الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
اللهم آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.
اللهم إنا نسألك الفقه في الدين، ونسألك علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا.
هذا هو الدرس الرابع عشر في التعليق على كتاب “الفضائل” من “صحيح مسلم” في هذا اليوم الثلاثاء 3 من شهر ربيع الأول 1442هـ.
وكنا قد وصلنا إلى باب: من فضائل زكريا عليه الصلاة والسلام.
من فضائل زكريا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
حدثنا هدَّاب بن خالد: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: كان زكرياء نَجَّارًا [1].
زكريا هو أحد أنبياء الله ، وقد ذكره الله تعالى في عدة مواضع من القرآن: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:89-90]، كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:1-3].
فزكريا أحد الأنبياء الذين ذكرهم الله في كتابه، وذكر تعالى أنه لم يُولد له إلا في آخر عمره لَمَّا دعا الله وهو قائمٌ يصلي في المِحْراب، وبشَّرته الملائكة بيحيى، فرُزِقَ نبيًّا، وهو نبي الله تعالى يحيى.
وزكريا عليه الصلاة والسلام هنا يذكر النبيُّ عليه الصلاة والسلام أنه كان نَجَّارًا، فكان يعمل في صنعة النجارة، وهذا يدل على أنه لا بأس أن الإنسان يعمل في مثل هذه الصنائع، وأنها لا تُسقط المُروءة، وأنها صنعةٌ فاضلةٌ، وزكريا عليه الصلاة والسلام كان يكتسب من هذه الصنعة: النجارة.
رعي الغنم مهنة الأنبياء
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري؛ حديث المقدام بن مَعْدِي كَرِب : أن النبي قال: ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده [2]، فأفضل الكسب أن يأكل الإنسان من عمل يده، فداود عليه الصلاة والسلام كان نبيًّا ملكًا، ومع ذلك كان يأكل من عمل يده، وزكريا كان نجَّارًا يأكل من عمل يده، بل قال عليه الصلاة والسلام -كما جاء في الصحيحين من حديث جابرٍ -: ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، كنتُ أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة [3].
فرعي الغنم والنجارة وعمل اليد هذه أعمالٌ شريفةٌ، وصنائع لا تُخِلُّ بالمروءة، قد فعلها الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد جعل الله تعالى الأنبياء بشرًا يُخالطون الناس، ويعملون كما يعمل الناس، فمنهم مَن كان نجَّارًا، ومنهم مَن كان راعيًا للغنم، ومنهم مَن له أعمالٌ أخرى، بل إن نبينا محمدًا عليه الصلاة والسلام تعامل بالتجارة في أول أمره، وذهب بمالٍ لخديجة رضي الله عنها إلى الشام مرتين قبل بعثته.
أهمية كسب الإنسان من عمل يده
فكون الإنسان يكتسب ويعمل هذه الأعمال من التجارة أو الصناعة أو الزراعة أو النجارة، هذا لا يُخِلُّ بالمروءة، بل هذه قد عملها أشرف البشر وأكمل البشر، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا خيرٌ من أن يبقى الإنسان عالةً يتكفَّف الناس، أعطوه أو منعوه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب فيبيعه خيرٌ له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه [4].
الإنسان يبحث له عن صنعةٍ وعن حرفةٍ يكتسب منها مالًا، ولا يبقى يسأل الناس، فبعض الناس تجد أنه مُولعٌ بسؤال الناس: إما بالاقتراض، وإما بطلب الصدقة أو الزكاة، ويبقى طيلة عمره على هذه الحالة، فيبقى فقير النفس، ولو أنه سعى لاكتساب صنعةٍ أو حرفةٍ، وحصَّل منها، واكتسب من عمل يده؛ لكان هذا خيرًا له.
من فضائل الخَضِر
بابٌ: من فضائل الخَضِر .
الخضر هو الذي ذكره الله في قصة موسى في سورة الكهف: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]، وقد سُئل موسى عليه الصلاة والسلام، وكان يخطب الناس ذات يومٍ، فسأله رجلٌ: هل هناك مَن هو أعلم منك في الأرض؟ قال موسى : لا، فأوحى الله إليه: إن عبدًا من عبادي أعلم منك، وإنك تجده عند مَجْمَع البحرين [5]، فعزم موسى على الذهاب له، وهو الخَضِر، وحصل ما قصَّه الله تعالى علينا في سورة الكهف.
سبب تسمية الخضر بهذا الاسم
أولًا: لماذا سُمِّي الخَضِر بذلك؟
الأشهر أنه جلس على فروةٍ بيضاء فصارت خضراء.
وقيل: لأنه إذا صلى اخضرَّ ما حوله.
والصحيح: أن الخضر إنَّما سُمِّي بذلك لأنه جلس على فروةٍ، فإذا هي تَهتز من خلفه خضراء، وهذا قد جاء في “صحيح البخاري” عن أبي هريرة : أن النبي قال: إنَّما سُمِّي الخضر أنه جلس على فروةٍ بيضاء، فإذا هي تَهتز من خلفه خضراء [6].
فهذا نصٌّ صريحٌ في المسألة، وأيضًا في “صحيح البخاري” في سبب تسميته بالخضر، وحصول ذلك لا شكَّ أنه كرامةٌ أو آيةٌ من آيات الله ؛ كونه يجلس على فروةٍ بيضاء، فإذا هي تَهتز من خلفه خضراء.
هل الخضر نبيٌّ؟
الخضر نبيٌّ، أو أنه وَلِيٌّ؟
هذا محل خلافٍ بين العلماء:
- فمنهم مَن قال: إنه وَلِيٌّ، وليس نبيًّا، قالوا: لأن الله قال: عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]، فوصفه بذلك، ولو كان نبيًّا لقال الله: نبيًّا.
- والقول الثاني: أنه نبيٌّ؛ وذلك لأنه قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، وهذا فيه إشارةٌ إلى أنه يُوحى إليه، وأن ما فعله إنَّما هو بوحيٍ من عند الله ، وبأنه أعلم من موسى ، ويبعد أن يكون وليًّا ويكون أعلم من النبي، وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله: أن الخضر نبيٌّ؛ لأن النبي هو مَن أُوحي إليه بشرعٍ وأُمر بتبليغه، وهو قد أُوحي إليه، فالخضر بنص الآية قد أُوحي إليه، بقوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي.
وأما ما استدلَّ القائلون بأنه وليٌّ، بأن الله تعالى قال: عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا، فقد يُطلق وصف العبودية على النبي، وأن نبينا محمدًا عليه الصلاة والسلام وصفه الله تعالى بالعبودية في أشرف مقاماته: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، هذا لا يُنافي كونه نبيًّا.
فعلى هذا نقول: إن القول الراجح أن الخضر كان نبيًّا من الأنبياء، وهذا ما ألمح إليه النووي رحمه الله، حيث قال: “بابٌ: من فضائل الخَضِر “، وفي شرحه على مسلم يميل إلى هذا القول.
الخَضِر حَيٌّ أو ميتٌ؟
هل الخَضِر حَيٌّ أو ميتٌ؟
هناك مَن قال من أهل العلم بأنه حيٌّ، والعجيب أن النووي في شرحه على مسلم نسب هذا القول لجمهور العلماء، وهذا محل نظرٍ، وأيضًا نقل عن أبي عمرو بن الصلاح أنه قال: “هو حيٌّ عند جماهير العلماء والصالحين”، وهذا محل نظرٍ.
والقول الصحيح في هذه المسألة: أن الخضر ليس حيًّا.
وقد سُئل البخاري عن الخضر وإلياس: هل هما أحياء؟ فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي : أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنَّ رأس مئة سنةٍ منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدٌ [7]؟!
وسُئل الإمام ابن تيمية رحمه الله عن الخَضِر: هل هو حيٌّ؟ قال: “هو ميتٌ، ولو كان حيًّا لوجب عليه أن يأتي النبيَّ ، وأن يُجاهد معه، ويتعلم منه”.
وأُنبه هنا إلى أنه توجد في “مجموع الفتاوى” فتوى منسوبةٌ لابن تيمية في أن الخضر حيٌّ، ولكن هناك مَن يُشكك في صحة نسبتها إليه، وأنَّها لا تصح نسبتها إلى الإمام ابن تيمية، وأن أصول وقواعد الشيخ ابن تيمية تقتضي هذا القول، وهو: أن الخضر ميتٌ وليس حيًّا، وهو ما قد صرَّح به في هذا الكلام المنقول.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: الدليل على أن الخضر ليس بباقٍ في الدنيا أربعة أشياء: القرآن، والسنة، وإجماع المُحققين، والمعقول.
- أما القرآن: فقول الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]، فلو دام الخضر كان خالدًا، يعني: لو كان الخضر حيًّا لكان خالدًا، وهذا خلاف ما تقتضيه الآية.
- وأما السُّنة: فقول النبي : لا يبقى على رأس مئة سنةٍ ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ [8]، والحديث في الصحيح، وأيضًا جاء في “صحيح مسلم” عن جابرٍ : أن النبي قال قبل موته بقليلٍ: ما من نفسٍ منفوسةٍ اليوم تأتي عليها مئة سنةٍ وهي حيَّةٌ يومئذٍ [9].
- وأما الإجماع: فقد أجمع المُحقِّقون على ذلك.
- وأما المعقول: فقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله عشرة أوجهٍ، ومن أبرزها:
- أن الخضر لو كان حيًّا لكان بشرًا من بني آدم، وكان يعيش من حين أن يُولد إلى آخر الدهر، ومولده قيل: إنه قبل نوح، فلو كان الأمر كذلك -لو أن الخضر قد وُلد قبل نوح، وأنه ما زال حيًّا إلى الآن- لكان هذا من أعظم الآيات والعجائب، ولكان خبره في القرآن مذكورًا؛ لأنه من أعظم آيات الربوبية، وقد ذكر الله تعالى مَن أحياه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا، وجعله آيةً، فكيف بمَن أحياه إلى آخر الدهر؟
- وأيضًا لو كان الخضر حيًّا لكان جهاده الكفار، ورباطه في سبيل الله، وحضوره الجمعة والجماعة، وتعليم العلم؛ لكان هذا أفضل له بكثيرٍ من سياحته بين الوحوش في القِفار والفَلَوات، وهل هذا إلا من أعظم الطعن والعيب عليه؟
فيقول: لو كان الخضر حيًّا أين هو؟ لماذا لو كان حيًّا ما يجتمع بالنبي عليه الصلاة والسلام، وما جاهد معه، وما جلس بين يديه وتعلَّم منه؟ فأين هو؟ هل هو في القِفار والفَلَوات بين الوحوش؟ هذا طعنٌ فيه، وهذا يقتضي أن يكون ميتًا وليس بِحَيٍّ. - ثم أيضًا ما الدليل على أن الخضر حيٌّ أصلًا؟ لم يثبت في هذا شيءٌ، لا من القرآن، ولا من السنة، وإنَّما قولٌ قد قيل، قولٌ بلا مُستندٍ صحيحٍ، وهو بشرٌ كسائر البشر: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]، فما الدليل على أن الخضر حيٌّ أصلًا؟ لا يوجد دليلٌ صحيحٌ يدل على حياته، وأنه ما زال باقيًا.
وعلى هذا فالقول الصحيح أن الخضر ليس بِحَيٍّ، وأن القول بأنه حيٌّ قولٌ مرجوحٌ.
والقول بأنه نبِيٌّ يقطع الطريق على بعض الفرق المنحرفة التي تزعم أن الولي أعلى درجةً من النبي، ويستدلون بقصة الخضر، وأنه كان وليًّا، وموسى كان نبيًّا، ويقولون مقولتهم المشهورة:
مقام النبوة في برزخٍ | فويق الرسول ودون الولي |
وهذه مقولةٌ باطلةٌ، بل أفضل البشر الأنبياء والرسل، ثم أولياء الله تعالى من الصديقين والشهداء والصالحين.
نعود لقصة الخضر عليه الصلاة والسلام:
هل موسى صاحب بني إسرائيل ليس صاحب الخضر؟
قال:
حدثنا عمرو بن محمد الناقد، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وعبيدالله بن سعيد، ومحمد بن أبي عمر المكي؛ كلهم عن ابن عيينة -واللفظ لابن أبي عمر-: حدثنا سفيان بن عيينة: حدثنا عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير قال: قلتُ لابن عباسٍ: إن نوفًا البِكَالي يزعم أن موسى صاحب بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر . فقال: كذب عدو الله.
سعيد بن جبير صاحب ابن عباسٍ رضي الله عنهما يقول: “قلتُ لابن عباسٍ: إن نوفًا البِكَالي”، وكان عالمًا، قاضيًا، قال: إنه يقول: “إن موسى صاحب بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر”، فغضب ابن عباسٍ رضي الله عنهما لَمَّا سمع هذه المقولة، وقال: “كذب عدو الله”، هذه مقولةٌ شديدةٌ، لكن للعلماء في ذلك تفسير:
قال بعضهم: إن ابن عباسٍ رضي الله عنهما إنَّما قال هذا في حال الغضب الشديد.ذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذذ
وقال بعضهم: إن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال هذا على سبيل الإغلاظ والزجر عن مثل قوله، لا أنه يعتقد أنه عدو الله حقيقةً، وإنَّما من باب المبالغة في إنكار قوله، ويكون هذا من الألفاظ التي تجري على الألسنة من غير قصدٍ، وهذا هو الأقرب.
ثم ذكر ابن عباسٍ رضي الله عنهما نقلًا عن أُبي بن كعب أنه قال:
سمعتُ رسول الله يقول.
لَمَّا توفي النبي كان عمر ابن عباسٍ ثلاثة عشر سنة، وأكثر الأحاديث التي يرويها بالواسطة، يعني: يسمع صحابيًّا ينقل عن النبي عليه الصلاة والسلام، وفي هذه القصة صرَّح بالصحابي الذي سمع منه هذا الحديث، وهو أُبي بن كعب.
قصة موسى مع الخَضِر
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما:
سمعتُ أُبي بن كعب يقول: سمعتُ رسول الله يقول: قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. قال: فَعَتَبَ الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، وأوحى إليه: أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك.
موسى عليه الصلاة والسلام سُئل هذا السؤال: مَن أعلم الناس؟ وهو قائمٌ يخطب، فموسى رأى أنه نبي الله ، وأعظم أنبياء بني إسرائيل، ولا يعلم أحدًا أعلم منه، فأخبر بما يعتقده، قال: أنا أعلم، فعُوتِب.
كان ينبغي أن يقول: الله أعلم، يعني: يحتمل أن يكون هناك مَن هو أعلم منه.
فأوحى الله إليه أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك يقصد الخضر.
ومجمع البحرين قيل: هو مجمع بحري فارس والروم ممَّا يلي المشرق. قاله قتادة.
وقيل: إنه مُلتقى خليج العقبة والسويس.
وقيل: مُلتقى البحر الأحمر والبحر الأبيض.
وبكل حالٍ هو مُلتقى بحرين، الله تعالى أعلم، يعني: لا يهمنا هذا المبحث كثيرًا، فهو مجمع بحرين، لكن ليس هناك ما يُرجِّح قولًا من هذه الأقوال، ويكفينا أن نعرف أنه مجمع البحرين كما ذكره ربنا سبحانه.
قال:
إن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك.
قال موسى: أي ربِّ، كيف لي به؟.
موسى عليه الصلاة والسلام كان حريصًا على التعلم، فأراد أن يتعلم، وأن يلتقي بهذا الرجل الذي هو أعلم منه، وأن يستفيد منه.
وهذا يدل على فضيلة الارتحال لطلب العلم، والالتقاء بالعلماء، والإفادة منهم، وكذلك مُخالطتهم، وهذه تُفيد الإنسان كثيرًا، وهذا معلومٌ من الواقع والتجربة: أن الإنسان إذا خالط عالمًا من العلماء، وسأله واستمع إليه، واستمع إلى كلامه، وإلى إجاباته، وإلى فتاواه؛ أنه يستفيد منه علمًا كثيرًا، بخلاف ما إذا كان بعيدًا عن هذا العالِم.
فموسى عليه الصلاة والسلام لَمَّا علم أن هناك مَن هو أعلم منه عزم على الرحلة إليه، فسأل الله : كيف لي به؟ فقال له:
احمل حوتًا في مِكْتَلٍ.
يعني: في زنبيل.
فحيث تفقد الحوت فهو ثَمَّ.
إذا فقدتَ هذا الحوت فستجد الخضر، يعني: هذه هي العلامة.
فانطلق، وانطلق معه فتاه، وهو يُوشَع بن نون.
هنا فيه التصريح بأن فتاه هو يوشع بن نون، وهو نبيٌّ من الأنبياء.
وليس المقصود بفتاه: أنه كان عبدًا عنده أو خادمًا، وإنَّما كان يُوشَع بن نون وهو من أنبياء بني إسرائيل، وهو الذي بعد وفاة موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ذهب ببني إسرائيل إلى بيت المقدس؛ لدخول الأرض المقدسة بعدما كانت مُحرَّمةً عليهم أربعين سنةً، فدخلها قُبَيل غروب شمس يوم الجمعة، وكان القتال مُحرَّمًا عليهم يوم السبت، فقال للشمس: إنك مأمورةٌ، وأنا مأمورٌ، اللهم احبسها علينا، فأمر الله تعالى الشمس أن تنحبس وتتأخر في غروبها حتى يتم الفتح [10]، فكانت هذا آيةً من آيات الله ، فيُوشَع بن نون هو الفتى المذكور في هذه القصة.
فحمل موسى حوتًا في مِكْتَلٍ، وانطلق هو وفتاه يمشيان حتى أتيا الصخرة، فرقد موسى وفتاه، فاضطرب الحوت في المِكْتَل حتى خرج من المِكْتَل فسقط في البحر.
يعني: هرب الحوت وسقط في البحر.
قال: وأمسك الله عنه جِرْيَة الماء حتى كان مثل الطَّاق، فكان للحوت سَرَبًا.
أمسك الله عنه جِرْيَة الماء، فكان مثل الطاق من البناء.
فكان للحوت سَرَبًا، وكان لموسى وفتاه عَجَبًا.
كما ذكر الله تعالى في القصة في سورة الكهف.
فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، ونسي صاحب موسى أن يُخبره، فلمَّا أصبح موسى قال لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62].
يعني: تعبنا من السفر.
قال: ولم يَنْصَبْ حتى جاوز المكان الذي أُمِرَ به.
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا [الكهف:63].
وهذا فيه إشارةٌ إلى أن من أسباب النسيان: الشيطان، وأن الشيطان قد يتسبب في كون الإنسان ينسى بعض الأمور وبعض الأشياء، كما أن الشيطان أيضًا قد يُذكِّر الإنسان بأمورٍ لأجل أن يشغله عن أمورٍ أفضل، فعندما يُكبِّر الإنسان في الصلاة يُذكِّره الشيطان بأمورٍ قد نسيها؛ لكي يُشوش عليه فلا يخشع في صلاته.
قال موسى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64].
يعني: رجعا مرةً أخرى إلى موضع الصخرة.
قال: يَقُصَّان آثارهما حتى أتيا الصخرة، فرأى رجلًا مُسَجًّا عليه بثوبٍ.
يعني: رجلًا مُغَطًّى بثوبٍ.
فسلَّم عليه موسى، فقال له الخَضِر: أنَّى بأرضك السلام؟! قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: إنك على علمٍ من علم الله عَلَّمَكه الله لا أعلمه، وأنا على علمٍ من علم الله عَلَّمَنِيه لا تعلمه.
قال له موسى : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:66-69].
قال له الخَضِر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا[الكهف:70]. قال: نعم.
فانطلق الخَضِر وموسى يمشيان على ساحل البحر، فمرتْ بهما سفينةٌ، فكلَّماهم أن يحملوهما، فعرفوا الخضر، فحملوهما بغير نَوْلٍ.
يعني: بغير أجرةٍ.
فَعَمَدَ الخَضِر إلى لوحٍ من ألواح السفينة فنزعه، فقال له موسى: قومٌ حملونا بغير نَوْلٍ.
يعني: قومًا حملونا معهم مجانًا في السفينة.
عمدتَ إلى سفينتهم فَخَرَقْتَها لتُغرق أهلها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71].
يعني: كيف يحصل هذا؟! أهل السفينة أتوا وحملونا مجانًا بدون مقابلٍ، ثم تخرقها؛ لتُغرق أهلها، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا يعني: عظيمًا، كثير الشدة.
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72].
فكانت هذه هي العجيبة الأولى من العجائب.
والثانية -وهي أشدّ-:
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73].
ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذا غلامٌ يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله.
وهذا أمرٌ عظيمٌ؛ يأتي إلى غلامٍ يلعب مع الغلمان ويأخذ رأسه ويقتلعه ويقتله!
فموسى ما صبر على هذا.
فقال موسى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا[الكهف:74-75].
قال: وهذه أشد من الأولى.
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76].
موسى في المرة الأولى يقول: كيف؟ هؤلاء حملونا بدون أجرةٍ، وتخرق السفينة؛ لتُغرق أهلها!
وفي الثانية يقول: كيف تأتي لنفسٍ زكيةٍ طاهرةٍ من الذنوب -لأنه كان غلامًا لم يبلغ- فتقتله بغير ذنبٍ؟!
بعد ذلك قال:
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77].
هذه القرية قيل: إنها أَيْلَة. وقيل: أنطاكية، ولا يهمنا معرفة اسمها، المهم أنَّها قريةٌ من القرى.
فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف:77].
جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ هذه الإرادة هل هي إرادةٌ حقيقيةٌ، أو إرادةٌ مجازيةٌ؟
الصحيح أنها على ظاهرها، وأن الله تعالى قد يجعل في الجمادات إدراكًا مناسبًا لها.
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف:77]، يقول: مائلٌ، قال الخضر بيده هكذا فأقامه، قال له موسى: قومٌ أتيناهم فلم يُضيفونا، ولم يُطْعِمونا: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:77-78].
قال رسول الله : يرحم الله موسى، لوددتُ أنه كان صبر حتى يقصَّ علينا من أخبارهما.
لأنه أتى بعجائب:
- المرة الأولى: يخرق السفينة.
- والثانية: يقتل هذا الغلام.
- والثالثة: يُقيم الجدار لأهل قريةٍ لم يُضيفوهما.
فكان عليه الصلاة والسلام يقول: يرحم الله موسى، ودَّ لو أنه صبر، ولو صبر لأتى بعجائب أكثر وأكثر.
قال:
وقال رسول الله : كانت الأولى من موسى نسيانًا.
قال: وجاء عصفورٌ حتى وقع على حرف السفينة، ثم نَقَرَ في البحر، فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثلما نقص هذا العصفور من البحر.
الله أكبر.
جاء عصفورٌ فَنَقَرَ على حرف السفينة، يعني: على جانبها، فقال الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثلما نقص هذا العصفور من البحر، والنَّقص هنا ليس على ظاهره، وإنَّما المعنى: أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله كنسبة نقرة هذا العصفور إلى ماء البحر.
سبحان الله!
وهذا من باب التقريب إلى الأفهام، وإلا فنسبة علمهما أقلّ.
وجاء في رواية البخاري: ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره [11]، فيقول الخضر: إن علمي وعلمك أنت يا موسى بالنسبة لعلم الله كنسبة نقرة هذا العصفور في هذا البحر، بل أقلّ من ذلك، فعلم الله تعالى علمٌ عظيمٌ، واسعٌ، شاملٌ، أما علم البشر فهو علمٌ محدودٌ، قليلٌ.
قال سعيد بن جبير: وكان يقرأ: ﴿وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا﴾.
هذه إحدى القراءات غير السبعية، من القراءات الشاذة.
وكان يقرأ: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا﴾ [12].
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريقٍ أخرى، وجاء فيها:
بينما موسى في قومه يُذكِّرهم بأيام الله، وأيام الله: نعماؤه وبلاؤه، إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلًا خيرًا -أو أعلم- منِّي. قال: فأوحى الله إليه: إني أعلم بالخير منه -أو عند مَن هو-، إن في الأرض رجلًا هو أعلم منك، قال: يا ربِّ، فَدُلَّنِي عليه.
قال: فقيل له: تزوَّد حوتًا مالِحًا، فإنه حيث تفقد الحوت.
قال: فانطلق هو وفتاه حتى انتهيا إلى الصخرة، فعُمِّيَ عليه [13].
فذكر القصة قريبًا من القصة السابقة.
أيضًا ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث برواياتٍ قريبةٍ من هذه الرواية.
فوائد قصة موسى مع الخضر
هذه القصة فيها فوائد عظيمةٌ نأتي لبعض أبرز هذه الفوائد.
من هذه الفوائد:
- أولًا: فضل الرحلة في طلب العلم، فإن موسى ارتحل إلى الخضر لكي يتعلم منه لمَّا علم بأن هناك مَن هو أعلم منه، فارتحل موسى ومعه فتاه يُوشَع بن نون إلى الخضر للتعلم منه.
- ومنها: الحثُّ على التواضع في العلم وغيره، وأن الإنسان إذا سُئل عن أعلم الناس فينبغي أن يقول: الله أعلم، فينسب العلم إلى ربه وخالقه، وألا يُزكي نفسه بأنه أعلم الناس، وموسى عليه الصلاة والسلام أخبر بما لديه، لكن كان الجواب الأكمل أن يقول: الله أعلم.
- ومنها: وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن كان بعضه قد لا تظهر حكمته للعقول، ولا يفهمه كثيرٌ من الناس، وقد لا يفهمونه بالقدر المراد؛ فخرق السفينة وقتل الغلام صورتُهما صورة مُنكرٍ، ولكن لمَّا بيَّن الخضر لموسى عليهما السلام وجه ذلك تبيَّنت الحكمة، وأن السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر، وكان من وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينةٍ صالحةٍ غصبًا، فأراد الخضر أن يخرقها؛ لأن الملك إذا رآها مخروقةً لم يأخذها.
وهكذا أيضًا الغلام لو أنه عاش لتسبب في كفر والديه، فكانت رحمة الله تقتضي أن يُقتل هذا الغلام؛ لكي يبقى والداه على صلاحهما.
وكذلك أيضًا بالنسبة للجدار الذي أقامه، كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان أبوهما صالحًا: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]. - أيضًا من الفوائد: أنه لا بأس على العالِم والفاضل أن يخدمه المفضول، وأن يقضي له حوائجه.
هذه تقريبًا أبرز الفوائد المتعلقة بهذا الحديث.
- أخذ بعض العلماء أيضًا من هذا الحديث فائدةً من قول النبي عليه الصلاة والسلام: رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عجل لرأى العجب [14].
فقوله عليه الصلاة والسلام: رحمة الله علينا وعلى موسى قال أهل العلم: فيه استحباب ابتداء الإنسان بنفسه في الدعاء، فيبدأ بنفسه ثم بغيره، فيقول: رحمة الله علينا وعلى فلان، اللهم اغفر لي ولوالدي، اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات.
وبعض الناس يدعو لغيره وينسى نفسه: اللهم اغفر لفلان، اللهم ارحمه.
طيب، ابدأ بنفسك.
وبعض الناس عندما يُقابل غيره يقول: الله يرحم والديك، والأحسن أن يقول: الله يرحمك ويرحم والديك؛ لأنه هنا إذا قال: الله يرحم والديك، قصر الدعاء بالرحمة على والدي هذا المُخاطَب، وهو أولى أن يُدْعَى له بالرحمة، والأكمل أن يدعو له بالرحمة ولوالديه.
فهذه من الأمور التي قد تخفى على بعض الناس: أنه ينسى نفسه في الدعاء، أو ينسى في الدعاء مَن يُخاطبه ويدعو لغيره، فينبغي أن يبدأ الإنسان بنفسه، ثم بعد ذلك بمَن أحبَّ؛ لهذا قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث، حيث ابتدأ النبي عليه الصلاة والسلام الدعاء بالرحمة عليه، ثم على موسى .
كتاب: فضائل الصحابة
ننتقل بعد ذلك إلى:
كتاب: فضائل الصحابة.
مَن هم الصحابة؟
الصحابة جمع صحابي، والصحابي هو: كل مَن لقي النبيَّ مُؤمنًا به ومات على ذلك.
والصحابة هم خير القرون، خير هذه الأمة وأفضلها، كما قال عليه الصلاة والسلام: خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم [15].
والصحابة هم الواسطة بين رسول الله وأُمته، وقد نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق، والنُّصح، والأخلاق والآداب الفاضلة التي لا توجد عند غيرهم.
وقد أثنى الله تعالى عليهم في كتابه الكريم في عدة مواضع، وقال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني: الصحابة أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29].
وأيضًا أثنى الله تعالى عليهم فقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18].
بينما تجد أن هذا الثناء لا يوجد لمَن كان من قوم موسى أو قوم عيسى عليهما الصلاة والسلام، بل ذكر الله تعالى أمورًا لا تليق بمقام التعامل مع الأنبياء؛ كقول بني إسرائيل: قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، وقولهم لمَّا قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67]، كيف يتخذهم موسى هزوًا؟! قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [البقرة:68].
انظروا إلى هذا الأسلوب: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68]، ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69]، الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71]، كأنه ما جاء بالحقِّ إلا الآن!
اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138].
ذكرهم الله في مواضع الذمِّ.
وقال عن الحواريين: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [المائدة:112].
انظر إلى الأسلوب: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ؟!
بينما أصحاب محمدٍ عليه الصلاة والسلام انظر لهذا الثناء العَطِر عليهم في كتاب الله ، فذكرهم الله تعالى في موضع الثناء في هذه الآيات وفي غيرها.
عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة
لذلك فمن عقيدة أهل السنة والجماعة: أنَّهم يُحبون الصحابة، ويُفضلونهم على جميع البشر بعد الأنبياء والرسل.
قال الطحاوي رحمه الله مُبينًا عقيدة أهل السنة والجماعة: “ونُحب أصحاب رسول الله ، ولا نُفرط في حب واحدٍ منهم، ولا نتبرأ من أحدٍ منهم، ونبغض مَن يبغضهم، ولا نذكرهم إلا بخيرٍ، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبُغْضهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ”.
هذه عقيدة أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله ، فمحبتهم علامة الإيمان، وبُغْضهم دليل النفاق وعلامته.
والقدح في الصحابة هو قدحٌ في الله ، وقدحٌ في رسول الله ، وقدحٌ في شريعة الله:
- أما كونه قدحًا في الله سبحانه: فكيف يختار الله لنبيه هؤلاء الذين يُطْعَن فيهم؟! هذا لا يليق بحكمة الله ، فالطعن فيهم طعنٌ في حكمة الله سبحانه، وقدحٌ في الله.
- والقدح في الصحابة قدحٌ في رسول الله ؛ إذ إنَّهم هم أصحابه، والقدح في الصاحب قدحٌ في المصحوب.
- والقدح في الصحابة قدحٌ في شريعة الله؛ لأن الصحابة هم نقلة هذه الشريعة، فالقدح فيهم يجعل الثقة غير موجودةٍ في نقل هؤلاء للشريعة، فيكون ذلك قدحًا في شريعة الله ، فالصحابة هم الواسطة بيننا وبين الرسول ، وهم نقلة الشريعة، فالقدح فيهم قدحٌ في الشريعة.
فتبين بهذا أن القدح في الصحابة قدحٌ في الله، وقدحٌ في رسول الله ، وقدحٌ في شريعة الله.
أفضل الصحابة
أجمع أهل السنة والجماعة على أن أفضل الصحابة أبو بكرٍ الصديق ، ثم عمر بن الخطاب .
واختلفوا: هل الأفضل بعد أبي بكرٍ وعمر: عثمان أو علي ؟
وجمهور أهل السنة على أن عثمان أفضل، فعند الجمهور يكون أفضل الصحابة: أبا بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب .
ابتدأ المصنف الإمام مسلم رحمه الله كتاب الفضائل بفضائل أبي بكر الصديق :
فضائل أبي بكر الصديق
قال:
حدثني زهير بن حرب، وعبد بن حُميد، وعبدالله بن عبدالرحمن الدارمي، قال عبدالله: أخبرنا. وقال الآخران: حدثنا حَبَّان بن هلال: حدثنا همامٌ: حدثنا ثابتٌ: حدثنا أنس بن مالك: أن أبا بكر الصديق حدَّثه قال: نظرتُ إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلتُ: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه. فقال: يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟ [16].
أجلُّ مناقب أبي بكرٍ
هذه فضيلةٌ لأبي بكرٍ الصديق ، وهي من أجلِّ مناقبه، فقد اختاره النبي ليكون صاحبًا له، وذكره الله تعالى في القرآن: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
وقد جاء في بعض الروايات: أن النبي أتى بيت أبي بكرٍ ، تقول عائشة رضي الله عنها: أتانا رسول الله في نحر الظهيرة، وليس من عادته أن يأتي في هذا الوقت، فقال أبو بكرٍ : ما أتى رسول الله إلا لأمرٍ جَلَلٍ. فقال عليه الصلاة والسلام لأبي بكرٍ : قد أُذِنَ لي في الخروج يعني: الهجرة، فقال أبو بكرٍ : الصُّحبة يا رسول الله؟ قال: الصُّحبة [17]، فبكى أبو بكرٍ من شدة الفرح، تقول عائشة رضي الله عنها: “فوالله ما شعرتُ قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيتُ أبا بكرٍ يبكي يومئذٍ” [18].
فانظر إلى فضيلته كيف فرح بصُحبة رسول الله هذا الفرح العظيم الذي أبكاه؟
فكان مع النبي عليه الصلاة والسلام في غار ثور، والمشركون يبحثون عن رسول الله وعن صاحبه، وقد جعلوا جائزةً كبيرةً -مئةً من الإبل- لمَن دلَّهم على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى صاحبه.
فأتوا إلى الغار، فقال أبو بكرٍ : “نظرتُ إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار”، المشركون أمام الغار، لكن رافعو رؤوسهم.
يقول أبو بكرٍ للنبي عليه الصلاة والسلام: “لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا”، فقال النبي : ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟.
آيةٌ من آيات الله: يكون الكفار أمام الغار ولا يرونهما، رفعوا رؤوسهم، ولو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لرآهما في الغار، فأعماهم الله عن رؤية النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكرٍ ، آيةٌ من آيات الله : إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
قال:
حدثنا عبدالله بن جعفر بن يحيى بن خالد: حدثنا معن: حدثنا مالكٌ، عن أبي النضر، عن عبيدالله بن حنين، عن أبي سعيدٍ : أن رسول الله جلس على المنبر، فقال: عبدٌ خيَّره الله بين أن يُؤتيه زهرة الدنيا، وبين ما عنده، فاختار ما عنده، فبكى أبو بكرٍ وبكى، فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
قال: فكان رسول الله هو المُخيَّر، وكان أبو بكرٍ أعلمنا به.
المقصود بحديث: عبدٌ خيَّره الله بين أن يُؤتيه..
النبي عليه الصلاة والسلام قال على المنبر: عبدٌ خيَّره الله وهو يقصد نفسه بين أن يُؤتيه زهرة الدنيا.
كثيرٌ من الصحابة ما فهموا المقصود، وأبو بكرٍ فهم، وكان أعلم الصحابة، فأعلم الصحابة أبو بكرٍ الصديق ، ففهم أن رسول الله هو المقصود؛ ولذلك بكى أبو بكرٍ لمَّا قال: فاختار ما عنده يعني: اختار الرفيق.
“فبكى أبو بكرٍ وبكى، فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا”؛ لأن أبا بكرٍ علم أن النبي عليه الصلاة والسلام هو العبد المُخيَّر، فبكى حزنًا على فراقه، وعلى انقطاع الوحي.
وقال رسول الله : إن أَمَنَّ الناس عليَّ في ماله وصُحبته أبو بكرٍ، ولو كنتُ مُتَّخذًا خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكن أُخوة الإسلام.
إن أَمَنَّ الناس عليَّ في ماله أبو بكرٍ الصديق في الهجرة أتى بماله كله.
أولًا: أتى عمر بنصف ماله، وقال: “اليوم أسبق أبا بكرٍ”، فقال رسول الله : ما أبقيتَ لأهلك؟ قال: مثله. يعني: النصف الآخر.
وأتى أبو بكرٍ بماله كله، فقال رسول الله لأبي بكرٍ : ما أبقيتَ لأهلك؟ قال: أبقيتُ لهم الله ورسوله. فقال عمر : لا أُسابقك إلى شيءٍ أبدًا [19]؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن أَمَنَّ الناس عليَّ في ماله وصُحبته أبو بكرٍ يعني: أكثرهم جودًا وسماحةً لنا بنفسه وماله هو أبو بكرٍ الصديق .
ولو كنتُ مُتَّخذًا خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ الخُلَّة هي أعلى درجات المحبَّة، ولم تحصل من الله تعالى لأحدٍ من خلقه إلا لاثنين فقط: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فهما خليلا الرحمن، والنبي لو اتَّخذ من البشر خليلًا لاتَّخذ أبا بكرٍ ، لكن الخُلَّة لا تقبل الاشتراك؛ فلهذا لم يتَّخذ النبي من البشر خليلًا؛ لأنه خليل الرحمن؛ ولهذا قال: ولكن صاحبكم خليل الله [20]، لكن لو كان مُتَّخذًا من البشر خليلًا لاتَّخذ أبا بكرٍ الصديق ، وهذا يدل على أنه أفضل الصحابة رضي الله عنه وأرضاه.
قال: ولكن أُخوة الإسلام.
لا تُبْقَيَنَّ في المسجد خَوْخَةٌ إلا خوخة أبي بكرٍ [21].
الخَوْخَة: هي الباب الصغير، فأمر عليه الصلاة والسلام بأن تُغلق جميع الأبواب إلا باب أبي بكرٍ الصديق ؛ لعظيم فضله وخصوصيَّته.
ثم ساق المصنف رحمه الله الحديث عن ابن مسعودٍ قال:
يُحدِّث عن النبي أنه قال: لو كنت مُتَّخذًا خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتَّخذ الله صاحبكم خليلًا [22].
ثم ساق هذا الحديث من طرقٍ أخرى.
ثم ساق أيضًا المصنف رحمه الله أحاديث أخرى عن أبي بكر الصديق وأطال، ولعلنا نكتفي بهذا القدر، ونُكمل -إن شاء الله- الكلام عن فضائل أبي بكر الصديق في الدرس القادم.
نقف عند حديث عمرو بن العاص لمَّا سأل النبي :
أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم مَن؟ قال: عمر، فعدَّ رجالًا [23].
وهذا -إن شاء الله- نفتتح به الدرس القادم.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
الآن نُجيب على ما تيسر من الأسئلة:
السؤال: سائلٌ يقول: أبي تزوج امرأةً قبل أن أُولد، ثم طلَّقها الآن، هل يجوز لي النظر إليها وصِلتها بحكم أنها الزوجة السابقة لأبي؟
الجواب: نعم، أنت من محارمها، فيجوز لك أن تنظر إليها؛ لأنَّها زوجة أبيك، حتى لو كان أبوك طلَّقها، فأنت من محارمها، لا تحتجب عنك، بل أنت مَحْرَمٌ لها.
السؤال: المأموم إذا قال: “ربنا ولك الحمد”، هل يقولها عند تمام القيام، أم يبدأ بها بداية الانتقال من الركوع؟
الجواب: يقولها عند بداية الانتقال من الركوع، فهي تقوم مقام التكبير، والتكبير السنة أن يبدأ به من أول الانتقال إلى آخره، فالتكبير عند الركوع من أول ما يركع، بحيث ينتهي من التكبير عندما يستقر ويستوي راكعًا، والسجود كذلك؛ يبدأ وهو قائمٌ، بحيث ينتهي من التكبير وقد خَرَّ إلى الأرض، وهكذا.
السؤال: نصيحةٌ لمَن يشتغل بالجرح والطعن والتحذير، وقد أصبح هذا الأمر الشغل الشاغل عند بعض طلبة العلم.
الجواب: هذا دليلٌ على قِلة التوفيق، وهذا ينزع البركة من العلم ومن صاحبه، ويُقسي القلب، ويجعل الإنسان مفتونًا بالكلام في الناس، والطعن في أعراضهم، والتأول في مثل هذا لا ينفع صاحبه؛ لأن حقوق العباد أمرها عند الله عظيمٌ جدًّا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [24].
حقوق العباد مبناها على المشاحة، وإذا كان الشهيد الذي باع نفسه لله يُغْفَر له كل شيءٍ إلا ما كان متعلقًا بحقوق العباد، فكيف بغيره؟!
هذا يدل على خطورة الوقوع في أعراض المسلمين، ويشتدّ ذلك إذا كان هذا الوقوع في أعراض العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله ، فإن جُرمه عظيمٌ، وذنبه كبيرٌ، ومَن ابتُلي بذلك يقسوا قلبه، وتُنزع البركة من علمه، ويُحرم التوفيق في حياته.
السؤال: كنتُ مسافرًا من جدة إلى أبها، وركبتُ الطائرة وقت صلاة الفجر، وصليتُ في الطائرة جالسًا في غير اتجاه القبلة، علمًا بأن الطائرة تصل أبها بعد طلوع الشمس، فهل فعلي صحيحٌ؟
الجواب: نعم، فعلك هذا صحيحٌ، وهذا هو الواجب؛ إذا كانت الطائرة لن تهبط إلا بعد خروج الوقت فيجب على المسلم أن يُصلي الصلاة على حسب حاله، ولو إلى غير القبلة، ولو أن يُومئ بالركوع والسجود، ولا يترك الصلاة حتى يخرج وقتها.
ومن الأخطاء الشائعة عند بعض الناس: أنَّهم يُؤخِّرون الصلاة حتى تهبط الطائرة، ولا يُصلونها إلا بعد خروج الوقت، وهذا لا يجوز، فالواجب على المسلم أن يصلي الصلاة قبل خروج وقتها، ويتَّقي الله في هذا ما استطاع؛ إن لم يتمكن من استقبال القبلة، ولم يتمكن من الإتيان بالركوع والسجود، فإنه يصلي ولو إلى غير القبلة، ولو أن يُومئ بالركوع والسجود في مقعده على الطائرة.
السؤال: إذا أردتُ أن أُطبق السنة في قراءة سورتي السجدة والإنسان في صلاة الفجر، هل أقرؤها من المصحف؟
الجواب: إذا كنت تحفظها فاقرأها، وإذا كنت لا تحفظها فلا تقرأها، أما أن تقرأها من المصحف فهذا خلاف الأوْلى، وبعض الفقهاء -كفقهاء الحنفية- يرون بطلان الصلاة، فهم يرون بطلان صلاة مَن صلى إذا قرأ من المصحف؛ ولذلك خروجًا من الخلاف، واحتياطًا لهذه المسألة؛ ينبغي لك إما أن تقرأها من حفظك، أو أنك لا تقرؤها، وتقرأ غيرها من السور.
السؤال: هناك مَن يرفع صوته بالتسبيح والتحميد والتكبير في أدبار الصلوات، فهل هذا مشروعٌ؟
الجواب: رفع الصوت بالذكر إنَّما يكون في الأذكار التي بعد السلام مباشرةً، وأما ما بعد ذلك فَيُسِرُّ بالذكر ولا يرفع؛ لقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “كان رفع الصوت بالذكر من حين الفراغ من الصلاة المكتوبة على عهد النبي “.
فقوله: “من حين الفراغ من الصلاة المكتوبة” إشارةٌ إلى أن رفع الصوت إنَّما يكون بعد السلام مباشرةً، وأما الأذكار التي تكون بعد ذلك من التسبيح والتحميد والتكبير، فهذه يُسَرُّ بها ولا يُجْهَر، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة، بل كما قال ابن بطَّال وغيره: “إنه لم يقل أحدٌ بالجهر سوى الظاهرية فقط”، وأما المذاهب الأربعة وعامة أهل العلم فعلى الإسرار بها، وعدم الجهر بها، وأن الجهر فقط إنَّما يكون للأذكار التي تَلِي السلام مباشرةً.
ثم إن الجهر بها قد يكون فيه نوع أذيةٍ للآخرين، فإذا جهر بها قد يُزعج ويُشوش على مَن حوله، وليس في هذا دليلٌ ظاهرٌ يدل على هذا الجهر.
أما حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما فقلنا: إن فيه قرينةً تدل على أن المقصود به رفع الصوت بعد الفراغ من الصلاة؛ وذلك للدلالة على أن الصلاة قد قُضيت؛ ولهذا قال: “كنت أعرف انقضاء الصلاة بذلك”.
السؤال: صلاة الضحى هل يُداوم عليها أم لا؟
الجواب: هذا محل خلافٍ بين العلماء، والقول الراجح أنه تُشرع المُداومة عليها؛ وذلك لقول النبي : يُصبح على كل سُلَامَى من أحدكم صدقةٌ يعني: يُصبح على كل مِفْصَلٍ من مفاصل الإنسان صدقةٌ، وللإنسان ثلاثمئةٍ وستون مفصلًا، ومعنى ذلك: أنه مطلوبٌ منه كل يومٍ ثلاثمئةٍ وستون صدقةً؛ ولهذا ذكر النبي أنواعًا من الصدقات فقال: فكل تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تَهليلةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المُنكر صدقةٌ، ثم قال: ويُجزئ من ذلك يعني: يُجزئ عن الثلاثمئة وستين صدقة ركعتان يركعهما من الضحى [25]، وهذا الحديث رواه مسلمٌ، وهو ظاهر الدلالة على مشروعية المحافظة والمُداومة على صلاة الضحى.
فالقول الراجح أن الأفضل هو المُداومة والمحافظة على صلاة الضحى، ولها هذا الفضل العظيم، وهو: أنها تُجزئ عن ثلاثمئةٍ وستين صدقةً.
وأما وقتها فيبتدئ من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمحٍ -يعني: بعد طلوع الشمس بنحو عشر دقائق- إلى قُبيل الزوال، يعني: إلى وقت النهي؛ إلى قُبيل أذان الظهر تقريبًا بعشر دقائق، وأفضله آخره؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: صلاة الأوَّابين حين تَرْمَض الفِصَال [26]، يعني: حين تشتد الرَّمضاء، وذلك آخر وقت صلاة الضحى.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2379. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2072. |
^3 | رواه البخاري بنحوه: 2262. |
^4 | بنحوه رواه البخاري: 1470، ومسلم: 1042. |
^5 | بنحوه رواه البخاري: 122، ومسلم: 2380. |
^6 | رواه البخاري: 3402. |
^7 | رواه البخاري: 116، ومسلم: 2537. |
^8 | سبق تخريجه. |
^9 | رواه مسلم: 2538. |
^10 | رواه البخاري: 3124، ومسلم: 1747. |
^11 | رواه البخاري: 4726. |
^12, ^13, ^14 | رواه مسلم: 2380. |
^15 | رواه البخاري: 2651، ومسلم: 2535. |
^16 | رواه مسلم: 2381. |
^17 | رواه البخاري: 2138، 5807. |
^18 | سيرة ابن هشام: 2/ 93. |
^19 | رواه أبو داود: 1678، والترمذي: 3675، وقال: حسنٌ صحيحٌ. |
^20, ^22 | رواه مسلم: 2383. |
^21 | رواه مسلم: 2382. |
^23 | رواه مسلم: 2384. |
^24 | رواه البخاري: 67، ومسلم: 1679. |
^25 | رواه مسلم: 720. |
^26 | رواه مسلم: 748. |