عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، نسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
هذا هو الدرس الأخير من كتاب الزكاة من “العمدة في الفقه”، وبه نختتم هذه الدروس في هذه الدورة -إن شاء الله تعالى- لأن غدًا ليس هناك درس بالنسبة لشرح “العمدة”؛ لأننا سننتهي اليوم إن شاء الله.
تتمة باب من يجوز دفع الزكاة إليهم
وكنا قد بدأنا في درس الأمس بأهل الزكاة، وقلنا: إن أهل الزكاة تولَّى الله قسمتهم بنفسه، تولى الله تحديد أهل الزكاة بنفسه، وقسَّم الزكاة، ولم يُوكِل ذلك لمَلَكٍ مقربٍ، ولا لنبيٍّ مرسلٍ، وذلك؛ لعظيم شأن هذه المسألة، فقال : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ يعني: الزكوات إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60].
وتكلمنا عن الستة الأصناف الأولى من هؤلاء الأصناف الثمانية، تكملنا عنهم بالتفصيل في درس الأمس، ووصلنا إلى الصنف السابع.
الصِّنف السابع، نقرأ أولًا من كلام المؤلف، ثم بعد ذلك نشرحه.
نعم من الصِّنف السابع.
القارئ:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين ولجميع المسلمين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
السابع: في سبيل الله، وهم الغُزَاة الذين لا دِيَوان لهم.
الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر المنقطَع به، وإن كان ذا يسارٍ في بلده، فهؤلاء هم أهل الزكاة، لا يجوز دفعها إلى غيرهم، ويجوز دفعها إلى واحدٍ منهم؛ لأنه أمر بني زُرَيقٍ بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخرٍ [1]، وقال لقَبِيصَة: أقِمْ يا قَبِيصَةُ حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها [2].
ويُدفع إلى الفقير المسكين ما تتم به كفايته، وإلى العامل قدرُ عَمَالته، وإلى المؤلَّف ما يحصُل به تأليفه، وإلى المُكاتَب، والغارِم ما يقضي به دينه، وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه، وإلى ابن السبيل ما يُوصِله إلى بلده، ولا يُزَاد واحدٌ منهم على ذلك.
وخمسةٌ منهم لا يأخذون إلا مع الحاجة؛ وهم: الفقير والمسكين والمكاتب والغارم لنفسه وابن السبيل.
وأربعة يجوز الدفع إليهم مع الغنى؛ وهم: العامل والمؤلَّف والغازي والغارم لإصلاح ذات البين.
الصنف السابع: في سبيل الله
إذنْ: وصلنا إلى الصِّنف السابع.
قال: “في سبيل الله”. ومعنى: في سبيل الله، قال المؤلف: “وهم: الغزاة الذين لا دِيَوان لهم”. ومعنى: لا ديوان لهم، يعني: ليس لهم رواتبُ مستمرَّةٌ؛ وإنما هم متطوعون، فهؤلاء يجوز أن تدفع لهم الزكاة، ويجوز أن تُشترى آلات الجهاد في سبيل الله أيضًا من الزكاة، فمعنى: في سبيل الله، يعني: في الجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله ، ولكن هل الجهاد في سبيل الله منحصِرٌ في جهاد السلاح، أو أنه يشمل جهاد الدعوة؟
هل الجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الدعوة؟
هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء؛ فمنهم من قال: إن الجهاد في سبيل الله، في هذه الآية، مخصوصٌ بجهاد السلاح، وقالوا: إن كلمة “في سبيل الله” عند الإطلاق، إنما تنصرف للجهاد في سبيل الله بالسلاح.
والقول الثاني في المسألة: أن الجهاد في سبيل الله لا يَنحصِر في الجهاد بالسلاح؛ وإنما يشمل جهاد الدعوة، فإن الغرض من جهاد السلاح هو نشر الدعوة إلى الله ، ولذلك؛ لو أن الكفار لم يعترضوا سبيل الدعوة لم يَحِلَّ قتالها؛ فقتال الكفار ليس لذاته، ليس مطلوبًا لذاته؛ وإنما لأجل إزالة ما يُعيق نشر الدعوة إلى الله ، والجهاد في سبيله؛ قد يكون جهاد دفعٍ، وقد يكون جهاد طلب، فجهاد الطلب إنما هو لإزالة العوائق عن الدعوة إلى الله .
فتَبيَّن بهذا: أن نشر الدعوة إلى الله هو الأصل، وهو الغرض من مشروعية الجهاد في سبيل الله، وقد كان هذا الجهاد -جهاد الدعوة- هو الجهاد الموجود في الفترة المكية، قبل هجرة النبي إلى المدينة، فإنه كان يدعو الناس إلى إخلاص الدين لله، ولم يكن يستخدم السلاح أو القوة، بل كان أصحابه يستأذنون منه في كسر أصنام قريشٍ، وهي تُعلَّق على الكعبة، فيأبى ذلك، وأنزل الله في هذا: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ يعني: بالقرآن جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52]، فسماه الله جهادًا كبيرًا. ثم لمَّا هاجر النبي إلى المدينة، وأصبح للمسلمين دولةٌ وقوةٌ، شُرِع الجهاد بالسلاح.
وهذا القول الثاني هو القول الراجح، وهو أن الجهاد في سبيل الله في هذه الآية لا ينحصر في جهاد السلاح؛ وإنما يشمل جهاد الدعوة، وقد أقرَّ مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي هذا القول، ثم إن في هذا القول إعزازًا للدعوة إلى الله ، وإذا كان غير المسلمين يبذلون الأموال الطائلة في سبيل نشر باطلهم؛ فالمسلمون ينبغي لهم أن يبذلوا الأموال في سبيل الدعوة إلى الله، ونشر دين الله ، وعلى هذا فيجوز دفع الزكاة لِمَا تَمَحَّض في الدعوة إلى الله، ومن ذلك كَفَالة الدعاة مثلًا، فيجوز أن تدفع من الزكاة، ومن ذلك مثلًا: إذا كان مركز الدعوة يحتاج إلى بعض الأمور الأساسية؛ كإيجار المحل مثلًا، وكل ما من شأنه أنه متمحِّضٌ في جانب الدعوة إلى الله، يجوز دفع الزكاة فيه، وكثيرٌ من مراكز الدعوة إلى الله ، خاصةً في الدول غير الإسلامية، تقوم على الزكاة، تَعتمِد اعتمادًا رئيسًا على الزكاة، بناءً على فتاوى كثيرٍ من أهل العلم بجواز دفع الزكاة لهم.
وعلى هذا: فيدخل “في سبيل الله” دفعُ الزكاة للدعوة إلى الله.
ولكن أنَبِّه هنا إلى أننا، وإن أجزنا ذلك، إلا أنه ينبغي أن يُحصَر فيما تَمَحَّض في الدعوة إلى الله، وأما الأمور الكمالية أو الهامشية، فلا يدفع فيها الزكاة، فلا تُدفع مثلًا في جوائز لمتسابقين، ولا تدفع في رحلاتٍ؛ وإنما تدفع في الأشياء الأساسية؛ مثل: دفع إيجار مركز الدعوة مثلًا، ومثل كفالة الدعاة، ونحو ذلك من الأمور الأساسية المتمحضة في جانب الدعوة إلى الله.
حكم دفع الزكاة لحلقات تحفيظ القرآن الكريم
وهل تدخل في ذلك حلقات تحفيظ القرآن الكريم؟ نعود للآية السابقة، الله يقول: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52]. “به”: الضمير يرجع إلى ماذا؟ إلى القرآن، فسمَّى الله الجهاد بالقرآن جهادًا، ووصفه بالكبير، وهو جهادٌ كبيرٌ، فهو من أعظم ما يكون من جهاد الدعوة، وعلى ذلك فلا بأس بدفع الزكاة لحلقات تحفيظ القرآن الكريم، ولكن أيضًا نقَيِّد ذلك بما قيَّدناه في الدعوة، نقول: بما تَمَحَّض في جانب حلقات تحفيظ القرآن الكريم؛ كرواتب المعلمين مثلًا، وكإيجار المقَرِّ، ونحو ذلك، لكن ينبغي ألا تدفع في بعض الأمور غير الأساسية؛ كجوائز الطلاب، أو الرحلات، أو نحو ذلك.
هذا هو المصرِف السابع من مصارف الزكاة.
الصنف الثامن: ابن السبيل
المصرِف الثامن، قال: “الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر المنقطَع به، وإن كان ذا يسار في بلده”.
السبيل معناه: الطريق، فابن السبيل يعني: ابن الطريق، الذي انقطع به الطريق، حتى وإن كان غنيًّا في بلده، مثال ذلك: رجل أتى هنا إلى مكة معتمرًا، ثم إن نقوده سرقت أو ضاعت، وأصبح ما معه شيءٌ، فهذا يعتبر ابن سبيل، فلا بأس بأن يعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده، إن لم يستطع تحويل مبلغ من بلده إلى مكة، وأما إن استطاع فلا تحل له الزكاة، لو افترضنا أنه لا يستطيع، وأن أمواله أتى بها هنا إلى مكة، ثم سرقت أو ضاعت، فهنا يجوز أن يعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده، فهذا هو ابن السبيل.
قال: “فهؤلاء هم أهل الزكاة، لا يجوز دفعها إلى غيرهم”.
لا يجوز دفع الزكاة إلى غير هذه المصارف الثمانية، فلا يجوز دفع الزكاة لبناء المساجد، ولا يجوز دفع الزكاة لإصلاح الطرقات أو غير ذلك، أو بناء المدارس، أو نحو هذا، وإنما دفع الزكاة خاصٌّ بهذه المصارف الثمانية.
هل يجوز دفع الزكاة إلى واحدٍ من الأصناف الثمانية؟
قال: “ويجوز دفعها إلى واحدٍ منهم”.
يعني: يجوز دفع الزكاة إلى مصرِف من هذه المصارف الثمانية؛ كالفقراء، أو كالغارمين، أو ابن السبيل، ونحو ذلك، قال: “لأنه أمر بني زُرَيقٍ بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخرٍ [3]، وهذا قد جاء عند الترمذي وأحمد، وفي سنده مقال أيضًا، لكن يغني عنه حديث الذي بعده، وقال لقبيصة: أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها [4]. وهذا في “صحيح مسلم”.
وقول بعض الفقهاء: إنه لا بد من استيعاب المصارف الثمانية. هذا قولٌ ضعيفٌ، الصواب: أنه لا بأس أن تدفع الزكاة لأي مصرفٍ من هذه المصارف الثمانية، حتى لو انحصرت في مصرفٍ واحدٍ.
قال: “ويدفع إلى الفقير والمسكين ما يتم به كفايته”.
يعني: عندما ندفع للفقير، ما مقدار ما يُدفع له؟ يدفع للفقير والمسكين ما يكفيه ويكفي من تلزمه نفقته لمدة سنةٍ؛ لأنه بعد السنة الأخرى ستأتي زكاةٌ أخرى، وهذا عند جمهور الفقهاء: أن الفقير أو المسكين يعطَى ما يكفيه لمدة سنةٍ، وعند الشافعية: أنه يعطى ما يكفيه على الدوام، ولكن هذا قولٌ مرجوحٌ، ولا ينضبط أيضًا، لا ينضبط؛ ولأن الفقير قد يغتني، وتتغير أحواله، فالصواب: ما عليه الجمهور، وهو أنه يعطى ما يكفيه لمدة سنةٍ؛ لأن الزكاة تتكرر سنويًّا، وبعد السنة ينظر في حاله، فإن كان لا زال فقيرًا أعطي زكاةً أخرى، وهكذا، وإن اغتنى لم تحِلَّ له الزكاة، وعلى هذا: فهل يجوز بناء أو شراء مسكن للفقير من أموال الزكاة؟
هذا راجع لهذه المسألة؛ فعلى القول بأن الفقير يعطى ما يكفيه على الدوام، يقولون: يجوز، وعلى قول الجمهور أن الفقير لا يعطى إلا ما يكفيه مدة سنةٍ فقط، فلا يجوز أن يعطى الفقير من الزكاة لبناء أو شراء بيت؛ لأن حاجة السكنى تندفع بماذا؟ بالاستئجار، يُستأجر له، يقال: استأجر لك بيتًا يليق بمثلك، وندفع الإيجار من الزكاة، وأما التملك فهو أمرٌ كماليٌّ، فليس بالضرورة أن يَملِك بيتًا؛ وإنما يكفي أن يستأجر، فإذنْ يعطى من الزكاة ما يَستأجر به بيتًا مناسبًا لحاله، وأما شراء أو بناء بيت للفقير أو المسكين، فهذا عند الجمهور أنه لا يصح ولا يجزئ، ثم إن شراء أو بناء بيتٍ يكلف أموالًا طائلةً، تكفي عددًا كثيرًا من الفقراء والمساكين، وعلى هذا: فالفقير عندما يحتاج للسُّكنى يُستأجر له من أموال الزكاة، ولا يُشترى أو يُبنى له من أموال الزكاة.
إذن: مسألة شراء أو بناء بيت للفقير والمسكين متفرِّعةٌ عن مسألة مقدار ما يعطاه الفقير والمسكين، هل يعطَى ما يكفيه على الدوام، أو يعطى ما يكفيه لمدة سنةٍ، ونحن رجحنا أنه يعطى ما يكفيه لمدة سنةٍ، ويَنبنِي على هذا: أنه لا يجوز أن يُبنى أو يشترى للفقير بيتٌ من أموال الزكاة.
مقدار ما يُعطى كل صنف من الزكاة
قال: “وإلى العامل على الزكاة قدرُ عَمَالته”.
نحن ذكرنا العاملين على الزكاة، يُعطَون من الزكاة، لكن قال: “على مقدار عمالته”. يعني: بمقدار أتعابه، فلا يُعطَى مبلغًا كبيرًا زائدًا عن مقدار أتعابه، وإنما تقدر أتعابه، هذا إذا لم يُصرَف له راتبٌ من بيت المال، فإن صرف له مرتبٌ من بيت المال، فليس له الأخذ من الزكاة، فعندنا مثلًا هنا في المملكة العربية السعودية، الدولة تبعث سُعَاةً لجباية الزكاة من أرباب الأموال، لكنها تَصرِف لهم مرتباتٍ وانتداباتٍ، فهؤلاء لا يأخذون من الزكاة، إلا إذا قصَّرت مثلًا الانتدابات في حقهم، فيجوز أن يأخذوا من الزكاة بقدر ما يغطي أتعابهم.
قال: “وإلى المؤلَّف ما يحصل به تأليفه”.
يعني: المؤلَّفة قلوبهم من أصناف الزكاة، تكلمنا عن هذا الصِّنف بالأمس، كم مقدار ما يُعطى؟ يعطى ما يحصل به تأليف قلبه، ومعلومٌ أن الناس يتفاوتون، فبعض الناس يمكن تأليف قلبه بالقليل من المال، وبعضهم لا بد أن يكون المال كثيرًا، ولا يكفيه في تأليفه المال القليل.
قال: “وإلى المكاتب والغارم ما يَقضي به دينه”. فالمكاتب بقدر ما يُسدِّد به دين الكتابة، والغارم، يعني: المَدِين بقدر ما يُسدِّد به الدين الذي في ذمته.
“وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه”. ما يحتاج إليه لغزوه، هذا إذا كان بالسلاح يعطَى ما يحتاج إليه، وهكذا أيضًا على القول الراجح في جهاد الدعوة: يعطى ما يكفي لنشر الدعوة إلى الله .
قال: “وإلى ابن السبيل ما يُوصِله إلى بلده”. وهذا أشرنا له، قلنا: إن ابن السبيل وهو الذي قد انقطع به الطريق، إما لضياع نفقةٍ، أو سرقتها، أو نفادها يعطَى ما يوصِله إلى بلده.
الأصناف الذين لا يأخذون من الزكاة إلا مع الحاجة
قال: “وخمسةٌ منهم لا يأخذون إلا مع الحاجة”. يعني: خمسةٌ من هؤلاء الأصناف الثمانية، لا يجوز لهم الأخذ من الزكاة، إلا بشرط أن يكونوا محتاجين، من هم هؤلاء الخمسة؟ قال: “وهم: الفقير والمسكين والمكاتب والغارم لنفسه وابن السبيل”. فهؤلاء لا بد أن يكونوا محتاجين، لا بد أن يجتمع مع أوصافهم وصف الحاجة، وإلا لَمَا حل لهم الأخذ من الزكاة.
الأصناف الذين يجوز دفع الزكاة إليهم مع غناهم
قال: “أربعة يجوز الدفع إليهم مع الغنى”. يعني: لا ينظر إلى حاجتهم؛ وإنما يعطون من الزكاة ولو كانوا أغنياء، من هم؟
قال: “العامل والمؤلَّف والغازي والغارم لإصلاح ذات البين”. فالعامل يعطَى من الزكاة وإن كان غنيًّا؛ لأن إعطاءه من الزكاة؛ لأجل أتعابه، والمؤلَّف أيضًا يعطَى وإن كان غنيًّا؛ لأن إعطاءه من الزكاة ليس لأجل حاجته؛ وإنما لأجل تأليف قلبه، والغازي أيضًا يعطى من الزكاة؛ لأنه إنما يعمل لمصلحة المسلمين، والغارم لإصلاح ذات البين يعطى من الزكاة، وإن كان غنيًّا؛ لأنه أيضًا يعمل لإصلاحٍ بين المسلمين، هؤلاء الأربعة يعطَون، وإن كانوا أغنياء، ولاحِظْ أن المؤلف قسَّم الغارم إلى قسمين: غارمٍ لنفسه، هذا لا بد أن يكون محتاجًا، وغارمٍ لإصلاح ذات البين، لا يشترط أن يكون محتاجًا.
وبهذا نكون قد انتهينا من مسائل وأحكام هذا الباب، ونضع عليه السؤال الآتي:
هل الجائزة موجودةٌ؟ نعم، احضر لنا الجائزة.
…
طيب، ذكرنا، من ضمن المسائل، مسألة شراء أو بناء بيتٍ للفقير والمسكين.
…
طيب، انتظر حتى أقول السؤال، السؤال: ما هي المسألة التي تتفرع منها هذه المسألة في النظر الفقهي؟
…
لا، أنت سبَق وأخذت جائزةً، والذي أخذ جائزةً لا يرفع يده، نعرفهم الذين أخذوا جوائز.
طيب، تفضل، نحن قلنا: بناء أو شراء بيتٍ للفقير والمسكين، ما هي المسألة المتفرعة عن هذه المسألة؟
أحسنت، مقدار ما يعطاه الفقير، هل يعطَى لمدة سنةٍ، أو يعطى على الدوام؟
تفضل خذ جائزتك.
إذا قلنا: إنه يعطى ما يكفيه لمدة سنةٍ. نقول: إنه لا يجوز أن يعطى من الزكاة لشراء أو بناء بيتٍ، وإذا قلنا: إنه يعطى.
…
سبق وأن أخذت أو لا؟ أخذت؟ لا، إذا كنت أخذت ما عليك شيءٌ، تُهديها لغيرك، طيب جاره، نعم.
…
طيب، نحن ذكرنا هذه المسألة، وقلنا: إن الفقير أو المسكين هل يجوز أن يُشترى له من أموال الزكاة بيتٌ أو يبنى له بها بيتٌ؟ قلنا: هذه تتفرع عن مسألةٍ، سمعتم أنتم الإجابة قبل قليلٍ ما يحتاج.
فالإجابة: أنها تتفرع عن مسألة: مقدار ما يعطى الفقير، هل يعطى ما يكفيه لمدة سنةٍ؟ فإذا قلنا: إنه يعطى ما يكفيه لمدة سنةٍ فقط. معنى ذلك: أنه لا يجوز أن يُشترى أو يبنى له بيتٌ من أموال الزكاة، وإنما يُستأجر له، وإذا قلنا: إنه يعطى ما يكفي على الدوام. فيجوز أن يُبنى أو يشترى له بيت.
ورجحنا قول الجمهور، وهو أنه يعطَى ما يكفيه لمدة سنةٍ، وعلى ذلك فلا يُشترى له من أموال الزكاة بيتٌ، ولا يبنى له؛ لأنه يمكن سد حاجته عن طريق الاستئجار.
باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه
ثم قال المؤلف رحمه الله:
باب: من لا يجوز دفع الزكاة إليه
الصنف الأول: الغني
لما بيَّن أهلَ الزكاة ومن تُدفع لهم الزكاة، انتقل لبيان من لا يجوز دفع الزكاة إليه، فقال: “لا تحل لغنيٍّ” الغني لا يجوز له الأخذ من الزكاة؛ لقول النبي : لا تحل لغنيٍّ، ولا لقويٍّ مكتسِبٍ [5]؛ ولقوله : من أخذ أموال الناس تَكَثُّرًا، فإنما يأخذ جمرًا؛ فلْيستَقِلَّ أو لِيستكثر [6].
فالغني إذنْ لا يجوز أن يأخذ من الزكاة، وهذا الحكم ينبغي أن يشاع لدى الناس؛ لأن الأغنياء أصبحوا -خاصة في وقتنا الحاضر- يزاحمون الفقراء، ويأخذون زكواتهم، ولا يتورعون عن ذلك، وإلا لو أن الأغنياء تورعوا عن الأخذ من الزكاة لربما سَدت الزكاة حاجات أكثر الفقراء، لكن يأتي هؤلاء الأغنياء ويزاحمون الفقراء في حقهم الذي فرضه الله لهم، وهذا لا يحل لهم.
الصنف الثاني: القوي المكتسب
قال: “ولا لقويٍّ مكتسِبٍ”.
كذلك القوي المكتسب لا تحل له الزكاة؛ للحديث السابق: إن شئتم أعطيتكما، ولا حَظَّ فيها لغنيٍّ، ولا لقويٍّ مكتسِبٍ [7]. ولكن يلاحظ في وقتنا الحاضر: أن الغني المكتسب اختلف عن الوضع فيما سبق، القوي المكتسب يذهب لأي مكان ويعمل، وأما الآن فقد أصبح القوي المكتسب مقيدًا بقيود وأنظمة وشروط، فأحيانًا يُوجد القوي المكتسب، لكن لا يجد العمل بسبب الأنظمة المقيدة للعمل في كثير من بلدان العالم الإسلامي، فإذا كان لا يجد العمل، بَحَثَ عن عملٍ ولم يجد، فهذا تحل له الزكاة، وإن كان قويًّا مكتسبًا، لكن لا بد أن يبحث عن العمل، وينبغي للمسلم أن يحرص على ألا يسأل الناس شيئًا، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وقد بايع نفرٌ من أصحاب النبي على ألا يسألوا الناس شيئًا، فكان سوط أحدهم يقع ولا يطلب من أحدٍ أن يناوله إياه، وإنما ينزل من بعيره، ويأخذ سوطه [8].
فينبغي أن يربي المسلم هذه المعاني في نفسه، ويحرص على ألا يسأل الناس شيئًا.
قال حكيم بن حزامٍ : سألت النبي فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم، إن هذا المال خَضِرٌ حُلوٌ، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفسٍ -يعني بتعلقٍ وطمعٍ- لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا يعني: المنفقة خير من اليد السفلى. يعني: الآخذة، لاحِظْ كيف أن النبي أعطاه، ثم أعطاه، ثم أعطاه، ثم وعظه بهذه الكلمات، فوقعت موقعها في نفس حكيمٍ، قال حكيمٌ: والله لا أَرْزَأُ بعدك أحدًا أبدًا. يعني: ما أطلب ولا أسأل بعدك أحدًا أبدًا، فكان أبو بكرٍ يعطي حكيمًا العطاء من بيت المال، فيأبى، فيأتي عمر بعده ويعطيه العطاء فيأبى، فيقول عمر : أشهدكم أني أعطي حكيمًا حقه فيأبى [9].
لاحِظ كيف تأثر بموعظة النبي ؟! لهذا؛ ينبغي للمسلم أن يتعفف عن سؤال الناس؛ لأن سؤال الناس فيه نوعٌ من الإذلال للنفس، واليد العليا -يعني المعطية- خير من اليد السفلى -الآخذة- إلا عند الضرورة، إلا عندما يضطر الإنسان، لا يجد سبيلًا لسد حاجته إلا بالسؤال، فلا بأس، وأما أن يسأل وهو يستطيع أن يسد حاجته بغير السؤال، فنقول: ليس له ذلك، اليد العليا خير من اليد السفلى.