دروس من الحرم.
تتمة باب صلاة المريض
حكم الجمع بين الصلاتين للمطر
قال: ويجوز الجمع بين العشاءين، خاصة في المطر، ولكن لا بد من تقييد ذلك بوجود الحرج والمشقة.
قد كان في زمن المؤلف، إذا نزل المطر وجد الحرج والمشقة بترك الجمع.
المؤلف توفي سنة (620 هـ) وكان الناس إلى وقت ليس ببعيد، كانوا في بيوت الطين، والطرق طينية لم تكن (مُسَفْلَتة)، ولم يكن هناك كهرباء، وكان الناس يعتمدون في المواصلات على الدواب الإبل والحمير، فكانوا إذا نزل المطر لحِق الناسَ حرج كبير، وكثير من المساجد لم تكن مسقوفة بالشكل الذي يمنع من خرور الماء؛ إما أن تكون مسقوفة بجذوع النخل -كما كان عليه الأمر في عهد النبي – أو بشيء لا يمنع من تسرب الماء معه، فكانوا إذا نزل المطر لحق الناسَ حرج كبير، ولذلك؛ نجد أن بعض الفقهاء يُطلِق جواز الجمع عند نزول المطر من غير تقييد ذلك بمشقة، ولكن القول الراجح في هذه المسألة: أنه لا يجوز الجمع عند نزول المطر إلا إذا لحق الناسَ بترك الجمع مشقة؛ لأنه أحيانًا عند نزول المطر لا يلحق الناس أدنى درجات الحرج والمشقة، الطرق (مُسَفْلَتة)، والمساجد مبنية على الطراز الجيد، والكهرباء موجودة، لا يلحق الناس أدنى حرج، بل ربما أحيانًا مع نزول المطر يَلطُف الجو، ويخرج الناس للمتنزَّهات، وتعلوهم البهجة، فكيف يجمع بين الصلاتين؟!
ضابط الحرج والمشقة للجمع بين الصلاتين في المطر
وهذا يقودنا إلى معرفة ضابط الحرج والمشقة، فما الضابط في الحرج والمشقة الذي يجوز لأجله الجمع عند نزول المطر؟ نعم، من يجيب على هذا السؤال؟
نعم الضابط ما هو؟
نعم، قد تبتل الثياب ولا يوجد حرج، نعم هذا كان في السفر، يجوز حتى لو لم ينزل المطر، إذنْ ما هو الضابط؟ ضابط الحرج والمشقة، نضبطه بأي شيء؟
بالعرف، فما عده الناس في عرفهم أن فيه حرجا ومشقة، نقول ونزول المطر يجوز معه الجمع، لكن أيضا حتى أعراف الناس الآن اختلفت، يحصل فيها اضطراب، ولذلك؛ إذا نزل المطر تجد حتى جماعة المسجد الواحد يختلفون؛ هذا يقول: هناك حرج. وهذا يقول: ما من حرج. ولذلك؛ نحتاج حتى إلى ضبط العرف، نحن قلنا: الضابط هو العرف. نحتاج إلى ضبط العرف في هذه المسألة، فنقول: أحسن ما يمكن أن يقال في هذا: هو أن ننظر إلى تأثير هذا المطر على دنيا الناس؛ إذا أثر على دنيا الناس، بحيث كان له أثر في إغلاق بعض المحلات التجارية، بعض أصحاب المحلات التجارية أغلقوا محلاتهم لأجل نزول المطر، له أثر على حركة الناس في الشوارع، له أثر في لزوم بعض الناس بيوتهم من أجل الحرج، فهنا الحرج ظاهر، فيجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، أما إذا لم يكن لهذا المطر أي أثر على دنيا الناس فمعنى ذلك: أن الحرج والمشقة غير موجودين بترك الجمع؛ بدليل: أنه لم يؤثر على دنيا الناس.
والعجب: أن بعض الناس عند نزول المطر يطلبون من الإمام الجمع، ثم ليتهم إذا جمعوا لزموا بيوتهم، يذهبون لقضاء حوائجهم والمتنزهات ونحو ذلك، وهذا فهم خاطئ، بعض الناس يقيس الجمع في الحضر لأجل المطر على مسألة القصر في السفر، القصر في السفر مشروع، ولو لم توجد مشقة بالإجماع، أما الجمع بين الصلاتين لأجل المطر فلا بد فيه من وجود المشقة.
فإذنْ: لا بد من وجود مشقة ظاهرة وحرج كبير من ترك الجمع، أما ما نجده من تساهل بعض الناس في الجمع لأجل نزول المطر مع عدم وجود الحرج فهذا لا يجوز، وإذا اشتبه الأمر هل يوجد حرج بترك الجمع أو لا يوجد؟ فالأصل عدم الجمع، وأن تصلى كل صلاة في وقتها، هذا هو الأصل، وشرط الوقت هو آكد شروط الصلاة، آكد شروط الصلاة هو شرط الوقت، وقد تسقط جميع الأركان، وجميع الواجبات، وجميع الشروط مراعاة لشرط الوقت، ما عدا شرطًا واحدًا لا يُتَصور سقوطه، ما هو؟ النية، أحسنت! النية، فإذنْ قد تسقط جميع الأركان والشروط والواجبات مراعاة للوقت، ما عدا النية، لو افترضنا أن إنسانًا عاجزًا عن استقبال القبلة، عاجزًا عن ستر العورة، عاجزًا عن الطهارة، عاجزًا عن -قل ما شئت من الأركان والشروط والواجبات- وخشي خروج الوقت، نقول: صل على حسَب حالك، ولا تدع الصلاة حتى يخرج وقتها، هذا يدل على آكدية شرط الوقت؛ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103]، كتابا موقوتا، فهذا أصلٌ محكمٌ لا نخرج عنه فنجمع بين الصلاتين، إلا بأمر واضح كالشمس، أما مع عدم الوضوح، كانت المسألة ملتبسة، فالأصل عدم الجمع، وأن تصلى كل صلاة في وقتها.
باب صلاة المسافر
ننتقل إلى صلاة المسافر.
قال المصنف رحمه الله:
باب صلاة المسافر
وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخًا، وهي مسيرة يومين قاصدين، وكان مباحًا، فله قصر الرُّباعيَّة خاصة، إلا أن يأتم بمقيم، أو لم ينوِ القصر، أو ينسى صلاة حضر فيذكرها في السفر، أو صلاة سفر فيذكرها في الحضر، فعليه الإتمام، وللمسافر أن يُتمَّ، والقصر أفضل، ومن نوى الإقامة أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإن لم يُجْمِع على ذلك قَصَر أبدًا.
معنى السفر
المسافر: هو خلاف المقيم، والسفر: من الإسفار، وهو البروز في الصحراء وفي الفضاء، وقد أخبر النبي أن السفر قطعة من العذاب [1]، وذلك؛ لأن السفر يعتريه ما يعتريه من الطوارئ والعوارض والمشقة، وخاصة أسفار الناس فيما مضى؛ فكانوا يقطعون المسافات الطويلة على الإبل، وأحيانا على أرجلهم، وقد ذكر الله وسائل المواصلات فيما مضى، وقال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ذكر وسائل المواصلات عندهم؛ وهي الخيل والبغال والحمير، وأيضا الإبل، لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 8]. وقد خلق الله ما لم يعلم الناس من قبل؛ وهي هذه الطائرات والسيارات والقطارات، سبحان الله! انظروا إلى القيمة في هذه الآية؛ لأن الله سيخلق وسائل مواصلات لا يعلمها الناس وقت النبوة، وقت نزول الوحي، وقد تحقق ما أخبر الله به، خَلَق ما لم يعلم الناس من وسائل المواصلات الحديثة، ولكن مع ذلك، مع وجود وسائل المواصلات الحديثة أيضا، لا يزال السفر قطعة من العذاب، وأنت تجد هذا من نفسك إذا كنت في السيارة، أو في الطائرة، أو في أية وسيلة من وسائل المواصلات، لا بد أن يلحق المسافر شيء من العناء والنصب والمشقة، وهو مظِنة للمشقة، ولذلك؛ رُوعِيَ المسافر بتخفيف أمور العبادة عليه؛ فله القصر والجمع، والفطر في نهار رمضان، ومدة المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، بخلاف المقيم فإنها يوم وليلة.
مقدار مسافة السفر
وقد أشار المؤلف في الباب السابق إلى أن المسافر يجوز له الجمع إذا جاز له القصر، وهذا الباب عَقَده لبيان أحكام القصر، قال إذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخا، وهي مسيرة يومين قاصدين، وكان مباحا، فله قصر الرباعية خاصة، فأفادنا المؤلف بأن أقل مدة يجوز معها القصر هي ستة عشر فرسخا، وستة عشر فرسخا تعادل ثمانية وأربعين ميلا، وتعادل التقديرات المعاصرة (80 كيلو مترًا) تقريبًا، قال وهي مسيرة يومين قاصدين، وهي المذكورة في قول النبي : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسافة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم. [2] متفق عليه، فبعضهم يعبر بيوم وليلة، وبعضهم يعبر بيومين بسير الإبل المحملة، كانت العرب تقيس المسافة بسير الإبل المحملة، يقولون: أقصى ما تسير عليه الإبل في اليوم هو (40 كيلو مترًا) فيومين يعني (80 كيلو مترًا)، وهذه المدة هي أربعة برد، وقد كان ابن عباس وابن عمر يقصران في أربعة برد، ويقولان: يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد. وهذا القول هو الذي عليه أكثر أهل العلم، تحديد أقل مسافة للقصر بأربعة برد، وهي تعادل (80 كيلو مترًا)، ومن أهل العلم من قال إنها لا تحد بالمسافة؛ وإنما المرجع في ذلك العرف، ولكن هذا لا ينضبط، ويختلف الناس فيه اختلافا كبيرا، ولو خرج مجموعة من طلبة العلم لاختلفوا: هل هذه المسافة مسافة قصر أو ليست مسافة قصر؟ فالعرف في مسألة المسافة في السفر مضطرب فلا يعول عليه في وقتنا الحاضر، ولهذا؛ فالقول الذي قرره المؤلف هو الأظهر لهذه المسألة.
قال بعض أهل العلم: إن هذه المسألة قد ورد فيها التحديد من النبي في قوله: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم [3]. كأنه عليه الصلاة والسلام قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر أدنى مسافة سفر إلا ومعها ذو محرم. لكن هو عبر عن ذلك بيوم وليلة، وهذا استنباط جيد، قالوا: هذه المسألة قد ورد فيها التحديد من النبي باليوم والليلة التي تعادل (80 كيلو مترًا) ثم أيضًا لم يرد عن أحد من الصحابة أنه حدد بالعرف؛ وإنما المنقول عن ابن عمر وابن عباس هو التحديد، قد حدد مسافة السفر بمسافة البرد، وهي (80 كيلو مترًا)، ولم يعرف لهما مخالف، ولا شك أن الصحابة هم أعلم الناس بشريعة الله، وأعلم الناس أيضا بلغة العرب، وقد كان ابن عباس وابن عمر يناديان في أهل مكة: يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد.
وعلى هذا: فأقل مسافة للسفر: هي أربعة برد، أو ستة عشر فرسخا، أو ثمانية وأربعين ميلا، أو بالتقديرات المعاصرة (80 كيلو مترًا)، فأقل مسافة للسفر هي (80 كيلو مترًا)، ولكن كيف تحسب المسافة؟ انتبه لهذه النقطة!
كيف تحسب مسافة السفر؟
المسافات الآن المكتوبة على لوحات الشوارع في جميع دول العالم يقيسونها بوسط المدينة، ولو رأيت لوحة مثلا مكتوب عليها: بقي على جدة (50 كيلو)، المقصود إلى وسط جدة وليس إلى أول جدة، فإذا أردت أن تحسب المسافة هنا لا تعتمد على اللوحات الموجودة على الشوارع؛ وإنما تبدأ في حساب المسافة من مفارقة العمران للبلد الذي أنت فيه إلى أول عمران البلد الذي تَقدَم إليه، فإذا كانت المسافة (80 كيلو مترًا) فأكثر، فهي مسافة سفر، وإذا كانت أقل فليست بمسافة سفر، وعلى هذا: إذا حسبنا المسافة الآن ما بين مكة وجدة، من آخر عمران مكة إلى أول عمران جدة، هل هي مسافة سفر؟ هي الآن أقل من (80 كيلو مترًا) نعم أقل من (80 كيلو مترًا) فليست مسافة سفر، ولذلك؛ من يأتي من جدة إلى هنا، إلى مكة، ليس له القصر فانتبه!
إذنْ لطريقة معرفة المسافة، هذه بعض الناس يجهلها، يعتمد على اللوحات الموجودة في الشوارع، وربما لو حسبها بدقة وجد المسافة أقل، إذنْ أقل مسافة للسفر: هي (80 كيلو مترًا) فإذا سافر (80 كيلو مترًا) فأكثر، جاز له الترخص برخص السفر، أما إذا كانت أقل من (80) فليس له الترخص برخص السفر، وأيضا يترتب على ذلك أحكام أخرى؛ فإذا كانت المسافة مسافة سفر فلا يجوز للمرأة أن تسافر إلا معها ذو محرم، إذا كانت أقل من سفر تريد أن تسير مثلا مسيرة (50 كيلو مترًا) لا يجب وجود المحرم، لكن يجب انتفاء الخلوة ولو بوجود امرأة معها أو صبي ونحو ذلك.
حكم إتمام الصلاة للمسافر إذا صلى خلف مقيم
قال: إلا أن يأتَمَّ بمقيم. يعني: إلا أن يأتم المسافر بمقيم فيجب عليه الإتمام؛ لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لمَّا سئل: ما بال المسافر إذا صلى وحده صلى ركعتين، وإذا صلى خلف مقيم أتم أربعا؟ قال تلك السنة. وهذا رواه مسلم.
فإذنْ: المسافر إذا صلى خلف مقيم وجب عليه أن يتم، حتى لو لم يدرك المقيمَ إلا في التشهد الأخير، يجب عليه أن يتم.
أو لم ينو القصر: أي عند شروعه في الصلاة، كأن يكون مأموما، ولم يعلم بأن الإمام يريد القصر، وهذا بناء على رأي المؤلف، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو اشتراط نية القصر قبل الشروع في الصلاة، وهذا الشرط لا دليل عليه، القول الراجح: أنه لا تشترط نية القصر، كما أنه لا تشترط نية الجمع.
كيف تؤدى الصلاة المنسية في الحضر أو السفر؟
قال: أو ينسى صلاة حضر فيذكرها في السفر. فيجب عليه أن يصليها أربعا؛ لأنه وجبت عليه تامة، فيجب عليه أن يقضيها كذلك، أو صلاة سفر فيذكرها في الحضر فعليه الإتمام كذلك إذا كانت الصلاة صلاة سفر فذكرها في الحضر؛ لأن القصر إنما هو من رخص السفر، فبطل بزواله، فإذنْ: إذا نسي صلاة سفر ذكرها في الحضر وجب عليه الإتمام، وإذا نسي صلاة حضر ذكرها في السفر وجب عليه الإتمام كذلك.
حكم إتمام الصلاة للمسافر
قال: وللمسافر أن يتم، والقصر أفضل. القصر أفضل؛ لأنه رخصة من الله ، والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تجتنب نواهيه، وكما يَكره أن تؤتى معصيته، فالله يحب أن تؤتى رخصه، ولذلك؛ فإن القصر سنة للمسافر، لكنه ليس واجبًا عند جمهور العلماء؛ من المالكية والشافعية والحنابلة، أنه ليس واجبا، وذهب الحنفية إلى أن القصر واجب بحق المسافر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فأُقِرَّت صلاة السفر، وزيد في الحضر. ولكن الراجح -والله أعلم- قول الجمهور.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فكان هذا في أول الأمر، ثم بعد ذلك نسخ، ومما يدل لذلك: أن الصحابة فهموا هذا الفهم، كان عثمان يصلي بالناس في الحج ويتم، وكان الصحابة يتمون خلفه، وقد اجتهد في هذه المسألة، قيل: إنه تأهل. يعني: تزوج في مكة، فرأى أنه ليس له القصر فكان يتم، وكان الصحابة يتمون خلفه، وأيضا رُوي عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت أحيانا تتم في السفر، فالقول الراجح أن القصر مستحب وليس واجبًا.
مدة الإقامة التي يترخص فيها المسافر برخص السفر
ومن نوى الإقامة أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتَمَّ، وإن لم يُجْمِع على ذلك قصر أبدا.
المسافر إذا كان سائرًا في الطريق، وكانت المسافة (80 كيلو) فأكثر، فهذا يقصر بالإجماع، ويترخص برخص السفر، لكن إذا أقام المسافر، مثل حال أكثر الحاضرين الآن هنا في المسجد الحرام، أقام المسافر في مكة هل له أن يترخص برخص السفر، وكم مدة الإقامة؟ هذه المسألة من أشكل المسائل في الفقه هي من أعضل المسائل، والأقوال فيها كثيرة، والآثار فيها أيضًا كثيرة ومختلفة اختلافًا كثيرًا، والمؤلف يرى أنه إذا أقام إحدى وعشرين صلاة، قال: نوى الإقامة أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم. الصلاة إحدى وعشرين صلاة كم يوم؟ أربعة أيام، كأن المؤلف يقول إذا قام أكثر من أربعة أيام أتم، أما إذا كانت إقامته في حدود أربعة أيام فأقل يقصر، وهذا هو قول الجمهور؛ من الحنابلة والمالكية والشافعية.
وأما الحنفية فعندهم: إذا أقام أقل من خمسة عشر يوما قصر، وإذا أقام أكثر، نعم، إذا أقام خمسة عشر يوما فأقل قصر، فإن أقام أكثر من خمسة عشر يومًا أتم، ومن العلماء من قال: إن المرجع في ذلك العرف، ولكن العرف أيضا في هذه المسألة مضطرب وغير منضبط، وقبل أن نفصل في هذه المسألة، نشير للمسألة المتفق عليها، وهي التي أشار إليها المؤلف قال: وإن لم يُجمِع على ذلك قَصَر أبدًا. وهي: المسافر إذا أقام ولم يُجمِع زمن الإقامة، يعني لم يحدد مدة إقامته، له حاجة لا يَدرِي متى تنقضي، وهو يقول، اليوم أرجع، غدًا أرجع. فهذا يترخص برخص السفر بإجماع العلماء، وإن طالت المدة، وإن بقي شهورا، وإن بقي سنين، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، مثال ذلك: ذهبت لبلد لقضاء حاجة من الحوائج، ولا تدري متى تنقضي هذه الحاجة، وفي نيتك متى قضيت حاجتك رجعت، فهنا لك أن تترخص برخص السفر، ولو طالت المدة، وهذا بإجماع العلماء.
الحالة الثانية: إذا حددت زمن الإقامة، مثل مجيء الإخوة هنا إلى مكة، حددت أسبوعًا، عشرة أيام، أسبوعين، شهرًا، شهرين، هذه المسألة مشكلة، فذكرنا: أن هناك من حدد، من قال: إذا كانت إقامته أكثر من أربعة أتم، هذا قول الجمهور ومنهم المؤلف، ومنهم من قال: إذا كانت إقامته أكثر من خمسة عشر يوما أتم. ومنهم من قال: إذا كانت إقامته أكثر من تسعة عشر يوما أتم، وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: أقام رسول الله بتبوك، أقام رسول الله في الفتح تسعة عشر يوما يقصر الصلاة فنحن إذا أقمنا تسعة يوما قصرنا فإذا زدنا على ذلك أتممنا [4] رواه البخاري.
ومنهم من حدد المدة باثني عشر يوما، كما هو مروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ومنهم من قال: إن المسافر إذا لم يُجمِع الإقامة قصر مطلقا، ولكن هذا القول قول مشكِل، القول بأن المسافر إذا لم يحدد، إذا لم يُجمِع الإقامة قصر مطلقا، هذا مشكل؛ يترتب على هذا القول لوازم كثيرة، في بعض البلدان يوجد المقيمون من غير المواطنين يشكلون الأكثر، أكثر السكان، بعض البلدان تصل نسبة المقيمين من غير المواطنين إلى (90%) بناء على هذا القول: يفطرون في نهار رمضان، يقصرون، يَجمَعون، وهذا لم تَرِد به الشريعة، أن يكون أكثر الناس، أكثر أهل البلد يفطرون في نهار رمضان، ويقصرون ويجمعون، هذا ما يبين ضعف هذا القول، ولذلك؛ لا بد من التحديد، وأحسن ما يقال في التحديد: أن نرجع للآثار المروية عن الصحابة ، وأصح الآثار عن أنس أنه قال: أقام النبي في حجة الوداع عَشرًا يقصر الصلاة [5]. وابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال إذا أقام المسافر اثني عشر يوما قصر، فإن زاد أتم. وابن عباس رضي الله عنهما تسعة عشر يوما، كما سبق.
والذي يظهر: أن المسافر إذا أقام في حدود هذه المدة ما بين اثني عشر يوما إلى تسعة عشر يوما، فإنه يترخص.
أما إذا زاد زمن إقامته على تسعة عشر يوما، فإنه يتم، هذا هو الأظهر، وعلى ذلك: المبتعث للدراسة، هذا ليس مسافرا، وليس له أن يفطر في نهار رمضان، ولا يترخص برخص السفر، كذلك المقيم في بلد للعمل ليس مسافرا، أقام مدة طويلة قال يريد أن يقيم شهرًا، شهرين، ثلاثة، أيضا ليس له الترخص برخص السفر، لكن إذا كانت الإقامة في حدود تسعة عشر يوما فأقل، هذا هو الذي يترخص برخص السفر، هذا هو الأقرب في هذه المسألة والله أعلم.
باب صلاة الخوف
ننتقل إلى: صلاة الخوف، وبعدها نختم به.
باب صلاة الخوف
وتجوز صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله ، والمختار منها: أن يجعلهم الإمام طائفتين: طائفة تحرس، والأخرى تصلي معه ركعة، فإذا قام إلى الثانية نَوَت مفارقته وأتمت صلاتها وذهبت تحرس، وجاءت الأخرى فصلت معه الركعة الثانية، فإذا جلس للتشهد قامت فأتت بركعة أخرى، وينتظرها حتى تتشهد ثم يسلم بها، وإن اشتد الخوف صلوا رجالا وركبانا إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون بالركوع والسجود، وكذلك كل خائف على نفسه يصلي على حسَب حاله، ويفعل كل ما يحتاج إلى فعله؛ من هرب أو غيره.
صفة صلاة الخوف
نعم صلاة الخوف ورد فيها عدة صفات عن النبي ؛ ذكر أهل العلم ست صفات، فالصلاة المذكورة في كتب أهل العلم، وأشهر هذه الصفات: الصفة التي ذكرها المؤلف، وهي: أن يجعلهم الإمام طائفتين: طائفة تصلي معه، وطائفة تحرس، فإذا أتم الإمام الركعة وقام للركعة الثانية، الطائفة التي تصلي معه تنوي مفارقته، وتكمل ركعة، فكل واحد من الطائفة يكمل ركعة ويسلم، والإمام لا يزال قائما، وتأتي الطائفة التي تحرس وتصلي معه الركعة الثانية في حق الإمام، وهي الأولى في حقها، والإمام إذا أتم هذه الركعة سيجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد وسلم، تقوم هذه الطائفة وتقضي ركعة، هذه هي أشهر صفات صلاة الخوف [6]، وهناك صفات أخرى مذكورة ومفصلة في كتب الفقه وشروح الأحاديث، لكن هذه هي أبرز صفات صلاة الخوف.
قال: وإن اشتد الخوف صلَّوا رجالا وركبانا إلى القبلة وغيرها، يومئون بالركوع والسجود.
أحيانا مع شدة الخوف لا يتمكن الناس من أن يصلوا صلاة الخوف بإحدى الصفات الواردة؛ فهنا يصلون رجالًا، ما معنى رجالًا؟ يعني: راجلين يمشون، أو ركبانًا؛ سواء أكان ذلك في حرب، أو كان الخائف خائفًا من سبع، أو من سيل، أو من حريق، أو من غير ذلك، فيصلي على حسب حاله، ولو أن يصلي راجلًا أو راكبًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]، لكن لا يَدَع الصلاة حتى يخرج وقتها، وهذه المسألة لاحِظْ أنها تكررت معنا في الدرس، لا يدع المكلف الصلاة حتى يخرج وقتها، ولو أن يصلي بقلبه، والصلاة لا تسقط عن المكلف ما دام عقله معه، إلا في حالة واحدة، ما هي؟ أعيد مرة أخرى، الصلاة لا تسقط عن المكلف ما دام عقله معه، إلا في حالة واحدة، ما هي؟
متى تسقط الصلاة عن المكلف؟
نعم أحسنت، المرأة حال الحيض والنفاس، ما عدا ذلك لا تسقط الصلاة عن المكلف، صَلِّ على حسَب حالك؛ سواء كنت مريضا أو خائفا، على أية حال، هذه مسألة -يا إخوان- يجهلها كثير من الناس، فبعض الناس في المستشفى إذا كان مريضا يترك الصلاة إذا قيل له: يا فلان، لماذا لا تصلي؟ قال: كيف أصلي وأنا على غير طهارة، ولا أستطيع استقبال القبلة؟! إذا خرجت من المستشفى سوف أقضي. هذا لا يجوز، نقول: صل على حسب حالك، ولو كنت على غير طهارة، ولو إلى غير قبلة، ولو أن تومئ بالركوع والسجود، ولو أن تصلي بقلبك، لكن لا تدع الصلاة حتى يخرج وقتها، وبعض الناس في الطائرة أيضا لا يصلي، يقول: إذا هبطت الطائرة. نعم إذا كانت الصلاة تجمع مع غيرها فلا بأس، كأن يؤخر الظهر إلى العصر، أو المغرب إلى العشاء، لكن أحيانًا لا تكون مما يجمع مع غيرها، كالفجر، ويعرف أن الطائرة لن تهبط إلا بعد طلوع الشمس، أو العصر ويعرف أن الطائرة لن تهبط إلا بعد غروب الشمس، وهنا لا يحل له أن يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها، نقول: صل في الطائرة على حسب حالك، ولو إلى غير القبلة، ولو أن تومئ بالركوع والسجود.
قال: وكذلك كل خائف على نفسه يصلي على حسب حاله، ويفعل كل ما يحتاج إلى فعله من هرب أو غيره.
فإذنْ يصلي على حسب حاله، ولا يدع الصلاة حتى يخرج وقتها، لكن قال بعض أهل العلم: إنه يستثنى من ذلك في حالات الخوف الشديد، عندما لا يستطيع الإنسان أن يصلي على حسب حاله، وتكون روحه بين كفيه، قلبه متعلق خائف خوفا شديدا، كأن يكون في معركة وقد حمي الوطيس فيها، ما يستطيع أن يصلي على أية حال، فهذه الحالة التي يكون الخوف فيها شديدا، لشدة القتال أو لغيره، ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز له أن يؤخر الصلاة عن وقتها حتى تزول شدة الخوف واستدلوا بأن النبي فعل ذلك يوم الخندق؛ حيث أخر العصر إلى ما بعد غروب الشمس، ولم يُصلِّ بإحدى سمات صلاة الخوف، مع أنها شرعت قبل ذلك، على القول الراجح، وذلك؛ لأنه في غزوة الأحزاب -كما وصفها الله – بلغت القلوب الحناجر، لهذه الدرجة، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب: 10]، يعني: بلغت الشدة إلى هذه الحال، زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، خوف شديد، فأخر النبي العصر ولم يصلها إلا بعد غروب الشمس، وأيضا مما يدل لذلك: أن الصحابة عند فتح بلاد تُسْتَرَ بفارس كان دخولهم لها وقت صلاة الفجر، فأخروا صلاة الفجر إلى الضحى، وصلوها ضحًى، لكن هذه حالات خاصة، هذه عند اشتداد الخوف، فيجوز تأخير الصلاة في هذه الأحوال، أما عند تمكن الخائف من أن يصلي بإحدى صفات صلاة الخوف، أو أن يصلي راجلا أو راكبا، فإنه يفعل ذلك ويصلي على حسَب حاله، ونقف عند باب صلاة الجمعة، نفتتح به -إن شاء الله- الدرس بعد صلاة العصر.