عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله جميعًا في هذا الدرس، في هذا اليوم الثلاثاء السابع عشر من شهر شعبان من عام 1442هـ، اللهم ارزقنا الفقه في الدين، اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].
باب من فضائل الأنصار
كنا قد وصلنا في التعليق على كتاب الفضائل من صحيح مسلم إلى باب من فضائل الأنصار ، وبدأنا في هذا الباب ولم نكمله، ووصلنا إلى قول المصنف رحمه الله:
حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -واللفظ لابن المثنى- قالا: حدثنا محمد بن جعفر أخبرنا شعبة سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك: أن رسول الله قال: إن الأنصار كرشي وعيبتي، وإن الناس سيكثرون، ويقلون، فاقبلوا من محسنهم، واعفوا عن مسيئهم [1].
هذا الحديث يدل على فضل الأنصار ، وقوله عليه الصلاة والسلام: إنَّ الأنصار كرشي أي: بطانتي وخاصتي الذين أثق بهم، وأعتمدهم في أموري.
وعيبتي أيضًا بهذا المعنى أيْ أنهم بطانتي وخاصتي وجماعتي.
وإن الناس سيكثرون فيه إشارة إلى أن البشر سيكثرون، وهذا هو ما وقع؛ حيث إن الناس قد كثرت أعدادهم، خاصة في الآونة الأخيرة في المائتي سنة الماضية تضاعف عدد سكان الأرض سبع مرات تقريبًا، يعني: كان قبل مائتي سنة يصل إلى مليار والآن أكثر من سبعة مليارات، فهذا مصداق ما أخبر به النبي من أن الناس سيكثرون.
لكن بالنسبة للأنصار قال: ويقلون أي: أن الأنصار ستقلّ، قال أهل العلم: وهذا من المعجزات ومن آياته عليه الصلاة والسلام؛ حيث قلّ الأنصار.
قال: فاقبلوا من محسنهم، واعفوا عن مسيئهم أيْ: أقيلوا عثراتهم، وقد حثّ عليه الصلاة والسلام على إقالة عثرات ذوي الهيئات إذا لم تبلغ الحدود وما يتعلق بحقوق الناس أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود [2]، ذووا الهيئات وأهل الفضل وأهل المكانة الرفيعة، الذين لم يُعرفوا بالسوابق إذا وقع من أحدهم زلّة أو عثرة، فينبغي أن تقال هذه العثرة إلا في الحدود فقط، وما يتعلق بحقوق الناس، لكن فيما عدا ذلك ينبغي أن يُستر عليه، وأن تقال عثرته إكرامًا له؛ لأنه من ذوي الهيئات والفضل، فالإنسان بشر قد تقع منه زلّة، قد تقع منه عثرة، فإذا لم يكن ذلك في الحدود، ولم يكن ذلك فيما يتعلق بحقوق الناس، وكان من ذوي الفضل والهيئات، فينبغي أن تقال عثرته، وأن تُستر عورته، فهذا قد حثّ عليه النبي بالنسبة لذوي الهيئات عمومًا، وبالنسبة للأنصار على وجه الخصوص.
خير دور الأنصار
قال المصنف رحمه الله:
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -واللفظ لابن المثنى- قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك عن أبي أسيد قال: قال رسول الله : خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير قال سعد: ما أرى رسول الله إلا قد فضّل علينا فقيل قد فضلكم على كثير [3].
ثم ساق المصنف هذا الحديث من طرقٍ أخرى، ومنها:
عن عبدالرحمن بن حميد عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، قال: سمعتُ أبا أسيد خطيبًا عند ابن عتبة فقال: قال رسول الله : خير دور الأنصار دار بني النجار، ودار بني عبد الأشهل، ودار بني الحارث بن الخزرج، ودار بني ساعدة، ولو كنت مؤثرًا بها أحدًا لآثرت بها عشيرتي.
ثم أيضًا ساق المصنف هذا الحديث من طريق أخرى ثم
قال أبو أسيد: أُتّهَم أنا على رسول الله ؟ لو كنت كاذبًا لبدأت بقومي بني ساعدة، وبلغ ذلك سعد بن عبادة، فوجد في نفسه، وقال: خُلِّفنا -يعني أُخّرنا فجعلنا آخر الناس- فكنا آخر الأربع، أسرجوا لي حماري آتي رسول الله ، وكلّمه ابن أخيه سهل، فقال: أتذهب لترد على رسول الله ورسول الله أعلم، أو ليس حسبك أن تكون رابع أربع؟ فرجع، وقال: الله ورسوله أعلم، وأمر بحماره فحُلَّ عنه [4].
ثم أيضًا ساق المصنف هذا الحديث من طرق أخرى ثم قال:
ثم في كل دور الأنصار خير، فقام سعد بن عبادة مغضبًا فقال: أنحن آخر الأربع؟ حين سمى رسول الله دارهم، فأراد كلام رسول الله ، فقال له رجال من قومه: اجلس ألا ترضى أن سمى رسول الله داركم في الأربع الدور التي سمى؟ فمن ترك فلم يسم أكثر ممن سمى، فانتهى سعد بن عبادة عن كلام رسول الله [5].
هذه الأحاديث بيّن النبي عليه الصلاة والسلام فيها تفاوت القبائل فيما بينهم في الفضل، وبيّن تفضيل بعضهم على بعض، وهذا التفضيل لبعضهم على بعض على قدر سبقهم إلى الإسلام، ومآثرهم فيه، فبيّن أن خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن خزرج، ثم بنو ساعدة.
وخير دور الأنصار يعني: خير قبائلهم، وكانت كل قبيلة منها تسكن محلّة تسمى تلك المحلّة: دار بني فلان، يعني مثلما يسمى في الوقت الحاضر حي من الأحياء.
فوائد من حديث خير دور الأنصار..
ويستفاد من هذا: جواز المفاضلة بين الناس لمن يكون عالمًا بأحوالهم؛ للتنبيه على فضل الفاضل، ومن لا يلحق به بدرجته في الفضل، فيكون في ذلك امتثالٌ لما أمر به النبي من تنزيل الناس منازلهم، وليس ذلك بمنقصة لمن فُضِّل عليه.
وهذا يدل على جواز التفضيل، وأن التفضيل إذا كان مبنيًا على أدلة أنه لا بأس به، ولا يدخل ذلك في الغيبة.
وهذا التفضيل كما يكون بين القبائل كما فضّل النبي عليه الصلاة والسلام بين قبائل الأنصار، فيجوز أيضًا أن يكون التفضيل بين الأفراد، فعلى سبيل المثال يجوز أن تقول مثلًا أفضل العلماء في الوقت الحاضر فلان، أفضل العلماء في بلد كذا، فلان ثم فلان ثم فلان، أفضلهم في العلم فلان، أفضلهم ممن جمع الصفات في العلم والديانة والفضل فلان ثم فلان ثم فلان، أو أن فلان أفضل من فلان في كذا..، هذا كله لا بأس به إذا لم يكن ذلك نابعًا عن هوى وعصبية، وإنما كان ذلك مبنيًا على أدلة وقرائن، وقد فعله النبي هنا كما في هذه الأحاديث.
ومن فوائد ذلك التفضيل: التنبيه على تنزيل الناس منازلهم، وأيضًا أن تشاع في الناس روح المنافسة في الخيرات والمسارعة لها، والله تعالى يقول: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] فهذا التفضيل الذي يكون مصلحته أكثر من مفسدته؛ ولذلك فعله النبي عليه الصلاة والسلام فذكر التفاضل بين دور الأنصار وبين قبائل الأنصار، وذكر أن أفضل قبائل الأنصار هذه الأربع قبائل: بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة ثم أيضًا جبر قلوب البقية قال: وفي كل دور الأنصار خير.
وفي اعتراض سعد بن عبادة في البداية؛ لأنه أراد أن يراجع النبي عليه الصلاة والسلام كيف جعل قبيلته آخر الأربع قبائل، لكن الصحابة طلبوا منه ألا يراجع النبي عليه الصلاة والسلام، وأن سعد بن عبادة ينبغي أن ينظر إلى القبائل الكثيرة التي فُضِّلت قبيلته عليها، فاقتنع سعد بذلك.
فضل جرير بن عبدالله البجلي
ثم قال المصنف رحمه الله:
حدثنا نضر بن علي الجهضمي ومحمد بن المثنى وابن بشار جميعًا عن ابن عرعرة -واللفظ للجهضمي- حدثني محمد بن عرعرة حدثنا شعبة عن يونس بن عبيد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: خرجت مع جرير بن عبدالله البجلي في سفر، فكان يخدمني، فقلت له: لا تفعل، قال: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله شيئًا آليت ألا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته.
وهذا يدل على فضل جرير بن عبدالله البجلي، وإلا فإن جريرًا أكبر سنًا من أنس بن مالك ومع ذلك فقد كان جرير يخدم أنسًا؛ لأنه من الأنصار، قال جرير: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله شيئًا آليت ألا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته؛ إكرامًا لهم؛ لأنهم أكرموا النبي ونصروه وآووه وعظّموه، فآلى جرير بن عبدالله على نفسه ألا يصحب أحدًا من الأنصار إلا وقام بخدمته إكرامًا للأنصار .
وفي هذا من الفوائد: تواضع جرير بن عبدالله البجلي وفضيلته، وإكرامه للنبي ؛ لأنه يكرم من أكرم النبي ؛ وهو بذلك يكون مكرمًا للنبي .
وفي هذا الحديث أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي إكرام المحسن، وأن الإنسان ينبغي أن يعرف لأهل الفضل فضلهم، وأن يكرمهم خاصة إذا كان هذا الفضل متعلقًا بأمور الديانة والتقوى لله .
ثم ذكر المصنف رحمه الله الحديث من طريق أخرى وقال:
وكان جرير أكبر من أنس، وقال ابن بشار: أسن من أنس، أشار إلى هذا.
باب من فضائل: غفار، وأسلم، وجهينة، وأشجع، ومزينة، وتميم، ودوس، وطيء.
باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيء
هذه من قبائل العرب، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يثني على هذه القبائل ويشجعها، وكان هذا من هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه يعطي ألقابًا لأصحابه، ويثني عليهم ويشجعهم.
قال: حدثنا هداب بن خالد حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن عبدالله بن الصامت قال: قال أبو ذر: قال رسول الله : غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله [6].
ثم ساق هذا الحديث من طريق أخرى:
عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله : ائت قومك فقل: إن رسول الله قال: أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها [7].
ثم ساق المصنف هذا الحديث من طرق أخرى، ومنها:
عن جابر قال: عن النبي قال: أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها.
ثم أيضًا ساقه من طريق أخرى.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما إني لم أقلها، ولكن قالها الله [8].
وهذا الحديث يدل على فضل هاتين القبيلتين: قبيلة غفار، وقبيلة أسلم.
وكانت غفار في الجاهلية كان كثيرٌ منهم معروفين بالسرقة؛ ولهذا مرّ معنا في درسٍ سابق أن أبا ذر لما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: من أين؟ قال: من غفار، فوضع النبي عليه الصلاة والسلام يده على جبهته [9]؛ يعني: كيف أنت تأتي وتعلن إسلامك في هذا الوقت، وغفار معروفين بسرقة الناس، وقطع الطريق، ونحو ذلك، لكنهم لما أسلموا حسن إسلامهم؛ ولذلك أثنى عليهم النبي .
حكم الدعاء بما يشتق منه الاسم
ويستفاد من هذه الأحاديث: مشروعية الدعاء بما يشتق منه الاسم، فالنبي في هذه الأحاديث قال: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله.
فمثلًا إذا قابلت رجلًا اسمه أحمد فلا بأس أن تقول مثلاً: أحمد الله عاقبتك، أو قابلت رجلًا اسمه علي تقول: أعلاك الله، أو قابلت رجلًا اسمه سعد تقول: أسعدك الله، ولا يختص هذا بالدعاء بل يأتي مثله في الخبر.
ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: عصيّة عصت الله ورسوله ومن ذلك أن النبي في قصة صلح الحديبية، لما أراد أن يفاوض قريشًا على الصلح أرسلت قريش سهيل بن عمرو للتفاوض مع النبي ، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام سهيل بن عمرو قال: سهيل سهل أمركم [10].
فكان عليه الصلاة والسلام يتفاءل بالأسماء، ويشتق منها معانٍ حسنة، وربما أيضًا اشتق منها أدعية مناسبة فيقول: غفار غفر الله لها، أسلم سالمها الله.
وفي المقابل أيضًا: عصيّة عصت الله ورسوله، سهيل سهل أمركم فكان عليه الصلاة والسلام يشتق معانٍ من الأسماء وكان يغلب على ذلك جانب التفاؤل.
وهذا يدل على أنه لا بأس بهذا الاشتقاق، يعني إذا قابلت إنسانًا وأردت أن تشتق من اسمه معنى حسنًا فلا بأس يكون هذا مناسبًا، قابلت رجل اسمه أحمد تقول: يا أحمد، أحمد الله عاقبتك، عليًا تقول: أعلى الله قدرك، سعد أن تقول: أسعدك الله، ونحو ذلك.
ثم ساق المصنف رحمه الله الحديث من طريق
حنظلة بن علي عن خفاف بن إيماء الغفاري قال: قال رسول الله في صلاة: اللهم العن بني لحيان ورعلًا وذكوان وعصيّة عصوا الله ورسوله، غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله [11].
ثم ساقه من طريق
ابن عمر قال: قال رسول الله : غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصيّة عصت الله ورسوله.
قبل هذا فيه فائدة متعلقة بالحديث السابق، يعني فائدة عزيزة، وهي: أن في هذا الحديث الذي رواه مسلم قال الإمام مسلم عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله : ائت قومك فقل: إن رسول الله قال: أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها.
فقوله: صلى الله عليه وسلم هذا ورد من كلام النبي ؛ ولذلك فمن صفات الصلاة والسلام عليه أن تقول: ، فهذا يرد في الأحاديث كثيرًا “قال رسول الله ” فهذا ورد في هذا الحديث فقل: إن رسول الله وهذا يدل على أن هذه الصيغة أنها صيغة منصوصٌ عليها، هنا نص عليها النبي في هذا الحديث قال: ائت قومك فقل: إن رسول الله قال: أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها.
حكم لعن المعين
في الأحاديث الأخرى: اللهم العن بني لحيان ورعلاً وذكوان وعصيّة هؤلاء القبائل قتلوا القُرّاء الذين بعثهم النبي وكانوا قريبًا من السبعين، قتلوهم ورموهم في بئر، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يقنت عليهم ويدعو عليهم شهرًا كاملًا في صلاة الفجر، يقول: اللهم العن بني لحيان ورعلًا وذكوان وعُصيَّة عصوا الله ورسوله.
فأنزل الله : لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] ولذلك فإن القول الراجح: أنه لا يجوز لعن المعيَّن حتى وإن كان كافرًا؛ لهذا الحديث، وأيضًا لأن الله تعالى قادر على أن يهديه، هذا الذي تلعنه ما يدريك قد يهده الله .
ولذلك اللعن إنما يكون بالوصف وليس بالشخص، كما جاء في الأحاديث: لعن الله المصوّرين لعن الله من فعل كذا، لعن الله من قال كذا، ونحو ذلك، يعني يكون على سبيل الوصف، وأما لعن الشخص المعيَّن فالقول الراجح أنه لا يجوز، وأن النبي فعله في لعن هذه القبائل فأنزل الله قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].
ثم ساق المصنف هذا الحديث من طرقٍ أخرى، ثم قال:
حدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد -وهو ابن هارون- أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن موسى بن طلحة عن أبي أيوب قال: قال رسول الله : الأنصار ومزينة وجهينة وغفار وأشجع، ومن كان من بني عبدالله، مواليَّ دون الناس، والله ورسوله مولاهم.
قوله: بني عبدالله المراد بهم بنو عبد العزى من غطفان، سماهم النبي “بني عبدالله” بدل “بني عبد العزى”.
وقوله: مواليَّ يعني ناصريَّ والمختصين بيّ دون سائر الناس، وهذا فيه ثناءٌ كبير على هذه القبائل: على الأنصار ومزينة وجهينة وغفار وأشجع وبني عبدالله.
ثم أيضًا ساق المصنف هذا الحديث:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : قريش والأنصار ومزينة وجهينة، وأسلم وغفار وأشجع مواليَّ، ليس لهم مولى دون الله ورسوله [12].
وهذا فيه الثناء العظيم على هذه القبائل.
تفضيل النبي بعض القبائل على غيرها
ثم أيضًا ساق المصنف هذا الحديث من طريق أخرى:
عن أبي هريرة أن النبي قال: أسلم وغفار ومزينة ومن كان من جهينة أو جهينة خير من بني تميم وبني عامر، والحليفين: أسد وغطفان [13].
وأيضًا ساق المصنف هذا الحديث:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : والذي نفس محمد بيده لغفار وأسلم ومزينة ومن كان من جهينة -أو قال جهينة ومن كان من مزينة- خير عند الله يوم القيامة من أسد وطيء وغطفان [14].
ثم أيضًا ساق المصنف هذا الحديث من طرق أخرى، ثم ساقه من طريق أبي بكرة:
أن الأقرع بن حابس جاء إلى رسول الله فقال: إنما بايعك سُرَّاق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة.
الأقرع بن حابس التميمي من بني تميم، يعني أراد أن يقول: أن هذه القبائل قبائل خاملة ليست من القبائل المشهورة الكبيرة، وكما ذكرنا أنه خاصة غفار كان يكثر فيهم السرقة -سرقة الحجيج-، كانوا يُعيَّرون بها قبل إسلامهم، فقال الأقرع بن حابس:
إنما بايعك سُرَّاق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة، وأحسب جهينة -محمد الذي شك- فقال رسول الله : أرأيت إن كان أسلم وغفار ومزينة وأحسب جهينة خيرًا من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان، أخابوا وخسروا؟ قال: نعم، قال: فو الذي نفسي بيده إنهم لأخير منهم [15].
ثم ساق المصنف أيضًا هذا الحديث
عن أبي بكرة عن أبيه: عن رسول الله قال: أسلم وغفار ومزينة وجهينة خير من بني تميم ومن بني عامر، والحليفين: بني أسد وغطفان.
قال القرطبي: هؤلاء القبائل أسلم وغفار ومزينة وجهينة، كانوا بالجاهلية خاملين لم يكونوا من سادات العرب ولا من رؤسائها، كما كانت بنو تميم وبنو مرة وبنو أسد وغطفان، وكذلك أيضًا بنو عامر.
فكانت القبائل البارزة المشهورة بنو تميم، وبنو تميم كما سيأتي يرجع نسبهم إلى عدنان، ثم إلى إسماعيل، وكذلك أيضًا بنو أسد أيضًا وبنو مرة من القبائل الكبيرة المشهورة وغطفان، وأيضًا بنو عامر بن صعصعة التي منهم القبائل المعروفة الآن منهم بنو عقيل وبنو هلال، وقبيلة سبيع ترجع إلى بني عامر بن صعصعة.
هذه القبائل الكبيرة النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إن هناك قبائل خيرٌ منهم، قد كانت من القبائل الخاملة لكن بسبب سبقهم للإسلام وحسن بلائهم فُضّلوا عليهم.
فهذه القبائل أسلم وغفار ومزينة وجهينة كانوا في الجاهلية خاملين، لم يكونوا من سادات العرب ولا من رؤسائها كما كانت بنو تميم وبنو عامر وبنو مرة وبنو أسد وغطفان، ألا ترى إلى قول الأقرع بن حابس: “إنما بايعك سُرّاق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة” لكن هؤلاء القبائل أسلم وغفار وجهينة ومزينة سبقوا إلى الإسلام، وحسن بلاؤهم فيه، فشرّفهم الله تعالى به وفضّلهم على من ليس بمؤمن من سادات العرب بالإسلام، كما شرّف بلالًا وعمارًا وصهيبًا وسلمان على صناديد قريش، فأعزّ الله بالإسلام الأذلّاء وأذلّ به الأعزاء بحكمته البالغة.
والحاصل أن الميزان في الإسلام إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، هذا هو الميزان، البشر سواسية لا فرق بين هذا وهذا، هذا من قبيلة كذا وهذا من قبيلة كذا أبدًا، فالميزان -ميزان التفاضل- هو التقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
أما كون هذه القبيلة كان لها شأن في الجاهلية، وكانت قبيلة كبيرة وكانت معروفة هذا لا ينفعها، إنما ينفعها ماذا قدّمت للإسلام؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام للأقرع بن حابس: إن هذه القبائل التي أنت أيها الأقرع بن حابس تقلل من شأنها، وتقول: إنهم من سُرّاق الحجيج، إنهم خيرٌ من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان، خيرٌ عند الله ؛ ولذلك قال: خيرٌ يوم القيامة لأنهم أسبق للإسلام؛ ولأن بلاءهم وتضحياتهم أعظم.
فإذاً العبرة بالتقوى لله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] هذه العصبية القبلية أبطلها الإسلام، فالعبرة بالتقوى، وميزان التفاضل هو التقوى، والناس سواسية أكرمهم عند الله أتقاهم.
فليس الميزان بأن هذا من قبيلة كذا وهذا من قبيلة كذا، إنما الميزان هو التقوى لله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
أول صدقة بيّضت وجه رسول الله
ثم ساق المصنف هذا الحديث من طرق أخرى، ثم قال المصنف رحمه الله:
حدثني زهير بن حرب حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن عامر عن عدي بن حاتم قال: أتيت عمر بن الخطاب فقال لي: إن أول صدقة بيّضت وجه رسول الله ووجوه أصحابه صدقة طيء، جئت بها إلى رسول الله .
وهذا فيه ثناءٌ على قبيلة طيء، ويقول عمر لعدي: أول صدقة بيّضت وجه النبي عليه الصلاة والسلام ووجوه أصحابه -يعني سرّتهم وأفرحتهم- صدقة طيء، حينما جاء به عديٌ إلى النبي ، وهذا فيه ثناءٌ على هذه القبيلة.
فضل قبيلة دوس
ثم قال المصنف رحمه الله:
حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا المغيرة بن عبدالرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قدم الطفيل وأصحابه فقالوا: يا رسول الله، إن دوسًا قد كفرت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس -يعني سيدعو عليها-، فقال: اللهم اهد دوسًا وائت بهم [16].
هذا الحديث هنا عن أبي هريرة قال: قدم الطفيل، الطفيل هو الطفيل بن عمرو الدوسي؛ لما قدم مكة قبل الهجرة حذّره كفار قريش من النبي تحذيرًا شديدًا، وقالوا: إنه ساحر انتبه لا تسمع كلامه.
ومن شدّة تحذيرهم للطفيل يقول: إنه أخذ الكرسف -يعني القطن- ووضعه في أذنيه حتى لا يسمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذه الدرجة، ثم إنه رأى النبي يصلي عند البيت، قال: فقلت في نفسي: إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل، فأتيت إليه وقلت: إن قومك خوّفوني منك، وقالوا: إنك ساحر، حتى إني وضعت القطن في أذنيَّ، فاعرض عليّ أمرك، فتلا عليه النبي عليه الصلاة والسلام القرآن، وكان في ذلك الزمن العرب أقحاح يفهمون القرآن ودلالات القرآن، فلما قرأ عليه القرآن قال: ما سمعت قولًا أحسن من هذا قط فأسلم.
وهكذا لما أتى عمر بن الخطاب لصهره مغضبًا، ماذا فعل صهره ومن كان معه في البيت؟ قرأوا عليه القرآن، قرأوا عليه أول سورة طه، فأسلم، هذا القرآن تأثيره عجيب على النفوس؛ ولهذا حتى الجن لما سمعوا القرآن قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن:1-2].
فتأثير القرآن تأثير عجيب على النفوس سبحان الله، هو كلام رب العالمين.
يقرأ النبي عليه الصلاة والسلام القرآن على الواحد من العرب، فيسلم مباشرة، من غير أن يلقي عليه محاضرة، أو يلقي عليه خطبة، أو يكلمه، مباشرة يقرأ عليه القرآن فيسلم؛ لأنهم عرب أقحاح يفهمون القرآن، والقرآن تأثيره قوي جدًّا على النفوس، فعمر لما قرئ عليه أول سورة طه أسلم.
هنا في هذه القصة، الطفيل بن عمرو لما قرأ عليه النبي عليه الصلاة والسلام آيات من القرآن أسلم.
فكان عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45].
فلما قرأ عليه النبي عليه الصلاة والسلام القرآن أسلم، فأراد أن يرجع إلى قومه وقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعل لي آية حتى يقبلوا مني، فقال: اللهم اجعل له آية فجعل الله له نورًا يخرج بين عينيه، كالمصباح، فقال: اللهم في غير وجهي، أخشى أن يقولوا: إنها مثلة، فنزل النور وأصبح على رأس سوطه كالقنديل، فدعا أبويه للإسلام فأسلم أبوه، ولم تسلم أمه، ودعا قومه ولم يسلم من قومه إلا أبا هريرة، ولو لم يكن من حسنات الطفيل إلا أن أسلم أبو هريرة على يديه، هذا حافظة الإسلام أبو هريرة أحفظ الصحابة لحديث النبي .
فأسلم أبو هريرة وجاء الطفيل مع أبي هريرة للنبي عليه الصلاة والسلام، وقال الطفيل: يا رسول الله، إن دوسًا قد كفرت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت، فالنبي عليه الصلاة والسلام بدل أن يدعو الله عليها دعا الله لها، قال: اللهم اهد دوسًا وائت بهم فهداهم الله وأتى بهم وأسلموا.
وهذا يدل على فضل هذه القبيلة قبيلة دوس، وأنهم أسلموا بدعاء النبي .
وهذا يدل أيضًا على شفقة النبي عليه الصلاة والسلام، لما قيل له: ادعُ الله على دوس دعا الله لهم.
فضل قبيلة بني تميم
قال المصنف رحمه الله:
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن مغيرة عن الحارث عن أبي زرعة قال: قال أبو هريرة: لا أزال أحب بني تميم من ثلاث سمعتهن من رسول الله ، سمعتُ رسول الله يقول: هم أشد أمتي على الدجال قال: وجاءت صدقاتهم، فقال النبي : هذه صدقات قومنا قال: وكانت سبية منهم عند عائشة فقال رسول الله : أعتقيها، فإنها من ولد إسماعيل [17].
وهذا يدل على فضل هذه القبيلة قبيلة بني تميم، وأبو هريرة ذكر لهم ثلاث مناقب سمعها من النبي :
- المنقبة الأولى: أن بني تميم أشد أمتي على الدجال، قال القرطبي: فيه تصريح بأن بني تميم لا ينقطع نسلهم إلى ذلك الحين، يعني إلى حين خروج المسيح الدجال، وقيل: حتى إلى يوم القيامة.
وأيضًا: بأنهم يتمسكون بالحق في ذلك الوقت، ويقاتلون عليه، وهذه منقبة عظيمة لهذه القبيلة.
- المنقبة الثانية: وجاءت صدقاتهم، فقال النبي : هذه صدقات قومنا فأضافهم إلى نفسه، ففيه تشريفٌ وتكريمٌ لهم -لبني تميم-.
- المنقبة الثالثة: كانت سبية منهم عند عائشة فقال رسول الله : أعتقيها، فإنها من ولد إسماعيل.
وذلك أن عائشة كان عليها نذرٌ بأن تعتق من ولد إسماعيل، فسُبي سبيٌ من بني العنبر من بني تميم، فقال النبي : إن سرّك أن تفي بنذركِ فأعتقي من هؤلاء [18]؛ فجعلهم من ولد إسماعيل.
فهذه ثلاث مناقب سمعها أبو هريرة من النبي في فضل بني تميم.
باب خيار الناس
باب خيار الناس:
حدثني حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا يونس عن ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله قال: تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه، وتجدون من شرار الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه [19].
قوله: تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام أي: من كان متّصفًا بمكارم الأخلاق في الجاهلية، فيكون متّصفًا بها كذلك أيضًا في الإسلام.
وقوله: إذا فقهوا فيه إشارة إلى أن الشرف في الإسلام لا يتم إلا بالتفقه في الدين.
وقوله: وتجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه.
قال النووي: قال القاضي: يحتمل أن المراد به الإسلام كما كان من عمر وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وغيرهم من مسلمة الفتح ممن كان يكره الإسلام كراهية شديدة، ولما دخل فيه أخلص وأحبه، وجاهد فيه حق جهاده.
فهذا معنى قوله: تجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه وهذا أحد معاني هذا الحديث.
وهناك معنى آخر ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح: أي: أن الدخول في عهدة الإمرة مكروه من جهة تحمل المشقة، ولكن إذا وقع فيه الإنسان، وحصلت له هذه الإمرة، فتزول عنه الكراهية. هذا معنى آخر لهذا الحديث.
فوائد من حديث تجدون الناس معادن..
أبرز فوائد الحديث:
- أولًا: تفاوت الناس في مراتبهم، وأنهم كمعادن الذهب والفضة، حيث تشتمل على النفيس والخسيس.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام فالناس معادن كما أن المعادن تتفاوت فيما بينها، فمنها الذهب والفضة والألماس ونفائس المعادن، ومنها المعادن الدنيئة الخسيسة، كذلك أيضًا الناس يتفاوتون في أخلاقهم، وفي طباعهم، وفي مكارمهم يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا.
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: فضل الفقه في الدين، وأن الإنسان يشرف بقدر ما عنده من الفقه في الدين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
- أيضًا من الفوائد: أن الإسلام لا ينقص الشريف عن شرفه، بل يزيده؛ ولهذا كان من هدي النبي أنه إذا أتاه وفدٌ سألهم: من سيدكم؟ فإذا أخبروه ولّاه عليهم.
- أيضًا من الفوائد: مدح كراهية الإمارة والمنصب وذمّ الحرص عليها؛ لأن أخطارها كثيرة، ومسؤولياتها في الدنيا والآخرة كبيرة، وكما جاء في الحديث: نعمة المرضعة، وبئست الفاطمة [20]؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: تجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه أي: أن الدخول في عهدة الإمرة والمنصب أنها مكروهة، فلا ينبغي للإنسان أن يحرص عليها، ولا أن يتشوّف لها من جهة تحمّل المشقّة، وإنما تشتد الكراهة لتولّي الإمرة والمنصب ممن يتصف بالعقل والدين؛ لما في ذلك من صعوبة العمل بالعدل، ولما يترتب عليه من مطالبة الله للقائم به من حقوقه وحقوق عباده.
وقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: وتجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه قوله: قبل أن يقع فيه أي: من لم يكن حريصًا على الإمرة، أو المنصب، ولم يكن متشوّفًا له، إذا حصل له ذلك بغير سؤال تزول عنه كراهة ذلك لما يرى من إعانة الله تعالى له، فهذا هو معنى هذا الحديث.
- أيضًا من الفوائد: ذم ذي الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه؛ وذلك لأن ذي الوجهين فعله هذا من أفعال المنافقين، ومن أشر الناس عند الله ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: تجدون من شرار الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه.
وهذا نجده في الواقع، تجد بعض الناس إذا أتى لهؤلاء ألان لهم الكلام، وذمّ خصومهم، وإذا أتى أولئك ألان لهم الكلام، وذم خصومهم، فيأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه، فهذا هو ذو الوجهين وهو من شرار الناس عند الله ، وهو بفعله هذا يتشبّه بالمنافقين.
ونقف عند [باب من فضائل نساء قريش] نفتتح به درسنا القادم إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
السؤال: امرأة عاهدت الله على أن تردد خلف الأذان، وأن تصلي ولم تستمر على هذا العهد، هل ممكن تستبدله بطاعة أخرى؟
الجواب: هذا العهد يعتبر نذرًا، فمن صيغ النذر أن تقول: عاهدت الله، أو عاهدتك يا رب أن أفعل كذا من أمور الطاعة، ونذر الطاعة يجب الوفاء به، وعلى ذلك فهذه المرأة يجب عليها أن تفي بهذا النذر.
السؤال: بعض العامة يردد المسألة فيها خلاف إذا لم يعجبه الحكم الراجح، فما هو الجواب؟
الجواب: نقول: عند حصول الخلاف بين العلماء، فالمستفتي يلزمه أن يتبع قول من يرى أنه هو الأعلم من هؤلاء العلماء المختلفين، من يرى هو الأعلم في علمه ودينه وأمانته، من هو الأوثق في نفسه لديه في علمه ودينه وأمانته، وليس له أن يتخيّر، وأن يتشهّى ليس له ذلك، وإلا بهذه الطريقة يكون فيه تمييع لكثير من أمور الدين. وما كل خلاف معتبر؛ ما لم يكن له حظ من النظر.
فبعض المسائل فيها خلافات يسيرة، فيها أقوال شاذة، فيها خلافات ضعيفة، لا يلتفت لهذه الخلافات، وإنما الخلافات المعتبرة الخلافات القوية، يعني: متى اختلف كبار علماء البلد في مسألة من المسائل، هذه التي يقال فيها خلاف، لكن إذا كان عامة كبار علماء البلد على رأي؛ فيلزم العامة أن يتبعوا رأي علمائهم، ولا يقال: إن المسألة فيها خلاف.
وكما ذكرنا أن المستفتي والمقلّد يلزمه أن يتبع رأي من هو أوثق العلماء لديه في علمه ودينه وأمانته.
السؤال: هل قراءة القرآن وحفظه واجب، ومن لم يستطع حفظه ولا قراءته هل عليه ذنب؟
الجواب: حفظ القرآن ليس واجبًا، وإنما هو مستحب، وهو من المناقب الرفيعة، يقول النبي : الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة [21]؛ فمنزلة الماهر بالقرآن الحافظ له يكون مع الملائكة السفرة الكرام البررة، والله تعالى يقول: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
فحفظ القرآن منقبة وشرف عظيم للمسلم، لكنه ليس واجبًا، وإنما هو مستحب، إنما يجب فقط قراءة الفاتحة التي هي ركن من أركان الصلاة.
وأما قراءة القرآن فعلى المسلم أن يقرأ ما تيسر من القرآن من غير قراءته بالصلاة، حتى لا يكون هاجرًا للقرآن وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30] بعض الناس لا يكاد يقرأ القرآن هذا يكون هاجرًا للقرآن، وبعضهم لا يقرأه إلا في رمضان.
فعلى المسلم أن يقرأ القرآن وألا يمر عليه يوم إلا وقد قرأ فيه شيئًا من كتاب الله .
السؤال: إن مرّ على الحساب أيامٌ في السنة لا شيء فيه، هل يكون عليه زكاة؟
الجواب: ليس فيه زكاة، إذا مر على الحساب الجاري أيامٌ ليس فيه رصيد، معنى ذلك أنه ليس عنده مالٌ قد حال عليه الحول، ومن شروط وجوب الزكاة أن يحول الحول على هذا المال، فإذا كان الرصيد في بعض أيام السنة يكون صفرًا معنى ذلك أن هذا الإنسان لا زكاة عليه في هذا الرصيد.
السؤال: عندي وسواس في عدد الركعات، لكنه يزول بتركي له، لكن أكون أحيانًا منشغلًا بالتفكير خارج الصلاة وأضيّع عدد الركعات، هل أعتبره وسواس ولا ألتفت إليه أم الأخذ بالأقل؟
الجواب: من كان عنده وسواس يطّرح الشك، ولا يلتفت إليه، أما من لم يكن عنده وسواس فإن هذا إن كان عنده غلبة ظن عمل بغلبة ظنه، وسجد للسهو بعد السلام، وإن لم يكن عنده غلبة ظن عمل باليقين وهو الأقل إذا شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا يجعلها ثلاثًا، ويأتي بركعة رابعة، ويسجد للسهو قبل السلام، لكن من عنده وسواس وكثير الشكوك لا يلتفت إلى هذه الشكوك، ولا لهذه الوساوس.
السؤال: ما حكم قول: انتصرت على المرض؟
الجواب: هذه المقولة مقولة غير لائقة، وتشعر بأن الإنسان أنه بحوله وقوته انتصر على ما قدّره الله عليه، ففيها نوع من سوء الأدب، وإنما يقول: شفاني الله من هذا المرض، الله تعالى هو الذي يشفي وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17].
والإنسان بشرٌ مخلوقٌ ضعيف فعليه أن يعرف قدر نفسه، فكلمة “انتصرنا على هذا المرض، ننتصر على هذا المرض” هذه مقولات غير مناسبة، بل نقول: نسأل الله تعالى الشفاء من هذا المرض، نسأل الله تعالى أن يرفع عنا الوباء، ونحو ذلك من العبارات التي فيها أدب مع الله ، أما مثل هذه العبارة “انتصرنا ونريد ننتصر على هذا المرض” فهذه عبارات لا تليق بالمسلم.
المسلم يعرف بأن هذه الأمراض وهذه الأوبئة قدّرها الله بحكمته البالغة، وأن الله تعالى يقول: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17] الله تعالى هو الذي يكشف الضر، والله تعالى هو الذي يشفي الإنسان من مرضه، وإلا إذا لم يُرد الله تعالى له الشفاء فمهما فعل من الأسباب فلن يُشفى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107] فالأمور كلها بيد الله .
فينبغي الابتعاد عن هذه العبارة؛ لأنه فيها سوء أدب مع الله ، فالمرض الذي قدّره هو الله ، لم يكن هذا المرض إلا بتقدير الله ، فكلمة “انتصرت على المرض” ونحو ذلك هذه عبارات غير مناسبة وغير لائقة، وإنما يقول: نسأل الله تعالى أن يشفينا من هذه الأمراض، وأن يرفع الأوبئة، ونحو ذلك، فيرد الأمر إلى الله .
السؤال: هل يجوز الإقسام على الله إذا كان الباعث هو حسن الظن؟
الجواب: الإقسام على الله سبحانه ينقسم إلى قسمين: الإقسام على الله بدافع الغرور والكبر ونحو ذلك، هذا لا يجوز.
والقسم الثاني: الإقسام على الله من باب حسن الظن بالله سبحانه، والثقة به، فيقول: والله ليحصلنّ كذا، والله لا يكون كذا، والله لا يكون كذا، فهذا لا بأس به، وهو الوارد في الحديث: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه [22] أي: لو أنه قال: أقسم بالله أنه ما يحصل كذا، يبرّ الله تعالى بقسمه فلا يحصل كذا.
فإذًا يكون الإقسام على الله فيه هذا التفصيل.
نكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2510. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 4375. |
^3, ^4 | رواه مسلم: 2511. |
^5 | رواه مسلم: 2512. |
^6 | رواه مسلم: 2518. |
^7, ^8 | رواه مسلم: 2514. |
^9 | رواه مسلم: 2473. |
^10 | بنحوه رواه البخاري: 2731. |
^11 | رواه مسلم: 679. |
^12 | رواه مسلم: 2520. |
^13, ^14 | رواه مسلم: 2521. |
^15 | رواه مسلم: 2522. |
^16 | رواه مسلم: 2524. |
^17 | رواه مسلم: 2525. |
^18 | رواه الحاكم في “المستدرك”: 6986. |
^19 | رواه مسلم: 2526. |
^20 | رواه البخاري: 7148. |
^21 | رواه مسلم: 798. |
^22 | رواه البخاري: 2703، ومسلم: 1675. |