logo
الرئيسية/دروس علمية/دروس من الحرم- عمدة الفقه/(9) باب صلاة الجمعة- من قوله: “كل من لزمته المكتوبة لزمته الجمعة..”

(9) باب صلاة الجمعة- من قوله: “كل من لزمته المكتوبة لزمته الجمعة..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم ربنا اشرح صدورنا، ويسر أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

باب صلاة الجمعة

أيها الإخوة، نواصل هذا الدرس في شرح “العمدة في الفقه”، للموفق بن قدامة المقدسي رحمه الله، وكنا قد وصلنا إلى باب صلاة الجمعة.

وسيكون هذا الدرس -بالنسبة لفترة العصر- هو آخر درسٍ، غدًا العصر ليس هناك درسٌ، لكن -إن شاء الله- سيكون هناك درسٌ بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة الفجر نكمل -إن شاء الله- المقرر شرحه من “العمدة” في هذه الدورة إن شاء الله .

نبدأ أولًا بالاستماع إلى عبارة المؤلف رحمه الله:

القارئ:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لمؤلف هذا الكتاب ولشيخنا ولجميع الحاضرين.

يقول المصنف رحمه الله:

باب صلاة الجمعة

كل من لزِمَتْه المكتوبة؛ لزمته الجمعة، إذا كان مستوطنًا ببناءٍ بينه وبينها فرسخٌ فما دون ذلك؛ إلا المرأة والعبد والمسافر والمعذور بمرضٍ أو مطرٍ أو خوفٍ، وإن حضروها؛ أجزأتهم ولم تنعقد بهم، إلا المعذور، إذا حضرها؛ وجبت عليه وانعقدت به.

حكم صلاة الجمعة

الشيخ: صلاة الجمعة مشروعةٌ بالإجماع، أوجبها الله على الرجال.

وأما النساء: فليس عليهن جمعةٌ، قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9].

من تجب عليه الجمعة

فالجمعة تجب على كل من لَزِمَتْه المكتوبة من الرجال، إذا كان مستوطنًا ببناءٍ، فيشترط لصحة إقامة الجمعة: الاستيطان ببناءٍ يشمله اسمٌ واحدٌ؛ بأن يستوطن فيه طيلة أيام السنة، لا يرتحل عنه صيفًا ولا شتاءً، فيكون هو وطنه، وهو بلده.

أما غير المستوطنين: فليس لهم أن يقيموا الجمعة؛ ولذلك لو أن جماعةً خرجوا إلى البرية، وأقاموا مخيمًا، وحضرتهم الجمعة، هل لهم أن يقيموا الجمعة؟

الجواب: لا، ليس لهم أن يقيموا الجمعة، لماذا؟ لأنهم غير مستوطنين، ولو أن جماعةً مسافرين قالوا: نحن عدَدُنا كبيرٌ، نريد أن نقيم الجمعة، فنقول: إن هذا غير مشروعٍ، بل هذا عند أهل العلم من البدع، فلا يشرع لهم أن يقيموا الجمعة، إنما يقيم الجمعة المستوطنون الذي يقيمون في البلد إقامةً دائمةً؛ ولهذا كان هناك بعض قبائل العرب حول المدينة، ولم يكونوا يقيمون الجمعة، بل يَقدَمون على مسجد النبي ويصلون معه.

قال: “بينه وبينها فرسخٌ فما دون ذلك”، أفادنا المؤلف بأن الجمعة إنما تلزم وتجب على من كان داخل البلد، و”بينه وبينها”، يعني: بين بيته والمسجد الذي تقام فيه الجمعة مسافة فرسخٍ، والفرسخ: ثلاثة أميالٍ، يعادل تقريبًا (5 كيلومتراتٍ).

فإذا كان المسجد الجامع داخل البلد؛ وجب عليه أن يصلي الجمعة.

أما إذا كان خارج البلد؛ فإن كان بينه وبين البلد أقل من فرسخٍ؛ فيجب عليه أن يصلي الجمعة، وأما إذا كان خارج البلد وبينه وبين البلد أكثر من فرسخٍ؛ فلا تجب عليه الجمعة.

ومن خرج في نزهةٍ مثلًا، أو خرج لصيدٍ، وبينه وبين البلد أكثر من فرسخٍ -أكثر من (5 كيلومتراتٍ)- لا تلزمه الجمعة، وإنما يصليها ظهرًا، ما لم يتخذ ذلك حيلةً لإسقاط الجمعة، لكن ذكر الفقهاء أن من كان داخل البلد؛ يجب عليه أن يصلي الجمعة حتى لو لم يسمع النداء؛ لعموم قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9].

أما من كان خارج البلد فننظر؛ إن كان بينه وبين البلد أقل من فرسخٍ؛ وجب عليه، لزمته الجمعة، وإن كان بينه وبين البلد أكثر من فرسخٍ؛ لم تلزمه الجمعة.

قال: “إلا المرأة والعبد والمسافر، فلا تجب عليهم الجمعة”؛ لحديث طارق بن شهابٍ أن النبي قال: الجمعة حقٌّ واجبٌ على كل مسلمٍ في جماعةٍ إلا أربعةً: عبدٌ مملوكٌ، أو امرأةٌ، أو صبيٌّ، أو مريضٌ [1]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود بسندٍ جيدٍ.

فهؤلاء الأربعة لا تجب عليهم الجمعة: المرأة ليست من أهل الجمعة، وإنما تصليها ظهرًا، وليست كذلك من أهل الجماعة، لكنها لو أرادت أن تصلي الجمعة مع الناس؛ فلا بأس، فالنساء مثلًا هنا في المسجد الحرام لو أتين وصلين مع الرجال؛ فلا بأس، لكن لا تجب على المرأة الجمعة، لو أرادت أن تصلي في بيتها؛ فلا بأس، تصليها ظهرًا أربع ركعاتٍ.

وهكذا أيضًا العبد المملوك الرقيق، والرِّق عجزٌ حكميٌّ يقوم بالإنسان؛ بسبب كفره بالله ، وقد يكاد الرق الآن أن يكون قد انقرض في العالم، وممنوعٌ رسميًّا في جميع دول العالم، فيكاد يكون قد انقرض في الوقت الحاضر.

والصبي أيضًا لا تجب عليه الجمعة؛ لأنه مرفوعٌ عنه القلم، لكن لو صلى الجمعة وكان مميزًا؛ صحت منه.

والمريض كذلك لا تجب عليه الجمع.

قال: “والمعذور بمرضٍ أو مطرٍ أو خوفٍ”، كذلك أيضًا من كان له عذرٌ؛ بأن كان مريضًا، أو كان هناك خوفٌ، ولو ذهب ليصلي الجمعة؛ لربما لحقه ضررٌ، أو كان هناك مطرٌ يلحق الناسَ معه حرجٌ كبيرٌ.

وقد تكلمنا في الدرس السابق عن حكم الجمع بين الصلاتين لأجل المطر، وذكرنا أنه لا يجوز الجمع إلا عند وجود الحرج، وذكرنا ضابطًا لهذا الحرج: وهو أن يؤثر على دنيا الناس، والجمعة آكد من الجماعة؛ فلا بد أن يكون الحرج كبيرًا يُجمِع الناسُ على وجوده.

قال: “وإن حضروها”، يعني: من سبق من العبد والمرأة والمسافر والصبي والمريض؛ “أجزأتهم”، إذا حضروها أجزأتهم، وصلوها جمعةً مع الناس.

قال: “ولم تنعقد بهم”، لم تنعقد بالمرأة والعبد والمسافر، أي: لا يُحسبون في العدد المشترط لصحة صلاة الجمعة، إلا المعذور بمرضٍ أو مطرٍ أو خوفٍ، فإنه إذا حضرها؛ وجبت عليه وانعقدت به.

فهذا المريض نقول: لا يجب عليك أن تصلي الجمعة، لكن لو تحامل على نفسه، ووصل للمسجد الجامع؛ وجبت عليه؛ لأنه إذا حضر؛ زالت عنه المشقة، وانعقدت به.

شروط صحة الجمعة

ننتقل إلى شروط الصحة:

القارئ:

ومن شرط صحتها: فعلها في وقتها في قريةٍ، وأن يحضرها من المستوطنين بها أربعون من أهل وجوبها، وأن يتقدمها خطبتان في كل خطبةٍ حمدٌ لله ، وصلاةٌ على رسوله ، وقراءة آيةٍ، والموعظة.

ويستحب أن يخطب على منبرٍ، فإذا صعد أقبل على الناس فسلم عليهم ثم يجلس، وأذَّن المؤذن، ثم يقوم الإمام فيخطب ثم يجلس، ثم يخطب الخطبة الثانية، ثم تقام الصلاة فينزل فيصلي بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة.

فمن أدرك معه منها ركعةً؛ أتمها جمعةً، وإلا أتمها ظهرًا، وكذلك إن خرج الوقت، أو نقص العدد وقد صلَّوا ركعةً؛ أتموها جمعةً، وإلا أتموها ظهرًا.

ولا يجوز أن يُصلَّى في المصر أكثر من جمعةٍ واحدةٍ، إلا أن تدعو الحاجة إلى أكثر منها.

الشيخ: قال: “ومن شرط صحتها”، هذه شروط صحة صلاة الجمعة:

  • الشرط الأول: فعلها في وقتها كسائر الصلوات، سبق الإشارة إلى أن شرط الوقت هو آكد شروط الصلاة، ووقت الجمعة اختَلف العلماء فيه على قولين:
    1. القول الأول: أن وقتها يبتدئ من ابتداء وقت صلاة العيد، وينتهي بأن يصبح طول ظل كل شيءٍ مثله، يعني إلى أذان العصر، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
    2. والقول الثاني: أن وقت الجمعة يبتدئ من زوال الشمس، يعني من وقت أذان الظهر إلى أن يصبح طول ظل كل شيءٍ مثله، يعني إلى أذان العصر، وهذا قول جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة.

والقول الراجح في هذه المسألة: هو قول الجمهور، وهو أن وقتها يبدأ من زوال الشمس؛ وذلك لأن هذا هو القول الذي تدل له الأدلة الصحيحة؛ ومنها: حديث أنسٍ قال: “كان رسول الله يصلي الجمعة حين تميل الشمس” [2]، يعني: حين تزول، وقد بوب عليه البخاري بقوله: “باب الجمعة إذا زالت الشمس”، وعلق على هذا الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” قائلًا: إن البخاري ليس من عادته الجزم في المسائل الخلافية، لكنه جزم في هذه المسألة؛ لضعف الخلاف فيها.

فهدي النبي أنه كان يدخل مع الزوال، وأما الحنابلة القائلون: إن وقتها يبتدئ من وقت صلاة العيد، فأدلتهم إما أنها صحيحةٌ غير صريحةٍ، أو صريحةٌ غير صحيحةٍ؛ فمما استدلوا به: الأثر عن عبدالله بن سِيدان، قال: “صليت مع أبي بكرٍ قبل الزوال، وصليت مع عمر إلى أن نقول: قد انتصف النهار”، ولكن هذا الأثر ضعيفٌ لا يصح.

واستدلوا بحديث سلمة بن الأكوع في “الصحيحين”، قال: “كنا نصلي مع النبي الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظلٌّ نستظل به” [3]، وهذا وإن كان صحيحًا في “الصحيحين”، لكنه غير صريحٍ؛ لأن الجُدُر عندهم كانت قصيرةً، والخطبة -خطبة النبي – قصيرةٌ، وفي أول الوقت، فلم يكن هناك ظلٌّ طويلٌ يستظلون به، وأنت الآن إذا خرجت من صلاة الجمعة فانظر إلى ظلال الحيطان؛ تجد أنها قصيرةٌ، خاصةً في الصيف تكون أقصر ما يكون، أما في الشتاء فتكون أطول، فهذا الحديث عن سلمة  ليس صريحًا كما ترونه، صحيحٌ وليس صريحًا، وأثر عبدالله بن سِيدان صريحٌ لكنه ليس صحيحًا، فأدلتهم إما صريحةٌ غير صحيحةٍ، أو صحيحةٌ غير صريحةٍ، وأما الجمهور فأدلتهم صحيحةٌ، وتكاد تكون صريحةً.

ومما يبين ضعف قول الحنابلة في هذه المسألة: اللازم الذي يترتب على ذلك، فإنه يلزم من هذا القول: أنه لو أقيمت الجمعة بعد طلوع الشمس بعشر دقائق؛ أنها تصح؛ لأنهم قالوا: إن وقتها يبدأ من وقت صلاة العيد، وقت صلاة العيد من طلوع الشمس وارتفاعِها قِيد رُمحٍ، يعني بعد طلوع الشمس بعشر دقائق، وهذا يُبيِِّن لنا ضعف هذا القول؛ ولهذا لما ذكر الموفق بن قدامة رحمه الله هذا القول، قال: ينبغي أن يقال: إنها لا تصح قبل الساعة السادسة؛ لأن القول بأن الجمعة تصح بعد طلوع الشمس بنحو عشر دقائق، لا شك أنه مخالِفٌ للأدلة والأصول والقواعد الشرعية.

فإذن القول الراجح في هذه المسألة: هو قول الجمهور، وهو أن وقت الجمعة يبدأ بزوال الشمس، والخطبة جزءٌ من الصلاة سماها الله ذكر الله.

ينبغي للخطيب أيضًا ألا يدخل إلا بعد زوال الشمس، وخطباء المسجد الحرام والمسجد النبوي من قديم الزمان إلى يومنا هذا وهم ملتزمون بذلك، لا يدخل الخطيب إلا بعد الزوال، لكن لو قُدِّر أن خطيبًا دخل قبل الزوال وصلى قبل الزوال؛ فإن صلاتهم غير صحيحةٍ عند أكثر أهل العلم؛ لكونها قد وقعت قبل دخول الوقت.

  • الشرط الثاني: أن تكون في قريةٍ، بشرط الاستيطان الذي أشرنا له قبل قليلٍ، وشرط الاستيطان تكلمنا عن هذا الشرط قبل قليلٍ، لا بد من أن يكون المقيمون للجمعة مستوطنين في بلدٍ يشمله اسمٌ واحدٌ، لا يرتحلون عنه صيفًا ولا شتاءً.
  • الشرط الثالث: وأن يحضرها من المستوطنين بها أربعون من أهل وجوبها؛ وذلك لأن أول جمعةٍ أقيمت: أقامها أسعد بن زرارة ، وكانت في مدينة النبي وكان عددهم أربعين رجلًا [4]، وهذا الأثر أخرجه ابن ماجه، ولكن هذا العدد حصل اتفاقًا، فلو كان عددهم ثلاثين؛ لصلَّوا الجمعة، أو كان أقل من ذلك؛ لصلوا الجمعة؛ فهذا إنما وقع اتفاقًا؛ ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلًا، قالوا: لأنه لما قدمت العير والنبي يخطب؛ خرج الناس من المسجد ولم يتبق إلا اثنا عشر رجلًا، منهم أبو بكرٍ وعمر ، فأنزل الله قوله: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11]، ولكن أيضًا هذا العدد حصل اتفاقًا، ربما لو لم يتبق إلا عشرة؛ لصلى بهم النبي ، ولهذا أيضًا القول الثالث في هذه المسألة: أن الجمعة تنعقد بثلاثةٍ: إمام يخطب، واثنان يستمعان؛ لأن أقل الجمع ثلاثةٌ، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا، والواو واو الجماعة، وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، وهو القول الراجح في المسألة، ومما يدل له: قول النبي : ما من ثلاثةٍ في قريةٍ لا تقام فيهم الصلاة؛ إلا استحوذ عليهم الشيطان [5]، أخرجه أبو داود والنسائي بسندٍ حسنٍ، وهذا يشمل صلاة الجمعة والجماعة، ما دام أن هؤلاء الثلاثة مستوطنون؛ فيجب عليهم أن يقيموا الجمعة.

فإذنْ القول الراجح: أن العدد الذي تنعقد به الجمعة وتصح به الجمعة ثلاثةٌ: واحدٌ يخطب، واثنان يستمعان، وقد اختار هذا القول أبو العباس ابن تيمية وجمعٌ من المحققين من أهل العلم.

إذنْ عندنا في المسألة ثلاثة أقوالٍ:

  1. القول الأول: أنها لا تنعقد إلا بأربعين رجلًا.
  2. القول الثاني: باثني عشر رجلًا.
  3. القول الثالث: بثلاثةٍ.

القول الراجح: أنها تنعقد بثلاثةٍ: واحدٌ يخطب، واثنان يستمعان.

  • الشرط الرابع: أن يتقدمها خطبتان، فيشترط لصحتها تقدم خطبتين؛ لأن هذا هو هدي النبي .

الأمور التي تُشترط في الخطبتين

ثم ذكر ما يشترط في هاتين الخطبتين، قال: في كل خطبةٍ حمد الله ، وهذا يجعله بعض الفقهاء من أركان الخطبة.

    1. الركن الأول: أن تتضمن حمد الله.
    2. الركن الثاني: الصلاة على رسول الله .
    3. الركن الثالث: قراءة آيةٍ من القرآن.
    4. الركن الرابع: الموعظة.

وعلى هذا: لو لم تتضمن هذه الأمورَ؛ فإنها لا تصح.

والقول الثاني في المسألة: أنه لا يشترط أن تتضمن الخطبة هذه الأمور، وإنما يكفي فيها حصول الموعظة والتوجيه والإرشاد للناس؛ لأنه لا دليل يدل على اشتراط تضمُّن الخطبة لهذه الأمور، والنبي كان يخطب كل جمعةٍ، لكن لم يرد دليلٌ يدل على أن الخطبة التي لا تتضمن هذه الأمور لا تصح؛ فتكون هذه الأمور من الأمور المستحبة، ينبغي للخطيب أن يبدأ خُطَبَه بـ: الحمد لله، وكذلك أيضًا يصلي على النبي ، وينبغي ألا تخلو الخطبة من قراءة آيةٍ من القرآن.

والركن الرابع هنا: ذكر المؤلف أنه الموعظة، لكن بعض الفقهاء قالوا: الوصية بتقوى الله، وهذا يستحب أن تتضمنه الخطبة، أن يقول: اتقوا الله، أو يقول: أوصيكم بتقوى الله، لكن لو افترضنا أن خطيبًا لم تتضمن خطبته هذه الأمور أو بعضها؛ فإنها تصح على القول الراجح.

وينبغي للخطيب أن يحرص على الاقتداء بالنبي ؛ فقد كانت خطب النبي  يركز فيها على الموعظة، وإحياء القلوب، وغرس محبة الله ومحبة رسول الله في النفوس، وتعظيم الله ​​​​​​​ وتعظيم رسوله ، بحيث يخرج المستمع لهذه الخطبة وقد انتفع بها.

ويلاحظ أن بعض الخطباء يجنحون بخطبهم، حتى كأنك عندما تستمع لبعض الخطباء؛ كأنك تستمع لتحليلٍ سياسيٍّ، أو لكلامٍ إنشائيٍّ بعيدٍ عن الأدلة وعن ذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وهذا مخالفٌ لهدي النبي ، ينبغي أن تكون الخطبة مليئةً بالآيات والأحاديث، وأن يركز فيها على ما ينفع المستمعين، هؤلاء الحاضرون لهذه الخطبة أمَرَتهم الشريعة بالإنصات التام، حتى لو أن أحدهم تكلم مع الآخر بكلمةٍ واحدةٍ؛ فقد لغا، وعدم مناقشة الخطيب، وعدم الاعتراض عليه، فهذا المقام مقامٌ عظيمٌ، ثم إن هذا المقام سماه الله  ذكر الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، ما هو ذكر الله؟ الخطبة، فالخطبة والصلاة سماهما الله  ذكر الله.

ثم إن النبي أخبر بأن هذه الخطبة تَستمع إليها الملائكة؛ كما جاء في “الصحيحين”، الملائكة تقف يوم الجمعة عند أبواب المساجد، عند أبواب الجوامع، تكتب الناس الأول فالأول، فإذا دخل الإمام؛ طويت الصحف، وأقبلت الملائكة تستمع الذكر [6].

فهذا المقام مقامٌ عظيمٌ تحضره الملائكة تستمع لهذه الخطبة، ويحضر هذه الخطبة الناس على مختلف شرائحهم: الأمير والمأمور، والوزير والعامي، والفلاح والتاجر، جميع طبقات المجتمع يحضرون هذه الخطبة، فهو مقامٌ عظيمٌ، ينبغي للخطيب أن يعظم شأن هذا المقام، وأن يحرص على غرس تعظيم الله ورسوله في نفوس الحاضرين، وعلى أن يذكر ما يقوي إيمانهم، ويزيد من يقينهم، وأن يبتعد عن الكلام الإنشائي، أو الكلام في الأمور التي لا طائل لها، أو الأمور التي لا يستطيع هؤلاء الحاضرون أن يغيروا منها شيئًا؛ كالخوض في أمور السياسة ونحو ذلك، وعندما يأتي الخطيب، ويقدم خطبة هي أشبه بالتحليل السياسي، ماذا يستفيد هذا المستمع لهذه الخطبة؟ بماذا ينتفع؟ ينبغي أن يُعلِّم الناس ما يهمهم في أمور دينهم، وأن يكثر من الاستشهاد بالنصوص من القرآن ومن السنة.

ومع الأسف! تجد بعض الخطباء يخطب خطبةً ما قرأ فيها آيةً واحدةً من القرآن، ولا آيةً، من أول الخطبة إلى آخرها ما فيها آيةٌ واحدةٌ من القرآن، وربما أيضًا ولا حديثٌ عن النبي ، فهذا الخطيب مهما أوتي من الفصاحة والبيان، خطبته تعتبر ضعيفةً، ومخالفةً للسنة، ومخالفةً لهدي النبي ؛ ولهذا نجد أن بعض الفقهاء يشدد في هذه المسألة، ويقول: إن الخطيب إذا لم يقرأ آيةً من القرآن؛ لا تصح خطبته.

حكم الخطبة على المنبر والاتكاء على العصا

قال: “ويستحب أن يخطب على منبرٍ”؛ وذلك لأن النبي في أول الأمر كان يخطب على جذعٍ، فصنعت له امرأةٌ، صحابيةٌ من الصحابيات، صنعت للنبي منبرًا، فترك النبي هذا الجذع، وصَعِد المنبر.

سبحان الله! لما صعد على المنبر، يقول الصحابة : “فوالله إننا لنسمع لهذا الجذع بكاءً كبكاء الصبي، فنزل النبي من على المنبر، وأخذ هذا الجذع وضمه، وجعل يسكنه كما يسكن الصبي” [7]، وجاء في بعض الروايات أنه قال له: أما ترضى أن تكون جِذعًا في الجنة؟ [8].

فانظروا إلى حنين هذا الجذع للنبي ! آيةٌ من آيات الله ​​​​​​​، كان قبل اتخاذ المنبر يعتمد على عصًا، ثم لما اتخذ المنبر؛ أصبح لا يعتمد على عصًا؛ ولذلك من كان يخطب على المنبر؛ فلا يستحب له الاعتماد على العصا، إنما من كان يخطب بدون منبرٍ، ليس على منبرٍ، هذا هو الذي يستحب له أن يعتمد على العصا.

قال: “فإذا صَعِد أقبل على الناس فسلم عليهم”، هذا هو هدي النبي ، إذا صعد الخطيب؛ يسلم عليهم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ويردون عليه السلام، ثم يجلس إلى فراغ الأذان، وهنا يجلس ولم يأتِ بتحية المسجد؛ وهذا يدل على أن تحية المسجد غير واجبةٍ؛ إذ إنها لو كانت واجبةً؛ لوجب على الخطيب إذا دخل أن يأتي بتحية المسجد، فهذا من القرائن التي صرفت الأمر بأداء تحية المسجد من الوجوب إلى الاستحباب.

قال: “ثم يقوم الإمام، فيخطب”، يعني: الخطبة الأولى، “ثم يجلس”، يعني: بين الخطبتين، “ثم يخطب الخطبة الثانية، ثم تقام الصلاة، فينزل فيصلي بهم ركعتين”، وهذا بإجماع أهل العلم.

القراءة في صلاة الجمعة

قال: “يجهر فيهما بالقراءة”، والسنة أن يقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى بسورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، وفي الثانية بعد الفاتحة بسورة هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، أو أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة، والثانية بسورة المنافقون، والأفضل أن يأتي بهذا تارةً وبهذا تارةً، وإن قرأ من غيرهما؛ فلا بأس، لكن يجعل الغالب هو قراءة هذه السور الأربع.

بم تدرك صلاة الجمعة؟

قال: “فمن أدرك معه منها ركعةً؛ أتمها جمعةً”، من أدرك من الجمعة ركعةً واحدةً؛ فقد أدرك الجمعة، فيتمها ركعتين، فلو أتى المسبوق والإمام يوم الجمعة يقرأ في الركعة الثانية، هل يكون أدرك الجمعة المسبوق؟ نعم، أدرك الجمعة.

طيب لو أتى والإمام في الركوع من الركعة الثانية؛ كذلك أدرك الجمعة، لو أتى هذا المسبوق والإمام قد رفع من الركوع من الركعة الثانية؛ هنا فاتته الجمعة، ماذا يفعل؟

قال: “وإلا أتمها ظهرًا”، يتمها أربع ركعاتٍ؛ وعلى هذا: فإن المسبوق الذي يأتي يوم الجمعة، وقد رفع الإمام من الركوع من الركعة الثانية يقضيها ويتمها ظهرًا أربع ركعاتٍ وليس ركعتين، أربع ركعاتٍ، وتكون قد فاتته الجمعة.

وكذلك إن خرج الوقت، أو نقص العدد”، يعني: عن العدد المشترط للجمعة، وقد صلوا ركعةً؛ أتموها جمعة؛ لأن من أدرك ركعةً؛ فقد أدرك الجمعة، ومن أدرك أيضًا من الوقت ركعةً؛ فقد أدرك الصلاة؛ لقول النبي : من أدرك ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعةً قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك العصر [9].

“وإلا أتموها ظهرًا”، يعني: إن لم يدركوا ركعةً؛ أتموها ظهرًا.

حكم صلاة أكثر من جمعةٍ في المصر الواحد

قال: “ولا يجوز أن يصلَّى في المصر أكثر من جمعةٍ”، المصر الأصل أنه يقام فيه جمعةٌ واحدةٌ؛ فإن مدينة النبي إنما كان يقام فيها جمعةٌ واحدةٌ.

“إلا أن تدعو الحاجة إلى أكثر منها”، إلا عندما تدعو الحاجة، والحاجة الآن داعيةٌ لكثيرٍ من الأمصار، تعرفون الآن كثرة العدد، كثرة البشر، كان الناس قديمًا قلةً، وكان الناس قبل أكثر من مئةٍ وخمسين عامًا لا يصل عدد سكان الأرض إلى مليارٍ، ثم خلال المئة والخمسين عامًا الماضية تضاعف سكان الأرض سبع مراتٍ، فأصبح عددهم الآن يتجاوز سبعة ملياراتٍ، فكثر الناس في جميع البلدان، وفي جميع الأمصار، ومع كثرة الناس لا بأس بتعدد الجمعة، لكن إذا كان المسجد الجامع لا يمتلئ، لا يجوز أن يقام جمعةٌ أخرى حتى يمتلئ هذا الجامع، وتقوم الحاجة إلى إقامة جُمَعٍ أخرى.

سنن الجمعة

القارئ:

ويستحب لمن أتى الجمعة: أن يغتسل، ويلبس ثوبين نظيفين، ويتطيب، ويبكر إليها، فإن جاء والإمام يخطب؛ لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما.

ولا يجوز الكلام والإمام يخطب، إلا للإمام أو من كلَّمه.

الشيخ: هنا انتقل المؤلف للكلام عن سنن الجمعة، بعدما تكلم عن شروطها؛ انتقل للكلام عن سننها:

الغسل للجمعة

قال: “ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل”، الاغتسال للجمعة سنةٌ مؤكدةٌ جدًّا؛ لقول النبي : إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل [10]، متفقٌ عليه؛ ولقوله : غسل الجمعة واجبٌ على كل محتلمٍ [11]، وهذا قول أكثر أهل العلم، أن الاغتسال لصلاة الجمعة سنةٌ مؤكدةٌ.

وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبه، واستدلوا بالحديث السابق: غسل الجمعة واجبٌ..، قالوا: فعبَّر النبي عن هذا الحكم بالوجوب.

والقول الراجح: هو قول الجمهور، وهو أن الغسل للجمعة مستحبٌّ وليس واجبًا، وقد حُكي الإجماع عليه.

وأما ما استدل به من قال بالوجوب؛ فنقول: هل من عادة النبي أنه يعبر عن الشيء الواجب بقوله: واجبٌ؟

ليس من عادته عليه الصلاة والسلام، وإنما يأمر به، لكن ليس من عادته أن يقول: هذا الشيء واجبٌ؛ فإذنْ كلمة (واجب) هذه ننظر إلى معناها عند العرب، فماذا تريد العرب عندما تقول: إن هذا الشيء واجبٌ؟ نجد أن العرب عندما يقولون: حقك عليَّ واجبٌ، يريدون بذلك: متأكِّدٌ، فيقصدون بكلمة (واجب): (متأكِّد).

فإذنْ ليس المقصود بقول النبي : غسل الجمعة واجبٌ، الوجوب بالمعنى الاصطلاحي، وإنما المقصود به الوجوب الذي تريد به العرب التأكيد، فيكون معنى قوله: غسل الجمعة واجبٌ على كل محتلمٍ، يعني: متأكِّدٌ على كل محتلمٍ.

ومما يدل على عدم الوجوب، حديث أبي هريرة  أن النبي قال: لا يتوضأ أحدٌ يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهرٍ، ويدَّهن من دهنه، أو طِيب بيته، ثم يخرج، فلا يفرِّق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتب له؛ إلا غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى [12]، وهنا ذكر الوضوء ولم يذكر الغسل.

وأيضًا حديث سمرة : من توضأ يوم الجمعة؛ فبها ونعمت، ومن اغتسل؛ فالغسل أفضل [13].

فإذنْ الاغتسال ليوم الجمعة مستحبٌّ استحبابًا مؤكدًا، ينبغي للمسلم ألا يدعه، ولو أن يُفيض الماء على جسده، وهو مستحبٌّ استحبابًا مؤكدًا.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 1067.
^2 رواه البخاري: 904.
^3 رواه البخاري: 4168، ومسلم: 860.
^4 رواه ابن ماجه: 1082.
^5 رواه أبو داود: 547، والنسائي: 847، وأحمد: 21710.
^6 رواه البخاري: 3211.
^7 رواه البخاري: 918، بنحوه.
^8 رواه أحمد: 21260، بنحوه.
^9 رواه البخاري: 579، ومسلم: 608.
^10 رواه البخاري: 877، ومسلم: 844.
^11 رواه البخاري: 858، ومسلم: 846.
^12 رواه البخاري: 883.
^13 رواه الترمذي: 497، والنسائي: 1380، وابن ماجه: 1091، وأحمد: 20177، وقال الترمذي: حسن.
zh