logo

(13) من: شروط الصلاة الشرط الثامن

مشاهدة من الموقع

ثم ننتقل بعد ذلك للتعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى الشرط الثامن من شروط صحة الصلاة: “استقبال القبلة”.

استقبال القبلة شرطٌ لصحة الصلاة

قال المؤلف رحمه الله:

الثامن: استقبال القبلة مع القدرة.

والمراد بالقبلة: الكعبة؛ سميت “قِبلةً”؛ لأن الناس يستقبلونها بوجوههم ويقصدونها، وهذا الشرط محل إجماعٍ بين أهل العلم، ومن أدلته: قول الله : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:149]، وكان النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة  في أول الأمر يستقبلون بيت المقدس، وبقوا على ذلك سبعة عشر شهرًا تقريبًا، وكان عليه الصلاة والسلام يرفعُ بصره إلى السماء يتحرى متى يؤمر بالتوجه إلى الكعبة، فأنزل الله قوله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، فأمره الله بالتوجه إلى الكعبة.

وقول المؤلف: “مع القدرة”، يُفهم منه أنه مع العجز عن استقبال القبلة لا يكون شرطًا، والشروط كلها تسقط بالعجز عنها، ما عدا شرط النية والوقت، كما سبق.

وهنا: هل المراد: استقبال جهة القبلة، أو المراد: استقبال عين القبلة؟

من كان قريبًا من القبلة؛ فالواجب عليه إصابة عينها، ومن كان بعيدًا، فالواجب عليه إصابة جهتها، والقريب المقصود به: من أمكنه معاينة الكعبة، إن كان داخل المسجد الحرام؛ فيجب عليه أن يستقبل عين الكعبة، والقائمون على الرئاسة العامة للمسجد الحرام والمسجد النبوي قد وضعوا خطوطًا في المسجد الحرام، بحيث إذا وقف عليها المسلم؛ يكون قد استقبل عين الكعبة، فجزاهم الله خيرًا، هذه حلَّت هذه الإشكالية، ما على من يريد الصلاة في المسجد الحرام إلا فقط أن ينظر إلى هذا الخط ويقف عليه، إذا وقف على هذا الخط؛ يكون قد استقبل عين الكعبة، لكن بعض الناس -مع ذلك- لا يتحرى؛ تجد أن الخط موجودٌ ومع ذلك لا يقف على الخط، ينحرف عنه يمينًا أو شمالًا، فهذا لا تصح صلاته، فينبغي التنبه والتنبيه على هذه المسألة، فإن كان داخل المسجد الحرام؛ فلا بد من أن يصيب عين الكعبة، وما عليه فقط إلا أن ينظر لهذا الخط الذي وُضع ويقف عليه؛ فيكون قد استقبل عين الكعبة.

أما من بَعُد عن الكعبة: فالواجب عليه إصابة الجهة، ولا يجب عليه إصابة العين؛ لقول النبي : ما بين المشرق والمغرب قبلةٌ [1]، أخرجه الترمذي وابن ماجه، وهو حديثٌ ثابتٌ بمجموع طرقه.

والمقصود بـ”من بَعُد”، يعني: من لا يُمكِنه مشاهدة الكعبة، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ما بين المشرق والمغرب قبلةٌ، هذا خاطب به أهل المدينة؛ لأن قبلة المدينة من جهة الجنوب، فما بين المشرق والمغرب قبلةٌ، هم يستقبلون جهة الجنوب، فيكون ما بين المشرق والمغرب قبلةً، لكن مثلًا نحن في مدينة الرياض نستقبل الغرب، القبلة جهة الغرب فيكون ما بين الشمال والجنوب قبلةً، هذا هو المقصود.

وبناءً على ذلك نقول: الانحراف اليسير عن القبلة لا يضر لمن بَعُد عنها، فلو انحرف يمينًا أو شمالًا يسيرًا عُرفًا؛ لم يضر ذلك؛ لأن الواجب هو استقبال الجهة، فكل ما بين المشرق والمغرب قبلةٌ بالنسبة للمدينة مثلًا الرياض ما بين الشمال والجنوب قبلةٌ، الواجب هو استقبال الجهة؛ فالانحراف اليسير لا يضر، لكن كيف نعرف أن هذا الانحراف يسيرٌ أو كبيرٌ؟ نقول: ما دام أنه متجهٌ لجهة القبلة فالانحراف يعتبر يسيرًا، لكن لو أصبح لا يتجه لجهة القبلة، أصبح يتجه لجهةٍ أخرى؛ يكون الانحراف كبيرًا؛ فمثلًا: من كان في مدينة الرياض، من كان اتجاهه للغرب، لكن انحرف عن الغرب يمينًا، شمالًا، لكن لا زال إلى جهة الغرب؛ قلنا: هذا الانحراف لا يضر، لكن لو اتجه إلى الشمال؛ فهذا انحرافٌ كبيرٌ لا تصح معه الصلاة، أو اتجه للجنوب؛ لا تصح، أو الشرق؛ لا تصح، هذا هو الضابط في الانحراف اليسير الذي لا يضر.

الاجتهاد في تحديد القبلة

فإن لم يجد من يخبره عنها بيقينٍ؛ صلى بالاجتهاد، فإن أخطأ فلا إعادة.

أي: إذا أخبره ثقةٌ بأن هذه هي القبلة؛ فإنه يعمل بقوله، فإذا لم يجد من يخبره؛ فإنه يصلي بالاجتهاد، ومعنى الاجتهاد: أنه يجتهد في معرفة القبلة بعلاماتها؛ وأبرز علامات القبلة: الشمس، الشمس تشرق من جهة الشرق، وتغرب من جهة الغرب، فمثلًا من كان هنا في مدينة الرياض في أول النهار، يعرف أن الشمس تأتي من جهة الشرق، والقبلة في جهة الغرب، معنى ذلك: أن القبلة ستكون عكس اتجاه الشمس، وإذا كان بعد الزوال تكون الشمس جهة الغرب، مع ذلك يتجه باتجاه الشمس، فالشمس إذنْ هي من أبرز علامات القبلة.

أيضًا القمر، القمر كذلك يشرق من جهة الشرق، ويغرب من جهة الغرب، يمكن أن يستدل به على القبلة، من علاماتها النجوم، خاصةً النجوم الثابتة، كالنجم القطبي، النجم القطبي ثابتٌ باتجاه الشمال دائمًا، وهناك من يَستدل بنجومٍ أخرى؛ كالجوزاء ونحوها، فيمكن أن يُستدل بها، في الوقت الحاضر توجد أجهزةٌ تُعين على جهة القبلة “البوصلة”، لكن وُجدت أجهزةٌ أحدث من البوصلة، وهي أجهزة الإحداثيات التي تُحدد القبلة بدقةٍ، مثلًا هناك تطبيقاتٌ خاصةٌ بالقبلة، حتى جوجل مثلًا إذا كتبت فيه: الكعبة، مباشرةً يرشدك لاتجاه القبلة، كذلك بعض الساعات أيضًا يكون فيها تحديدٌ لجهة القبلة، فأصبحت الوسائل التي تحدد القبلة في وقتنا الحاضر كثيرةً جدًّا.

المؤلف اختصر الكلام عن مسائل اشتباه القبلة، ولعلنا نحن..، ذكرت في “السلسبيل” عدة مسائل، استكمالًا واستدراكًا؛ حتى تتم الفائدة للقارئ.

إذا اشتبهت القبلة في حال السفر: فلا يخلو أن يكون الإنسان إما مجتهدًا أو مقلدًا:

  • إن كان مجتهدًا، والمراد بالمجتهد: العالم بأدلة القبلة، حتى وإن جهل أحكام الشرع، قد يكون أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، لكنه يستطيع أن يعرف القبلة، فإذا كان مجتهدًا؛ وجب عليه الاجتهاد في طلب القبلة؛ إما بالشمس، وإما بالقمر، وإما بالأجهزة، وإن صلى بغير اجتهادٍ؛ فصلاته لا تصح، وقد حُكِيَ إجماعًا، حكاه ابن عبدالبر وغيره.
  • أما إذا كان غير مجتهدٍ، إنسانٌ لا يعرف إما مثلًا لكونه أعمى، أو لكونه صغيرًا، أو لكونه لا يعرف، يعني ما عنده خبرةٌ ولا اهتمامٌ بمعرفة القبلة؛ فيقلد المجتهد.

فإذنْ: إما أن يكون الإنسان مجتهدًا بنفسه، يجتهد في معرفة القبلة، أو يكون مقلدًا، لكن لو كان يُحسن الاجتهاد وفرَّط ولم يجتهد وأصاب القبلة، هل تصح صلاته؟ قولان للفقهاء:

  • القول الأول: أن صلاته لا تصح، حتى لو أصاب القبلة؛ لأنه لم يجتهد، واستفتح الصلاة وهو شاكٌّ في القبلة، وهذا هو مذهب الحنابلة، وقولٌ للشافعية.
  • القول الثاني: أن صلاته صحيحةٌ، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد؛ لأنه لم يصل إلى الجهة الصحيحة للقبلة إلا بسبب أن النفس تميل لذلك، وهذا الميل يعني يوجب غلبة الظن، وهو نوعٌ من الاجتهاد، وغلبة الظن يُكتفى بها في العبادات، قال عليه الصلاة والسلام: فلْيتَحَرَّ الصواب [2]، وهذا هو القول الراجح، كيف نُبطل صلاته وقد أتى بشرط الاستقبال؟ والاجتهاد إنما هو وسيلةٌ لإصابة القبلة؛ فعلى هذا: إذا أصاب القبلة فصلاته صحيحةٌ، حتى لو لم يكن قد اجتهد.

حكم صلاة من اجتهد في القبلة وتبيَّن خطؤه

طيب، من اشتبهت عليه القبلة في السفر، فاجتهد في طلبها وصلى، ثم تبين له بعد ذلك أنه قد أخطأ؛ فصلاته صحيحةٌ باتفاق أهل العلم، ولا يلزمه إعادتها، وقد جاء عن عامر بن ربيعة قال: كنا مع النبي في سفرٍ في ليلةٍ مظلمةٍ فلم ندرِ أين القبلة؛ فصلى كل رجلٍ منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك النبي فقال: مضت صلاتكم، فنزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] [3].

أيضًا ما قيل في المجتهد يقال في المقلد، إذا قلد ثم تبين له الخطأ فيما بعد؛ فصلاته صحيحةٌ.

طيب، إذا اشتبهت القبلة في الحضر، أكثر الفقهاء يقولون: إن الحضر ليس بمحلٍّ للاجتهاد، فإذا أخطأ لزمه أن يعيد الصلاة؛ لأن الإنسان في الحضر بإمكانه أن يستدل على القبلة بمحاريب المساجد، بإمكانه أن يسأل.

وقال بعض أهل العلم: إنه إذا اشتبهت عليه القبلة حال الحضر فاجتهد في طلبها فأخطأ؛ فإن صلاته صحيحةٌ كالسفر، ولا يؤمر بإعادتها؛ لأنه قد اتقى الله ما استطاع، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، وهذا هو القول الأقرب، فكما أن السفر محل اجتهادٍ؛ فكذلك الحضر، لكن مجال الحضر أضيق، قد يكون الإنسان في الحضر لكن ما استطاع أن يهتدي للقبلة، بعيدٌ عن المسجد، المساجد بعيدةٌ عنه، ليس عنده سيارةٌ أو وسيلة مواصلاتٍ؛ حتى يبحث عن أقرب مسجدٍ، ما وجد أحدًا يسأله، امرأةٌ مثلًا في بيتٍ أو في شقةٍ ما وجدت أحدًا تسأله، والمساجد بعيدةٌ عنها لا تستطيع أن تصل، تجتهد وتعرف، ما استطاعت أن تهتدي للقبلة، فاجتهدت أو اجتهد هذا الرجل، فالقول الراجح أن صلاته صحيحةٌ، ولا يطالب بإعادتها.

مسألةٌ يكثر السؤال عنها في اشتباه القبلة تحدث عند الانتقال من منزلٍ إلى منزلٍ، خاصةً عند بعض النساء، فربما تصلي المرأة إلى غير القبلة مدةً طويلةً، ثم يتبين لها بعد ذلك الخطأ، أنها قد أخطأت في تحديد القبلة، وعلى ذلك نقول: لو اجتهَدَت في القبلة فصلت بناءً على ذلك؛ فصلاتها صحيحةٌ بناءً على القول الراجح، وحتى لو صلت متأولةً تظن أن هذه هي جهة القبلة؛ فصلاتها صحيحةٌ على القول الراجح؛ لأن من اجتهد في فعل العبادة متأولًا معتقدًا صحتها، وأنها من شرع الله، ثم تبين له أنه أخطأ؛ فلا يُؤمر بإعادتها، سوى العبادة الحاضرة، وهذا له نظائر؛ كقصة المسيء صلاته، والمرأة المستحاضة [4]، وقصة عدي بن حاتمٍ لما كان يضع عقالًا أبيض وعقالًا أسود، ويشرب حتى يتبين له [5]، ولم يأمرهم النبي بإعادة ما مضى من صلواتهم، إنما فقط أمرهم بإعادة صلاة الحاضر، المسيء صلاته، قال: ارجع فصلِّ يعني: هذه الصلاة فإنك لم تصل [6]، لكنه لم يأمره بقضاء ما مضى من صلواته، فمن اجتهد في الإتيان بعبادةٍ متأولًا، معتقدًا أنها من شرع الله، ثم تبين له أنه أخطأ؛ فلا يؤمر بالإعادة، سوى العبادة الحاضرة، هذا هو القول الراجح، واختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كأبي العباس ابن تيمية وابن القيم وغيرهم، رحمة الله تعالى على الجميع.

إذا اختلف اجتهاد رجلين في القبلة: إذا كان ذلك في جهةٍ واحدةٍ؛ بأن يقول أحدهما: ننحرف عن اليمين قليلًا، والآخر يقول: إلى اليسار قليلًا، هذا لا يضر، ولا بأس أن يتبع أحدهما الآخر؛ لأنه كما سبق الانحراف اليسير في جهة القبلة لا يضر، لكن إذا اختلفا في الجهة، أحدهما يقول: إن القبلة جهة الغرب، والآخر يقول: لا، جهة الشمال، فلا يتبع أحدهما الآخر؛ لأن كل واحدٍ منهما يعتقد خطأَ صاحبِه، وعلى كل واحدٍ منهما أن يصلي إلى الجهة التي أدَّاه اجتهاده إليها.

القبلة للنافلة في السفر

طيب، قبل أن نتجاوز هذا الكلام عن هذا الشرط، هناك مسألةٌ أيضًا لم يذكرها المؤلف، وهي: أن وجوب القبلة يسقط عن المسافر في صلاة النافلة؛ فقد كان النبي إذا كان في السفر؛ كان يصلي النافلة على بعيره أينما اتجه به [7].

فالمسافر -إذا أراد أن يصلي النافلة- لا يجب عليه استقبال القبلة، لا يلزمه استقبال القبلة، أما الفريضة فيلزمه، الفريضة لا بد أن يقف ويصلي صلاة الفريضة، لكن بالنسبة للنافلة لا يلزمه استقبال القبلة، وأيضًا له أن يومئ بالركوع والسجود، كان هذا هو هدي النبي . [8].

وعلى ذلك أقول: ينبغي اغتنام الأوقات التي يسافر فيها الإنسان أحيانًا ساعاتٍ طويلةً، فينبغي أن يُغتنم مثل هذا الوقت في صلاة النافلة، يعني مثلًا: إذا كان الإنسان في الليل؛ يصلي صلاة الليل مثنى مثنى، ركعتين ركعتين، والحمد لله، ولو إلى غير القبلة، ويومئ بالركوع والسجود، يكسب بهذا أجرًا عظيمًا، وثوابًا جزيلًا، هذا إذا لم يكن قائدَ السيارة، أما قائد السيارة فليس له ذلك؛ لأن كونه يصلي فهذا يعرِّض حياته وحياة من معه للخطر، لكن إذا كان راكبًا، وليس هو القائد للسيارة، فينبغي أن يغتنم هذا الوقت وهذه الساعات الطويلة في الصلاة، يصلي ركعتين ركعتين، مثنى مثنى، إذا كان في الليل، في النهار يفعل ذلك، إلا في أوقات النهي، أو حتى مثلًا يصلي صلاة الضحى، ونحو ذلك، هذه من المسائل التي قد يغفل عنها بعض الناس، فينبغي للإنسان في السفر أن يستفيد من وقته في الذكر، وفي قراءة القرآن، وفي صلاة النافلة، ونحو ذلك.

النية من شروط الصلاة

ننتقل بعد ذلك إلى الشرط التاسع من شروط صحة الصلاة:

النية.

وهذا شرطٌ لصحة الصلاة بإجماع العلماء؛ لقول النبي : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى [9].

ولا تسقط بحالٍ.

النية لا تسقط بحالٍ، ما دام أن الإنسان عقله معه؛ فلا تسقط النية، فعندنا شرط النية، وشرط الوقت، هذان الشرطان لا يمكن سقوطهما، ما عدا ذلك يمكن، يعني مثلًا: شرط استقبال القبلة، يمكن أن يسقط بالعجز عنه، شرط الطهارة، يمكن أن يسقط بالعجز عنه، شرط ستر العورة، يمكن أن يسقط بالعجز عنه، جميع الشروط يمكن أن تسقط، إلا هذين الشرطين: شرط النية، وشرط الوقت.

معنى النية

ومحلها: القلب، وحقيقتها: العزم على فعل الشيء.

محل النية: القلب؛ لأنها عبارةٌ عن القصد، ومحل القصد: القلب؛ ولهذا لا يشرع التلفظ بالنية، بل التلفظ بالنية عند كثيرٍ من أهل العلم بدعةٌ؛ لأن النبي لم يفعله، ولم يفعله أحدٌ من الصحابة أو التابعين، فالنية محلها القلب وليس اللسان، فلا يقول الإنسان: نويت أن أفعل كذا، وإنما النية محلها القلب.

قال: “وحقيقتها: العزم على فعل الشيء”، يعني: تعريف النية، عندما نريد تعريف النية:

النية لغةً: القصد، وشرعًا: العزم على فعل العبادة تقربًا لله تعالى.

تنقسم إلى نية العمل، ونية المعمول له؛ أما نية العمل فهي التي تكلم عنها أرباب السلوك، ويقصدون بها: الإخلاص، وليست هذه هي المرادة عند الفقهاء، أما نية العمل فهي المقصودة في هذا الباب، هي التي تُميز العبادات عن العادات، وتميز العبادات بعضها عن بعضٍ، والنية تتبع العلم، فمن علم بأنه قد ذهب للمسجد؛ فقد نوى الصلاة، دخلتَ المسجد لصلاة الظهر، إذنْ أنت نويت صلاة الظهر، من علم أن غدًا من رمضان؛ فقد نوى صيام رمضان، فالنية تتبع العلم، أقول هذا؛ لأن هناك من يقع عنده وسواسٌ في النية.

فأقول: التدقيق في النية قد يؤدي للوسواس، النية تتبع العلم، لا حاجة لهذا التدقيق الذي قد يؤدي إلى الوسواس، بل قال بعض أهل العلم: إننا لو كُلفنا العمل بلا نيةٍ؛ لكان هذا من التكليف بما لا يطاق؛ لأن النية تتبع العلم، ذهبت تتوضأ إذنْ نويت الوضوء، طيب لما توضأت ذهبت للمسجد؛ نويت الصلاة، تسحرت؛ نويت الصيام غدًا، وهكذا، فالنية تتبع العلم، فينبغي عدم التنقير والتدقيق في مسائل النية؛ لأن هذا يقود للوسواس.

شروط النية

وشرطها: الإسلام، والعقل، والتمييز.

أي: أن النية لا تصح إلا بهذه الشروط الثلاثة؛ فلا تصح النية من الكافر، ولا من المجنون، ولا من الصبي غير المميز؛ لعدم أهلية هؤلاء للعبادة.

زمن النية

وزمنها.

يعني: زمن النية.

أول العبادةٍ، أو قُبَيلَها بيسيرٍ، والأفضل قرنها بالتكبير.

الأفضل: أن تقترن النية بتكبيرة الإحرام، فعند تكبيرة الإحرام ينوي الصلاة، لكن لو تقدمت النية بزمنٍ يسيرٍ فلا يضر، والفقهاء يقولون: يجبُ استصحاب حكم النية، ويستحب استصحاب ذكرها، ما معنى هذا الكلام؟

يجب استصحاب حكم النية بألا ينوي قطعها، هذا واجبٌ، فإن نوى قطعها بطلت، ويستحب استصحاب ذكرها بألا يذهل عنها، وهذا مستحبٌّ وليس واجبًا، فلو غابت عنه النية وذهل عنها في أثناء الصلاة؛ فإن هذا لا يضر، وبعض الناس مثلًا في الصلاة إذا كبر بدأ في هواجس ووساوس حتى يذهب ذهنه لأمورٍ أخرى كأنه ليس في الصلاة، ثم يتذكر فيستحضر أنه في الصلاة، طيب، صلاته هل هي صحيحةٌ؟ نقول: صحيحةٌ، لكن الأفضل ألا يفعل ذلك، ويستصحب ذكر النية، ويحرص على أن يخشع في صلاته، لكن من حيث الصحة صلاته صحيحةٌ.

تعيين النية عند تكبيرة الإحرام

قال:

وشُرِط مع نية الصلاة: تعيين ما يصليه من ظهرٍ أو عصرٍ أو وترٍ أو راتبةٍ.

يعني: عندما يريد أن يصلي صلاةً معينةً لا بد أن ينوي الصلاة أولًا، وينوي كذلك تعيين الصلاة التي يصليها؛ فينوي مثلًا أنها صلاة الظهر، أو صلاة العصر، أو صلاة المغرب، أو صلاة العشاء، أو صلاة الوتر، أو نافلةٍ مثلًا، راتبة الظهر، أو راتبة المغرب، ونحو ذلك.

وإلا أجزأته نية الصلاة.

يعني: إذا لم ينوِ نية التعيين التي أشار إليها المؤلف، وإنما نوى مطلق الصلاة، فإن ذلك يجزئ، إلا إذا نوى صلاة غير الصلاة المقصودة، كما لو أتى للمسجد لصلاة الظهر فنوى العصر، هنا لا تصح، صلى خلف الإمام على أنها العصر والناس يصلون الظهر، هنا لا تصح، لا بد أن ينويها ظهرًا.

لا يشترط تعيين كون الصلاة حاضرةً أو قضاءً أو فرضًا

ولا يشترط تعيين كون الصلاة حاضرةً، أو قضاءً، أو فرضًا.

أراد المؤلف بهذه العبارة: أن يرد على من قال من الفقهاء باشتراط ذلك، وبيَّن المؤلف أن هذا لا يشترط، وهذا هو القول الراجح، فلا يشترط في النية أن ينوي أن هذه الصلاة حاضرةٌ، أو ينوي أنها قضاءٌ، أو ينوي أنها فرضٌ؛ لأنه إذا نوى الصلاة؛ فقد شملت نية الصلاة هذه الأمور؛ فلا حاجة لمثل هذه التشقيقات، هذه في الحقيقة قد تقود إلى الوسواس، وبعض الناس عنده استعدادٌ للوسواس، فإذا قرأ مثل هذه المسائل والتدقيقات والتشقيقات، واشتراط بعض الفقهاء لذلك؛ فربما يؤدي للوسواس، أقول: هذا وأنا أجد معاناة بعض المستفتين من الوسواس، يعانون معاناةً شديدةً؛ ولهذا نلفت النظر من حينٍ لآخر في مثل هذه الدروس، وفي برامج الفُتيا ونحو ذلك، لشيءٍ من معاناتهم، ونرشدهم أيضًا لأن يتفقهوا في هذه المسائل التي حصل لهم فيها الوسواس؛ حتى يكونوا على بصيرةٍ، فإذا كان الإنسان على بصيرةٍ؛ يستطيع -بإذن الله مع تقوية الإرادة- أن يتجاوز هذا الوسواس.

نية الإمامة والائتمام

وتشترط نية الإمامة للإمام، والائتمام للمأموم.

أي: يجب على الإمام أن ينوي الإمامة، ويجب على المأموم أن ينوي الائتمام؛ لقول النبي : إنما الأعمال بالنيات؛ وإنما لكل امرئٍ ما نوى [10]؛ ولأن الجماعة يتعلق بها أحكامٌ ويتميز الإمام من المأموم بالنية إن كانت شرطًا.

بناءً على كلام المؤلف لو أن رجلًا يصلي وحده، ثم أتى إنسانٌ وصلى بجانبه أو خلفه، ولم ينوِ هذا الرجل الإمامة، أو أنه شعر بهذا الإنسان لكنه لم ينوِ أنه إمامٌ له، فبناءً على كلام المؤلف: لا تصح صلاة المأموم؛ لأنه اقتدى بمن ليس إمامًا له؛ لكونه لم ينوِ الإمامة، أما صلاة الإمام فتصح على أنها صلاة منفردٍ، ولكن لا يحصل له فضل الإمامة؛ ولهذا قال البُهُوتي في “الروض المربع”: “وإن نوى زيدٌ الاقتداء بعمرٍو ولم ينوِ عمرٌو الإمامة؛ صحت صلاة عمرٍو وحده”، يعني: صحت صلاة الإمام فقط؛ لأن غاية ما فيه أنه صلى منفردًا، أما زيدٌ الذي دخل معه مأمومًا فلا تصح صلاته؛ لأن الإمام لم ينوِ نية الإمامة.

والقول الثاني في المسألة: أنه يصح أن يأتم الإنسان بشخصٍ لم ينوِ الإمامة، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية وروايةٌ عند الحنابلة، واستدلوا بما جاء في “الصحيحين” عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى ذات يومٍ فصلى رجالٌ بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس يتحدثون، فكثر المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله وصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد: فإنه لم يَخْفَ عليَّ مكانكم، لكني خشيت أن تُفرض عليكم؛ فتعجزوا عنها [11]، هذا حصل في العشر الأواخر من رمضان، كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة التراويح في بيته، وخشي أن يصلي بالناس جماعةً؛ فتفرض عليهم، وهذا من رحمته بأمته ، فذات ليلةٍ -كانت ليلة ثلاثٍ وعشرين- كان يصلي وجدار الحجرة قصيرٌ، فجاء الناس وائْتَمُّوا به، وهو لا يشعر، ثم تحدث الناس وكَثُروا في ليلة خمسٍ وعشرين، ثم ليلة سبعٍ وعشرين كثر الناس، وقام بهم حتى خَشُوا الفلاح، خشوا أن يفوتهم السحور، ثم بعد ذلك لما كانت الليلة الرابعة؛ امتلأ المسجد، فلم يخرج عليهم النبي ، وقال: إني لم يَخْفَ عليَّ مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم، وتعجزوا عنها.

الشاهد من هذه القصة: أنه عليه الصلاة والسلام في الليلة الأولى صلى رجالٌ بصلاته وهو لم يعلم بهم، ومع ذلك صحت صلاتهم، ولم يُنكر عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يأمرهم بالإعادة، وما صح في النفل صح في الفرض إلا بدليلٍ، ولأنه ليس هناك دليلٌ يدل على عدم الصحة، والمقصود هو المتابعة، وقد حصلت؛ فعلى هذا: لو نوى المأموم الائتمام والإمام لم ينوِ الإمامة -على القول الراجح بالصحة- يكون للمأموم ثواب الجماعة دون الإمام.

طيب، ماذا لو كانت المسألة بالعكس، نوى الإمام الإمامة، والمأموم لم ينوِ الائتمام؟

فالقول الراجح أيضًا أن الصلاة صحيحةٌ؛ لأنه لا دليل يدل على بطلان الصلاة، وأما ما ذكروه من تعليلاتٍ وتقييداتٍ فلا يُسلَّم بها، وقد حصلت المتابعة وهي المقصود، ثم هي صلاةٌ مكتملة الأركان والشروط والواجبات، الأصل صحتها.

فالقول الراجح إذنْ: صحة الصلاة في المسألتين.

نية مفارقة الإمام للمأموم والعكس

وتصح نية المفارقة لكل منهما لعذرٍ يبيح ترك الجماعة.

يعني: لو أراد الإمام أن يفارق المأموم؛ فله ذلك، وهذا ما يسميه الفقهاء بـ”الاستخلاف”، فيستخلف من يؤم الناس خلفه، والمذهب عند الحنابلة أنه لا استخلاف، وأن الإمام إذا بطلت صلاته؛ بطلت صلاة المأموم؛ ولهذا قال في “زاد المستقنع”: وتبطل صلاة مأمومٍ ببطلان صلاة إمامه؛ فلا استخلاف، ولكن القول الراجح هو ما مشى عليه المؤلف رحمه الله، وهو صحة الاستخلاف، وأن الإمام إذا عرض له عارضٌ؛ فإنه يرجع ويستخلف أحد المأمومين خلفه يكمل بهم الصلاة، وهذا قد حصل للصحابة لما طُعن عمر بن الخطاب ، كان يصلي بالناس صلاة الفجر، فأتاه أبو لؤلؤة المجوسي وطعنه وهو ساجدٌ، فقال: “أكلني الكلب”، حتى قتلوه، قتلوا أبا لؤلؤة المجوسي، الشاهد: أن عمر بن الخطاب  لما طُعن أخذ بيد عبدالرحمن بن عوفٍ  وقدمه، فأكمل بهم الصلاة خفيفةً، فهذا قد حصل من الصحابة  وكانت قصةً مشتهرةً، وكانت كالإجماع من الصحابة  على صحة الاستخلاف.

وعلى هذا: فلا بأس بالاستخلاف إذا عرض للإمام عارضٌ، مثلًا كبَّر يصلي بهم، ثم تذكر أنه ليس على وضوءٍ، فإنه يرجع ويستخلف أحد المأمومين خلفه يُكمل بهم الصلاة، أو مثلًا لما كبَّر أحدث، خرج منه ما ينتقض به الوضوء، فإنه يرجع ويستخلف أحد المؤمنين خلفه، ولا يجوز له أن يستمر في صلاته وهو على غير طهارةٍ.

فالقول الراجح إذنْ: صحة الاستخلاف، وأن الإمام لو أراد أن يفارق المأموم لعذرٍ فله ذلك، هذا بالنسبة للإمام.

طيب، ماذا عن المأموم؟ يعني: لو أراد المأموم أن يُفارق الإمام، هذا المأمومٌ يصلي في المسجد، فأراد المأموم أن يفارق الإمام، أن ينفتل عن إمامه؛ إن كان ذلك لعذرٍ فلا بأس، والمؤلف أشار لهذا، قال: “تصح نية المفارقة لكل منهما -يعني الإمام والمأموم- لعذرٍ يُبيح ترك الجماعة”.

الحالات التي تباح فيها مفارقة الإمام

ومن الأعذار إطالة الإمام إطالةً زائدةً على السنة؛ كأن يقرأ الإمام سورةً طويلةً فيشق ذلك على بعض المأمومين، فلهم أن يُفارقوا الإمام ويكملوا لأنفسهم؛ ويدل لذلك قصة معاذٍ في حديث جابرٍ في “الصحيحين”: أن معاذًا كان يصلي مع النبي صلاة العشاء، ثم يرجع فيصلي بقومه، وأنه ذات مرةٍ صلى بقومه، وقرأ بهم سورة البقرة في صلاة العشاء، وكان هناك أحد الأنصار، فلاحٌ يعمل في مزرعته من أول النهار، فإذا أتى وقت العشاء إذا هو متعبٌ، فمعاذٌ قرأ بهم سورة البقرة، فقام هذا الأنصاري لما رأى أن معاذًا سيطيل -يعني: سورة البقرة جزآن ونصفٌ تقريبًا، يعني: ما يقارب أربعين دقيقةً تقريبًا، الجزء يأخذ في المتوسط ربع ساعةٍ، جزآن نصف ساعةٍ، ويعني يمكن من خمسة وثلاثين إلى أربعين دقيقةً في ركعةٍ واحدةٍ، وهذه لا شك أنها طويلةٌ، هذا الأنصاري أكمل لنفسه وانصرف، فلما سلَّم معاذٌ أخبروه، وقال معاذٌ : إنه منافقٌ، بلغ الأنصاريَّ هذا الكلام، ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأخبره، فدعا النبي معاذًا وقال: أفتَّانٌ أنت يا معاذ؟! أيكم أمَّ الناس فليخفف؛ فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة، هلَّا قرأت بــوَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، و سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1] [12].

هذه القصة وجه الدلالة منها: أن هذا الأنصاري انفرد عن معاذٍ وأكمل صلاته، وأقره النبي على ذلك؛ فدل هذا على أنه لا بأس بمفارقة المأموم للإمام لعذرٍ؛ ومن الأعذار أيضًا: أن يكون الإنسان في المطار، ويطيل بهم الإمام، وهو مستعجلٌ يخشى أن تفوته الطائرة؛ فهنا لا بأس أن يُكمل صلاته خفيفةً، ينفرد عن الإمام ويُكمل صلاة خفيفةً، وأذكر أن سؤالًا أتى إليَّ قبل مدةٍ عن رجلٍ كان في المطار، وأنه دخل مع جماعةٍ وأن الإمام أطال بهم، يبدو أن الإمام رحلته متأخرةٌ، فأطال بهم القراءة، وهذا الذي صلى خلفه مستعجلٌ، ففاتته الطائرة، فقلت: المفترض في مثل هذه المسألة: أن هذا المأموم يُكمل لنفسه، هذا الإمام أخطأ من جهة أنه في مكانٍ ينبغي أن يُراعي فيه أحوال المأمومين، كون طائرته متأخرةً، ليس بقية من يصلي خلفه كلهم طائراتهم متأخرةٌ، فأخطأ الإمام، أما المأموم فلو كان عنده فقهٌ؛ لأكمل صلاته منفردًا والحمد لله، كما فعل الأنصاري، فانفراد المأموم عن الإمام لعذرٍ لا بأس به.

ومن الأعذار أيضًا: أن تكون صلاة المأموم أقل من صلاة الإمام؛ كمن صلى المغرب خلف من يصلي العشاء، فإنه إذا قام الإمام للرابعة يكمل هو لنفسه، يعني: هذا رجلٌ سوف يصلي المغرب خلف إمامٍ سيصلي العشاء، إذا قام الإمام الرابعة؛ هو يجلس ويكمل لنفسه ويسلم، وله أيضًا أن يدرك الإمام في الرابعة، وهي تكون الأولى في حقه؛ حتى يحوز على فضل الجماعة في صلاة العشاء، إذنْ إذا قام الإمام للرابعة؛ هو يجلس ويكمل التشهد ويسلم، ثم يُصلي معه مرةً أخرى ينوي بذلك صلاة العشاء؛ حتى يدرك فضل الجماعة، فإذا سلم الإمام؛ قام وقضى ما فاته.

ومن الأعذار أيضًا: أن يطرأ على المأموم أعراضٌ صحيةٌ؛ كغثيانٍ مثلًا، أو صداعٍ، أو ينخفض معه السكر، أو نحو ذلك، فله أن ينفرد عن الإمام ويكمل صلاته، والحمد لله.

أما إذا فارق المأموم إمامه لغير عذرٍ: فالمذهب عند الحنابلة: أن صلاته تبطل، وهذا ظاهر كلام المؤلف؛ لأن المؤلف قيَّد هذا بالعذر، وقال بعض أهل العلم: إن صلاته صحيحةٌ قياسًا على المنفرد لو نوى الإمامة، فإن كونه ينتقل من كونه منفردًا إلى كونه إمامًا، وهذا المأموم غاية ما فيه أنه انتقل من كونه مأمومًا إلى كونه منفردًا، فإذا جاز للمنفرد أن يكون إمامًا فيجوز للمأموم أن يكون منفردًا من باب أولى، فإن المأموم قد يصير منفردًا بغير نيةٍ؛ كما في المسبوق إذا سلَّم إمامه، والمنفرد لا يصير مأمومًا بغير نيةٍ بحالٍ، وهذا هو الأقرب والله أعلم، لكن ينبغي عدم التوسع في ذلك، وألا ينفرد المأموم عن إمامه إلا لعذرٍ، لكن من حيث التحقيق العلمي حتى لو انفرد لغير عذرٍ، ليس هناك دليلٌ يدل على بطلان صلاته، الأقرب هو صحة صلاته، والقياس يقتضي هذا كما ذكرنا.

يلزم المأموم قبل أن يفارق الإمام أن يكمل قراءة الفاتحة

ويقرأ مأمومٌ فارق في قيامٍ، أو يكمل وبعد الفاتحة له الركوع في الحال.

يعني: لو أراد المأموم أن يفارق الإمام في القيام قبل قراءته الفاتحة؛ فعليه أن يقرأ الفاتحة ثم يفارقه، أو أنه يكمل على قراءة إمامه إن كان المأموم قرأ بعض الفاتحة؛ لأن حكم الفاتحة للأمام يختلف عن حكم الفاتحة للمأموم، فالفاتحة في حق الإمام ركنٌ، بينما في حق المأموم ليست ركنًا، إما أن تكون واجبةً فيما لم يجهر فيه الإمام، أو أنها إما مباحةٌ أو مستحبةٌ، على خلافٍ فيما جهر فيه الإمام؛ ولذلك تسقط عن المسبوق، فيلزم المأمومَ قبل أن يفارق الإمام أن يكمل قراءة الفاتحة، إن لم يكن الإمام قرأها بعد، فإن قرأها الإمام؛ سقطت عنه، فله الركوع في الحال وينفرد عن إمامه؛ لأن قراءة الإمام قراءةٌ للمأموم.

أحكام تغيير النية في الصلاة

ومن أحرم بفرضٍ ثم قَلَبَه نفلًا؛ صحَّ إن اتسع الوقت، وإلا لم يصح وبطل فرضه.

انتقل المؤلف للكلام عن مسائل قلب النية، بدأها بمسألة ما إذا نوى الفرض، ثم أراد أن يقلبه إلى نفلٍ، يقول المؤلف: إنه يصح قلب النية من فرضٍ إلى نفلٍ، بشرط أن يتسع الوقت للفرض والنفل، لكن إذا اتسع الوقت، وكان ذلك لغير عذرٍ؛ فإنه مكروهٌ، أما إذا كان ذلك لعذرٍ؛ فلا بأس به؛ مثال العذر: رجلٌ أتى لجماعة المسجد، ووجدهم في التشهد الأخير، والجماعة إنما تدرك بإدراك ركعةٍ، أي أنه فاته فضل الجماعة، ثم لما كان يقضي صلاته؛ أحس بجماعةٍ جديدةٍ، فهنا الأفضل: أن يقلب نيته من فرض إلى نفلٍ مطلقٍ، ويكملها ركعتين خفيفتين، ويدخل مع الجماعة الجديدة؛ لأنه إذا فعل ذلك ضَمِن أجر الجماعة، لكن إذا استمر في صلاته؛ فقد فاته أجر الجماعة، هذه من المسائل التي ينبغي التنبه لها، إذا دخلت مع الجماعة الأولى في التشهد الأخير، لمَّا سلم الإمام؛ قمتَ تقضي ما فاتك، ثم أحسست بجماعةٍ جديدةٍ، فالأفضل: أن تقلب صلاتك إلى نفلٍ، وتصليها ركعتين خفيفتين، ثم تدخل مع الجماعة الجديدة؛ لأنك إذا فعلت ذلك؛ ضمنت أجر الجماعة، بينما لو استمررت في صلاتك الأولى؛ فقد فاتك أجر الجماعة؛ لأن الجماعة إنما تدرك بإدراك ركعةٍ، وأنت لم تدرك الركعة، إنما أدركت الجماعة بالتشهد الأخير.

هناك صورٌ أخرى لم يذكرها المؤلف ذُكِرَت هنا في “السلسبيل”:

الصورة الأولى: إذا انتقل من فرضٍ إلى فرضٍ؛ كمن يصلي العصر مثلًا ثم في أثناء الصلاة تذكر أنه لم يصلِّ الظهر، فقلب النية من العصر إلى الظهر؛ فلا تصح الصلاتان، تبطل الصلاتان جميعًا، أما الصلاة التي هو فيها؛ فلأنه قد قطع النية، وأما الصلاة الثانية التي انتقل إليها؛ فلأنه لم يأت بالنية من أول الصلاة.

وأيضًا من الصور: إذا انتقل من نفلٍ معينٍ إلى نفلٍ معينٍ؛ كأن ينتقل مثلًا من الوتر إلى راتبة العشاء؛ فلا تصح الصلاتان؛ وعلى هذا: فالانتقال من نفلٍ معينٍ إلى نفلٍ معينٍ، هو كالانتقال من فرضٍ معينٍ إلى فرضٍ معينٍ، لا يصح.

على هذا نقول: قلب النية على ثلاثة أقسامٍ:

  • القسم الأول: الانتقال من فرضٍ معينٍ إلى نفلٍ مطلقٍ، أو من نفلٍ معينٍ إلى نفلٍ مطلقٍ؛ فهذا يصح.
  • القسم الثاني: الانتقال من فرضٍ إلى فرضٍ؛ لا يصح، وتبطل الصلاتان جميعًا.
  • القسم الثالث: الانتقال من نفلٍ معينٍ إلى نفلٍ معينٍ، لا يصح، وتبطل الصلاتان جميعًا، فهذا المذكور في صفحة (144) خلاصةٌ لصور قلب النية.

ننتقل بعد ذلك إلى كتاب الصلاة، نأخذ منه ما تيسر، ونكمل البقية -إن شاء الله- في الدرس القادم.

كتاب الصلاة

قال المؤلف رحمه الله:

كتاب الصلاة.

معنى الصلاة لغةً وشرعًا

الصلاة: معناها لغةً: الدعاء؛ كما قال الله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، يعني: ادعُ لهم، ومعناها شرعًا: التعبد لله تعالى بأقوالٍ وأفعالٍ مخصوصةٍ مفتتَحةٍ بالتكبير ومختتَمةٍ بالتسليم، والصلاة أشهر من أن تُعرَّف، فهي معروفةٌ للجميع.

مكانة الصلاة في الإسلام

والصلاة ليست من خصائص هذه الأمة، بل كانت موجودةً عند الأمم السابقة؛ ولذلك يقول الله في قصة زكريا: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39]، كانت الصلاة معروفةً عندهم، ويَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، أيضًا في قول الله لبني إسرائيل: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس:87]، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، لكن صلاتهم تختلف عن صلاتنا في هيئتها وفي أوقاتها.

قال بعض أهل العلم: إن الصلاة عند الأمم السابقة كانت صلاتين: صلاةً عند طلوع الشمس، وصلاةً عند غروبها؛ ولهذا لما حصلت المحاورة بين النبي عليه الصلاة والسلام وموسى  في المرة الأخيرة؛ لما قال عليه الصلاة والسلام: إنها خففت إلى خمسٍ؛ قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: إني قد استحييت من ربي [13]، هذا يدل على أن الصلاة المفروضة على موسى وقومه كانت أقل من خمس صلواتٍ.

الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وأحب العمل إلى الله تعالى؛ كما جاء في حديث ابن مسعودٍ : «سألتُ النبي  عن أحب العمل إلى الله، قال: الصلاة على وقتها [14]؛ لأنه يجتمع فيها من العبادات ما لا يجتمع في غيرها؛ العبادات القولية والفعلية؛ من تلاوة القرآن، والتسبيح والتحميد والتكبير، والخضوع لله بالركوع والسجود، ونحو ذلك.

وهذا العمل وهذا النوع من التعبد يحبه الله ؛ ولهذا لما فرضت الصلاة؛ فرضت أول ما فرضت خمسين صلاةً في اليوم والليلة، خمسون صلاةً في أربعٍ وعشرين ساعةً، يعني: فرضيتها بهذا النحو تدل على محبة الله لهذا النوع من التعبد، ولمَّا خُفِّفَت؛ خفت فقط في الفعل، لكن لها ثواب خمسين صلاةً في الميزان.

ثم أيضًا لما فرضت الصلاة؛ فرضت على نحوٍ خاصٍّ، عرج بنبينا محمدٍ حتى جاوز السبع الطباق، ووصل إلى أعلى مكانٍ وصله بشرٌ، عند سدرة المنتهى، حتى إنه سمع صوت صرير القلم بكتابة القدر، وكلمه الله مباشرةً من غير واسطةٍ، لكنه لم يرَ ربه على القول الراجح؛ لأنه لا أحد من البشر في الدنيا يتحمل رؤية الله، الله العظيم الذي تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن خوفًا منه، وفَرَقًا من عظمته، كيف بهذا الإنسان البسيط بخلقه الضعيف أن يتحمل رؤية الله ؟! لا يمكن في الدنيا؛ ولهذا موسى عليه الصلاة والسلام لما قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، هذا الجبل العظيم الضخم، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى، مجرد تجلٍّ، تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، لكن في الآخرة يُمَكِّن الله المؤمنين من رؤيته: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، لكن الله كلمه  مباشرةً كما كلم موسى ، وفرض عليه وعلى أمته هذه العبادة العظيمة.

ولهذا لو طَرَح أحدٌ سؤالًا: ما أحبُّ عبادةٍ إلى الله ؟ ما أفضل عملٍ أشتغل به؟ نقول: إن استطعت أن تشغل وقتك بالصلاة فافعل، مع ملاحظة أنك لا تصلي فقط في أوقات النهي؛ لأن الصلاة هي أحب عملٍ إلى الله، أحب العبادة إلى الله ؛ ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يصلي لله تعالى في اليوم والليلة تطوعًا من غير الفريضة ثلاثمئة ركعةٍ، ولما حصلت له المحنة، وضرب وضعف بدنه؛ أصبح يصلي مئةً وخمسين ركعةً، وكان الحافظ عبدالغني المقدسي، صاحب “عمدة الأحكام”، كان يقتدي بالإمام أحمد في هذا؛ وذلك لعلمهم بأن الصلاة هي أحب عملٍ وعبادةٍ إلى الله ؛ ولهذا إذا أتيت المسجد الجامع يوم الجمعة ولم تكن خطيبًا، يعني أتيت للمسجد الجامع، ما أفضل شيءٍ تشتغل به؟ أفضل شيءٍ تشتغل به الصلاة، ركعتين ركعتين، مثنى مثنى، إلى وقت النهي، إلى قُبيل الزوال بنحو سبع إلى عشر دقائق، هذا هو الأفضل؛ لأن الصلاة هي أفضل عملٍ وأحب عملٍ إلى الله .

الصلاة نورٌ للمؤمنين؛ كما جاء في حديث أبي مالكٍ الأشعري  أن النبي قال: الصلاة نورٌ [15]، فهي نورٌ للمؤمنين في الدنيا في قلوبهم وبصائرهم، ونورٌ لهم في الظلمات يوم القيامة.

والصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم قيامة؛ كما جاء في حديث تميمٍ الداري  أن النبي قال: أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة: الصلاة، فإن أكملها؛ كتبت له كاملةً، وإن لم يكن أكملها؛ قال الله للملائكة: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوعٍ فأكمِلوا بها فريضته [16]، رواه أحمد.

والصلاة سببٌ لتكفير السيئات؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر [17]، رواه مسلمٌ، وقال: أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مراتٍ، هل يبقى من درنه شيءٌ؟ قالوا: لا، قال: فكذلك الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا [18]، متفقٌ عليه.

من تجب عليه الصلاة ومن لا تجب عليه

قال المؤلف رحمه الله:

تجب على كل مسلمٍ.

فغير المسلم لا تجب عليه، بمعنى أنه لا يطالب بها، ولا تصح منه لو أتى بها، ولكن هل معنى هذا أنه غير محاسبٍ على تركها؟

الجواب: لا، كما أن المسلم محاسبٌ على تركها؛ فالكافر كذلك يحاسب على تركها؛ لأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ كما قال الله تعالى عن الكفار، أو في خطاب الكفار في النار: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۝وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:42-46]، هذا يدل على أنهم كفارٌ؛ لأن التكذيب بيوم الدين كفرٌ، ومع ذلك حوسبوا على ترك الصلاة، لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ؛ فدل ذلك على أن الكافر يحاسب على ترك الصلاة، وعلى ترك الزكاة، وعلى ترك الصيام، وعلى ترك الواجبات الشرعية عمومًا، لكن لو أسلم الكافر لا يؤمر بقضائها؛ لأن الإسلام يجب ما كان قبله، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، ويقول النبي : الإسلام يهدم ما كان قبله [19].

مكلفٍ.

أي: تجب على المسلم المكلف، والمكلف: هو البالغ العاقل؛ فغير البالغ لا تجب عليه الصلاة، وغير العاقل -وهو المجنون- لا تجب عليه الصلاة؛ لقول النبي : رفع القلم عن ثلاثةٍ، وذكر منهم: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل [20]، ولأن الصلاة لا تصح إلا بنيةٍ، والنية لا يعقلها المجنون.

غير الحائض والنفساء.

يعني: الحائض والنفساء لا تجب عليهما الصلاة، ولا تصح منهما، ولا يلزمهما القضاء أيضًا بالإجماع؛ لقول النبي : أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟ [21]، ولما سُئلت عائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: “كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله ، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة” [22]، وهذا من رحمة الله تعالى بالنساء، أنهن لا يؤمرن بقضاء الصلوات إذا تركنها حال الحيض.

هناك قاعدةٌ عند أهل العلم وهي: أن الصلاة لا تسقط عن المكلف ما دام عقله معه إلا في حالةٍ واحدةٍ وهي المرأة في حال الحيض والنفاس، ما عدا ذلك لا تسقط الصلاة عن المكلف ما دام عقله معه، أرأيت رجلًا في المستشفى عاجزًا عن معظم أركان وشروط الصلاة، وعاجزًا عن استقبال القبلة، وعاجزًا عن الطهارة، عاجزًا عن القيام، عاجزًا عن الركوع، عاجزًا عن الحركة عمومًا، لكن عقله معه؟ فنقول: صلِّ على حسب حالك، ولو أن تومئ بالركوع والسجود، ولو أن تصلي بقلبك، إذا كنت عاجزًا عن الحركة فصلِّ بقلبك؛ فالصلاة لا تسقط عن المكلف ما دام عقله معه، إلا المرأة في حال الحيض والنفاس.

صلاة الطفل المميز

وتصح من المميز، وهو من بلغ سبعًا.

الصلاة لا تجب على غير البالغ، وغير البالغ يشمل الصبي المميز وغير المميز؛ أما غير المميز فلا تجب عليه ولا تصح منه، يعني: طفلٌ عمره ثلاث سنواتٍ مثلًا، هذا حتى لو صلى لا تصح منه؛ لأنه لا يعقل النية؛ وعلى ذلك: فوجود هذا الطفل غير المميز في الصف يُعتبر فرجةً؛ ولهذا ينبغي لوليه ألا يأتي به المسجد، دار العبادة ليست حضانةً للأطفال، وإنما هي دار للعبادة، وهذا الطفل قد يسبب إزعاجًا وتشويشًا على المصلين، كما أن وجوده في الصف يعتبر فرجةً، لكن لو احتاج أبوه إلى الإتيان به للمسجد، أو احتاجت أمه للإتيان به للمسجد لأي سببٍ فلا بأس، لكن يجعله في آخر المسجد، أو في آخر الصف، حتى لا يُحدث فرجةً، وحتى لا يشوش على الناس.

ومما يدل لذلك: أن نساء الصحابة، أو بعض نساء الصحابة ، كن يأتين بصبيانهن للمسجد، قال عليه الصلاة والسلام: إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوِّل فيها، فأسمع بكاء الصبي؛ فأتجوز في صلاتي؛ كراهة أن أشق على أمه [23]، يعني: خفف النبي عليه الصلاة والسلام من الصلاة؛ لأجل بكاء طفلٍ في المسجد، فهذا يدل على جواز إحضار الأطفال غير المميزين للمسجد، لكن ينبغي أن يقيد ذلك بالحاجة، وأن يُجعل في آخر المسجد أو في آخر الصف.

وينبغي أيضًا في مثل هذه الأحوال، عندما يكون هناك حاجةٌ لإحضار هذا الطفل: أن تتسع صدور الناس؛ لأن بعض الناس عندهم تحسس من هذا الموضوع، فينبغي أن تتسع صدورهم، لكن إذا كان هناك حاجةٌ، أما إذا لم يكن هناك حاجةٌ فيقال لوالد هذا الطفل: أبقه في البيت، فهذا المسجد دارٌ للعبادة، والناس أتوا يريدون أن يصلوا ويخشعوا في صلواتهم، وهذا الطفل ربما شوش عليهم، أما الصبي المميز فتصح الصلاة منه؛ لأن نيته معتبرةٌ.

حد التمييز

لكن ما حد التمييز؟

اختلف العلماء في ذلك، وأشهر الأقوال فيه قولان:

  • القول الأول: أن المميِّز من يفهم الخطاب ويرد الجواب، ولكن هذا محل نظرٍ، يوجد من الأطفال من عمره ثلاث سنواتٍ وأربع سنواتٍ يفهم الخطاب ويرد الجواب، وهو غير مميزٍ؛ فهذا لا ينضبط.
  • والقول الثاني: أن سن التمييز هو سبع سنواتٍ، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه هو الوارد في الحديث: مروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ [24]، فالأقرب -والله أعلم- أن سن التمييز هو سبع سنواتٍ، لكن -كما قلنا في درسٍ سابقٍ- المراد بالسبع: أن يكمل سبعًا ويدخل في الثامنة.

إذا صلى الصبي فالثواب له

والثواب له.

يعني: إذا صلى الصبي فالثواب للصبي، ولو كان بأمر والده؛ لما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن جابرٍ : «أن امرأةً رفعت صبيًّا إلى النبي فقالت: يا رسول الله، ألهذا حجٌّ؟ قال: نعم، ولكِ أجرٌ [25]، قوله: نعم، دليلٌ على أن الثواب للصبي، كذا أيضًا بالنسبة للصلاة.

بهذا نعلم: أن الصبي المميز غير البالغ يثاب على الطاعات، ولا يعاقب على المعاصي؛ لأن القلم مرفوعٌ عنه، لكنه إذا فعل طاعةً؛ أُثيب عليها؛ من صلاةٍ أو صيامٍ، أو فعلَ طاعةً من الطاعات؛ أُثيب عليها، وهذا من فضل الله وكرمه بعباده المؤمنين.

أمر الصبي بالصلاة وضربه عليها

ويَلزم وليَّه أمرُه بها لسبعٍ.

يعني: يجب على ولي هذا الصبي أن يأمره بالصلاة إذا أتم سبع سنين؛ لقول النبي : مروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ [26]، والمقصود بالسبع كما قلنا: من أتم سبعًا ودخل في الثامنة.

وضَرْبُه على تركها لعشرٍ.

أي: إذا أتم الصبي عشرًا ودخل الحادية عشرة، ووالده يأمره بالصلاة ولم يستجب، فهنا ينبغي أن يغير معه الأسلوب التربوي، وفي السابق كان مجرد أمرٍ وتوجيهٍ وإرشادٍ، لكن ما نفع معه، بقي ثلاث سنين ولم ينفع معه هذا الأسلوب، فهنا ينبغي أن يغير الأسلوب، ويسلك مسلك الحزم؛ وذلك بضربه ضربًا غير مبرِّحٍ، ضربًا يعني هو كرسالةٍ تربويةٍ منه إلى هذا الصبي بأنه قد قصَّر، والنبي أمر بذلك، وما أمر الله به، وما أمر به رسوله هو حكمة الحِكَم، أقول هذا؛ لأنه هناك نظريةٌ عند بعض الناس أتت من غير المسلمين: أن الضرب جريمةٌ، فنقول: الضرب المبرح، صحيحٌ أن الضرب المبرح جريمةٌ، لكن الضرب غير المبرح؛ كضرب الصبي لعشرٍ، أو الناشز، هذا قد ورد في القرآن والسنة، بالنسبة للنشوز في قول الله : وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، وبالنسبة للصبي في قول النبي عليه الصلاة والسلام: واضربوهم عليها لعشرٍ [27]، صحيحٌ هناك من يُسيء، نقول: ينكَر على من أساء، ينكر على من يضرب ضربًا مبرحًا، بل ينبغي أن يعاقب على ذلك؛ ولهذا حدد بعض الفقهاء أن الضرب يكون بمثل عود السواك؛ لأنه ليس انتقامًا؛ وإنما هو رسالةٌ بالتقصير في أمرٍ معينٍ.

حكم من ترك الصلاة بالكلية

ومن تركها جحودًا؛ فقد ارتد، وجرت عليه أحكام المرتدين.

هنا المؤلف اختصر الكلام على ما هو متفقٌ عليه بين العلماء، اختصر الكلام، وذكر ما هو متفقٌ عليه بين العلماء، وهو ترك الصلاة جحودًا، فمن ترك جحودًا فهو كافرٌ بالإجماع، حكى الإجماع ابن عبدالبر وغيره، ولكن لم يذكر المؤلف من تركها تهاونًا وكسلًا، هذه مسألةٌ مهمةٌ، وهي الغالب على المقصرين في الصلاة، فنحتاج إلى أن نقف معها، ونذكرها بشيءٍ من التفصيل:

فمن ترك الصلاة بغير جحودٍ، وإنما تهاونًا وكسلًا، هل يكفر الكفر الأكبر المخرج عن الملة، أو لا يكفر؟ أولًا: نريد أن نحرر معنى كلمة: “تارك الصلاة”، هل المقصود: أنه تركها بالكلية، أو ترك بعض الصلوات؟

نبدأ بالمسألة الأولى: وهي إذا تركها بالكلية، ثم سيأتي الكلام عن المسألة الثانية: إذا كان يصلي أحيانًا ويترك الصلاة أحيانًا، فنجعل الكلام إذنْ في مسألتين:

  • المسألة الأولى: إذا تركها بالكلية.
  • المسألة الثانية: إذا لم يتركها بالكلية؛ وإنما يصلي أحيانًا ويترك الصلاة أحيانًا.

طيب، إذا تركها بالكلية، بمعنى: أنه لم يركع لله ركعةً، لا جمعةً ولا جماعةً، إنسانٌ قطع صلته بالله لم يركع لله ركعةً، فهذا الذي ترك الصلاة بالكلية، اختلف العلماء في كفره على قولين:

  • القول الأول: أنه لا يكفر، وهذا ذهب إليه الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة، مع اتفاقهم على أنه مرتكبٌ لكبيرةٍ من كبائر الذنوب، وأنه فاسقٌ، لكنهم لم يقولوا بكفره، وقد نقل ابن القيم رحمه الله اتفاق العلماء على أنه إن ترك الصلاة بالكلية؛ يكون مرتكبًا لكبيرةٍ هي أشد من الزنا، وأشد من قتل النفس، وأشد من شرب الخمر، ولكن الخلاف: هل يخرج عن ملة الإسلام؟ هل يكون كافرًا كفرًا أكبر؟

فالجمهور قالوا: إنه لا يكفر، لكن الحنفية قالوا: إذا لم يصلِّ يُحبس حتى يصلي، وأما المالكية والشافعية فقالوا: يُقتل حدًّا إذا لم يصلِّ، واستدلوا بعدم كفره بحديث عبادة بن الصامت  أن النبي قال: خمس صلواتٍ كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن، كان له عهدٌ عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهدٌ، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة [28]، قالوا: فأفاد الحديث أن تارك الصلاة تحت المشيئة، والكفار لا يدخلون تحت المشيئة؛ فدل هذا على عدم كفره.

وأيضًا استدلوا بحديث حذيفة أن النبي قال: يَدرُس الإسلام كما يدرس وَشْي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيامٌ ولا صلاةٌ ولا نسكٌ ولا صدقةٌ، ولَيُسْرَى على كتاب الله في ليلةٍ؛ فلا يبقى في الأرض منه آيةٌ، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها، فقال له صِلَة: ما تغني عنهم “لا إله إلا الله” وهم لا يدرون ما صلاةٌ ولا صيامٌ ولا نسكٌ ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم رددها عليه ثلاثًا، كل ذلك يُعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة، تُنجِيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار» [29]، أخرجه ابن ماجه والحاكم، وسنده جيدٌ، قالوا: فكون هؤلاء لا يصلون، ومع ذلك تنجيهم كلمة “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” من النار؛ هذا دليلٌ على عدم كفرهم.

قال: وفي اتفاق عامة أهل العلم على أن التارك للصلاة حتى خرج وقتها متعمدًا يعيدها قضاءً؛ هذا يدل على أنه ليس بكافرٍ؛ لأن الكافر لا يؤمر بقضاء ما ترك من الصلاة.

  • القول الثاني: أن من ترك الصلاة بالكلية فإنه يكون كافرًا كفرًا أكبر مخرجًا عن ملة الإسلام، هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، واستدلوا بقول الله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، فمفهومه: أنهم إذا لم يقيموا الصلاة؛ فليسوا بإخوانٍ لنا؛ لقول الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ۝إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [مريم:59-60]، قوله: وَآمَنَ، دليلٌ على أن من أضاع الصلاة ليس بمؤمنٍ، واستدلوا أيضًا بحديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي قال: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة [30]، رواه مسلمٌ، وحديث بريدة : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر [31]، واستدلوا أيضًا بدليلٍ هو من أقوى الأدلة، وهو إجماع الصحابة  على كفر تارك الصلاة، ونَقَل الإجماع غير واحدٍ، فنقله عبدالله بن شَقيقٍ العُقَيلي، التابعي الجليل، قال: كان أصحاب النبي لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفرٌ غير الصلاة، وقال التابعي أيوب السَّخْتِياني: ترك الصلاة كفرٌ لا يختلفون فيه، ونَقَل إسحاق بن راهويه الإجماع على كفر تارك الصلاة من زمن الصحابة إلى زمنه، ولا يُعلم عن أحدٍ من الصحابة أنه قال: بعدم كفر تارك الصلاة، فالصحابة مجمعون على كفر تارك الصلاة إذا تركها بالكلية، وأنه يكون كافرًا كفرًا أكبر مخرجًا عن ملة الإسلام، وهذا هو القول الراجح، لكن الحنابلة يشترطون لكفره شرطين:
  • الأول: أن يدعوه الإمام أو نائبه.
  • والثاني: أن يُصرَّ على تركها حتى يضيق وقت الثانية، كأن يُصر على ترك الظهر حتى يضيق العصر مثلًا.

والصحيح: أنه لا أثر لدعوة الإمام؛ لعدم الدليل الدال لذلك، أما القول بأنا لا نكفره حتى يَضيق وقت الثانية؛ فهذا متَّجِهٌ.

إذنْ: القول الراجح: هو القول الثاني، وهو أن تارك الصلاة بالكلية -الذي لا يركع لله ركعةً، لا جمعةً ولا جماعةً- كافرٌ كفرًا أكبر مخرجًا عن ملة الإسلام، وقد قرر بعض المحققين من أهل العلم؛ كابن تيمية رحمه الله: أن الكفر إذا ورد في نصوص الوحي معرفًا بـ(أل)، فالمراد به: الكفر الأكبر؛ كما في حديث جابرٍ : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة، فإذا ورد معرفًا بـ(أل) فالمقصود به: الكفر الأكبر، وهذا يكون جوابًا عن قول الجمهور الذين حملوا الكفر على أن المراد به: الكفر الأصغر، أما حديث حذيفة : حتى لا يُدرى ما صلاةٌ ولا صيامٌ، قال: أتنفعهم؟ قال: يا صِلَة، تنجيهم من النار»، فلا يستقيم الاستدلال به؛ لأن هؤلاء قد بلغ بهم الجهل إلى هذه المرحلة، حتى إنهم لا يدرون عن الصلاة، ولا الحج، ولا الصيام، فهم معذورون بالجهل؛ لأن هذا إنما يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة.

وأما حديث عبادة  فهو محمولٌ على ترك بعض الصلوات، وكلامنا إنما هو فيمن يترك الصلاة بالكلية؛ لأنه جاء في بعض الروايات: ومن لم يحافظ عليهن؛ فلا عهد له [32].

حكم من يصلي أحيانًا

أما المسألة الثانية: وهي: هل من كان يصلي أحيانًا، ويترك الصلاة أحيانًا، هل يكفر الكفر الأكبر المخرج عن الملة؟

هذه مسألةٌ فيها قولان لأهل العلم:

  • من أهل العلم من قال: إنه يكفر، ولو ترك صلاةً واحدةً، هذه روايةٌ عن الإمام أحمد، واشتهر في هذا فتوى الشيخ ابن بازٍ رحمه الله تعالى.
  • القول الثاني: أنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلاة بالكلية، وهذا اختيار ابن تيمية، وأيضًا من المعاصرين: الشيخ ابن عثيمين، رحمهم الله تعالى، وهذا هو القول الراجح، أنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلاة بالكلية، أما إذا كان يصلي أحيانًا فلا يكفر، وإنما يكون من الساهين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، ولأن الأحاديث التي وردت بالكفر أتت بتعريف الصلاة: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة [33]، ولم يقل: ترك صلاة، وقال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر [34].

وقد جاء في “مسند الإمام أحمد”: أنه أتى النبيَّ وفدٌ فأسلم على ألا يصلي إلا صلاتين، فقبل ذلك منهم، ثم بعد ذلك حَسُن إسلامهم فصلوا جميع الصلوات [35]، هذا من باب التدرج في الدعوة، ولو كان ترك بعض الصلوات كفرًا لما أقرهم النبي على هذا؛ ولأنه لا يُعرف في تاريخ الإسلام على مدار أربعة عشر قرنًا -ونحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري- أن رجلًا قُتل لأنه ترك الصلاة تهاونًا وكسلًا، أبدًا لم يعرف هذا في التاريخ، وأنه لم يغسل ولم يكفن ولم يصلَّ عليه، وهذه هي حال أكثر المقصرين في الصلاة، يعني يندر أن تجد إنسانًا يترك الصلاة بالكلية، يبقى سنةً كاملةً قطع صلته بالله لا يصلي لله ركعةً، لا جمعةً ولا جماعةً، هذا نادرٌ في المجتمعات الإسلامية، هذا هو الذي يكفر، أكثر الذين عندهم تقصيرٌ في الصلاة يصلون أحيانًا، يصلي مثلًا الجمعة، يصلي في رمضان، يصلي أحيانًا وقتًا ويترك أوقاتًا، فهؤلاء القول الراجح أنهم لا يكفرون؛ وإنما يكونون فسَّاقًا، ويكونون من الساهين الذين توعدهم الله بالويل في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، بعض طلبة العلم يقول: ينبغي أن نقول في هؤلاء بالكفر؛ حتى يرتدعوا، فنقول: هذا ليس مبررًا للترجيح، المسألة ترجع للأدلة، أما مثل هذه العواطف؛ فلا أثر لها في الترجيح ولا في التحقيق، نحن ننظر للأدلة، هل دلت الأدلة على أن من يصلي أحيانًا ويترك الصلاة أحيانًا كافرٌ؟

نقول: الأدلة لم تدل على هذا، إنما دلت على أن من تركها بالكلية، هذا هو الذي يكون كافرًا، أما من كان يصلي أحيانًا ويترك الصلاة أحيانًا، فإنه يكون من الساهين الذين توعدهم الله بالويل في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5].

ونقف عند أركان الصلاة.

نكتفي بهذا القدر في التعليق على “السلسبيل”.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والآن نجيب عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: هل فعل ما فعله الخلفاء الراشدون سنةٌ وترك ما تركوه؟

الجواب: النبي يقول: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ [36]، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالْتزام سنة الخلفاء الراشدين؛ فعلى ذلك: الْتزامهم من التزام السنة: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، ولأن ما يفعله الخلفاء الراشدون في الغالب أنه يشتهر؛ فيكون كالإجماع من الصحابة ؛ فمثلًا: الأذان الأول يوم الجمعة -الذي زاده عثمان- هذا من سنة الخلفاء الراشدين؛ لأن عثمان فعله، وأقره الصحابة على ذلك، وأجمع عليه المسلمون إجماعًا عمليًّا جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ، فيكون هذا من سنة الخلفاء الراشدين.

السؤال: إذا ثبت قولٌ للجمهور يخالف ما صح عن النبي أيهما نقدم؟

الجواب: ليس بالضرورة أن يكون قول الجمهور هو الراجح، فقد يكون الراجح خلاف قول الجمهور؛ فإن الأكثرية ليست بدليلٍ على الحق، والله تعالى يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، فالأكثرية ليست مُعَوَّلًا للترجيح، وإنما الذي يُعتمد عليه هو الإجماع، إذا حصل إجماعٌ؛ فليس للإنسان أن يخالف هذا الإجماع، أما إذا كانت المسألة ليست إجماعًا؛ فيبقى النظر في قوة الدليل، والآن كثيرٌ من المسائل الفتوى فيها على خلاف قول الجمهور.

على سبيل المثال: الطلاق المُعلَّق، إذا قال رجلٌ لزوجته: إن فعلتِ كذا فأنت طالقٌ، وهو لا ينوي طلاقها، إنما يُريد تهديدها، أو يريد حثًّا أو منعًا، أو تصديقًا أو تكذيبًا، فالجمهور والمذاهب الأربعة على أن الطلاق يقع، لكن الذي عليه الفتوى في العالم الإسلامي هو رأي ابن تيمية رحمه الله، وهو أنه إذا لم ينوِ الطلاق؛ فلا يقع طلاقًا، وإنما يجري مجرى اليمين، ويكون عليه كفارة يمينٍ.

فإذنْ المفتَى به، والمرجح في أكثر بلدان العالم الإسلامي: هو أن الطلاق لا يقع، مع أنه خلاف قول الجمهور؛ إذنْ ليس بالضرورة أن يكون قول الجمهور هو الراجح.

السؤال: إذا اختلف رجلان في القِبلة، واختلفا في الجهة، أَلَا يمكن النظر إلى مقاصد الشريعة في الجماعة، فيكون يصلي كل منهما بحسب الآخر؛ كخلاف المسائل الاجتهادية؟

الجواب: لا، إذا كان كل منهما يعتقد خطأ الآخر؛ فليس له أن يتابعه، هذا يعتقد أن القِبلة غربًا، والآخر يعتقد أنها شمالًا، كيف يتبع هذا ذاك؟ فكل منهما يصلي بحسب اجتهاده، أما أن نقول: أننا ننظر مقاصد الشريعة، وأحدهما يتبع الآخر، ويعتقد خطأه؛ فهذا لا يستقيم، هذا مخالف للأدلة.

السؤال: هل ارتداء الكمامة يُعتبر محظورًا من محظورات الإحرام؟

الجواب: أما بالنسبة للرجل فيجوز للمحرم أن يلبس الكمامة؛ وذلك لأن لبس الكمامة غاية ما فيه أنه تغطية للوجه، والمحرم ليس ممنوعًا من تغطية وجهه على القول الراجح؛ لأنه ليس هناك دليلٌ يدل على منع المحرم من تغطية وجهه، وإنما دل الدليل على أن المحرم ممنوعٌ من تغطية رأسه فقط، وأما رواية: لا تُخَمِّروا رأسه ولا وجهه [37]، فالمحفوظ الاقتصار على الرأس: لا تخمروا رأسه، وأما زيادة: ولا وجهه، فشاذةٌ، هذا بالنسبة للرجل، فالرجل يجوز له أن يلبس الكمامة إذا كان محرمًا.

أما المرأة ففيه تفصيلٌ؛ فإذا كانت الكمامة تغطي معظم الوجه بحيث تشبه النقاب، ولا يبدو سوى العينين؛ فهذه حكمها حكم النقاب، والمرأة المحرمة ممنوعةٌ من لبس النقاب، أما إذا كانت الكمامة تغطي فقط الفم والأنف، فهذه لا تشبه النقاب، ولا بأس بها للمرأة المحرمة.

السؤال: هل يجوز لي إذا صليت في المسجد أن أرجع للبيت ثم أصلي بوالدي؛ لأنه يصلي في البيت خوفًا من (كورونا)؟

الجواب: نعم، لا بأس بهذا، وهذا قد فعله معاذٌ ، كان يصلي مع النبي صلاة العشاء، ثم يرجع ويصلي بقومه نافلةً [38]، فأنت تصلي مع الجماعة في المسجد الفريضة، ثم ترجع وتصلي بوالدك نافلةً.

السؤال: حكم صلاة النافلة في السيارة داخل المدينة؟

الجواب: نقول: إذا كان في السيارة فإنه لن يستطيع أن يستقبل القبلة، ولا أن يأتي بالركوع والسجود، وإنما وردت النافلة على الراحلة في السفر فقط، أما في الحضر فلم يرد ذلك، والأصل في العبادات التوقيف؛ وعلى ذلك: ليس له أن يصلي النافلة في السيارة في الحضر، إلا في حالةٍ واحدةٍ، وهي: أن تكون السيارة كبيرةً، ويستطيع أن يستقبل القبلة، وأن يأتي بالركوع والسجود؛ كأن تكون حافلةً كبيرةً يستطيع أن يستقبل معها القبلة، وأن يصلي الصلاة بأركانها وواجباتها، ويستطيع أن يركع وأن يسجد؛ فلا بأس.

أما السيارات التي لا يستطيع معها أن يستقبل القبلة، ولا أن يركع ولا أن يسجد؛ فليس له أن يصلي في السيارة، لا صلاة الفريضة، ولا صلاة النافلة في الحضر، إنما له أن يصلي صلاة النافلة وهو في السيارة في السفر خاصةً.

السؤال: أَدخُلُ المسجد أحيانًا وأصلي ركعتي تحية المسجد، ثم يبدو لي أن أُدخل نية صلاة الضحى بعد تكبيرة الإحرام، هل يصح ذلك؟

الجواب: إذا كان ذلك بعد تكبيرة الإحرام مباشرةً؛ فلا بأس، نحن قلنا: إن النية المقارِنة لتكبيرة الإحرام أو قبلها بيسيرٍ، أو بعدها مباشرةً في صلاة النافلة، الأمر فيها واسعٌ.

السؤال: كيف التوفيق بين القول بأن آكد شروط الصلاة الوقت، والقول بأن الطهارة تُقَدَّم على الوقت للجُنُب مثلًا إذا استيقظ قُبَيل طلوع الشمس؟

الجواب: الوقت هو آكد شروط الصلاة -من حيث الأصل- في الجملة، ولكن من استيقظ قُبَيل طلوع الشمس وهو جنبٌ؛ فعليه أن يغتسل، كيف يتيمم والماء موجودٌ؟ والله تعالى يقول: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، الماء موجودٌ، فأكثر أهل العلم على أنه لا بد أن يغتسل، ولا بد أن يتوضأ إذا لم يكن جنبًا، وكان محدِثًا حدثًا أصغر، لا بد أن يتوضأ؛ لأن الماء موجودٌ، ولا يصار للتيمم مع وجود الماء.

السؤال:…؟

الجواب: نحن ذكرنا الخلاف، ثم قلنا: الراجح أنها تصح، قلنا: إن هذا الشرط لا دليل عليه، وأن الصواب هو صحة الصلاة.

نسأل الله التوفيق.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه الترمذي: 342، وابن ماجه: 1011.
^2 رواه البخاري: 401، ومسلم: 572.
^3 رواه البيهقي في السنن الكبرى: 2241.
^4 رواه البخاري: 325، ومسلم: 334.
^5 رواه البخاري: 1916، ومسلم: 1090.
^6 رواه البخاري: 757، ومسلم: 397.
^7 رواه البخاري: 1098، ومسلم: 700.
^8 رواه البخاري: 1000، ومسلم: 700.
^9 رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
^10, ^26, ^33, ^34 سبق تخريجه.
^11 رواه البخاري: 924، ومسلم: 761.
^12 رواه البخاري: 705، ومسلم: 465.
^13 رواه البخاري: 349، ومسلم: 163.
^14 رواه البخاري: 527، ومسلم: 85.
^15 رواه مسلم: 223.
^16 رواه أبو داود: 866، وابن ماجه: 1426، وأحمد: 16954.
^17 رواه مسلم: 233.
^18 رواه البخاري: 528، ومسلم: 667.
^19 رواه مسلم: 121.
^20 رواه أبو داود: 4403.
^21 رواه البخاري: 304، ومسلم: 79، 80.
^22 رواه مسلم: 335.
^23 رواه البخاري: 707.
^24, ^27 رواه أبو داود: 495، وأحمد: 6756.
^25 رواه مسلم: 1336.
^28 رواه أبو داود: 1420، وابن ماجه: 1401، والنسائي: 461.
^29 رواه ابن ماجه: 4049، والحاكم في المستدرك: 8460.
^30 رواه مسلم: 82.
^31 رواه الترمذي: 2621، وابن ماجه: 1079، والنسائي: 463، وأحمد: 22937، وقال الترمذي: حسن صحيح.
^32 رواه أبو داود: 430، وابن ماجه: 1403.
^35 رواه أحمد: 20287، بنحوه.
^36 رواه أبو داود: 4607، والترمذي: 2676، وابن ماجه: 42، وأحمد: 17144، وقال الترمذي: حسن صحيح.
^37 رواه مسلم: 1206.
^38 رواه البخاري: 701، ومسلم: 465.
zh