logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(15) تتمة فضائل أبي بكر الصديق- من حديث: “أي الناس أحب إليك؟”

(15) تتمة فضائل أبي بكر الصديق- من حديث: “أي الناس أحب إليك؟”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبدالله ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10]، لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32].

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

اللهم ارزقنا الفقه في دينك يا حيُّ، يا قيُّوم.

نستكمل التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلم” في هذا الدرس 15 في هذا اليوم الثلاثاء 10/ ربيع الأول/ 1442هـ.

وكنا في الدرس السابق قد بدأنا في فضائل الصحابة، وابتدأنا بفضائل أبي بكرٍ الصديق ورضي الله تعالى عن صحابة نبيه أجمعين.

فضل الصحابة

ذكرنا في الدرس السابق أن الصحابة هم أفضل الأمة؛ لقول النبي : خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم [1]، فهم أفضل هذه الأمة؛ ولهذا فسَّر بعض المُفسرين قول الله ​​​​​​​ لَمَّا ذكر السابقين: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ۝ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ۝ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ۝ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ۝ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:10-14]، فسَّروا قول الله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني: من أول الأمة، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ يعني: من آخر الأمة، أي: أن السابقين من أول الأمة أكثر من السابقين من آخرها، بينما لَمَّا أتى لأصحاب اليمين قال: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ۝وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:39-40].

الصحابة هم نقلة الشريعة، والطعن فيهم طعنٌ في شريعة الله ​​​​​​​؛ إذ إنه إذا طُعن في الناقلين لشريعة الله لم يُوثق بها بعد ذلك، فالطعن في الصحابة إذن طعنٌ في شريعة الله سبحانه.

والطعن في الصحابة طعنٌ في رسول الله ؛ إذ إن الطعن في الصاحب طعنٌ في المصحوب.

والطعن في الصحابة كذلك طعنٌ في الله ​​​​​​​؛ إذ كيف اختار الله تعالى لنبيه هؤلاء الذين يُطعن فيهم؟!

فانظر إلى خطورة الطعن في الصحابة؛ ولذلك لا يطعن في الصحابة ولا يبغضهم إلا منافقٌ، والواجب على المسلم أن يُعظم الصحابة، وأن يُجلَّهم، وأن يُوقِّرهم، وأن يحترمهم، وأن يترضَّى عنهم رضي الله عنهم أجمعين.

معتقد أهل السنة والجماعة في أفضل الصحابة

معتقد أهل السنة والجماعة أن أفضل الصحابة أبو بكرٍ الصديق، ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقد أجمع أهل السنة على ذلك، واختلفوا في المُفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما، وجمهور أهل السنة على تفضيل عثمان على عليٍّ رضي الله عنهما.

وعلى هذا يكون أفضل الصحابة: أبا بكرٍ الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء الأربعة هم الخلفاء الراشدون الذين وَلُوا الخلافة بعد رسول الله .

من فضائل أبي بكرٍ الصديق

بدأنا في ذكر بعض فضائل أبي بكرٍ الصديق -الذي هو أفضل الصحابة، وأيضًا هو أعلم الصحابة- ووصلنا عند حديث عمرو بن العاص .

قال:

حدثنا يحيى بن يحيى: أخبرنا خالد بن عبدالله، عن خالدٍ، عن أبي عثمان: أخبرني عمرو بن العاص : أن رسول الله بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيتُه فقلتُ: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، قلتُ: من الرجال. قال: أبوها، قلتُ: ثم مَن؟ قال: عمر، فَعَدَّ رجالًا [2].

قال:

بعثني رسول الله على جيش ذات السلاسل.

ذات السلاسل هي: غزوةٌ وقعتْ في عهد النبي عليه الصلاة والسلام في جمادى الآخرة من السنة الثامنة من الهجرة، وكانت مُؤتة قبلها في جمادى الأولى من السنة الثامنة، وفتح مكة بعدها في رمضان من السنة الثامنة.

انظر: كل هذه في سنةٍ واحدةٍ، وهذا يدل على كثرة غزوات النبي عليه الصلاة والسلام، وعظيم بركة وقته.

فأمَّر النبي على الصحابة في غزوة ذات السلاسل عمرو بن العاص ، وكان فيهم أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، فأتى عمرو بن العاص النبيَّ عليه الصلاة والسلام، وهو أمير الجيش، ورأى اهتمام النبي به، فإنه عليه الصلاة والسلام يهتم ويُنْصِت لكل مَن يتحدث معه، حتى يظن مَن يتحدث معه أنه أحبُّ الناس إليه، فلمَّا رأى عمرو بن العاص هذا الإنصات والاهتمام من النبي بحديثه طمع أن يكون أحبَّ الناس إليه، فسأل النبي  هذا السؤال: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، قلتُ: من الرجال. قال: أبوها يعني: أبا بكرٍ الصديق، قال: قلتُ: ثم مَن؟ قال: عمر، فَعَدَّ رجالًا.

وجاء في رواية البخاري: “فسَكَتُّ مخافة أن يجعلني في آخرهم” [3].

والنبي عليه الصلاة والسلام سُئل سؤالًا فأجاب بجوابٍ صريحٍ، وهذا هو المطلوب من الإنسان عندما يُسأل: أن يُجيب بجوابٍ صريحٍ، فإذا سُئل عن مشاعره، وعمَّن يُحبهم، فيُجيب بالإجابة الصريحة، فهنا أجاب النبي  بهذا الجواب.

وهذا يدل على فضل أبي بكرٍ الصديق ؛ فإن النبي عدَّه أحبَّ الناس إليه من الرجال، وفيه دلالةٌ لقول أهل السنة بأن أفضل الصحابة أبو بكرٍ، ثم عمر رضي الله عنهما على جميع الصحابة .

فوائد حديث “أي الناس أحبُّ إليك؟”

من فوائد هذا الحديث:

  • منقبة عمرو بن العاص بتأميره على جيشٍ فيه أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، وإن كان ذلك لا يقتضي أفضليته عليهما، لكنه يقتضي أن له فضلًا في الجملة.
  • وأيضًا من الفوائد: جواز تأمير المفضول على الفاضل إذا امتاز المفضول بصفةٍ تتعلق بتلك الولاية، فعمرو بن العاص معروفٌ بأنه من دُهاة العرب، ومعروفٌ بأنه شخصيةٌ قياديةٌ، فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى فيه هذه الملامح وهذه الصفات -صفات القيادة والدهاء- فاختاره ليكون أميرًا على الجيش.
    وبعض الناس يتميز بصفةٍ، ولا يتميز بصفةٍ أخرى كبشرٍ، فالبعض قد يتميز -مثلًا- في العلم، لكنه لا يتميز في الإدارة، فيكون عالمًا مُبرِّزًا، لكنه في الإدارة ضعيفٌ، وقد يكون العكس؛ يكون إداريًّا ناجحًا، لكنه في العلم ضعيفٌ، فقد يُحْسِن أمورًا، ولا يُحْسِن أمورًا أخرى.

ولذلك ينبغي أن يُختار الإنسان الأكفأ فيما يُحْسِنه وفيما يتميز به، فليس بالضرورة -مثلًا- أن يكون الإنسان العالِم الفاضل مُبَرِّزًا في الإدارة، فقد لا يكون كذلك، فقد يكون عالِمًا فاضلًا كريمًا، لكنه إذا وُلِّيَ عملًا إداريًّا لم يُحْسن الإدارة، وقد يكون طبيبًا مُتميزًا في الطب، لكنه إذا وُلِّيَ عملًا إداريًّا لم يُحْسن، وقد يكون العكس.

إذن ينبغي أن يُنظر إلى الصفة التي يتميز فيها الإنسان، وأن يُوضع في المكان الذي يُناسبه، وقد كان هذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام: أنه يختار من أصحابه بحسب الصفات التي تُؤهله.

وهنا في هذه الغزوة اختار النبي عمرو بن العاص وأمَّره على الجيش، وفيهم أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، فيهم مَن هم أعلم منه، ومَن هم أفضل منه، ومَن هم أحبُّ إلى النبي  منه، لكنه رأى في عمرو بن العاص صفاتٍ ليست موجودةً في غيره من الدَّهاء والقيادة، ونحو ذلك.

  • أيضًا من الفوائد: فضل عمر بن الخطاب ، حيث عدَّه النبي في الفضل بعد مرتبة أبي بكرٍ الصديق ، وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن أفضل الصحابة: أبو بكرٍ، ثم عمر رضي الله عنهما.
  • أيضًا من فوائد هذه القصة: فضل عائشة رضي الله عنها؛ حيث أخبر النبي أنها أحبُّ النساء إليه.

وعلى ذلك فالذين يطعنون في أبي بكرٍ وعمر وعائشة إنما هم -في الحقيقة- يطعنون في رسول الله ؛ لأنهم يطعنون في أحبِّ الناس إليه، وهذا طعنٌ وقدحٌ في النبي .

قال:

وحدثني الحسن بن علي الحُلْواني: حدثنا جعفر بن عَونٍ، عن أبي عُمَيس. ح، وحدثنا عبد بن حميد -واللفظ له-: أخبرنا جعفر بن عَونٍ: أخبرنا أبو عُمَيس، عن ابن أبي مُليكة، يقول: سمعتُ عائشة رضي الله عنها وسُئلتْ: مَن كان رسول الله مُستخلفًا لو استخلفه؟ قالت: أبو بكرٍ. فقيل لها: ثم مَن بعد أبي بكرٍ؟ قالت: عمر. ثم قيل لها: مَن بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجرَّاح. ثم انتهتْ إلى هذا [4].

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أحبُّ نساء النبي إليه، سُئلتْ هذا السؤال: مَن كان رسول الله مُستخلفًا لو استخلفه؟

وهذا يدل على أن النبي لم يستخلف أحدًا، ومما يدل لذلك: أن عمر ذكر هذا لمَّا طُعن، فقيل له: ألا تستخلف؟ قال: “إن أتركهم فقد تركهم مَن هو خيرٌ منِّي، وإن أستخلف فقد استخلف مَن هو خيرٌ منِّي”.

“إن أتركهم فقد تركهم مَن هو خيرٌ منِّي” يعني: رسول الله ، “وإن أستخلف فقد استخلف مَن هو خيرٌ منِّي” يعني: أبا بكرٍ الصديق ، وكان هذا بِمَحْضَرٍ من الصحابة.

فهنا نصَّ عمر على أن النبي لم يستخلف.

ثم أيضًا بعد وفاة النبي اجتمع الصحابة، أولًا اجتمع المهاجرون، ثم اجتمع الأنصار، فخشي أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما أن يحصل نزاعٌ، فذهبوا إلى الأنصار في سقيفة بني ساعدة، ثم حصل ما حصل من المفاوضات والكلام والحوار الذي دار، وقال الأنصار: منا أميرٌ، ومنكم أميرٌ. فأشار أبو بكرٍ الصديق وقال: إن العرب لا تدين إلا لقريشٍ. وحصل لَغَطٌ، ثم بعد ذلك اتفق الصحابة وأجمعوا على تولية أبي بكرٍ الصديق .

والشاهد من هذا: أن الصحابة لو كان عندهم نصٌّ في الخليفة بعد النبي لَمَا اجتمعوا وتفاوضوا وحصل بينهم هذا النقاش، ولنفَّذوا وصية النبي مباشرةً، كما نفَّذوا وصية أبي بكرٍ الصديق بأن يكون الخليفة بعده عمر ، وهذا يدل على أن النبي لم يستخلف، وإن كانت هناك إشاراتٌ إلى أن الخليفة من بعده هو أبو بكرٍ ، وإشاراتٌ بعضها قويٌّ كما سيأتي، لكن ليس هناك نصٌّ صريحٌ في أن النبي  استخلف أبا بكرٍ الصديق بعده.

وقول عائشة رضي الله عنها: “أبو بكرٍ، ثم عمر”، هذا معلومٌ عند الصحابة، فدائمًا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ذهبتُ أنا وأبو بكرٍ وعمر، ودخلتُ أنا وأبو بكرٍ وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكرٍ وعمر [5]، فمعروفٌ أنه مُستقرٌّ لدى الصحابة أن أفضلهم: أبو بكرٍ، ثم عمر رضي الله عنهما.

وليس فقط مجرد فضلٍ، وإنما أيضًا عند أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما من المُؤهلات القيادية ما ليس عند غيرهم.

ومن فوائد هذا الحديث:

  • فضل أبي عبيدة ، حيث قيل لها: ثم مَن بعد عمر؟ قالت: “أبو عبيدة بن الجرَّاح”، وأبو عبيدة هو أحد العشرة المُبشرين بالجنة، وقد توفي سنة 18هـ في طاعون عمواس، وكان عمر يريد أن يستخلفه لكنه مات في زمنه، وكان عمر  يقول: “كنت أريد أن أستخلف أبا عبيدة، أقول: يا ربِّ، إنه أمين هذه الأمة، وإني قد أدَّيتُ الأمانة”، أو كما قال عمر .
    فأبو عبيدة من أفاضل الصحابة، ومن العشرة المُبشرين بالجنة، وأمين هذه الأمة.

قال الإمام مسلم رحمه الله:

حدثني عبَّاد بن موسى: حدثنا إبراهيم بن سعد: أخبرني أبي، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: أن امرأةً سألتْ رسول الله شيئًا، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله، أرأيت إن جئتُ فلم أجدك؟ قال أبي: يعني: كأنها تعني الموت، قال: فإن لم تجديني، فَأْتِي أبا بكرٍ [6].

قال جبير بن مطعم : كأنها تعني الموت.

ثم ساق المصنف هذا الحديث من طريقٍ أخرى:

أن امرأةً أتتْ رسول الله فكلَّمته في شيءٍ، فأمرها بِمثل ما ورد في الطريق السابقة.

وهذا فيه إشارةٌ إلى أن الذي سيلي الخلافة بعد النبي هو أبو بكرٍ الصديق ، لكن هل هذا نصٌّ على استخلاف أبي بكرٍ ؟

الجواب: ليس نصًّا، وإنما هو إخبارٌ بالغيب الذي أعلمه الله نبيَّه ، فأعلم الله نبيَّه بأن الخليفة من بعده سيكون أبا بكرٍ الصديق ؛ ولذلك هذه المرأة لمَّا قالت: فإن لم أجدك؟ قال: فَأْتِي أبا بكرٍ.

قال:

حدثنا عبيدالله بن سعيد: حدثنا يزيد بن هارون: أخبرنا إبراهيم بن سعد: حدثنا صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عُروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله  في مرضه: ادعِي لي أبا بكرٍ أباكِ وأخاكِ حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنَّى مُتَمَنٍّ ويقول قائلٌ: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكرٍ [7].

أول هذا الحديث ساقه البخاري في “صحيحه”: أن عائشة رضي الله عنها قالت: “وارأساه!” يعني: كان عندها صداعٌ، فقال: ذاك لو كان وأنا حيٌّ فأستغفر لكِ وأدعو لكِ، فقالت عائشة: “واثُكْلِيَاه، والله إني لأظنك تُحب موتي”، ثم قال: بل أنا وارأساه، ثم قال عليه الصلاة والسلام مُطيِّبًا لخاطرها في مرضه: لقد هممتُ أن أُرسل إلى أبي بكرٍ وابنه وأعهد [8] يعني: كالمُطيِّب لخاطرها؛ لأنه ترتفع الكُلْفَة بين الزوجين، وتحصل مثل هذه الحوارات.

لكن الشاهد من هذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها: ادعِي لي أبا بكرٍ أباكِ وأخاكِ يعني: لأجل أن يكتب أخوك هذا الكتاب، فيكون أبو بكرٍ الخليفة من بعدي، قال: فإني أخاف أن يتمنَّى مُتَمَنٍّ يعني: يتمنَّى مُتَمَنٍّ أنه أحقُّ بالخلافة من أبي بكرٍ الصديق : ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكرٍ.

وهذا يدل على شدة اهتمام النبي بشأن الخلافة من بعده، حتى همَّ أن يكتب بذلك إلا أن اعتماده على ربِّه بأن يتولَّى دينه ويحفظه، وشدة وثوقه في أصحابه بأنهم سيختارون أبا بكرٍ الصديق ؛ جعل النبي لا يكتب كتابًا، وقد حقق الله له ظنَّه؛ فأجمع الصحابة  على اختيار أبي بكرٍ الصديق  ليكون الخليفة من بعده.

دلالات حديث: “قال لي رسول الله في مرضه ..”

  • وهذا الحديث فيه دلالةٌ ظاهرةٌ على فضل أبي بكرٍ الصديق .
  • وفيه إخبارٌ من النبي بما سيقع في المستقبل بعد وفاته، وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره.
  • وفيه إشارةٌ إلى أنه سيقع شيءٌ من الخلاف، ثم بعد ذلك يتفق المسلمون على خلافة أبي بكرٍ الصديق .

والنبي عليه الصلاة والسلام لو أراد لكتب كتابًا، لكن لعل الحكمة في ذلك هي: أن يتبين فضل الصحابة واتفاقهم على أن يكون الخليفة أبا بكرٍ ، من غير حاجةٍ لأن يكتب النبي ، وأن ينصَّ على ذلك، وهذا ما تحقق بالفعل.

قال:

حدثنا محمد بن أبي عمر المكي: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن يزيد -وهو ابن كيسان-، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمَن تَبِعَ منكم اليوم جنازةً؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمَن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمَن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال رسول الله : ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة [9].

هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ.

النبي ذات يومٍ كان مع نفرٍ من أصحابه، وكان فيهم أبو بكرٍ الصديق ، فطرح أربعة أسئلةٍ: مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمَن تَبِعَ منكم اليوم جنازةً؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمَن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمَن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا.

سبحان الله! في المواضع الأربعة كلها أبو بكرٍ هو السابق، ففي يومٍ واحدٍ أصبح أبو بكرٍ صائمًا صيام نافلةٍ، وأطعم مسكينًا، وعاد مريضًا، وتَبِعَ جنازةً، وربما تكون له أعمالٌ صالحةٌ أخرى لم تُذكر، كل هذا في يومٍ واحدٍ.

فانظر إلى مسابقة أبي بكرٍ للخيرات، ومُبادرته وحرصه على الطاعات، وكيف كان هو السابق في هذه الأمور كلها؟ وأن هذه الأمور اجتمعتْ فيه في يومٍ واحدٍ؛ ولذلك كان هو أفضل هذه الأمة بعد نبيها ، وأفضل الصحابة رضي الله عنه وأرضاه.

دلالات حديث: مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟

هذا يدل على فضل المُسابقة والمُسارعة للخيرات، وأن يكون لدى المسلم نفس المُسارعة والمُبادرة للخيرات، كما قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الحديد:21]، فانظر إلى الأمر بالمسارعة، والأمر بالمسابقة لأجل أن يكون هذا النَّفس؛ نَفَس المسارعة والمبادرة للطاعات، فينبغي أن يكون هذا النفس حاضرًا لدى المسلم.

بعض الناس عنده صلاحٌ، لكن ليست عنده هذه الهمة، وهذا النَّفَس؛ نفس المُبادرة للخيرات والهمة، فتجد -مثلًا- أنه يسمع بأحد جيرانه تُوفي، ولا يذهب ويُبادر ويُشيعه ويُصلي عليه في المقبرة، ويُعزِّي جاره، فتجده ربما إن أحسن فقط اكتفى بالاتصال الهاتفي، أو نحو ذلك.

بينما تجد غيره عنده مُبادرةٌ، فما أن يسمع بوفاة جارٍ أو قريبٍ إلا وتجده أول الحاضرين، فتجده مُبادرًا في تشييعه، وفي الصلاة عليه، ويُشارك في دفنه، وتجد أنه ما أن تلوح لائحةٌ فيها خيرٌ إلا ويكون أول المُشاركين في إصلاح ذات البين، وفي بذله في أمور الخير، وتجد أن عنده هذا النَّفَس.

أبو بكرٍ كانت همته عاليةً، فكان مُسارعًا للخيرات، فانظر كيف أنه في يومٍ واحدٍ جمع هذه الأعمال الصالحة كلها: أصبح صائمًا صيام نافلةٍ، وأطعم مسكينًا، وعاد مريضًا، وتَبِعَ جنازةً؟!

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة.

ومعنى قوله: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة هو مجرد الإيمان يقتضي دخول الجنة، ولكن قال القاضي عياض رحمه الله: “إن المعنى: دخل الجنة بلا حسابٍ”، فهذا يدل على فضل مَن اجتمعتْ فيه هذه الخصال الأربعة في يومٍ واحدٍ.

ولذلك فاحرص يا أخي على أن تجمع هذه الأربعة الخصال في يومٍ واحدٍ، ولو مرةً واحدةً في عمرك: أن تُصبح يومًا صائمًا، وتُطعم مسكينًا، وتعود مريضًا، وتتبع جنازةً، احرص على جمع هذه الأعمال في يومٍ واحدٍ، فإن النبي  قال: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة.

قال الإمام مسلم رحمه الله:

حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سَرْح، وحرملة بن يحيى، قالا: أخبرنا ابن وهبٍ: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ: حدثني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبدالرحمن: أنهما سمعا أبا هريرة يقول: قال رسول الله : بينما رجلٌ يسوق بقرةً له، قد حمل عليها، التفتتْ إليه البقرة فقالتْ: إني لم أُخلق لهذا، ولكني إنما خُلِقْتُ للحرث، فقال الناس: سبحان الله! -تعجُّبًا وفزعًا- أبقرةٌ تَكَلَّم؟! فقال رسول الله : فإني أُومن به وأبو بكرٍ وعمر.

قال أبو هريرة : قال رسول الله : بينا راعٍ في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاةً، فطلبه الراعي حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: مَن لها يوم السَّبُع، يوم ليس لها راعٍ غيري؟ فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله : فإني أُومن بذلك أنا وأبو بكرٍ وعمر [10].

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طرقٍ أخرى.

وأيضًا أخرج هذا الحديث البخاري في “صحيحه”، وجاءت فيه زيادةٌ: “وما هما يومئذٍ في القوم” [11].

في هذا الحديث ذكر النبي قصةً من قصص بني إسرائيل، كما ألمح البخاري في “صحيحه” إلى هذا: أن هذه وقعتْ في بني إسرائيل.

وقال ابن المُهلب: “كلام البهائم من الخصائص التي خُصَّتْ بها بنو إسرائيل”.

وفي هذا الحديث تكلمت بقرةٌ، وتكلم ذئبٌ، وأيضًا ذكر الله تعالى في سورة البقرة قصة البقرة، قال: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:73].

المقصود أن هذا كان من خصائص بني إسرائيل، وتعقَّبه العيني فقال: “إنه لا يلزم أن يكون هذا من الخصائص”، وهذا هو الأقرب: أن هذا ليس من الخصائص، لكن هذه القصص التي ذُكرتْ إنما وقعتْ في عهد بني إسرائيل، ويحتمل أن تقع عند غيرهم، والله تعالى أعلم وأحكم.

فذكر النبي قصة رجلٍ من بني إسرائيل يسوق بقرةً له، قد حمل عليها، فالتفتت إليه البقرة وقالت: إني لم أُخلق لهذا -سبحان الله!- ولكني إنما خُلقتُ للحرث. يعني: البقرة لم تُخلق ليُحْمَل عليها، ويُرْكَب عليها، إنما خُلقتْ للحرث، فقال الناس تعجبًا وفزعًا: أبقرةٌ تكلَّم؟! يعني: هل يُعقل أن البقرة تتكلم؟ فقال رسول الله : فإني أُومن به وأبو بكرٍ وعمر، إنما قال النبي ذلك وهما ليسا حاضرين في المجلس ثقةً بهما؛ لعلمه بصدق إيمانهما، وقوة يقينهما، وكمال معرفتهما لعظيم سلطان الله تعالى وكمال قُدرته.

وفيه فضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما.

فوائد حديث: بينما رجلٌ يسوق بقرةً له …

من فوائد هذا الحديث:

1. جواز كرامات الأولياء وخرق العوائد

كرامات الأولياء تقع، ومعتقد أهل السنة والجماعة: إثبات الكرامة للأولياء، وأن الله تعالى قد يُقدِّر خوارق للعادات يُسميها العلماء: كرامات لبعض أوليائه.

ففي هذه القصة حصل هذا الخرق للعادة، وهو: أن هذه البقرة التفتت إلى صاحبها وتكلمتْ وقالت: إني لم أُخلق لهذا، وإنما خُلِقتُ للحرث.

2. اليقين درجاتٌ

هذه القصة الغريبة لمَّا قالها النبي  تعجب الناس، وقال: إني أُومن به وأبو بكرٍ وعمر، وهذا يدل على عظيم اليقين عند النبي عليه الصلاة والسلام، وعند أبي بكرٍ وعمر، فإن اليقين درجاتٌ، وقد يبلغ اليقين من الإنسان مبلغًا لدرجة أنه كأنه يرى هذا الشيء الذي أُخبر به، بل ربما يبلغ اليقين درجة أنه يؤمن به أعظم مما لو رآه.

بعض الصالحين يؤمن بما أخبر الله به من أحوال الآخرة أعظم مما لو رآها، يقول: لأن الرؤية قد يعتريها ما يعتريها، فيرى من بعيدٍ السراب يظنُّه ماءً، ويتبين أنه ليس كذلك، لكن ما أخبر الله تعالى به، وما أخبر به رسوله حقٌّ، لا يُمكن أن يعتريه وهمٌ، فهو يؤمن بما أخبر الله به، وأخبر به رسوله أعظم مما لو رآه.

إذا بلغ الإنسان في اليقين إلى هذه الدرجة فقد بلغ مبلغًا عظيمًا، ويكون لقوة اليقين هذه أثرها على القلب، وعلى الجوارح، وعلى قوة الإيمان، وعلى شدة الخشية لله .

3. استعمال الدواب فيما خُلقتْ له

استدلَّ بهذا بعض أهل العلم على: أن الدواب لا تُستعمل إلا فيما جرت العادة باستعمالها فيه، فالبقرة لا يُحمل عليها، ولا تُركب، إنما هي للحرث وللأكل وللنَّسل وللدَّر، لكن مع ذلك لو حمل عليها أو ركبها هل يكون آثِمًا؟

الجواب: لا يكون آثِمًا؛ لأن هذه البهائم إنما خُلقتْ لمصلحة بني آدم؛ كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، لكن ينبغي ألا تُستخدم هذه الدواب إلا فيما خُلقتْ له.

قال: بينا راعٍ في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاةً، فطلبه الراعي يعني: لحقه الراعي، حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب يعني: وتكلم وقال له: مَن لها يوم السَّبُع، يوم ليس لها راعٍ غيري؟ فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله : فإني أومن بذلك وأبو بكرٍ وعمر.

هذا الراعي يرعى الغنم، فأتى الذئب وأخذ واحدةً، فتبعه الراعي وأخذها منه، فالتفت إليه الذئب وقال: مَن لها يوم السَّبُع، يوم ليس لها راعٍ غيري؟.

ما هو يوم السَّبُع؟

قيل: إن المقصود بذلك الموضع الذي عنده مَحْشَر يوم القيامة، يعني: مَن لها يوم القيامة؟

ولكن هذا محل نظرٍ؛ إذ إن يوم القيامة لا يكون الذئب راعيًا للغنم، ولا له بها تعلُّقٌ؛ ولذلك فالأقرب -والله أعلم- أن المقصود: مَن لها يوم السَّبُع يعني: يوم حصول الفتن، حين يترك الناسُ الأغنامَ هَمْلًا، لا راعي لها، فلا يرعاها إلا الذئب، فتكون أُهْبَةً للسباع، كأن الذئب هو الراعي لها، وهو الذي ينهبها ويفترسها.

فهذا المقصود بيوم السَّبُع، يعني: اليوم الذي تكثر فيه الفتن، ولعل ذلك -والله أعلم- في آخر الزمان عندما تكثر الفتن، فيُهْمِل الناسُ الأغنامَ، ولا يهتمون بها بسبب شدة الفتن الواقعة؛ فيخلو الذئبُ بالغنم، فيكون كالراعي لها، فلا أحد يستنقذها منه، فهذا المقصود بهذا الحديث، وهو الصحيح في معناه.

وهذا فيه إشارةٌ إلى أنه ستقع فِتَنٌ عظيمةٌ، يُهمل معها الناسُ أغنامهم، وربما هذا يقع -والله أعلم- في الفتن العظيمة التي تقع بين يدي الساعة، فتقع فتنٌ عظيمةٌ، حتى إن الإنسان ليَمُرَّ بصاحب القبر ويتمنى أنه مكانه من شدة الفتن التي تقع.

4. الإيمان بما أخبر به الله ورسوله 

من أعظم الدروس المُستفادة من هذا الحديث: ما أخبر الله تعالى به، وما أخبر به رسوله حقٌّ، ويجب على الإنسان أن يؤمن به، سواءٌ أدرك ذلك بعقله أو لم يُدركه؛ لأنه على يقينٍ بأن الله تعالى أحكم الحاكمين، وأن الله تعالى على كل شيءٍ قديرٌ، وأن الله تعالى لا يُخبر إلا بالصدق، ولا يُخبر رسوله إلا بالصدق: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، وأن الله تعالى لا يُقدِّر شيئًا إلا لحكمةٍ، فهو إذا صحَّ الخبر عنده آمن به، سواءٌ عرف الحكمة أو لم يعرفها، وسواءٌ أدرك ذلك بعقله أو لم يُدركه، وإنما يُسلِّم ويستسلم لكلام الله وكلام رسوله .

وفي هذه القصة بقرةٌ تتكلم، وذئبٌ يتكلم، وربما أن بعض الناس لا يستوعب عقله مثل هذا الكلام، ولكن ما دام أن الخبر صحَّ؛ فهذا الذي أخبر به النبي قد ورد في صحيحي البخاري ومسلم، وهما أصحُّ كتابين بعد كتاب الله، فما دام أن الخبر صحَّ عن رسول الله فعلى المسلم أن يؤمن بذلك، وأن يقول: الله على كل شيءٍ قديرٌ، وأن الله تعالى الذي خلق هذه البقرة قادرٌ على أن يجعلها تتكلم بكلام الآدميين، وأن الله الذي خلق هذا الذئب قادرٌ على أن يجعله يتكلم بكلام الآدميين ويُخاطبهم، فالله تعالى على كل شيءٍ قديرٌ.

فعلى المسلم أن يؤمن بأن ما قاله الله حقٌّ، وأن ما قاله رسول الله  حقٌّ.

بعض الناس إذا سمع مثل هذه النصوص ولم يستوعبها بعقله أنكرها، وهذا خطأٌ عظيمٌ، ويُنافي كمال العبودية، فإن كمال العبودية: أن يستسلم المسلم لربِّه سبحانه، وأن يُصدِّق بما أخبر الله تعالى به، وما أخبر به رسوله ، سواءٌ استوعب ذلك بعقله أو لم يستوعبه، وسواءٌ أدرك الحكمة أو لم يُدركها.

فضائل عمر بن الخطاب

فضائل عمر بن الخطاب .

فرغ الإمام مسلمٌ رحمه الله من الكلام عن فضائل أبي بكرٍ الصديق ، ثم انتقل بعد ذلك للكلام عن فضائل عمر .

وعمر بن الخطاب هذا الصحابي العظيم الذي هو من عظماء الإسلام، بل من عظماء التاريخ، هذا الصحابي الجليل أسلم في السنة الخامسة أو السادسة من البعثة، أي: أنه ليس أسبق الصحابة إسلامًا، فقد سبقه في خمس سنواتٍ أو ستٍّ عددٌ من الصحابة، ومع ذلك كان أفضلهم بعد أبي بكرٍ الصديق ، وهذا يدل على أنه ليس الفضل دائمًا بالأسبقية وبالأقدمية، فقد يكون المُتأخر أفضل من المُتقدم.

قال:

حدثنا سعيد بن عمرٍو الأشعثي، وأبو الربيع العتكي، وأبو كُريب محمد بن العلاء -واللفظ لأبي كُريب-، قال أبو الربيع: حدثنا. وقال الآخران: أخبرنا ابن المبارك، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن ابن أبي مُليكة قال: سمعتُ ابن عباسٍ رضي الله عنهما يقول: وُضِع عمر بن الخطاب على سريره، فتَكَنَّفَه الناس يدعون ويُثْنُون ويُصلون عليه قبل أن يُرفع، وأنا فيهم.

قال: فلم يَرُعْني إلا برجلٍ قد أخذ بمَنْكِبي من ورائي، فالتفتُّ إليه، فإذا هو عليٌّ، فترحَّم على عمر، وقال: ما خلَّفْتَ أحدًا أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايْمُ الله، إن كنتُ لأظنُّ أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ وذاك أني كنتُ أُكَثِّر أسمع رسول الله  يقول: جئتُ أنا وأبو بكرٍ وعمر، ودخلتُ أنا وأبو بكرٍ وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكرٍ وعمر، فإن كنتُ لأرجو -أو لأظنُّ- أن يجعلك الله معهما [12].

لمَّا تُوفي عمر لمَّا طعنه أبو لؤلؤة المجوسي تكنَّفه الناس، يعني: أحاطوا بسريره -النَّعْش الذي وُضع عليه- يدعون ويُثنون ويترحَّمون عليه.

يقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “بينما أنا فيهم لم يَرُعْني إلا برجلٍ قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفتُّ إليه، فإذا هو عليٌّ، فترحَّم على عمر وأثنى عليه، وقال: ما خلَّفْتَ أحدًا أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك”.

وهذا يدل على أن عليًّا يرى أن أفضل الصحابة بعد أبي بكرٍ : عمر بن الخطاب ، وإن هذه المقولة تدل لذلك، وقد جاء هذا مُصرَّحًا به؛ فقد جاء في “صحيح البخاري” عن محمد ابن الحنفية ابن علي بن أبي طالب قال: “قلتُ لأبي -يعني: لعليٍّ-: أي الناس خيرٌ بعد رسول الله ؟ قال: “أبو بكرٍ”، قلتُ: ثم مَن؟ قال: “ثم عمر”، قال: وخشيتُ أن يقول: عثمان، قلتُ: ثم أنت؟ قال: “ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين” [13].

وكان عليٌّ يقول وهو على منبر الكوفة: “أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكرٍ، ثم عمر”، وكان يقول: “لا أحد يُفضِّلني على أبي بكرٍ وعمر إلا جلدتُه حدَّ الفِرْيَة”، وكان عليٌّ يُصرِّح بأن أفضل الصحابة أبو بكرٍ وعمر.

وهذا فيه ردٌّ على بعض الطوائف المُنحرفة التي تُفضِّل عليًّا على أبي بكرٍ وعمر ، ويتقوَّلون على عليٍّ ما لم يقله، وينسبون لعليٍّ أنه يبغض أبا بكرٍ وعمر ، وحاشاه ، لكنهم ينسبون إليه أكاذيب وأقوالًا غير صحيحةٍ بأنه يبغض أبا بكرٍ وعمر ، وأنه نافسهما على الخلافة، وأنهما أخذا الخلافة غصبًا عنه، وأن النبي أوصى بالخلافة من بعده إلى عليٍّ .

كل هذا كذبٌ، وكل هذا غير صحيحٍ؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام مات ولم يستخلف، وأجمع الصحابة على أن يكون الخليفة أبا بكرٍ الصديق ، وأجمع الصحابة -بل أجمعت الأمة- على أن أفضل الصحابة أبو بكرٍ ، ثم عمر ، وعليٌّ نفسه يقول ذلك لمَّا سأله ابنه، والحديث في “صحيح البخاري”، قال: أي الناس خيرٌ بعد رسول الله ؟ قال: “أبو بكرٍ”، قلتُ: ثم مَن؟ قال: “ثم عمر”.

فهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في أن عليًّا يرى أن أفضل الصحابة أبو بكرٍ، ثم عمر، وأنهما أولى بالخلافة منه.

فوائد حديث: “وُضِع عمر بن الخطاب على سريره …”

  1. هذا فيه ردٌّ على بعض الطوائف التي تَسُبُّ أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، وترى أن أبا بكرٍ وعمر اغتصبا الخلافة، ونحو ذلك من الكذب والزور والقول الباطل، وصحابة رسول الله بينهم من المحبَّة والاحترام والتوقير الشيء العظيم.
  2. أيضًا من فوائد هذا الحديث: فضل عمر ؛ حيث اجتمع الناس عليه يدعون ويُثنون ويصلون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: أنتم شهداء الله في الأرض [14]، وأيضًا شهادة عليٍّ بذلك، قال: “ما خلَّفْتَ أحدًا أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك”، وهذه شهادةٌ عظيمةٌ من عليٍّ لعمر بن الخطاب .
  3. وأيضًا من الفوائد: فضل عليٍّ؛ حيث كان يُحب عمر ويُجلُّه، ويرى أنه لا أحد في ذلك الوقت أفضل عند الله منه.

قال الإمام مسلم رحمه الله:

وحدثنا إسحاق بن إبراهيم: أخبرنا عيسى بن يونس، عن عمر بن سعيد، في هذا الإسناد بمثله.

عمر أعطاه الله تعالى الفراسة والحكمة، وسيأتي: قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإنْ يكن في أُمَّتي منهم أحدٌ فإنَّ عمر بن الخطاب منهم [15]، وأيضًا أعطاه الله تعالى الحكمة وسداد الرأي.

موقف عمر يوم وفاة النبي

موقفٌ عظيمٌ فعله عمر ؛ لمَّا تُوفي النبي ، واجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة، قام عمر بتصرُّفٍ عجيبٍ أنهى الموقف لمَّا حصل لَغَطٌ وارتفعت الأصوات، ما هو؟

هذا التصرف يدل على عبقريته، وعلى حكمته، وقد جاء في “صحيح البخاري” عن عمر أنه قال في قصةٍ طويلةٍ بعد وفاة النبي ، قال: “فكثر اللَّغط، وارتفعت الأصوات، حتى فَرِقْتُ -يعني: خِفْتُ- من الاختلاف، فقلتُ لأبي بكرٍ: “ابسُطْ يدك يا أبا بكرٍ، فبسط يده، فبايعتُه، وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار”.

لمَّا حصل اللَّغط، وارتفعت الأصوات، أراد عمر أن يحسم الموقف.

معروفٌ أن النبي عليه الصلاة والسلام يُحب أبا بكرٍ ، وأن أبا بكرٍ  أفضل الصحابة، وهو دائمًا يقول: ذهبتُ أنا وأبو بكرٍ وعمر [16]، ويقول: ويأبى الله والمؤمنون أن يتولَّى إلا أبا بكرٍ [17]، فعمر قد استقرَّ في نفسه ذلك، لكن لمَّا حصل اللَّغط وارتفاع الأصوات أراد أن يحسم الموقف بأن يجعلهم أمام الأمر الواقع، فقال لأبي بكرٍ : “ابسُطْ يدك”، فبسط أبو بكرٍ يده وبايعه، فلمَّا بايعه قام المهاجرون وقلَّدوا عمر ؛ فبايعوا أبا بكرٍ ، ثم قام الأنصار وبايعوا أبا بكرٍ ، فكان هذا التصرف من عمر تصرفًا محمودًا حسنًا؛ لأنه أراد أن يُنهي هذا اللَّغط بهذا التصرف.

قال:

حدثنا منصور بن أبي مُزاحم: حدثنا إبراهيم بن سعدٍ، عن صالح بن كَيْسان. ح، وحدثنا زُهير بن حرب، والحسن بن عليٍّ الحُلْواني، وعبد بن حُميد -واللفظ لهم- قالوا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم: حدثنا أبي، عن صالحٍ، عن ابن شهابٍ: حدثني أبو أُمامة بن سهلٍ: أنه سمع أبا سعيدٍ الخدري يقول: قال رسول الله : بينا أنا نائمٌ رأيتُ الناس يُعْرَضون وعليهم قُمُصٌ … [18].

هنا ابتدأ الإمام مسلمٌ بذكر بعض الرؤى التي رآها النبي ، والتي تدل على فضل عمر بن الخطاب : رؤيا القميص، ورؤيا اللبن، وكذلك رؤيا القصر الذي رآه لعمر  في الجنة.

وهذه الرؤى سنتكلم عنها -إن شاء الله- بالتفصيل في الدرس القادم؛ نقف على معانيها، ونقف أيضًا على تعبير هذه الرؤى، وكيف عبَّرها النبي لأصحابه؟ وكيف فُسِّر القميص بالدين، وفُسِّر اللبن بالعلم؟ وما وجه هذا التفسير؟

إن شاء الله سنفتتح بهذا الدرس القادم.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

والآن نُجيب على ما تيسر من الأسئلة.

السؤال: والدي مُؤجرٌ منزلًا لعائلةٍ مُحتاجةٍ، ويُطالبهم بدفع الإيجار، فهل يجوز لي أن أدفع عنهم من زكاة مالي بدون علمهم وعلم الوالد؟ وأنا أخشى إن أعطيتُها للمُستأجر أن يضعها في أشياء ليست أساسيةً.

الجواب: ما دام أن هذه العائلة مُحتاجةٌ، وليست لديها القدرة على سداد الإيجار؛ فلا بأس بأن يُسدَّد عنهم الإيجار من الزكاة، ولا بأس بأن تُعطي والدك الإيجار مباشرةً، وتُخبر العائلة فتقول: سدَّد عنكم فاعل خيرٍ. الأفضل أن تقول: فاعل خيرٍ. وتقول لوالدك: هذا الإيجار من فاعل خيرٍ. يكون هذا أفضل؛ لأن هذا أبلغ في الإخلاص.

فالسداد عن الغارم لا بأس به، يُسدد الإنسان للدائن مباشرةً، لكن بإذن المدين؛ لأن الله تعالى قال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فأتى بلام التمليك، بينما قال بعد ذلك: وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60]، فلا يُشترط التمليك، وإنما للإنسان أن يُسدد الزكاة للدائن مباشرةً بإذن المدين.

السؤال: ما حكم غسل المرفق قبل اليد في الوضوء؟

الجواب: لا بأس بذلك، المهم أن تغسل اليد من أطراف الأصابع إلى المرفق، مع غسل المرفق، سواء بدأ بالمرفق، أو بدأ بالذراع، أو بدأ بالكفِّ، المهم أن تغسل اليد جميعها من أطراف الأصابع إلى المرفق.

السؤال: البعض يصلي في البيت؛ لأنه لا يوجد مسجدٌ قريبٌ، خاصةً في الأحياء الجديدة، فهل يلزمه أن يأخذ السيارة؟

الجواب: إذا كان لا يسمع النداء -لو أذَّن المُؤذِّن من غير مُكبِّر الصوت لم يسمعه- فلا تجب عليه الصلاة في المسجد، وله أن يُصلي في بيته، وإن تيسَّر أن يُصلي جماعةً كان هذا هو الأكمل، وإن لم يتيسَّر صلى وحده ولا شيء عليه؛ لأن الجماعة في المسجد إنما تجب على مَن سمع النداء؛ ولهذا لمَّا جاء ابن أم مكتوم إلى النبي وقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد. فقال له النبي : هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب [19]، فجعل النبي  مناط الحكم على سماع النداء.

فنقول: أخي الكريم، إذا كنت تسمع المُؤذِّن لو أذَّن من غير مُكبِّر الصوت يلزمك أن تُصلي في المسجد، وإذا كنت لا تسمعه -وهذا هو الظاهر من السؤال- فلا تجب عليك الجماعة في المسجد، ولك أن تُصلي في البيت.

السؤال: ما كيفية صلاة العشاء للمسافر خلف مُقيمٍ يصلي المغرب؟

الجواب: إذا كان المسافر يصلي خلف مُقيمٍ يصلي المغرب، فإذا قام الإمام للركعة الثالثة، فيُكمل لنفسه ويُسلم، ولا يلزمه أن يُكمل معه ثلاث ركعاتٍ، ثم يأتي بالرابعة.

وإن كانت هذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء، لكن القول الراجح هو: أنه لا يلزمه الإتمام في هذه الصورة؛ لأن صلاة المغرب صلاةٌ ثلاثيةٌ، وليست رباعيةً، فعلى هذا يصلي ركعتين ويُكمل لنفسه ويُسلم.

السؤال: كم عدد سنة الجمعة القبلية والبعدية؟

الجواب: أما القبلية فلا حدَّ لها؛ لأن النبي  قال في حديث سلمان: ثم يُصلي ما كُتب له [20] كما في البخاري، ولم يُحدِّد هذا بعددٍ معينٍ، فلك أن تُصلي قبل الجمعة ركعتين أو أربعًا أو ستًّا أو أكثر من ذلك، مَثْنَى، مَثْنَى.

وأما السنة التي بعد الجمعة فهي أربع ركعاتٍ على القول الراجح؛ لقول النبي : إذا صلى أحدكم الجمعة فليُصَلِّ بعدها أربعًا [21] رواه مسلمٌ.

السؤال: ماذا يفعل مَن قال في سجود السهو: “سبحان ربي العظيم”، وبدل التكبير: “سمع الله لمَن حمده”؟

الجواب: يكون هنا قد أخلَّ بما يُقال في سجود السهو، فإن كان الفاصل قريبًا أعاد سجود السهو، وإن طال الفصل فلا شيء عليه.

السؤال: مع وجود هذه الأزمة أصبحت الدراسة عن بُعْدٍ، فما حكم مَن يصلي الظهر في المنزل؛ لأن الحصة الدراسية تتعارض مع وقت الصلاة؟

الجواب: إن أمكن أن يُرتِّب الحصة الدراسية بحيث يذهب هو والطلاب للمسجد ويصلون صلاة الظهر، ثم تكون الحصة بعد الصلاة، فهذا هو المطلوب، وهذا مُتيسِّرٌ بالنسبة للدراسة الجامعية؛ لأن الأستاذ الجامعي عنده من الحرية والمرونة ما ليس عند غيره.

أما بالنسبة للمرحلة دون الجامعية، فإن تيسر هذا فهو المطلوب، وإن لم يتيسر فيكون هذا عذرًا في عدم وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد للمعلم وللطلاب.

السؤال: ما صفة غُسل الجنابة؟

الجواب: غُسل الجنابة له صفتان: صفةٌ مُجزئةٌ، وصفةٌ كاملةٌ.

الصفة المُجزئة هي: أن يُعمِّم جميع بدنه بالماء، فلو أتى وفتح صنبور الماء -الدُّش- وعمَّم جميع بدنه أجزأ.

الصفة الكاملة هي: أن يُسمي، ثم يغسل فرجه وما أصابه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يغسل رأسه ثلاث مراتٍ، ثم شِقَّه الأيمن، ثم شِقَّه الأيسر، ثم يُعمِّم الماء على بقية بدنه.

السؤال: هل يُغني غُسل الجنابة، وغُسل الجمعة، وغُسل التَّبَرُّد عن الوضوء؟

الجواب: أما غُسل الجنابة فيُجزئ عن الوضوء إذا نواه، وقد سُئل الإمام أحمد عن ذلك فقال: “يُجزئ إذا نوى”، يعني: إذا نوى الوضوء.

وعلَّل لذلك جمهور الفقهاء: بأنهما طهارتان: صُغْرَى وكُبْرَى، دخلت الصُّغرى في الكُبرى.

وأما بالنسبة للغُسل غير الواجب: كغُسل الجمعة، وغُسل التَّبَرُّد، وغُسل التَّنظُّف؛ فهذا لا يُجزئ عن الوضوء، بل لا بد أن يتوضأ المسلم؛ لأن الأصل أن المسلم مُطالبٌ بالوضوء، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ … إلى آخر الآية [المائدة:6]، ولكن قال جمهور الفقهاء بالنسبة للغُسل الواجب خاصةً: إنه يُجزئ عن الوضوء؛ لأنهما طهارتان: صُغرى وكُبرى، دخلت الصُّغرى في الكُبرى، وهذا لا يتحقق في الغُسل غير الواجب؛ فلا يتحقق في غُسل الجمعة، ولا في غُسل التَّبرُّد، ولا في غُسل التَّنظُّف، وعلى ذلك فالغُسل غير الواجب لا بد معه من الوضوء.

بعض الناس يغتسل الجمعة، ويذهب للمسجد الجامع من غير وضوءٍ، وهذا عند أكثر أهل العلم لا تصح صلاته؛ لأنه لم يتوضأ، وغُسله للجمعة لا يُجزئ عن الوضوء، فعليه أن يتوضأ، والأكمل أنه عندما يغتسل للجمعة أن يأتي به على صفة غُسل الجنابة الكاملة، وإذا أتى بصفة غُسل الجنابة الكاملة فهو سيتوضأ في أول الغُسل، ويُجزئ ذلك عن الوضوء.

السؤال: في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34]، أصبح في العلم الحديث الآن معرفة جنس الجنين، فكيف نُوفق بين الآية وذلك؟

الجواب: الله تعالى قال: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، و”ما” من صيغ العموم، فهل الأطباء يعلمون كل ما في الرحم؟

هذا غير صحيحٍ، إن علموا علموا جنس الجنين، ولا يعلمون جنس الجنين إلا بعد مرور مدةٍ على الحمل، وجنس الجنين يعلم به حتى المَلَك عندما يُؤمر بنفخ الروح، وشقيٍّ أو سعيدٍ، ويُؤمر بكتابة عمله ورزقه وأجله، فقد يُطلع الله ​​​​​​​ بعض الخلق على بعض الأمور الغيبية، فلا تكون بالنسبة لهم غيبًا.

لكن بالنسبة للآية قال الله تعالى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ يعني: كل ما في الأرحام، وهذا لا يطلع عليه البشر، فالبشر لا يعرفون هذا الجنين ماذا سيكون؟

فليست القضية قضية أنه ذكرٌ أو أنثى فقط، بل شكل هذا الجنين، ومُستواه من جهة العقل، ومن جهة سلامة الأعضاء، ومن جهة الشكل، ومن جهة الجمال، ومن جهة جميع أموره، وهذه لا يعلم بها على وجه التمام والكمال إلا الله سبحانه، والبشر فقط إنما اطَّلعوا على جزءٍ يسيرٍ وهو: معرفة جنس الجنين عن طريق الأشعة، ومعرفة البشر بذلك لا تُنافي ما ذكره الله تعالى في الآية.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2651، ومسلم: 2535.
^2 رواه مسلم: 2384.
^3 رواه البخاري: 4358.
^4 رواه مسلم: 2385.
^5 رواه البخاري: 3685، ومسلم: 2389.
^6 رواه مسلم: 2386.
^7 رواه مسلم: 2387.
^8 رواه البخاري: 5666.
^9 رواه مسلم: 1028.
^10 رواه مسلم: 2388.
^11 رواه البخاري: 2324.
^12 رواه مسلم: 2389.
^13 رواه البخاري: 3671.
^14 رواه البخاري: 1367، ومسلم: 949.
^15 رواه مسلم: 2398.
^16, ^17 سبق تخريجه.
^18 رواه مسلم: 2390.
^19 رواه مسلم: 653.
^20 رواه البخاري: 883.
^21 رواه مسلم: 881.
zh