logo

(12) من: شروط الصلاة الشرط السادس

مشاهدة من الموقع

ننتقل بعد ذلك إلى التعليق على “السلسبيل شرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى الشرط السادس من شروط صحة الصلاة، وهو: ستر العورة.

ستر العورة في الصلاة

قال المؤلف رحمه الله:

السادس: ستر العورة -مع القدرة- بشيءٍ لا يصف البشرة.

ستر العورة -لمن قدر على اللباس- شرطٌ من شروط صحة الصلاة في قول جمهور الفقهاء، وقد حكى ابن عبدالبر الإجماع على ذلك، وعلى أن صلاة من صلى عريانًا وهو قادرٌ على الاستتار أن صلاته باطلةٌ؛ ويدل لذلك قول الله ​​​​​​​: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، وهذا يتضمن الأمر بستر العورة.

الفرق بين العورة في النظر، والعورة في الصلاة

“العورة”: تُطلق في اللغة على معانٍ؛ منها: الشيء المستقبَح، والسَّوءة، وتطلق على كل ما يَحرم كشفه، ومن إطلاقها على السوءة: قول الله عن آدم وحواء عليهما السلام: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [طه:121]، يعني: بدت لهما عوراتهما، فإن الشيطان لما غرَّهما، مع أن الله تعالى حذرهما من الأكل من هذه الشجرة، وحذرهما من الاغترار بالشيطان، ومع ذلك غرهما عدو الله الشيطان، وأقسم لهما بالله إنه لهما لمن الناصحين؛ فأكلا من الشجرة، فلما أكلا منها -سبحان الله! انظر إلى شؤم المعصية- طار عنهما لباس الجنة، فانكشفت سوءاتهما -يعني عوراتهما- وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، أخذا من ورق الجنة يريدان تغطية العورة؛ وهذا يدلُّ على أن الحياء من كشف العورة أمرٌ مركوزٌ في الفِطَر: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:22]، ثم تاب الله تعالى عليهما، وقال: اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38]، يعني: أنت يا آدم وحواء والشيطان، اهبطوا جميعًا إلى الأرض؛ فإذنْ العورة تطلق على السوءة.

ومعنى العورة في الشرع: ما يجب ستره في الصلاة، وما يحرم النظر إليه، وهو -بهذا التعريف- يشمل عورة النظر، والعورة في الصلاة، وبينهما فرقٌ، لا بد من التفريق بين عورة النظر، والعورة في الصلاة؛ عورة النظر المقصود منها: ما يحرم كشفه أمام من لا يَحل النظر إليه، وليست مرتبطةً بالصلاة.

أما العورة في الصلاة: فهي ستر ما يجب ستره في الصلاة، وقد يجب ستر شيءٍ في الصلاة، ولا يجب ستره في غير الصلاة؛ فمثلًا: المرأة لو صلت في بيتها أمام زوجها وأولادها، هل يجب عليها أن تستر شعرها في الصلاة؟ نعم، يجب بالإجماع، مع أن شعرها ليس بعورةٍ أمام زوجها وأولادها، ليس بعورةٍ، ومع ذلك يجب عليها أن تستر شعرها في الصلاة؛ لأن هذا الستر إنما هو لحق الله ، وقد يبدي المصلي في الصلاة ما يستره في غير الصلاة، مثل الوجه بالنسبة للمرأة إذا لم تكن بحضرة رجالٍ أجانب، وليس لها أن تبدي وجهها للرجال الأجانب، لكن يشرع لها أن تكشف وجهها في الصلاة.

فإذنْ هناك فرقٌ بين عورة النظر، والعورة في الصلاة؛ فليس بينهما ارتباطٌ.

ضابط الثوب الساتر

بشيءٍ لا يَصِف البشرة.

هذا ضابط الثوب الساتر، وهو ألا يصف لون البشرة؛ من سوادٍ أو بياضٍ أو حمرةٍ أو غير ذلك، فإذا كان الساتر يصف لون البشرة؛ فإنه لا تصح الصلاة فيه؛ وبناءً على ذلك: الذين يلبسون ملابس تحتها سراويل رقيقةٌ قصيرةٌ، يلبسون الثياب الرقيقة التي تحتها سراويل قصيرةٌ، فيبدو شيءٌ من العورة، تبدو أفخاذهم، فهؤلاء لا تصح صلاتهم، هذا يقع فيه بعض الناس، يلبس ثوبًا رقيقًا، وسروالًا قصيرًا، فيبدو الفخذ، أو أكثر الفخذ، فهذا لا تصح معه الصلاة، ولكن هنا ينبغي أن نفرق بين كونه يصف لون البشرة وبين ظهور الحد؛ فظهور الحد لا يضر، يعني: ظهور حد مثلًا السراويل لا يضر، لكن إذا كان يصف لون البشرة؛ من حمرةٍ أو صفرةٍ أو نحو ذلك؛ فهذا هو الذي لا يكون ساترًا، ويكون من فعل ذلك أخل بشرطٍ من شروط صحة الصلاة، وهو ستر العورة.

هناك أخذ الزينة، وهو قدرٌ زائدٌ على ستر العورة: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، ليس المقصود بقوله: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ: المسجد الذي تصلي فيه الجمعة والجماعة، ولكن المقصود به: عند كل صلاةٍ، فالمسجد يعني: موضع السجود، والمراد: عند كل صلاةٍ، فيكون معنى الآية: خذوا زينتكم عند كل صلاةٍ، فالمسلم مأمورٌ بأخذ الزينة في صلاته لحق الله ، وليس لأجل نظر الناس؛ ولهذا لو صلى في بيته وحده؛ فيشرع له أن يلبس أحسن ملابسه، مثلًا إذا أردت أن تصلي صلاة الوتر في البيت، أو تصلى ركعتي الضحى؛ فينبغي أن تلبس أحسن ملابسك، لا تصلي في ملابس البيت، أو ملابس النوم، وهكذا أيضًا يقال بالنسبة للمرأة المسلمة: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، ولما رأى ابن عمر رضي الله عنهما غلامه نافعًا يصلي وهو حاسر الرأس؛ قال: “أرأيت لو خرجت إلى السوق، أكنت تخرج هكذا؟” قال: لا، قال: “فالله أحق أن يُتزين له”، فأخذ الزينة في الصلاة إنما هو لحق الله ، وليس لأجل نظر الناس.

حدود العورة

ثم انتقل المؤلف رحمه الله لبيان حد العورة فقال:

فعورة الذكرِ البالغ عشرًا، والحرةِ المميزة، والأمةِ ولو مبعَّضةً: ما بين السرة والركبة.

فذكر المؤلف هنا ثلاث عوراتٍ:

  • العورة الأولى: عورة الذكر البالغ عشر سنواتٍ، ليس المقصود: البالغ البلوغ الشرعي، يعني: الذكر الذي عمره عشر سنواتٍ، الصبي الذي عمره عشر سنواتٍ فأكثر، فعورته ما بين السرة إلى الركبة.
  • والثاني: عورة المرأة الحرة المميزة، يعني: التي بلغت سبع سنين فأكثر، عورتها أيضًا ما بين السرة إلى الركبة، طبعًا هذا كله في الصلاة.
  • والثالثة: يقول: عورة الأمة المملوكة الرقيقة، ولو كانت مبعَّضة، يعني: بعضها حرٌّ وبعضها رقيقٌ، أيضًا ما بين السرة إلى الركبة، وهذه -إن شاء الله- سنتكلم عنها، يعني: هل عورة الأمة ما بين السرة إلى الركبة، أو أن الراجح خلاف ما ذكره المؤلف؟

عورة الرجل في الصلاة

أما عورة الرجل في الصلاة ففيها ثلاثة أقوالٍ:

  • القول الأول: أن عورته ما بين السرة إلى الركبة، مع دخول السرة والركبة، وهذا قولٌ عند المالكية، ووجهٌ عند الشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة.
  • القول الثاني: أن العورة ما بين السرة إلى الركبة، مع عدم دخول السرة والركبة، هذا هو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة.
  • والقول الثالث: أن العورة من السرة إلى الركبة، مع دخول الركبة وعدم دخول السرة، هذا مذهب الحنفية، والأحاديث المروية في ذلك كلها لا تخلو من مقالٍ، ولكن الاستدلال إنما هو بمجموعها، فهناك أدلةٌ تدل على أن ما تحت السرة وفوق الركبة عورةٌ؛ كحديث أبي أيوب : ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل من السرة من العورة [1]، أخرجه الدارقطني، لكنه ضعيفٌ، وأيضًا لحديث عليٍّ : الركبة من العورة [2]، وهو ضعيفٌ أيضًا، وحديث: ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل من السرة من العورة، هو أيضًا ضعيفٌ، هذه كلها أحاديث ضعيفةٌ، لكن هناك أحاديث تدل على أن الفخذ عورةٌ؛ منها حديث جَرْهَدٍ : غطِّ فخذك؛ فإن الفخذ عورةٌ [3]، وهذا أخرجه البخاري في “صحيحه” معلِّقًا له بصيغة الجزم، وإن كان سنده فيه مقالٌ، لكن البخاري علقه بصيغة الجزم، فمجموع هذه الأدلة مع قول الله : يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، يدل على أن ما بين السرة إلى الركبة عورةٌ.

والقول الراجح: هو القول الأول، وهو أن العورة في الصلاة بالنسبة للرجل: ما بين السرة إلى الركبة، مع دخول السرة والركبة في العورة؛ ولهذا الإمام ابن تيمية رحمه الله يقول: “أما صلاة الرجل بادي الفخذين مع القدرة على الإزار فهذا لا يجوز”، قال: “ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلافٌ، ومن بنى ذلك على الروايتين في العورة -كما فعله طائفةٌ- فقد غلطوا، ولم يقل بذلك أحمد ولا غيره، وكيف يناجي المسلم ربه”، هذا لا زال من كلام ابن تيمية، مع أن في كتاب “السلسبيل” يوحي بأن كلام ابن تيمية انتهى، لكن هذا من كلام ابن تيمية: “وكيف يناجي المسلم ربه وهو بادي الفخذين ولم يستر سوى السوأتين؟!” يعني: هذا لا يمكن، إنسانٌ يناجي ربه ولم يستر سوى السوأتين؟! والله يقول: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فالفخذ في الصلاة عورةٌ ويجب ستره، أما خارج الصلاة فمحل خلافٍ، لكن في الصلاة الفخذ عورةٌ، وكما قال ابن تيمية رحمه الله: “لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلافٌ”، يعني: هل يعقل أن يقال بأن الرجل يصلي وما ستر فقط إلا العورة المغلظة؟! وهو يناجي ربه، وما ستر إلا العورة المغلظة فقط، والله تعالى يقول: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ؟! يعني: من نظر إلى مجموع الأدلة في الشريعة؛ يتبين له ضعف هذا القول، وأن العورة في الصلاة ما بين السرة إلى الركبة، مع دخول السرة والركبة فيهما، ومن أراد مزيدًا من التوسع في هذه المسائل؛ فقد بينته في كتابي “أحكام اللباس المتعلقة بالصلاة والحج”، وهو كتابٌ مطبوعٌ، وخَلَصْتُ إلى ترجيح هذا القول، وهو أن عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة، مع دخول السرة والركبة فيهما.

عورة الأَمَة

أما ما ذكره المؤلف من عورة الأمة، هذا وعدت بالحديث عنه، وأن عورة الأمة من السرة إلى الركبة، فهذا القول قولٌ ضعيفٌ؛ لأنه يترتب عليه: لو أن الأمة سترت ما بين السرة إلى الركبة وقد بدا أثداؤها وشعرها وساقاها فصلاتها صحيحة، هذا القول قولٌ ضعيفٌ؛ ولذلك الصواب: أنه لا فرق بين الأمة والحرة في العورة، وكما قال أبو محمد بن حزمٍ رحمه الله: “إن دين الله واحدٌ، والخِلقة والطبيعة واحدةٌ، كل ذلك في الحرائر والإماء سواءٌ”، يعني: ما الفرق بين الحرة والأمة؟ هذه امرأةٌ وهذه امرأةٌ، لا فرق بينهما، فالصواب إذنْ: أن الأمة كالمرأة الحرة في العورة في الصلاة.

عورة ابن سبعٍ إلى عشرٍ

وعورة ابن سبعٍ إلى عشرٍ: الفرجان.

يعني: الذكر الصغير ما بين سبعٍ إلى عشر سنواتٍ، عورته فقط: الفرجان، وهما القُبُل والدُّبُر، فلو صلى وقد ستر قُبُله ودُبُره؛ صحت صلاته؛ لأنه صبيٌّ.

عورة المرأة في الصلاة

ثم انتقل بعد ذلك المؤلف للكلام عن عورة المرأة في الصلاة فقال:

والحرة البالغة كلها عورةٌ في الصلاة إلا وجهها.

يعني: أن عورة المرأة الحرة في الصلاة جميع بدنِها إلا الوجه، وكذلك الكفان في قولٍ، سنذكر الخلاف بعد قليلٍ، لكن الآن نُبيِّن عبارة المؤلف، المؤلف يقول: إن عورة المرأة الحرة في الصلاة يعني جميع بدن المرأة ما عدا الوجه، وقد حُكي الإجماع على أن وجه المرأة ليس بعورةٍ في الصلاة.

قال الموفق بن قدامة: لا نعلم فيه خلافًا، بل إن المرأة يشرع لها أن تكشف وجهها في الصلاة، إلا أن تكون في حضرة رجالٍ أجانب، وأما الكفان والقدمان، هل يجب سترهما في الصلاة بالنسبة للمرأة؟

اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوالٍ:

  • القول الأول: أنه يستحب تغطية الكفين والقدمين في الصلاة ولا يجب، هذا هو المذهب عند الحنفية.
  • والقول الثاني: أنه يجب ستر القدمين، وأما الكفان فلا يجب؛ وإنما يستحب، وهذا قول المالكية والشافعية والحنابلة على الصحيح من المذهب.
  • والقول الثالث: أنه يجب ستر الكفين والقدمين في الصلاة، وهو روايةٌ عند الحنابلة.

والقول الراجح والله أعلم: هو القول الأول، وهو أنه يستحب ستر الكفين والقدمين في الصلاة، وهذا اختيار جمعٍ من المحققين من أهل العلم؛ كأبي العباس ابن تيمية رحمه الله؛ وذلك لأنه لم يرد في السنة دليلٌ يدل على وجوب ستر الكفين والقدمين في الصلاة، وغاية ما استدل به مَن رأى الوجوب حديث: المرأة عورةٌ [4]، وليس نصًّا في المسألة.

وأما القدمان فاستُدِلَّ لوجوبهما بحديث أم سلمة رضي الله عنها: تصلي المرأة في درعٍ وخمارٍ ليس عليها إزارٌ؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم، إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها [5]، لكن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ، أخرجه أبو داود وأشار إلى وقفه على أم سلمة رضي الله عنها.

إذنْ لا يثبت في المسألة شيءٌ يدل على وجوب ستر الكفين والقدمين في الصلاة، قال ابن تيمية رحمه الله: “النساء على عهد النبي إنما كان لهن قُمُصٌ، وكن يصنعن الصنائع والقُمُص عليهن، فتبدي المرأة يديها إذا عجنت وطحنت وخبزت، ولو كان ستر اليدين في الصلاة واجبًا؛ لبينه النبي ، وكذلك القدمان”.

وعلى هذا: فالمرأة في الصلاة يجب عليها أن تستر جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين والقدمين، لكن يستحب أن تستر كفيها وقدميها في الصلاة ولا يجب على القول الراجح.

ستر العاتقين في الصلاة

وشُرِط في فرض الرجل البالغ ستر أحد عاتقيه بشيءٍ من اللباس.

أي: يجب على الرجل البالغ أن يغطي أحد عاتقيه منه بشيءٍ من اللباس؛ لقول النبي : لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه [6] -وفي لفظ: عاتقيهمنه شيءٌ [7].

وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوالٍ:

  • القول الأول: أن تغطية العاتق في الصلاة واجبةٌ، وهذا هو المذهب عند الحنابلة على خلافٍ بينهم؛ هل هذا الوجوب يعني الشرطية، أو يعني الوجوب من غير شرطٍ؟
  • والقول الثاني: أن ستر العاتق في الصلاة مستحبٌّ وليس واجبًا، وهذا قول الجمهور؛ الحنفية والمالكية والشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة.
  • والقول الثالث: هو التفريق بين الثوب الواسع والثوب الضيق؛ فإن كان الثوب واسعًا؛ فيجب على المصلي أن يضع شيئًا منه على عاتقه، وإذا كان ضيقًا فلا يجب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام؛ كما في حديث جابرٍ : إذا كان واسعًا فالْتَحِفْ به، وإذا كان ضيقًا فاتَّزِرْ به [8].

والراجح والله أعلم: هو القول الثالث؛ لأنه هو الذي تجتمع به الأدلة، وحديث جابرٍ  نصٌّ في المسألة: إذا كان الثوب واسعًا فالتحف به، وإذا كان ضيقًا فاتزر به، كيف يكون الثوب واحدًا؟ كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كثيرٌ من الصحابة فقراء، فكان الواحد منهم ليس عنده إلا ثوبٌ واحدٌ، كما قال جابرٌ : «أيُّنا كان له ثوبان على عهد رسول الله ؟! يكون عليه إزارٌ فقط، ما عنده رداءٌ، يقول: أينا كان له ثوبان؟! كان كثيرٌ منهم فقراء، فالآن قد مَنَّ الله ​​​​​​​ على الناس بأنواع اللباس، وتيسرت الأمور، فمع تيسر اللباس نقول: يجب ستر العاتق؛ لأن النبي أمر به، والأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب.

والأظهر والله أعلم: أنه يكفي ستر عاتقٍ واحدٍ؛ لأن هذا هو ظاهر الحديث؛ ولأن أكثر أهل العلم لا يرون أصلًا الوجوب، هذه المسألة تَرِد أكثر ما ترد بالنسبة للمحرم، المحرم عندما يطوف ويريد أن يصلي ركعتين بعد الطواف، أو حتى تقام الصلاة، مثلًا يريد أن يصلي الفريضة وهو محرمٌ، فبعض الناس يخلع الرداء ويصلي فقط في إزارٍ، ترد هذه المسألة، فعلى قول من قال: إنه يجب عليه أن يستر عاتقه في الصلاة، وأن هذا شرطٌ لصحة الصلاة؛ لا تصح صلاته؛ ولذلك فينبغي التنبه والتنبيه على هذه المسألة، وهي: أن المحرم إذا أراد أن يصلي؛ فينبغي أن يستر عاتقيه في الصلاة؛ لأن النبي قال: لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيءٌ.

الصلاة في الثوب المغصوب والحرير

ثم قال المؤلف رحمه الله:

ومن صلى في مغصوبٍ أو حريرٍ، عالمًا ذاكرًا، لم تصح.

من صلى في ثوبٍ مغصوبٍ أو ثوبٍ حريرٍ وكان رجلًا -لأن الحرير مباحٌ للنساء، لكن إذا كان رجلًا- وهو عالمٌ بذلك، ذاكرٌ غير ناسٍ؛ لم تصح صلاته على المذهب، وهذا هو المذهب عند الحنابلة؛ قالوا: لأن الشرع قد نهى عن الغصب، وعن لبس الحرير للرجال؛ والنهي يقتضي الفساد.

وذهب أكثر أهل العلم إلى صحة الصلاة في الثوب المغصوب وثوب الحرير مع الإثم؛ وعللوا لذلك، قالوا: لأن هذه صلاةٌ مكتملة الأركان والشروط والواجبات، ولكن المصلي قد ارتكب أمرًا محرمًا بصلاته في ثوبٍ مغصوبٍ أو في حريرٍ، فالصلاة صحيحةٌ، ويأثم بالغصب، أو بكونه صلى في ثوبِ حريرٍ، وهذا هو القول الراجح؛ لأن النهي في هذه الأمور لا يعود لشرطٍ من شروط صحة الصلاة؛ وإنما لمعنًى آخر، وهو كون الثوب مغصوبًا أو حريرًا، فكما يقول الأصوليون: الجهة منفَكَّةٌ.

ويصلي عريانًا مع غصبٍ.

يعني: من لم يجد إلا ثوبًا مغصوبًا لم يلبسه، وإنما يصلي عاريًا؛ لأنه يحرم استعمال الثوب المغصوب بكل حالٍ، ولأن تحريمه لحق آدميٍّ فيكون معذورًا بالصلاة عاريًا.

وفي حريرٍ لعدمٍ، ولا يعيد.

يعني: إذا لم يجد إلا ثوب حريرٍ فإنه يصلي به؛ لأنه مأذونٌ في لبسه في بعض الأحوال؛ كالحرب والحكة، ونحو ذلك، فتباح الصلاة فيه للضرورة، ولا يجب عليه إعادة الصلاة.

حكم الصلاة في ثوبٍ نجسٍ؛ لعدم وجود غيره

وفي نجسٍ لعدمٍ، ويعيد.

يعني: من صلى في ثوبٍ نجسٍ؛ لعدم غيره من الثياب، مع عدم قدرته على تطهير الثوب المتنجس، فيصلي به؛ لأن ستر العورة آكد من إزالة النجاسة.

والقول الثاني في المسألة: أن من صلى بثوبٍ نجسٍ؛ لفقد غيره، لم تجب عليه إعادة الصلاة، وهذا روايةٌ عند الحنابلة؛ أنه قد أدى ما عليه، والله تعالى يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ولأن اجتناب النجاسة واجبٌ، والواجبات تسقط بالعجز عنها.

فالراجح إذنْ: أن من صلى بثوبٍ نجسٍ؛ لفقد غيره، أنه لم يجب عليه إعادة الصلاة، هذا هو القول الراجح، وكذلك أيضًا في مسألة أنه يصلي عريانًا مع الغصب، يعني: المسألة فيها قولٌ آخر، وهو أنه يصلي في الثوب المغصوب مع الإثم، ولا يصلي عاريًا، وهذا هو الأقرب، ولا يعيد، ولا تلزمه الإعادة على القول الراجح.

حكم لبس الرجال ما نُسج بالذهب أو الفضة

ويحرمُ على الذكور -لا الإناث- لُبْس منسوجٍ ومُمَوَّهٍ بذهبٍ أو فضةٍ.

يحرم على الرجال لبس ما نُسج أو طُلي بذهبٍ أو فضةٍ؛ لقول النبي : حُرِّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثها [9]، أخرجه الترمذي وأحمد، وهذا الحكم مجمَعٌ عليه، لكن يجوز اليسير من الذهب للرجال؛ للقصة التي في “صحيح البخاري” عن ابن أبي مُلَيكة أن النبي أُهديت له أقبيةٌ من دباجٍ مُزَرَّرَةٌ بالذهب، فقسَمها في ناسٍ من أصحابه، وعزل منها واحدًا لمَخرمة بن نوفلٍ، وكان مخرمة في خُلُقه حدةٌ، فجاء ومعه ابنه المِسْور بن مخرمة، فقام عند الباب فقال: ادعه لي، انظر إلى الأسلوب أيضًا! أسلوبٌ جافٌّ، ادْعُهُ لي، وهو رسول الله ! ما هذا الأسلوب؟! ما هذا الجفاء؟! ما هذه الصلافة؟! فسمع النبي صوته، فأخذ قَبَاءً فتلقاه به، واستقبله بأزراره، فقال: يا أبا المسور، خَبَأت لك هذا قال: وكان في خُلُقه شدةٌ [10].

فالنبي عليه الصلاة والسلام قسم هذه الأقبية على أصحابه، وأزِرَّتُها من ذهبٍ، وهذا يدل على جواز لبس اليسير من الذهب للرجال، يعني: النبي عليه الصلاة والسلام -انظر أيضًا- عنده فراسةٌ ومعرفةٌ بالناس، لما قسم هذه الأقبية؛ عرف أن رجلًا عنده حِدَّةٌ لن يتركه، وفعلًا أتاه هذا ومعه ابنه، وناداه بصلافةٍ: ادعه لي، فالنبي عليه الصلاة والسلام أتى مباشرةً يتلطفه: يا أبا المسور، خَبَأت لك هذا، فهذا يدل على أنه ينبغي مداراة من كان في خُلُقه شدةٌ، ومن كان عنده حدةٌ وصلافةٌ، هذه الطبقة الصعبة من المجتمع ينبغي مداراتها ما أمكن، والإعراض عنها أيضًا، يُعرض الإنسان عنها، لكن أحيانًا لا يستطيع أن يعرض، مثل هذا الموقف لا يستطيع الإعراض، فهنا يداريه، يتلطَّف معه، فانظر كيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع هذا الرجل؟! أولًا: لم يَنسه، كان حاضرًا في ذهن النبي عليه الصلاة والسلام، وتوقع أنه سيأتيه، وأنه لن يفوت مثل هذا الموقف؛ أن الأقبية توزع على الناس ولا يعطى منها! لن يُفوت هذا الرجل هذا الموقف؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام احتاط وخبأ له هذا القَبَاء، ثم تلطف معه في العبارة، وكناه: يا أبا المسور، خَبَأت لك هذا، انظر كيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع هذا الرجل!

أيضًا الفضة: يجوز للرجال لبس الخاتم من الفضة؛ لأن النبي كان خاتمة من الفضة [11].

وأيضًا غير الفضة: يعني كالحديد مثلًا والنحاس، من باب أولى أنه يجوز للرجال، إذنْ يجوز للرجال التختم بخاتم الفضة، وبخاتم الحديد، وبخاتم النحاس، وبخاتم الماس، بجميع أنواع الخواتم، إلا خاتم الذهب، لا يجوز.

لكن هل لبس الرجل للخاتم هل هو سنةٌ؟ الجواب: لا، ليس بسنةٍ هو مباحٌ، إلا إذا كان محتاجًا إلى لبسه؛ فإن النبي إنما لبس الخاتم للحاجة إلى لبسه؛ لأنه لما أراد أن يكتب كتبًا إلى ملوك ورؤساء العالم قيل: إنهم لا يقبلون كتابًا إلا مختومة، فاتخذ النبي عليه الصلاة والسلام خاتمًا، ونقش عليه: “محمدٌ رسول الله” [12]، “محمد” سطرٌ، “رسول” سطرٌ، ولفظ الجلالة “الله” سطرٌ، كان عليه الصلاة والسلام يلبس هذا الخاتم للحاجة؛ ولهذا جعل فَصَّه إلى باطن كفه، لو كان عليه الصلاة والسلام اتخذ الخاتم للزينة لجعل فَصَّه إلى ظهر الكف، لكن جعل فَصَّه إلى باطن الكف؛ إشارةً إلى أنه إنما لبسه للحاجة وليس للزينة، فمن لبسه للحاجة؛ كأن يكون مثلًا ختمه، بعض المكفوفين يكون ختمه في خاتمة، فيلبس الخاتم لأجل ذلك، فيكون مستحبًّا في حقه، سنةً في حقه، لكن إذا كان ليس لحاجةٍ؛ كما هو حال أكثر الناس اليوم، يريد أن يلبس الخاتم للزينة، فيبقى مباحًا، لا يقال: إنه سنةٌ، وإنما هو مباحٌ، بشرط ألا يكون من ذهبٍ.

وقول المؤلف: “لا الإناث”، يعني: أن لبس الذهب والفضة للنساء مباحٌ، وهذا بالإجماع.

حكم لبس الحرير للرجال

ولبس ما كلُّه أو غالبه حريرٌ.

يحرم على الرجال لبس الحرير الخالص، أو ما كان غالبه حريرًا، وهذا مجمعٌ عليه؛ لقول النبي : لا تلبسوا الحرير؛ فإنه من لبسه في الدنيا؛ لم يلبسه في الآخرة [13]، متفقٌ عليه، ولكن هنا نُنَبِّه إلى أن المقصود بالحرير: الحرير الطبيعي المستخرج من دود القَزِّ، وأما الحرير الصناعي، فلا بأس بلبسه للرجال؛ لأنه ليس حريرًا في الواقع، وإن سماه الناس حريرًا، هم يسمونه حريرًا لنعومته؛ تشبيهًا له بالحرير الطبيعي، فالحرير المحرم لُبسُه على الرجال إنما هو الحرير الطبيعي المستخرج من دود القز.

وقول المؤلف: “أو غالبه حريرٌ”، وكذا قوله: “ويباح ما سُدِّيَ بالحرير، وأُلْحِمَ بغيره، أو كان الحرير وغيره في الظهور سيان” يعني: إذا كان الغالب هو الحرير على اللباس؛ فيحرم على الرجال، ويُفهم من كلام المؤلف: أنه إذا لم يكن الغالب هو الحرير، وهو ما يسمى بالخَزِّ فيجوز، فالخز هو ثوبٌ من حريرٍ مخلوطٍ بغيره كالصوف، فيجوز لبسه بشرط أن يكون الحرير أقلَّ من غيره، أو مساويًا لغيره، ويدل لذلك حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي قال: إنما نهى عن الثوب المُصْمَت من الحرير، فأما العلم من الحرير وسَدَى الثوب فلا بأس به [14]، أخرجه أبو داود، والسَّدَى: هو ما نُسج طولًا، وأما ما نسج عرضًا فيسمى: لُحْمَةً.

قال أبو داود: عشرون نفسًا من أصحاب رسول الله أو أكثر لبسوا الخز، فالخز لبسه جائزٌ؛ لأن الحرير فيه أقل، أما إذا كان الحرير أكثر؛ فلا يجوز لبسه للرجال، إلا اليسير منه، في حدود أصبعين أو ثلاثةٍ أو أربعةٍ، كما جاء في حديث عمر .

فإذنْ: الذهب والحرير حرامٌ على الرجال إلا اليسير، وأما النساء فجائزٌ مطلقًا.

طهارة الثوب والبدن والمكان للصلاة

السابع: اجتناب النجاسة لبدنه وثوبه وبقعته مع القدرة.

يشير المؤلف بهذا إلى الطهارة من النجاسة في البدن وفي الثوب وفي البقعة، وأن هذا من شروط صحة الصلاة.

أما الطهارة من النجاسة في البدن: فيجب في قول أكثر أهل العلم، وقد بيَّن النبي أن التساهل فيها من أسباب عذاب القبر لمَّا مر بقبرين وقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبيرٍ، بلى إنه كبيرٌ، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله [15]، وفي لفظٍ: لا يستتر من البول [16]، وجاء أيضًا في حديث أبي هريرة : تنزَّهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه [17].

وأما الطهارة من النجاسة في اللباس: فهي أيضًا واجبةٌ في قول عامة أهل العلم، واستدل بعضهم بالآية الكريمة: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، على أن المقصود بها الطهارة الحسية والمعنوية، وأيضًا قول النبي في دم الحيض الذي يصيب الثوب: حُتِّيه، ثم اقرصيه بالماء، ثم انضحيه [18]، يعني: اغسليه.

إذنْ يجب على المصلي اجتناب النجاسة في بدنه وفي لباسه، وفي حكم اجتناب النجاسة في اللباس حمل النجاسة، حمل المصلي النجاسة؛ كمن حمل زجاجةً فيها بولٌ أو برازٌ للتحليل فصلى بها؛ فصلاته غير صحيحةٍ؛ لأنه حاملٌ للنجاسة أشبه ما لو صلى في الثوب النجس، إلا إذا نسي، وسيأتي الكلام عن النسيان، بعض الناس مثلًا يذهب للمستشفى فيُطلب منه التحليل، فيأتي بقارورةٍ، ويكون فيها البول أو البراز، ويضعه في جيبه وينساه ويصلي، صلاته غير صحيحةٍ، إلا إذا نسي، إذا كان ناسيًا؛ فالنسيان له حكمٌ آخر سيأتي بعد قليلٍ.

أما الطهارة من النجاسة في البقعة فهي واجبةٌ كذلك؛ لقول النبي في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد: أهريقوا على بوله سَجْلًا من ماءٍ [19]، وعلى ذلك لا تصح الصلاة في الحدائق التي تُسقى بمياه المجاري، إذا كان لمياه المجاري رائحة النجاسة أو لونها أو طعمها، أما إذا كانت مياه المجاري خاليةً من رائحة النجاسة، أو من لون النجاسة، أو من طعمها، فالأصل طهارتها، فمياه المجاري -مياه الصرف الصحي- إذا نُقِّيَت؛ أصبحت طاهرةً، لكن قبل تنقيتها، بحيث تظهر أثر النجاسة برائحتها أو بلونها أو على بعض الحدائق أو بعض الأماكن، لا تصح الصلاة على هذه الأماكن أو الحدائق، لكن يمكن إذا احتاج إلى الصلاة في هذه الأماكن أن يفرُش سجادةً ونحوها ويصلي عليها، وصلاته صحيحةٌ.

قال: “مع القدرة”، قوله: “مع القدرة”، يعني: شرط الطهارة من النجاسة في البدن واللباس والبقعة إنما يجب عند القدرة، فإذا عجز الإنسان عن ذلك؛ فيسقط هذا الشرط، كما يحصل هذا لبعض المرضى في المستشفيات ونحوها، فنقول: إذا عجز عن الطهارة يصلي على حسب حاله ولو كان نجسًا؛ لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ولقول النبي : ما أمرتكم فيه بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم [20].

كيفية صلاة السجين في مكانٍ نجسٍ

فإن حُبس ببقعةٍ نجسةٍ وصلى؛ صحَّت، ولكن يومئ بالنجاسة الرطبة غايةَ ما يمكنه، ويجلس على قدميه.

من حُبس في مكانٍ نجس لا يستطيع الخروج منه، فيصلي في هذه الحال، وصلاته صحيحةٌ؛ لأنه معذورٌ، ولا يعيد الصلاة؛ لكونه قد أدى ما عليه.

لكن المؤلف هنا ذكر أن النجاسة إن كانت رطبةً؛ فإنه يحتاط ما أمكن؛ حتى لا يتلوث بها، فيومئ بالسجود، ولا يضع جبهته على الأرض، ويجلس على قدميه؛ لأنه لو سجد لتلوث ثوبه ويداه وركبتاه وجبهته بالنجاسة، فيومئ بالسجود؛ تقليلًا للنجاسة.

وقال بعض أهل العلم: أنه يلزمه أن يُتم السجود فيضع جبهته على الأرض؛ لأن السجود ركنٌ من أركان الصلاة، وهو قادرٌ على الإتيان به، وهو معذورٌ بالسجود على النجاسة، لكنه ليس معذورًا بترك السجود، وهذا هو القول الراجح، هو الآن قد تلبس بالنجاسة، النجاسة موجودةٌ، فلا يؤثر كونه لم يسجد، والنجاسة الآن موجودة، هو يصلي في مكانٍ نجسٍ فالنجاسة موجودةٌ أصلًا، فكونه يُسقِط آكد أركان الصلاة (السجود) تقليلًا للنجاسة، هذا لا دليل عليه، النجاسة ما دامت الآن علقت به، وموجودةٌ، على الأقل يترك شرطًا واحدًا، وهو اجتناب النجاسة، ولا يتركُ شرطًا وركنًا، أما إذا كانت النجاسة يابسةً؛ فيسجد عليها على المذهب، وهذا مما يُضعِف قولهم بعدم السجود على النجاسة الرطبة؛ إذ لا فرق بين النجاسة الرطبة والنجاسة اليابسة.

إذا مس المصلي ثوبًا نجسًا، أو حائطًا بهما نجاسةٌ غير رطبةٍ؛ صحت صلاته

وإن مس ثوبه ثوبًا نجسًا، أو حائطًا لم يستند إليه، أو صلى على طاهرٍ طرفه متنجِّسٌ، أو سقطت عليه النجاسة فزالت أو أزالها سريعًا؛ صحت.

هنا ذكر المؤلف أربع مسائل:

  • الأولى: إذا مس ثوب المصلي ثوبًا نجسًا.
  • الثانية: إذا مس ثوبه حائطًا نجسًا، بشرط ألا يستند إليه أثناء صلاته.
  • الثالثة: إذا صلى على محلٍّ طاهرٍ -بساطٍ أو حصيرٍ أو سجادةٍ- وطرفه متنجسٌ.
  • الرابعة: إذا سقطت عليه نجاسةٌ وهو يصلي فزالت سريعًا، أو أزالها هو سريعًا.

فالمؤلف يقول: إن الصلاة تصحُّ في هذه المسائل الأربع كلها؛ لأنه في المسائل الثلاث الأولى لم يباشر النجاسة، وأما في المسألة الرابعة -الأخيرة- فإصابته للنجاسة..، كان زمن النجاسة يسيرًا، فعفي عنها كما يُعفى عن يسير النجاسة، وكما يُعفى عن انكشاف اليسير من العورة.

تبطل صلاته إن عجز عن إزالتها في الحال، أو نسيها ثم علم

وتبطل إن عجز عن إزالتها في الحال.

يعني: المصلي إذا وقعت عليه النجاسة ولم يتمكن من إزالتها سريعًا؛ تبطل صلاته؛ لأنه استصحب النجاسة في الصلاة زمنًا طويلًا لا يُعفى عنه، وتبطل صلاته.

أو نسيها ثم علم.

يعني: علم بالنجاسة، ثم نسيها فصلى، لم تصح صلاته، وعليه إعادتها، هذا رجلٌ صلى وعلى ملابسه نجاسةٌ لم يغسلها ونسي، يعني: هذا رجلٌ صلى وعليه نجاسةٌ كان قد علم بها ثم نسيها، فيرى المؤلف أن صلاته غير صحيحةٍ، وأنه يعيد الصلاة؛ لأن اجتناب النجاسة شرطٌ؛ فلم يسقط بالنسيان، ولا بالجهل كذلك؛ ولأنه مفرطٌ بتأخير تطهير ثوبه من النجاسة.

القول الثاني في المسألة: لا تلزمه إعادة الصلاة، وصلاته صحيحةٌ، وهذا هو القول الراجح، وقد اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كابن تيمية وابن القيم، رحمة الله تعالى على الجميع، ويدل لهذا القول: حديث أبي سعيدٍ  في قصة صلاة النبي ، صلى بنعليه، ثم في أثناء الصلاة خلع نعليه، فخلع الصحابة نعالهم، فلما فرغ قال: ما لكم؟ -ما حملكم على إلقاء نعالكم؟- قالوا: رأيناك خلعت نعليك ففعلنا كذلك، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا [21].

الشاهد من هذه القصة أن النبي صلى أول صلاته وفي نعليه نجاسةٌ، ومع ذلك أكمل صلاته، ولم يبدأها من جديدٍ؛ فدل ذلك على أن من صلى وعليه نجاسةٌ ناسيًا أو جاهلًا أن صلاته صحيحةٌ، أما إذا علم بالنجاسة في أثناء الصلاة فيزيلها كما فعل النبي ، فإذا لم يُزلها واستمر في صلاته؛ لم تصح.

حكم من صلى بغير وضوءٍ ناسيًا

طيب، من صلى بغير وضوءٍ ناسيًا هل تصح صلاته؟

الجواب: لا تصح.

طيب من صلى وعلى لباسه نجاسةٌ ناسيًا هل تصح صلاته؟

تصح على القول الراجح؛ لماذا فرَّقنا بين مسألتين؟

الجواب: فرقنا بين مسألتين؛ لأن المسألة الأولى من باب ترك المأمور؛ وترك المأمور لا يعذر فيه بالجهل ولا بالنسيان.

وأما المسألة الثانية -وهي وجود النجاسة- فهذا من باب إزالة المحظور، وإزالة المحظور يُعذر فيه بالجهل والنسيان، فإذنْ ما كان من باب ترك المأمور لا يُعذر فيه بالجهل ولا بالنسيان، وما كان من باب ارتكاب المحظور يعذر فيه بالجهل والنسيان.

لا تصح الصلاة في الأرض المغصوبة

ولا تصح الصلاة في الأرض المغصوبة.

هذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات؛ لأنه استَعمل في شرط الصلاة أمرًا محرمًا، وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الصلاة صحيحةٌ مع الإثم؛ لأن الجهة منفكةٌ؛ فإن صلاته في الأرض المغصوبة لها جهتان: كونها صلاةً، وكونها أيضًا غصبًا، لكن الجهة منفكةٌ، فالجهتان غير متلازمتين فتصح الصلاة؛ لأن صلاته مكتملة الأركان والشروط والواجبات، ويأثم بالغصب، هذا هو القول الراجح في المسألة.

الصلاة في المقبرة

وكذا المقبرة.

أي: لا تصح الصلاة في المقبرة، وهذا قد ورد فيه النص في قول النبي : الأرض كلها مسجدٌ، إلا المقبرة والحمام [22]، أخرجه الترمذي وأحمد بسندٍ صحيحٍ؛ ولأن الصلاة في المقبرة ذريعةٌ لوقوع الشرك، وقد جاءت الشريعة بسد جميع الذرائع الموصلة للشرك، إلا صلاة الجنازة فتصح في المقبرة، والصلاة على القبر لمن لم يُصلِّ صلاة الجنازة، والآن في الظروف الحالية مع جائحة (كورونا) يصلَّى على الجنائز في المقابر، لكن بعض الناس يصلي صلاة الفريضة في المقبرة، فهؤلاء لا تصح صلاتهم، فينبغي التنبه والتنبيه على هذه المسألة، الصلاة في المقبرة لا تصح، إلا أن تكون صلاةً على جنازةٍ، أو تكون صلاةً على قبرٍ، وأما أن يصلي صلاة الفريضة أو حتى النافلة في المقبرة؛ فالصلاة لا تصح؛ لقول النبي : الأرض كلها مسجدٌ، إلا المقبرة والحمام.

طيب، يوجد في بعض المقابر غُرَفٌ داخل المقبرة يسكن فيها الحارس، فهذه الغرف إن كانت خارج المقبرة؛ فتصح الصلاة فيها، وإن كانت داخل المقبرة؛ لا تصح، فإذا كانت مثلًا في طرف المقبرة عند السور، ولها بابٌ مفتوحٌ على الشارع خارج المقبرة، فهذه خارج المقبرة؛ ولذلك تصح الصلاة فيها؛ لأنها حتى لو امتلأت المقبرة؛ لا يمكن أن يدفن فيها أمواتٌ، فهي خارج المقبرة عُرْفًا، لكن لو افترضنا غرفة داخل المقبرة فهنا لا تصح الصلاة فيها.

الصلاة في المجزرة والمزبلة

والمجزرة والمزبلة.

المجزرة: هي الموضع الذي تُنحر فيه المواشي، والمزبلة هي: موضع الزبالة، وهي القمامة، فيقول: لا تصحُّ الصلاة فيهما؛ لأن هذه المواضع مَظِنَّة النجاسة، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات، واستدلوا لذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله نهى أن يصلَّى في سبعة مواطن، وذكر منها: المزبلة والمجزرة» [23]، وهذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه، لكنه حديثٌ ضعيفٌ.

القول الثاني في المسألة: أن الصلاة تصح في المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق إذا خلت من النجاسة، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم؛ لأن الأصل صحة الصلاة؛ ولعموم قول النبي : وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا [24]، لكن المقبرة والحمام ومعاطن الإبل استثنيت بأحاديث صحيحةٍ، أما ما عداه فيبقى على الأصل، وهو صحة الصلاة.

على ذلك: القول الراجح هو خلاف ما ذهب إليه المؤلف؛ القول الراجح: أن الصلاة تصح في المجزرة، وكذلك في المزبلة، وفي قارعة الطريق، ما لم يوجد عليها نجاسةٌ.

الصلاة في الحُشِّ

والحُشٍّ.

“الحُشُّ”: هو موضع قضاء الحاجة، ويسمى: المرحاض، ويسمى: الكنيف، ويسميه بعض الناس اليوم: دورة المياه، يقول المؤلف: إنه لا تصح الصلاة فيها؛ لأنه مكانٌ نجسٌ؛ ولأنها مأوى الشياطين؛ ولأنه إذا كانت لا تصح الصلاة في الحمام، ففي الحُشِّ من باب أولى، والحمام هنا تكلم المؤلف عنه، لكن الأحسن أن نتكلم عنه الآن مع الكلام عن الحش؛ لمناسبة ذلك.

الحمام: هو المكان الذي يُغتسل فيه، كان الناس قديمًا يتخذون أماكن عامةً يأتي إليها الناس، ويغتسلون فيها بالماء الساخن، وكان هذا موجودًا في البلاد الباردة؛ كبلاد الشام، وهذه الحمامات يحصل فيها كشفٌ للعورات، واختلاطٌ بين الرجال والنساء، فليس المقصود بالحمام دورة المياه كما يفهم بعض العامة، وإنما المقصود بها الأماكن المعدة للاغتسال، فلا تصح الصلاة فيها؛ للحديث السابق: الأرض كلها مسجدٌ إلا المقبرة والحمام، فلا تصح إذنْ الصلاة في المقبرة، ولا في الحمام، ولا في الحش، الذي هو دورة المياه.

الصلاة في أعطان الإبل

وأعطان الإبل.

أي: لا تصح الصلاة في أعطان الإبل، وهي مَباركها عند صدورها من الماء، أو عند انتظارها له، أو الأماكن التي تُقيم فيها وتأوي إليها، يعني: فما يسمى بأحواش الإبل لا تصح الصلاة فيها، كذلك أيضًا حتى ليست أحواش الإبل، مجرد مباركها عند صدورها الماء وانتظارها له، وإن لم تكن مستقرًّا لها لا تصح الصلاة عليها؛ لحديث جابر بن سَمُرة  أن رجلًا سأل النبي : أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا [25]، رواه مسلمٌ، وقال: صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل [26].

طيب، هل معاطن الإبل نجسةٌ؟

الجواب: لا، هي طاهرةٌ كما مر معنا في درسٍ سابقٍ، فالنهي عن الصلاة فيها ليس لأجل النجاسة، وإنما لمعنًى آخر اختلف العلماء فيه، والأقرب أنه ما جاء في حديث عبدالله بن مُغَفَّلٍ  أن النبي قال: لا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خُلِقَت من الشياطين [27]، أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه.

وقوله: خُلِقَت من الشياطين، يعني: أن من طبعها الشيطنة، كقول الله تعالى: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]، يعني: طبعه العجلة، فالإبل لا تكاد تهدأ أو تقر، بل تثور، وربما قطعت على المصلي صلاته، وربما آذته، وربما شوشت عليه، أو ألحقت به ضررًا؛ ولهذا لمَّا أَمِنَ الراكب شرها؛ جاز له أن يصلي عليها في السفر، كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي في السفر على بعيره [28]؛ لأنه قد أَمِنَ شرها، أما في أماكن بروكها ومعاطنها فلا يؤمن شرها؛ فيخشى أن تؤذي المصلي، أو تشوش عليه، خاصةً في السجود، خاصةً وهو ساجد، ربما تأتي إليه هذه الجمال فتلحق به الضرر.

الصلاة في قارعة الطريق

وقارعة الطريق.

لحديث ابن عمر السابق في النهي عن الصلاة في سبعة مواطن؛ ومنها: قارعة الطريق، لكن الحديث كما قلنا حديثٌ ضعيفٌ، والصواب: أن الصلاة في قارعة الطريق صحيحةٌ إذا خلت من النجاسة.

والحمام.

سبق الكلام عنه.

الصلاة على سطح الحمام والحُشِّ

وأَسطِحَة هذه مثلها.

يعني: لو صلى على سطح الحمام والحش؛ لم تصح صلاته؛ لأن السطح تابعٌ للمكان.

والقول الثاني: أن الصلاة تصح في أسطح هذه الأشياء، وهذه روايةٌ عند الحنابلة، وهذا هو القول الراجح؛ لأن أسطح هذه المواضع طاهرةٌ، ومن يصلي عليها بعيدٌ عن خُبثها، فهو كمن يصلي في غرفةٍ تحتها حمامٌ، أرأيت لو أن إنسانًا صلى في غرفةٍ، وتحت هذه الغرفة حمامٌ، هل تصح صلاته؟ تصح بالإجماع، فما الفرق بينها وبين هذه المسألة؟

وعلى هذا: فالصلاة على أسطح البيَّارات صحيحةٌ إذا خلا السطح من النجاسة؛ لعموم قول النبي : وجُعِلَت لي الأرض مسجدًا وطهورًا [29]، أحيانًا يصلي بعض الناس على أسطح البيَّارات، خاصةً في الجوامع يوم الجمعة عندما يمتلئ المسجد، فيأتي بعض الناس ويصلي على سطح بيارة المسجد، ربما يفرش عليه بساطٌ أو سجادةٌ، فيصلي عليه بعض المصلين، يصلون على سطح البيارة، فما حكم من صلاتهم على سطح البيارة؟ نقول: صلاتهم صحيحةٌ على القول الراجح.

حكم الصلاة في جوف الكعبة أو فوقها

ولا يصح الفرض في الكعبة -والحِجْرُ منها- ولا على ظهرها، إلا إذا لم يبقَ وراءه شيءٌ.

يعني: صلاة الفريضة لا تصح في جوف الكعبة، ولا على ظهر الكعبة، إلا إذا لم يبقَ وراء المصلي شيءٌ من الكعبة؛ كأن يقف على منتهى ظهر الكعبة، بحيث لا يبقى وراءه شيءٌ من بنائها؛ فتصح، وهذه المسألة فيها قولان للفقهاء:

القول الأول: هو القول الذي أقرره المؤلف، وهو أنها لا تصح الفريضة وتصح النافلة، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو مذهب المالكية، واستدلوا لذلك بحديث ابن عمر السابق في النهي عن الصلاة في سبعة مواطن؛ ومنها: وفوق ظهر بيت الله [30]، لكنه حديثٌ ضعيفٌ كما سبق، واستدلوا لصحة النافلة بأن النبي قد صلى داخل الكعبة ركعتين [31].

وأيضًا استدلوا لعدم صحة الفريضة بقول الله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، قالوا: المصلي داخل الكعبة ليس مصليًا إليها، وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة داخل الكعبة تصحُّ مطلقًا، فرضًا كانت أم نفلًا، وهذا مذهب الحنفية والشافعية وروايةٌ عند الحنابلة، وهذا هو القول الراجح في المسألة؛ لأن النبي صلى داخل الكعبة ركعتين.

والأصل أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليلٍ، ولا دليل هنا يقتضي التفريق بين النفل والفرض، أما الاستدلال بالآية الكريمة: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، فالمقصود بقوله: شَطْرَهُ، يعني: جهته، وهذا يشمل استقبال جميع الكعبة، أو استقبال جزءٍ منها، وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فكما سبق حديثٌ ضعيفٌ، وعلى ذلك فليس هناك دليلٌ يمنع من صحة صلاة الفريضة داخل الكعبة.

القول الراجح: أن الصلاة تصح داخل الكعبة، فريضةً كانت أو نفلًا.

وقول المؤلف: “والحِجْرُ منها”، حِجْر الكعبة يسميه بعض الناس حِجْر إسماعيل، وهذه التسمية لا أصل لها؛ لأن من يسمي حِجْر إسماعيل يعتقد أن إسماعيل مدفونٌ فيه، وهذا لا أصل له، ولا يُعلم مكانُ قبرِ نبيٍّ من الأنبياء إلا قبر محمدٍ ، وقيل: قبر إبراهيم، ومنهم أيضًا من يقول: إنه لا يُعلم حتى قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، لكن من عداهما لا يُعلم قبره على وجه التحديد، فالقول بأن قبر إسماعيل في حِجْرِ الكعبة غير صحيحٌ؛ ولذلك فهذه التسمية لا أصل لها، فلا يقال: حجر إسماعيل، إنما يقال: حجر الكعبة.

الصلاة في الحجر هي في الحقيقة صلاةٌ في الكعبة، فإذا أردت أن تُصلي في الكعبة صلِّ في الحِجْر، إذا صليتها في الحجر تكون قد صليت في جوف الكعبة، وقريشٌ لما أرادت إعادة بناء الكعبة؛ اشترطوا على أنفسهم ألا يبنوها إلا بما تمحَّضَ حلالًا، فقصرت بهم النفقة، فبنوها على هذا الشكل المربع، ثم وضعوا هذا الحِجْر، وأراد النبي أن يُعيد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ، ويُدخل الحِجر فيها، لكنه خَشِيَ الفتنة، فلم يفعل، وقال لعائشة رضي الله عنها: لولا أن قومك حديثو عهدٍ بشركٍ؛ لهدمت الكعبة، وجعلت لها بابين: بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، وزدت فيها ستة أذرعٍ من الحِجر [32]، ولما أتى عبدالله بن الزبير -وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما ولي الخلافة في الحجاز ثمان سنين- حقق ما تمناه النبي ، فأعاد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ، وأدخل الحِجر فيها، لما قاتله الحجاج بن يوسف الثقفي، وحاصره حتى قتله ثم صلبه، لم يكتفِ بقتله، قتله ثم صلبه، مع أنه صحابيٌّ جليلٌ! وبقي مصلوبًا قرابة عشرة أيامٍ على خشبةٍ، حتى مرَّ عليه ابن عمر رضي الله عنهما فقال: السلام عليك أبا خُبيب، أما كنتُ أنهاك عن هذا؟! يعني: الدخول في هذه الأمور، لماذا تدخل في السياسة وفي هذه الأمور؟! كنتُ أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنتَ صوَّامًا قوَّامًا، أما أُمَّةٌ أنتَ شَرُّها لأمةُ خيرٍ؛ لأن الحجاج ومن معه يقولون: هذا شر الأمة، فنقل هذا الكلام إلى الحجاج بن يوسف، فهاب أن يتعرض لابن عمر بسوءٍ، لكنه أمر بأن يُلقى عبدالله بن الزبير في المقبرة، فجمعه المسلمون في كفنٍ قطعةً قطعةً، جمعوه قطعًا وغسلوه، وصلوا عليه.

الشاهد: أن ابن الزبير رضي الله عنهما أعاد بناءها على قواعد إبراهيم ، لما تغلَّب عليه الحجاج بن يوسف قال: دعونا من تخليط ابن الزبير، فهدمها وأعاد بناءها كما كانت، أراد أحد الولاة أن يعيدها على قواعد إبراهيم فنهاه العلماء، وعلى رأسهم الإمام مالكٌ، وقالوا: دعها حتى لا تكون ألعوبةً للملوك، هذا ملك يهدمها، وهذا يبنيها، وهذا يهدمها، وهذا يعيد بناءها، فتُرِكَت وبقيت على وضعها إلى الآن، لكنه يُعاد ترميمها وبناؤها من حينٍ لآخر، آخر مرة أُعِيد فيه ترميم وبناء الكعبة: 1417، أُعيد بناء الكعبة في هذا التاريخ، فبقيت على هذا الشكل.

والعجيب أنك إذا تأملت ما تمناه النبي ؛ تجد أنه تحقق مع السهولة واليسر، فإن حجر الكعبة له بابان: بابٌ يدخل الناس منه، وبابٌ يخرج الناس منه، فالناس الآن يدخلون الكعبة، ويخرجون منها بكل يُسرٍ وسهولةٍ، لو أنها مبنيةٌ على قواعد إبراهيم، ولها بابان: بابٌ يدخل الناس منه، وبابٌ يخرج الناس منه، لتقاتل الناس على الدخول فيها، وربما تعذَّر الطواف بسبب ذلك، فهذا من حكمة الله البالغة أن الكعبة بقيت هكذا.

الصلاة المنذورة في الكعبة أو فوقها

ويصح النذر فيها وعليها.

يعني: تصح الصلاة المنذورة نذرًا مقيدًا في الكعبة أو فوقها، مثل أن يقول: لله عليَّ نذرٌ أن أصلي ركعتين في الكعبة، أو فوق الكعبة إلحاقًا للنذر بالنفل، ونحن قلنا: إن الصلاة تصح مطلقًا، سواءٌ كانت فرضًا أو نفلًا.

وكذا النفل، بل يسن فيها.

يعني: تصح النافلة في الكعبة وفوقها، وهذا باتفاق العلماء، وعلى القول الراجح تصح الصلاة مطلقًا، فريضةً كانت أو نافلةً، في جوف الكعبة وفي الحِجْر، فالقول الراجح إذنْ هو صحة الصلاة فيها.

طيب، بقي معنا الشرط الثامن، وكنتُ أريد أن ننتهي منه ومن شروط صحة الصلاة، لكن لعلنا نكتفي بهذا القدر؛ لأن عندي قليلًا من التحسس مع تغير الجو، فلعلنا نكتفي بهذا القدر في هذا الدرس.

نأخذ سؤالًا أو سؤالين، نجيب عن بعض الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: ما الدليل على دخول الركبة والسرة في العورة؟

الجواب: يمكن أن نعكس السؤال، نقول: ما الدليل على عدم دخول الركبة والسرة في العورة؟

الأصل هو دخولها في العورة في الصلاة، يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، وكما قال ابن تيمية رحمه الله: “لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلافٌ”، يعني: هل يُعقل أن الشريعة تأتي بهذا؟! يأتي إنسانٌ لا يستر سوى العورة المغلظة، ويناجي ربه بذلك، والله يقول: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]! لا يعقل هذا، فكما قال ابن تيمية رحمه الله: “ينبغي ألا يكون في هذه المسألة خلافٌ”.

السؤال: هل تجوز الصلاة في مبارك الإبل في حال عدم وجود الإبل؟

الجواب: الله أعلم، هذه مسألةٌ تحتاج مزيد تأملٍ ونظرٍ، لا يحضرني فيها جوابٌ.

السؤال: ما حكم وضع حساس السكر على اليد لمدة أربعة عشر يومًا؟ لأنه يحتاج إلى الغُسل من الجنابة خلالها؛ لأنه إذا أزال الحساس يفسُد، علمًا أن قيمة الحس مئتان وخمسون ريالًا، هل يصح أن يمسح عليه؟

الجواب: نعم، يمسح عليه، الله تعالى يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، فما دام أنه يلحقه الضرر بإزالته؛ فيمسح عليه كاللصقة وكالجبيرة ولا يضر، يمسح عليه، والحمد لله.

السؤال: هل إذا بدأتُ بقراءة الفاتحة أبتدئها بـ”أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”؟ الواجب عليَّ أن أتعوذ؟

الجواب: يستحب ذلك ولا يجب، يستحب أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم تبسمل: “بسم الله الرحمن الرحيم”، ثم تقرأ الفاتحة.

السؤال: هل ورد أن الملائكة لا تدخل مكانًا فيه امرأةٌ كاشفةٌ شعرها؟

الجواب: هذا لا أعلم له أصلًا، المرأة إذا كانت في بيتها تكشف شعرها، فكونها تستر شعرها داخل البيت هذا من التنطع، وهذا الذي يقول: إن الملائكة لا تدخل مكانًا فيه امرأةٌ كاشفةٌ شعرها، هذا لا أصل له.

السؤال: هل الأفضل إذا صليتُ في غرفة النوم أن تغطي زوجتي شعرها؟

الجواب: إذا كانت المرأة تصلي هي نفسها؛ فتغطي شعرها، أما إذا كنت أنت تصلي؛ فلا علاقة للمرأة بك.

السؤال: ما أسباب خشوع القلب؟

الجواب: أسباب خشوع القلب كثيرةٌ، لكن من أعظمها تدبر القرآن: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، تدبر القرآن والارتباط مع القرآن العظيم هذا من أعظم أسباب حصول الخشوع، وهذا هو السر الذي غيَّر الصحابة، حيث كانوا في الجاهلية يعبدون الأصنام والأشجار والأحجار، ما الذي غيرهم؟ غيرهم هذا القرآن العظيم، فالارتباط بهذا القرآن العظيم وتدبر آياته، هذا من أعظم أسباب زيادة الإيمان، ومن أعظم أسباب حصول الخشوع، ورقة القلب، فينبغي أن يحرص المسلم على الارتباط بهذا القرآن العظيم، ويجعل له وردًا يوميًّا يقرؤه كل يوم بتدبرٍ وبحضورِ قلبٍ وبخشوع، هذا من أعظم أسباب الثبات، ومن أعظم أسباب زيادة الإيمان.

وأكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه الدارقطني: 890، والبيهقي في السنن الكبرى: 3237.
^2 رواه الدارقطني: 889.
^3 رواه الترمذي: 2798، وذكره البخاري شطره الثاني تعليقا: 1/ 83، وقال الترمذي: حسن.
^4 رواه الترمذي: 1173، وقال: حسن صحيح.
^5 رواه أبو داود: 640.
^6 رواه النسائي: 769، وأحمد: 9980.
^7 رواه البخاري: 359، ومسلم: 516.
^8 رواه البخاري: 361، ومسلم: 3010.
^9 رواه الترمذي: 1720، وأحمد: 19515، وقال: حسن صحيح.
^10 رواه البخاري: 3127.
^11, ^12 رواه البخاري: 65، ومسلم: 2092.
^13 رواه البخاري: 5833، ومسلم: 2069.
^14 رواه أبو داود: 4055.
^15 رواه مسلم: 292.
^16 رواه البخاري: 218، ومسلم: 292.
^17 رواه الدارقطني: 459.
^18 رواه أبو داود: 362، والترمذي: 138، وقال: حديث حسن صحيح.
^19 رواه البخاري: 220.
^20 رواه البخاري: 7288، ومسلم: 1337.
^21 رواه أبو داود: 650، وأحمد: 11877.
^22 رواه الترمذي: 317، وابن ماجه: 745، وأحمد: 11784.
^23 رواه الترمذي: 346، وابن ماجه: 746.
^24 رواه البخاري: 335، ومسلم: 521.
^25 رواه مسلم: 360.
^26 رواه الترمذي: 348، وابن ماجه: 769، وأحمد: 10611، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
^27, ^29 سبق تخريجه.
^28 رواه مسلم: 540.
^30 رواه الترمذي: 346.
^31 رواه مسلم: 1329.
^32 رواه البخاري: 1586، ومسلم: 1333.
zh