logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(33) باب تحريم سب الصحابة- من حديث “لا تسبوا أصحابي..”

(33) باب تحريم سب الصحابة- من حديث “لا تسبوا أصحابي..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حيَّاكم الله تعالى في هذا الدرس، مع استئنافه بعد فترة التوقف خلال الإجازة الصيفية من هذا الأسبوع.

تم استئناف الدروس، بالأمس كان استئناف درس التعليق على “السلسبيل”، وعلى “لطائف الفوائد”، وهذا اليوم التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلم”، وهذا هو الدرس الثالث والثلاثون في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلم”، في هذا اليوم الثلاثاء، 23 من شهر محرم، من عام 1443 للهجرة.

الحرص على طلب العلم

وكنا قد توقفنا عند باب تحريم سب الصحابة ، وأُذكِّر -مع بداية هذا الدرس- بأهمية الحرص على طلب العلم، والتفقه في دين الله ، والنبي يقول: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين[1].

فتأملوا أيها الإخوة هذا الحديث العظيم الذي أخرجه البخاري ومسلم: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.

إذا وجدت من نفسك الإقبال على التفقه في دين الله ​​​​​​​، والإقبال على طلب العلم الشرعي، فهذه أمارة على أنه أريد بك الخير -إن شاء الله-، أما إذا لم يكن عندك إقبال على التفقه، وعلى طلب العلم، فهذه ربما تكون أمارة على أنه لم يرد بهذا الإنسان الخير.

فاجعل هذا الحديث العظيم نصب عينيك: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، واحرص على التفقه في دين الله ، والإفادة من مثل هذه المجالس العلمية، والدروس، وحِلَق العلم، فإن فيها خيرًا عظيمًا، وأجرًا كبيرًا.

الآن أصبحت هذه الدروس تصل للإنسان في أي مكان، وهذا من نعم الله علينا في هذا الزمان أن هذه الدروس أصبحت تصل لك في بيتك، تصل لك في أي مكان، بينما كان السلف الصالح يرحلون في سبيل طلب العلم.

ولذلك؛ ينبغي أن نستشعر قدر هذه النعمة، وأن نستفيد من هذه الدروس ومن هذه الحِلَق، وينبغي الحرص على الانضباط والجدية، وملازمة الدروس؛ لأن بعض الناس يبدأ بحماس في بداية الدروس ثم ينقطع، أو يحضر دروسًا ويغيب عن دروسٍ أخرى، وهذا يفوته خيرٌ كثيرٌ، ولا يُحصِّل علمًا كثيرًا.

ولذلك؛ اجعل وقت هذا الدرس شيئًا أساسيًّا في حياتك، إذا أردت أن تطلب العلم وأن تستفيد فاجعل وقت الدروس من الأمور الأساسية في حياتك، ولا تجعلها من الأمور الهامشية؛ لأنك إن جعلتها من الأمور الهامشية فسيمتلئ هذا الوقت بأمور أخرى من أمور الحياة، لكن إذا جعلتها أمرًا أساسيًّا فستخصص هذا الوقت لحضور هذه الدروس ومتابعتها.

باب تحريم سب الصحابة

 كنا قد وصلنا إلى:

باب تحريم سبِّ الصحابة

الصحابة هم خير القرون، وهم أفضل القرون، وكل من صَحِب النبي مؤمنًا به ومات على ذلك فهو صحابي، كل من رأى النبي وآمن به ومات على ذلك فهو صحابي.

والصحابة قد ورد في فضلهم نصوصٌ كثيرةٌ، وقد تَرَضَّى الله عنهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ[الفتح:18]، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا[الفتح:29].

فالصحابة هم نقلة الشريعة، والقَدْح فيهم وسبهم هو قدحٌ في الشريعة؛ لأنهم هم الذين نقلوا لنا الشريعة، هم الواسطة بيننا وبين رسول الله ، فالقدح فيهم قدح في شريعة الله ، وهذا يبين خطورة هذه المسألة.

ثم إن سب الصحابة هو في الحقيقة قدح وسب للنبي ؛ لأن سب الصاحب سبٌّ للمصحوب، ثم أيضًا فيه قدح في الله وفي حكمته، وكيف أن الله تعالى اختار لنبيه هؤلاء الذين يُطعَن فيهم ويُسَبُّون.

فسب الصحابة فيه خطورة كبيرة، والصحابة فضائلهم عظيمة، ومناقبهم كبيرة؛ ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كلُّ مَن صَحِب النبي أفضلُ ممن لم يصحبه مطلقًا. ومثَّلوا لذلك بمعاوية بن أبي سفيان وعمر بن عبدالعزيز -رحمه الله-، مع أن سيرة عمر بن عبدالعزيز أعدل من سيرة معاوية بن أبي سفيان، ولكن معاوية أفضل باعتبار ما حصل له من الصحبة، فإن ما حصل للصحابة من صحبةٍ درجةٌ وأمرٌ لا يساويه ما يحصل لغيرهم.

ويدل لذلك أيضًا: قول النبي : والذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَه[2]، فإذا كان جبل أحد ذهبًا لا يبلغ نصف مد أحدهم، كان في هذا من التفاضل ما يبين أنه لم يبلغ مثل منازلهم أحدٌ ممن جاء بعدهم.

وجمهور العلماء على أن التفضيل بين الصحابة وغيرهم على أنه بالنسبة للأفراد لا بالنسبة للمجموع؛ يعني: أن أيَّ صحابي أفضل من أي إنسان يأتي بعده، مهما كان ذلك الإنسان.

وقال بعض العلماء: الأفضل هو المجموع بالنسبة للمجموع؛ أي: أن مجموع الصحابة أفضل من مجموع من يأتي بعدهم، ولكن لا يمنع أن يأتي أحد بعدهم أفضل من بعض الصحابة.

ولكن الذي عليه جمهور العلماء: أن التفضيل بالنسبة للأفراد، وأن الصحابة لا يلحقهم أحدٌ في الفضل والمنزلة والمرتبة.

قال المصنف -رحمه الله تعالى-:

حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن العلاء -قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا- أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أحدِهِم، ولا نَصِيفَه[3].

حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: كان بين خالد بن الوليد، وبين عبدالرحمن بن عوف شيء، فسبَّه خالد، فقال رسول الله : لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أحدِهِم، ولا نَصِيفَه[4].

ثم ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث من طريق أخرى.

أولًا: قوله -عليه الصلاة والسلام-: لا تسبوا أصحابي السب يشمل القدح، يشمل اللعن، ويشمل القدح فيهم بأية صورة من صور القدح.

وقوله: ولا نَصِيفَه أي: ولا نصفه، فإن النصف فيه أربع لغات؛ كما قال النووي: “نِصْف” بكسر النون، و”نُصْف” بضمها، و”نَصْف” بفتحها، و”نَصِيف” بزيادة الياء، وحكى هذه الأربع لغات القاضي عياض -رحمه الله- في “مشارق الأنوار”، فيكون معنى: ولا نَصِيفَه أي: ولا نصفه، وعلى هذا يكون معنى الحديث: لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا، ما أدرك في الفضل والإنفاق مثل إنفاق أَحَدٍ من الصحابة لِمُدٍّ أو نصفِ مُدٍّ. هذا هو معنى هذا الحديث.

لماذا كان هذا الفضل للصحابة؟

  • أولًا: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فهذا فضل من الله .
  • ثانيًا: أن الصحابة أَتَوا في وقت ضرورة وضيق حال، ونصروا النبي وأيدوه وحموه، وجاهدوا معه، فقاموا بأمور عظيمة لم يقم بها من بعدهم، مع ما كان في أنفسهم من الإيمان الصادق، والمحبة، والخشوع، والتواضع، والإيثار، والجهاد في سبيل الله .

فوائد من حديث لا تسبوا أحدًا من أصحابي..

هذا الحديث فيه فوائد:

  • الفائدة الأولى: تحريم سب الصحابة ، وأنه من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم أو غيرهم؛ وذلك لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون.
    قال القاضي عياض -رحمه الله-: سب واحد من الصحابة من المعاصي الكبائر، ومن فعل ذلك فإنه يُعَزَّر. فإذن؛ سبُّ واحدٍ من الصحابةِ كبيرةٌ من كبائر الذنوب.
  • وأيضًا: سب الصحابة أو سب بعضهم هذه من علامات أهل النفاق، ومن علامات أهل الزيغ والضلال، وأما المؤمنون الصادقون فإنهم يعظمون الصحابة ويُجِلُّونهم، ويعرفون قدرهم ومنزلتهم وعظيم شأنهم، أما من يقدح في الصحابة أو يقدح في بعضهم، فهذه علامة على الزيغ وعلى الضلال وعلى النفاق.
  • وأيضًا من الفوائد في هذا الحديث: أن الفضل والمنزلة عند الله ليست من الأمور القياسية؛ بل محض فضل يؤتيه الله من يشاء، فقد يعطي الله على عمل قليل ما لا يُنال بالعمل الكثير؛ فهذا فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء، فلا يمكن لأحد ممن جاء بعد الصحابة  أن يكون في منزلة الصحابة مهما عَمِل.
  • وأيضًا من الفوائد: أن الإنفاق في وقت الحاجة أفضل من الإنفاق في غيره؛ ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه؛ لأن إنفاق الصحابة كان في وقت الحاجة والمَسْغبة والضرورة؛ بخلاف إنفاق مَن جاء بعدهم.

هذه أبرز الأحكام والفوائد المتعلقة بهذا الحديث.

باب من فضائل أويس القرني

ننتقل، بعد ذلك:

باب من فضائل أُويس القرني

وأويس القرني: هو أويس بن عامر، من بني قَرْن، من بطن مُرَاد، وكان من أفضل التابعين وأجلهم، كان رجلًا صالحًا، برًّا بوالدته، فجاءت فيه هذه الفضائل.

قال المصنف -رحمه الله تعالى-:

حدثني زهير بن حرب، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثني سعيد الجُرَيري، عن أبي نَضْرة، عن أُسَيْر بن جابر: أن أهل الكوفة وَفَدوا إلى عمر، وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس، فقال عمر: هل هاهنا أحد من القَرْنيين؟ فجاء ذلك الرجل، فقال عمر: إن رسول الله قد قال: إن رجلًا يأتيكم من اليمن يقال له أُويس، لا يدع باليمن غير أُمٍّ له، قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه، إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم[5].

ثم أيضًا ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث:

حدثنا زهير بن حرب، ومحمد بن المثنى، قالا: حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد -وهو ابن سلمة- عن سعيد الجُرَيري، بهذا الإسناد، عن عمر بن الخطاب، قال: إني سمعت رسول الله يقول: إن خير التابعين رجل يقال له أُويس، وله والدة، وكان به بياضٌ، فمُرُوه فليستغفر لكم[6].

هذه الأحاديث تدل على فضل هذا الرجل، وهو أُوَيس القَرْني، وقد أسلم في عهد النبي ، ومنعه من القدوم إليه بِرُّه بأمه، وكان رجلًا صالحًا غاية الصلاح، وكان بارًّا بوالدته، ولمَّا قدم النبي أخبر الصحابة قال: إن رجلًا يأتيكم من اليمن يقال له: أُويس، وإن له أمًّا هو بها بار، وإن به بَرَصًا دعا اللهَ تعالى فشفاه الله تعالى إلا موضع دينار أو درهم، فمَن لقيه منكم فليستغفر له.

عمر كان كلما قدم وفدٌ من اليمن كان يبحث عن هذا الرجل، يبحث عن أُويس القرني .

أهل الكوفة لما وَفَدوا إلى عمر  كان فيهم رجل ممن يسخر بأويس، يحتقره ويستهزئ به، ولا يَعُدُّه شيئًا، عمر سألهم: هل هاهنا أحدٌ من القَرْنيين؟! فجاء ذلك الرجل، فقال عمر : إن رسول الله قد قال: إن رجلًا يأتيكم من اليمن يقال له: أُويس…. فطلب منه أن يستغفر له.

وقوله هنا: “إن رجلًا كان يسخر بأويس” فيه دليلٌ على أنه  كان يُخفي حاله ويَكتُم السر الذي بينه وبين الله ، ولا يَظهر منه شيء.

وقال النووي -رحمه الله-: وهذه طريقة العارفين وخواص الأولياء، كان رجلًا مَن يراه لا يرى أثر الصلاح، لكن بينه وبين الله سرٌّ وصلاح وتقى؛ ولهذا كان رجل من هؤلاء الوفد كان يسخر بأويس ويحتقره، ولم يعرف بأن له هذا الفضل وهذه المكانة العظيمة. وفي هذا معجزة ظاهرة للنبي ؛ حيث أخبر بأويس وأخبر بصفته، فجاءت طبقًا كما أخبر.

وفي قول النبي : إن خير التابعين رجل يقال: أُويس دليل على فضل هذا الرجل، وأنه أفضل التابعين، أن خير التابعين هو أويس القرني.

لكن قال الإمام أحمد وغيره: أفضل التابعين سعيد بن المسيب.

ويجاب عن ذلك: بأن سعيدًا هو الأفضل في العلوم الشرعية؛ كالتفسير، والحديث، والفقه، ونحو ذلك، لا في المنزلة عند الله ، فإن النبي صرَّح وقال: إن خير التابعين رجل يقال له: أُويس.

حرص عمر على لقيا أويس القرني

عمر حرص على أن يلقى هذا الرجل، ساق المصنف -رحمه الله- قصة عمر رضي الله عنه معه، قال:

حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن بشار -قال إسحاق أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا، واللفظ لابن المثنى- حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن زُرَارة بن أَوْفى، عن أُسَير بن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمدادُ أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: مِن مُرَاد ثم مِن قَرْن؟ قال: نعم. قال: فكان بك بَرَصٌ فبَرَأْتَ منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال سمعت رسول الله  يقول: يأتي عليكم أُويس بن عامر مع أمدادِ أهل اليمن، من مراد، ثم من قَرَنٍ، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بَرٌّ، لو أقسم على الله لأبره[7].

ومعنى قوله: لو أقسم على الله لأبره؛ أي: لو حلف على وقوع شيء أوقعه الله تعالى إكرامًا له بإجابة سؤاله.

فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل. فاستغفِر لي. فاستغفَر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟

يعني: يعطيك مساعدة، يهتم بك، يعتني بك.

قال: أكون في غَبْراءِ الناسِ أحبُّ إليَّ. قال: فلما كان من العام المقبل حجَّ رجلٌ من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس، قال: تركتُه رثَّ البيت، قليل المتاع. قال: سمعت رسول الله  يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد، ثم من قَرْنٍ، كان به بَرَصٌ فبرأ منه، إلا موضع درهم، له والدة هو بها بَرٌّ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل. فأتى أُوَيسًا فقال: استغفر لي.

يقول هذا الرجل الذي قَدِم من الحجِّ لأويسٍ: استغفِر لي.

قال أويس -متواضعًا-: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح؛ فاستغفِر لي. قال: استغفِر لي. قال: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح؛ فاستغفِر لي. قال: لقيتَ عمر؟ قال: نعم. فاستغفَر له، ففَطِن له الناس، فانطلق على وجهه، قال أُسَيْرٌ: وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان قال: مِن أين لأويس هذه البردة؟[8].

يعني: استبعدوا أن تأتيه هذه البردة، فهو استبعاد لتفطُّن الناس له؛ لأنه كان خاملًا لا يُلتفَت إليه.

فوائد من قصة أويس القرني

وفي هذه القصة من الفوائد:

  • أن الولاية لله قد تكون لأي أحد من الناس، فليس هناك صفات معينة لمن يكون من أولياء لله سبحانه سوى ما ذكره الله تعالى في قوله: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ۝  الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، فأولياء الله تعالى الذين آمنوا وكانوا يتقون، فقد يكون هذا الرجل الخامل الذي لا يُفطَن له من أولياء الله ، قد يكون فلَّاحٌ في مزرعته من أولياء الله سبحانه، قد يكون عاملٌ في مصنع من أولياء الله سبحانه، فولاية الله يمكن أن ينالها أي مسلم إذا كان مؤمنًا تقيًّا لله .

فهذا الرجل -أويس القرني- رجل من التابعين لم يُفطَن له، بل كان مِن الناس مَن يسخر به ومَن يستهزئ به، ومع ذلك كانت له هذه المنزلة العظيمة وهذه المرتبة الشريفة، وهي أن النبي يَذْكره ويبين أنه مستجابُ الدعوة، ويطلب من عمر ومن الصحابة أن يطلبوا منه إذا لَقُوه أن يستغفر لهم.

  • وأيضًا من فوائد هذا الحديث: قوله: إن استطعت أن يستغفر لك فافعل لا يُفهم منه أن أُوَيسًا القَرْنيَّ أنه أفضل من عمر ، فعمر بن الخطاب أفضل من أويس؛ لأن عمر صحابي، وأويس تابعي، والصحابة لا يدركهم مَن بعدهم في الفضل؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهِم ولا نَصِيفَه[9]، فعمر بن الخطاب أفضل من أويس القرني، وإنما طلب النبي من عمر إذا لقي أويسًا أن يطلب منه أن يستغفر له، من باب الإخبار بأن أويسًا مستجاب الدعاء، وأن عمر إن شاء أن يطلب منه أن يستغفر له من باب الازدياد من الخير واغتنام دعوة مُن تُرجي إجابته، ولكن هذا لا يدل على أن أويسًا أفضل من عمر ، بل عمر أفضل من أويس بإجماع العلماء.
  • من فوائد هذا الحديث: استحباب طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح، وممن تُرجى إجابةُ دعائهم حتى وإن كان الطالب أفضل منهم، فإن النبي قال لعمر: إذا لقيت أويسًا فاطلب منه أن يستغفر لك، ومما يدل لذلك ما ذكره الله تعالى عن إخوة يوسف -عليه السلام- أنهم قالوا لأبيهم: قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف:97].

ولكن، قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: إن طلب الدعاء من الغير جائز، لكنه خلاف الأولى، وإن الأفضل بالمسلم أن يتوجه إلى الله مباشرة ولا يتعرض لسؤال المخلوقين؛ لعموم الأدلة التي تحث على الاستغناء عن الخلق، ولكن إذا كان طالب الدعاء قد قصد بذلك أن ينتفع المطلوب الدعاء منه بتأمين الملائكة على دعائه فلا بأس، فإذا أراد نفع من يطلب منه الدعاء -يعني: أن ينتفع من يطلب منه الدعاء لنفسه- فلا بأس بذلك.

والذي يظهر -والله أعلم- في هذه المسألة أنه لا بأس بطلب الدعاء من الغير، بشرط ألا يتخذ ذلك عادة، فلا يقول الإنسان لكلِّ مَن لقيه: “ادْعُ لي”، وإنما يقول ذلك لمن يغلب على ظنه أنه مِن أهل الصلاح والتقوى والولاية لله ، وأنه ممن تُرجى إجابة دعائهم، فيطلب منهم الدعاء والاستغفار له.

أما أن الإنسان كلما لقي أحدًا قال: “ادع لي”، فهذا العمل خلاف الأولى؛ لأن الإنسان ينبغي أن يتوجه إلى الله سبحانه مباشرة، وأن يدعو الله تعالى بنفسه.

لكن، لو لقي رجلًا من الصالحين ممن تُرجى إجابة دعائهم، وممن قد يكون من أولياء الله سبحانه، فطَلَب منه أن يدعو له؛ فلا بأس بذلك، فإن النبي قال لعمر : إذا لقيت أويس القرني فاطلب منه أن يستغفر لك. قال: فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل. ففعل عمر ، قال: استغفر لي، فاستغفر له.

فهذا يدل على أنه لا بأس بذلك، وإلا لما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- عمر بأن يطلب من أويس أن يستغفر له. لكن، ينبغي ألا يتخذ الإنسان ذلك عادة، وألا يفعل ذلك إلا مع مَن يغلب على ظنِّه صلاحهم، وأنهم ممن ترجى إجابة دعائهم.

  • وأيضًا من فوائد هذه القصة: فضل بر الوالدين، فإن النبي أخبر بأن أُوَيسًا القرنيَّ أنه خير التابعين، وذكر أن مِن أبرز مناقبه أنه بارٌّ بوالدته، وأن هذه من الأسباب التي جعلته خير التابعين، وأنه مستجاب الدعوة. وهذا يدل على فضل بر الوالدين، وعلى أن بر الوالدين يرفع صاحبه عند الله منزلة عالية، وأنه من أسباب إجابة الدعاء، فإن أويسًا القرني كان مستجاب الدعوة، وكان من أسباب ذلك أنه كان بارًّا بوالدته.

أيهما أفضل: العزلة أو مخالطة الناس؟

أخذ بعض العلماء من قصة أويس فضل العزلة وإخفاء الأحوال، وقالوا: إن الإنسان إذا عاش في غبراء الناس لا يُفطن له، خيرٌ مِن الذي يعيش مع الناس ويُفطن له ويُنتبَه له؛ لعبادته وصلاحه، ونحو ذلك.

وقال بعض العلماء: إن مخالطة الناس والصبر على أذاهم أفضل من العزلة والاختفاء.

والقول الثاني هو الأقرب، والله أعلم؛ وذلك لأن هذا هو منهج الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ومنهج الأئمة وكبار الصحابة، والنبي يقول: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم[10].

فكون المسلم يخالط الناس ويصبر على ما قد يجده من الأذى، هذا خيرٌ من العزلة.

أما أن يعتزل الناس ويعبد الله ، فالانسحاب من المجتمع والاعتزال وكون الإنسان يُقبل على الطاعة ويترك الناس، هذا أمر سهل، وخير منه أن الإنسان لا ينعزل، بل يختلط بالناس ويدعو إلى الله وينشر العلم الشرعي، ويصبر على ما قد يلاقيه من الأذى، ويأمر المعروف وينهى عن المنكر، هذا خيرٌ مِن الذي ينسحب من المجتمع وينعزل عن المجتمع ويتعبد الله وحده. وهذا هو منهج الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-.

وأما قصة أويس القرني، فأويس نال هذه المنقبة والمرتبة بسبب أمور اجتمعت فيه؛ مِن بره بوالدته، ومن السر الذي بينه وبين الله ، ومن عبادات كان يقوم بها، وهذه واقعة عين لا ترسم منهجًا لجميع الناس، هذه واقعة عين أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- عن صلاح هذا الرجل، وعن أنه خير التابعين، وذكر له بعض المناقب.

ولكن، المنهج الذي يتعامل به المسلم، هذا يؤخذ من النصوص، والنصوص الشرعية دلت على أن المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أنه خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.

وفي آخر القصة: أُسَير بن جابر راوي القصة، قال: “كسوته بردة”؛ يعني: كسوتُ أويس بن عامر بردة. والبردة هي الكساء الذي يُلتحف به.

قال: “فكان كلما رآه إنسان قال: مِن أين لأويس؟”، وهذا دليل على أن أويسًا كان فقيرًا، وعلى أنه أيضًا قبل هذه البردة لمَّا كساه أُسَيرٌ بها، ولم يمتنع من قبولها.

والقاعدة في هذا هي قول النبي : ما أتاك مِن مالٍ وأنت غير مُشرِف ولا سائلٍ فخُذْه، وما لا فلا تُتْبعه نفسك[11]. هذا هو المنهج في مثل هذه الأمور: إذا أتاك مِن مال وأنت لم تطلبه وليس عندك إشرافٌ وتَطَلُّع له فخُذْه وانتفِع به أو تصدق به، ونحو ذلك. وأما أن يسأل الإنسان ويطلب المال أو أن يستشرف له؛ فلا.

وهذا هو الذي فعله أويس القرني وهو خير التابعين، لمَّا أعطاه أُسَيرٌ، أعطاه هذه البردة قبلها؛ لأنه كان فقيرًا، وكان محتاجًا إليها، حتى إن الناس استعجبوا، قالوا: مِن أين لأويس هذه البردة؟! لأنه رجل فقير وكان منعزلًا ولا يُفطن له.

  • ومن هذه القصة أيضًا نستفيد: أنه قد يكون من الناس المغمورين غير المعروفين مَن عنده صلاح وتقوى وسر فيما بينه وبين الله ، ولو أقسم على الله لأبره، ولكن الناس لا تعرف ذلك؛ لأن هذه أمور بين الإنسان وبين ربه .

ولذلك؛ لا تحتقر أحدًا من الناس، فقد يكون الذي تحتقره خيرًا عند الله منك، فليست العبرة بالشهرة، وأن الإنسان يشتهر بالصلاح أو يشتهر بكذا، قد يكون إنسان عابد بينه سرٌّ وبين ربه ، وليٌّ من أولياء الله سبحانه، ومستجاب الدعوة، ومع ذلك فلا يعرفه أحد، ولا يفطن له أحد.

فهذا الرجل -أويس القرني- لم يكن بارزًا في قومه، ولم يكن معروفًا في قومه، حتى إنه لما كُسي بُرْدةً تعجَّب الناس: مِن أين أتته هذه البردة؟ ومع ذلك فهو خير التابعين، ومع ذلك فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يطلب من الصحابة إذا لقوه أن يطلبوا منه أن يستغفر لهم، وهو مغمور في قومه وغير معروف، وفقير ورَثُّ الهيئة، ومع ذلك من أولياء الله سبحانه، بل هو خير التابعين.

فهذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذا الحديث.

باب وصية النبي بأهل مصر

ننتقل بعد ذلك إلى:

باب وصيَّة النبي بأهل مصر

حدثني أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهب، أخبرني حرملة، ح وحدثني هارون بن سعيد الأَيْلي، حدثنا ابن وهب، حدثني حَرْمَلة وهو ابن عمران التُّجِيبي، عن عبدالرحمن بن شُمَاسة المَهْري، قال: سمعت أبا ذر يقول: قال رسول الله : إنكم ستفتحون أرضًا يُذكر فيها القِيرَاطُ، فاستوصوا بأهلها خيرًا؛ فإن لهم ذمة ورحمًا، فإذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة، فاخرج منها، قال: فمرَّ بربيعة وعبدالرحمن، ابني شُرَحْبيل بن حَسَنة، يتنازعان في موضع لبنة، فخرج منها[12].

ثم ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث من طريقٍ أخرى بلفظ:

إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يُسمى فيها القِيرَاطُ، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحمًا، أو قال: ذمة وصهرًا، فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لَبِنَة، فاخرج منها. قال: فرأيت عبدالرحمن بن شُرَحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة، فخرجت منها[13].

هذا الحديث فيه وصية النبي بأهل مصر، ومصر هي أرض الكنانة، وهي فتحها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب ؛ قال: إنكم ستفتحون أرضًا، وهذا من معجزات النبي -عليه الصلاة والسلام-، حيث أخبر بأن مصر ستفتح، ووقع الأمر كما أخبر.

يُذكَر فيها القيراط: القيراط جزءٌ مِن أجزاء الدينار والدرهم وغيرها، وكان أهل مصر في ذلك الزمان يُكثرون من استعماله والتكلم به.

المراد بالرحم والصهر في الحديث

فاستوصوا بأهلها خيرًا؛ فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن يستوصي المسلمون بأهل مصر خيرًا، وذكر السبب في ذلك: فإنَّ لهم ذمة ورحمًا فإن لهم ذمة وهي الحرمة والحق، وكذلك أيضًا لهم رحم؛ لكون هاجر أم إسماعيل -عليها السلام- منهم.

وفي الرواية الأخرى قال: فإن لهم ذمة وصهرًا، والصهر لكون مارية أم إبراهيم ابن النبي -عليه الصلاة والسلام- منهم.

فاجتمعت فيهم هذه الأوصاف: لهم ذمة، ولهم أيضًا الرحم، وهاجر أم إسماعيل منهم، ولهم أيضًا الصهر باعتبار أن مارية أم إبراهيم ابن النبي -عليه الصلاة والسلام- منهم.

فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن يستوصي المسلمون بأهل مصر خيرًا؛ ولهذا قال: فاستوصوا بأهلها خيرًا، وفي الرواية الأخرى قال: فأحسنوا إلى أهلها.

وفي هذا إشارة إلى أن الأمة ستكون لها قوة وشوكة بحيث يقهرون غيرهم وسيفتحون مصر؛ ولذلك أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن يستوصي المسلمون بأهل مصر خيرًا.

ونظير ذلك لمَّا ذكر مواقيت الحج المكانية، ذكر مواقيت في بلدان لم تُفتح بعدُ، فذكر ميقات أهل الشام، وميقات أهل اليمن، والشام لم تفتح، الشام والعراق ومصر لم تُفتح في زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- بعدُ، ومع ذلك ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- هذه المواقيت.

وهذه معجزة للنبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الله تعالى يعلم بأن هذه البلدان ستُفتح وستكون بلادًا إسلامية.

كذلك ذكر الله الخنزير، وأنه محرم، مع أنه لم يكن معروفًا في مكة ولا في المدينة، ولكن في هذا إشارة إلى اتساع رقعة الإسلام، وأن المسلمين سيأتون إلى بلدان يكون فيها خنزير؛ فلذلك ذكر تحريم الخنزير.

فهذا الدين دين الله ، والله تعالى أعلم وأحكم بما سيكون، فهذا هو دين الله ، فكل ما ذكره النبي من الأمور التي ستقع وقعت كما أخبر تمامًا.

باب فضل أهل عُمان

ننتقل بعد ذلك إلى:

باب فضل أهل عُمان

وعمان معروفة، يقولون: هي مدينة في البحرين؛ يعني: المنطقة التي حول الأحساء ونحوها، وهي لا تزال باسمها ومكانها إلى الآن.

حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا مهدي بن ميمون، عن أبي الوازع جابر بن عمرو الراسبي، سمعت أبا برزة، يقول: بعث رسول الله رجلًا إلى حيٍّ من أحياء العرب، فسَبُّوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله  فأخبره، فقال رسول الله : لو أن أهل عُمان أَتَيْتَ، ما سَبُّوك ولا ضربوك[14].

وهذا فيه منقبة عظيمة لأهل عُمان، وأنهم مسالمون، وأنهم ليس عندهم السب ولا الضرب، وأن مَن أتاهم أكرموه؛ ولهذا قرن النبي -عليه الصلاة والسلام- بينه وبين حي من أحياء العرب لمَّا أرسل إليهم رجلًا فسَبُّوه وضربوه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: لو أنَّ أهل عُمان أتيتَ ما سبُّوك ولا ضربوك. وهذا فيه منقبة وشرف عظيم لأهل عُمان.

باب ذِكر كَذَّاب ثَقِيف ومُبيرِها

باب ذكر كذَّاب ثقيف ومُبيرِها

مُبيرِها؛ أي: مُهلكها.

 حدثنا عقبة بن مكرم العَمِّيُّ، حدثنا يعقوب -يعني: ابن إسحاق الحضرمي- أخبرنا الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل، رأيت عبدالله بن الزبير على عَقَبَةِ المدينة، قال: فجعلتْ قريش تمر عليه والناس، حتى مرَّ عليه عبدالله بن عمر[15].

عبدالله بن الزبير يُكْنَى بأبي خبيب، كان هو الخليفة في الجزيرة العربية بعد يزيد، كان هو الخليفة، حَكَم الحجاز وبقي ثماني سنين وهو الحاكم وهو أمير المؤمنين في الحجاز، ثم بعد ذلك أتاه الحَجَّاج بن يوسف بجيشٍ كبير وقاتله، وتغلَّب عليه، لما تغلَّب عليه قتله، وكان عبدالله بن الزبير رجلًا صَوَّامًا قوامًا، كما سيأتي من كلام عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-.

لما قتل الحَجَّاجُ عبدَالله بن الزبير، لم يكتفِ بذلك، بل قام بصلبه على خشبة، وبقي أيامًا والناس تمر عليه وتنظر إليه، وهذا معنى قوله: “رأيت عبدالله بن الزبير على عقبة المدينة، قال: فجعلت قريش..”.

“عقبة المدينة” يعني: عقبة بمكة؛ لأن ابن الزبير كان في مكة، فجعلت قريش تمر عليه وهو مصلوب بعد قتله، والناس تمر عليه.

ثناء ابن عمر على ابن الزبير 

فوقف عليه فقال: السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنتُ أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا.

يعني: أنهاك عن المنازعة الطويلة، وأنهاك عن الدخول في الأمور السياسية، ونحو ذلك؛ لأن عبدالله بن الزبير دخل في طلب الإمارة، وأصبح أميرًا وخليفة للناس، وحصل له ما حصل، وكان عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- ينهاه عن هذا، وأنه يُقبل على العلم والعبادة، ويترك عنه هذه الأمور؛ ولهذا قال: “كنت أنهاك عن هذا”؛ يعني: هذه هي النتيجة أن الحجاج قتلك وصلبك.

أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا.

قالها ثلاث مرات، أي: لم تأخذ بنصيحتي.

أما والله إن كنتَ ما علمتُ صَوَّامًا قوامًا، وَصُولًا للرحم، أما والله لَأُمَّةٌ أنت أشرُّها لأمةُ خيرٍ.

هذه كلمة حق قالها عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- لعبدالله بن الزبير، وهو يراه مقتولًا مصلوبًا؛ يعني: لا يرجو منه شيئًا، لكن كلمة حق قالها والناس يسمعون، أثنى عليه وزكَّاه قال: “كنتَ صَوَّامًا”.

قالوا: كان يصوم الدهر وما يفطر ولا يومًا، ولم يبلغه النهي عن صيام الدهر، لكنه كان صوامًا قوامًا، كان يقوم الليل، وصولًا للرحم، كان واصلًا لرحمه. وهذا فيه ردٌّ على من وصفه بالبخل، وقد كان كريمًا لكنه كان يُمسك المال عن أن يُبذل في أمور لا فائدة فيها، والمعروف عنه أنه كان كريمًا جوادًا، وصولًا للرحم.

“أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير”؛ لأن الحجاج ومَن معه كانوا يقولون: هذا هو شر الأمة، فيقول: إذا كان هذا هو شر الأمة إذن هذه الأمة هي أمة خير. قال عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- هذا الكلام.

ثم نَفَذَ عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-.

وسمع هذا الكلام بعض الناس، فذهبوا مباشرة وبلغوا الحجاج بكلام عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-.

قال:

فبلغ الحجاج موقفُ عبدالله وقولُهُ…

وهاب أن يتعرض لابن عمر ، والهيبة يُلقيها الله ​​​​​​​، على من شاء من عباده، بحيث لا يتعرض لهم أحد.

انظر هنا الحجاج لم يتعرض لعبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-، وكذلك الحسن البصري -رحمه الله- دعاه الحجاج يريد أن يفتك به وأن يقتله، لما دخل عليه هابه هيبة عظيمة، وقال: تعال هاهنا أبا سعيد، تعال هاهنا يا أبا سعيد. وجعل يسأله عن مسائل في العلم، وأكرمه، فهابه، أدخل الله في قلبه الهيبة.

فرعون هاب موسى ، أدخل اللهُ في قلبه، وإلا ففرعون كان يقتل الناس يقتل بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، حتى إنه قال: أنا ربكم الأعلى. لكنه هاب موسى -عليه الصلاة والسلام-، ودعاه للمبارزة، وأن يأتي بما عنده ويأتي فرعون بالسحرة، في القصة التي قصها الله علينا في القرآن.

فهنا، لم يتعرض الحجاج لعبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-؛ لأنه قد هابه، بل إن كلام ابن عمر -رضي الله عنهما- أثَّر على الحجاج؛ فلذلك أمر بأن يُنزَل عبدالله بن الزبير عن جِذْعه.

فأُلقي في قُبور اليهود.

مقبرة من مقابر اليهود، رُمي عبدالله بن الزبير فيها، ثم أخذه المسلمون قطعًا؛ لأنه بقي أيامًا مصلوبًا، فجمعه في قطع، وغسلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، ودفنوه، والحَجَّاج بن يوسف كان كما قال الذهبي: كان سفَّاكًا للدماء، يقول الذهبي عنه في “السير”، يقول عن الحجاج: نبغضه ولا نحبه، ونرى أن بغضه من أوثق عرى الإيمان؛ لأنه فعل بالصحابة ما فعل من قتل، ومن الأذى العظيم.

قصة الحجاج مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما

قال:

ثم أرسل إلى أمِّه أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها-.

أرسل الحجاج إلى أم عبدالله بن الزبير -رضي الله عنهما-، وهي أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- على أن تأتي له.

فأَبَتْ أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول: لتأتيني أو لأبعثنَّ إليكِ مَن يسحبُك بقُرُونِك.

انظر إلى سوء الأدب والظلم والبغي، يقول لأسماء أم عبدالله بن الزبير: تأتين إليَّ وإلا سأرسل مَن يسحبك بقرونك.

فأَبَتْ وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إليَّ مَن يسحبُني بقُرُوني. قال: فقال: أَرُونِي سِبْتَيَّ.

السِّبْتِيَّة: هي النعل التي لا شعر عليها.

فأخذ نعليه، ثم انطلق يَتَوَذَّفُ.

أي: يتبختر.

حتى دخل عليها.

دخل على أسماء -رضي الله عنها- يريد أن يغيظها، قال لها:

كيف رأيتِنِي صنعت بعدو الله؟

يريد: عبدالله بن الزبير، ابنها.

قالت أسماء: رأيتُك أفسدت عليه دُنياه، وأفسد عليك آخرتك.

كلمة عظيمة من هذه الصحابية: أنت أيها الحجاج أفسدتَ على ابن الزبير دنياه، وهو قد أفسد عليك آخرتك.

بلغني أنك تقول له: يا ابن ذات النِّطَاقَيْنِ.

النطاق أن تلبس المرأة ثوبها ثم تشد وسطها بشيء، وترفع وسط ثوبها وترسله إلى الأسفل، خاصة عند معاناة الأشغال ونحو ذلك، حتى لا تعثر بذيلها.

قالت أسماء -رضي الله عنها-:

أنا والله ذات النِّطَاقَيْنِ، أما أحدُهُما فكنت أرفع به طعام رسول الله ، وطعام أبي بكر من الدَّواب، وأما الآخرُ فنِطَاقُ المرأة التي لا تستغني عنه [16].

مما جاء في هذه القصة قَتْلُ الحجاج بن يوسف بغيًا وظلمًا، ومنها بيان ما كان عليه الحجاج من الظلم والبغي وسفك الدماء، عامله الله تعالى بما يستحق، وقد حصل أن تعدى في آخر حياته على أحد الصالحين وهو سعيد بن جبير، وقال له: أنت شقي بن جبير، فلما أراد أن يقتله قال: “اللهم لا تسلطه على أحد بعدي”، فقتله، فكان بعد ذلك لا يأتيه النوم، كلما أراد أن ينام أتاه سعيد ابن جبير، فيقول: ما لي ولابن جبير. وبقي على ذلك نحوًا من شهر لا يأتيه النوم، كلما أراد أن ينام أتاه كابوس بصورة سعيد بن جبير حتى هلك، وأمره إلى الله .

من فوائد قصة قتل ابن الزبير 

ومن الفوائد: فضل عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-، وأنه قال كلمة الحق ولم يأبه بالحجاج، وزكَّى هذا الصحابي الجليل ابن الزبير، وقال له هذه المقولة العظيمة: “كنتَ صوامًا قوامًا، وَصُولًا للرحم، أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير”، فقال كلمة الحق، ولم يتعرض له الحجاج بن يوسف بأي سوء، ولعل الله تعالى ألقى في قلب الحجاج الهيبة لعبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-.

ومن الفوائد: سنة الله في الصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، فهذه القصة حدثت في زمن الصحابة، والذي قُتِل في هذه القصة هو عبدالله بن الزبير صحابي جليل ، فهذا حصل في زمن الصحابة. وهذا يدل على أن هذه هي سنة الله في الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند قول المصنف -رحمه الله-: (باب: فضل فارس).

الأسئلة:

السؤال: هل تجب طاعة الوالد إذا أمر ابنه ألا يتزوج من امرأة معينة، مع أنها ملتزمة بأمور الدين؟

الجواب: لا تجب طاعة الوالد إذا لم يكن هناك سبب شرعي، فلا تجب طاعة الوالد في هذا؛ لأن الطاعة في المعروف كما أخبر بذلك النبي [17]، وليس من المعروف أن الأب يتحكم في ابنه ويطلب منه ألا يتزوج بامرأة معينة بدون أسباب شرعية معتبرة.

لكن، مع ذلك ينبغي لهذا الابن أن يحسن إلى أبيه وأن يتلطف معه وأن يرفق به، وأن يوسط مَن يقنعه بهذا الزواج، لكن إذا كان رفض الأب لأسباب شرعية فعلى الابن أن يطيع أباه؛ ولذلك لما طلب عمر بن الخطاب  مِن ابنه عبدالله أن يطلق امرأته، قال له النبي : أطِعْ أباك[18]؛ لأن عمر لا يمكن أن يأمر ابنه بطلاقٍ إلا لسببٍ شرعيٍّ.

فإذا كان رفض الأب لسبب شرعي معتبر، فعلى الابن أن يطيع أباه في ذلك، أما إذا لم يكن لسبب شرعي، وإنما لتعنت وعناد ونواحي نفسية، ونحو ذلك، فلا يلزم الابن طاعة أبيه في ذلك، ولكن عليه أن يحسن إليه، وأن يصحبه في الدنيا معروفًا.

السؤال: هذا يقول: ما عندي سؤال، لكن عندي خاطرة، جزاك الله خير الجزاء على ما تُقدِّم للإسلام والمسلمين، ويعلم الله أني أحبك في الله.

الجواب: أحبك الله الذي أحببتنا فيه، وتقبل الله دعواتك، وجزاك الله تعالى خيرًا، وبارك فيك، ووفقك في الدنيا والآخرة.

السؤال: هل النوم الخفيف يعتبر ناقضًا للوضوء؟

الجواب: النوم الخفيف وهو ما يسمى بالنعاس لا ينقض الوضوء؛ ولذلك كان بعض الصحابة ينتظرون النبي لصلاة العشاء وينعسون، حتى إن رؤوسهم تخفق من النعاس، ومع ذلك كانوا يصلون ولا يتوضؤون[19].

وإنما النوم الذي ينتقض به الوضوء هو النوم المُستغرِق الذي يزول معه الشعور، هذا هو الذي ينتقض به الوضوء. أما إذا لم يكن مُستغرِقًا وإنما كان نعاسًا خفيفًا؛ فلا ينقض الوضوء.

السؤال: ما المقصود بما ذكرتَ في درس الأمس من كلام ابن القيم: أن أبا هريرة قال: هذا من كِيسِه؟!

الجواب: يعني: قال هذا مِن عند نفسه وليس من كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-: “فمَن استطاع منكم أن يُطيل غرته فليفعل”[20] ليس من كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإنما من كلام أبي هريرة ، فإذا قيل: هذا مِن كيسه؛ يعني: من نفسه ومِن عنده.

السؤال: ما الحكم إذا نسي الإمام قراءة البسملة؟ هل صلاته باطلة؟!

الجواب: قراءة البسملة مستحبة وليست واجبة، والبسملة ليست بآية من الفاتحة، وإنما هي آية نزلت للفصل بين السور، والدليل على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة، ما جاء في “صحيح مسلم” عن أبي هريرة : أن النبي قال: قال الله تعالى: قسمت الصلاة يعني: الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي[21] إلى آخر الحديث.

فهنا قال: فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، ولم يقل: “فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم”، ولو كانت البسملة آية من الفاتحة لقال: “فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم”، ولكن هنا قال: فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين.

السؤال: ما حكم صلاة الجنازة للمرأة؟

الجواب: لا بأس، المرأة كالرجل في صلاة الجنازة، لا بأس أن تصلي على جنازة، وقد كان أزواج النبي يُصلِّين على بعض الجنائز، وصلين على سعد بن أبي وقَّاص لما مات[22].

فالمرأة في صلاة الجنازة كالرجل، وإنما هي ممنوعة من اتباع الجنائز، ومن الذهاب للمقبرة وزيارة القبور، وأما صلاة الجنازة فلا بأس بها.

السؤال: ما حكم قص المرأة لشعرها؟

الجواب: لا بأس بأن تقص المرأة شعرها، بشرط ألا يكون في ذلك تشبه بغير المسلمات، ولا تشبه بالرجال، فإذا قصته من باب الزينة فلا بأس بذلك، وقد جاء في الصحيح: أن أزواج النبي قصصن شعورهن بعد وفاته، حتى كان شعر إحداهن يصل إلى الوفرة[23].

فأزواج النبي -عليه الصلاة والسلام- فَعَلْنَ ذلك وقصصن شعورهن، فلا بأس بأن تقص المرأة شعرها إذا رأت المصلحة في ذلك، بشرط ألا يكون في هذا تشبه بغير المسلمات، ولا يكون في ذلك أيضًا تشبه بالرجال.

السؤال: ما حكم وضع صورة تذكارية للميت بعد مرور عام على وفاته؟

الجواب: هذا العمل غير مشروع، ويدخل في النعي، في نعي الميت، وهو نوع من النعي العملي للميت، وينبئ عن قلة الصبر والجزع، وعدم الرضا، وهذا العمل لا ينفع الميت ولا يفيد الميت، والنبي يقول: إن الميت لَيُعذب ببكاء أهله عليه[24].

فإذا أردت أن تنفع الميت اعمَلْ ما ينفع الميت؛ من الدعاء له، ومن الصدقة عنه، خاصة الصدقة الجارية التي هي الوقف، وكذلك العمرة عنه تنفعه، والحج عنه ينفعه، هذه التي تنفع الميت.

وأيضًا: الإحسان، وصلة أصدقائه ومَن كان يحبهم في الدنيا، كما قال عليه الصلاة والسلام: إنَّ مِن أبر البر صلة الرجل أهل وُد أبيه[25].

وأما وضع الصور التذكارية له فهذا ليس من البر به، وليس من الإحسان إليه، وهو نوع من الجزع ومن النعي، لكنه نعي عملي، فينبغي اجتنابه.

السؤال: هل يجوز أن تُعطَى كفارة اليمين لمسكينٍ واحد؟

الجواب: لا يجوز، لا بد أن تكون كفارة اليمين لعشرة مساكين؛ لأن الله ذكر هذا العدد، فقال سبحانه: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89]، فلابد من استيعاب العدد، وأن يكون الإطعام لعشرة مساكن، وإذا دفع الكفارة لمسكين واحد لم يصدق عليه أنه أطعم عشرة مساكين، وإنما أطعم مسكينًا واحدًا.

السؤال: مَن شرع في الصيام في كفارة اليمين، مع قدرته على الإطعام والكسوة، هل تبرأ ذمته بذلك؟

الجواب: لا تبرأ ذمته بذلك؛ لأن الصيام إنما يكون في حق مَن عجز عن الإطعام والكسوة والعتق، فالله يقول: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89].

فالذي يَشرع في الصيام وهو قادر على الإطعام يكون قد أخل بذلك، وصام مع كونه قادرًا على الإطعام، والله تعالى يقول: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، ثم قال سبحانه: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وهذا قد وجد؛ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89].

وعلى ذلك؛ فمن صام مع قدرته على الإطعام وعلى الكسوة لا تبرأ ذمته بذلك، وهذا أمر شائع عند بعض العامة: تجد أنه إذا كان عليه كفارة يمين يقول: أصوم ثلاثة أيام. ليس لك أن تصوم ثلاثة أيام إلا إذا عجزت عن الطعام والكسوة.

أما عتق الرقبة فهذا قد انقرض الآن، لكن يبقى الإطعام والكسوة، فإذا عجزت عن إطعام مساكين وعن كسوتهم فلك أن تعدل إلى صيام، أما إذا كنت قادرًا على إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم فليس لك أن تعدل إلى الصيام.

السؤال: ما حكم تركيب الأظافر الصناعية للنساء؟ هل هو من الوصل؟

الجواب: نعم، هو من الوصل المحرم، ولا فرق بين وصل الشعر بشعر وبين وصل الأظافر بأظافر، فهما في المعنى واحد، فلا يجوز للمرأة تركيب أظافر صناعية لدخوله في الوصل المحرم.

السؤال: جدي عمره سبعون سنة، وهو تارك للصلاة بالكلية، لا يركع لله ركعة، ونحن ننصحه لكنه يرفض، وكذلك تارك للصيام، ماذا نفعل معه؟!

الجواب: عليكم أن تستمروا في نصيحته، وأن تبينوا له أن ترك الصلاة بالكلية أنه كفر مخرج عن ملة الإسلام، وتَذْكر له ما ورد في ذلك من النصوص؛ كقول النبي : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة[26]، وقوله: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر [27].

عليكم أن تسعوا لإنقاذه من النار، أرأيتم لو وجدتم جدكم قد ألقى بنفسه في نار الدنيا، ألستم تسعون لإنقاذه فكيف بنار الآخرة؟

الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فاستمروا في مناصحته والإنكار عليه، والدعاء له بأن يهديه الله .

السؤال: وضعت طلاء الأظافر ولم أتذكره إلا بعد صلاة المغرب، وقضيت تلك الفروض لكن ليس بالترتيب؟

الجواب: قضاؤك لتلك الفروض هذا هو التصرف الصحيح؛ لأن الوضوء مع ذلك الطلاء لا يصح، فإن الطلاء -طلاء الأظافر- يمنع وصول الماء إلى الأظافر، والنبي أمر الرجل أن يعيد الوضوء والصلاة لمَّا رأى على قدمه قَدْرَ ظفر لم يصبه الماء[28]، فكيف بالطلاء الذي يمنع وصول الماء إلى جميع الأظافر؟!

فالوضوء غير صحيح، فكونُكِ أعدتِ هذه الصلوات هذا أمر حسن، وأما بالنسبة للترتيب فالترتيب ليس بواجب، الترتيب في قضاء الفوائت ليس بواجب على القول الراجح، وهو قول جمهور أهل العلم، وعلى ذلك نقول: ليس عليه فيه شيء.

السؤال: لعلنا نختم بهذا السؤال، يقول: في المدرسة فسحة الصلاة، وقتها ضيق فلا نستطيع أن نؤدي سنة الظهر القبلية، فهل لنا تأدية الصلاة المفروضة أولًا ثم بعد العودة للمنزل نؤدي السنة القبلية والبعدية؟

الجواب: لا بأس بذلك، مَن لم يتيسَّر له أن يأتي بالسنة الراتبة القبلية للظهر فيأتي بها بعد الصلاة، ووقت الظهر متسع، وقت الظهر يستمر إلى بداية العصر إلى أذان العصر، هذا كله وقت لصلاة الظهر.

فإذا انشغل الإنسان أو لم يتيسر له أن يأتي بالسنة الراتبة القبلية لصلاة الظهر، فيأتي بها بعد صلاة الظهر، وعلى ذلك يأتي بعد صلاة الظهر بالسنة البعدية ثم يقضي السنة القبلية.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه البخاري: 3673، ومسلم: 2541.
^3 رواه مسلم: 2540.
^4 رواه مسلم: 2541.
^5, ^6, ^7, ^8 رواه مسلم: 2542.
^9 سبق تخريجه.
^10 رواه أحمد: 5022.
^11 رواه البخاري: 1473، ومسلم: 1045.
^12, ^13 رواه مسلم: 2543.
^14 رواه مسلم: 2544.
^15, ^16 رواه مسلم: 2545.
^17 رواه البخاري: 7145، ومسلم: 1840.
^18 رواه أحمد: 4711.
^19 رواه مسلم: 376.
^20 رواه البخاري: 136، ومسلم: 246.
^21 رواه مسلم: 395.
^22 رواه مسلم: 973.
^23 رواه مسلم: 320.
^24 رواه البخاري: 1286، ومسلم: 927.
^25 رواه مسلم: 2552.
^26 رواه مسلم: 82.
^27 رواه أحمد: 22937.
^28 رواه أحمد: 15495.
zh