًا، هذا مما يضعف قولهم هذا، والصحيح: أنه لا فرق بين النفل والفرض، وأن التسليمة الواحدة الأولى هي الركن، وأما الثانية فمستحبةٌ.

وكذا في الجنازة، يعني: يكفي فيها تسليمةٌ واحدةٌ، هذا هو المأثور عن أكثر الصحابة ، تسليمةٌ واحدةٌ عن اليمين.

طيب، عندما يقول المصلي: السلام عليكم ورحمة الله، يسلم على من؟

أما الإمام والمأموم فيسلم على من عن يمينه وشماله من المصلين، وأيضًا يسلم على الملائكة الحفظة والكاتبين؛ لأن الله وكَّل بكل إنسانٍ أربعةً من الملائكة: اثنان يكتبان الأعمال، أحدهما يكتب الحسنات، والآخر السيئات، واثنان حافظان: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، يعني: بأمر الله، فإذا جاء القدر خَلَّيَا بينه وبينه، أربعةٌ من الملائكة ملازمون لكل إنسانٍ، وهؤلاء الأربعة يجتمعون مع أربعةٍ آخرين في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيأتي أربعةٌ من الصبح إلى العصر، ثم يصعد هؤلاء الأربعة ويأتي أربعةٌ آخرون، فيبقون مع الإنسان من العصر إلى الصبح؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار، فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر [38]؛ فعلى هذا يكون قد وُكِّل بكل إنسانٍ في اليوم والليلة ثمانيةٌ من الملائكة: اثنان كاتبان، واثنان حافظان، ويتعاقبون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فأربعةٌ من الصبح إلى العصر، وأربعةٌ من العصر إلى الصبح، سبحان الله! انظر إلى عناية الله بابن آدم، فعندما يقول المصلي: السلام عليكم ورحمة الله، إذا كان إمامًا أو مأمومًا، فهو يقصد مَن عن يمينه وعن شماله من المأمومين، ويقصد كذلك السلام على الملائكة الحافظين والكتبة، أما إذا كان منفردًا، فإنه يقصد الملائكة، إذا كان منفردًا قال: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، يقصد بهذا السلامِ السلامَ على الملائكة الكاتبين والحفظة، وقد رُوي ذلك عن عليٍّ .

الرابع عشر: ترتيب الأركان

قال:

الرابع عشر: ترتيب الأركان كما ذكرنا.

أي: أن الترتيب من أركان الصلاة، فيبدأ بالقيام، ثم الركوع، ثم الرفع منه، ثم السجود، ثم القعود، ثم السجود، وهكذا، لو أنه نكس أركان الصلاة لم تصح؛ لأن النبي كان يصلي صلاته مرتِّبًا لها، وواظب على ذلك إلى أن توفي، ولم يُخِلَّ بذلك ولو مرةً واحدةً، وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي [39].

فلو سجد مثلًا قبل ركوعه عمدًا؛ بطلت.

إن كان ذلك عن عمدٍ؛ فصلاته تبطل؛ لإخلاله بالترتيب.

وسهوًا؛ لزمه الرجوع ليركع ثم يسجد.

يعني: أخل بالترتيب سهوًا؛ لزمه أن يرجع ويأتي بالركن الذي تركه وبما بعده، ويسجد للسهو، وسيأتي الكلام عن ذلك مفصلًا في أحكام سجود السهو.

وواجبات الصلاة..، ما أدري كم بقي من الوقت؟

مداخلة:

الشيخ: ربما لا نتمكن؟

مداخلة:

الشيخ: نعم؟

مداخلة:

الشيخ: طيب، إذنْ لعلنا نقف عند واجبات الصلاة.

ونكتفي بهذا القدر في التعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الآن نجمع ما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: هذا سؤالٌ يقول فيه السائل: هل يَنظر المصلي لموضع سجوده أثناء الركوع؟

الجواب: المصلي ينظر إلى موضع سجوده في جميع الصلاة، إلا في التشهد فينظر إلى السبابة، إلى موضع الإشارة بسبابته، فالمصلي إذنْ في جميع الصلاة ينظر، السنة أن ينظر إلى موضع السجود، إلا إذا كان في التشهد فإنه ينظر إلى سبابته.

السؤال: ما حكم الصلاة إذا دخل الوقت ولم يؤذن المؤذن بعد؟ وهل عليك إثمٌ إذا قمت وصليت؟

الجواب: العبرة بدخول الوقت، وليس العبرة بأذان المؤذن، فالمؤذن قد يتأخر عن الأذان في أول الوقت، فإذا دخل الوقت؛ فللإنسان أن يصلي ولو لم يؤذن المؤذن، إذا كانت مثلًا امرأةٌ في البيت، ودخل الوقت، لها أن تصلي ولو قبل أن يؤذن المؤذن.

السؤال: هل يصح تقديم زكاة المال من أول العام؛ بحيث تكون مخصصاتي المالية الشهرية للمحتاجين، فإذا انتهى العام ومضى الحول؛ أكون قد أكملت مقدار الزكاة؟

الجواب: لا بأس بذلك، وتعجيل الزكاة قد وردت به السنة، وقد تَعَجَّل النبي زكاة عمه العباس [40]، خاصةً إذا كان في ذلك مصلحةٌ، فلو أن فقيرًا أو مسكينًا أتى إليك وطلب منك مالًا، وليس عندك الآن شيءٌ، إلا الزكاة التي تُخرجها مثلًا في رمضان، فالأفضل إذا كانت حاجة هذا الفقير ماسةً؛ الأفضل أن تُعجِّل زكاتك التي تُخرجها في رمضان، وتسد حاجة هذا الفقير الآن، هذا أفضل من أن تنتظر حتى تُخرج الزكاة في وقتها، ويُعتبر هذا من قبيل تعجيل الزكاة.

السؤال: ما حكم تأجير محلٍّ تجاريٍ لمدةٍ غير معلومةٍ، متفقين على أنه متى ما أراد أن يترك المحل؛ يعيده لي في أي وقتٍ؟

الجواب: هذا لا تصح معه الإجارة، لا بد من العلم بمدة الإجارة، هذا ذكره الفقهاء شرطًا من شروط صحة الإجارة، ومع الجهالة والغرر لا تصح، وأما تراضيهما فهذا غير مؤثرٍ، فإنه في بيوع الغرر يكون المتعاقدان راضيين، يقول: من ردَّ جملي الشارد، يقول: أبيع عليك جملي الشارد، أو أبيع عليك الطير في الهواء، أو أبيع عليك السمك في الماء، والطرف الثاني يقول: أنا الآن راضٍ، هو الآن راضٍ، لكن فيما بعد يقع النزاع؛ فبيوع الغرر مظنةٌ لوقوع النزاع الذي يُسبب الخصومة والشحناء بين المسلمين؛ ولذلك نُهِي عنه.

السؤال: هل الألعاب التي تعتمد على الحظ والنصيب جائزةٌ؟

الجواب: إذا كانت بعوضٍ فهي من الميسر؛ فلا تجوز.

أما إذا كانت بغير عوضٍ؛ فإن لم تُلْهِ عن واجبٍ، أو توقع في محرمٍ؛ فلا بأس، إذا كانت للتسلية، ولم توقع في أمرٍ محرمٍ، ولم تله عن واجبٍ، مثلًا كالصلاة، ولم تكن بعوضٍ، ولا بمبلغٍ ماليٍّ؛ فالأصل في هذا الجواز.

السؤال: متى تتوضأ المرأة المستحاضة؟ وهل يجوز الوضوء قبل ذلك لصاحب الحدث؟

الجواب: المرأة المستحاضة حكمها حكم صاحب الحدث الدائم؛ كمن به سلس بولٍ مثلًا، أو تخرج منه الريح بصفةٍ مستمرةٍ، أو مثلًا استؤصل عنده القولون، ووضع له كيسٌ للبول، أو كيسٌ للبراز، ونحو ذلك، فهؤلاء حكمهم واحدٌ، وهو أنهم يتوضئون عند دخول وقت الصلاة، ولا يضرهم خروج الحدث الدائم، لكن إذا دخل وقت الصلاة الأخرى هل يجب عليهم الوضوء أو يستحب؟

هذه المسألة خلافيةٌ، والقول الراجح: أنه لا يجب؛ وإنما يستحب ذلك، كما هو مذهب المالكية واختيار ابن تيمية وجمعٍ من المحققين من أهل العلم؛ لأنه لم يَرِد دليلٌ ظاهرٌ يدل على إيجاب الوضوء على صاحب الحدث الدائم لأجل دخول الوقت، وأما ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: فتوضئي لكل صلاةٍ [41]، فهذه مُدرجةٌ من قول عروة بن الزبير، وليست من كلام النبي ، كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجبٍ، وأشار إلى هذا الإمام مسلمٌ لمَّا خرَّج حديث عائشة رضي الله عنها، قال: “وفيه زيادة حرف تركناه”.

فالقول الراجح إذنْ: أن صاحب الحدث الدائم لا يجب عليه أن يتوضأ لكل صلاةٍ؛ وإنما يستحب ذلك، لكن لو انتقض وضوؤه بناقضٍ آخر غير الحدث الدائم؛ فيجب عليه أن يتوضأ، يعني مثلًا: عنده سلس بولٍ، فانتقض مثلًا بخروج الغائط، انتقض بالريح، انتقض بالنوم المستغرق، هنا يجب عليه أن يتوضأ، لكن بالنسبة له إذا خرج منه قطراتٌ من البول وعنده سلس بولٍ؛ لا يضر خروج هذه القطرات، وهكذا بالنسبة للمستحاضة، وبالنسبة لصاحب الحدث الدائم عمومًا.

السؤال: هل يصح لي الاقتراض من البنوك التجارية؛ لتعذر اقتراضي من البنوك الإسلامية، وشدة حاجة أولادي لذلك؟

الجواب: أولًا: ما مرادك بهذا الاقتراض؟ إذا كان المقصود نقدًا بنقدٍ مع الزيادة؛ فهذا ربًا صريحٌ، وهذا لا يحل مطلقًا، حتى مع الضرورة لا يجوز، لا يجوز مطلقًا؛ لأن الربا أمره عظيمٌ، ومن وقع في الربا؛ فَتح على نفسه جبهة حربٍ مع الله ​​​​​​​: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279]، ومن جبهة حربٍ مع الله، يعني توقَّع مصيبةً من أي شيءٍ، وفي أي وقتٍ، تأتيه مصيبةٌ في أي وقتٍ، ومن أي شيءٍ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، فإذا كان مقصوده نقدًا بنقدٍ مع زيادةٍ فهذا محرمٌ، لكن بعض الناس يسمي التمويل بطريقٍ شرعيٍّ، يسميه قرضًا، والأحسن أن يسمَّى تمويلًا وليس قرضًا، الكثير من العامة يسمونه قرضًا، المهم الحقيقة، ولا تضر التسمية.

فإذا كان سيأخذ تمويلًا بطريق المرابحة، أو بطريق التورق، أو بطريقةٍ مشروعةٍ عمومًا؛ فلا بأس، سواءٌ كان ذلك عن طريق بنكٍ إسلاميٍّ، أو حتى عن طريق بنكٍ تجاريٍّ تقليديٍّ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام تعامل مع اليهود، فكون الإنسان يأخذ تمويلًا من أي بنكٍ؛ لا بأس، بشرط أن يكون هذا التمويل منضبطًا بالضوابط الشرعية، لكن كيف تعرف أنه منضبطٌ بالضوابط الشرعية؟ إذا كان من مصرفٍ إسلاميٍّ؛ فالمصرف الإسلامي يتحرى الضوابط الشرعية، فتكون مطمئنًا للتعامل معه، أما إذا كان في بنكٍ غير إسلاميٍّ؛ هنا لا بد من التأكد من انضباطه بالضوابط الشرعية.

السؤال: هل يشرع للأمام قراءة شيءٍ معينٍ في السكتة الثانية بعد الفاتحة؟

الجواب: الصلاة فيها سكتتان: السكتة الأولى بعد تكبيرة الإحرام، يقرأ فيها دعاء الاستفتاح، السكتة الثانية: هي سكتةٌ لطيفةٌ بقدر ما يتراد النفس قبل الركوع، بعدما يفرغ من قراءة ما تيسر من القرآن، التي بعد الفاتحة وقبل أن يركع، يسكت سكتةً لطيفةً بقدر ما يتراد النفس، وأما السكتة الثالثة التي بعد قراءة الفاتحة وقبل قراءة ما تيسر من القرآن؛ فهذه لم تثبت، والحديث المروي في ذلك حديثٌ ضعيفٌ.

السؤال: هل يَقرأ شيئًا في السكتة التي قبل الركوع؟

الجواب: لا يَقرأ شيئًا، هي سكتةٌ لطيفةٌ بقدر ما يتراد النفس.

السؤال: ما أفضل كتاب قرأتَه؟ يعني السؤال موجهٌ لي.

الجواب: عمومًا كتب ابن القيم رحمه الله هي من أفضل الكتب التي قرأتها؛ لأنها تتسم بالعمق، وأيضًا تتسم كذلك بالعناية بالدليل، وكذلك أيضًا بالوضوح والسهولة، وكذلك أيضًا بحسن الترتيب، وقوة سبك العبارة، فكتب ابن القيم رحمه الله هي أفضل كتبٍ قرأتها بعد كتاب الله .

السؤال: شخصٌ مريضٌ بالسكر، أحس بهبوطٍ في السكر أثناء الصلاة، فأخرج من جيبه قطعة سكرٍ صغيرةً فابتلعها، فهل تصح صلاته؟

الجواب: إن كان ذلك في صلاة نافلةٍ؛ فلا بأس، صلاة النافلة الأمر فيها واسعٌ، ورُوي ذلك عن بعض السلف، لكن إن كان ذلك في صلاة الفريضة؛ فالأحوط أن يُعيد تلك الصلاة.

السؤال: بناءً على ترجيح حكم قراءة المأموم للفاتحة؛ هل نقول بتحريم قراءة الفاتحة للمأموم في الجهرية؟

الجواب: لا نقول بالتحريم؛ لأن هناك أحد المذاهب الأربعة، مذهب الشافعية، يقولون: بوجوب القراءة، وجوب قراءة الفاتحة، وأيضًا تَبَنَّى هذا القول بعض مشايخنا، تبناه سماحة الشيخ ابن بازٍ، والشيخ ابن عثيمين، رحمة الله عليهما، تبنوا مذهب الشافعية في وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية، فكيف يقال بالتحريم حينئذٍ؟! ما دام أن المسألة خلافيةٌ؛ فالأمر فيه سعةٌ، فنقول: الأقرب هو أنه لا يجب على المأموم قراءة الفاتحة فيما جهر فيه الإمام في الصلاة الجهرية، لكن مع ذلك لو أراد أن يحتاط وقال: لا تطمئن نفسي إلا بقراءتها؛ خروجًا من الخلاف، فلا بأس بذلك، والأمر في هذا واسعٌ.

السؤال: هل أكل كبد (الحاشي) ينقض الوضوء؟

الجواب: نعم ينقض الوضوء، أكل لحم الإبل عمومًا ينقض الوضوء؛ كما دلت لذلك السنة الصحيحة الصريحة، كما جاء في “صحيح مسلمٍ” من حديث البراء ، وحديث جابر بن سمرة ، فأكل لحم الإبل ينقض الوضوء، ويشمل ذلك اللحم، ويشمل ذلك بقية أجزائه، ومن ذلك الكبد، فأكل كبد (الحاشي) ينقض الوضوء.

السؤال: هل يستوي أجر من يقرأ القرآن من المصحف أو غيبًا من حفظه؟

الجواب: نعم يستوي الأجر فيما يظهر والله أعلم؛ لأن العبرة بما يقرأ؛ لأنه ينال على كل حرفٍ عشر حسناتٍ، ولا فرق في ذلك بين أن يقرأه عن ظهر قلبٍ، أو أن يقرأه من المصحف، أو حتى أن يقرأه من المصحف الذي في الهاتف الجوال، الأجر في ذلك سواءٌ، أما قول بعض الناس: إن القراءة من المصحف الورقي أفضل من القراءة من المصحف الذي في الهاتف الجوال، هذا قولٌ غير صحيحٍ، المهم هو القراءة، أن تقرأ، سواءٌ قرأت عن ظهر قلبٍ، أو قرأت من المصحف الورقي، أو قرأت من المصحف الموجود في الهاتف الجوال، المهم أن تقرأ، والآجر في ذلك واحدٌ، والمصحف في عهد النبي عليه الصلاة والسلام هل كان مثل هذا المصحف الورقي الموجود الآن؟ كان على الألواح، وعلى كَرَب النخل [42]، ثم جمعه الصحابة  في عهد أبي بكرٍ الصديق  ، وكتبوه في عهد عثمان ، لما كتبوه لم يكن منقوطًا، يعني: لم يكن بهذا الشكل الموجود الآن، ثم بعد ذلك نُقط المصحف، فالعبرة إذنْ بالمقروء، أن تقرأ القرآن، سواءٌ قرأته عن ظهر قلبٍ، أو قرأته من المصحف الورقي، أو قرأته من المصحف الموجود في الهاتف الجوال، الأجر في ذلك واحدٌ -فيما يظهر- والله أعلم.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1, ^17 رواه البخاري: 1117.
^2 رواه البخاري: 1118.
^3 رواه البخاري: 1093، ومسلم: 701.
^4, ^9, ^18, ^21 رواه البخاري: 757، ومسلم: 397.
^5 رواه أبو داود: 61، والترمذي: 3، وابن ماجه: 275، وأحمد: 1006.
^6 رواه البخاري: 783.
^7 رواه البخاري: 756، ومسلم: 394.
^8 رواه مسلم: 395، بنحوه، والخِدَاخ: النقصان، أي: ذات نقص، ينظر مشارق الأنوار للقاضي عياض: (خ د ج).
^10 رواه أبو داود: 823، وأحمد: 22750.
^11 رواه أبو داود: 826، والترمذي: 312، والنسائي: 919، وابن ماجه: 848، وأحمد: 7270.
^12 رواه أبو داود: 604، والنسائي: 921، وابن ماجه: 846، وأحمد: 8889.
^13 رواه ابن ماجه: 850، وأحمد: 14643.
^14, ^28, ^30 سبق تخريجه.
^15 رواه البخاري: 5045، مختصرا.
^16 رواه أبو داود: 832، والنسائي: 924، وأحمد: 19110.
^19, ^29 رواه مسلم: 498.
^20, ^22 رواه البخاري: 828.
^23 رواه البخاري: 800.
^24 رواه البخاري: 812، ومسلم: 490.
^25 رواه البخاري: 1208، ومسلم: 620.
^26 رواه البخاري: 379، ومسلم: 513.
^27 رواه أبو داود: 892، والنسائي: 1092، وأحمد: 4501.
^31 رواه مسلم: 473.
^32 رواه البخاري: 792، ومسلم: 471.
^33 رواه النسائي: 1158.
^34 رواه البخاري: 831، ومسلم: 402.
^35 رواه أبو داود: 61، والترمذي: 3، وابن ماجه: 275، وأحمد: 1006، وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن.
^36 رواه الطبراني في المعجم الأوسط: 8473.
^37 رواه أبو داود: 997.
^38 رواه البخاري: 555، ومسلم: 632.
^39 رواه البخاري: 631.
^40 رواه الترمذي: 679.
^41 رواه البخاري: 228، ومسلم: 333.
^42 الكَرَب: أصول السعف الغلاظ العراض، التي تيبس فتصير مثل الكتف. تاج العروس للزبيدي: (ك ر ب).