logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(34) باب فضل فارس- من حديث “لو كان الدين عند الثريا..”

(34) باب فضل فارس- من حديث “لو كان الدين عند الثريا..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حياكم الله تعالى في هذا الدرس الرابع والثلاثين، في التعليق على كتاب الفضائل، ثم كتاب البِرِّ والآداب والصلة من “صحيح مسلمٍ”، في هذا اليوم الثلاثاء، الثلاثين من شهر محرمٍ، من عام 1443 للهجرة.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا أنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رَشَدًا.

باب فضل فارس

كنا قد وصلنا إلى: باب فضل فارس.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

230 – (2546) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا- عَبْدُالرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ جَعْفَرٍ الْجَزَرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا، لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ فَارِسَ -أَوْ قَالَ- مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ.

231 – (2546) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ -يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا قَرَأَ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3]، قَالَ رَجُلٌ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ النَّبِيُّ حَتَّى سَأَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ: وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ.

هذان الحديثان في فضل فارس، والمقصود في فضل من أسلم منهم؛ فإن فارس كان لهم حضارةٌ، وكان لهم دولةٌ، وكان مَلِك فارس كِسْرَى، كما أن الروم أيضًا لهم حضارةٌ ودولةٌ، وكان ملكهم قيصر، والنبي بعث كتبًا ورسائل إلى ملوك ورؤساء العالم، يدعوهم إلى الإسلام وإلى دين الله ​​​​​​​، وكان من أشهر من بعث إليهم كتبًا يدعوهم إلى الإسلام أربعةٌ:

  • الأول: كِسْرَى ملك فارس.
  • والثاني: هِرَقْل ملك الروم.
  • والثالث: النَّجاشي، ملك الحبشة.

وأيضًا بعث لغيرهم، كمن كان في مصر، وكان حاكمًا لمصر، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- بعث كتبًا ورسائل إلى أبرز ملوك ورؤساء العالم.

أما كسرى: فمزق كتاب النبي ، فدعا النبي عليه بأن يمزق الله ملكه، فمزق الله ملكه، واندثرت الدولة الفارسية في ذلك الحين.

وأما هرقل: فعظَّم كتاب النبي ، وكان عنده علمٌ وعقلٌ، وقال: ادعوا من كان ها هنا من العرب، فكان فيهم أبو سفيان، فدعا أبا سفيان ومن معه من العرب، وسأله عشرة أسئلةٍ، فأجاب عنها أبو سفيان، فقال له هرقل: لإن كان ما تقول حقًّا ليملكن صاحبكم موضع قدميَّ هاتين، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت وقبلت قدميه، عرف الحق لكنه آثر الدنيا على الآخرة، وآثر ما فيه من الملك على اعتناق دين الإسلام.

وأما النجاشي: فقد اشتَهَر بعدله، ولذلك؛ ذهب إليه المهاجرون الهجرة الأولى والثانية، فوفَّقه الله لرأي سديدٍ، أسلم وكتم إسلامه، وفي الوقت نفسه لم يعلن إسلامه، يعني أسلم ولم يعلن إسلامه، وبقي في الملك، ولما مات صلى عليه النبي وأصحابه صلاة الغائب، وترحم عليه.

ثم بعد ذلك أصبحت فارس بلدًا إسلاميًّا، وفتحها المسلمون فتحًا كاملًا في عهد عمر بن الخطاب ، وأصبح منهم علماء كثيرون في جميع الفنون وجميع العلوم، ونفع الله تعالى بهم نفعًا كبيرًا، ونشروا الدين، ولهذا جاء الثناء عليهم في هذا الحديث: لو كان الدِّين عند الثريا…، هي مجموعة نجومٍ متقاربةٍ معروفةٍ، لذهب به رجلٌ من فارس -أو قال- من أبناء فارس، وهذا يدل على فضلهم.

وفي الحديث الآخر: لما نزل قول الله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3]، قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: من هؤلاء؟ قال: وضع يده على يد سلمان الفارسي  ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء.

قوله في سورة الجمعة: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، المقصود: أن رسول الله مبعوثٌ إلى من كان في زمنه من العرب، وإلى من يجيئون بعدهم ولا يرونه، فرسالته شاملةٌ لجميع الأمة، وأخُص بالذكر منهم أهل فارس؛ لمَزِيَّتهم في طلب العلم والدين، فقد كثر فيهم أهل العلم وأهل الدين.

وهذه الأحاديث تدل على فضل فارس، وأن لهم اليد الطولى في نشر الدين والعلم، وذلك في زمن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ، ولا عبرة بما حصل في الأزمان المتأخرة من انحراف كثيرٍ منهم وتشيُّعهم، فإن هذا إنما حصل في القرون المتأخرة، وأما في القرون الأولى فقد كان لأهل فارس اليد الطولى في نشر العلم ونشر الدين.

وكانت بلاد فارس بلادًا سُنيةً، ونشروا كثيرًا من العلوم، وبرز فيهم أئمةٌ وعلماء كبارٌ، ثم قدَّر الله تعالى أن حصَل ما حصَل، فحصل انحراف في عقائد كثيرٍ منهم، وانتشر فيهم التشيع.

من فوائد هذه الأحاديث: بيان قوة هذا الدين، وأنه لما ضعف العرب عن قيامهم به في بعض العصور قيض الله له العجم، فقاموا به حق القيام.

باب قوله : الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة

قال المصنف رحمه الله:

60 – بَابُ قوله : النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً

232 – (2547) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا- عَبْدُالرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً.

أولا: معنى هذا الحديث: الراحلة هي النجيبة المختارة من الإبل الصالحة للركوب وللحمل عليها، فهي كاملة الأوصاف، هي أجود الإبل، هذه الراحلة النجيبة التي تصلح للركوب، ولغيره؛ فهي أكمل الإبل وأحسنها، هذه قليلةٌ في الإبل، إذا أردت أن تبحث عن هذه الراحلة النجيبة الكاملة الأوصاف في أوساط مئةٍ من الإبل لا تكاد تجد إلا واحدةً، أو أحيانًا لا تجد، هكذا أيضًا الناس متشابهون ومتقاربون، وعندما تريد أن تبحث عن الإنسان القوي الأمين، كامل الأوصاف مرضي الأحوال، لا تكاد تجد في المئة إلا واحدةً، وأحيانًا لا تجد، هذا هو معنى الحديث، وهذا أمر واقعٌ، فعندما يطلب ترشيح إنسانٍ ليشغل مهمةً كبيرةً، وتبحث في واقع الناس، ربما تجد الإنسان الكامل الأوصاف، المرضي الأحوال، القوي الأمين، نادرًا في الناس، فلا تكاد تجد نسبته إلا (1%) أو أقل من ذلك، فهذا هو معنى الحديث: النَّاس كإبلٍ مئةٍ لا تكاد تجد فيها راحلةً،

بهذا نكون قد انتهينا من التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلم”، ورأينا أن من الأنسب والأكمل أن نستمر في “صحيح مسلمٍ”، في كتاب البر والصلة والآداب، حتى ننتهي من هذا الكتاب بإذن الله ، وذلك؛ لأن الارتباط بسنة النبي ، فيها خيرٌ كثيرٌ، وعلمٌ غزيرٌ، فهذه الأحاديث تجمع لك أحاديث فيها فضائل، وفيها آداب، وفيها أحكامٌ، وفيها سننٌ، وفيها توجيهاتٌ، وفيها سِيَرٌ، وفيها أمورٌ كثيرةٌ، يعني لا تكاد تجتمع في كتابٍ واحدٍ، فلهذا؛ سنستمر في “صحيح مسلمٍ” في التعليق على كتاب البر والصلة والآداب.

كتاب البر والصلة والآداب

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتابُ البِرِّ والصِلَة والآداب

البر معناه: الإحسان، وغالبًا يطلق البر على الإحسان للوالدين، والبر ضد العقوق وضد الإساءة إليهم.

والصلة ضد القطيعة، وتعني: الإحسان، وأكثر ما تطلق على صلة الرحم.

والآداب: جمع “أدبٍ”.

قال الحافظ ابن حجرٍ في “الفتح”: الآداب: “استعمال ما يُحمد قولًا وفعلًا، وعبَّر بعضهم عن الأدب بأنه: الأخذ بمكارم الأخلاق”، والأدب يعني حسن المعاملة وتمام الخُلق مع الله ومع الناس.

باب بر الوالدين

وابتدأ المؤلف رحمه الله هذا الكتاب بباب بر الوالدين، وأنهما أحق به، وبدأ بذلك؛ لأن أحق الناس بالأدب والبر والصلة هما الوالدان؛ فإن حق الوالدين آكد حقوق البشر بعد حق النبي .

1 – (2548) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ طَرِيفٍ الثَّقَفِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريقٍ أخرى:

قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فأَدْنَاكَ.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريقٍ أخرى:

فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَزَادَ: فَقَالَ: نَعَمْ وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ.

هذا الحديث سأل رجلٌ فيه النبي عن أحق الناس بحسن الصحبة، وقال له النبي : أُمُّكَ، ثم كررها عليه قال: ثم من؟ قال: أُمُّكَ، قال: ثم من؟ قال: أُمُّكَ، قال ثم من؟ قال: أَبُوكَ، ثم في الرواية الأخرى: ثم أدناك فأدناك، وهذا يدل على أن حق الأقارب بالصلة والإحسان أنها الأم، فحق الأم عظيمٌ، وحق الأم مقدم على حق الأب؛ لأن النبي ذكر لها ثلاثة حقوقٍ، وذكر للأب حقًّا واحدًا، والله قال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، وقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14]، فالأم تعبت على ابنها أكثر من أبيه، فهي التي قامت بحمله ثم بوضعه، وعانت ما عانت من الكُرْه والمشقة في الحمل وفي الوضع، ثم في إرضاعه، ثم في تربيته وخدمته وتمريضه وغير ذلك، فهي تعبت على ولدها من ابن أو بنت أكثر من تعب الأب، ولذلك؛ كان حق الأم آكد من حق الأب، وهذا من عدالة الإسلام، أنه راعَى أن الأم لما كان تعبها على تربية ولدها أكثر، كان حقها آكد، فهذا هو منتهى العدالة، فكلاهما يعني والدان لهذا المولود، هذا أبوه وهذه أمه، لكن لننظر مقدار التعب على هذا الولد، نجد أن الأم تفوق بمراحل الأب في التعب عليه؛ ابتداء من حملة ثم وضعه ثم إرضاعه وتربيته وخدمته ونحو ذلك، فكان من العدل أن يكون حق الأم آكد من حق الأب.

أيهما يقدم: أمر الأب أم أمر الأم؟

إذنْ قلنا: إن حق الأم آكد من حق الأب، هنا مسألة: إذا أمر الأب ولده -من ابنٍ أو بنتٍ- بأمرٍ، وأمرته أمه بأمرٍ بعكسه؛ فأيهما يقدم؟

أما إذا كان يمكن الجمع بينهما فيجمع الولد -من الابن أو البنت- بينهما، لكن إذا كان لا يمكنه أن يجمع بينهما؛ إما أن يطيع أمه فيعصِيَ أباه، وإما أن يطيع أباه فيعصِيَ أمه، فأيهما يقدم؟ هل يقدم هذا الولد -من ابنٍ أو بنتٍ- هل يقدم حق أمه فيطيع أمه ولو أدى ذلك إلى معصية أبيه؟ أو يقدم حق أبيه ولو أدى ذلك إلى معصية أمه؟ وهذا إنما هو طبعا في الأمور المباحة، أمراه بأمر من الأمور المباحة.

الجواب: من العلماء من قال إن حق الأم مقدمٌ، ولكن القول المرجَّح عند كثيرٍ من المحققين من أهل العلم: هو القول بالتفصيل؛ وهو أن الأم إذا كانت في حبال الأب، إذا كانت في عصمة الأب؛ فإن حق الأب مقدمٌ على حق الأم، وذلك؛ لأن الأم هي زوجة أبيه، فهي مأمورةٌ بأن تطيعه -أن تطيع أباه- وهو القوَّام عليها: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، فإذا كانت الأم مأمورةً أصلًا بأن تطيع زوجها الذي هو أبوه، فمعنى ذلك: أن حق الأب آكد؛ لأن هذا الولد وأمه كلاهما مأمورٌ بطاعة الأب، فإذا كانت الأم في عصمة أبيه، وفي حبال أبيه؛ فحق الأب هنا مقدمٌ، فيطيع أباه ولو عصى أمه.

أما إذا لم تكن الأم في عصمة أبيه، يعني كانت مطلقةً؛ فحق الأم مقدَّمٌ؛ لأن الأم حقها آكد من حق الأب، ولأن الأب في هذه الصورة ليس له سلطةٌ على أم هذا الولد؛ لأنها مطلَّقةٌ وليست في عصمته، وليست في حباله؛ فليس له سلطةٌ عليها، ولا تأتَمِر بأمره؛ وعلى ذلك فحق الأم آكد.

هذا القول بالتفصيل هو القول المختار المرجح عند كثير من المحققين من أهل العلم.

إذنْ، إذا كانت الأم في عصمة أبيه، وأمَره أبوه بأمرٍ، وأمُّه بأمرٍ، ولم يمكن الجمع بينهما، فحق الأب مقدمٌ، يطيع أباه ولو عصى أمه. أما إذا لم تكن الأم في عصمة الأب، يعني كانت مطلقةً، فيقدِّم حق الأم ويطيع أمه ولو عصى أباه.

في الرواية الأخرى قال: ثم أبوك، ثم أدناك فأدناك، يعني: ثم الأقرب فالأقرب من ذوي الأرحام.

وقال النووي رحمه الله: يستحب أن تقدم في البر الأم ثم الأب ثم الأولاد، يعني بعد الأم والأب الأولاد، ثم الأجداد والجدات، ثم الإخوة والأخوات، ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام كالأعمام والعمات والأخوال والخالات، ويقدم الأقرب فالأقرب، ويقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بأحدهما.

فإذنْ، بحسب الأدنى فالأدنى.

إذنْ المقدم في الصلة والبر: الأم ثم الأب ثم الأولاد ثم الأجداد ثم الإخوة والأخوات، ثم بعد ذلك بقية المحارم من الأعمام والأخوال ونحوهم.

ما ضابط صلة الرحم الواجب صلتها؟

ضابط صلة الرحم، المرجع فيها للعرف، الضابط: هو العرف، ما عدَّه الناس صلةً للرحم في عرفهم فهو صلةٌ، وما عده الناس قطيعةً فهو قطيعةٌ، وهكذا أيضًا بالنسبة لبر الوالدين ولعقوق الوالدين، ما عده الناس في عرفهم برًّا فهو من البر، وما عدوه عقوقًا فهو من العقوق، فمثلًا زيارة الأرحام هذه من الصلة، الهدية لهم من الصلة، مساعدة المحتاج منهم هذه من الصلة، كذلك أيضًا بالنسبة للوالدين: الزيارة، والمساعدة بالمال، البر بالوالدين يكون بالقول وبالفعل وبالمال.

فإذنْ، المرجع في ذلك: العرف، وهكذا أيضًا بالنسبة للعقوق والقطيعة، فإذا عد الناس هذا التصرف أو هذا الكلام عقوقًا في عرفهم يكون عقوقًا، وإذا عدوه أيضا قطيعة يكون قطيعة.

فإذنْ البر والصلة والعقوق والقطيعة هذه وردت في الشرع مطلقةً، وأما الضابط فيها فالمرجع فيها للعرف، المرجع في تحديدها للعرف، والناس يُفَرقون، يقولون فلانٌ بارٌّ بوالديه، فلانٌ قاطعٌ أو عاقٌّ لوالديه، فلانٌ واصلٌ لرحمه، فلانٌ قاطعٌ لرحمه، فالناس في عرفهم يفرقون بين البارِّ والعاقِّ، وبين الواصل والقاطع.

هنا أيضا أنَبِّه إلى مسألةٍ ربما تخفى على بعض الناس، وهي أن ترك بر الوالدين يعتبر عقوقًا ولو لم يسيء إليهما، يعني هذا رجلٌ له أبٌ وأمٌّ، أو له أبٌ أو أمٌّ لم يسيء إلى والديه، لكنه أيضًا لم يَبَرَّهما، هاجِرٌ لهما، لا يراه والداه مددًا طويلةً، فهذا يعتبر عاقًّا لهما، فترك البر يعتبر عقوقًا، والعقوق درجاتٌ، فأسوأ ما يكون العقوق هو الإساءة لهما بالقول أو بالفعل، لكن أيضًا من العقوق ترك الإحسان إليهما، وترك صلتهما، وهجرهما، فهذا الولد -من ابنٍ أو بنتٍ- الذي ينقطع عن والديه مدةً طويلةً لا يراهما، ولا يتصل عليهما، ولا يتواصل معهما يعتبر عاقًّا لوالديه ومرتكبًا لكبيرةٍ من كبائر الذنوب، فبر الوالدين واجبٌ، بر الوالدين كما أنه يشمل عدم الإساءة إليهما، فهو يشمل كذلك الصلة لهما، والبر بهما، فترك البر يعتبر عقوقًا.

ضابط الرَّحم التي تجب صِلِتها

كذلك أيضًا بالنسبة لصلة الرحم، وهذا يقودنا -بالنسبة لصلة الرحم- إلى أن نبحث ضابط الرحم التي تجب صلتها، الرحم تعني جميع الأقارب، فهل جميع الأقارب تجب صلتهم؟

لو قيل بذلك فإن هذا يتسلسل، حتى ربما يصل إلى آدم، يعني: فلان وفلان وفلان وفلان، ثم كل البشر يجتمعون في آدم، فلا بد إذنْ من ضابطٍ للرحم التي تجب صِلَتها، اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا، والقول الراجح الذي تدل له الأدلة: هو أن الرحم التي تجب صِلَتها هم المحارم، وذلك بأنك لو فرضت أن أحد هذين القريبين ذكرٌ والآخر أنثى لم يحل له أن يتزوج بها، فمثلا الأرحام الذين تجب صلتهم: الأبناء والبنات وإن نزلوا، والأجداد والجدات وإن عَلَوا، والإخوة والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، هؤلاء أرحامٌ تجب صلتهم، وأما الوالدان فهم أعلى الأرحام، ولذلك؛ نسمي صلة الوالدين بِرًّا.

فإذنْ، هؤلاء تجب صلتهم، تجب صلة هؤلاء، وهذا بالإجماع: الوالدان والأولاد، والأجداد والجدات، والإخوة والأخوات، سواءٌ أكانوا أشقاء أو لأبٍ أو لأمٍّ، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، هؤلاء تجب صلتهم، وينطبق الضابط عليهم فإنك لو افترضت أن أحدهما ذكرٌ والآخر أنثى لم يحل له نكاحها.

هناك أرحامٌ تستحب صلتهم ولا تجب صلتهم، فإذا وصلهم المسلم فهو مأجورٌ، لكن إن لم يصلهم فليس عليه إثمٌ، وهم الأقارب مَن عدا مَن ذكرنا، فمثلًا: أبناء العم، أبناء العم تستحب صلتهم ولا تجب، لك ابن عمٍ يستحب أن تصله، لكن لا يجب لماذا؟ لأنك لو افترضت أن هذا ابن العم كان أنثى كان بنت عم فيحل لك أن تتزوج بها.

إذنْ، لا ينطبق عليها الضابط، فهنا تستحب الصلة ولا تجب، أبناء الخال أيضًا تستحب صلتهم ولا تجب، أبناء الخالة تستحب صلتهم ولا تجب..، وهكذا.

طيب، ضابط صلة الرحم.

ضابط صلة الرحم، المرجع فيها للعرف، فهو كما قلنا في بر الوالدين: المرجع في ذلك للعرف.

إشكال القسم في قوله نَعَمْ وَأَبِيكَ..

طيب هنا في الرواية الأخيرة التي ذكرها مسلمٌ فيها إشكالٌ، في قوله: نَعَمْ وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ، أولًا معناها، يعني: سوف تخبَر بجواب سؤالك؛ لأنه قال: من أحق الناس بحسن صحبتي -وفي الرواية الأخرى: بحسن صحابتي- قال: نَعَمْ وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ، يعني: سوف تخبَر بجواب سؤالك.

لكن الإشكال في قوله عليه الصلاة والسلام: نَعَمْ وَأَبِيكَ..، فالواو هنا واو قسَمٍ، وهو حلفٌ بغير الله تعالى، ومن المقرر: أن الحلف بغير الله تعالى محرمٌ؛ لأنه من الشرك الأصغر، فهنا كيف النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: وأبيك؟ للعلماء أجوبةٌ عن هذا:

قال النووي: لا يراد بهذا حقيقة القسم، بل هي كلمةٌ تجري على اللسان دِعامةً للكلام، لكن هذا جوابٌ محل نظرٍ، كيف يجري على اللسان والحلف بغير الله ؟! أليس ينهى الناس عن الحلف بغير الله تعالى مطلقًا؟ وأن من كان يجري على لسانه الحلف بغير الله يقال له: إن هذا أمرٌ محرمٌ عليك، ويجب عليك أن تترك الحلف بغير الله، وأن يكون حلفك بالله؛ فهذا الجواب محل نظرٍ.

وقيل في الجواب عن ذلك: إنَّ هذا قد وقع قبل النهي عن الحلف بغير الله.

وقيل في الجواب: إنه على تقدير: ورب أبيك لتنبأن، وبكل حالٍ هذا يعتبر من المتشابه؛ لأن النصوص المحْكَمة تدل على أنه لا يجوز الحلف بغير الله تعالى، هذه نصوصٌ محكمةٌ: من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك، فهذه النصوص المحكمة واضحةٌ في الشريعة الإسلامية، فعندما يأتي هذا اللفظ، هذا أجيب عنه بهذه الأجوبة، لكن إن لم تكن هذه الأجوبة مقنعةً نقول: غاية ما في الأمر أن هذا من قَبيل المتشابه، وقاعدة الراسخين في العلم: رد المتشابه من النصوص إلى المحكم، هذه قاعدة الراسخين؛ كما قال الله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، فإذا رددنا هذا النص المتشابه إلى المحكم، نجد أن النصوص المحكمة تدل على تحريم الحلف بغير الله ، وأن هذا الذي قد ورد من المتشابه يحتمِل عدة احتمالات:

يحتمل: أن يكون قد كان قبل النهي عن الحلف بغير الله.

يحتمل: أنه على تقدير حذف كلمة “رب”، ورب أبيك.

يحتمل: غير هذا.

ويحتمل أيضًا: عدم صحة الإسناد.

يحتمل: أن فيه تصحيفًا؛ لأن الرواية الصحيحة -التي ذكرها الإمام مسلمٌ، والتي أيضًا اتفق البخاري ومسلمٌ عليها- لم تذكر فيها هذه الزيادة، فيحتمل أيضًا أنها لم تثبت من حيث الصناعة الحديثية، هذا أيضًا واردٌ.

قاعدة في التعامل مع المتشابه

فكل هذه احتمالاتٌ واردةٌ، وبكل حالٍ يبقى هذا من المتشابه، فنردُّه إلى النصوص المحكمة التي تدل على تحريم الحلف بغير الله ، فهذه قاعدةٌ مفيدةٌ جدًّا لطالب العلم، إذا ورد نص متشابهٌ رُدَّه إلى النصوص المحكمة، وبذلك يزول الإشكال؛ لأن نصوص القرآن والسنة فيها متشابهٌ وفيها محكمٌ؛ كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7].

وهذا من حكمة الله ؛ ليكون في ذلك ابتلاءٌ وامتحانٌ، ثم ذكر الله موقف الناس من هذا: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فالذي يتبع المتشابه من النصوص، هذا في قلبه زيغٌ: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، لكن الذين ليس في قلوبهم زيغ وهم الراسخون في العلم: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7]، يرُدون المتشابه إلى المحكم ويقولون آمنا به لماذا؟ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]، ما دام أن كلًّا من عند ربنا؛ فنحن نرد المتشابه إلى المحكم، ونؤمن به، فهذه قاعدةٌ مفيدةٌ لطالب العلم، إذا ورد نصٌّ متشابهٌ فرُدَّ هذا المتشابه إلى المحكم، يَزُلْ بذلك عنك إشكالاتٌ كثيرةٌ، يعني مثلًا نضرب مثالا آخر من المتشابه في القرآن في قول الله : وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:108].

إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، هل معنى هذا أن نعيم أهل الجنة ليس مؤبَّدًا أبدَ الآباد؟

النصوص المحكمة تدل على أن نعيم أهل الجنة مؤبدٌ أبد الآباد، وأن أهل الجنة خالدون فيها أبدًا.

طيب، إذنْ هذا الاستثناء: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ؟

هذا أجيب عنه بعدة أجوبةٍ، لكن غاية ما يقال: إن هذا من المتشابه، فيرد إلى النصوص المحكمة التي تدل على أن نعيم أهل الجنة نعيمٌ دائمٌ غير منقطعٍ، ولهذا؛ ختم الله تعالى الآية بقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، لدفع هذا التوهم، وأن يتوهم متوهمٌ أن نعيم الجنة منقطعٌ، وهذا كما قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: إن الله أراد أن يبين أن نعيم أهل الجنة ليس واجبًا عليه، وإنما هو مِنَّةٌ من الله عليهم، فتكمن وتعظم بذلك المنة، لكنه لا يدل على أن نعيم الجنة منقطعٌ، ولهذا؛ ختم الله تعالى الآية بقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، هذا مثال للمتشابه في القرآن، وهذا الذي بين أيدينا في قوله: نعم وأبيك لتنبأن، مثالٌ للمتشابه في السنة، فقاعدة الراسخين في العلم: رد المتشابه من النصوص إلى المحكَم.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

5 – (2549) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ، عَنْ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَبِيبٌ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ، يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ.

ثم ساق هذا الحديث من طرقٍ أخرى، ومنها:

عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما:

قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللهِ فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ، قَالَ: فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟، قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا، قَالَ: فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا.

هذا الحديث يدل على فضل بر الوالدين، وأنه آكد من الجهاد في سبيل الله ، ولذلك؛ لمَّا سئل النبي عن أحب العمل إلى الله قال: الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، فجعل النبي بر الوالدين مقدمًا على الجهاد في سبيل الله تعالى، وذلك يدل على عظيم فضل بر الوالدين، وعلى أنه من أفضل وأجلِّ وأعظم الأعمال الصالحة؛ لأنه مقدمٌ على الجهاد في سبيل الله، مع كون الجهاد ذروة سنام الإسلام، ومع ذلك بر الوالدين مقدمٌ عليه، وفي هذه القصة هذا الرجل أتى يريد الجهاد، أتى النبي يستأذنه في الجهاد، وقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: هَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قال: نعم، قال: تَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ، قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما، وفي الرواية الأخرى: ففيهما فجاهِد، هذا أيضًا يدل على أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذن الوالدين، إذا لم يكن الجهاد فرض عينٍ، فيُستأذن الوالدان؛ فإن لم يأذنا لم يجز الجهاد، أما إذا كان الجهاد فرض عينٍ فلا يلزم إذْنُ الوالدين، كجهاد الدفاع مثلًا.

الحالات التي يكون الجهاد فيها فرض عين:

والجهاد إنما يكون فرض عينٍ في أربع حالاتٍ:

  • الحالة الأولى: إذا حاصر العدو بلد المسلمين.
  • الحالة الثانية: إذا حضر الصف.
  • الحالة الثالثة: إذا استنفره الإمام.
  • الحالة الرابعة: إذا احتيج إليه.

فإذا كان الجهاد ليس فرض عينٍ فيجب استئذان الوالدين، فإن أذِنا وإلا لم يجز الجهاد في هذه الحالة.

وهذا الحديث يدل على أن بر الوالدين نوعٌ من الجهاد في سبيل الله؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ففيهما فجاهِد، فاعتبر النبي بر الوالدين وإحسان صحبتهما نوعًا من الجهاد في سبيل الله وذلك؛ لأن بر الوالدين يحتاج إلى مجاهدةٍ للنفس؛ لأنه أمرٌ متكررٌ ومستمرٌّ، خاصةً مع كبر الوالدين، يحتاج إلى مجاهدة النفس ومغالبة النفس، وأن يستمر الولد -من ابنٍ أو بنتٍ- على الإحسان إليهما، وعلى صحبتهما، وعلى القيام بشؤونهما، وعلى كامل الصلة بهما، فهذا كله يحتاج إلى جهادٍ عظيمٍ، فلذلك؛ اعتبره النبي نوعًا من الجهاد، وقال لهذا الرجل: تبتغي الأجر من الله؟، قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسِن صحبتهما.

بعض الناس يتمنَّى أن يبر بوالديه، لكن تكون عنده بعض الظروف التي تمنعه من البر بوالديه؛ كأن يكون بعيدًا عنهما في سبيل طلب الرزق، أو أن والديه أو أحدهما يكون عنده شدةٌ في خُلقه، فلا يستطيع أن يبره كما يريد، أو نحو ذلك، فنقول: إذا اجتهد الولد -من ابنٍ أو بنتٍ- في بره بوالديه غاية ما يستطيع لكنه لم يتمكن من الإتيان بما يستطيع، فإن الله بعدما أمر ببر الوالدين في قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، قال بعد ذلك: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء:25]، وهذه الآية فيها سَلوةٌ للأولاد من أبناءٍ وبناتٍ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ، إذا اجتهدت غاية الاجتهاد لكنك لم تحقق ما تريد من برك لوالديك ومن الإحسان إليهما؛ إما بسبب ظروفٍ قاهرةٍ أو بسبب أنك لم تستطع أن تلبي حاجات والديك، فإنَّ الله يعلم ما في نفسك، يعلم الله تعالى ما في نفسك، إذا كنت تريد البر وتريد الإحسان لكنك لم تتمكن من أن تحقق كامل البر والإحسان، فالله أعلم بما في نفسك: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ يعني تريدون البر فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا، يغفر الله تعالى لكم ما قد يحصل من تقصيرٍ.

وهذا يدل على أنه ينبغي للولد -من ابنٍ أو بنتٍ- أن يحرص في نفسه على أن يبر والديه غايةَ ما يستطيع، فإن حصل منه قصورٌ بعد ذلك -والله يعلم من نفس هذا الولد، أنه حريص على البر لكنه لم يتمكن- فإنَّ الله تعالى يغفر له، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا.

باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها

طيب، ثم بعد ذلك انتقل المصنف رحمه الله تعالى إلى:

باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها

قصة جُريجٍ

وهذا ذكر فيه قصة جُريجٍ، وقصة الثلاثة الذين تكلموا في المهد، فنبدأ بقصة جريجٍ، لعل الوقت يتسع لها:

قصة جريجٍ قصةٌ عجيبةٌ من أعجب القصص:

7 – (2550) قال حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ -قَالَ حُمَيْدٌ: فَوَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ  لِصِفَةِ رَسُولِ اللهِ أُمَّهُ حِينَ دَعَتْهُ، كَيْفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا، ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَيْهِ تَدْعُوهُ- فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ، كَلِّمْنِي، فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي، فَقَالَ: اللهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، فَرَجَعَتْ، ثُمَّ عَادَتْ فِي الثَّانِيَةِ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي، قَالَ: اللهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، فَقَالَتْ: اللهُمَّ إِنَّ هَذَا جُرَيْجٌ، وَهُوَ ابْنِي، وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي، اللهُمَّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ -قَالَ: وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ- قَالَ: وَكَانَ رَاعِي ضَأْنٍ يَأْوِي إِلَى دَيْرِهِ.

والدير: هو كنيسةٌ منقطعةٌ عن العمران، ينقطع فيها رهبان النصارى ويتعبدون فيها.

قَالَ: فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْقَرْيَةِ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرَّاعِي فَحَمَلَتْ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقِيلَ لَهَا: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: مِنْ صَاحِبِ هَذَا الدَّيْرِ -تعني جريجًا- قَالَ فَجَاءُوا بِفُؤوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ، فَنَادَوْهُ فَصَادَفُوهُ يُصَلِّي، فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، قَالَ: فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: سَلْ هَذِهِ، قَالَ فَتَبَسَّمَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيِّ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: أَبِي رَاعِي الضَّأْنِ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ قَالُوا: نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ تُرَابًا كَمَا كَانَ، ثُمَّ عَلَاهُ.

ثم ساق المصنف رحمه الله قصة جريجٍ من حديث أبي هريرة  قال:

8 – (2550) حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ، قَالَ: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا.

يعني هذه في قصةٍ أوسع من القصة التي في الرواية الأولى.

وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَقَالَتْ: اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ، فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ، وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي، قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا.

هذه القصة قصةٌ عجيبةٌ!

جريجٌ كان عابدًا منقطعًا في صومعة له يتعبد، يتعبد طيلة الوقت، منصرفًا عن الدنيا، زاهدًا عابدًا، وكانت الرهبانية والانقطاع للعبادة من دين النصارى، لكن هذه أبطَلَها الإسلام، لا رهبانية في الإسلام، فجريج كان منقطعًا للعبادة، تحدث بنو إسرائيل عن جريجٍ وعن عبادته، وكانت امرأةٌ بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، وكانت من أجمل النساء، يُتمثَّل بحسنها، وهي بغيٌّ، فقالت: لأفتننَّه، قبْل ذلك أمه دعت عليه؛ لأن أمه نادته، قالت: يا جريج، وهو يصلي، قال: يا ربِّ، أمي وصلاتي، يعني اجتهَد وقدَّم صلاته لم يقطعها، في المرة الثانية كذلك، المرة الثالثة كذلك، فغضبت أمه ودعت عليه بهذه الدعوة، قالت: اللهم لا تُمِتْه حتى تُرِيَه المومسات، وفي روايةٍ: وجوه المومسات، والمومسات: هن الزواني.

وهذه دعوةٌ عظيمةٌ، وهذا يدل على أن رؤية وجوه المومسات عقوبةٌ يعاقَب عليها الإنسان لكون أم جريجٍ دعت على جريجٍ بهذه، ولعظيم فتنتها، واستجيبت دعوتها.

فقالت هذه المرأة البغي من بني إسرائيل: لأفتننه، فقالوا: ما تستطيعين؟ قالت: لأفتنه، يعني حصل بينها وبينهم شيءٌ من التحدي، فأتت إلى جريجٍ في صومعته، تعرضت له، فلم يأبه بها، تعرض مرةً ثانيةً، ثالثةً، رابعةً، الرجل معرضٌ ومنقطعٌ للعبادة، فذهبت إلى راعٍ يرعى الغنم، قريبٍ من الصومعة، فتعرضت له وأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت منه، فلما حملت منه وولدت، قالت: هذا من جريجٍ فأتوا إليه وجعلوا يضربونه، قالوا: تظهر الدين والتعبد وأنت تفعل كذا وكذا؟! فهدموا صومعته وجعلوا يضربونه وهو لا يدري، قال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك هذا الغلام، فقال: أين هو؟ فأتوا به، فقال: دعوني حتى أتوضأ، فتوضأ ثم صلى ركعتين، ثم أتى لهذا الغلام والناس ينظرون، وطعن بأصبعه في بطنه، قال: يا غلام من أبوك؟ أنطق الله هذا الغلام في المهد، قال: فلانٌ الراعي، فجعلوا يُقبِّلون جريجًا ويتمسحون به؛ لأن هذه كرامةٌ عظيمةٌ له، أن الله أنطق هذا الصبي في المهد؛ ليظهر براءة جريج، فجعلوا يتمسحون بجريجٍ ويُقبِّلونه، وقالوا: نبني لك صومعتك ذهبًا، قال: أعيدوها كما كانت.

فوائد من القصة:

فهذه القصة العظيمة فيها فوائد:

  • أولًا: من هذه الفوائد العظيمة: شأن الوالدين، وأنه يجب بر الوالدين، وأنه إذا كان الإنسان يصلي صلاة نفلٍ وكان والده أو والدته يدعوه فيقطع صلاته، وهذا يدل على أن حق الوالدين حقٌّ عظيمٌ، وهذا يقودنا إلى مسألةٍ، وهي: إذا دعا الأب أو الأم ابنه أو ابنته وهو يصلي، فهل يقطع صلاته ويجيب أباه وأمه أم لا؟
    الجواب: إذا كانت الصلاة صلاة فريضةٍ فلا يقطع صلاته، ولكن ينبه أباه أو أمه على أنه في الصلاة؛ إما بالتسبيح بأن يقول سبحان الله، أو بالنحنحة، يتنحنح، ونحو ذلك، لكن لا يقطع صلاة الفريضة، وله أن يخففها وأن يتجوز فيها؛ لأن النبي كان في صلاة الفريضة يسمع صوت بكاء الصبي فيخففها مخافة أن تفتن أمه، وهذه الحال من باب أولى.
    أما إذا كانت الصلاة صلاة نافلةٍ؛ فإن كان الأب أو الأم لو علما بأن ابنهما أو ابنتهما في الصلاة عَذَر هذا الابن أو البنت، فإنه لا يقطعها، ولكن يُسبِّح أو يتنحنح، أما إذا كان الأب أو الأم لا يعذرانه، كأم جريج، فإنه يقطع صلاة النافلة ويجيب أباه أو أمه.
  • أيضًا من فوائد قصة جريجٍ: أن رؤية وجوه المومسات عقوبةٌ يعاقَب عليها الإنسان؛ لأن أم جريجٍ دعت بذلك عليه؛ فدل ذلك على أن رؤية وجوه المومسات، يعني الزواني، عقوبةٌ، وذلك لعظيم فتنتها.
  • أيضًا من الفوائد: أن قول جريجٍ لهذا الغلام: من أبوك؟ فقال: فلانٌ الراعي، استدل به بعض أهل العلم على قول هذا الغلام -بأن أباه فلانٌ الراعي- على أن ولد الزنا إذا لم تكن أمه فِراشًا؛ فيجوز استلحاقه، فهذا رجلٌ زنا بامرأةٍ، وحملت وولدت، وهذه المرأة غير متزوجةٍ، ليست فراشًا، وتاب إلى الله ، تاب الزاني والزانية، ثم بعد ذلك أراد هذا الزاني الذي قد تاب أن يَستلحق هذا الولد، بحيث ينتسب إليه، فهل يجوز ذلك أم لا؟

هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء، فالجمهور على أنه لا يلحقه، وذهب طائفةٌ من أهل العلم إلى أنه ما دام أن أمه ليست فراشًا، واستلحقه هذا الزاني بعد التوبة إلى الله من الزنا، فإنه يلحق به، وهذا القول قال به بعض التابعين، واختاره الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمهما الله تعالى، واستدل أصحاب هذا القول بهذه القصة، قالوا: فإن هذا الغلام لمَّا قال له جريجٌ: من أبوك؟ قال: فلانٌ الراعي، قال ابن القيم: وهذا إنطاقٌ من الله لا يجوز فيه الكذب، فجعل الزاني أبًا له، لما قال: من أبوك؟ قال: فلانٌ الراعي، فجعل هذا الزاني أبًا له، هذا إنطاقٌ من الله لا يجوز فيه الكذب، ولأن ولد الزنا إذا كان ينسب لأمه بالاتفاق، فلماذا لا ينسب لأبيه كما قال ابن القيم رحمه الله، يقول: وهو قد خُلق من مائهما جميعًا، إذا كان ينسب لأمه بالاتفاق، فلماذا لا ينسب لأبيه؟

وهذا كله بشرط ألا تكون أمه فراشًا، فإن كانت أمه فراشًا، يعني متزوجةً فالولد للفراش، ولا ينسب للزاني بالإجماع، لكن إذا لم تكن أمه فراشًا؛ لم تكن متزوجةً، ثم أنجبت من هذا الزنا، وتابا إلى الله ، ثم أراد هذا الزاني -هذا الرجل الذي كان قد زنا- أن يستلحِق هذا الولد؛ فالقول الراجح عند بعض المحققين من أهل العلم: أنه يجوز أن يستلحقه، وذلك لأنه ليس هناك دليلٌ يدل على عدم الاستلحاق، واستدلوا بهذه القصة، بقصة جريجٍ، وبأنه قد خُلق من مائهما جميعًا، وبأن هذا فيه مصلحةٌ عظيمةٌ لهذا الطفل؛ لأن هذا الطفل إذا لم يلحق بهذا الرجل فسيعيش مجهول الأبوين، وهذا فيه أضرارٌ عظيمةٌ كبيرةٌ، أضرارٌ نفسيةٌ وكبيرةٌ جدًّا على هذا الولد، فإذا ألحِق بهذا الرجل فهذا فيه مصلحةٌ كبيرةٌ له، فالقول المرجَّح عند كثيرٍ من المحققين: أنه يجوز استلحاق ولد الزنا إذا لم تكن أمه فراشًا، بشرط أن يكونا قد تابا إلى الله من هذا الزنا.

أما بقية من تكلموا في المهد، فنؤجل الكلام عنها -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم بإذن الله .

فنكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الآن نجيب عن ما تيسر من الأسئلة الواردة:

الأسئلة

السؤال: حديث: من تَعَارَّ من الليل، وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له..، إلى آخره، هل يلزم من ذلك أن يكون قد نام على طهارة؟ وهل يصلح أن يقال في النهار أو خاصٌّ بالليل؟

الجواب: أولًا هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، يقول فيه النبي : من تَعَارَّ من الليل يعني استيقظ، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قديرٌ، الحمد لله، سبحان الله، لا إله إلا الله، الله أكبر، فإن دعا استجيب له، وإن توضأ قبلت صلاته [1]، هذا الحديث رواه البخاري ومسلمٌ، وهذا يدل على أن هذا من مواضع إجابة الدعاء، إذا استيقظت من النوم، فتأتي بهذا الذكر، ثم تدعو الله ، هذا من مواضع إجابة الدعاء، والأكمل أن تقوم وتتوضأ وتصلي ما تيسر، فإن دعا استجيب له، وإن توضأ قبلت صلاته، وهذا لا يشترط له أن يكون قد نام على طهارةٍ حتى لو نام على غير طهارةٍ؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يشترط لذلك أن يكون على طهارةٍ، وإنما قال: من تعار من الليل فقط، وأيضًا لا يشترط أن يكون في نوم الليل، بل يشمل حتى نوم النهار، ولهذا؛ ينبغي للمسلم أن يعوِّد نفسه على ذلك، إذا استيقظ من نومه يأتي بهذا الذكر ثم يغتنم الفرصة، ويدعو الله بما يحضره من خيري الدنيا والآخرة؛ فإن هذا من مواطن إجابة الدعاء.

السؤال: ما حكم تداول الذهب في المصارف بيعًا وشراءً، المسمَّاة: بمَحَافظ الذهب؟

الجواب: إذا انطبقت عليه الضوابط الشرعية فلا بأس، في المصارف الإسلامية يوجد تداولٌ للذهب منضبطٌ بالضوابط الشرعية، بحيث إن الذهب موجودٌ في مخازن، لكن يكون هناك وثائق لأجل تداول هذا الذهب، ولو أن المشتري لهذه الوحدات من الذهب أراد هذا الذهبَ لأمكنه أن يحصل عليه، فإذا تحقق ذلك تحققت الضوابط الشرعية فلا بأس، فتداول محافظ الذهب الموجود لدى المصارف الإسلامية لا بأس به، ومنضبطٌ بالضوابط الشرعية.

السؤال: هل لفظ: أستعيذُ بالله من الشيطان، واردٌ؟

الجواب: الذي ورد: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200]، يعني تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فالأفضل والأكمل تقول: أعوذ بالله، وليس: أستعيذ، وإنما: أعوذ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كلما أتت إليك هواجيس ووساوس، قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تجد أن هذه الوساوس تنقشع عنك، تزول عنك، أحيانًا الإنسان تهجم عليه هواجيس، تهجم عليه وساوس، تهجم عليه كآبةٌ، ما يدري ما سببها، هذه كلها من الشيطان، قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو قل: ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون، وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ۝وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97-98]، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]، فدائمًا اجعل هذا حاضرًا في ذهنك، كلما هجَمَت عليك الوساوس والهواجيس، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون؛ لأن الشيطان عدوٌّ للإنسان، فأحيانًا يأتي إليه بهواجيس وبأمور يفكر فيها من أجل أن يحزنه، ومن أجل أن يقلقه، ومن أجل أن يشغل فكره، فهذه كلها من الشيطان: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:10].

فالله تعالى جعل لك سلاحًا تتحصن به من هذا العدو، من الشيطان الرجيم، وهو الاستعاذة، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون، جرَّب هذا ستجد أن هذه الهواجيس والوساوس، هذه كلها تزول عنك مباشرةً، تنقشع عنك تلقائيًّا، فهذه من ثمرات الاستعاذة بالله ، بل حتى لو كنت داخل الصلاة، لو كنت تصلي وأتت إليك هواجيس ووساوس تعوذ بالله من الشيطان، قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، جاء رجلٌ إلى النبي فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد لبَّس علي صلاتي حتى لا أدري ما أقول، يعني وصل إلى هذه المرحلة، فقال له النبي : ذاك شيطانٌ، يقال له: خِنْزَب، فإذا وجدت ذلك فاتفُل عن يسارك ثلاثًا، وتعوَّذْ بالله منه، قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني [2].

فحتى لو أتت إليك هذه الهواجيس والوساوس وأنت في الصلاة، حتى في صلاة الفريضة، قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ستجد أن هذه الوساوس تذهب عنك مباشرةً، وهذه من ثمرات الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم.

السؤال: امرأةٌ مسافرةٌ نَوَت جمع صلاة المغرب والعشاء جمع تأخيرٍ، فنزل عليها العذر الشرعي، السؤال هل عليها قضاء الصلاتين، أم المغرب فقط؟

الجواب: إذا كان نزل عليها العذر الشرعي في وقت صلاة العشاء فيجب عليها أن تقضي الصلاتين، أما إذا كان نزل عليها العذر الشرعي في وقت صلاة المغرب فلا يلزمها إلا قضاء صلاة المغرب فقط.

السؤال: قبل أذان المغرب خرج دمٌ أحمر خفيفٌ فقلت: لعله استحاضةٌ، ثم انقطع فصليت المغرب، وقبل أذان العشاء خرج دمٌ أحمر غامقٌ، فهل صلاة المغرب صحيحةٌ أم تقضى؟

الجواب: هذه كانت مقدمةً للحيض، وبكل حالٍ أنتِ اجتهدت وليس عليك شيءٌ في هذا، ما دام أن هذا قد كان قبل أذان المغرب، فلا يلزمك قضاء صلاة المغرب.

السؤال: رجلٌ دخل مسجدًا والإمام راكعٌ وحينما كبَّر ثم ركع رفع الإمام مساويًا مع ركوع هذا الرجل، هل هذا الرجل أدرك الركعة أم لا؟

الجواب: إذا أتى المسبوق والإمام راكعٌ فإن غلب على ظنه أنه أدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه من الركوع فإنه يكون قد أدرك هذه الركعة، أما إذا غلب على ظنه أن الإمام رفع رأسه وأصبح إلى هيئة القيام أقرب منه إلى الركوع، فيكون قد فاتته هذه الركعة، أما إذا شك، لا يدري، وهذا هو الغالب أنه لا يدري هل الإمام رفع رأسه من الركوع أو لم يرفع رأسه من الركوع، والإمام سمعه يقول: سمع الله لمن حمده، لكن لا يدري هل ركع قبل أن يرفع الإمام أم لا؟ فنقول: يلزمه أن يقضي هذه الركعة؛ لأن الأصل عدم الإدراك، فإذا غلب على ظن المسبوق أنه أدرك الركوع والإمام لم يرفع رأسه من الركوع، يكون قد أدرك الركعة، أما إذا لم يغلب عليه الظن في ذلك؛ فالأصل أنه قد فاتته هذه الركعة ويلزمه قضاؤها.

السؤال: هل يشترط في العقيقة سنٌّ معينةٌ؟

الجواب: نعم، يشترط فيها ما يشترط في الهدي والأضحية، والعقيقة إنما تكون في الغنم، وعلى ذلك يشترط أن يكون الضأن يبلغ ستة أشهرٍ فأكثر، والماعز سَنةً فأكثر.

السؤال: هل يصح أن يعطِيَ ابن الأخ من الزكاة من أجل أن يتزوج، مع العلم أنه من المحتاجين؟

الجواب: يعطَى لأجل فقره وحاجته، ما دام أنه ابن أخيه، وهو فقير أو مسكين، فيعطى لأجل فقره، يعني لا يربط ذلك بالزواج، وإنما يعطى لأجل فقره وحاجته.

السؤال: ما حكم الدم الذي يكون بعد الولادة بأربعين يومًا هل يعتبر دم نفاسٍ؟

الجواب: إذا كان هذا الدم على صفة الدم الذي كان في الأربعين، فإنه يعتبر دم نفاسٍ، وعلى ذلك نقول: إن دم النفاس يمكن أن يأتي للمرأة بعد الأربعين، والقول الراجح: أن الدم الذي يأتي المرأة بعد الأربعين إذا كان على صفة الدم الذي يأتيها في الأربعين؛ فإنه يعتبر دم نفاسٍ، وأكثر مدة النفاس ستون يومًا، هذا هو القول الراجح، أنها ستون يومًا؛ لأن ما يأتي المرأة بعد ستين لا يعتبر طبيعيًّا، ويعتبر دم فسادٍ، أما ما قبل الستين فيعتبر دم نفاسٍ، ما دام على طبيعة الدم الذي أتاها بعد الولادة؛ لأن كثيرًا من النساء خاصةً في السنوات الأخيرة مع تغير الهرمونات لدى بعض النساء، وأصبح الدم يستمر بعد الأربعين، وكثيرٌ من النساء أصبحن لا يطهُرن في الأربعين، فيستمر معها الدم بعد الأربعين عدة أيام، فنقول: هذا يعتبر دم نفاسٍ -على القول الراجح- يعتبر دم نفاسٍ، فتنتظر المرأة حتى يحصل الجفاف وانقطاع الدم.

السؤال: ما حكم الأذان والإقامة في أُذُن المولود بعد ولادته؟

الجواب: روي في ذلك حديث عن النبي عند الترمذي [3]، والترمذي قال: إنه حسنٌ صحيحٌ، واختلف العلماء في درجته، وبكل حالٍ فالعمل على هذا عند كثيرٍ من أهل العلم، وعمل المسلمين على هذا، على الأذان في الأذن اليمنى من المولود، والإقامة في الأذن اليسرى، وإن كان حديث الإقامة أضعف من حديث الأذان، لكن هذه الأحاديث قد عَمل عليها المسلمون جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ، فالعمل عليها عند كثيرٍ من أهل العلم على مر العصور.

ولذلك؛ فالأقرب: أنه لا بأس بأن يؤذَّن في أذن المولود اليمنى، ويقام في أذن المولود اليسرى، لا بأس بذلك، وعليه عمل كثيرٍ من أهل العلم على مر العصور، والأحاديث الواردة وإن كانت ضعيفةً إلا أنه يقوي بعضها بعضًا، ويشد بعضها بعضًا.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1154.
^2 رواه مسلم: 2203.
^3 روى الترمذي بسنده عن عبيدالله بن أبي رافع، عن أبيه قال: “رأيتُ رسول الله أذَّن في أُذُن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة”: 1514.
zh