عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله جميعًا في هذا الدرس، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
وهذا هو الدرس الأخير في هذا الفصل، وفي هذا العام، وبعده سنتوقف إن شاء الله فترة رمضان، والإجازة الصيفية كالمعتاد، ثم يستأنف الدرس في الثالث والعشرين من شهر محرم إن شاء الله تعالى.
لا زلنا في التعليق على كتاب الفضائل من صحيح مسلم في هذا الدرس الثاني والثلاثين، في التعليق على الفضائل من صحيح مسلم، في هذا اليوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شهر شعبان، من عام ألف وأربعمائة وثنتين وأربعين للهجرة.
باب من فضائل نساء قريش
وكنا قد وصلنا إلى باب من فضائل نساء قريش:
قال المصنف رحمه الله تعالى:
حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وعن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : خير نساء ركبن الإبل -قال أحدهما: صالح نساء قريش، وقال الآخر: نساء قريش- أحناه على يتيم في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده [1].
ثم ساق المصنف هذا الحديث من طريق أخرى.
عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله ، يقول: نساء قريش خير نساء ركبن الإبل، أحناه على طفل، وأرعاه على زوج في ذات يده قال: يقول أبو هريرة على إثر ذلك: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا قط [2].
وأيضًا في معنى هذا الحديث ساق المصنف الحديث من طريق أخرى:
عن أبي هريرة أن النبي خطب أم هانئ بنت أبي طالب، فقالت: يا رسول الله إني قد كبرت، ولي عيال، فقال رسول الله : خير نساء ركبن ثم ذكر بمثل حديث يونس غير أنه قال: أحناه على ولد في صغره [3].
ثم أيضًا ساق المصنف هذا الحديث من طرق أخرى، أولًا: قوله عليه الصلاة والسلام: خير نساء ركبن الإبل يعني: هذا فيه تفضيل لهؤلاء النِّسوة صالح نساء قريش يعني: لا على العموم، وإنما صالح نساء قريش.
ولذلك أبو هريرة قال على إثر ذلك: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا قط، يريد بذلك أبو هريرة: أن نساء قريش خير نساء العرب، وأن مريم لا تدخل في هذا التفضيل، فأراد إخراجها من هذا التفضيل، فلا يكون فيه تفضيل لنساء قريش عليها، هذا مراد أبي هريرة بقوله على إثر ذلك: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا قط.
أبرز خصال صالح نساء قريش
النبي عليه الصلاة والسلام ذكر فضل صالح نساء قريش، وذكر لهن خصلتين كانتا سببًا لهذا التفضيل:
- الخصلة الأولى: قال: أحناه على يتيم في صغره وفي الرواية الأخرى قال: أحناه على طفل ومعنى هذا يعني أن المرأة من نساء قريش كانت إذا توفي زوجها تقيم على أطفالها في صغرهم، فلا تتزوج من شدة حنوها على أطفالها، تريد أن تتفرغ لهم، وأن ترعاهم، وأن تحنو عليهم.
وهذه لا شك أنها منقبة لا تقدر عليها كثير من النساء، واتصفت بها صالح نساء قريش، فكان هذا من وجوه تفضيل صالح نساء قريش على غيرهن، هذه هي الخصلة الأولى.
- الخصلة الثانية التي بسببها فضلت صالح نساء قريش: قال: وأرعاه على زوج في ذات يده وفي الرواية الأخرى قال: وأرعاه على زوج في ذات يده المقصود بذلك أن المرأة منهن كانت تراعي حق الزوج في ماله، وتحفظه وتؤتمن عليه، وتحسن تدبيره في النفقة، ونحو ذلك، فهذه هي الخصلة الثانية: مراعاة حق الزوج في ماله، وحفظه، وحسن تدبيره.
وهذه لا شك أنها خصلة ومنقبة كبيرة في المرأة، أن المرأة تحافظ على مال زوجها فلا تبذره، ولا تسرف فيه، بل يكون عندها حسن تدبير لمال زوجها، وتكون مؤتمنة على هذا المال.
فهاتان الخصلتان خصلتان عظيمتان كانتا سببًا لتفضيل نساء قريش على غيرهن.
فهذا الحديث يدل على فضل صالح نساء قريش، وأن من أبرز خصالهن هاتين الخصلتين:
الخصلة الأولى: الحنو على الأولاد، والشفقة عليهم، وحسن تربيتهم، وخاصة الأيتام إذا توفي زوج إحداهن كانت تقيم على أولادها، فلا تتزوج، حتى تقوم بشؤون أولادها، وتحنو عليهم.
والخصلة الثانية: مراعاة حق الزوج في ماله، وحفظه وحسن تدبيره، وهذا يدل على فضل هاتين المنقبتين، أما الخصلة الثانية فهي مطلوبة من أي امرأة.
لكن الخصلة الأولى كون المرأة أيضًا إذا توفي زوجها تقيم على الأيتام، ولا تتزوج، هذا لا يجب عليها، بل يجوز لها أن تتزوج، لكن صالح نساء قريش كن من أنفسهن من تلقاء أنفسهن يفعلن ذلك.
ولهذا لما خطب النبي أم هانئ بنت أبي طالب، قالت: يا رسول الله، إني قد كبرت، ولي عيال، فاعتذرت بهذين العذرين، أنها يعني كبرت، وأصبحت كبيرة، وأيضًا أن لها عيالًا تريد أن ترعاهم، وأن تقوم على شؤونهم.
فهذه كون المرأة إذا توفي زوجها لا تتزوج لا يجب عليها، لكنها لو فعلت ذلك، اعتبر هذا منقبة لهذه المرأة، وهذه هي الصفة التي كان يتصف بها صالح نساء قريش.
باب مؤاخاة النبي بين أصحابه
ننتقل بعد ذلك إلى:
باب: مؤاخاة النبي بين أصحابه.
والمؤاخاة معناها يعني: من الإخوة، وهي أن يتعاقد الرجلان على التناصر والمواساة والتوارث، حتى يصيرا كالأخوين نسبًا، هذا هو معنى المؤاخاة، وقد يسمى ذلك حلفًا.
وكان هذا معروفًا في الجاهلية، ويسمونه حلفًا، ويسمون المتآخين حلفاء، وعمل به النبي في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعدما هاجر من مكة إلى المدينة.
وكان أحد المتآخين يرث الآخر، حتى نزل قول الله في سورة الأحزاب: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأحزاب:6]، يعني: في الميراث، فنسخ ذلك، نسخ التوارث بين المتآخين، وجعل التوارث بين أولي الأرحام، يعني الأقارب.
وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ يعني: في الميراث في كتاب الله ، أن هذا هو الحكم في كتاب الله سبحانه: أن التوارث إنما يكون للأقارب، ولا يكون للمتآخين.
وقد آخى النبي بين عدد من أصحابه، هنا المصنف قال:
حدثني حجاج بن الشاعر، حدثنا عبدالصمد، حدثنا حماد يعني ابن سلمة، عن ثابت، عن أنس: “أن رسول الله آخى بين أبي عبيدة بن الجراح، وبين أبي طلحة”.
قصة عبدالرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع
فآخى بين أبي عبيدة وأبي طلحة، وآخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد، وآخى بين عمر وعتبان بن مالك، وآخى بين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت، وآخى بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وفي ذلك القصة المشهورة لما آخى النبي بينهما، أتى سعد بن الربيع إلى عبدالرحمن، وقال له: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالًا، فأقسم لك نصف مالي، فيكون مالي بيني وبينك نصفين، ولي زوجتان، فانظر إلى أيتهما هويت، أطلقها فتعتد، ثم تتزوجها.
انظر إلى هذه الأخلاق العظيمة، وهذه الأخلاق الرفيعة، يقول هذا جادًّا، يقول لعبدالرحمن بن عوف الذي آخى النبي بينه وبينه: سأقسم نصف ثروتي بيني وبينك نصفين؛ لأنك أخي في الله، ولي زوجتان، انظر إلى أيتهما تريد، أطلقها فتعتد، ثم تتزوج أنت بها.
سبحان الله! هذه أخلاق رفيعة، أخلاق من يريدون الآخرة، أخلاق عالية، هذه هي أخلاق الكبار، طيب انظر إلى موقف عبدالرحمن، ماذا كان؟ ماذا كان موقف عبدالرحمن؟
يعني لا ندري من أيهما نعجب، قال عبدالرحمن: بارك الله لك في مالك وأهلك، انظر عزة النفس، مع أنه أتى من مكة ما عنده درهم، ويعرض عليه سعد بن الربيع، وهو من أكثر الأنصار مالًا، يعرض عليه أن يعطيه، ويهب له نصف ثروته، ولكن عزة نفسه أبت، وقال: بارك الله لك في مالك، وبارك الله لك في أهلك، يعني لا أريد هذا العرض، ودعا له بالبركة.
ولكن دلوني على السوق، فدلوه على السوق، فيبدو أنه في أول الأمر اقترض، ثم أصبح يُتاجر، وفتح الله عليه، فأصبح من أثرياء الصحابة، سبحان الله!
فلا ندري من أيهما نعجب، من سعد بن الربيع الذي عَرض هذا العرض العظيم، أو من عبدالرحمن بن عوف الذي عُرض عليه هذا العرض، ولم يكن في يده درهم، ومع ذلك أبى، ودعا لأخيه بالبركة، وقال: دلوني على السوق، وذهب وتاجر، حتى أصبح من أثرياء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أيضًا: النبي عليه الصلاة والسلام آخى بين علي ونفسه، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي: أنت أخي وصاحبي فكان علي يقول: أنا عبد الله، وأخو رسوله، لم يقلها أحد قبلي.
فكان هذا من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ لأن المهاجرين خرجوا من مكة، وقد تركوا ديارهم وأموالهم، وليس معهم شيء، يقول سبحانه: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]، لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أخرجوا من ديارهم وأموالهم، فقراء ما عندهم شيء، أتوا من مكة إلى المدينة ما عندهم شيء، وصفهم الله تعالى بأنهم فقراء.
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لماذا؟ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]، وهذا ثناء عظيم على المهاجرين.
ثم ثناء عظيم آخر على الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر:9] يعني: الأنصار يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] فهذا ثناء عظيم على المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
فكان من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام أن آخى بين المهاجرين والأنصار، فالمهاجرون تركوا ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، والأنصار استقبلوهم بالترحاب والتكريم، وآووهم، وأكرموهم؛ ولذلك أثنى الله عليهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9].
ليس فقط يجاملونهم، أو يستقبلونهم استقبال مجاملة، بل يحبونهم من قلوبهم، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا لا يحسدونهم على ما فضلهم الله تعالى به؛ لأن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ ولهذا قدمهم الله تعالى في الذكر، ومع ذلك لم يحسدوهم وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وهذا يدل على فضل سلامة الصدر، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
فكان من حكمة النبي أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، فكان هذا هو غاية الحكمة، وكان له الأثر العظيم في استقرار الدولة الإسلامية الناشئة في ذلك الحين، فصلوات الله وسلامه عليه، كان تصرفه هذا بالمؤاخاة كان في غاية الحكمة عليه الصلاة والسلام.
معنى قوله: لا حلف في الإسلام
ثم قال المصنف رحمه الله:
حدثني أبو جعفر محمد بن الصباح، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا عاصم الأحول، قال: قيل لأنس بن مالك: بلغك أن رسول الله ، قال: لا حلف في الإسلام قال أنس: “قد حالف رسول الله بين قريش، والأنصار في داره” [4].
ثم ساق المصنف هذا الحديث:
عن أنس قال: “حالف رسول الله بين قريش والأنصار في داره التي بالمدينة” [5].
ثم أيضًا ساق المصنف هذا الحديث قال:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبدالله بن نمير، وأبو أسامة، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله : لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة [6].
المراد بقوله: لا حلف في الإسلام أي: حلف التوارث، فإن هذا قد نُسخ، بقول الله : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأحزاب:6]، وكذلك أيضًا: الحلف على الظلم والبغي، وعلى ما كان مخالفًا للشرع، هذا كان موجودًا في الجاهلية، وأبطله الإسلام.
كان الحلف في الجاهلية أن يتحالف الإنسان مع آخر على الحق والباطل، يكون معه ينصره على الحق والباطل، وهذا لا يجوز، ينصره على الحق نعم، لكن ينصره على الباطل وعلى الظلم وعلى البغي وعلى الفساد، هذا لا يجوز، وهذا أبطله الإسلام.
فيكون النفي في قوله: لا حلف في الإسلام المقصود بذلك حلف التوارث، والحلف على الظلم والبغي، وعلى ما فيه مخالفة للشرع، هذا معنى الحديث.
أما ما كان الحلف فيه على طاعة الله ، وعلى التناصر على دين الله، وعلى التعاون على البر والتقوى، وعلى إقامة الحق والعدل، فهذا باقٍ لم يُنسخ، وهذا معنى قول أنس: “حالف النبي بين قريش والأنصار في داره”، وقول أنس: “حالف بين قريش والأنصار في داره التي في المدينة”.
وأيضًا: أيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة فالنصوص التي فيها الثناء على الحلف، وأنه ما كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة، هو الحلف على طاعة الله ، والتناصر على دين، وعلى التعاون على البر والتقوى.
أما ما كان حلفًا للتوارث، أو على الظلم والبغي، أو على مخالفة شرع الله، فهذا قد أبطله الإسلام، وهو المقصود في قوله عليه الصلاة والسلام: لا حلف في الإسلام.
باب بيان أن بقاء النبي أمان لأصحابه وبقاء أصحابه أمان للأمة
باب: بيان أن بقاء النبي أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، وعبدالله بن عمر بن أبان، كلهم عن حسين، قال: أبو بكر، حدثنا حسين بن علي الجعفي، عن مجمع بن يحيى، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: صلينا المغرب مع رسول الله ، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، قال: فجلسنا، فخرج علينا، فقال: ما زلتم ها هنا؟ قلنا: يا رسول الله، صلينا معك المغرب، ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: أحسنتم أو أصبتم قال: فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيرًا مما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون [7].
قوله عليه الصلاة والسلام: أمنة الأمنة من الأمن والأمان، وقوله: النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد معنى الحديث: أن النجوم ما دامت باقية، فالسماء باقية، فإذا انكدرت النجوم وتناثرت، فهذا إيذان بقيام الساعة، فإنه عند قيام الساعة تنفطر السماء، والنجوم تتناثر، وتنشق السماء إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [الانشقاق:1-4]، فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ [المرسلات:8].
فإذا كانت النجوم موجودة فهي أمنة للسماء، لكن عندما تنكدر النجوم وتطمس، فهذا إيذان بقيام الساعة، هذا معنى الحديث.
وقوله: وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتي أصحابي ما يوعدون يعني: من الفتن، يعني ما دام النبي عليه الصلاة والسلام باقيًا بين ظهرانيهم، فهو أمان لهم، فإذا ذهب أتاهم ما يوعدون من الفتن والحروب، وهذا ما حصل بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ابتداءً من حروب الردة.
قال: وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون يعني: أنهم بعد الصحابة تظهر البدع والفتن والحوادث، وهذا هو ما حصل أيضًا، فإنهم بعد قرن الصحابة حصل ما حصل من فتن عظيمة، ومن ظهور أهل البدع، والفرق الضالة، ونحو ذلك، فهذا هو معنى الحديث.
من فوائد الحديث
- أولًا: أن النبي أمنة لأصحابه، بل لأمته، فإنه الرحمة المهداة، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “أنزل الله أمانين: أمان قد قُبض، وأمان لا زال باقيًا، ثم تلا قول الله : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]”.
فالأمان الذي قد قبض هو وجود النبي بين ظهراني أصحابه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33] وهذا قد انتهى بوفاة النبي .
وأما الأمان الثاني، وهو الاستغفار، فهو باقٍ إلى قيام الساعة: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، وهذا يدل على أن الاستغفار من أسباب اتقاء العذاب وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
فإذا أكثر الإنسان من الاستغفار كان هذا أمانًا له بإذن الله من أن ينزل به العذاب؛ ولهذا ينبغي أن يحث الناس على الإكثار من الاستغفار؛ لأن الناس إذا أكثروا من الاستغفار كان هذا أمانًا لهم من أن ينزل بهم عذاب الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
حتى الإنسان في نفسه إذا أكثر من الاستغفار، فإن هذا أمان له من أن تحل به العقوبات، وأن ينزل عليه العذاب، يعني: يقيه الله بسبب كثرة استغفاره من كثير العقوبات والعذاب: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
- من فوائد هذا الحديث: فضل أصحاب النبي ، حيث جعلهم الله تعالى رحمة للأمة، ووجودهم أمان من العذاب والفتن.
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: أنَّ النجوم أمان للسماء، فمتى وجدت كانت السماء آمنة من الانشقاق والانفطار.
- ومن الفوائد: معجزة النبي ، حيث حصل ما أخبر به، فإنه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام حصل ما حصل من حروب الردة، وما بعدها، وبعد ذهاب قرن أصحابه أيضًا حصل ما حصل من الفتن العظيمة، ومن ظهور أهل البدع والفرق الضالة.
باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
ننتقل بعد ذلك إلى:
باب: فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم:
حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، وأحمد بن عبدة الضبي -واللفظ لزهير- قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: سمع عمرو وجابرًا يخبر عن أبي سعيد الخدري عن النبي ، قال: يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيُقال لهم: فيكم من رأى رسول الله ؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيُقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله ؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله ؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم [8].
ثم ساق المصنف هذا الحديث:
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله : يأتي على الناس زمان، يبعث منهم البعث، فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدًا من أصحاب النبي ؟ فيوجد الرجل، فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيهم من رأى أصحاب النبي ؟ فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثالث، فيقال: انظروا هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي ؟ ثم يكون البعث الرابع، فيقال: انظروا هل ترون أحدًا رأى من رأى أحدًا رأى أصحاب النبي ؟ فيوجد الرجل، فيفتح لهم [9].
وهذا يدل على فضل الصحابة ، وقوله: يغزو فئام يعني: جماعة من الناس، وقال النووي رحمه الله: هذا الحديث فيه معجزات للرسول ، وفضل الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ لقوله: هل منكم من رأى رسول الله، هل منكم من رأى من صحب رسول الله؟ هل منكم من رأى من رأى من صحب رسول الله؟ فهذا يدل على فضل الصحابة والتابعين وتابعيهم.
ثم ساق المصنف الحديث قال:
حدثنا قتيبة بن سعيد، وهناد بن السري، قالا: حدثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم بن يزيد، عن عبيدة السلماني، عن عبدالله، قال: قال رسول الله : خير أمتي القرن الذين يلوني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته [10].
ثم ساق المصنف هذا الحديث:
عن عبدالله قال: سُئل رسول الله : أي الناس خير؟ قال: قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته قال إبراهيم: كانوا ينهوننا، ونحن غلمان عن العهد والشهادات [11].
ثم ساق المصنف هذا الحديث أيضًا من طرق أخرى، ثم ساقه:
عن عبدالله قال: قال رسول الله : خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فلا أدري في الثالثة والرابعة: ثم يتخلف من بعدهم خلف، تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته [12].
ثم أيضًا ساق المصنف هذا الحديث:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : خير أمتي القرن الذي بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم والله أعلم أذكر الثالثة أم لا؟ قال: ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا [13].
ثم أيضًا ساق المصنف هذا الحديث من طرق أخرى:
عن عمران بن حصين يُحدِّث عن رسول الله قال: إنَّ خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن [14].
ثم ساق أيضًا المصنف هذا الحديث من طرق أخرى.
طيب هذه الأحاديث تدل على فضل الصحابة ، وقد اتفق العلماء على أن خير الأمة، وخير القرون هم صحابة رسول الله .
تعريف الصحابي
والصحابي هو كل من اجتمع بالنبي مؤمنًا به، ومات على ذلك.
فخير هذه الأمة أولها؛ ولذلك قال الله : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:10-14] المقصود بقوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني: من أول هذه الأمة، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي: أن السابقين يكونون من أول هذه الأمة أكثر من آخرها.
لكن لما ذكر أصحاب اليمين، قال: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ فهذه الأمة خيرها أفضلها، وأفضل هذه الأمة هو قرن الصحابة: خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
فصحابة رسول الله هم خير الأمة، وهم خير القرون، وهم أفضل القرون؛ لأنهم هم الذين كانوا مع النبي ونصروه، ونصروا دينه، وأعلم الناس هم أعلم الناس بشريعة الله، وأعلم الناس بمراد الله ومراد رسول الله ، وأعلم الأمة أيضًا بلغة العرب ومدلولها، فهم خير الأمة وخير القرون.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: اختلفت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، واختلفت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كانت على ما أنا عليه وأصحابي [15].
فهذه الأمة ستفترق على طوائف وفرق كثيرة، ما هي الطائفة الناجية المنصورة؟ هي الطائفة التي تكون على منهج الصحابة، وعلى طريقة الصحابة، وعلى هدي الصحابة، من كانت على ما أنا عليه وأصحابي.
يعني: كل يدعي أنه على هدي الكتاب والسنة، ولكن ننظر هل هو على طريقة الصحابة، هل هو على هدي الصحابة؟ لذلك التمسك بطريقة الصحابة ومنهجهم، وهديهم، هذا أمر مهم للمسلم.
ولذلك عندما يحصل الاختلاف مثلًا في مسألة من المسائل: هل هذه من البدع أو ليست من البدع؟ فينظر يعني هل يعني كانت موجودة في زمن الصحابة؛ لماذا لم يعملها الصحابة؟
فمثلًا: الاحتفال بمولد النبي ، الصحابة يحبون رسول الله أكثر من غيرهم، فلماذا لم يحتفلوا؟ لماذا لم يحتفلوا بالمولد، ولم يحتفل أيضًا بالمولد التابعون، ولا تابعوهم؟ وإنما حدث بعد ذلك.
فإذا أردت الميزان فانظر إلى هدي الصحابة ، وماذا كانت طريقتهم؟ وماذا كان هديهم؟ فخير القرون إذن هو قرن صحابة رسول الله .
ما المراد بالقرن؟
واختلف في المراد بالقرن، يعني هل المراد به أربعون سنة، أو المراد به مائة سنة، أو المراد به مائة وعشرين؟ في هذا أقوال كثيرة، وقيل أيضًا: سبعون سنة.
ثم النووي لما ذكر الأقوال والخلاف، قال: الصحيح أن قرنه الصحابة، والثاني: التابعون، والثالث: تابعوهم.
فقرن النبي الصحابة: خيركم قرني من هم؟ الصحابة، ثم الذين يلونهم يعني: التابعين، ثم الذين يلونهم يعني تابعي التابعين، وهؤلاء القرون الثلاثة هي القرون الثلاثة المفضلة، وهم خير هذه الأمة.
وأما ما جاء في بعض الروايات، قال: ذكر قرنين أو ثلاثة، المحفوظ من الرواية هو: خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فأفضل الأمة الصحابة، ثم التابعون، ثم تابعو التابعين، هؤلاء هم أفضل الأمة، وأفضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وهذا يدل على التفاوت، يعني إذا قلنا: إن قرن النبي عليه الصلاة والسلام أنه هو الصحابة، وأن من بعدهم هم التابعون، ومن بعدهم هم تابعو التابعين، فآخر واحد مات من الصحابة كان سنة مائة وعشرين للهجرة.
وإذا كان مائة وعشرين للهجرة، معنى ذلك أن هذا هو قرن النبي عليه الصلاة والسلام، كان أكثر من مائة سنة، ثم التابعون من بعدهم، ثم تابعو التابعين، فهذا هو المقصود بقوله: خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
إذن أفضل هذه الأمة هذه القرون الثلاثة، ثم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنه يأتي بعدهم قوم، قال: ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته وفي الرواية الأخرى، والروايات يفسر بعضها بعضًا: تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمنيه شهادته وفي رواية: يشهدون قبل أن يستشهدوا وفي الرواية الأخرى من حديث عمران: ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون.
وهذا يدل على تسرع هؤلاء في الشهادة، وأنهم أيضًا مع هذا التسرع يحلفون على الشهادة، يتسرعون ويشهدون قبل أن يستشهدوا، ويحلفون على ذلك، وهذا من الأمور المذمومة.
الجمع بين حديث يشهدون ولا يستشهدون وبين حديث خير الشهود..
كيف نجمع بين هذا الذم الوارد في الحديث: يشهدون ولا يستشهدون وبين قول النبي : خير الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها [16]؟
قال العلماء في الجمع بينهما: أن الذم الوارد في حديث: يشهدون ولا يستشهدون إنما هو في حق من بادر بالشهادة في حق الآدمي، وهو عالم بها قبل أن يسألها صاحبها، فهذا مذموم، يعني ما دام أن صاحبها لم يطلب منك الشهادة، ولم يرد الشهادة، فلا داعي للتسرع بالشهادة، والحلف على ذلك أيضًا.
وأما المدح في قول النبي عليه الصلاة والسلام: خير الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها فالمدح هذا إنما هو في حق من كان عنده شهادة لآدمي، ولا يعلم بها صاحبها، فيخبره بها ليستشهده بها.
مثل مثلًا: إنسان فيه خصومة، وعند أحد الناس شهادة، وهو لا يعلم، يعني هذا الإنسان لا يعلم بأن أحدًا عنده شهادة.
كيف الجمع بين حديث: يشهدون ولا يستشهدون وحديث: خير الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها الجمع بينهما: أن الذم الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: يشهدون ولا يستشهدون لمن بادر بالشهادة في حق آدمي، وهو عالم بها، قبل أن يسألها، وتسرع في أداء الشهادة قبل طلبها، وحلف على ذلك؛ ولهذا في الرواية الأخرى: تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته.
وأما المدح الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: خير الشهداء من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها فهذا إنما هو في حق من كانت عنده شهادة لآدمي، ولا يعلم بها صاحبها، فيخبره بها ليستشهده بها، فهذا ممدوح.
إذا كان مثلًا إنسان، تعرف أن إنسانًا له حق، ولم يستطع أن يثبت حقه، وعندك شهادة، وهو لا يعلم بأن عندك شهادة، فتخبره تقول: يا فلان عندي شهادة لك على كذا، فهذا أمر ممدوح.
واعتبر النبي من يفعل ذلك، أنه خير الشهود، قال: خير الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها.
إنما المذموم من يتسرع في أداء الشهادة لإنسان، وهو عالم بها، قبل أن تطلب منه الشهادة، وربما حلف على هذه الشهادة أيضًا: تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته.
قال: ويخونون ولا يؤتمنون هذه الخصلة الثانية أيضًا: أنهم يخونون عندهم الخيانة، يعني أن الخيانة عندهم خيانة ظاهرة، بحيث لا يبقى معها أمانة؛ ولذلك قال: ولا يؤتمنون أما من خان بحقير مرة واحدة، يصدق عليه أنه خان، لكنه قد يؤتمن، لا يخرج هذا عن وصف الأمانة في بعض المواطن، لكن هؤلاء وصلوا إلى هذه المرحلة، إلى درجة أنه لا أحد يثق بهم، فلا يؤتمنون وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77].
والخصلة الثالثة من خصال الذم فيهم: أنهم ينذرون ولا يوفون والمقصود بالنذر هنا: نذر الطاعة، فإن نذر الطاعة يجب الوفاء به، من نذر نذر طاعة وجب عليه أن يفي بهذا النذر، وإلا فإنه يعرض نفسه للوعيد الشديد، المذكور في قول الله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ [التوبة:75] يعني: نذر نذر طاعة، لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ نذر نذر طاعة لئن رزقه الله تعالى مالًا، سوف يتصدق منه، ويكون من الصالحين.
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ: لم يتصدق، ولم يفِ بهذا النذر بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ماذا كانت عقوبتهم؟ عقوبة شديدة فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ يلقى في قلب هؤلاء النفاق -نسأل الله العافية- ويستمر النفاق في قلبه إلى الممات فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ.
وهذا من أشد ما يكون من أنواع العقوبة، أن الإنسان يُلقى في قلبه النفاق، وربما لا يشعر بهذه العقوبة، ربما لا يشعر بها، فهذه عقوبة شديدة في حق من نذر نذر طاعة، ولم يفِ به.
وهكذا أيضًا من نذر نذرًا من أقسام النذر الأخرى إذا لم يفِ به، فيلزمه أن يكفر كفارة يمين، بعض الناس ينذر ولا يفي، ولا يكفر كفارة يمين، وهذا على خطر عظيم.
فالنبي ذكر هذه الخصلة من خصال الذم، ومن خصال هؤلاء الذين ذمهم، بقوله: يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون.
قال: ويظهر فيهم السِّمَنُ أنه يظهر فيهم السمن لتعلقهم بالدنيا، وكثرة الترف عندهم، قال النووي رحمه الله: معنى الحديث: المراد بالسمن هنا: كثرة اللحم، ومعناه: أنه يكثر ذلك فيهم، وليس معناه: أن يتمحضوا سمانًا، قال: والمذموم من يستكسبه، وأما من هو فيه خلقة، فلا يدخل في هذا.
يعني: أن من يطلب السمن، ويحاول أن يسمن، هذا هو المذموم، أما من كان سمينًا خلقة لا يدخل في الذم، ومما يؤيد ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: ثم يخلف قوم يحبون السمانة، قوم يحبون دليل على أنهم يسعون لطلب السمن، ويحبون ذلك، فهذا أيضًا موضع ذم.
وهذا قد حصل على ما ذكر في بعض كتب التاريخ والسير، حصل في بعض العصور أنهم كانوا يحبون السمن، ويتفاخرون بذلك، وأن المرأة تحب أن تكون سمينة، وأنها تكون محل رغبة لدى الرجال، وأن الرجال كذلك أيضًا، وكان بعضهم يعني إذا أراد أن يثني على آخر، مدحه بشيء من هذا، فهذا قد حصل في قرون مضت، وحصل ما أخبر به النبي .
فهذه الخصال إذن خصال مذمومة: أنهم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن.
باب معنى قوله : على رأس مائة سنة..
باب: معنى قوله : على رأس مائة سنة لا يبقى نفس منفوسة.. ممن هو موجود الآن:
وساق المصنف هذا الحديث:
عن عبدالله عمر، قال: صلى بنا رسول الله ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلَّم قام، فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله تلك، فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال رسول الله : لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد يريد بذلك أن ينخرم القرن [17].
ثم أيضًا ساق المصنف هذا الحديث من طريق أخرى، ثم ساقه من:
حديث جابر قال: سمعتُ النبي يقول قبل أن يموت بشهر: تسألوني عن الساعة؟ وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة [18].
ثم ساق المصنف هذا الحديث من طرق أخرى:
لا تأتي مائة سنة، وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم [19].
وهذه الأحاديث بين فيها النبي بأن كل نفس منفوسة، تلك الليلة التي تحدث فيها، أنها لا تعيش أكثر من مائة سنة، وهذا هو الذي وقع، كان آخر الصحابة موتًا في سنة مائة وعشرة للهجرة، فيظهر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال هذه المقولة في السنة العاشرة؛ لأنه في حديث جابر: قبل أن يموت بشهر.
بعد مائة سنة لم يبق على وجه الأرض أحد ممن هو كائن عليها وقت مقولة النبي ، وليس المعنى: أنه لا أحد يعيش أكثر من مائة سنة، وقد عاش أناس أكثر من مائة سنة.
لكن المقصود أن من كان حيًّا زمن مقولة النبي لا يمكن أن يبقى بعد مائة سنة، هذا هو المقصود.
النبي عندما قال لأصحابه: لا يبقى على ظهر الأرض أحد ممن هو عليها الآن بعد مائة عام، أراد أن يلفت النظر عليه الصلاة والسلام، لكي يفكر الإنسان بمثل هذه المعاني.
يعني مثلًا: نحن الآن في هذا العام الهجري، نحن اليوم مثلًا في الرابع والعشرين من شعبان، ألف وأربعمائة وثنتين وأربعين للهجرة، طيب فكر ماذا تكون بعد مائة سنة؟ ألف وخمسمائة واثنين وأربعين، أين أنت؟ ما حالك؟
ألف وخمسمائة واثنين وأربعين، يعني ربما أن الموجودين على الأرض الآن كلهم قد ماتوا، فإن لم تقم الساعة فهم في البرزخ، إما في نعيم القبر، أو في عذابه، يتمنون أن لو عملوا صالحًا.
طيب فكر قبل مائة سنة من الآن، يعني ألف وثلاثمائة واثنين وأربعين، أين الموجودون قبل مائة سنة؟ هل هم الآن موجودون الآن؟ هل يوجد أحد ممن كان موجودًا عام ألف وثلاثمائة واثنين وأربعين؟
إن وجد أحد فهو نادر، إن وجد أحد يعني عمره مائة سنة، أو أكثر فهو نادر، لكن أكثر الناس قد ماتوا، وهذا يدل على قصر عمر الإنسان في هذه الدنيا.
وقصر هذه الدنيا وحقارتها، وأنها لا تستحق من الإنسان كل هذا العناء، وكل هذا النصب، وكل هذا الشقاء، والسعيد من اغتنم ساعات عمره فيما ينفعه بعد مماته، السعيد فيمن تزود بزاد التقوى، وإلا فإن عمر الإنسان قصير في هذه الدنيا.
ولذلك حياة الإنسان الحقيقية إنما هي في الآخرة؛ ولهذا الإنسان عندما يرى أهوال يوم القيامة، ماذا يقول؟ يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24] أليست حياته في الدنيا حياة؟ لا يراها حياة أصلًا، لا يراها شيئًا مقارنة بما يراه في الدار الآخرة.
فيرى أن الحياة الحقيقية إنما هي الحياة في الدار الآخرة، هي الحياة الباقية يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].
استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن الخضر ميت، وهذا هو القول الراجح: أنه ميت، وهذا الحديث ظاهر الدلالة في هذا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأنه لا يبقى أحد ممن هو على ظهر الأرض إلا وقد مات، قال: أقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة والخضر من بني آدم.
العجيب أن النووي رحمه الله تعالى رجح أن الخضر لا زال حيًّا، وقال: إن الجمهور على حياته، وتأول هذه الأحاديث، وقال: إنه كان على البحر، لا على الأرض، أو أن هذا عام مخصوص، لكن هذا القول قول مرجوح، والصواب أن الخضر أنه ميت، وليس حيًّا؛ لهذا الحديث؛ ولقول الله : وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34].
فالخضر ميت وليس حيًّا، وليس هناك دليل يدل على حياته.
نكتفي بهذا القدر، وحتى الأذان نجيب عما تيسر من الأسئلة.
بهذا نكون قد انتهينا من هذا الدرس، وسيتوقف الدرس فترة رمضان، والإجازة الصيفية، ثم يستأنف الدرس في الثالث والعشرين من شهر محرم، من عام ألف وأربعمائة وثنتين وأربعين للهجرة إن شاء الله تعالى، فهذا هو آخر درس معنا، والأسبوع القادم مثل هذا الوقت سيكون من رمضان إن شاء الله؛ ولذلك جرت العادة أننا نتوقف رمضان والإجازة الصيفية، وإن شاء الله نعود ونكمل كتاب الفضائل من صحيح مسلم في الرابع والعشرين، الدراسة من اثنين وعشرين يوم الأحد، والرابع والعشرون هو يوم الثلاثاء في الرابع والعشرين من شهر محرم، من عام ألف وأربعمائة وثنتين وأربعين للهجرة إن شاء الله تعالى.
الأسئلة
حتى تقام الصلاة نجيب عما تيسر من الأسئلة:
السؤال: هل أخذ مريض السكر الأنسولين يفسد صومه؟
الجواب: لا يفسد صومه، إبرة الأنسولين من جنس الإبر العلاجية لا تفسد الصيام؛ لأنها ليست بأكل ولا شرب، وليست في معنى الأكل والشرب، فهي أشبه ما لو تعاطى، أو أخذ إبرة علاجية.
والإبر تنقسم إلى قسمين: إبر مغذية هذه هي التي تفسد الصيام، والقسم الثاني: الإبر العلاجية هذه لا تفسد الصيام، سواء كانت في الوريد، أو في العضل.
وعلى ذلك أيضًا: إبرة لقاح كورونا لا تفسد الصيام أيضًا، هي من جنس الإبر العلاجية، فلا تفسد الصيام.
السؤال: ما حكم استخدام الفرشاة والمعجون للصائم؟
الجواب: لا بأس باستخدام الفرشاة والمعجون للصائم، لكن على الصائم إذا استخدم المعجون أن يلفظه بعد ذلك، وأن يتحفظ من أن يصل شيء منه إلى جوفه.
فإذا كان سيلفظ المعجون، ولن يصل شيء منه إلى الجوف لا بأس به، وإن كان يخشى من أن ينفذ شيء منه إلى جوفه، فالأحسن أن يجعل التنظيف بالفرشاة والمعجون في الليل.
السؤال: إذا كانت النذور كثيرة، وكلها عهود ونذور طاعة، ونفذتُ بعض الطاعات، والأخرى لم أنفذها، وقد عاهدت الله أن أنفذها دومًا، ما الحكم؟
الجواب: يجب عليك أن تفي بهذه النذور، فإن نذر الطاعة يجب الوفاء به، وأنت الذي قد ضيقت على نفسك؛ ولهذا نهى النبي عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل وفي الرواية الأخرى: أنه لا يرد من قدر الله شيئًا [20].
ما دمت قد نذرت نذر طاعة فتحمل، يجب عليك أن تفي بهذه النذور، ولو كثرت، فعليك أن تحصي هذه النذور، وأن تفي بها.
السؤال: الفطريات التي تكون تحت الأظافر، هل تمنع وصول الماء؟
الجواب: لا تمنع وصول الماء، يعني ينبغي عدم التدقيق في مثل هذه الأسئلة، ما يكون تحت الأظافر من الأوساخ والفطريات، ونحو ذلك، هذه لا تمنع وصول الماء، الإنسان إذا سكب الماء على يده أجزأ ذلك.
أما أنه يتتبع ما تحت الأظافر، هذا ليس مطلوبًا منه، بل ربما يدخل هذا في التنطع، فأنت إذا سكبت الماء على يدك من أطراف الأصابع إلى المرفق، فقد غسلت اليد، فلا حاجة للتدقيق، وهل وصلت إلى أطراف إلى ما داخل الأظافر أم لا؟
السؤال: أيهما أفضل أن أصلي صلاة التراويح مع الإمام في المسجد، أو أن أصليها في بيتي؟
الجواب: الأفضل أن تصليها مع الإمام في المسجد؛ لأنك إذا فعلت ذلك يُكتب لك أجر قيام ليلة، كما قال عليه الصلاة والسلام: من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلةٍ [21] فهذا فضل عظيم لمَن صلى مع الإمام.
لكن حتى يحوز على هذا الفضل لا بد أن يصلي صلاة التراويح كاملة، فلا ينصرف إلا مع تسليم الإمام من الركعة الأخيرة من قام مع الإمام حتى ينصرف يعني: حتى يسلم من الركعة الأخيرة كتب له قيام ليلة يكتب له أجر قيام ليلة.
وإذا فعل ذلك طيلة شهر رمضان، يكون قد قام جميع ليالي الشهر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه [22]، وهذا الفضل لا يحصل لمن كان يصلي صلاة التراويح في بيته، إلا إذا كان سيصلي جميع الليل، وهذا يعني صعب أن يصلي جميع الليل.
فحتى يكتب لك الأجر كاملًا، صل مع الإمام في المسجد صلاة التراويح كاملة، من فضل الله أنه يكتب لك أجر قيام ليلة، أجر قيام الليلة كاملًا.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ونستودعكم الله ، هذا هو آخر درس، ونلتقي بكم إن شاء الله تعالى بعد استئناف الدروس في العام الهجري القادم بإذن الله .
نتوقف فترة رمضان، وفترة الإجازة الصيفية، وإن شاء الله نعود لهذا الدرس في التعليق على كتاب الفضائل من صحيح مسلم، في الرابع والعشرين من شهر محرم من عام ألف وأربعمائة وثنتين وأربعين للهجرة.
إلى ذلك الحين نستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1, ^2 | رواه مسلم: 2527. |
---|---|
^3 | رواه مسلم: 201. |
^4, ^5 | رواه مسلم: 2529. |
^6 | رواه مسلم: 2530. |
^7 | رواه مسلم: 2531. |
^8, ^9 | رواه مسلم: 2532. |
^10, ^11, ^12 | رواه مسلم: 2533. |
^13 | رواه مسلم: 2534. |
^14 | رواه مسلم: 2535. |
^15 | بنحوه رواه الترمذي: 2641. |
^16 | بنحوه رواه مسلم: 1719. |
^17 | رواه مسلم: 2537. |
^18 | رواه مسلم: 2538. |
^19 | رواه مسلم: 2539. |
^20 | رواه البخاري: 6608، ومسلم: 1639. |
^21 | رواه الترمذي: 806، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 1605، وابن ماجه: 1327. |
^22 | رواه البخاري: 37، ومسلم: 759. |